الرسالة الثامنة ([1])
ذرة
من شعاع هداية القرآن
في (ط1)
اعلم أن هذه الرسالة محادثاتٌ مع نفسيَ الأمارةِ المرائية، ورشاشاتٌ من شرارات «القطرة» أظن أنى مأذون في نشرها. إذ يتكرر الاحتياج للمعالجة في كل «رمز» مادام لم يُكتب. فإذا كُتب يزول الاحتياج، لكن يبقى نوعُ تمايل للمناقشة مادام لم يُنشر. فإذا نُشر زال ذلك واطمأن القلب. فيدل على أنه ليس لي فقط، بل فيه للغير حصةٌ. فلهذا أتجاسر على نشرها لعل فيها نفعا لبعض الناس إن شاء الله تعالى.
ولتنوع الرموز يمكن الاستفادة لكثير فـ «ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كله». ولترك التصنع تركتُ الخاطرات في الصور التي برزتْ فيها أولَ ما خطرت في القلب. ومن الله الهداية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يا مَن له الملك وله الحمد صلّ وسلم على سيد البشر الذي قلتَ له: ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ (الأنفال:64)، فقال: لبيك! بحيث أسمعَ من عرفاتٍ ملائكةَ السماوات العليا.. فقلتَ: بشِّر وأنذر. فنادى بـ ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ (البقرة:21) بحيث أسمعَ أدوارَ الزمان وأطراف المكان.. إذ صار ﴿بَشيرًا وَنَذيرًا﴾ (البقرة:119) بطَور المشاهِد.. إذ يشاهِد فيشهَد مناديا لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار.. إذ أسمعَ، فهذا صدى صوته يُسمَع بأعلى صوته.. إذ قد ملأ الدنيا بنداء القرآن وبجميع قوّته.. إذ قد استولى على نصف الأرض وبكمال جدّيته بشهادة سِيَره، وبغاية وثوقه بشهادة زهده في الدنيا، ونهاية اطمئنانه بشهادة قوة دساتيره ومعالمه، وبكمال إيمانه بشهادة أنه كان أعبدَ وأتقى من الكل.
اعلمي يا أيتها النفس الجاهلة! أن الأبوابَ المفتوحةَ النظارة إلى الله عدد طبقات العالم وصحائفه، وعدد المركبات المتصاعدة والمتنازلة. فما أجهلَكِ؛ إذا انسدّ في وجهكِ بابٌ عادي تتوهمين انسدادَ كلِّ الأبواب. مَثَلُك كمثل مَن إذا لم يَرَ أولم يعرف في بلد فرسانَ العسكر مع وجود سائر جيوش السلطان وخدّامِه ودوائر حكومته، يشرع ينكر وجود السلطان ويؤوّل كلَّ شعائره ومعالمه.
اعلم أن الدليلَ على أن الباطن أعلى وأتمَّ شعورا وأقوى حياةً، وأزيَنُ وأعلم وأكمل وأحسن وألطفُ من الظاهر.. وأن ما على الظاهر من الحياة والشعور والكمال وأمثالِها، إنما هوترشّحٌ ضعيف من الباطن -لا الباطن جامدٌ ميّت أثمَر حيّا عليما- كونُ بطنِك أكملَ انتظاما من بيتك، وجلدِك أحسنَ نسجا من ثوبك، وحافظتِك أتمَّ نقشًا من كتابك. فقس على هذه الجزئيات عالَمَ المُلك وعالمَ الملكوت وعالَمَ الشهادة، وعالمَ الغيب والدنيا والآخرة. فيا حسرةً على النفوس! إن النفس الأمارة النظارة بعين الهوى ترى الظاهر حيا مونسا مفروشا، على باطنٍ ميت عميق مظلم موحش..
اعلم أن وجهَك يتضمن من العلامات الفارقة عددَ أفراد الإنسان الماضية والآتية، بل لووجد الغير المتناهي من الأفراد لتصادف كلُّ واحدٍ في وجهك ما يميزك عنه -مع التوافق في أركان أجزاء الوجه- كأن الوحدة تجلّت من وجهك في كثرة غير متناهية.
فالتوافقُ في أساساتِ أعضاءِ أفراد الإنسان والحيوان يدل بالبداهة على أن الصانعَ واحدٌ أحدٌ. والتخالفُ في التعيّنات المنتظمة يدل بالضرورة على أن الصانع مختارٌ حكيم.
