الفصل الثالث مع الزائرين
قاعدة تخص الزائرين
«ليكن معلوماً لدى الجميع، أن الذي يزورنا إما أنه يأتي إلينا لأجل أمور تخص الحياة الدنيا. فذلك الباب مسدود.
أو أنه يأتي إلينا من حيث الحياة الآخرة، ففي تلك الجهة بابان: فإما أنه يتصور إنني رجل مبارك صاحب مقام عند الله ولأجل هذا يأتي إلينا، هذا الباب أيضاً مسدود. إذ لا تعجبني نفسي ولا يعجبني من يعجب بي. فحمداً لله أجزل حمد إذ لم يجعلني راضياً عن نفسي.
أما الجهة الأخرى فهو يأتي إلينا لكوني خادماً للقرآن ودلّالاً له وداعياً إليه ليس إلّا. فمرحباً وأهلاً وسهلاً وعلى العين والرأس لمن يأتينا من هذا الباب».
حديث الأستاذ مع الزائرين
«أرسل الأستاذ يوماً أحد طلابه إلى أنقرة لبعض شؤون الدعوة، ولما أطلع الطالب على أوضاع الناس هناك، قال في نفسه: هيهات! متى يستمع هؤلاء إلى حقائق النور، وكيف سيمزق ستار الغفلة الكثيفة! فاستولى عليه اليأس. وعندما رجع إلى الأستاذ خاطبه قائلاً: إن وظيفتنا هي الخدمةُ، أما التوفيق وإفهام الناس فهو يخص الله سبحانه، ونحن مكلفون بأداء مهمتنا، فلا داعي لليأس، فلا أهمية للكثرة بل الأهمية في النوعية، فربّ طالب مخلص مضحٍ خير من ألف من غيره.. وهكذا أزال يأسه.
كان الأستاذ يتجول أيام الربيع والصيف -ونادراً في الشتاء- في ضواحي «أميرداغ» مشياً على الأقدام وأحياناً يخرج للتجوال بعربة يجرها الحصان. ويدفع أجرة العربة ويقول: أنا مضطر إلى دفع الأجرة فإن لقمة طعام هدية بدون ثمن تمرضني.
وعندما كان يتفسح في الوديان والغابات وحيداً كان الجندرمة يتعقبونه دائماً، فيجلس في مواضع متعددة لتصحيح الرسائل أو للتأمل والتفكر في خلق الله. استمر هذا الوضع حتى سنة 1947. وكان شديد الاهتمام بأمور الاستنساخ اليدوي أو بالرونيو عندما حصل عليها طلابه. ويقول: «إن رسائل النور معجزة قرآنية تنور هذا العصر والذي يليه من العصور». ويعدّ خدمة النور أجلّ الوظائف في هذا الزمان، حتى أصبح العمل للنور لديه غذاءه الروحي؛ إذ كان يصرف ساعات طوالاً في التصحيح، ولا يعرف التعب إليه سبيلاً. ولم ينقطع عن العمل حتى في أوقات مرضه الشديد.
وحرم من المؤانسة والسلوى بالناس، ولكنه ظفر ضمن هذا الحرمان بما لا ينضب معينه من ثروة عظيمة، إذ أحسن الله سبحانه إليه برحمته رسائل النور. فهي كل ما يملكه، وفرحه وسروره ونشوته ونبع سلواه كلها في رسائل النور. وإليها يصرف كل ما وهبه الله من قابليات وملكات، فكان يعدّ وظيفته الفطرية وسر خلقته تعليم الناس رسائل النور ونشرها.
ولا شك أنه في أثناء تجواله يصادف أصنافاً شتى من الناس فكان يتلاطف ويتبادل الحديث معهم.
ومن الثابت بمشاهدات الذين خبروه عن قرب واطلعوا على حياته أنه بلغ الذروة في العفة والاستقامة حتى في شبابه وصباه.. فكان كثير الدعاء للأطفال الأبرياء، والنساءِ بطلات الشفقة والحنان. فكان يذكّرهن بأنهن مسؤولات أمام الله عن تربية أولادهن على الإسلام ويكون لهن حظ من حسناتهم، ويرجو منهن الدعاء ويعتبرهن أخوات له في الآخرة، ويوجز الكلام معهن. والنساء بصفاء قلوبهن يدركن مدى كونه نموذجاً سامقاً من أهل الحق والحقيقة.
أما محاوراته مع الأطفال الأبرياء فتنطوي على عبر دقيقة ولذة عميقة؛ فكان يوليهم أهمية كأهميته للكبار ويتوجه إليهم قلباً حيث كانوا يهرعون إليه من القرى المجاورة. ويقول لهم: أولادي أنتم أبرياء لا ذنب لكم بعدُ. أرجو منكم الدعاء لي فإني مريض جداً فدعواتكم مقبولة إن شاء الله. وأنا بدوري أشرككم في دعائي وأعدّكم أولاداً معنويين لي وطلاباً للنور.. ويعزو سبب اهتمامه بهم بأن هؤلاء طلاب النور في المستقبل، أما توجههم إليّ واهتمامهم بي، فهو أن أرواحهم الصافية البريئة تشعر بأن رسائل النور أتت لإسعافهم وإمدادهم، وحيث إنني ترجمان تلك الأنوار فيبدون هذه المحبة والعلاقة الحميمة بغير اختيار منهم.
