الخطوات الست

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ (البقرة:168)

اعلم! أن لكل زمان شيطانًا إنسيًا، هو وكيل الشيطان وقد لبس صورةَ إنسانٍ فردٍ أو روحَ جماعة. وعزازيلُ زمانِنا هو الروح الغدّار الذي نَشَر الفسادَ في جوانب العالم بسياسته الفتانة، فيفسد العالم الإسلامي بـ«خطوات ست»؛ إذ يتحرى في الأناسي وفي الجماعات المنابعَ الخبيثة، فيستعملها لأغراضه، ويتوسم في الطبائع المعادنَ المضرة فيستخرجها ويستخدمها لمصالحه بوساوسه الفعلية أي بدعاياته وإشاعته. ويتفطن في النفوس إلى الأعصاب الضعيفة والعروق الواهية التي لا تقاوِم، فيحرّكها لمفاسده، فيستعمل مِنْ بعضٍ: حرصَ الانتقام.. ويحرك من بعضٍ حرصَ الجاه.. ويهيج من بعضٍ: حسّ الطمع.. ويستغل من بعضٍ: الحمق.. ومن بعضٍ الإلحاد.. وهكذا، ومن العجيب أنه يستغل من بعضٍ التعصب، فيتخذ كل ذلك وساطة لإنفاذ سياسته.

الخطوة الأولى

إنه يوسوس بالذات، أو بالوسيلة، فيقول صراحةً أو يجعل غيرَه يردد ما يقوله:

أنتم تعترفون أنكم مستحقون لهذه المصيبة، فالقدرُ الإلهي يَعدل ولا يظلم، إذن فارضَوْا بما أعاملكم به، لأني وسيلة لما استحققتم.

نردّ هذه الوسوسة والشبهة، فنقول:

إن القدر الإلهي يصيبنا بمصيبة بسبب عصياننا لأوامر الله. فالرضى بما قدّر الله هو عين التوبة عن سبب المصيبة، وهو الذنوب. ولكنك أيها الواسط الملعون تظلمنا لكوننا مسلمين، وتصيبنا بظلمك لإسلامنا، لا لذنوبنا ومعاصينا، فالرضى بما تعمل، وإطاعتُك طوعًا إنما هو ندامة عن الإسلام وإعراض عنه والعياذ بالله.

نعم، إن الشيء الواحد يكون ذا جهتين؛ فهو مصيبة من جهة القدر، فتكون عدالةً، لترتبها على السبب الباطن من ذنوب وشرور فيُنزلها القدرُ الإلهي زجرًا عنهما. فالرضى بهذه المصيبة -من هذه الجهة- متضمن للندم من الذنوب.

والشيء نفسه يجيء من جهة البشر في الوقت نفسه، فيظلم البشرُ، لأن السبب عنده ليس كوننا مذنبين، بل كوننا مسلمين. فالرضى به من هذه الجهة أعظم الجنايات.

الخطوة الثانية

يوسوس بالذات أو بالوساطة، فيقول:

بأنكم قد اتفقتم مع من هو مثلي في الكفر، فَلِم تتجنبون من المصافاة معي وموالاتي؟

نقول ردًا على هذه الشبهة:

نحن نَقْبل يدَ المعاونة، ولا نقبِّل يد المعاداة فهما شيئان متغايران، لأن كل صفة من صفات الكافر ليست بكافرة أو ناشئة من كفره، لذا لا مشاحة في مصافحة يد الكافر الذي مدها لمعاونة الإسلام، وذلك لدفع عدو الإسلام المعتدى العريق. بل قبولُها إنما هو خدمة للإسلام. أما أنت أيها الكافر الملعون فتمدّ يد الخصومة التي لا تهدأ، وتريد منـا تقبيلهـا مع الاستسلام. ونحن نعلـم أن مسها -فضلا عن تقبيلها- جنايةٌ على الإسلام وعداء له.

الخطوة الثالثة

يوسوس بالذات أو بالوساطة فيقول:

إن من ساسوكم إلى الآن أفسدوا واستهانوا بحقكم وشوّشوا عليكم الإدارة وظلموكم، إذن فلستم أهلًا للإدارة، فاتخِذوني وصيًّا عليكم وارضَوْا بحكمي وإدارتي شؤونكم.

نرد هذه الشبهة فنقول:

أيها الموسوِس الخناس! إن السبب الأصلي للسيئات التي ارتكبها رؤساءُ أمورِنا ما هو إلّا أنت، لأنك قد ضيقت عليهم الدنيا، وقطعتَ في كل فرصة مجاريَ حياتهم، وبثثت بينهم أولادك غير الشرعيين، وأجبرتَهم على ترك الدين للدنيا إذ تنكحهم مدنية لا تَأخذ مهرها إلّا من دينهم ولا تُعَيِّن حاكمًا إلّا وقد أخذتَ منه دينه رشوة لقاءَ منصبه.

ومع ذلك فلو حكّمناك فينا بدلًا منهم، نصير كمن تنجس ثوبُه بماء نجس فيغسله ببول الخنزير.

إنك لا تُبقي لنا إلا حياةً حيوانية مؤقتة، وتقتل فينا حياتنا الإنسانية والإسلامية.

أما نحن فنحيا -على رغمك- بحياة الإسلام وشرف الإنسانية.

الخطوة الرابعة

يوسوس بالذات أو بالوساطة، فيقول:

إن الذين يخاصمونني من أولياء أموركم في الأناضول، نيتُهم فاسدة ومقصدهم ليس مقاصدكم الإسلامية عينها.

نرد هذه الوسوسة فنقول:

إنهم وسائل، وتأثيرُ النيات في الوسائل قليل، إذ لا تغير حقيقةَ القصد. لأن المقصود يترتب على وجود الوسيلة وليس على ما فيها من نية.

فمثلًا: إني أحفر أرضًا لاستخراج الماء أو للعثور على كنز، وجاء أحدُهم وعاونني في الحفر بنية ستر نفسه في الحفرة أو بدفن شيء فيها، فنيتُه هذه لا تؤثر في وجدان الماء ولا الكنزِ، لأن خروج الماء يتوقف على فعل الحفر وليس على نية الحافر وقلبه.

نعم، إن قصد المخاصِمين لك وهدفَهم هو توجيه المسلمين شطرَ الكعبة لا إلى الغرب، والحفاظُ على مكانة القرآن الرفيعة ذلك الكتاب الآمر بإعلاء كلمة الله بالعزة الإسلامية. فهم يقيمون خصومةَ أوروبا مقام محبتها التي هي أساس كل مشاكلنا وسوء أخلاقنا. فكيفما تكن نيتُهم لا تغير حقيقةَ هذه المقاصد الثابتة.

الخطوة الخامسة

يقول بنفسه أو بوسائله:

إن الإمام -أي الخليفة- يؤيد سياستنا ويميل إلى الودّ معنا، وأمره مطاع!

فنرد هذه الشبهة:

إن ميلَ الشخص نفسه وأمرَه الخاص وفكره الذاتي، مغايرٌ تمامًا للميل الحاصل من الشخصية المعنوية لأمر أمين الأمة المتقلد أمانة الإمامة والخلافة؛ فهذه الإرادة تنبثق من عقل وتستند إلى قوة وتتوجه إلى مصلحة العالم الإسلامي.

أما عقلُه فهو شورى الأمة، وليس شبهتَك ووسوستَك! وقوتُه هو جيشه المسلح وأمته الحرة، وليس سلاحَك وحرابك. والمصلحة إنما تتوجه من المحيط الإسلامي إلى المركز، فتُرَجَّحُ الفائدة العظمى للإسلام والمسلمين على المصالح الشخصية. وإلّا لو انعكس الأمر ورجحت -عند التعارض- مصلحة القربى على المصلحة العظمى، كترجيح سرير السلطنة على إسطنبول وهي على الأناضول وهو على الدولة وضُحي بالعالم الإسلامي لأجل الدولة، فهذا الترجح لا يطاع. وهو أمر غير وارد أصلًا. فالسلطان المتدين، وحيدُ الدين لو أصبح أفجرَ إنسان، فلا يمكنه أن يقوم بهذا الأمر بإرادته لسبب واحد هو أنه يحمل اسم الخليفة، فإن قام به فلا يقوم إلّا مكرهًا. فطاعتُه عند ذاك بترك طاعته.

الخطوة السادسة

إنه يوسوس فيقول:

إن مقاومتكم لا فائدة فيها ولا جدوى منها، إنكم تُلقون أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، اذ كيف تقتدرون وحدكم على ما لم تقتدروا عليه مع حلفائكم؟

فنرد هذه الشبهة:

إن قوتك العظيمة المخاصِمة لنا، إنما تتماسك متخاذلةً على رجلَي الحيلةِ والإفساد، فلا نيأسُ لأسباب ثلاثة:

الأول: أن الحيلة والإفساد إنما تؤثران إذا استترتا تحت حجاب الخفاء والغفلة، فإذا ما تظاهرتا أفلستا، وانطفأت قوتهما.. وها قد تمزق الحجاب تمزقًا صيّر كذبَك وهذيانك وإفسادك أضحوكة وشيئًا عقيمًا لا يؤثر في شيء.

الثاني: أن قوتك المأفونة المنخورة المخاصِمة لنا ليست بلا أعداء إذ تُقابلها أعداء لا يقبلون الائتلاف معك أبدًا، مما يقضي عليها ويجعل تسعين بالمئة منها معطّلة لا نفع فيها. أما بقية قوتك فلا يمكنها أن تديم -كما أدامت في الماضي- استبداداتٍ قاتمة تجثم على عالم الإسلام وتسكته بكمّ الأفواه وتأسره حتى تتركه دون حراك، ذلك العالم اليقظ الذي تشترك أجزاؤه في الداء والدواء.

فهذا احتمال بعيد جدًا، إن اعتقدته فإنك إذن أحط من الدابة وأحمقُ من الحمار مع أنك شيطان خبيث.

الثالث: إن كان لابد من الهلاك بيدك فالموت بعزّةٍ حياةٌ لنا، والحياةُ بذلٍّ هي الموت بعينه. والموت على نوعين وصورتين:

أحدهما: التسليم والتذلل تحت أقدامك، فحينها نكون قاتلين لروحنا ووجداننا بأيدينا. ثم يقتل الخصمُ جسدنا كأنه قصاص لقتلنا الروحَ والوجدانَ.

والنوع الثاني: أن يحافظ المرء على وجدانه ويقاوم خصمه، ويبصق في وجهه ويُنزل صفعته على عينه، فيحيا الروح والوجدان، ويستشهد الجسد، وتتنزه الفضيلة عن الرذيلة والعقيدةُ عن الاستخفاف وعزةُ الإسلام عن الاستهزاء.

وحاصل الكلام:

إن محبة الإسلام توجب عداءكم وخصومتكم، إذ كيف يصالح جبرائيلُ (عليه السلام) عزازيلَ (الشيطان)!

إن أشد العقول بلاهةً عقلٌ يرى إمكان التوفيق والتلاؤم بين أطماع (الإنكليز) ومنافعِهم وبين عزة الإسلام ومصلحته.

وإن أكثر القلوب حماقةً قلبٌ يظن إمكان الحياة تحت حمايتهم إذ يعلقون حياتنا بشرطٍ محال في محال، إذ يقولون: احيوا حياةً ولكن بشرط ألّا تُرى في فرد منكم خيانةٌ وإلّا ندمّرْ عليكم الديار ونمحُ المتهم والبريء معًا.