ويتعاظم هذا السر بالنظر إلى كل فردٍ فردٍ.. ومن أبعدِ المحالات وأبطلِها أن لا يكون هذا التمييز الحكيم والتخالف المثمر والتفريق المفيد بقصدِ قاصدٍ واختيارِ مختارٍ وإرادة مريدٍ وعلم عليم.
فسبحان مَن أدرجَ وكتبَ الغيرَ المتناهي في صحيفة الوجه، بحيث يُقرأ بالبصر ولا يُحاط بالعقل. نعم، يُقرأ بالنظر واضحا مفصلا ولا يُرى بالنظر إجمالُهُ، بل ولا بالعقل أيضا. فهوالمعلوم المُبْصَر، المجهولُ المطلق، والمشهودُ الغائب. فمحالٌ بمراتبَ أن يكون هذا التخالفُ المنتظم المفيد في نوع الإنسان، والتوافقُ المطّرد المتناظر في أنواع أمثال الحنطة والعنب، وكذا النحل والنمل والسّمك، بالتصادف الأعمى والاتفاقية العوراء، كلَّا ثم كلَّا. إنه لصنعةُ سميعٍ، بصير، عليم، حكيم.
فإذا كان أوسعُ أطوار الكثرة وأبعدُها وأرقاها، وأنسبُ مراتب الكثرة لجولان التصادف -لوكان- وأكثرُها انتشارا وأدناها أهميةً هكذا غيرَ مُهمَلٍ ولا سدىً، بل محفوظا من يد التصادف، حتى صار ميدانا لجولان القصد الحكيم والاختيار العليم والإرادة السميعة البصيرة.. فيا أيها التصادفُ لا محلّ لك في مُلك الله، فاذهب مع أخيك الطبيعة وأبيك الشرك إلى جهنمِ العدم والفناء بل الامتناع. وآيةُ ﴿وَمِنْ اٰيَاتِه خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ﴾ (الروم:22) أشارت إلى أولِ مراتب تجلّي الحكمة وإلى آخرها..
اعلم أن مما يوسوس به الشيطان، أنه يقول: إن البقرَ مثلا لوكان مُلكا ونَقشا للقدير الأزلي العليم لمَا كان هكذا مسكينا، إذ حينئذ تحت جلده وداخل بيته يحكم قلمُ قديرٍ عليم مريد على الإطلاق؛ فكيف صار فوق الجلد وخارجَ البيت هكذا عاجزا جاهلا يتيما مسكينا؟
قيل له: أيها الشيطان الإنسي الذي صار أستاذا لشياطين الجن!
أولا: لولم يكن صنعةَ القدير الأزلي الذي يعطي كلَّ شيء ما يليق به بمقدار المصلحة، لزِم أن يكون إذَنْ حمارُك أعقلَ وأحذقَ منك ومن أساتيذك، ولزِم أن يكون في داخل إصبعك -مثلا- شعورٌ واقتدارٌ يزيدان على شعورك واختيارك بمراتب. فمَن قيَّدَهما في حدِّهما مع أن شأن هذه اللطائف الانبساط والانتشار؟
وثانيا: إنّ القدر يرسم مقدارا وقالبا، يُنشئ منه قابليةً، تقبل من الفيض المطلق مقدارَ قالبه، وكل ما يترشح من الداخل إلى الخارج فبمقياس الجزء الاختياري وميزانه، وبقدر الاحتياج ودرجته، وبمساعدة القابلية وتحملها، وبميزان نظام حاكمية الأسماء وتقابلِها. فليس المصنوعُ البقرُ فقط، خارجُه داخلَ آخرَ. ففي كل شيء الداخلُ مظهرُ المطلق، والخارجُ مظهرُ المقيد. ومَنْ طلب إضاءة الدنيا وجذبَ السيارات ومركزيةَ العالم وأمثالَها من لوازم عظمة الشمس وحشمتها، من شُميسة الحباب، انعزلَ عن العقل.
نعم، يصف الحبابُ تلك اللوازم ولا يتّصف..
