قسم من أجوبةِ «سعيد القديم» عن أسئلة طرحتها العشائر قبل خمس وأربعين سنة

[قسم من أجوبةِ «سعيد القديم» عن أسئلة طرحتها العشائر قبل خمس وأربعين سنة].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

س: إن لم يكن على الدين ضرر، فليكن ما يكون ولا نبالي.

ج: الإسلام كالشمس لا ينطفئ سناها بالنفخ، وكالنهار لا يحال ليلًا بإغماض العين. ومن يغمض عينه فلا يجعل الظُلمة إلّا من نصيبه.

تُرى لو فُوّضت حماية الدين إلى رئيسٍ مغلوب على أمره، أو إلى مسؤولين مداهنين، أو إلى فئة من ضباط لا منطق لهم، أيكون أولى، أم يُعتمد على العمود النوراني، ذلك السيف الألماسي، الحاصل من امتزاجِ شراراتِ حمية الإسلام النيرة، ولمعاتِ الأنوار الإلهية التي تشع من عاطفة الإيمان في قلب كل فرد، والتي هي معدن المشاعر الإسلامية الممِدّة لأفكار الأمة العامة؟

فلكم أن تقدّروا أيهما أولى بالاعتماد عليه في حماية الدين؟

نعم، سيَرفع هذا العمود النوراني([1]) حماية الدين على رأس شهامته، وعلى عين مراقبته وعلى كاهل حميته. فها أنتم أولاء تشاهدون أن اللمعات المتفرقة بدأت تتلألأ، وستمتزج رويدًا رويدًا بالانجذاب؛ لأنه قد تقرر في «فن الحكمة» (أي الفلسفة) أَن الشعور الديني ولاسيما الدين الفطري الحق، أَنفذُ كلامًا، وأعلى حُكمًا، وأشد تأثيرًا من كل الأحاسيس والمشاعر.

وخلاصة القول: مَن لم يعتمد على غيره يحاول هو بنفسه. وسأضرب لكم مثلًا: أنتم من البدو، رأس مالكم الغنمُ -وأنتم أعلم بأموركم- فقد عهد كلٌّ منكم قسمًا من أغنامه إلى راعٍ، بينما الراعي كسلان ومُعاوِنه متهاون متكاسل وكلابه جبانة، فإن اعتمدتم عليه ونمتم براحة في بيوتكم، ظلت أغنامكم الوادعة تحت سطوة الذئاب الضارية واللصوص والمصائب والبلايا.. أهذا الأمر أولى أم التفطن إلى عدم كفاءة الراعي لحمايتها، فينطلق كلٌ منكم من مسكنه كالبطل منتبهًا من نوم الغفلة، ساعيًا إلى الحفاظ على الأغنام، فتكونوا ألفًا من الحماة المحافظين بدلًا من راعٍ واحد… فلا يجرؤ عندئذٍ ذئبٌ ولا سارق على الاقتراب من غنمكم؟… أَمَا جَعَل هذا السرُّ أشقياءَ «مامه خوران» تائبين، بل مريدين صوفيين؟… نعم، إن أرواحهم قد تاقت إلى البكاء وصار شخصٌ بنصيحةٍ سببًا لاستجاشتها، فبكوا دمعًا سخينًا بكاء الندامة..

نعم… نعم… أجل.. أجل.! لو سكن طنينُ البعوض وهدأ دويّ النحل فلا تأسوا ولا تحزنوا ولا تخمدْ أشواقُكم أبدًا، فالموسيقى الإلهية العظيمة التي تجعل بنغماتها الكونَ في رقصٍ وانتشاء، وتهز بأشجانها أسرارَ الحقائق، لم تسكن أبدًا ولم تهدأ… بل تستمر قوية عالية هادرة.