فلو تحدى ظلمَهم صادقٌ لوجهِ الحق، والتجأ إلى جامع أياصوفيا، فلا يتحرجون من هدم ذلك البناء الشامخ الذي لا يقدَّر بثمن. وإذا ما وُجد في قرية مَن يقاومهم فلا يرون بأسًا من إبادة القرية كاملة بشِيبها وشبابها إذ يرون أن لهم صلاحيةَ إفناءِ جماعةٍ برمتها إذا كان فيها من يضرهم. فتبًا لمدنيةٍ خوّلتهم هذه الصلاحية.

إذن أفيمكن أن يتفق قلبٌ مع قلبِ مَن يتلذذ بغرز خنجر الظلم فيه؟

أفيمكن أن لا يوجد مشاغبٌ في مدينة أو قرية أو جماعة؟ فكيف يمكن إذن إدامة حياةِ إنسانٍ مريض مقيد، سُلب منه عصاه، وسُلط عليه كلبان ذوا مخالب وأنياب.

إن (الإنكليز) كالشيطان الرجيم يثير أحاسيس الإنسان الخبيثة ويشجع الأخلاق الرذيلة في حين يطفئ جذوة المشاعر النبيلة.

وإن ما يظهره هذا العدو من حقد دفين لا يسكن ليس هو نتيجة الحرب الحالية لأن انهزامنا كان كافيًا لتسكينه كما سكن لدى الآخرين!..

فيا أيها المسلمون، أفَبعد كل هذه الأحوال تنخدعون؟ أَفَبعد ما رأيتم من قربٍ قبحَ الكفار وشناعتهم -بعد ما كان يُرى جميلًا من بعيد- تستحسنون ما استقبحه الشرعُ والعقل ومصلحة الإسلام.

استعيذوا بالله من همزات الشيطان، والتجِئُوا إليه متضرعين نادمين وتوسلوا برحمة الرحمن الرحيم.

* * *

نبذة تاريخية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نبذة تاريخية

بينما كانت رحى الحرب دائرة في معارك ضارية وتَسيل دماءُ الألوف من المسلمين رخيصة في سبيل الدفاع عن مركز الخلافة «إسطنبول»، بدأ الحلفاء ولا سيما الإنكليز بشن حرب نفسية وإشاعةِ أفكار مضللة تمس عقيدة الأمة، فانبثّ أعوانُهم وجواسيسُهم في أرجاء إسطنبول يُلقون بألسنتهم تلك الشبهاتِ المغرضة وينشرونها في أوساط العامة والخاصة، ضمن حرب هادفة تحطم الروح المعنوية للمسلمين.

ولما شاهد الأستاذ النُّورْسِيّ سَرَيان هذه الأفكار المسمومة في هذه الحرب الماكرة التي استطاعت استمالة قسم من العلماء إلى صف الإنكليز، قام بتأليف هذه الرسالة: «الخطوات الست» مبينًا فيها مكايد الغزاة المحتلين، داحضًا شبهاتِهم ووساوسَهم الشيطانية، مُبعدًا عن المسلمين مشاعرَ اليأس والقنوط.

وطُبعت الرسالة سرًا، ونُشرت وهي لا تَحْمِل اسم المطبعة ولا سَنَة الطبع، وقام محبو الأستاذ وتلاميذُه بنشرها في أوسع نطاق في خفاء تام.

ولنلق الآن نظرة سريعة على تلك الأحوال التي واكبت تأليفَ الرسالة ونَشْرَها ومدى تأثيرها:

في13 تشرين الثاني سنة 1919م دخلت خمس وخمسون سفينة حربية من أساطيل الحلفاء إسطنبول، حسب هدنة «موندروس». وصلت هذه السفن إلى البسفور أمام قصر «دولمه باغجه» وَوَجهت مدافعها نحو قصر الخليفة «السلطان وحيد الدين» الذي أصبح في حكم الأسير.

هكذا داست أقدامُ جنودِ أربع دول محتلة إسطنبولَ. وخرجت الأقلياتُ غير المسلمة ترحب بجنود الاحتلال وتصفق لهم، فاليهود والأرمن بدأوا يجوبون الشوارع ويلوّحون بقبعاتهم لهؤلاء المحتلين وينثرون عليهم الورود. أما الروم فقد كانوا يحملون أعلام اليونان الصغيرة ويهتفون: زيتو. زيتو. أي يعيش. يعيش.

وبين مظاهر فرح اليهود والأرمن والروم وهتافاتهم وتصفيقاتهم اخترق القائدُ الفرنسي الجنرال «فرانس دوبر» شارع «بك أوغلو» متوجهًا إلى السفارة الفرنسية ممتطيًا جوادًا أبيض، وملوحًا بيديه لهؤلاء المستقبِلين، مقلدًا في ذلك الفاتحين العظماء في التاريخ. بل لم يتورع مِنْ وَطْءِ العَلَم العثماني بحوافر جواده.

أما المسلمون فقد كانوا يشاهدون هذه المناظر بقلوب جُرحت وعيون تجمدتْ في مآقيها الدموع، ويطوون هذه الآلام في أعماق قلوبهم.

ولم تكن إسطنبول هي المدينة الوحيدة التي احتلتها دول الحلفاء. بل تم احتلال مدن أخرى كثيرة، احتلها الأرمن والإيطاليون والإنكليز واليونان والروس حيث سُرِّح الجيش العثماني من الخدمة بموجب تلك المعاهدة المذكورة ولم يبق إلّا الأناضول (وسط تركيا) سالمًا من الاحتلال.

وهكذا امتلأت شوارع هذه المدن بجنودٍ سكارى يعربدون ويصخبون ويفسدون كيفما شاؤوا. ويخيم على الأحياء الإسلامية حزنٌ صامت.

في هذا الجو القاتم كان الأستاذ النُّورْسِيّ يشعر بألم عميق، وكان أصدقاؤه يحاولون التسرية عنه والتخفيف من شدة آلامه. وهو يقول لهم والأسى يعصر قلبه:

«لقد تحملتُ آلامي الشخصية كلها. ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني، إنني أشعر بأن الطعنات التي وجهت إلى العالم الإسلامي، أنها توجه إلى قلبي أولًا. ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد. ولكني أرى نورًا سَيُنْسينا هذه الآلام إن شاء الله».

ومع أن الجانب العسكري والمادي للدولة العثمانية قد انهدّ أمام الحلفاء، إلّا أن الحرب النفسية ما زالت دائرة، فالإنكليز ما فتئوا يزاولون بث الأفكار والشبهات كي يكون النصر ساحقًا وكاملًا ونهائيًا من دون أن يكون هناك احتمال للمقاومة، فيجب أن تُسلِّمَ الضحيةُ رقبتَها برضاها إلى جلاديها دون تذمر.([1])

وما إن دخل القائد الإنكليزي إسطنبول حتى سُلّمت له رسالة «خطوات ستة» التي تهاجمهم بعنف وتفنّد أباطيلهم وتشد من عزائم المسلمين.. وعُرض عليه نشاط «بديع الزمان» الدائب في فضح سياسة المحتلين وتأليب الناس عليهم.

قرر القائد الإنكليزي إعدام الأستاذ النُّورْسِيّ، ولكن عندما أُعلم أن هذا القرار سيثير غضب الأمة كلها ويزيد سخطها، وسيدفعهم إلى القيام بأعمال عدائية مهما كلفهم ذلك، تخلّى عن قرار الإعدام، إلّا أن سلطات الاحتلال لم تَفْتُرْ عن ملاحقة الأستاذ.

ولما سمع قوادُ حركة التحرير في الأناضول بتأثير هذه الرسالة في أوساط العامة والخاصة، وعن أعمال «بديع الزمان» ضد المحتلين في إسطنبول دَعَوه إلى «أنقرة» مرتين تقديرًا لأعماله البطولية وخدماته الجليلة نحو الأمة والبلاد. إلّا أن الأستاذ النُّورْسِيّ آثر البقاء في إسطنبول يجابه الأعداء مباشرة ورفض الدعوة قائلًا:

«إنني أريد أن أجاهد في أكثر الأماكن خطرًا، وليس من وراء الخنادق، وأرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول».

كتب الأستاذ النُّورْسِيّ هذه الرسالة بالتركية، وطُبعت من دون الإشارة إلى اسم المطبعة وسنة الطبع كما ذكرنا، ثم عرّبها بنفسه وطبعها في مطبعةِ «أوقاف إسلامية» بإسطنبول سنة 1336هـ-1338 رومي، في كتيب يضم «الخطبة الشامية» و«سنوحات». وقام طلاب النور بإعادة طبعها سنة 1958 في مطبعة النور بأنقرة. والطبعتان مليئتان بأخطاء إملائية ومطبعية.

قابلتُ النصّين التركي والعربي، ووجدتُ أن عبارات النص التركي أوضح من النص العربي وفيه زيادات طفيفة، فاستخلصت منهما هذا النص الذي يستوعب النص التركي معنىً، ويكاد يطابق النص العربي مبنىً.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل،

وصلّ اللّهم وسلم على سيدنا محمّد وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.

إحسان قاسم الصالحي


[1] سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة -تأليف أورخان محمد علي- باختصار.

خطاب إلى الجنود

القطعة الأخيرة من ذيل الذيل

هذه القطعة عبارة عن درسين أُلقِيَا على الأفواج الثمانية من الذين قاموا بالعصيان في حادثة 31 مارت المشهورة، وعلى أثرهما اقتنعوا بالعودة إلى الولاء. فهانت المصيبة من المئة إلى الواحد.

نُشر هذان الدرسان في الجرائد الدينية سنة 1325 رومي – 1909م.

إلى جنودنا الأشاوس

4 نيسان 1325 رومي

الجريدة الدينية عدد/107

17نيسان 1909م

أيها الجنود الموحِّدون الأبطال!

أيها الأبطال الذين أنقذوا هذه الأمة المظلومة والإسلامَ المقدس من الوقوع في ورطتين عظيمتين!

إن عزّكم وبهاءكم في الانتظام والانضباط. وقد أظهرتموهما في أحلك الظروف وأحرجها وأشدها اضطرابًا. فحياتكم وقوتكم إنما هي في الطاعة. أَظْهِروا هذه الفضيلة المقدسة لأصغر أمرائكم. فإن شرفَ ثلاثين مليونًا من العثمانيين وثلاثِمائةِ مليونٍ من المسلمين أصبح منوطًا بطـاعتكم أنتم.

إن راية الإسلام والتوحيد الإلهي في يد شجاعتكم وبطولتكم. وإن قوة أيديكم المباركة إنما هي في الطاعة. فضباطكم هم كآبائكم المشفقين، وقد ثبت بالقرآن والحديث والحكمة والتجربة: أن طاعة الأمر في الحق فرض. فكما تعلمون، أن ثلاثين مليونٍ لم يتمكنوا أن يقوموا بمثل هذين الانقلابين خلال مائة سنة.

ولقد جَعَلَتْ قوتُكم التي تنبعث من طاعتكم الأمةَ الإسلامية في شكران وتقدير، وإن إدامة هذا الشرف والحفاظَ عليه إنما هو في طاعتكم لضباطكم. وأنا أعلم أنكم لم تدخلوهم في الاضطرابات لئلا تجعلوا ضباطكم مسؤولين وهم كآبائكم الرحماء بكم.

أما الآن فلقد انتهى الأمر. فارتمُوا في أحضانِ شفقةِ ضباطكم ورحمتهم. إن الشريعة الغراء تأمرنا هكذا. إذ الضباط هم أولو الأمر. فمن جهةِ مصلحة الوطن والأمة -ولا سيما في النظام العسكري- إطاعةُ أولى الأمر فرض، والحفاظُ على الشريعة المحمدية إنما هو بالطاعة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

خطاب إلى الجنود

7 نيسان 1325 رومي

الجريدة الدينية عدد 110

30 نيسان 1909م

يا عساكر الموحدين! إني أبلغكم أوامر سيد العالمين ﷺ:

إن طاعة أولى الأمر ضمن الدائرة المشروعة فرض. فأولياء أموركم وأساتذتكم ضباطكم.

إن الثكنات العسكرية أشبه ما تكون بمعمل عظيم منتظم؛ إذا اختل دولاب من العمل، يؤثر في خراب المعمل بأكمله.

إن مصنعكم العسكري القوي المنظَّم نقطةُ استنادِ واعتمادِ ثلاثين مليونًا من العثمانيين وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين ونقطة استمدادهم.

إن قتلكم لاستبدادَين عظيمَين دون إراقةِ دم كان أمرًا خارقًا. ولأنكم قد أظهرتم معجزتين للشريعة الغراء. فقد أظهرتم لضعفاءِ العقيدة قوةَ الحمية الإسلامية وقدسيةَ الشريعة في برهانين اثنين.

ولو كنا نضحي بألوفٍ من الشهداء في سبيل هذين الانقلابين لكنا نعدها ضئيلة، ولكن لو ضُحيَ بجزء من ألفِ جزءٍ من طاعتكم فهو غال جدًا. لأن تناقص طاعتكم يولد الموت، كتناقص الحرارة الغريزية والعقدة الحياتية.

إن تاريخ العالم يشهد أن تدخل الجنود في السياسة قد أدّى إلى أضرار جسيمة للدولة وللأمة معًا. فلابد أن حميتكم الإسلامية ستَصْرِفكم عن مثل هذه الأضرار التي تصيب حياة الإسلام التي تكفلتم بحفظها.

إن الذين يفكرون في السياسة هم بمثابة قوتكم المفكرة من أولياء الأمور والضباط. إن ما تظنونه -أحيانًا- من ضرر يصبح خيرًا، لأنه يدفع ضررًا أكبر في السياسة. فضباطكم حسب تجاربهم يرون هذا الأمر ويأمرونكم به. فعليكم الطاعة دون تردد، إذ لا يجوز التردد والتلكؤ.

إن الأفعال غير المشروعة الخاصةَ لا تنافي المهارة والحذاقة في الصنعة ولا تجعل الصنعة غير مرغوب فيها. فالطبيب الحاذق مثلًا أو المهندس الماهر إذا ما تَصرف تصرفًا غير مشروع فلا يؤدي ذلك إلى ترك الاستفادة مما لديه من طب أو هندسة، كذلك فن الحرب، فضباطكم المجربون والماهرون المنورون فكرًا بالحمية الإسلامية، إذا قام بعضٌ منهم بأمر غير مشروع لا يجوز أن يؤدي ذلك إلى عدم طاعتهم وعصيانهم لأن فن الحرب مهارة مهمة.

إن الشريعة الغراء التي هي قوام حياتكم قد ابتلعت الجمعياتِ التي تُشتت الأفكارَ وتفرّق الناس. فهي كاليد البيضاء لسيدنا موسى عليه السلام أَرغمت السَّحَرَةَ على السجود.

إن أعمالكم كانت علاجًا لهذه الحركات الانقلابية. فإذا ما زادت قليلًا انقلبت سمًا قاتلًا وأدّت بالحياة الإسلامية إلى أمراض جسام. ثم إن ما فينا من استبداد قد زال بهمتكم، ولكن نحن لا زلنا تحت الاستبداد المعنوي لأوربا في مضمار الرقي.

فلابد من الالتزام بأقصى درجات الحذر والسكينة والهدوء.

فلتحيا الشريعة الغراء، فليعش الجنود.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

رد الأوهام

رد الأوهام

18 مارت 1325 رومي

31 مارت 1909 ميلادي

سأردّ هنا الأوهام الفاسدة التسعة التي أسندت إلى جماعة الاتحاد المحمدي:

الوهم الأول:

إن طرح المسألة الدينية في الأوساط لا يلائم مثل هذا الظرف الدقيق.

الجواب: نحن نحب الديـن ونحب الدنيا أيضًا لأجـل الدين.. و [لا خيـر في الدنيا بلا دين].

ثانيًا: ما دامت الحاكمية للشعب في المشروطية فلابد أن يُثبت الشعب وجوده. وشعبنا مسلم ومسلم فقط. فليست هناك رابطة حقيقية وقوية غير الإسلام بين العرب والترك والكرد والأروناؤوط والجركس واللاز.

إن إهمالًا طفيفًا في الدين أدّى إلى إرساء قواعد طوائف الملوك وظهور الجاهليات الميتة قبل ثلاثة عشر قرنًا وبالتالي إلى ظهور الـفتن والقـلاقـل. وقد ظهرت فعلًا وشاهـدناها.

الوهم الثاني:

إن تخصيص هذا العنوان -أي الاتحاد المحمدي- يجعل غير المنتسبين إليه في شك من أمرهم.

الجواب: وقد قلت سابقًا: فإما أنه لم يُقرأ أو فُهم خطًا؛ لذا أضطر إلى التكرار وهو: عندما نقول «الاتحاد المحمدي» الذي هو اتحاد الإسلام، فالمراد هو الاتحاد الموجود الثابت بين جميع المؤمنين بالقوة أو بالفعل. وليس المراد جماعة في إسطنبول أو في الأناضول إذ إن قطرة من ماءٍ تحمل صفة الماء، فلا أحد خارج هذا الاتحاد، ولا يخصص هذا العنوان بأحد. وتعريفه الحقيقي هو:

أن أساس هذا الاتحاد يمتد من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.. ومركزه: الحَرمان الشريفان.. وجهة وحدته: التوحيد الإلهي.. عهده وقَسَمه: الإيمان.. نظامه الداخلي: السنة النبوية الشريفة.. قوانينه: الأوامر والنواهي الشرعية..مقر اجتماعاته: جميع المدارس والمساجد والزوايا.. ناشرُ أفكار تلك الجماعة نشرًا خالدًا إلى الأبد: جميعُ الكتب الإسلامية وفي المقدمة القرآن الكريم وتفاسيره (ورسائل النور أحد تلك التفاسير في زماننا هذا) وجميعُ الصحف الدينية والجرائدُ النزيهة التي تهدف إلى إعلاء كلمة الله.. ومنتسبوه: جميع المؤمنين.. رئيسه: فخر العالمين ﷺ.

والآن لنقف عند الصدد وهو: تيقظ المؤمنين وإقبالهم نحو الإسلام ولا ينكر ما للرأي العام من تأثير.. وهدف الاتحاد وقصده: إعلاء كلمة الله.. ومسلكه: الجهاد الأكبر للنفس وإرشادُ الآخرين.. وهمة هذه الهيئة المباركة مصروفة بنسبةِ تسعٍ وتسعين بالمئة إلى غير السياسة من تهذيب الأخلاق واستقامة السلوك وما شابهها من الفضائل والمقاصد المشروعة إذ إن الجمعيات المتوجهة إلى مثل هذه المقاصد نادرة، علمًا أن أهميتها جليلة. وهناك واحد بالمئة من المقاصد يتعلق بالسياسة وهو إرشاد السياسيين.. سيوفهم: البراهين القاطعة.. مشربهم: المحبة وإنماء المحبة المندمجة في بذرة الأخوّة الموجودة بين المـؤمنـين لتصبح شجرة طوبى مباركة.

الوهم الخامس:

ربما ينفر الأجانب من هذا الاتحاد؟

الجواب:

إن مَن يجد في نفسه هذا الاحتمال جاهل لا محالة إذ يردّ هذا الاحتمالَ ما يُلقَى من خطب ومحاضرات حول الإسلام وعظمته في مراكزهم وعواصمهم.

ثم إن أعداءنا ليسوا الأجانب. وإنما الذي أردانا إلى هذا الوضع وحال بيننا وبين إعلاء كلمة الله هو مخالفتنا للشريعة الغراء نتيجةَ «جهلنا» بها، و«الضرورةُ» التي أثمرت سوء الأخلاق وسوء المعاملات، و«الاختلافُ» الذي أنتج الأغراض الشخصية والنفاقَ، فاتحادنا هجوم على هذه الثلاثة من الأعداء الظَلَمَة.

أما وحشية الأجانب في القرون الوسطى، فالإسلام مع اضطراره إلى معاداة الجهل والهمجية إلّا أنه قد حافظ على العدالة والاستقامة معهم فلم يُرَ في التاريخ الإسلامي أمثال محاكم التفتيش. ولما قوي ساعد المدنيين في زمن التحضر هذا فقد زال عنهم ذلك التعصب الذميم.

إن الظهور على المدنيين من منظور الدين إنما هو بالإقناع وليس بالإكراه، وبإظهار الإسلام محبوبًا وساميًا لديهم، وذلك بالامتثال الجميل لأوامره وإظهار الأخلاق الفاضلة.

أما الإكراه والعداء، فهما تجاه وحشية الهمجيين.

الوهم السادس:

إن البعض يقول: إن اتخاذَ اتحادِ الإسلام اتّباعَ السنة النبوية هدفًا له يحدد من الحرية وينافي الأخذ بمتطلبات المدنية.

الجواب:

المؤمن حرّ في ذاته. فالذي هو عبد لله رب العالمين لا ينبغي له أن يتذلل للناس، بمعنى أنه كلما رسخ الإيمان قويت الحرية.

أما الحرية المطلقة فما هي إلّا الوحشية المطلقة بل هي بهيمية، وتحديد الحرية ضروري من وجهة نظر الإنسانية.

ثالثًا: إن قسمًا من السفهاء والمُهمِلين يريدون أن يَظَلُّوا أذلاءَ أسارى النفس الأمارة بالسوء، فلا يروق لهم العيش الحر.

الحاصل: إن الحرية الخارجة عن دائرة الشرع، إنما هي استبداد أو أسرٌ بيد النفس الأمارة بالسوء، أو بهيمية أو وحشية. فليعلم جيدًا هؤلاء الزنادقة والمُهمِلون للدين أنهم لا يستطيعون أن يحببوا أنفسهم لأي أجنبي كان يملك وجدانًا، بالإلحاد والسفاهة، بل لا يمكنهم أن يتشبهوا بهم. لأن السفيه والذي لا يسير على هدى لا يكون محبوبًا، فالثياب الـلائقـة بامرأة إذا ما لبسها الرجل يكون موضع هـزء وسخرية.

الوهم السابع:

إن جمعية اتحاد الإسلام إنما هي لشق الصف بين سائر الجمعيات الإسلامية وتولّدِ الحسد والنفرة بينها.

الجواب:

أولًا: إن الأمور الأخروية لا حسد فيها ولا تنافر وتزاحمَ؛ فأيما جمعية حسدت وزاحمت الاتحاد فكأنما تنافق في العبادة وترائي فيها.

ثانيًا: إننا نتحد مع الجماعات المتشكّلة بدافع محبة الدين وخدمته وذلك على وفق شرطين اثنين:

الشرط الأول: المحافظة على النظام العام للبلاد والحرية الشرعية.

الشرط الثاني: انتهاج نهج المحبة، وعدم محاولة إظهار مزايا لها بانتقاص الجمعيات الأخرى، بل الأَولى مراجعة مفتي الأمة وجماعة العلماء فيما إذا ظهر خطأ.

ثالثًا: إن الجماعة التي تهدف إلى إعلاء كلمة الله لن تكون وسيلة لأي غرض مهما كان، وإذا تشبثت بالأغراض فلا يحالفها التوفيق قطعًا لأنه نفاق، فشأن الحق عالٍ وسامٍ لا يضحى به من أجل أي شيء كان. كيف تكون نجوم الثريا مكانس، أو كيف تؤكل كعناقيدِ عنبٍ؟ إن الذي يريد أن يطفئ شمس الحقيقة بالنفخ إنما يدلّ على بلاهته وجنونه.

أيتها الصحف الدينية!

إن قصدنا وهدفنا هو اتحاد الجماعات الدينية في الهدف؛ إذ كما لا يمكن الاتحاد في المسالك والمشارب فلا يجوز أيضًا، لأنه يؤدي إلى التقليد وإلى القول: «مالي وما عليّ،
فليفكر غيري».

الوهم الثامن:

إن المنتسبين إلى الاتحاد -معنىً وصورة- أكثرهم من العوام وقسم منهم غير معروفين وهذا مدعاة إلى حدوث فتن واختلافات.

الجواب:

إنما ذلك لعدم السماح في هذا الاتحاد بالتمايز بين الناس سواء أكانوا من الخاصة أم من العامة، ثم لأن المرء في الاتحاد يدعو إلى إعلاء كلمة الله فكل ما يقوم به يثاب عليه ثوابَ عبادةٍ.. ففي جامع العبادة يتساوى الملك والمتسول فلا امتياز، بل المساواة الحقة دستور قائم. لأن الأكرمَ عند الله هو الأتقى، والأتقى هو المتواضع، فبناءً على هذا يتشرف الشخص بانتسابه إلى هذه الجماعة الخالصة لخدمة الدين والدعوةِ إلى الآخرة، وإلّا فلا يزيد الاتحاد شرفًا، إذ القطرة لا تزيد البحر شيئًا.. ثم إن الإنسان كما لا يخرج عن الإيمان بارتكاب كبيرة، فإن باب التوبة أيضًا مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها. والبحر لا يتنجس بغرفة ماء، بل يطهِّر اليدَ فالمنتسب إلى هذا المثال المصغر للاتحاد الإسلامي يشترط عليه اتباعُ السنة النبوية وإحياؤها وامتثالُ أوامرها واجتنابُ نواهيها وعدمُ الإخلال بأمن البلاد ونظامها، فالمجهول الذي انتسب إلى هذا الاتحاد لا يلوِّث -قصدًا- هذه الحقيقة ما استطاع إليه سبيلًا، وحتى لو كان المرء نفسه مذنبًا فإيمانه نزيه مقدّس. والرابطة إنما هي بالإيمان ليس إلّا.

فتشويه هذا العنوان المقدس بحجج واهية أمثالِ هذه إنما ينجم عن الجهل بعظمة الإسلام فضلًا عن إظهار هذا المتحججِ نفسه أنه أحمق الناس.

نحن نردّ بكل ما أوتينا من قوة تشويه سمعة اتحادنا الذي يمثل «اتحاد المسلمين» أو التعريض به مما هو دأب الجمعيات الدنيوية الأخرى، ونحن على أتم استعداد للإجابة عن أي استفسار واعتراض كان.

إن الجماعة التي أنضمُّ إليها إنما هي هذا الاتحاد الإسلامي الذي فصّلنا القول فيه. وإلّا فليست هي تلك التي يتخيلها المعترضون بخيالهم الباطل.

إن أفراد هذه الهيئة الدينية هم معًا، سواءً أكانوا في الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال.

سؤال: أنت تذيّل مقالاتك وتمضيها باسم «بديع الزمان» وهذا يومئ إلى المدح؟

الجواب: كلا، ليس للمدح! وإنما أريد أن أُبين -بهذا الإمضاء- تقصيري. وتعليلي هو:

أن البديع يعني: «الغريب» فأخلاقي غريبة كمظهري، وأسلوبُ بياني غريب كملابسي، كلها مخالِفة للآخرين.

فأنا أرجو بلسان حالِ هذا العنوانِ عدمَ جعل المحاكمات العقلية والأساليبِ المتداولة والرائجة مقياسًا لمحاكماتي العقلية ومحكًا لأساليب بياني.

ثم إن قصدي من البديع هو «العجيب» فلقد أصبحتُ مصداقًا لما قيل:

[إِلَىَّ لَعَمْري قَصْدُ كُلِّ عَجيبَةٍ    كَأني عَجيبٌ في عُيُون العَجَائب]

ومثاله الواضح هو:

لقد جئت إلى إسطنبول منذ سنة ورأيت حوادثَ وانقلاباتٍ تَحدُثُ في مئة سنة.

والسلام على من اتبع الهدى.

نقول بلسان جميع المؤمنين وبعددهم: فلتحيا الشريعة الأحمدية

بديع الزمان

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

أخي رئيس التحرير!

على الأدباء أن يتأدبوا، ويتحلوا بالآداب الإسلامية، فلينظم ما في وجدانهم من شعور ديني نظامَ المطبوعات، فلقد أظهر هذا الانقلابُ الإسلاميُّ: أن المهيمن في الوجدان إنما هو الحَمِيَّة الإسلامية. ولقد عُرِف أن الاتحاد الإسلامي شامل لأهل الإيمان والجيش كافة، فلا أحد خارج عنه.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

لتحيا الشريعة الأحمدية

لتحيا الشريعة الأحمدية

«على صاحبها الصلاة والسلام»

5 مارت 1325 رومي

الجريدة الدينية/77

18مارت 1909م

إن الشريعة الغراء باقية إلى الأبد؛ لأنها آتية من الكلام الأزلي وأن النجاة والخلاص من تحكم النفس الأمارة بالسوء بنا هي بالاعتماد على الإسلام والاستناد إليه والتمسك بحبل الله المتين.

وإن جَنْيَ فوائد الحرية الحقة والاستفادة منها استفادة كاملة منوط بالاستمداد من الإيمان؛ ذلك لأن من أراد العبودية الخالصة لرب العالمين لا ينبغي له أن يُذِلّ نفسه فيكونَ عبدًا للعبيد. وحيث إن كل إنسان راعٍ في مُلكه وعالَمه فهو مكلّف بالجهاد الأكبر في عالمه الأصغر ومأمور بالتخلق بأخـلاق النـبي ﷺ وإحياء سنته الشريفة.

يا أولياء الأمور! إن أردتم التوفيق فاطلبوه في موافقة أعمالكم للسنن الإلهية في الكون -أي قوانين الله- وإلّا فلن تحصدوا إلّا الخذلان والإخفاق. لأن ظهور الأنبياء عامة في الممالك الإسلامية والعثمانية إنما هو رمز وإشارة من القدر الإلهي: أن الذي يدفع أبناء هذه الممالك إلى التقدم إنما هو الدين، وأن أزاهير مزرعة آسيا وإفريقيا وبساتين نصف أوروبا ستتفتح وتزدهر بنور الإسلام.

اعلموا أن الدين لا يضحَّى به لأجل الحصول على الدنيا؛ فقد كانت تعطَى فيما مضى مسائلُ الشريعة أتاوة للحفاظ على الاستبداد البائد.([1]) أروني ماذا حصدنا من ترك مسائل الدين والتضحية بها غيرَ الضرر والخيبة.

إن إصابة الأمة في قلبها إنما هو من ضعف الدين ولن تنعم بالصحة إلّا بتقوية الدين.

إن مشربنا: محبة المحبة، ومخاصمة الخصومة، أي إمداد جنود المحبة بين المسلمين، وتشتيت عساكر الخصومة فيما بينهم.

أما مسلكنا: فهو التخلق بالأخلاق المحمدية ﷺ وإحياء السنة النبوية.

ومرشدنا في الحياة: الشريعة الغراء

وسيفنا: البراهين القاطعة.

وهدفنا: إعلاء كلمة الله..

إن كل مؤمن هو منتسب -معنىً- لجماعتنا،([2]) وصورة هذا الانتساب هو العزم القاطع على إحياء السنة النبوية في عالمه الخاص، فنحن ندعو باسم الشريعة أولئك المرشدين وهم العلماء والمشايخ من طلاب العلوم إلى الاتحاد قبل أي أحد سواهم.

 سعيد النُّورْسِيّ

تنبيه خاص

إن الصحفيين الذين هم خطباء عامّون قد أوقعوا الأمة في مستنقع فاسد بقياسين فاسدين:

الأول: أنهم يقيسون الولايات الأخرى على إسطنبول علمًا أن الأطفال الذين لا يستطيعون قراءة الألفباء إذا لُقِّنوا الفلسفة فإنه يكون تلقينًا سطحيًا.

الثاني: أنهم يقيسون إسطنبول على أوروبا علمًا أن الرجل إذا ما لبس ثوب امرأة يكون محل هزء وسخرية ويتسفل.

سعيد النُّورْسِيّ


[1] المقصود عهد السلطان عبد الحميد الثاني، والأستاذ النورسي مع أنه كان يشنّع بالاستبداد إلّا أنه يحسن الظن بالسلطان نفسه، فهو إذ يفضح مساوئ الاستبداد الذي كان يمارس باسم السلطان يبرئ ساحة السلطان فيقول عنه: السلطان المظلوم.. إنه ولي من أولياء الله الصالحين.

[2] هذه المقالة والتي تعقبها تعدّ دعوة واضحة إلى الاتحاد الإسلامي والرجوع إلى الشريعة والتمسك بأهداب الدين ونبذ الخلافات مهما كـانت صورها، وهي في الوقت نفسه تمهيد للأذهان لقبول «الاتحاد المحمدي» بمفهومه العام الشامل لجميع المسلمين، والذي أُعلن عنه رسميًا في 5/نيسان/1909 ضمن احتفال مهيب في جامع أياصوفيا.

صدى الحقيقة

صدى الحقيقة

27 مارت 1909م

إن السبيل المحمدي مستغنٍ عن كل ما يومئ إلى الحيلة والشك لأنه منزّه عن الخداع والشبهة.

ثم إن حقيقة واسعة عظيمة محيطة إلى هذا الحد -ولا سيما تجاه أهل هذا الزمان- لا يمكن أن تخفى مطلقًا.

وهل يخفى البحر العظيم في كأس؟!

أقول مكررًا إن التوحيد الإلهي هو جهة الوحدة في الاتحاد المحمدي الذي هو حقيقةُ اتحاد الإسلام (الوحدة الإسلامية).

أما يمينه وبيعته فهو الإيمان.

ومقرّاته وأماكن تجمعاته: المساجد والمدارس الدينية والزوايا.

ومنتسبوه: جميع المؤمنين.

ونظامه الداخلي: السنن الأحمدية، والقوانين الشرعية بأوامرها ونواهيها. فهذا الاتحاد ليس نابعًا من العادة وإنما هو عبادة.

فالإخفاء والخوف من الرياء، والفرائض لا رياء فيها، وأوجبُ الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد الإسلام (الوحدة الإسلامية).

وهدف الاتحاد وقصده تحريك الرابطة النورانية التي تربط المعابد الإسلامية التي هي منتشرة ومتشعبة، وإيقاظ المرتبطين بها بهذا التحريك، ودفعهم إلى طريق الرقي بأمر وجداني.

مشرب هذا الاتحاد هو: المحبة. وعدوه: الجهل والفقر والنفاق.

وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه الصفات الثلاث ليس إلّا.

وبالنسبة إليهم فسبيلنا الإقناع؛ لأننا نعتقدهم مدنيين. وإننا مكلفون بأن نظهر الإسلام بمظهر الجمال والحسن المحبوب، لأننا نظن فيهم الإنصاف. ألَا فليعلم المُهمِلون غير المكترثين أنهم لا يحببون أنفسهم بالانسلاخ من الدين لأي أجنبي كان. وإنما يظهرون أنهم على غير هدى ليس إلّا. ومن كان على غير هدى في طريق الفوضوية لا يُحَبّ قطعًا، والذين انضموا إلى هذا الاتحاد بعد التدقيق العلمي والبحث والتحري لا يتركونه تقليدًا لأولئك حتمًا.

نحن نَعرِض أفكار اتحاد الإسلام الذي هو الاتحاد المحمدي ومسلكَه وحقيقته للناس أجمعين. ونحن مستعدون لسماع أي اعتراض كان.

جمله شيران جهان بستهء إين سلسله أند

روبه أزحيله جه سان بكُسلد إين سلسله را

أي:

هـل يقـطع الـثـعلب المـحتـال سلسلةً

قِـيدتْ بـهـا أسد الـدنـيـا بـأسـرهم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

«فقرة تركتُها من «فهرس المقاصد» المنشور»

إن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاريَ والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر، ينبغي أن يكون أحدُ مجاريه قسمًا من أهل الشريعة كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع، لأن الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يُحدِث فيها هذا الماءُ الآسن العفن خلافَ المقصود.

فلابد إذن من تصفيته بمصفاة الشريعة. وهذا الأمر تقع مسؤوليتُه على عاتق أهل المدرسة الشرعية.

والسلام على من اتبع الهدى

سعيد النُّورْسِيّ

حقيقة

حقيقة

26 شباط 1324رومي

الجريدة الدينية/70

7 مارت 1909م

نحن منذ الأزل داخلون في الجمعية المحمدية، فالتوحيد هو جهة الوحدة والاتحاد فيما بيننا، وقَسَمُنا وعهدنا هو الإيمان.

فما دمنا موحدين متحدين، فكل مؤمن مكلفٌ بإعلاء كلمة الله… وأعظمُ وسيلة لإعلاء كلمة الله في زماننا هذا هو الرقي المادي.

إذ الأجانب يسحقوننا تحت تحكمهم المعنوي بسلاح العلوم والصنائع، ونحن سنجاهد بسلاح العلم والتقنية الجهلَ والفقرَ والخلاف الذي هو ألد أعداء إعلاء كلمة الله.

أما الجهاد الخارجي فنحيله إلى السيوف الألماسية للبراهين القاطعة للشريعة الغراء. لأن الغلبة على المدنيين إنما هي بالإقناع وليس بالإكراه كما هو شأن الجهلاء الذين لا يفقهون شيئًا.

نحن فدائيو المحبة لا مكان بيننا للخصومة.

فالجمهورية([1]) عبارة عن العدالة والشورى وحصر القوة في القانون… أليس من الجناية على الإسلام أن تستجدى الأحكام من أوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلاثة عشر قرنًا؟ إن هذا الاستجداء شبيه بالتوجه إلى غير القبلة في الصلاة.

إن القوة لابد أن تكون في القانون وإلّا فسيتفشى الاستبداد في الكثيرين.

ولابد أن يكون المهيمن والأمر الوجداني قوله تعالى: ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ (الحج:74). وهذا يكون بالمعرفة التامة والمدنية الكاملة أو بتعبير آخر بالإسلام. وإلّا فسيكون الاستبداد هو المستولي دائمًا.

إن الاتفاق في الهدى وليس في الهوى والهوس.

نعم، إن الله خلق الناس أحرارًا وهم عبيد لله، فقد تحرر كل شيء، فنحن بامتثالنا الشريعة أحرار، وبتمسكنا بالمشروطية أحرار أيضًا، ولن نتنازل عن المسائل الشرعية ولن نعطيها أتاوة. إن قصور فردٍ عن شيء لا يكون عذرًا لقصور آخر.

اعلموا أن اليأس مانع كل كمال.

إن هدية الاستبداد وتذكاره هو: «ما لي أنا.. فليفكّر غيري».

أحيل الربط بين هذه الجمل إلى فِكر المُطالِع الكريم لعدم إتقاني اللغة التركية!!

سعيد النُّورْسِيّ


[1] وضعت هذه الكلمة حديثًا بدلًا من المشروطية الموجودة سابقًا… (المؤلف).

لتحيا الشريعة الغراء

ذيل الذيل

لتحيا الشريعة الغراء

26شباط 1324رومي

الجريدة الدينية/70

7 مارت 1909م

أيها النواب!

سأقول جملة واحدة موجزة مع أنها طويلة. فأرجو أن تلاحظوها باهتمام بالغ، إذ في إطنابها إيجاز وهي:

إن المشروطية والقانون الأساس هما العدالة والشورى وحصر القوة في القانون…

مع هذا العنوان أقول:

إن الإسلام وشريعته الغراء -هو: المالك الحقيقي وصاحب العنوان المعظم.. والمؤثر الحق والمتضمن للعدالة المحضة.. ويحقق نقطة استنادنا.. ويرسي المشروطية على أساس متين.. وينقذ ذوي الأوهام والشكوك من ورطة الحيرة.. ويتكفل بمستقبلنا وآخرتنا.. وينقذكم من التصرف في حقوق الله بدون إذن منه، تلك الحقوق التي تَضْمَنُ مصالحَ الناس كافة.. ويحافظ على حياة أمتنا.. ويظهر ثباتنا وكمالنا ويحقق وجودنا أمام الأجانب، وسحرِ العقول والأذهان.. وينقذكم من تبعات الدنيا والآخرة.. ويؤسس الاتحاد العام الشامل نهاية المطاف.. ويولد الأفكار العامة (الرأي العام) التي هي روح ذلك الاتحاد.. ويَحُول دون دخول مفاسد المدنية إلى حدود حريتنا ومدنيتنا.. وينجينا من ذل التسول من أوروبا.. ويطوي لنا المسافة الشاسعة التي تَخَلَّفنا فيها عن الرقي في زمان قصير بناءً على سرّ الإعجاز.. ويرفع من شأننا في زمن قصير بتوحيد العرب والطوران وإيران والساميين.. ويظهر الشخصية المعنوية للدولة بمظهر الإسلام..

ويخلصكم من حنث الأيمان بالمحافظة على المادة الحادية عشرة من القانون الأساس.. ويبطل الظنون الفاسدة التي تحملها أوروبا سابقًا.. ويحملهم على التصديق بأن النبي محمدًا ﷺ خاتم الأنبياء، وأن الشريعة خالدة.. ويقيم سدًا أمام الإلحاد الذي يدمّر المدنية.. ويزيل بصفحته النورانية ظلمة تباين الأفكار وتشتت الآراء.. ويجعل جميع العلماء والوعاظ متحدين في سبيل سعادة الأمة وتنقية إجراءات الدولة وخدامًا للمشروطية المشروعة.. ولكون عدالته المحضة رحيمة، يؤلّف قلوب غير المسلمين ويربطهم به أكثر.. ويجعل أجبن شخص وأكثرهم ضعة أشجعَ وأرفعَ إنسانٍ ويعاملهم هكذا.. وينفخ فيهم الشعور بالرقي والتضحية ويحسسهم بحب الوطن.. ويخلصنا من السفاهة التي تهدم المدنية ومن الحاجيات غير الضرورية.. ويبعث فينا النشاط في العمل للدنيا مع تذكر الآخرة والمحافظة عليها.. ويعلمنا الأخلاق المحمودة التي هي حياة المدنية.. ويفهمنا قواعد المشاعر النبيلة.. ويبرئ ساحتكم أيها المبعوثون من مطالبة حقوق خمسين ألف شخص.. ويظهركم مثالًا مصغرًا مشروعًا لإجماع الأمة.. ويجعل أعمالكم كأنها عبادة حسب نياتكم الخالصة.. وينجيكم من الجناية التي ترتكب بحق الحياة المعنوية لثلاثمائة مليون من المسلمين..

فإذا ما أظهرتم الإسلام وشريعته الغراء واتخذتموها أساسًا لأحكامكم، وطبقتم دساتيرها، فمع اغتنام فوائدَ إلى هذا الحد هل تفقدون من شيء؟ والسلام.

فلتحيا الشريعة الغراء.

سعيد النُّورْسِيّ

تشخيص العلّة

الذيل الأول تشخيص العلّة

هذا الذيل يبين بطولةً معنوية لا تُثلم نابعة من الإيمان، ضمن تمثيل لطيف جدًا نذكر خلاصته لمناسبة ما ذكرناه من مسائل.

لقد رافقتُ أيضًا السلطان رشاد في سياحته إلى «روم إيلي» ممثِّلًا عن الولايات الشرقية، وذلك في بداية عهد الحرية.

كان في قطارنا معلمان اثنان، قد تلقيا العلوم في المدارس الحديثة، فجرت بيننا مباحثة، إذ سألاني:

– أيُّهما أقوى وأولى بالالتزام: الحمية الدينية أم الملية؟ قلت لهم وقتئذٍ:

نحن معاشر المسلمين، الدين والملية عندنا متحدان بالذات، والاختلاف اعتباري، أي ظاهري، عرضي، بل الدين هو حياة الملية وروحها؛ فإذا ما نُظر إليهما بأنهما مختلفان ومتباينان، فإن الحمية الدينية تشمل العوام والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمئة من الناس، ممن يضحي بمنفعته الشخصية لأجل الأمة.

وعليه فلابد أن تكون الحمية الدينية أساسًا في الحقوق العامة، وتكون الملية خادمة منقادة لها وساندة حصينة لها.

فنحن الشرقيين لا نشبه الغربيين، إذ المهيمن على قلوبنا الشعور الديني؛ فإنّ بعث الأنبياء في الشرق يشير به القدرُ الإلهي إلى أن الشعور الديني وحده هو الذي يستنهض الشرق ويسوقه إلى التقدم والرقي، والعصر السعيد -وهو خير القرون والذي يليه- خير برهان على هذا.

فيا زملائي في هذه المدرسة السيارة، أعني القطار، ويا من تسألون عن التفاضل بين الحمية الدينية والملية، ويا أيها الدارسون في المدارس الحديثة! إني أقول لكم جميعًا:

إن الحمية الدينية والملية الإسلامية قد امتزجتا في التُّرك والعرب مزجًا لا يمكن فصلهما، وإن الحمية الإسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الأعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم.

قال ذلك المعلمان:

ما دليلك؟ يلزم لمثل هذه الدعوى الكبيرة حجة عظيمة ودليل قوي. فما الدليل؟

وفي هذه الأثناء خرج قطارُنا من النفق، فأخرجْنا رؤوسنا من النوافذ نتطلع إلى الخارج، رأينا صبيًا لا يتجاوز السادسة من العمر واقفًا بجانب سكة الحديد.

قلت لصاحبيّ:

إن هذا الصبي يجيبنا عن سؤالنا بلسان حاله، فليكن أستاذَنا بدلًا مني في مدرستنا السيارة هذه.

إذ لسان حاله يقول هذه الحقيقة:

انظروا إلى دابة الأرض هذه، وإلى ضجيجها وصيحتها، وانطلاقها من النفق، وتأملوا في ذلك الطفل الوديع الواقف على مقربة منها، فعلى الرغم من تهديد هذه الدابة وهجومها وانقضاضها على كل من يقترب منها حتى كأنها تقول: يا ويل من يصادفني ويقف أمامي.. على الرغم من هذا فإن ذلك الصبي البريء واقف لا يحرك ساكنًا بالقرب منها، وهو في كمال الاطمئنان والحرية، ولا يكترث لتهديدها، مبديًا بطولةً فائقة وجرأة خارقة، وكأنه يستخف بهجومها، فهو يقول بلسان ثباته وبطولته في سن الصبا هذا:

أيها القطار إنك لا تخيفني بصوتك الصاخب الذي يشق عنان السماء.. أيها القطار إنك أسيرُ نظام، فخطامك في يد قائدك، لا طاقة لك أن تتجاوز حدَّك ولا يمكنك أن تتحكّم فيّ، فهيا انطلق في طريقك وامضِ في سيرك بإذن قائدك.

فيا صاحبيّ في القطار، ويا إخوتي الباحثين في العلوم بعد خمسين عامًا!

افرضوا خيالًا أن رستم الفارسي وهرقل اليوناني، واقفان موقف الصبي هذا، وإذ هما لا علم لهما بالقطار، فلا يعتقدان بأنه يسير وفق نظام معين، فإذا ما خرج عليهما من النفق المظلم وفي رأسه النار ذات الوقود وفي أنفاسه هدير السماء، وفي عيونه بروق المصابيح، وهو يهدد ويزمجر وكأنه يريد أن ينقضّ عليهما.. تصوروا هذه الحالة ثم قَدِّرُوا مدى الخوف والهلع الذي يعتريهما، وكيف أنهما يفرّان من القطار مع ما يملكانه من جرأة وشجاعة نادرة. وتصوّروا كيف أن حريتهما وجسارتهما تضمحلان أمام تهديد دابة الأرض هذه حتى لا يجدان بدًا منها إلّا الفرار.. كل ذلك لأنهما لا يعتقدان بوجود قائد يقود ذلك القطار، ولا يؤمنان بوجود نظام يسير على وفقه، بل لا يظنان أنها دابّة مطيعة منقادة ليس إلّا، وإنما يتخيلانها أسدًا هصورًا ووحشًا كاسرًا جسيمًا تنتظم وراءه أُسود كثيرة ووحوش عديدة.

يا إخوتي! ويا زملائي الذين يسمعون هذا الكلام بعد خمسين عامًا!

إن الذي منح هذا الصبي تلك الجسارة والحرية أكثر من ذينك البطلين ووهب له اطمئنانًا وسكينة يفوقهما بكثير هو: أن في قلب ذلك الصبي نواة حقيقة، وهي: إيمانه واطمئنانه بأن ذلك القطار يسير على وفق نظام، واعتقادُه بأن زمامه بيدِ قائدٍ يقوده بأمره ولأجله.

وأما الذي أرهبَ ذينك البطلين المشهورين وأسر وجدانهما، فهو عدم معرفتهما بقائد ذلك القطار وعدم اعتقادهما بنظامه، أي جهلهما بالعقيدة وخلوهما منها.

فمثل هذه البطولة النابعة من إيمان ذلك الصبي الوديع قد ترسّخت طوال ألف سنة في قلوب عشائرَ من طوائف الإسلام (وهم الترك ومن تشبّهوا بهم) عقيدةً وإيمانًا، فوهبهم ذلك الإيمانُ بطولة فائقة استطاعوا بها أن يغزوا دولًا تفوقهم مئة ضعف وأن يَثْبُتوا أمامها، فنشروا كمالاتِ الإسلام في أرجاء العالم.. في آسيا وإفريقيا ونصف أوروبا، واستقبلوا الموت بسرور بالغ قائلين: «إن قُتِلتُ فأنا شهيد، وإن قَتَلتُ عدوًا فأنا مجاهد». بل ثَبَتوا -بالإيمان- أمام كل ما اتخذ موقفَ عداءٍ تجاه استعدادات الإنسان وقواه ابتداءً من الميكروبات إلى المذنبات التي في السماء، وكأن كلًا منها قطار رهيب، فلم يكترثوا بتهديداتها. وإنما حازت جميع قبائل الإسلام وفي مقدمتها طوائف الترك والعرب نوعًا من السعادة الدنيوية بتسليمهم الأمر إلى الله والرضى بقَضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقي دروس العبرة من الحوادث بدلًا من الرهبة والهلع منها.

فإظهارُ هؤلاء المسلمين بطولةً معنوية فوق المعتاد -كما يُظهره ذلك الصبيُّ- يدلّنا: أن أمة الإسلام مثلما تفوز في الآخرة فلهم في الدنيا أيضًا السيادة مستقبلًا.

إن الذي أدّى إلى أن يدخل في رُوع ذينك البطلين الخوفُ والفرار والقلق إنما هو حرمانهما من الإيمان والعقيدة وجهلُهما وضلالهما.

فلقد أثبتت «رسائل النور» بمئات الحجج القاطعة تلك الحقيقةَ التي ذكرتُ بضعةَ أمثلة منها في مقدمة هذه الرسالة أيضًا، تلك هي: أن الكفر والضلال يُرِيَان الكونَ لأهلهما أنّه مليء بآلاف الأعداء المُخيفين، بل هو سلسلة من طوائفَ تعادي الإنسان، ابتداءً من المنظومة الشمسية وانتهاء إلى ميكروبات التدرن الرئوي، كلها تعادي هذا الإنسان المسكين بأيدي القوى العمياء والمصادفة العشواء والطبيعة الصماء، حتى تجعله في رعب دائم وألم مقيم وهلع ملازم واضطراب مستمر، مع ما يَحمل هذا الإنسانُ من ماهية جامعة واستعداد كلي وحاجات لا نهاية لها ورغبات لا منتهى لها. بل يجعله الكفرُ والضلال في حالة من عذاب جهنم في الدنيا وكأنه يتجرع الزقوم ولا يكاد يسيغه، فلا تجديه آلاف الفنون والعلوم -الخارجة عن الدين والإيمان- ولا التقدمُ البشري -مثلما لم تجدِ بطولة ذينك البطلين المشهورين- بل تُجري في دمه السفاهةَ واللهو لتعطِّل حواسه لئلا يشعر بالألم مؤقتًا.

فكما أن المقايسة بين الإيمان والكفر تُفضي في الآخرة إلى الجنة والنار، فإن الإيمان في الدنيا أيضًا يحقق نوعًا من الجنة المعنوية ويجعل المرء يرى الموت نوعًا من التسريح من الوظيفة، بينما الكفر يجعله في الدنيا أيضًا في جحيم معنوي سالبًا منه السعادة إذ يريه الموت إعدامًا أبديًا. كما أثبتنا ذلك في «رسائل النور» إثباتًا بدرجة الشهود والقطعية التامة. فنحيل القارئ الكريم إلى تلك الرسائل.

فإن شئتم أيها الإخوان أن تروا حقيقة هذا المثال، فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى هذا الكون! كم ترون لله في الفضاء من كرات النجوم وأجرام العوالم وسلاسل الحادثات والوقائع المتسلسلة أمثال القطار والمنطاد والسيارات الإلهية فكأنها سفائن برية وفُلك بحرية وطائرات هوائية خلقتْها يدُ القدرة الإلهية بنظام وحكمة.

فكما أن للقدرة الإلهية في عالم الشهادة وفي عالمنا المادي أمثالَ هذه، فإن لها في عالم الأرواح والمعنويات نظائرَ متسلسلة أعجب، يصدِّق بها كلُّ مَن يملك عقلًا، بل يرى أغلبَها كلُّ مَن يملك بصيرة.

فهذه الأمور المتسلسلة المترابطة في الكون سواءٌ منها المادية أو المعنوية تهاجم أهلَ الضلال الذين حُرموا من الإيمان وتهددهم وتُرهبهم وتحطّم قواهم المعنوية، بينما لا تخيف أهلَ الإيمان ولا تهددهم بشيء بل تبعث فيهم السرور والسعادة والأُنس والأمل والقوة، وذلك لأنهم يرون الوجود بنور الإيمان، وتلك الحوادث المتسلسلة، وتلك القاطرات المادية والمعنوية والعوالم السيارة، إنما تساق إلى وظيفة معينة محددة من قِبَل صانع حكيم لتؤديها ضمن نظام وحكمة من دون اختلاط ولا تجاوز قط.

فيُري الإيمانُ المؤمنَ أن كل شيء ينال قبسًا من تجليات جمال الله وإتقان صنعته سبحانه، ويمنحه قوة معنوية عظيمة بما يفتح له من نماذج للسعادة الأبدية.

وهكذا فإن ما يعانيه أهل الضلال من الآلام الرهيبة الناشئة من فقدان الإيمان، وما يلازمهم من خوف ورعب شديدين، تقف إزاءه جميعُ أنواع الرقي البشري عاجزةً لا تمنح له سلوانًا ولا عزاءً، بل لا يمكنها أن تضمن له قوة معنوية، فتتحطم الجرأة والإقدام.. إلّا ما تخدعه الغفلة من إسدال ستار النسيان عليها.

أما أهل الإيمان فلا تُرهبهم تلك الحادثات ولا تأخذ من معنوياتهم؛ وذلك بفضل الإيمان (مثل ذلك الصبي) بل تزيد معنوياتهم صلابة، إذ ينظرون إليها -أي إلى الحوادث- من خلال حقيقةِ إيمانهم فيشاهدون إرادة الصانع الحكيم وإدارته وتدبيره إياها ضمن حكمته الواسعة، فيتحررون من المخاوف والأوهام، إذ يعلمون أنه: لولا أمرُ الصانع الحكيم وإذنه لما استطاعت هذه العوالم السيارة الحركةَ قط، فينالون بهذا اطمئنانًا يسعدهم في الدنيا كذلك، كل حسب درجته.

ومن لم يكن في قلبه ووجدانه بذرة هذه الحقيقة النابعة من الإيمان والدين الحق، ولم يستند إلى ركيزة، فمثله كمثل ذينك البطلين المشهورين، إذ تنهار قواه المعنوية بمثل تحطّم جسارتهما وبطولتهما، ويكون أسيرَ حادثات الكائنات فيتفسّخ وجدانـه ويصبح كالمتسول الذليـل بإزاء كل حادثة.

نكتفي بهذا القدر لبيان هذه الحقيقة الواسعة حيث بَينّت «رسائلُ النور» بحججها الدامغة أن هذا السر كامنٌ في الإيمان بينما الضلالة تحمل شقاءً وتعاسة في الدنيا أيضًا.

إن الإنسان الذي أحسّ في هذا العصر بحاجته الماسة إلى قوة معنوية وصلابة وثبات وإلى عزاء وسلوان، قد ترك حقائق الإيمان التي هي أعظم ركيزةِ استنادٍ له والتي تَضْمن له القوةَ المعنوية والسلوان والسعادة، واستهواه التغرب فاستَند إلى الضلالة والسفه، فبدلًا من أن يستفيد من الملية الإسلامية أخذ يحطم القوة المعنوية تحطيمًا كاملًا، فأزال عنه السلوان وأوهن صلابته بانسياقه وراء الضلال والسفه والسياسة الكاذبة. ألا ترى أن هذا بعدٌ شاسع عن مصالح الإنسان ومنافعه؟ ألاَ إن الإنسانية ستدرك يومًا -إن بقي لها من العمر بقية- حقيقةَ القرآن، وستعتصم به، وفي مقدمتها المسلمون.

* * *

لقد سأل قسم من النواب المتدينين سعيدًا القديم أوائل عهد الحرية:

إنك تجعل السياسة تابعة للدين في كل شيء، بل تجعلها وسيلة منقادة للشريعة، ولا تقبل الحرية إلّا على أساس الوجه المشروع، بمعنى أنك لا تعترف بالحرية والمشروطية بدون الشريعة، ولأجل هذا جعلوك في صفوف المطالِبين بتطبيق الشريعة في حادثة (31) مارت.

فأجابهم سعيد القديم بالآتي:

أجل، إنه لا سعادة لأمة الإسلام إلاّ بتحقيق حقائق الإسلام، وإلّا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمةُ السعادةَ في الدنيا أو تعيشَ حياة اجتماعية فاضلة إلّا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإلّا فلا عدالة قطعًا، ولا أمان مطلقًا؛ إذ تتغلب عندئذٍ الأخلاقُ الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقًا بيد الكذابين والمرائين.

سأعرض لكم ما يثبت هذه الحقيقة في حكاية أُورِدُها نموذجًا مصغرًا من بين آلاف الحجج.

سافر شخص إلى قوم من البدو في صحراء، فنزل ضيفًا عند رجل فاضل.. لَاحَظَ أنهم لا يهتمون بحرز أموالهم. وقد ألقى صاحبُ المنزل نقودَه في زوايا البيت مكشوفةً دون تحفّظ. قال الضيف لصاحب المنزل:

ألا تخافون من السرقة؟ تلقون أموالكم هكذا في الزوايا دون تحرز؟

أجابه: لا تقع السرقة فينا!

– إننا نضع نقودنا في صناديق حديد مقفلة، ومع ذلك كثيرًا ما تقع فينا السرقة.

– إننا نقطع يد السارق كما أمر به الله تعالى وعلى وفق ما تتطلبه عدالة الشريعة.

– فإذن كثيرون منكم قد حرموا من إحدى أيديهم!

– ما رأيت إلّا قطع يد واحدة، وقد بلغتُ الخمسين من العمر.

– إن في بلادنا يسجن يوميًا ما يقارب الخمسين من الناس بسبب السرقة، ومع ذلك لا يردعهم ذلك إلّا بواحد من ألف مما تردعه عدالتكم!

– لقد أهملتم حقيقة عظيمة وغفلتم عن سرّ عجيب عريق، لذا تُحرمون من حقيقة العدالة؛ إذ بدلًا من المصلحة الإنسانية تتدخل فيكم الأغراض الشخصية والمحسوبيات والتحيز وما إلى ذلك من الأمور التي تغيّر طبيعة الأحكام وتحرّفها.

وحكمة تلك الحقيقة هي: أن السارق فينا في اللحظة التي يمد يده للسرقة يتذكر إجراء الحدّ الشرعي عليه، ويخطر بباله أنه أمر إلهي نازل من العرش الأعظم، فكأنه يسمع بخاصية الإيمان بأُذن قلبه ويشعر حقيقةً بالكلام الأزلي الذي يقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُٓوا اَيْدِيَهُمَا (المائدة:38) فيهيج عنده ما يحمله من إيمان وعقيدة، وتثار مشاعره النبيلة، فتحصل له حالة روحية أشبه ما يكون بهجوم يُشن من أطراف الوجدان وأعماقه على ميل السرقة، فيتشتت ذلك الميل الناشئ من النفس الأمارة بالسوء والهوى، وينسحب وينكمش، وهكذا بتوالي التذكير هذا يزول ذلك الميل إلى السرقة، إذ الذي يهاجم ذلك الميل ليس الوهم والفكر وحدهما وإنما هو قوى معنوية من عقل وقلب ووجدان، كلها تهاجم دفعة واحدة ذلك الميل والهوى فبتذكر الحد الشرعي يقف تجاه ذلك الميل زجرٌ سماوي ورادع وجداني فيسكتانه.

أجل، إن الإيمان يقيم دائمًا في القلب والعقل حارسًا معنويًا أمينًا، لذا كلما صدرت ميول فاسدة عن تطلعات النفس والنوازع والأحاسيس المادية قال لها ذلك الحارس الرادع: «محظور.. ممنوع..» فيطردها ويهزمها.

إن أفعال الإنسان إنما تصدر عن تمايلات القلب والمشاعر وهي تنبعث من شدة تحسس الروح وحاجتها، والروحُ إنما تهتز بنور الإيمان، فإن كان خيرًا يفعله الإنسان، وإلّا يحاول الانسحاب، وعندئذٍ لا تغلبه النوازع والأحاسيس المادية التي لا ترى العقبى!

الحاصل:

إن «الحد» أو «العقاب» عندما يقام امتثالًا للأمر الإلهي والعدل الرباني فإن الروح والعقل والوجدان واللطائف المندرجة في ماهية الإنسان تتأثر به وترتبط به، فلأجل هذا المعنى أفادتنا إقامةُ حد واحد طوال خمسين سنة أكثر من سجنكم في كل يوم! ذلك لأن عقوباتكم التي تُجْرونها باسم العدالة لا يبلغ تأثيرها إلّا في وهمكم وخيالكم، إذ عندما يقوم أحدكم بالسرقة يَرِد إلى خياله العقابُ الذي ما وضع إلّا لأجل مصلحة الأمة والبلاد ويقول: إن الناس لو عَرفوا بأني سارق فسينظرون إليّ نظرةَ ازدراءٍ وعتاب، وإذا تبين الأمر ضدّي ربما تزجّني الحكومة في السجن.. وعند ذلك لا تتأثرُ إلّا قوته الواهمة تأثرًا جزئيًا، بينما يتغلب عليه الميل الشديد إلى السرقة والنابعُ من النفس الأمارة والأحاسيس المادية -لاسيما إن كان محتاجًا- فلا ينفعه عقابكم لإنقاذه من ذلك العمل السيء. ثم لأنه ليس امتثالًا للأمر الإلهي فليس هو بعدالة، بل باطل وفاسد بطلانَ الصّلاة بلا وضوء وبلا توجّه إلى القبلة، أي إن العدالة الحقة والعقاب الرادع إنما يكون إذا أُجريت امتثالًا للأمر الإلهي وإلّا فإن تأثير العقاب يكون ضيئلًا جدًا.

فإذا قستَ على هذه المسألة الجزئية في السرقة سائرَ الأحكام الإلهية تدرك أن السـعادة البشرية في الدنيـا مرتهـنـة بإجراء العدالة، ولا تنفذ العـدالـة إلّا كما بيّنها القرآن الكريم.

(انتهت خلاصة الحكاية).

ولقد أُخطر على القلب أنه إذا لم يفق الإنسان من غفلته بسرعة، ولم يسترشد بعقله، ويفتح أبواب المحاكم لتنفيذ عدالة الله ضمن حقائق الإسلام، فستنفلق على رأسه قيامات مادية ومعنوية ويسلّم السلاح إلى الفوضويين والإرهابيين ومَن هم أمثال يأجوج ومأجوج!

وهكذا فلقد حكى «سعيد القديم» هذه الحكايةَ لقسم من النواب المتدينين، وأُدرجت قبل خمسة وأربعين عامًا في ذيل الخطبة الشامية العربية التي طبعت طبعتين في أسبوع واحد.

والآن فهذه الحكاية والتمثيل الأول، إنما هما درسان يستفيد منهما النواب المتدينون الأفاضل في الوقت الحاضر أكثر من سابقيهم، فنبيّنهما لهم درسًا من دروس العبرة.([1])

سعيد النُّورْسِيّ


[1] لقد رجونا من أستاذنا أن يدرّسنا في غضون يومين الخطبةَ الشامية المطبوعة بالعربية، لعدم إتقاننا العربية، فتفضلَ علينا بشرحها، ونحن بدورنا دوّنّا ما قرره علينا، وكان الأستاذ يكرر بعض الجمل ويعيدها كي يرسخها في أذهاننا، ولما كنا قد وجدنا المثال والحكاية الأخيرة واضحة، فقد أبرزناها مقدمًا إلى الطلاب الجامعيين والنواب المتدينين، ذلك لأن الأستاذ عندما استهل الدرس قال:

    «إنني أضعكم أمامي بدلًا من المعلمين في ذلك القطار، وأضع النواب المتدينين حقًا بدلًا من النواب المتدينين الذين سألوني عن الشريعة قبل خمسة وأربعين عامًا، هكذا أتصور الأمر وأتكلم في ضوئه.

    فنحن نبين ما في هذه الرسالة من معانٍ أولًا لأهل المعرفة والتربية والنواب المتدينين، وإذا شاؤوا نبين لهم الدروس التي أخذناها من الأستاذ لدى شرحه الخطبة لنا. وإذا ارتأوا نطبعها وننشرها.

    كنا نودّ أن نأخذ درسًا حول السياسة الإسلامية الدائرة في العالم الإسلامي، ولكن لأن الأستاذ قد ترك السياسة منذ خمس وثلاثين سنة، فإن هذه الخطبة -التي تمس السياسة- إنما هي درس من دروس «سعيد القديم».

طلاب النور

طاهرى، زبير، بايرام، جيلان، صونغور، عبدالله، ضياء، صادق، صالح، حسني، حمزة.

نص الخطبة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نقدم أولًا ما يقدمه كلُّ ذي روح بلسان حال حياته من هدايا معنوية إلى خالقه، وما يقدمه كلٌّ منهم من الحمد والشكر بلسان حاله إلى ذلك الواجب الوجود الذي قال:
﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ (الزمر:53)، ونصلي ونسلّم صلاةً وسلامًا لا منتهى لهما على نبيّنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام، الذي قال: «إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق» أي: إنما بعثني الله إلى الناس لتتميم الخصال الحميدة وإنقاذ البشرية من الطباع الذميمة.

أما بعد!

فيا إخواني العرب الذين يستمعون إلى هذا الدرس في هذا الجامع الأموي؛ إنني ما صعدت هذا المنبر وإلى هذا المقام الذي هو فوق حدي لأرشدكم؛ فهذا أمرٌ فوق طوقي، إذ ربما فيكم ما يقارب المئة من العلماء الأفاضل، فمَثلي معكم كمثل صبي يذهب إلى المدرسة صباحًا ثم يعود في المساء ليعرض ما تَعلّمه على أبيه، ابتغاء تصحيح أخطائه والتلطّف في تصويبه وإرشاده.

فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار، فنحن تلامذة بالنسبة إليكم وأنتم أساتذة لنا ولسائر أمة الإسلام. وها أنذا أعرض بعض ما تعلمتُه على أساتذتي:

لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الاجتماعية البشرية، وعلمتُ في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة أمراض جعلتنا نقـف على أعتاب القرون الوسطى في الوقت الذي طار فيه الأجانب -وخاصة الأوربيين- نحو المستقبل.

وتلك الأمراض هي:

أولًا: حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه.

ثانيًا: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.

ثالثًا: حبّ العداوة.

رابعًا: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.

خامسًا: سريان الاستبداد سريانَ الأمراض المُعدية المتنوعة.

سادسًا: حصر الهمة في المنفعة الشخصية.

ولمعالجة هذه الأمراض الستة الفتّاكة، أبيّن ما اقتبستُه من فيض صيدلية القرآن الحكيم -الذي هو بمثابة كلية الطب في حياتنا الاجتماعية- أبيّنها بست كلمات، إذ لا أعرف أسلوبًا للمعالجة سواها.

الكلمة الأولى: «الأمل»

أي: شدة الاعتماد على الرحمة الإلهية والثقة بها.

نعم، إنه بناءً على ما تعلمته من دروس الحياة، يسرّني أن أزفّ إليكم البشرى يا معشر المسلمين، بأنه قد أَزِفَ بزوغُ أمارات الفجر الصادق ودنا شروقُ شمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين، ولاسيما سعادة العرب الذين يتوقّف تقدمُ العالم الإسلامي ورقيُّه على تيقظهم وانتباههم، فإنني أعلن بقوة وجزم، بحيث أُسمِعُ الدنيا كلها وأنفُ اليأس والقنوط راغم:([1])

أن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده، وأن الحكم لن يكون إلّا لحقائق القرآن والإيمان. لذا فعلينا الرضا بالقدر الإلهي وبما قسّمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماضٍ مشوش مختلط.

فهذه دعواي، لي عليها براهين عدة، سأذكر واحدًا ونصفًا فقط منها، بعد أن أمهّد لها ببعض المقدمات.

أما المقدمات فهي:

أن حقائق الإسلام تمتاز باستعدادها استعدادًا كاملًا لدفع أهلها إلى مراقي التقدم المادي والمعنوي معًا.

أما أنه مستعد للرقي المعنوي:

فاعلموا أن التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية، أَصدقُ شاهد على حقيقة الأحداث؛ فها هو التاريخ يرينا.. أن القائد الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة الآتية في صدد عظمة الإسلام وحقانيته: «إنه بنسبة قوة الحقائق الإسلامية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق، يزدادون رقيًا وتقدمًا، هكذا يرينا التاريخ. ويرينا أيضًا أنه بقدر ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف والاضمحلال والوقوع في ألوان من الهرج والمرج والاضطرابات، ويُغلَبون على أمرهم». أما سائر الأديان الأخرى فالأمر فيها على عكس الإسلام، أي: بقدر ضعف تمسّك أتباعها وضعف تعصبهم وصلابتهم في دينهم يزدادون رقيًا وتقدمًا، وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم بدينهم يتعرّضون للانحطاط والاضطرابات.

هذا هو حكم التاريخ.. وهكذا مَرَّ الزمانُ إلى الآن.

وما أرانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد إلى الآن أن مسلمًا قد ترك دينه مرجِّحًا عليه -بالمحاكمة العقلية والدليل اليقيني- دينًا آخر، على حين أن كثيرًا من أتباع الأديان الأخرى -حتى المتعصبين منهم، كالروس القدامى والإنكليز- قد رجّحوا بالمحاكمة والدليل العقلي دين الإسلام على أديانهم فدخلوا في الإسلام. ولا عبرة هنا بتقليد العوام الذي لا يستند إلى دليل، كما لا عبرة بالمروق عن الدين والخروج على حقائقه، فهذه مسألة أخرى. علمًا أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالإسلام -بالمحاكمة العقلية- جماعاتٍ وأفواجًا يزداد يومًا بعد يوم.([2])

ولو أننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم أخـلاق الإسلام وكمال حقائـق الإيمان، لدخل أتباع الأديان الأخرى في الإسلام جماعاتٍ وأفواجًا، بل لربما رضخت دول العالم وقاراته للإسلام.

إن البشرية التي أخذت تصحو وتتيقّظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة أدركت كنه الإنسانية وماهيتها، وتيقّنت أنه لا يمكنها أن تعيش هملًا بغير دين، بل حتى أشد الناس إلحادًا وتنكرًا للدين مضطر إلى أن يلجأ إلى الدين في آخر المطاف؛ لأن: «نقطة استناد» البشر عند مهاجمة المصائب والأعداء من الخارج والداخل، مع عجزه وقلّة حيلته، وكذا «نقطة استمداده» لآماله غير المحدودة الممتدة إلى الأبد مع فقره وفاقته، ليس إلّا «معرفةَ الصانع» والإيمان به والتصديق بالآخرة… فلا سبيل للبشرية المتيقّظة إلى الخلاص سوى الإقرار
بكل ذلك.

وما لم يوجد في صَدَفة القلب جوهر الدين الحق، فسوف تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر، وسيكون أشقى الحيوانات وأذلّها.

خلاصة الكلام: لقد تيقّظ الإنسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونُذُرِ الحروب والأحداث المذهلة، وَشَعَر بقيمة جوهر الإنسانية واستعدادها الجامع، وأدرك أن الإنسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يُخلق لقضاء هذه الحياة المتقلّبة القصيرة، بل خُلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة إلى الأبد، وأن كل إنسان بدأ يشعر -حسب استعداده- أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لا تسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة، حتى إذا قيل لقوّة الخيال التي تخدم الإنسانية: «لك أن تعمَّري مليون سنة مع سلطنة الدنيا، نظيرَ قبولك موتًا أبديًا لا حياة بعده إطلاقًا»، فلابد أن خيال ذلك الإنسان المتيقّظ الذي لم يفقد إنسانيته سيتأوه كَمَدًا وحزنًا -بدلًا من أن يفرح ويستبشر- لفقده السعادة الأبدية.

وهذا هو السر في ظهور ميل شديد إلى التحري عن الدين الحق في أعماق كل إنسان، فهو يبحث قبل كل شيء عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت الأبدي. ووضعُ العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة.

لقد بدأت قارات العالم ودوله -بعد مرور خمسة وأربعين عامًا وبظهور الإلحاد- تدرك إدراكَ كل فردٍ هذه الحاجة البشرية الشديدة.

ثم إن أوائل أكثر الآيات القرآنية وخواتمها، تحيل الإنسان إلى العقل قائلة: راجعْ عقلَك وفكرك أيها الإنسان وشاورهما، حتى يتبينَ لك صدق هذه الحقيقة؛ فانظروا مثلًا إلى قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُٓوا.. ﴿فَاعْلَمْ.. ﴿اَفَلَا يَعْقِلُونَ.. ﴿اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا .. ﴿اَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ.. ﴿اَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ.. ﴿فَاعْتَبِرُوا يَٓا اُو۬لِي الْاَبْصَارِ .وأمثالِها من الآيات التي تخاطب العقل البشري، فهي تسأل: لِمَ تتركون العلم وتختارون طريق الجهل؟ لِمَ تعصُبون عيونَكم وتتعامَوْن عن رؤية الحق؟ ما الذي حملكم على الجنون وأنتم عقلاء؟ أي شيء منعكم من التفكر والتدبّر في أحداث الحياة، فلا تعتبرون ولا تهتدون إلى الطريق المستقيم؟ لماذا لا تتأملون ولا تحكّمون عقولكم لئلا تضلوا؟.

ثم تقول: أيها الناس انتبهوا واعتبروا! أنقذوا أنفسكم من بلايا معنوية تنزل بكم، باتعاظكم من القرون الخوالي.

يا إخواني الذين يضمّهم هذا الجامع الأموي، ويا إخواني في جامع العالم الإسلامي! اعتبروا أنتم أيضًا! وقيّموا الأمور في ضوء الأحداث الجسام التي مرت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية، كونوا راشدين، يا من يعدّون أنفسهم من أولي الفكر والعلم.

نحصل مما سبق: نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نتّبع البرهان، ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الإيمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليدًا للرهبان كما هو دأب أتباع سائر الأديان!

وعلى هذا فإن المستقبل الذي لا حكمَ فيه إلّا للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامُه إلى العقل والمنطق والبرهان.

وها قد أَخَذَت الحجبُ التي كانت تكسف شمس الإسلام تنزاح وتنقشع، وأخذت تلك الموانع بالانكماش والانسحاب، ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس وأربعين سنة، وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف أو هو على وشك البزوغ، وحتى إن كان هذا الفجر فجرًا كاذبًا فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلاثين أو أربعين عامًا إن شاء الله.

نعم، فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلاء حقائق الإسلام على الزمان الماضي استيلاءً تامًا وهي:

المانع الأول والثاني والثالث:

جهل الأجانب،

وتأخرهم عن عصرهم (أي بُعدهم عن الحضارة)،

وتعصبهم لدينهم…

فهذه الموانع الثلاثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي ومحاسن المدنية.

المانع الرابع والخامس:

تحكّم القسيسين وسيطرةُ الزعماء الروحانيين على أفكار الناس وأذهانهم،

وتقليد الأجانب لأولئك القسيسين تقليدًا أعمى.

فهذان المانعان أيضًا يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية الفكر وميل النوع البشري إلى البحث عن الحقائق.

المانع السادس والسابع:

تفشي روح الاستبداد فينا،

وانتشار الأخلاق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة ومخالفتها.

فإن زوال قوة استبداد الفرد الآن يشير إلى زوال استبداد الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلاثين أو أربعين سنة. ثم إن فوران الحمية الإسلامية والوقوف على النتائج الوخيمة للأخلاق الذميمة كفيلان برفع هذين المانعين بل هما على وشك أن يُرفعا، وسيزولان زوالًا تامًا إن شاء الله.


[1] لقد أخبر «سعيد القديم» بإحساس مسبق منذ خمسة وأربعين عامًا بأن العالم الإسلامي -وفي مقدمته الدول العربية- سينجو من سيطرة الأجانب وتحكّمهم، وسيشكلون دولًا إسلامية سنة1371. ولم يفكر آنذاك في الحربين العالميتين ولا في الاستبداد المطلق الذي دام ما يقارب أربعين عامًا، فبشّر بما كان سنة 1371 وكأنه 1327 دون أن يأخذ سبب التأخير بنظر الاعتبار. (المؤلف).

[2] والدليل على هذه الدعوى هو أنه مع قيام حربين عالميتين رهيبتين، وظهورِ استبداد مطلق قاسٍ نجد أنه بعد خمس وأربعين سنة:

  1. قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا تدريس القرآن في مدارسها، ليكون سدًا منيعًا أمام الشيوعية والإلحاد.
  2. قبول عدد من الخطباء الإنكليز المشهورين بإقناع الإنكليز وحملهم على قبول القرآن.
  3. موالاة أكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر-وهي أمريكا- لحقائق الدين بكل قواها، واعترافها بأن آسيا وإفريقيا ستجدان السعادة والأمن والسلام في ظل الإسلام. فضلًا عن تعاطفها مع دول إسلامية حديثة الولادة ومحاولتها الاتفاق معها.. كل ذلك يُثبت صدق هذه الدعوى التي قيلت قبل خمس وأربعين سنة، وشاهد قوي عليها.(المؤلف).