أما الشباب الذين كانوا يتناوبون عليه أحياناً فكان يوصيهم بقراءة رسائل النور والحذر من مهالك ضياع الأخلاق في هدا العصر وبلزوم أداء الصلوات. وبفضل الله فقد صحا الكثيرون من رقدتهم.
كان الأستاذ يتكلم حسب المستويات سواء أكان المستمع من عوام الناس أو من خواص العلماء، وكان يزوره أحياناً أهل القرى أو الرعاة فيتكلم معهم بنفس لغتهم ومستواهم وهضم نفس وتواضع، فيصبح الزائر مسروراً وممتناً له. بينما إذا تكلم مع البروفسور تكلم عن علم الفلك أو عن مساحة الكرة الأرضية أو قطرها ويستنتجه بالأرقام أو يتكلم عن دوران الأرض حسب الدقائق والثواني ويحسب عدد قطرات الأمطار التي تسقط على الأرض في الدقيقة الواحدة… إلخ، فكان العجب والحيرة يأخذان بالألباب من علمه الغزير بهذه المسائل.
وعندما كان يتحدث إلى الموظفين والعمال -في أثناء تجواله- يلقى عليهم دروساً تناسب عملهم ويهتم كثيراً بأداء الصلوات. ويقول لهم: إن أعمالكم الدنيوية أيضاً تكون أعمالاً مثابة عليها ما أديتم الصلوات. ومعلوم مدى الشوق والحرص على العمل فيما إذا فكر الإنسان بأن عمله وجهده يحسب له ثواباً في الآخرة بإقامة الصلاة. وفي الحقيقة إن هذه التوصية مرشدة جميع الموظفين والعاملين والتجار وأصحاب المهن والحرف؛ نورد هنا نماذج منها:
كنا مع الأستاذ في فندق «يلدز» في «أسكي شهر» فقال لزائريه من عمال معمل السكر ورؤسائهم: إن جميع أعمالكم في العمل ستكون بحكم العبادة ما أديتم الفرائض. لأنكم تؤدون للأمة خدمة مهمة في سد حاجة ضرورية للناس.
أقبل علينا أحد عمال سكة الحديد ونحن على بحيرة أغريدر نقرأ «مرشد الشباب» قال له الأستاذ: إن جميع أعمالك بحكم العبادة إذا أديت الفرائض واجتنبت الكبائر. حيث العمل في طريق القطار الذي يقطع مسافة عشر ساعات في ساعة واحدة، خدمة للإنسان لا تذهب سدى عند الله، وسيوفيها سبحانه يوم القيامة سعادة أبدية.
زاره يوماً عدد من الضباط والطيارين والجنود، في «أسكي شهر». فقال لهم القول نفسه: هذه الطائرات ستكون في خدمة الإسلام يوماً ما. فإذا ما أديتم الفرائض أو أديتم ما يفوتكم منها بالضرورة قضاءً -حيث إنكم عسكريون- فساعة واحدة من ساعاتكم تكون بمثابة عشر ساعات من العبادة، ولاسيما الطيار فإن ساعاته بمثابة ثلاثين ساعة من الساعات المثاب عليها. يكفي أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان ويوفي حق الصلاة التي يفرضها الإيمان.
وكان يقول للرعاة في كل من أميرداغ وإسبارطة وبارلا: إن رعاية هذه الحيوانات عبادة عظيمة حتى إن الله سبحانه أرسل رسلاً وأنبياء رعاةً، إلّا أن عليكم بأداء الفرائض كي تعدّ خدمتكم عبادة.
زاره يوماً عمال الكهرباء ورؤساؤهم في أغريدر. فقال لهم: للكهرباء منافع جمة تعم الناس أجمعين، فأدُّوا الفرائض كي تنتفعوا منها، إذ ستكون مساعيكم كلها تجارة أخروية رابحة وعبادة مثابا عليها..
وهناك عشرات الألوف من هذه الأمثلة».
بيان إلى الزائرين
«إلى جميع إخوتي الأعزاء الراغبين في مقابلتي وزيارتي أبيّن لهم الآتي:
إنني لا أطيق مقابلة الناس ما لم تكن هناك ضرورة، إذ التسمم الحالي، والضعف الذي اعترى جسمي، وكذا الشيخوخة والمرض.. كل ذلك جعلني عاجزاً عن التحدث كثيراً. ولأجل هذا أبلّغكم يقيناً أن كل كتاب من رسائل النور إنما هو «سعيد». فما من رسالة تطالعونها إلّا وتستفيدون فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف، بل تواجهونني مواجهة حقيقية. فلقد قررت أن أذكر في دعواتي وقراءاتي صباح كل يوم أولئك الراغبين في لقائي لوجه الله بديلاً عن عدم استطاعتهم اللقاء، وسأستمر على هذا القرار.
ومنذ شهرين لا يستطيع أستاذنا الكلام حتى مع من يعاونه في أموره، حيث ترتفع حرارته متى ما بدأ بالتكلم. وقد قال بناء على إخطار قلبيّ: إن حكمة هذا هي أن رسائل النور لا تدع حاجة إليّ. فلا داعي للكلام. فضلاً عن أنني قد لا أتكلم إلّا مع عشرين أو ثلاثين من أحبتي فلربما مُنعت من الكلام لئلا يجرح شعور أُلوف الأحبة الآخرين. فليعذرني الإخوة عن اللقاءات الخاصة».