اعلم أنك صنعةٌ شعورية بحكمة، حتى كأنك بوضوح الدلالة على صفات الصانع؛ مُجَسَّمُ الحكمة النقاشة، ومتجسّدُ العلم المختار، ومُنجَمدُ القدرة البصيرة بما يليق بك، وثمرةُ الرحمة السميعة لنداء حاجاتك، ومتصلَّب الفعل المريد لما يريده استعدادُك، ومتكاثَف الإنعام العليم بمطالبك، وصورةُ القدَر المرسِّم المهندس الخبير بما يناسب بناءك. فكيف يمكن لك أن تذهب بجزئك الجزئي الاختياري والشعرة الشعورية، وتخلص عن أحكام الكل وتصير حرا برأسك. ثم ترجع تقيس الكل على الجزء؟ وكيف يتيسر أن تتغافل عن مالكك المالك لكل شيء؟ وكيف تتوهم مع هذا العلم أن ليس عليك رقيبٌ، سميعٌ، بصير، عليم، مجيب، مغيث.. يسمع أنيناتك يبصر فاقاتك ويعلم جناياتك؟
يا نفسي المسكينة، لم تتوهمين نفسَك خارجةً؟ حتى يلزم عليك مراعاةُ كل حي واحترامه، أوظلم الكل بعدم الأهمية. فهذا حملٌ ثقيل لا يُطاق حَمله، فحينئذٍ لابد أن تتركي الأجنبيةَ الشركية وتدخلي في دائرة مُلك الله، لتستريحي بالأخوة، بل تصيرين أختا كبيرة محترمة. ألا ترين أن مثَلك كمثل مَن كان في سفينة مشحونة بمال السلطان وقد فُوّض إليه تدبيرٌ جزئي من دواليبه، فوضع الشخصُ الأبله ذلك الدولاب المربوط بالسفينة مع أرزاقه على ظهره بكمال الاهتمام. فإن كان له جزء من العقل لقال: إني أيضا في السفينة فأطرحُ فيها مالي مع مال مالكها.. وكذا واحملي الدساتير الإسلاميةَ على سفينة دماغ عالم الإسلام لتستفيدي وأنت مستريحة مطمئنة…
اعلم أن من خلَقك لا يُبعَد منه ولا يُستغَرب أن يخلق العالَم بجميع ما فيه، لأنه فيك ما فيه. بل يجب أن يكون خالقُك هوالخالق لكل شيء، لامتناع أن يكون خالقُ البطيخ غيرَ خالقِ نواته التي هي أنموذجُه المصغر المتلخّص منه المُحاط به…
اعلم أنك مقيّدٌ بالتعيّن، في مقيّدٍ بالبدن، بمقيد بالعمر، محدودُ الحياة في محدود البقاء بمحدود الاقتدار. فحينئذ لابد أن لا تصرفَ هذا العمرَ القصير القليل الفاني للفاني حتى يفنى، بل للباقي ليبقى؛ إذ الاستفادة منه هنا تصير مائة سنة، كمائة نواة نخلة تتآكل مع يبوستها وقلة نفعها وإضاعة فوائد الغرس على آكلها، وإن وجّهت إلى الآخرة وسُقيت بماء الشريعة صارت مائةَ نخل باسقات.. الحق أن مَن يشترى بمائة نخل باسقات، مائةَ نواة يابسات.. فهولائق لأن يكون حطب الحُطَمَة..
اعلم أن مخزنَ الأوهام والشبهات بل الضلالات فرضُ النفس نفسَها خارج الدائرة التي تجلى القدَرُ والصفات الإلهية فيها، ثم تفرضُ النفسُ نفسَها الأجنبية في موقع الشيء الذي تعلّق به القدرُ وتجلى عليه اسمٌ من الأسماء الإلهية فتفنى فيه، ثم بصبغة الأجنبية تشرع تُخرج ذلك الشيء أيضا عن مُلكِ الله، وتصرُّفِ قُدرتِه بتأويلاتٍ تصير بها أستاذَ الشياطين، وتعكس حالاتها المترشحة من شركها الخفي في ذلك الشيء المعصوم. فالنفسُ الأمارة كالنَّعامة ترى فيما عليها، لها وجها، وكالسوفسطائي تقول للمتخاصميَن: يا هذا دليلُ خصمك يردّك، وكذا: يا ذا دليلُ هذا يبطلك، فلا حق لكما.
اعلم أن النفس تديم الغفلةَ بربط الدنيا بالآخرة، كأنها منتهاها، كلا بل معكوستها.