إن مَلِك الملوك وسلطانَ السلاطين ملك الأزل وسلطان الأبد ينادي بقرآنه الكريم الذي هو موسيقاه الإلهية، مالئًا الكونَ كله صوتًا صداحًا هادرًا في قبة السماء فانعطفت النغمات المقدسة لذلك النداء السامي متموجة نحو أصداف رؤوس العلماء ومغارات قلوب الأولياء وكهوف أفواه الخطباء وانعكست أصديتها من ألسنتهم سيّالةً، سيارة منوّعة، مختلفة… هزّت الدنيا بشدة موجاتها، فطَبعتْ بتجسّمها كتبَ الإسلام كلها وصيّرتها كأنها وَترٌ من طنبور، وشريط من آلةِ قانون فأَعلن كلُّ وترٍ نوعًا من ذلك الصدى السماوي الروحاني… فمن لم يسمع -أو لم يستمع- بأُذُن قلبه ذلك الصدى الذي ملأ العالم ضياءً، أنّى له أن يصغيَ إلى طنين أمير الدولة ورجاله!

الحاصل: أن مَن يتوجس خيفة على دينه من انقلاب سياسي فليس له نصيب من الدين إلّا «الجهل» -الواهي كبيت العنكبوت- الذي يدفعه إلى الخوف، وليس له إلّا «التقليد» الذي يرميه في أحضان الاضطراب والارتباك… لأنه لما ظن -بالعجز وبفقدان الثقة بالنفس- أن سعادته ليسَ إلاّ في جيب الحكومة، تَصوَّر أن قلبه وعقله كذلك هما في كيس الحكومة. فلا جرم أن يملأه الخوف.

س: لا يقول بعضهم مثلما تقول، بل يقولون: لابد أن يجيء «السيد المهدي» لان الدنيا قد اضطربت وتشوشت لاكتهالها وهرمها، والإسلام قد اهتزّ كيانه بانتعاش المنافع الشخصية وتنفس الأغراض الدنيوية.

ج: لو استعجل السيد المهدي، وأتى، فعلى العين والرأس، فليأتِ حالًا، فقد آن أوانُه، فلقد تهيأ وتمهّد له وضعٌ ملائم حسن، فليس فاسدًا كما تظنون، فالأزهار اليانعة تزدهر في الربيع، ومن شأن الرحمة الإلهية لهذه الأمة أن يجد ذلُّها نهايتَه… ومع هذا فمن قال: ساءَ الزمان كليًا وفسد علينا، مُبديًا ميلًا إلى العهد السابق، فإنه يُسند -من حيث لا يشعر- سيئاتِ العهد السابق الناشئةَ من مخالفة الإسلام إلى الإسلام نفسه، كما هو ظن قسم من الأجانب.

س: مَن هم أولاء المشوِّشون على الأفكار ولا يقدرون «الحرية» و«المشروطية» حق قدرهما؟

ج: جمعية تشكلت برئاسة «الجهل آغا» و«العناد أفندي»، و«الغرض بك»، و «الانتقام باشا» و«التقليد حضرتلرى» و«مسيو الثرثرة»، وهي جمعية من الناس تُشوِّه «الشورى» التي هي منبع سعادتنا وتُكدِّرها… فالمنتسبون إليها -في البشرية- هم الذين لا يضحون بدرهم واحد من حسابهم أعظمَ مصلحة من مصالح الأمة ومنافعها… والذين يرون نفعَهم في إضرار الناس، وبدانتَهم في هزال الآخرين… والذين يفسّرون الأمور دون محاكمة عقلية عـادلة فيطلقون المعاني جزافًا… فبينما تـرى أحدهم لا يكبح جماح نفسه للثأر ولا يضحي بغرضه الشخصي، إذا به يدّعي بغرورٍ استعدادَه لفِداء روحه للأمة… وهم أولاء الذين يحملون أفكارًا غير معقولة أمثالَ تكوين الإمارات (البكلك) أو الحكم الذاتي (المختارية) -التي هي مقدمة طوائف الملوك-، أو الجمهورية بمفهوم الاستبداد المطلق… وهـم أولاء الذين تعرضوا للظلم فامتلأت قلوبُهم غيظًا ورغبة في الثأر حتى لم يستطيعوا أن يهضموا العفو العام والأمن العام وهما من أُولى حسنات «الحرية» و«المشروطية»، فيثيرون الآخرين للإخلال بالأمن ويهيّجونهم للقيام بالاضطرابات كي يتشَفَّوا بإنزال العقوبة بهم، وتأديبهم.

