القطعة الأولى من لاحقة «الكلمة العاشرة» وذيلها المهم
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿فَسُبْحَانَ اللّٰهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَعَشِيًّا وَحينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِهٓ اَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ اِذَٓا اَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِهٓ اَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ اَنْفُسِكُمْ اَزْوَاجًا لِتَسْكُنُٓوا اِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِه خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِلْعَالِمينَ * وَمِنْ اٰيَاتِه مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَٓاؤُ۬كُمْ مِنْ فَضْلِه اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِه يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَيُحْي بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الروم:17-27).
سنُبيّن في هذا «الشعاع التاسع» برهانا قويا، وحجةً كبرى، لما تبينه هذه الآيات الكريمة من محور الإيمان وقطبه، وهو الحشر، ومن البراهين السامية المقدسة الدالة عليه.
وإنه لعناية ربانية لطيفة أَنْ كَتَبَ «سعيد القديم» قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلَّفه «محاكمات» الذي كتبه مقدمة لتفسير «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» ما يأتي:
المقصد الثاني: سوف يفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران إليه.
ولكنه ابتدأ بـ: «نخو بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم». وتوقف، ولم تتح له الكتابة.
فألف شكر وشكر للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر وأماراته أن وفّقني لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة. فأنعمَ سبحانه وتعالى عليّ بتفسير الآية الأولى:
﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ (الروم:50) وذلك قبل نحو عشر سنوات، فأصبحت «الكلمة العاشرة» و«الكلمة التاسعة والعشرين» وهما حجتان ساطعتان قويتان أخرستا المنكرين الجاحدين..
وبعد حوالي عشر سنوات من بيان ذلك الحصن الحصين للحشر، أفاض عليَّ سبحانه وتعالى وأنعم بتفسير الآيات المتصدرة لهذا الشعاع، فكان هذه الرسالة.
فهذا «الشعاع التاسع» عبارة عن تسعة مقامات سامية مما أشارت إليها الآيات الكريمة مع مقدمة مهمة.
المقدمة
هذه المقدمة نقطتان: سنذكر أولا وباختصار نتيجةً واحدة جامعة من بين النتائج الحياتية والفوائد الروحية لعقيدة الحشر، مبينين مدى ضرورة هذه العقيدة للحياة الإنسانية ولاسيما الاجتماعية.ونورد كذلك حجة كلية واحدة -من بين الحجج العديدة لعقيدة الإيمان بالحشر- مبينين أيضا مدى بداهتها ووضوحها حيث لا يداخلها ريب ولا شبهة.
النقطة الأولى
سنشير إلى أربعة أدلة على سبيل المثال وكنموذج قياسي من بين مئات الأدلة على أن عقيدة الآخرة هي أس الأساس لحياة الإنسان الاجتماعية والفردية، وأساس جميع كمالاته ومُثله وسعادته.
الدليل الأول: إن الأطفال الذين يمثلون نصف البشرية، لا يمكنهم أن يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو مؤلمةً ومفجعة أمامَهم من حالات الموت والوفاة إلّا بما يجدونه في أنفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من «الإيمان بالجنة»، ذلك الإيمان الذي يفتح باب الأمل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكي لأدنى سبب. فيتمكنون به من العيش بهناء وفرح وسرور. فيحاور الطفلُ المؤمنُ بالجنة نفسَه: «أنَّ أخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي، أصبح الآن طيرا من طيور الجنة، فهو إذن يسرح من الجنة حيث يشاء، ويعيش أفضل وأهنأ منّا». وإلّا فلولا هذا الإيمان بالجنة لهدم الموتُ الذي يصيب أطفالا أمثاله -وكذلك الكبار- تلك القوة المعنوية لهؤلاء الذين لا حيلة لهم ولا قوة، ولحطّم نفسياتهم، ولدمّر حياتهم ونغَصها فتبكي عندئذٍ جميع جوارحهم ولطائفهم من روح وقلب وعقل مع بكاء عيونهم. فإما أن تموت أحاسيسهم وتغلُظ مشاعرهم أو يصبحوا كالحيوانات الضالة التعسة.
الدليل الثاني: إن الشيوخ الذين هم نصف البشرية، إنما يتحملون ويصبرون وهم على شفير القبر بـ«الإيمان بالآخرة». ولا يجدون الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم، ولا من انغلاق باب دنياهم الحلوة الجميلة في وجوههم إلّا في ذلك الإيمان. فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالأطفال وأصبحوا مرهفي الحس في أرواحهم وطبائعهم، إنما يقابِلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشيء من الموت والزوال، ويصبرون عليه بالأمل في الحياة الآخرة. وإلّا فلولا هذا الإيمان بالآخرة لشعر هؤلاء الآباء والأمهات -الذين هم أجدر بالشفقة والرأفة والذين هم في أشد الحاجة إلى الاطمئنان والسكينة والحياة الهادئة- ضراما روحيا واضطرابا نفسيا وقلقا قلبيا، ولضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، ولتحولت سجنا مظلما رهيبا، ولانقلبت الحياة إلى عذاب أليم قاسٍ.
الدليل الثالث: إن الشباب والمراهقين الذين يمثلون محور الحياة الاجتماعية لا يهدّئ فورةَ مشاعرهم، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود إلى الظلم والتخريب، ولا يمنع طيش أنفسهم ونزواتها، ولا يؤمّن السيرَ الأفضل في علاقاتهم الاجتماعية إلّا الخوفُ من نار جهنم. فلولا هذا الخوف من عذاب جهنم لقلَّب هؤلاء المراهقون الطائشون الثملون بأهوائهم الدنيا إلى جحيم تتأجج على الضعفاء والعجائز، حيث «الحُكم للغالب» ولحوّلوا الحياة الإنسانية السامية إلى حياة حيوانية سافلة.
الدليل الرابع: إن الحياة العائلية هي مركزُ تجمّعِ الحياة الدنيوية ولولبها وهي جنة سعادتها وقلعتها الحصينة وملجأها الأمين. وإن بيت كل فرد هو عالمَه ودنياه الخاصة. فلا سعادة لروح الحياة العائلية إلّا بالاحترام المتبادل الجاد والوفاء الخالص بين الجميع، والرأفة الصادقة والرحمة التي تصل إلى حد التضحية والإيثار. ولا يحصل هذا الاحترام الخالص والرحمة المتبادَلة الوفية إلّا بالإيمان بوجودِ علاقاتِ صداقة أبدية، ورفقةٍ دائمة، ومعيّة سرمدية، في زمن لا نهاية له، وتحت ظلِ حياة لا حدود لها، تربطها علاقاتُ أبوّةٍ محترمة مرموقة، وأخوةٍ خالصة نقية، وصداقةٍ وفيّة نزيهة، حيث يحدّث الزوجُ نفسه: «إن زوجتي هذه رفيقة حياتي وصاحبتي في عالم الأبد والحياة الخالدة، فلا ضير إن أصبحت الآن دميمة أو عجوزا، إذ إن لها جمالا أبديا سيأتي، لذا فأنا مستعد لتقديم أقصى ما يستوجبه الوفاء والرأفة، وأضحّي بكل ما تتطلبه تلك الصداقة الدائمة».. وهكذا يمكن أن يُكنّ هذا الرجل حبا ورحمة لزوجته العجوز كما يكنّه للحور العين. وإلّا فإنّ صحبة وصداقة صورية تستغرق ساعة أو ساعتين ومن ثم يعقبها فراق أبدي ومفارقة دائمة لهي صحبة وصداقة ظاهرية لا أساس لها ولا سند. ولا يمكنها أن تعطي إلّا رحمةً مجازية، واحتراما مصطنعا، وعطفا حيوانيَّ المشاعرِ، فضلا عن تدخُل المصالح والشهوات النفسانية وسيطرتها على تلك الرحمة والاحترام فتنقلب عندئذٍ تلك الجنة الدنيوية إلى جحيم لا يطاق.
وهكذا فإن نتيجة واحدة للإيمان بالحشر من بين مئات النتائج تتعلق بالحياة الاجتماعية للإنسان وتعود إليها، والتي لها مئات الأوجه والفوائد، إذا ما قيست على تلك الدلائل الأربعة المذكورة آنفا، يُدرك أن وقوع حقيقة الحشر وتحققَها قطعي كقطعية ثبوت حقيقة الإنسان السامية وحاجاته الكلية. بل هي أظهر دلالة من حاجة المعدة إلى الأطعمة والأغذية، وأوضح شهادةً منها. ويمكن أن يقدّر مدى تحققها تحققا أعمق وأكثر إذا ما سلبت الإنسانية من هذه الحقيقة (الحشر)،حيث تصبح ماهيتها التي هي سامية ومهمة وحيوية بمثابة جيفة نتنة ومأوى الميكروبات والجراثيم.
فليلق السمعَ علماءُ الاجتماع والسياسة والأخلاق من المعنيين بشؤون الإنسان وأخلاقه واجتماعه، وليأتوا ويبينوا بماذا سيملأون هذا الفراغ؟ وبماذا سيداوون ويضمدون هذه الجروح الغائرة العميقة؟!