تأليف رسائل النور ونشرها

تأليف رسائل النور ونشرها

ألَّفَ بديع الزمان كليَّات رسائل النور تحت وطأةِ ظروفٍ قاسيةٍ تُذَكِّر بما عاناه علماء الأمة وأعلامُها فيما مضى، وكان يتحلَّى بعزمٍ متين وإرادةٍ لا تلين، وعشقٍ للخِدمة لا يخبو، فبذل في تأليفها جهدَه وقوتَه صابرًا متحمِّلًا مضحِّيًا دون كللٍ ولا مللٍ، إلى أن أخرجها مرشدًا عظيمًا ينهض بمهمة التنوير والإرشاد لأبناء الإسلام وبني الإنسان، ويحفظ البلاد والعباد من ثعبان الشيوعية وآفات الماسونية والإلحاد، ويَقِيهم شرورَها في قادم الأيام.

لقد اكتمل تأليف كليَّات رسائل النور برسائلها المئة والثلاثين في ثلاثٍ وعشرين سنةً، وقد أُلِّفت في زمنٍ كانت الحاجة إليها فيه أشدَّ ما تكون، فجاءت ترياقًا شافيًا وعلاجًا ناجعًا، تداوي الأمراض المعنوية لكثيرٍ من الناس؛ ويشعر قارئها
-أيًّا كان- بحالةٍ روحيَّة كأنها كُتبت له خاصَّةً، فيطالعها بشوقٍ شديد، وشعورٍ بالحاجة الماسَّة؛ كيف لا وهي التي تقدم لأبناء هذا العصر ومَن بعدَهم الجوابَ الذي يلبي حاجاتهم الإيمانيَّة والإسلاميَّة والفكريَّة والروحيَّة والقلبيَّة والعقليَّة

إنَّها تفسيرٌ حقيقيٌّ للقرآن الحكيم، فهي تُفسِّر الآياتِ لا بحسب ترتيبها، بل بحسب تبيانها للحقائقِ الإيمانيَّة التي تلبي حاجات العصر؛ فالتفسير قسمان: قسمٌ يفسِّر لفظ الآية وعبارتها، وقسمٌ يبيِّن معناها وحقائقَها ويبرهن عليها؛ وتُعدُّ رسائل النُّور واحدةً من أهم تفاسير القسم الثاني وأوسعِها وأكثرها قوةً وإشراقًا؛ وهذا أمرٌ ثابتٌ بشهادةِ وتصديقِ الآلافٍِ من أهلِ التَّحقيق والتدقيق.

ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺏ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ

   ﺑِﺎﺳْﻤِﻪِ ﺳُﺒﺤَﺎﻧَﻪُ

 ﴿ﻭَﺍِﻥْ ﻣِﻦْ ﺷَﻲﺀٍ ﺍِلا ﻳُﺴَﺒِّﺢُ ﺑِﺤَﻤْﺪِﻩِ﴾

    ﺳـلاﻡ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺭﺣﻤﺘﻪ ﻭﺑﺮﻛﺎﺗﻪ ﻋﻠﻴﻜﻤﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﺇﺧﻮﺍﻧﻜﻤﺎ ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﻤﻠَﻮﺍﻥِ ﻭﺗﻌﺎﻗﺐ ﺍﻟﻌَﺼﺮﺍﻥِ ﻭﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﻘﻤﺮﺍﻥِ ﻭﺍﺳﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻔﺮﻗﺪﺍﻥِ.

ﺃَﺧَﻮﻱَّ ﺍﻟﻐﻴﻮﺭَﻳﻦِ، ﺯﻣﻴﻠَﻲَّ ﺍﻟﺸﻬﻤﻴﻦِ، ﻳﺎ ﻣﺒﻌﺜَﻲ ﺳُﻠﻮﺍﻧﻲ ﻓﻲ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ، ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ.

ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﻮﻟﻰ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻗﺪ ﺟﻌﻠﻜﻤﺎ ﻣﺸﺎﺭﻛَﻴﻦ ﻟﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺃَﻧﻌﻤﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﻓﻜﺮﻱ، ﻓﻤﻦ ﺣﻘﻜﻤﺎ ﺇﺫﻥ ﻣﺸﺎﺭﻛﺘﻲ ﻓﻲ ﻣﺸﺎﻋﺮﻱ ﻭﺃَﺣﺎﺳﻴﺴﻲ.

ﺳﺄَﺣﻜﻲ ﻟﻜﻤﺎ ﺑﻌﻀﺎً ﻣﻤﺎ ﻛﻨﺖ ﺃُﻗﺎﺳﻴﻪ ﻣﻦ ﺃَﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻓﻲ ﻏﺮﺑﺘﻲ ﻫﺬﻩ، ﻃﺎﻭﻳﺎً ﻣﺎ ﻫﻮ ﺃَﻛﺜﺮُ ﺇﻳـلاﻣﺎً ﻣﻨﻪ ﻟﺌـلا ﺃَﺟﻌﻠﻜﻤﺎ ﺗﺘﺄَﻟَّﻤﺎﻥِ ﻛﺜﻴﺮﺍً.

ﻟﻘﺪ ﺑﻘﻴﺖُ ﻣﻨﺬ ﺷﻬﺮﻳﻦ ﺃَﻭ ﺛـلاﺛﺔ ﻭﺣﻴﺪﺍً ﻓﺮﻳﺪﺍً، ﻭﺭﺑﻤﺎ ﻳﺄﺗﻴﻨﻲ ﺿﻴﻒٌ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻳﻮﻣﺎً ﺃﻭ ﻣﺎ ﻳﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ، ﻓﺄَﻇﻞُّ ﻭﺣﻴﺪﺍً ﻓﻲ ﺳﺎﺋﺮ ﺍلأﻭﻗﺎﺕ. ﻭﻣﻨﺬ ﻣﺎ ﻳﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻳﻮﻣﺎً ﻟﻴﺲ ﺣﻮﻟﻲ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺠﺒﻞ، ﻓﻠﻘﺪ ﺗﻔﺮَّﻗﻮﺍ.

ﻓﻔﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﺍﻟﻤُﻮﺣِﻴَﺔِ ﺑﺎﻟﻐﺮﺑﺔ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﺧﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞُ ﺳﺪُﻭﻟَﻪ، ﻓـلا ﺻﻮﺕَ ﻭلا ﺻﺪﻯ، ﺇﻟَّﺎ ﺣﻔﻴﻒ ﺍلأﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﺤﺰﻳﻦ.. ﺭﺃَﻳﺘُﻨﻲ ﻭﻗﺪ ﻏﻤﺮَﺗﻨﻲ ﺧﻤﺴﺔُ ﺃَﻟﻮﺍﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ.

ﺃﻭﻟﻬﺎ: ﺃﻧﻲ ﺑﻘﻴﺖ ﻭﺣﻴﺪﺍً ﻏﺮﻳﺒﺎً ﻋﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺃَﻗﺮﺍﻧﻲ ﻭﺃَﺣﺒﺎﺑﻲ ﻭﺃَﻗﺎﺭﺑﻲ، ﻓﻴﻤﺎ ﺃَﺧﺬﺕِ ﺍﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔُ ﻣﻨﻲ ﻣﺄﺧﺬﺍً، ﻓﺸﻌﺮﺕُ ﺑﻐﺮﺑﺔ ﺣﺰﻳﻨﺔ ﻣﻦ ﺟﺮَّﺍﺀ ﺗﺮﻛﻬﻢ ﻟﻲ ﻭﺭﺣﻴﻠﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺒﺮﺯﺥ.

ﻭﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﺍﻧﻔﺘﺤﺖ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻏﺮﺑﺔ ﺃُﺧﺮﻯ، ﻭﻫﻲ ﺃﻧﻨﻲ ﺷﻌﺮﺕ ﺑﻐﺮﺑﺔ ﻣﺸﻮﺑﺔٍ ﺑﺄَﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺣﻴﺚ ﺗﺮﻛﺘﻨﻲ ﺃﻛﺜﺮُ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺗﻌﻠَّﻖ ﺑﻬﺎ ﻛﺎﻟﺮﺑﻴﻊ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ.

ﻭﻣﻦ ﺧـلاﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﺍﻧﻔﺘﺤﺖ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻏﺮﺑﺔ ﺃﺧﺮﻯ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﻋﻦ ﻣﻮﻃﻨﻲ ﻭﺃَﻗﺎﺭﺑﻲ، ﻓﺸﻌﺮﺕ ﺑﻐﺮﺑﺔ ﻣﻔﻌﻤﺔ ﺑﺄﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ، ﺇﺫ ﺑﻘﻴﺖ ﻭﺣﻴﺪﺍً ﺑﻌﻴﺪﺍً ﻋﻨﻬﻢ.

ﻭﻣﻦ ﺧـلاﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﺃَﻟﻘﺖْ ﻋﻠﻲَّ ﺃَﻭﺿﺎﻉُ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺍﻟﺒﻬﻴﻢ ﻭﺍﻟﺠﺒﺎﻝُ ﺍﻟﺸﺎﺧﺼﺔ ﺃﻣﺎﻣﻲ، ﻏﺮﺑﺔً ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺰﻥ ﺍﻟﻤﺸﻮﺏ ﺑﺎﻟﻌﻄﻒ ﻣﺎ ﺃَﺷﻌﺮﻧﻲ ﺃَﻥَّ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﻏﺮﺑﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﺍﻧﻔﺘﺤﺖ ﺃَﻣﺎﻡ ﺭﻭﺣﻲ ﺍﻟﻤﺸﺮﻓﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺣﻴﻞ ﻋﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻀﻴﻒ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﻣﺘﻮﺟﻬﺔً ﻧﺤﻮ ﺃَﺑﺪ ﺍلآﺑﺎﺩ، ﻓﻀﻤَّﺘﻨﻲ ﻏﺮﺑﺔٌ ﻏﻴﺮ ﻣﻌﺘﺎﺩﺓ، ﻭﺃَﺧﺬﻧﻲ ﺍﻟﺘﻔﻜﻴﺮ، ﻓﻘﻠﺖ ﻓَﺠﺄﺓً: ﺳﺒﺤﺎﻥ ﺍﻟﻠﻪ! ﻭﻓﻜﺮﺕ ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺃَﻥْ ﺗُﻘﺎﻭَﻡ ﻛﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻈﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻤﺘﺮﺍﻛﺒﺔ ﻭﺃَﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﺍﻟﻤﺘﺪﺍﺧﻠﺔ!.

ﻓﺎﺳﺘﻐﺎﺙ ﻗﻠﺒﻲ ﻗﺎﺋـلا:

ﻳﺎ ﺭﺏُّ! ﺃَﻧﺎ ﻏﺮﻳﺐ ﻭﺣﻴﺪ، ﺿﻌﻴﻒ ﻏﻴﺮ ﻗﺎﺩﺭ، ﻋﻠﻴﻞ ﻋﺎﺟﺰ، ﺷﻴﺦ لا ﺧﻴﺎﺭ ﻟﻲ.

   ﻓﺄﻗﻮﻝ: ﺍﻟﻐﻮﺙَ ﺍﻟﻐﻮﺙَ. ﺃَﺭﺟﻮ ﺍﻟﻌﻔﻮ، ﻭﺃﺳﺘﻤﺪُّ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﻣﻦ ﺑﺎﺑﻚ ﻳﺎ ﺇﻟﻬﻲ!.