س: لِمَ تفنّد جميعهم وتعدّهم فاسدين، مع أنهم يَبدون ناصحين لنا؟

ج: أروني مفسدًا يقول: أنا مفسد، وما هو إلّا مفسد إلا أنه يتراءى في صورة الحق، أو يرى الباطل حقًا. نعم، ما من أحد يقول: مخيضي حامض..فلا تأخذوا شيئًا إلّا بعد إمراره على المحك، لأن أقوالًا مغشوشة مزيّفة قد كثرت في تجارة الأفكار..حتى كلامي أنا لا تأخذوه على علّاته -بحسن ظنكم- لأنه صادر عني؛ فقد أكون مفسدًا، أو أُفسد من حيث لا أشعر، فعلى هذا تيقظوا! ولا تفتحوا الطريق إلى القلب لكل طارِق. فليظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرِضوه على المحك، فإن ظهر أنه ذَهَبٌ فأرسلوه إلى القلب، واحتفِظوه هناك، وإن ظهر أنه نحاس، فاحملوا على عاتق ذلك الكلام المنحوس كثيرًا من الغيبة وشيِّعوه بسوء الدعاء عليّ ورُدُّوه خائبًا إليّ.

س: لِمَ تسئ الظن بحُسن ظننا؟ فالسلاطين والحكومات السابقة ما استطاعوا أن يصرفوك عن الحق ولم يستطع كذلك أعضاءُ «جون تورك» أن يكسبوك إلى صفوفهم، فلمْ تداهنهم، حتى ألقوك في السجن وكادوا يصلبوك، فما رضختَ لهم ولا خنعت أمامهم بل برزتَ بطلًا شهمًا برفضك ما وعدوك من مرتّب ضخم… فأنت إذن بجانب الحق ولا تميل إلّا إليه، ولا تقول ما تقول انحيازًا إليهم.

ج: نعم، إن الذي عرف الحق، لا يستبدله بشيء، لأن شأن الحق رفيع وَسَامٍ، ما ينبغي أن يُضحّى به لأجل أي شيء كان، ولكني لا أقبل حسن ظنكم هذا، لأنكم قد تحسنون الظن بالمفسد أو المحتال. انظروا إلى دليل فكره ونتيجته.

س: كيف نعرف ذلك؟ ونحن جاهلون، نقلّد العلماء أمثالكم؟

ج: إن لم تكونوا من أهل العلم، فإنكم من أهل العقل. بدليل أنني لو تقاسمتُ الزبيبَ مع أحدكم فقد يغبنني بذكائه! فجهلُكم إذن ليس عذرًا… اعلموا أن الأشجار المتشابهة تُميِزها ثمراتُها، لذا تَبَصَّروا في ثمرات أفكاري ونتاجِ أفكارهم، فقد تلألأت في أحدهما السلامة والطاعة، وتَسَتَّر في الآخر الاختلافُ والفساد. سأضرب لكم مثالًا آخر:

تصوّروا نارًا منيرة تتراءى في هذه الصحراء، فأنا أبشركم بأنها نورٌ وليست نارًا، وحتى إن كانت فيها نار فليس إلّا طبقة عليا منها ضعيفة موروثة… فتعالوا إذن لنحط بها ونتحلق حولها ونتفرج عليها ونستضئ بها ونقتبس منها حتى تتلاشى طبقة النار ولنستفد منها. فإن كانت نورًا -كما قلت- فبه، فقد استفدنا، وإن كانت نارًا -كما قالوا- ما ضرّتنا، إذ لم نقتحمها. أما هم فيقولون: «أن النار محرقة» فإن كان نورًا أعمى قلوبَهم وأبصارهم، لأن النور -الذي يظنونه نارًا- هو نور السعادة،([2]) فأينما أشرق لم يُطفأ ولو بصبّ أُلوف القِرَب من دماء ملايين الناس، بل حاول بعض من فينا إطفاءه بضع مرات منذ سنتين إلّا أنهم خابوا.

س: أنت قلت: إنه ليس بنار، ولكن كلامك يشير إلى ناريته..؟!

ج: نعم، النور نار للأشرار.

س: ما تقول لأهل الفضيلة من تلك الزمرة وهم أخيار…؟

ج: هناك كثير من الأخيار يسيئون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

س: كيف يَرِد الشرُ من الخير؟.

ج: طلب المحال حماقة ووبال على صاحبه، لأن من كانت بغيته حكومة بريئة معصومة فطلبه محال اعتيادي، إذ لماّ لم يكن الشخص الواحد الآن معصومًا فكيف بالشخص المعنوي (الحكومة) الذي كلُّ ذرة من ذراته مذنبة؟ فمدار النظر إذن هو في ترجُّح حسنات الحكومة على سيئاتها كمًّا أو نوعًا. وأنا أنظر إلى هؤلاء وأعدّهم فوضويين، لأنه لو عاش أحدهم -لا سامح الله- ألف سنة، ورأى الصور الممكنة للحكومات، لما ارتضى كذلك بإحداها، لما في خياله وحلمه من تصّور للحكومة المعصومة، فيولد فيه هذا الحلمُ ميلَ التخريب فيمزق تلك الصور الممكنة.

لذا حتى الفاسدون -في نظرهم- من أعضاء «جون تورك» يعدّونهم زمرة ملعونة فوضوية مشاغبة، فمسلكهم ليس إلّا الإخلالَ بالأمن والإفسادَ.

س: فلمَ لا يجوز أن تكون ضالّتهم العهدَ السابق؟.

ج: إني أبعث إلى سماعكم قانونًا قصير القامة طويل الهمّة، يمكنكم حفظه، فشاوِروه، وهو: «أن تلك الحال محال، فإما هذه الحال وإما الاضمحلال» فالحكومة مسلمة، والأمة التي تحكمها مسلمة، وأس أساس سياستها أيضًا هو الدستور الآتي: أن دين الدولة الإسلام… فوظيفتنا إذن الحفاظ على هذا الأساس ووقايته، لأنه جوهر حياة أمتنا.

س: أتستمر الحكومة في خدمة الإسلام وتقوية الدين بعد الآن؟.

ج: بخ بخٍ وبكل سرور، نعم، فإن هدف الحكومة وإن كان مستترًا وبعيدا -باستثناء بعض الملحدين الجهلة- هو حماية سلسلة الإسلام النورانية وتقوية رابطته التي تجعل ثلاثمئة مليون مسلم -بسرّ الأخوّة الإيمانية- كيانًا واحدًا، إذ إنها هي وحدها «نقطة الاستناد» وهي وحدها «نقطة الاستمداد»… إن قطرات المطر ولمعات النور كلما بقيت متفرقة وظلّت متناثرة، جفّت بسرعة وانطفأت حالًا. فينادينا رب العزة سبحانه قائلًا: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران:103) ﴿لَا تَقْنَطُوا (الزمر:53) ليحول بيننا وبين الانطفاء والزوال..