فبتصور الآخرة -ولومع الشك- تتخلص من دهشة فناء الدنيا وألم الزوال، وبسبب الغفلة أوالشك تريد الخلاصَ من كلفة العمل للآخرة وتنظر إلى الأسلاف الميّتين، كأنهم أحياءٌ غائبون، فلا تعتبرُ بالموت. وكثيرا ما يَثبت عروقُ مطالبها الدنيوية في أرض الآخرة للتأبيد بدسيسةِ، أنّ تلك المطالب لها وجهان: وجه إلى الدنيا لا ثباتَ له، بل هباءً منثورا. ووجه إلى الآخرة تتصل أساساته بأرضها فتدوم، كالعلم مثلا له وجه مظلم ووجه مضيء. فالنفس الشيطانة تريك المضيء وتُبلعك المظلم. إذ النفس نعامة (دوَه قوشي) والشيطان سوفسطائي، والهوى بيطاشي..
اعلم أنى قد تيقنت بلا ريب أنه لولم تصدُق «الموجبة الكلية» لزِم صدقُ «السالبة الكلّية» في مسألة خلق الأشياء؛ إذ كل الخلق بالتساند المنتظم كلٌّ لا يقبل التجزي، فإما وإما. مع أن الوهم الذي يطيق أن يتوهم عدمَ العلة في كل شيء أوهنُ بمراتبَ من نسج العنكبوت، فالقبول في شيء ما، يستلزم بالحدس الصادق القبولَ في كل شيء.
وكذا، إن الخالقَ إما واحدٌ وإما غيرُ متناهٍ، لا وسط قطعا، إذ الصانع لولم يكن واحدا حقيقيا، لكان بالضرورة كثيرا حقيقيا. وهوما لا يتناهى. وعلى الثاني -مع محالات عجيبة- يلزم عدمُ التركيب وفقدُ الوحدة مطلقا وامتناعُ الوجود.
اعلم أنه كما أن من المحال الظاهر أن يكون منيرٌ غيرَ متنور، والموجِد غيرَ موجود، والموجِب غيرَ واجب.. كذلك محالٌ أن يكون مُنعِمُ العلم غيرَ عالم، ومُحسنُ الشعور غير ذي شعور، ومُعطي الاختيار غيرَ مختار، ومُفيض الإرادة غير مريد، وصانعُ المكمّل غير كامل. وهل يمكن أن يكون مُرسم العين ومصوّر البصر ومنوّر النظر غير بصير؟ بل من الواجب أن يكون ما في المصنوع من أنواع الكمال من فيض الكمال المناسب للصانع.. والمكروب الذي لا يعرف من الطيور إلا البعوضة إذا رأى البازي يقول ليس بطير إذ ليس له ما للبعوضة..
اعلم أن أشد ما تطلبه النفسُ الناطقةُ البقاءُ والدوامُ، حتى لولم تنخدع بتوهم الدوام ما التذّت بشيء. فيا طالبةَ الدوام اشتملي على ذكر الدائم لتدومي، وكوني زجاجةً لنوره لئلا تنطفي، وصدَفا لدرّه لتصطفي، وبدنا لنسيم ذكره لتحيَي، وتمسكي بالخيط النوراني الذي هوشعاع من اسم من الأسماء الإلهية لئلا تسقطي في فضاء العدم. فالثمرة الغافلة إذا لم تتوجه إلى ما تقوم به، وانجذبت إلى التشعشع الأجنبي وضحكهم في وجهِها، انقطعت وسقطت على رأسها!
يا نفسُ استندي على ما يقوّمكِ، إذ إلى عهدته منك من الألف تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون، وإليك واحدٌ فقط. فاطرحي واحدَكِ أيضا في سفينة مالِه واستريحي.
اعلم أنكَ إذا لم تُطق أن تفعلَ لنفسك، ولم تصلْ يدُك إليك، فالناس والأسباب البُعَداء-بالطريق الأولى- لا يطيقون ولا تصل أيديهم إلى خُوَيِّصَة ذاتك، فجرّب نفسَك هل تقدر أن تصنع لسانك الذي هوشجرة الكلمات وحوض الأذواق و«سانترال» المخابرات، فإنْ لمْ، ولم.. فلا تشرك بالله ﴿اِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ﴾ (لقمان:13).
اعلم أن العالم دكان ومخزنٌ إلهي يوجَد فيه كلُّ نسجٍ وطرز وشكل وقشر، كثيف ورقيق وزائل ودائمي، ولبٌ صلب ومايع وهوائي، بعضها نَسجُ الإيجاد وبعضها ترسيم التجلي. قد ضلت الفلاسفةُ في الإيجاب بالذات، بإدراج الإيجاد في التجلّي…
اعلم أن الشرك الخفي الناشئ من الأنانية، إذا تصلَّب انقلبَ إلى شرك الأسباب، وهوإذا استمر تحوّل إلى الكفر، وهوإذا دام تبدَّل إلى التعطيل، والعياذ بالله…
اعلم أن طلَب الضياء في طور الظلمة مع محافظة النفس عليها وتطبّعها بها أليم شديد، مخلٌّ بحرمة الضياء، ومُلَوِّثٌ له. فلابد من التعري والانسلال من الظلمة. ثم النظر منها -لا فيها- إلى الضياء.
اعلم أن من الأعاجيب؛ أن الإنسان خُلق ليكون فاتحا وكاشفا مريئا، وبرهانا نيّرا، ودليلا مبصّرا، ومعكِسا نورانيا، وقمرا مستنيرا للقدير الأزلي، ومرآةً شفافة لتجلي الجمال الأزلي. وقد انجلت وتصيقلت بحمل الأمانة التي تدهّشتْ من حملها السماوات والأرض والجبال. إذ من مضامين تلك الأمانة صيرورةُ الإنسان واحدا قياسيا لفهم الصفات المحيطة، وصيرورةُ ما فيه من «أنا» -الذي هوالنقطة السوداء بالغفلة والشرك الخفي- مفتاحا لتنوير الصفات. فكيف ولأي شيء صار أكثرُ الإنسان حجابا وبابا وسدا. وكان لازما عليه أن يفتح فأغلَق.. وأن ينوِّر فأظلم.. وأن يوحِّد فأشرك.. وأن ينظر بمرصاده إلى الله فيسلِّم المُلكَ إليه، لكن نظر إلى الخلق بمرصادِ «أنا»، فقسّم مُلكَ الله عليهم.. نعم، إن الإنسان لظلوم جَهول.
اعلم يا نفسي، إن أرضيت خالقَك بالتقوى والعمل الصالح، كفاكِ إرضاءَ الخلق. فإن رضوا منك بحسابه تعالى فنافعٌ، وبحساب أنفسهم فلا فائدة، إذ هم عاجزون مثلك. فإن أردت الشق الأول فأرضِ ربَّك، وإن أردتِ الثاني أشركتِ بلا فائدة.. ألا ترين أن مَن ذهب إلى مقرِ سلطانٍ مطلقٍ لمصلحةٍ، إن أرضاه تمت بلا كلفة، مع محبةِ الرعية له. وإن طلبها ممَن تحت حكمه المطلق يتعسّر -بل يتعذر- إرضاءُ الكل واتفاقُهم على إيفاء مصلحته. ثم بعد الاتفاق يحتاج إلى إذن السلطان، وإذنُه يتوقف على إرضائه إن كان إكراما، وإن كان استدراجا فلا بحث.
اعلم أن الواجبَ الوجود كما لا يشبه الممكنَ في الذات والماهية، كذلك لا يشبهه في أفعاله.. مثلا: لا فرقَ بالنسبة إليه بين القريب والبعيد، والقليل والكثير، والصغير والكبير، والفرد والنوع، والجزء والكل بالحدس الشهودي. وكذا لا كلفةَ ولا معالجة ولا مزاولة ولا مباشرة في فعله، خلافا للممكن. ولهذا يتحير العقلُ في فهم كنهِ أفعاله تعالى فيظن الفعلَ لا فعلا.
اعلم أن أنيابَ الأسد كما تدل أن من شأنه الافتراسَ، وأن لطافة البطيخ على أنه للأكل، كذلك استعداد الإنسان يدل على أن وظيفتَه الفطريةَ العبوديةُ. وأن عُلويةَ روحانيته واشتياقَه إلى البقاء والأبدية تدل على أن الإنسان خُلق أولا في عالمٍ ألطفَ من هذا العالم، وأُرسل إلى هنا، ليتجهّزَ ويعود إليه. وأن كونه ثمرةَ شجرةِ الخلقة يدل على أن من الإنسان مَن هونواة أنبت منها الصانعُ شجرةَ الخلقة، وما تلك النواة إلا مَن اتفق كلُّ الكُمّل، بل نصفُ البشر -بسر انصباغ العالم بصبغته المعنوية- على أنه أفضلُ الخلق بالتمام، وهونورُ سيد الأنام الفاتحِ الخاتم عليه الصلاة والسلام..
[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «أوقاف» بإستانبول سنة 1340
هـ (1922)م.