ﻭﺇﺫﺍ ﺑﻨﻮﺭ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻭﻓﻴﺾ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﻟﻄﻒ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﻳﻤﺪّﻧﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﻣﺎ ﻳُﺤﻮِّﻝُ ﺗﻠﻚ ﺍلأﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺨﻤﺴﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﺍﻟﻤﻈﻠﻤﺔ، ﺇﻟﻰ ﺧﻤﺲ ﺩﻭﺍﺋﺮَ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻣﻦ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺍلأﻧﺲ ﻭﺍﻟﺴُّﺮﻭﺭ. ﻓﺒﺪﺃَ ﻟﺴﺎﻧﻲ ﻳُﺮﺩِّﺩُ: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:173) ﻭﺗـلا ﻗﻠﺒﻲ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (ﺍﻟﺘﻮﺑﺔ: 129).

ﻭﺧﺎﻃﺐ ﻋﻘﻠﻲ ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻘﻠﻘﺔَ ﺍﻟﻤﻀﻄﺮﺑﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻐﻴﺜﺔ ﻗﺎﺋـلا:

    ﺩَﻉِ ﺍﻟﺼُﺮﺍﺥَ ﻳﺎ ﻣﺴﻜﻴﻦ، ﻭﺗﻮﻛَّﻞْ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠّﻪ ﻓﻲ ﺑﻠﻮﺍﻙ.

   ﺇﻧَّﻤﺎ ﺍﻟﺸَّـﻜﻮﻯ ﺑَـلاﺀ.

   ﺑﻞ ﺑَـلاﺀٌ ﻓﻲ ﺑَـلاﺀ، ﻭﺃَﺛﺎﻡ ﻓﻲ ﺃَﺛﺎﻡ ﻓﻲ ﺑـلاﺀ.

   ﺇﺫﺍ ﻭﺟﺪﺕَ ﻣَﻦ ﺍﺑﺘـلاﻙ،

   ﻋﺎﺩ ﺍﻟﺒـلاﺀُ ﻋﻄﺎﺀً ﻓﻲ ﻋﻄﺎﺀ، ﻭﺻﻔﺎﺀً ﻓﻲ ﺻﻔﺎﺀ، ﻭﻭﻓﺎﺀً ﻓﻲ ﺑـلاﺀ.

   ﺩَﻉِ ﺍﻟﺸَّﻜﻮﻯ، ﻭﺍﻏْﻨَﻢْ ﺍﻟﺸُّﻜﺮ ﻛﺎﻟﺒـلاﺑﻞِ؛ ﻓﺎلأﺯﻫﺎﺭُ ﺗﺒﺘﺴﻢ ﻣﻦ ﺑﻬﺠﺔ ﻋﺎﺷﻘﻬﺎ ﺍﻟﺒﻠﺒﻞ.

   ﻓﺒﻐﻴﺮ ﺍﻟﻠّﻪ ﺩﻧﻴﺎﻙَ ﺁلاﻡ ﻭﻋﺬﺍﺏ، ﻭﻓﻨﺎﺀ ﻭﺯﻭﺍﻝ، ﻭﻫﺒﺎﺀ ﻓﻲ ﺑـلاﺀ.

   ﻓﺘﻌﺎﻝَ، ﺗﻮﻛَّﻞْ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﺑﻠﻮﺍﻙ!

   ﻣﺎ ﻟﻚَ ﺗﺼﺮﺥ ﻣﻦ ﺑَﻠﻴَّﺔٍ ﺻﻐﻴﺮﺓٍ، ﻭﺃَﻧﺖَ ﻣُﺜﻘﻞٌ ﺑﺒـلاﻳﺎ ﺗَﺴَﻊُ ﺍﻟﺪُّﻧﻴﺎ.

   ﺗَﺒﺴَّﻢْ ﺑﺎﻟﺘﻮﻛُّﻞِ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺒـلاﺀ، ﻟﻴﺒﺘﺴﻢَ ﺍﻟﺒـلاﺀ.

   ﻓﻜُﻠَّﻤﺎ ﺗﺒﺴّﻢ ﺻَﻐُﺮ ﻭﺗَﻀَﺎﺀَﻝَ ﺣﺘﻰ ﻳَﺰﻭﻝ.

    ﻭﻗﻠﺖ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺃَﺣﺪُ ﺃﺳﺎﺗﺬﺗﻲ ﻣﻮلاﻧﺎ ﺟـلاﻝ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﺍﻟﺮﻭﻣﻲ ﻣﺨﺎﻃﺒﺎً ﻧﻔﺴﻪ:

   ﺍُﻭ ﮔُﻔْﺖِ : «ﺃَﻟَﺴْﺖُ» ﻭَﺗُﻮﮔُﻔْﺘِﻰ: «ﺑَﻠﻰ»

   ﺷُﻜْﺮِ «ﺑَﻠﻰ» ﭼِﻴﺴْﺖْ؟ ﻛَﺸِﻴﺪَﻥْ ﺑَﻠَﺎ

   ﺳِﺮِّ ﺑَﻠَﺎ ﭼِﻴﺴْﺖْ ﻛِﻪ ﻳَﻌْﻨِﻰ

   ﻣَﻨَﻢْ ﺣَﻠْﻘَﻪ ﺯَﻥِ ﺩَﺭْﮔَﻪِ ﻓَﻘْﺮُ ﻭﻓَﻨَﺎ

 (حاشية) ﻳﻌﻨﻲ: ﻟﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ: «ﺃﻟﺴﺖ ﺑﺮﺑﻜﻢ» ﻗﻠﺖَ: «ﺑﻠﻰ». ﻓﺄﻳﻦ ﺍﻟﺸﻜﺮ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻟﻚ ﺑﻠﻰ؟ ﺇﻧﻪ ﻣﻘﺎﺳﺎﺓ ﺍﻟﺒـلاﺀ! ﺃﺗﺪﺭﻱ ﻣﺎ ﺳﺮ ﺍﻟﺒـلاﺀ؟ ﺇﻧﻪ ﻃﺮﻕ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻔﻘﺮ ﻭﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻪ. المترجم

    «ﺃﺗﺪﺭﻱ ﻣﺎ ﺳﺮ ﺩﻓﻊ ﺍﻟﺒـلاﺀ؟.. ﺇﻧﻪ ﻃَﺮﻕُ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻔﻘﺮ ﻭﺍلاﺳﺘﻐﻨﺎﺀ ﻋﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ».

    ﻭﺣﻴﻨﺌﺬٍ ﻗﺎﻟﺖ ﻧﻔﺴﻲ: ﺃﺟﻞ! ﺃﺟﻞ!. ﺇﻥ ﺍﻟﻈﻠﻤﺎﺕ ﻟﺘﺘﺒﺪﺩُ ﻭﺑﺎﺏَ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻟﻴﻨﻔﺘﺢ ﺑﺎﻟﻌﺠﺰ ﻭﺍﻟﺘﻮﻛﻞ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ﻭﺍلاﻟﺘﺠﺎﺀ. ﻓﺎﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻧﻮﺭ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻭﺍلإﺳـلاﻡ.

ﻭﻗﺪ ﺭﺃﻳﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﻘﺮﺓ ﻣﻦ «ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻌﻄﺎﺋﻴﺔ» ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺭﺓ ﺗﻨﻄﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻭﻫﻲ ﻗﻮﻟﻪ:

(ﻣﺎﺫﺍ ﻭﺟَﺪَ ﻣﻦ ﻓَﻘَﺪَﻩُ ﻭﻣﺎﺫﺍ ﻓَﻘَﺪَ ﻣَﻦ ﻭَﺟَﺪَﻩُ)؟

    ﺃﻱ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺟﺪﻩ ﻓﻘﺪ ﻭﺟﺪَ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﻣﻦ ﻓﻘﺪَﻩ لا ﻳﺠﺪ ﺷﻴﺌﺎً ﺳﻮﻯ ﺍﻟﺒـلاﺀ.

ﻭﻓﻬﻤﺖ ﺳﺮﺍً ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ «… ﻃﻮﺑﻰ ﻟﻠﻐﺮﺑﺎﺀ…» ﻓﺸﻜﺮﺕ ﺍﻟﻠﻪ.

ﻓﻴﺎ ﺃَﺧﻮﻱَّ!

ﺇﻥَّ ﻇﻠﻤﺎﺕ ﺃَﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﻫﺬﻩ، ﻭﺇﻥْ ﺗﺒﺪﺩﺕ ﺑﻨﻮﺭ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ، ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺮﻛﺖ ﻓﻲَّ ﺷﻴﺌﺎً ﻣﻦ ﺑﺼﻤﺎﺕ ﺃﺣﻜﺎﻣﻬﺎ، ﻭﺃَﻭﺣﺖ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ:

ﻣﺎ ﺩﻣﺖُ ﻏﺮﻳﺒﺎً ﻭﺃﻋﻴﺶ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ ﻭﺭﺍﺣـلا ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻐﺮﺑﺔ، ﻓﻬﻞ ﺍﻧﺘﻬﺖْ ﻣﻬﻤﺘﻲ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻀﻴﻒ، ﻛﻲ ﺃﻭﻛِّﻠَﻜﻢ ﻭ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ» ﻋﻨﻲ. ﻭﺃﻗﻄﻊ ﺣﺒﺎﻝَ ﺍﻟﻌـلاﻗﺎﺕ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻗﻄﻌﺎً ﻛﻠﻴﺎً؟

ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﻭﺭﺩﺕْ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺎﻝ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ، ﻓﻜﻨﺖ ﺃَﺳﺄَﻟﻜﻢ:

ﻫﻞ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ» ﺍﻟﻤﺆﻟﻔﺔ ﻛﺎﻓﻴﺔ؟ ﻭﻫﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﻧﻘﺺ؟ ﻭﺃﻋﻨﻲ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ: ﻫﻞ ﺍﻧﺘﻬﺖ ﻣﻬﻤّﺘﻰ ﻛﻲ ﺃَﻧﺴﻰ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺃُﻟﻘﻲ ﺑﻨﻔﺴﻲ ﻓﻲ ﺃﺣﻀﺎﻥ ﻏﺮﺑﺔٍ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻟﺬﻳﺬﺓ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﺑﺎﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﻗﻠﺐ. ﻭﺃﻗﻮﻝ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﻣﻮلاﻧﺎ ﺟـلاﻝ ﺍﻟﺪﻳﻦ:

   ﺩَﺍﻧِﻰ ﺳَﻤَﺎﻉ ﭼِﻪ ﺑُﻮﺩْ؟ ﺑِﻰ ﺧُﻮﺩْ ﺷُﺪَﻥْ ﺯِ ﻫَﺴْﺘِﻰ

   ﺃَﻧْﺪَﺭْ ﻓَﻨَﺎﻯْ ﻣُﻄْﻠَﻖْ ﺫَﻭْﻕِ ﺑَﻘَﺎ ﭼِﺸﻴﺪﻥْ

 (حاشية) ﺃﻱ ﻫﻞ ﺗﻌﻠﻢ ﻣﺎ ﺍﻟﺴّﻤﺎﻉ؟ ﻫﻮ ﺃﻥ ﺗﻔﻨﻰ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻭﺗﺬﻭﻕ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ. مترجم

ﻟﻴﺖ ﺷﻌﺮﻱ ﻫﻞ ﻟﻲ ﺃَﻥْ ﺃَﺑﺤﺚَ ﻋﻦ ﻏﺮﺑﺔ ﺭﻓﻴﻌﺔ ﺳﺎﻣﻴﺔ!.

ﻭلأﺟﻞ ﻫﺬﺍ ﻛﻨﺖ ﺃﺟﺎﺑﻬﻜﻢ ﺑﺘﻠﻚ ﺍلأﺳﺌﻠﺔ.

 ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ

 ﺳﻌﻴﺪ ﺍﻟﻨﻮﺭﺳﻲ