نعم، إن نغماتِ ﴿لَا تَقْنَطُوا وأصداءها تتجاوب من ست جهات: الضرورة، والانجذاب، والتمايل، والتجارب، والتجاوب، والتواتر… تجمع تلك القطرات واللمعات في مصافحة وعناق، وتطوي ما بينها من المسافة مولِّدةً حوضًا من ماء يَبعث على الحياة وضياءً منورًا ينير العالم أجمع. ذلك لأن الدين جمال الكمال، وضياء السعادة، ونمو المشاعر، وسلامة الوجدان.([3])

س: الآن نستفسر عن الحرية، فما هذه الحرية التي تتجاذبها التأويلات وتتراءى فيها الرؤى العجيبة الغريبة؟!.

ج: إن من عاش مع طيفها منذ عشرين سنة حتى تعقبها في الرؤى وترك كل شيء لحبّها يستطيع الإجابة عنها فهو الخبير بوصفها.

س: لقد فسّروا لنا «الحرية» تفسيرًا خاطئًا سيئًا، وكأن الإنسان مهما فعل -في كنف الحرية- من سفاهات ورذائل وفضائح لا يؤاخَذ عليها مادام لم يضرّ بها الناس… هكذا أفهمونا الحرية، أهي كذلك؟!.

ج: إن الذين فسّروها هكذا، ما أعلنوا إلّا عن سفاهاتهم ورذائلهم على رؤوس الأشهاد، فهم يهذرون متذرعين بحجج واهية كالصبيان، لأن الحرية الحسناء ما هي إلّا تلك المتأدبة بآداب الشريعة والمتزينة بفضائلها، وليست تلك التي في السفاهة والرذائل. بل تلك حيوانية وبهيمية وتسلط شيطاني، ووقوع في أسر النفس الأمارة بالسوء.

إن الحرية العامة هي المحصّلة الناتجة من حريات الأفراد، ومن شأن الحرية عدم الإضرار سواء بالنفس أو بالآخرين.

[على أن كمال الحرية، أن لا يَتَفَرْعَنَ، وأن لا يستهزئ بحرية غيره، إن المرادَ حقٌ لكن المجاهدة ليست في سبيلها]([4])

س: كم رأينا من لا يفسّر الحرية كما تفسّرها أنت، مع أن أفعال أعضاء من «جون تورك» تخالفك في التفسير ويناقض قولهم قولك، إذ إن بعضهم يفطرون في رمضان ويشربون الخمر ويتركون الصلاة…

فهيهات أن يصدُق مع الأمة من خانَ الله ولم يصدق في امتثال أمره تعالى؟

ج: أجل، نعم، لكم الحق… ولكن الحمية شيء والعمل شيء آخر، وعندي أن القلب أو الوجدان الذي لم يتزيّن بالفضائل الإسلامية لا تُرجى منهُ الحمية الحقة والوفاء الصادق والعدالة الخالصة. ولكن لأن الصنعة غير الفضيلة، فقد يقوم الفاسق برعي الأغنام رعيًا جيدًا، وقد يصلّح شارب الخمر ساعةً بإتقان حين لا يكون سكرانَ، ولكن وا أسفى على ندرة الذين جمعوا النورَين معًا: نور القلب ونور الفكر، أو بعبارة أخرى الفضيلة والصنعة، فهم نادرون لا يكفون لملء الوظائف، فإذن إما الصلاح وإما المهارة… وإذا تعارضا فالمهارة مرجحة في الصنعة.

واعلموا كذلك أن السفهاء التاركين للصلاة، ليسوا بـ«جون تورك» بل هم «شَين الترك» أي فاسدون، فهم روافض «جون تورك» مثلما أن لكل شيء روافضه، فروافض «الحرية» هم السفهاء.

أيها الأتراك والأكراد! أنـصفوا… هل يُرفَض الحديث الشريف ويُنكَر إذا أوّلَه الرافضي تأويلًا فاسدًا أو عمل بخلافه، أم يُخَطَّأ الرافضي حفاظًا على منزلة الحديث الشريف وكرامته؟.

ألاَ إن الحرية هي: أن يكون المرء مُطلقَ العنانِ في حركاته المشروعة، مصونًا من التعرض له، محفوظَ الحقوق، ولا يتحكم بعضٌ في بعض، ليتجلى فيه نهي الآية الكريمة: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا اَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّٰهِ (آل عمران:64) ولا يتأمّر عليه غير قانون العدالة والتأدب، لئلا يُفسِد حرية إخوانه.

س([5]): فما لنا إذن نحن معاشر البدو، نحن أحرار منذ القدم، فقد ولدتْ حريتُنا توأمًا معنا، فليفرح بها الآخرون من غيرنا، فالأمر لا يهمّنا.

ج: نعم، إن حب تلك الحرية والشغف بها هي التي جعلتكم تتحملون مشقات البداوة التي لا تطاق، وإن سلوككم المفعم بالقناعة هو الذي أغناكم عن محاسن المدنيّة البرّاقة، فزهِدتم فيها. ولكن أيها البدو! إن ما لديكم من الحرية هو نصفها، والنصف الآخر هو عدم المساس بحرية الآخرين. ثم إن الحرية الممزوجة بالبداوة وبالعيش الكفاف، توجد منها أيضًا في حيوانات الجبال والبراري القريبة منكم. وفي الواقع لو كانت هناك لذة وسلوان لهذه الحيوانات فهي في حريتها تلك…

ولكن أين أنتم من تلك الحرية الإنسانية الساطعة كالشمس وهي معشوقةُ كلِّ روح، وصنو جوهر الإنسانية، وما هي إلّا التي تربّعت على قصرِ سعادةِ المدنية وتزيّنت بحلل المعرفة وحُليّ الفضيلة والتربية الإسلامية.

س: لقد قيل في حق هذه الحرية التي تثني عليها:

[حُرّيّةٌ حَرِيّةٌ بالنار، لأنها تختص بالكفار] فما تقول في هذا القول؟

ج: إن ذلك المسكين الشاعر قد ظن الحرية مسلك البلشفية ومذهب الإباحية. كلّا، بل الحرية بالنسبة للإنسان تولّد العبودية لله سبحانه، وقد رأيت كثيرين يهاجمون على «السلطان عبد الحميد» أكثر من هجومهم على «الأحرار».. وكانوا يقولون: إنه على خطأ لقبوله «الحرية» و«القانون الأساس»([6]) قبل ثلاثين سنة» هكذا! فما ظنكم بقولِ قائل حَسِبَ الاستبداد الذي اضطر إليه السلطان عبد الحميد حريةً، وارتعد من القانون الأساس الذي هو اسم دون مسمّى! فما قيمة قوله يا تُرى؟ هذا ولقد قال مجاهدٌ خدمَ الإسلام عشرين سنة: [حريةٌ عطيةُ الرحمن، إذ إنها خاصية الإيمان].([7])


[1] فلقد أحسّ برسائل النور حتى أجاب عن السؤال بثلاث صفحات. ولكن حُجُب السياسة صبغَتْه بلون آخر. (المؤلف).

[2] وهنا أيضًا قد أحسّ برسائل النور، ولكنه نظر إليها من تحت ستار السياسة فتبدل شكل الحقيقة (المؤلف).

[3] مهلًا، لها إشارات أشبه ما تكون بالشفرات. (المؤلف).

[4] لا تستعجل… الجملة تعني أن صاحب جريدة «الميزان» «مراد» هو محق ورئيس تحرير جريدة «طنين» «حسين جاهد» على خطأ. (المؤلف).

[5] هذا سؤال البدو الرحل الساكنين في الخيم السوداء. (المؤلف).

[6] أي الدستور بالتعبير الشائع حاليًا والذي يعيّن صلاحية الحاكم والحكومة والبرلمان، ويحدد الخطوط الرئيسية لسياسة الدولة وقوانينها.

[7] تعريف جميل. (المؤلف).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *