شَمَّة (3)

الرسالة العاشرة([1])

القطعة الثالثة من

شَمَّة

من نسيم هداية القرآن 


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ومن الله التوفيق لأقوم الطريق.

سبحانك يا من أنطق السماءَ بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.

ويا من أنطق الأرضَ بحمده وتسبيحه بكلمات الأشجار والنباتات.

وأنطق النبات والشجر بكلمات الأزهار والثمرات..

وأنطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات.

وأنطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبّات.

سبحانك يا من يسبح بحمدك الضياءُ بأنواره، والهواءُ بأعصاره، والماءُ بأنهاره،
والأرض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجوبأطياره،
والسحاب بأمطاره، والسماء بأقماره.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس الأنبياء، وزبرقان الأصفياء ونيّر
 الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين. وعلى آله نجوم الهدى،
وأصحابه مصابيح الدجى.


اعلم يا من يضيق ذهنُه عن فهم سرّ ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطينِ (الملك:5) أن للصعود إلى سماء هذه الآية سلّما ذا درجات سبعة:

الأولى: أن للسماوات سكانا يناسبونها يسمَّونَ بالملائكة، إذ امتلاء الأرض -مع حقارتها بالنسبة إلى السماء- من ذوي الحياة والإدراك، يشير بل يصرّح بامتلاء السماوات ذات البروج -تلك القصور المزينة- من ذوي الإدراك.

وكذا إن تزيينَ الكائنات بجميع هذه التزيينات والمحاسن والنقوش مستلزمةٌ لوجود أنظار متفكرين مستحسنين بالحيرة والتقدير؛ إذ لا يُظهَر الحُسن إلّا لعاشق، كما لا يُعطى الطعامُ إلّا لجائع، مع أنه لا يكفي الجن والإنسُ لعُشر معشار عَشِير هذه الحشمة والوظيفة، بل لا تقوم بها إلّا ما لا يُعد من أنواع الملائكة والروحانيات.

الثانية: أن للأرض علاقةً مع السماء ومعاملةً معها وارتباطا يجيء منها إليها أشياء، من الضياء والحرارة والبركات وغيرها. فبالحدس القطعي نعلم أن للأرضيّين طريقا يصعدون فيها إلى السماء، إذا خَفّوا بوضع أثقالهم وخلع أجسادهم كالأنبياء والأولياء والأرواح.

الثالثة: أنَّ سكونةَ السماء وسكوتها وانتظامها واطّرادها تدل على أن أهلَها ليسوا كأهل الأرض التي فيها اضطرابٌ وتذبذب واختلافات وامتحان بمشاجرات، بسبب اختلاط الأشرار بالأخيار واجتماع الأضداد، بل كلُّ أهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون.

الرابعة: أنَّ لمالك يوم الدين ولرب العالمين أسماءً متغايرةً أحكامُها، فالاسم الذي اقتضى إنـزالَ الملائكة للمحاربة في صف الصحابة مع الكفار، يقتضي وقوعَ المحاربة بين الملائكة والشياطين؛ أي السماويين الأخيار والأرضيين الأشرار. ألا ترى السلطان كيف يفعل؟ إذ قد يقتضي شأنُ سَطوته واسمُ حشمته تشهيرَ استحقاق المكافأة والمجازاة على رؤوس الأشهاد، أوإعلانَ تعظيم بعض خدامه، بأن لا يعامِلهم بعِلْمِه بهم فقط، وبتَلَفُونه الخاص، بل يأمر الوزيرَ فيحشّد الناسَ لميدان مبارزة محتشَمة، وامتحان عُلوي، واستقبال سياسي.

الخامسة: أنه لابد أن يقلِّد أشرارُ الروحانيات أخيارَهم في تشبث الذهاب إلى مملكة السماء للطافتهم، ولابد أن لا يقبَلَهم أهلُ السماء، بل يطردونهم لشراراتهم. ولابد في حكمة سلطنة الربوبية أن يكون لهذه المبارزة المعنوية والمعاملة المهمة علامةٌ وإشارةٌ في عالم الشهادة لإشهاد الإنسانِ الذي أهمُّ وظيفته المشاهدةُ والشهادةُ مع أنه لا يَرى فيما بين الحادثات السماوية أنسبَ من إعلان هذه المبارزة العلوية من رمي الشُهب المشابِهة للمنجنيقات المُرماةِ من بروج الحصون الرفيعة، مع أنه لا يرى لهذه الحادثة حكمةً تناسبها غيرَ هذه الحكمة المشهورة المشهودة لجميع أهل الحقيقة، خلافَ سائر الحادثات.

السادسة: أنَّ القرآن الحكيم المعجز يرشد البشرَ ويزجرُه من العصيان بأسلوب غال ومثَل عال.. فانظر إلى إنذارِ ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْاِنْسِ اِنِ اسْتَطَعْتُمْ اَنْ تَنْفُذُوا مِنْ اَقْطَارِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ فَانْفُذُواۜ لَا تَنْفُذُونَ اِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33). الآيةُ في تعجيز الثَقلين، وإعلان عجزهما في جنبِ وُسعةِ سلطنة الربوبية، كأنّهُ يقول: أيها الإنسان الحقير الصغير العاجز! كيف تعصي سلطانا يطيعه الشموسُ والأقمارُ والنجوم والملائكة الذين يرجمون الشياطينَ ببنادقَ كأنها جبالٌ بل أعظم! وكيف تتجاسر على العصيان في مملكةِ سلطانٍ؛ مِن جنوده مَن يقتدر أن يرميَ في وجه الأعداء بنجومٍ في عظمة أرضكم كما ترمي جَوزَك وبندقتك.

السابعة: أنَّ النجم كالمَلك والسَمَك له أفراد في غاية الصغر وفي غاية الكبر. فكل ما يضيء في وجه السماء فهونجم، فمن هذا النوع ما يُزَيّن به السماء كالجواهر والأثمار والأسماك، ومنه ما يُرجم به الشياطين كالمنجنيقات المرماة للطرد، أوللإشارة إلى وجود الحارسين المتيقظين المطيعين المجتنبين عن اختلاط العاصين، أوللرمز إلى جريان قانون المبارزة في أوسع الدوائر.. ولله الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

اعلم أن الآيات المصرِّحة بكتابة الأشياء قبل كونها وبعد كونها كثيرةٌ، كأمثالِ ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ﴾ (الأنعام:59). ويصدّقها منظوماتُ مكتوباتِ كتابِ الكائنات وموزوناتُ آياتها، لاسيّما آياتُ النظام والميزان والانتظام والتصوير والتزيين والامتياز.

أما قبل الكون، فالدليلُ جميعُ المبادي والبذور وجميعُ المقادير والصور، إذ ما البذور إلا صُنيدقات لطيفةٌ أُودعت فيها فهرستةُ ما رسمَه القَدر، فتبني القدرةُ وتستخدم الذرات على هندسته. وما المقادير إلّا مكتوباتٌ قدَرية منظومة، وقوالبُ علمية موزونة؛ إذ الذرات الصم العمي الجامدة تتحرك في نموالأشياء ثم تتوقف عند حدود معوجّة، توقفَ سميعٍ بصير بمظانّ الفوائد والثمرات. وهكذا فقس كثرة براهين الكتابة قبل الكون.

وأما الدليل على الكتابة بعد الكون؛ فمن العالَم جميعُ الثمرات التي هي كمطوياتِ صحائفِ أعمالِ الأشجار والأزهار، تَنشرُ على رأس الأشهاد ما جرى على رؤوس أُصولها، إذا دُفنت في الأرض وحُشرت في الربيع. ومن الإنسان قوّّته الحافظة التي هي في محل كالخردلة في الصغر، وما هي إلّا كسَنَدٍ استنسخته يَدُ القدرة بقلم القَدر من صحيفة الأعمال، وأعطَتْه ليد الإنسان ليتذكّر به وقتَ المحاسبة، وليطمئن أن خلفَ هذا الهَرج والمَرج والفناء والزوال مرايا للبقاء رَسَم فيها القديرُ هويّات الزائلات، وألواحا يكتب فيها الحفيظُ العليم معانيَ الفانيات.

اعلم أنه كما أن الساعة غيرُ ثابتة بل متزلزلة مضطربة الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى أيضا متزلزلة؛ فبإدراج الزمان فيها صار «الليلُ والنهار» كميلين يعدّان ثوانيها، و«السنة» إبرةً تعدّ دقائقَها، و«العصر» كإبرة تعد ساعاتها. وبإدراج المكان فيها صار «الجو» بسرعةِ تغيره وتحوله وتزلزله كمِيل الثواني، و«الأرضُ» بتبدل وجهها نباتا وحيوانا موتا وحياةً كميل الدقائق، وبتزلزل بطنها وتولد «جبالها» كميل الساعات. و«السماء» بتغيراتها بحركات أجرامها وظهور ذوي الأذْناب والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعد الأيام.

فالدنيا المبنية على هذه الأركان السبعة -مع أنها واصفةٌ لشؤونات الأسماء ولكتابة قلم القدرة والقَدر- فانيةٌ هالكة متزلزلة راحلةٌ كالماء السيال في الحقيقة. لكن تجمّدت -صورةً- بالغفلة، وتكدّرت بالطبيعة فصارت حجابا عن الآخرة.

فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودَتها وكُدورَتَها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعية. وأما القرآن فينفش الدنيا كالعهن المنفوش بآياته، ويشفّفها ببيّناته، ويذيبها بنيّراته، ويمزّق أبديتَها الموهومة بنعياته، ويفرّق الغفلةَ المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقةُ الدنيا المتزلزلة تَقرأ بلسان حالها المذكورة آيةَ

﴿وَاِذَا قُرِئَ الْقُرْاٰنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَاَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف:204).

اعلم أن مميّز الإنسان عن الحيوان شمولُ علاقته بالماضي والمستقبل، وكليةُ إدراكه بالأنفس والآفاق.. وكشفُه لترتب العلل الظاهرية في إنشاء الأشياء الظاهرية. فأعظمُ وظيفته وأقدمُها، وأتم جهازاته وألزمُها؛ التسبيحُ والتحميد بالجهاز المخلوق لهما، فيسبّح الإنسانُ صانعَه بلسان الماضي والحال والمستقبل، وبألسنة الأنفس والآفاق. وبسر مشاهدته لتسبيحات المخلوقات وشهادته عليها يُثني على صانع الأشياء بقراءة أسمائه المكتوبة بالترتيب والترتب في حكمة صُنع الأشياء. فـ«سبحان الله» يتضمن معنى الحيرةِ والتقدير، ومعنى التعجب والاستحسان، ومعنى التنـزيه والتقديس، ومعنى الهَيبة مع المحبة، ومعنى المجهولية للعظمة.

اعلم أن لله عطايا وقضايا ومقدرات.. ينفذ العطاءُ في القضاء، والقضاءُ في القدَرَ. أي يخرق العطاءُ قانونَ القضاء. كما تنخرق صلابةُ الحجر والتراب عند مرور العروق اللينة، وتنكسر مقاومةُ الحديد للمَيل اللطيف من الماء اللطيف عند الانجماد، ويُخرق لسهم القضاء قانونُ القَدر كما ينخرق القانونُ الكلي الذي هوقَدَرُ النوع بشذوذ الجزئيات الخارقة المخصّصة للإشارة إلى أنه سبحانه فاعلٌ مختار، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، ويَحْكُمُ ما يريدُ، لا مانع لما أعطى، ولا رادّ لما قضى.. فنسبة العطاء إلى القضاء كنسبة القضاء إلى القَدر، أي العطاء شذوذٌ عن قانون القضاء كما يقول العارف بحقيقة الحال: «يا إلهي إن حسناتي من عطائك، وسيئاتي من قضائك. لولا عطاؤك لكنت من الهالكين». أي استعداد النفس الأمارة بالسوء قانونُ شر وهلاك.

اعلم أن السر في تختيم الآيات بفذلكات متضمنة للأسماء الحسنى كأمثال آية الملك، أوبعين الأسماء كما في كثير من الآيات، هوأن القرآن الحكيم ببيانه الإعجازي يبسط الآثار للنظر، ثم يستخرج منها الأسماء، كأمثال آيةِ ﴿وَهو الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهو اَهونُ عَلَيْهِۜ وَلَهُ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهو الْعَزيزُ الْحَكيمُ (الروم:27).

وكذا ينشر للبشر منسوجاتِ صُنعه، ثم يطويها في الأسماء.

وكذا يفصّل أفاعيلَه ثم يَجْملها بأسمائه.

وكذا يرتّب المخلوقات ويشفّفها بإراءة النظام والميزان والفوائد، ثم يريك فيها الأسماء كأن تلك المخلوقاتِ ألفاظٌ، وهذه الأسماء معانيها أوماؤها أونواتها إيجادا وخلاصتها علما.

وكذا يذكر الجزئيات المادية المتكيفةَ المتغيرة، ثم يُجمِلها بالأسماء الكلية النورانية الثابتة.

وكذا يفرش الكثرةَ المتوسعة المنتشرة، ثم يضع عليها مظاهرَ الوحدة كجهة الوحدة.

وكذا يُظهِر بإظهار غاياتِ المسبَّبات بُعْدَ ما بين الأسباب والمسبَّبات المتصلتين في الظاهر، كما يُرى تماسُّ الأفق بالسّماء في ظاهر النظر، مع أن ما بينهما مسافة مدهشة. إذ لا طاقة لأعظم الأسباب بذاته على حَمل أخف المسبَّبات، فيُظهر القرآنُ بإظهار هذا البُعد محلَّ ظهور الأسماء ومَطَالِعها.

وكذا قد يذكر أفاعيلَ الخلق فيهدّد، ثم يسلّي بأسماءٍ تشير إلى الرحمة.. وقد يذكر مقاصدَ جزئيةً، ثم يقررها بأسماء هي كالقواعد الكلية والبراهين عليها.

اعلم أن العجز كالعشق طريقٌ موصلٌ إلى الله بل أقرب وأسلم. ثم إن أهلَ السلوك سلكوا في طرق الخفاء على اللطائف العشرة، وطرق الجهر على النفوس السبع.. وهذا العاجز استفاد من القرآن طريقا قصيرا، وسبيلا سويا هوأربع خطوات:

الخطوة الأولى: ما أشارت إليها آيةُ ﴿فَلَا تُزَكُّٓوا اَنْفُسَكُمْ (النجم:32).

والثانية: ما أشارت إليها آية ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسُوا اللّٰهَ فَاَنْسٰيهُمْ اَنْفُسَهُمْ (الحشر:19).

والثالثة: ما أشارت إليها آيةُ ﴿مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء:79).

والرابعة: ما أشارت إليها آيةُ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ (القصص:88).

وإيضاحه: أن الإنسان بحسب جبلّته محبٌّ لنفسه، بل لا يحب بالذات -في الأول- إلّا ذاتَه، فيمدح نفسَه مدحا لا يليقُ إلّا بالمعبود، ويدافع عن نفسه بشدة وينـزّهها عن المعايب ولا يقبل القصورَ لها ما أمكنه، حتى كأنه يصرفُ الجهاز المخلوق فيه لحمد معبوده وتسبيحه إلى نفسه، كـ ﴿مَنِ اتَّخَذَ اِلٰهَهُ هوٰيهُ (الجاثية: ٢٣). فلابد من تزكيتها هنا بعدم تزكيتها.

والثانية: نسيانُ النفس في مقام الكُلفة والخدمة، وشدةُ التزامها في مقام أَخذ الأُجرة والحظوظات. فتزكيتُها عكسُ هذه الحالة أي عدم النسيان في عين النسيان.

والمرتبة الثالثة: لا يرى من نفسه إلّا القصورَ والنقص والعجز والفقر، ويرى كلَّ المحاسن نِعَما من جانب فاطره تقتضي الحمد لا الفخر، فتزكيتُها في هذه المرتبة؛ علمُها بأن كمالَها في عدم كمالِها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها.

والخطوة الرابعة: دركُ أنه في نفسه وبالمعنى الاسمي فانٍ مفقودٌ حادثٌ معدومٌ، وبالمعنى الحرفي -والمرآتيةِ لأسماءِ صانعه- شاهدٌ مشهودٌ وواجدٌ موجودٌ. فتزكيتُها هنا معرفةُ أن عدَمَها في وجودِها، ووجودَها في عدمِها، ووِردُها: «له الملك وله الحمد».

وكذا إن مشرب أهل وحدة الوجود يذهب إلى إعدام الكائنات بنفي وجودها، ومشرب أهل وحدة الشهود يذهب إلى حبس الموجودات في سجن النسيان المطلق.. وأما ما أَفهمُ من منهاج القرآن فهوعفوها عن الإعدام والحبس، بل استخدامُها في وظائفِ إعلان الأسماء الحسنى بالمظهرية والمرآتية؛ بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وعزلُها عن الخدمة بالمعنى الاسمي وبحساب نفسها.

ثم إن الإنسان في وجوده دوائرُ متداخلةٌ ومصنوعات متراكبة؛ إذ هونبات، وحيوان، وإنسان، ومؤمن.. فالمعاملة للتزكية قد تقع أولا في الطبقة الرابعة الإيمانية. ثم تتنازل إلى النباتية التي هي شديدة المقاومة، وقد تقع المعاملة في الكل في اليوم والليلة. ومما غَلِط فيه الإنسانُ عدمُ الفرق بين تلك المراتب فيقول: خُلق لنا ما في الأرض جميعا؛ فأولا يغلط بظن انحصار الإنسانية في معدته النباتية أوالحيوانية، ثم يغلط بانحصار غايات الأشياء في ما يؤول إلى نفسه. ثم يغلط بتقدير قيمة الأشياء بمقياسِ مقدار منفعته منها، فلا يشتري نجم الزهرة بزهرةٍ مشمومة.

اعلم أن العبوديةَ نتيجةُ النعمة السابقة وثمنُها، لا مقدمةُ المكافآت اللاحقة ووسيلتها.

أيها الإنسان! أخذتَ أجرتك؛ إذ صنَعك هكذا في أحسن تقويم ثم تَعرَّفَ إليك بإعطاء الإيمان.

نعم، كما أنه بإعطاء المعدة أنعمَ عليك بجميع المطعومات.. كذلك بإعطاء الحياة صيَّر لك عالمَ الشهادة سُفرةً مملوءَةً من النِّعم. فانظر إلى تفاوت السُفرتين. وكما أنه بإعطاء النفس الإنساني جعل لهذه المعدة عوالمَ المُلك والملكوت مائدةً مشحونة بالنِّعم.. كذلك بإعطاء الإيمان فرشَ لك مع الموائد المزبورة موائدَ مدخراتِ كنوز أسمائه.. وبإعطاء محبته فَتَح لك ومنَحك ما لا يوصف، فإذا أخذتَ مثل هذه الأجرة، فعليك بالخدمة. فإذا أعطاك بعد العمل نعمةً أخرى فما هي إلّا من محض الفضل.


[1] هذه الرسالة بكاملها غير موجودة في الطبعة الأولى، وإنما هي في المخطوط وفي الطبعة التالية وهى رسالة مستقلة في الترجمة التركية. تضم خلاصة لكثير من مباحث رسالة «المدخل إلى النور» والتي فصّلت في «الكلمات».

شَمَّة (1-2)

الرسالة التاسعة([1])

 شَمَّة

من نسيم هداية القرآن


في (ط1)

إفادة المرام

اعلم أيها الناظر! إني أسمع من الناس شكايةً عن الغموض في آثاري، فاستمع مني ثمانية كلام:

فأولا: لا تعجل لعتابي لأجل الإشكالات، إذ مخاطبي نفسي الدساسة، وهي تفهم بسرعةٍ أجوبةَ أسئلتِها المخطئة ولوبالرمز.

وثانيا: إن كل مسألة افتتحت بـ«اعلم» سلاحٌ قاطع، ودواءٌ نافعٌ، أُعطِيتُه من حيث لم أحتسب، في وقت شدة احتياجي وكثرة جروحي. فليس لي في الكتاب مالٌ إلّا ما ليس في الكتاب من الألم والجرح والداء المستتر في الضمير. وأما المذكور في الكتاب من الدواء والسلاح وذوق الحق، فليس مني، ولا مما مضغه فكري، بل من فيض القرآن الكريم.

وثالثا: إني لا أبالي بتنقيد الناس؛ إذ لله الحمد إني لا أعرف الآن لنفسي غيرَ القصور والعجز وما تستحق من الذم. فإذا أردتُ التمدحَ والافتخار بأثري لا أرى إلّا ما أخجل به وأفتضح، إلّا أن الله ستّارُ العيوب. فكما لا قيمة لنفسي حتى أبتهجَ متصنعا بما يُظَن محاسنَ وهي في الحقيقة مساوئ، كذلك لا أقيم لنفس غيري المتكدرة بالأنانية أيضا وزنا، حتى أتصنّعَ له بالرياء الكلاميّ والتصلف في العبارة. إلّا أنه يليق أن تُلبَس الحقايقُ ما يليق بها.. ولكن هيهات أنا عاجز وأعجمي وخام لا أطيق أن أنسج غيرَ ما ترونه من أساليبي المشوشة، فأعترف وأنادي بأعلى صوتي: بأني عاجز، قاصر في الإفهام. لكن أقول تحديثا بالنعمة وأداءً للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أوأتيقن عين اليقين أوعلم اليقين.

ورابعا: لا تحسبنَّ أن ما أكتبه شيء مضغَتْه الأفكارُ والعقول. كلا! بل فيضٌ أُفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضا شيئا سيالا تذوقه القلوب وهويزول. كلا! بل أنوارٌ من حقائقَ ثابتةٍ انعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ ونفسٍ عمي.

وخامسا: إني ما أدري كيف صار عقلي ممزوجا بقلبي، فصرت خارجا عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين، فإن وافقتُهما «فبها ونعمت»، وإن خالفتُ في كلامي أيّ السبيلين منهما فهومردود عليّ.

وسادسا: لا تطلب في آثاري انتظاما وانسجاما ووضوحا، لأنها تقيِّد وتلخّصُ مشاهداتي في تحولات غريبة ومجرَّبات نفسية مختلفة، مع أمور أخرى، لواطّلعتَ عليها لعذّرتني.

وسابعا: لا تقل: إذا لم أدرِ الكلَّ، لا أُريد الكلَّ.. فإذا كنتَ في بستان أتترك كل الثمرات إن لم تأكل كلها.

وثامنا: إن ما يصادفك في المسائل من صورة البرهان والاستدلال ليس برهانا حتى يقالَ: فيه نظر! بل مبادئ حدسية قُيّدت وعُقدت واستُحفظت بأنوار اليقين المُفاضة من القرآن الكريم.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين على رحمته على العالمين برسالة سَيد المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

اعلم أن العالمَ بجميع أنواعه من طبقات الغيب والشهادة يشهد بأنه: «لا إله إلَّا هو» إذ التساند بينها هكذا يقتضي.. وبجميع أركان جميع أنواعها من المنظومة الشمسية وغيرها تشهد بأنه: «لَا رَبَّ إلَّا هو» إذ التشابه مع التناظر هكذا يقتضي.. وبجميع أعضاء جميع أركانها من أرضنا وغيرِها تشهد بأنه: «لا مَالِكَ إلَّا هو» إذ التماثل مع اتحاد السكة هكذا يقتضي.. وبجميع أجزاء جميع أعضائها من طوائف النباتات وقبائل الحيوانات تشهد بأنه: «لا مُدبِّر إلَّا هو» إذ التعاون مع الاشتباك هكذا يقتضي.

وبجميع جزئيات جميع أجزائها تشهد بأنه: «لا مُربّيَ إلَّا هو» إذ توافق الأفراد في أساسات الأعضاء يصرّح باتحاد القلم وبأن المربّي واحدٌ، وتمايزُها في الصور المنتظمة ينصّ على أن الكاتب مختارٌ حكيم.. وبجميع حُجيرات جميع جزئياتها تشهد بأنه: «لا مُتَصَرف في الحقيقةِ إلَّا هو» ولا تصرفَ إلّا تحت أمره التكويني؛ إذ لولم يتحد لَلَزم وجود متصرِّفين غير متناهين، مع أنها أضدادٌ أمثال ومع أنها مستقلين أُسراءُ، ومع أنها مطلقين مقيَّدين مع محالات أُخر كثيرة.. وبجميع ذرّات جميع حُجيراتها تشهد: بأنه: «لَا نَاظِمَ إلَّا هو» إذ اتحّاد الخيط بين الجواهر الفردة هكذا يقتضي.. وبعموم أثير ذَراتها تشهد بأنه: «لا إلهَ إلَّا هو» إذ بساطةُ الأثير وسكوته وانتظاره وسرعة امتثاله لأوامر الخالق هكذا يقتضي.

اعلم أنّه لا حقَّ لأحدٍ في التشكي والاعتراض على صانع العالم؛ إذ في إرضاء الفرد المشتكي إغضابُ أُلوفِ حِكَمٍ متدلية في نظام مقتضٍ لكسر هوس ذلك الفرد ﴿وَلَو اتَّبَعَ الْحَقُّ اَهوٓاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمٰوَاتُ وَالْاَرْضُ﴾ (المؤمنون:71).

فيا أيها المشتكي! مَن أنت حتى تعترض وتصيّر هوسَك الجزئي مهندسَ كليّات الكائنات، وتجعل ذوقَك الفاسد مقياسَ درجات النِعم؟ وما يدريك لعلّ ما تراه نِقما عينُ النِعَمِ؟ ومَن أنت حتى يُغيَّرَ حركةُ دواليب العالم و«جرخ الفلك» لتسكين هوسِك الذي لا يوازي جناح البعوضة، ولا يملأ نواةَ التينة؟ لكن لك أن تشتكي إليه، لا منه؛ إذ لك منك حَبَّة من صُبرة، والمملوك لا يملك. فاعرف حدَّك ولا تجاوز طورَك.

اعلم أن مَن يتصرف في حُجيرة من عضومن جسد، لابد أن يتصورَ الجسدَ أولا، ثم يتصرّفَ لنظر نسَب الجزء إلى نقوش الكلّ ووضعيته. فالتصرف في الحجيرة تحت أمر خالق الكل البتة.

اعلم أن من يحفظ بيضات الهوام والسمك، وبذورَ الحشرات والنباتات، حفظا رحيما نظيما حكيما، كيف يليق بحفيظيته وحكمته أن يهمل ولا يحفظ أعمالَك التي هي نواتات لأشجارٍ مثمرة في الآخرة، وأنت حاملُ الأمانة وخليفةُ الأرض؟ مع أن شدّة حسّ حفظ الحياة في كل حي، وشدّةَ حسّ التأليف للبقاء والإدامة بين المتباينات المجتمعة يدلان بالحدس الصادق على أن الوجود ينجرّ إلى البقاء الأبدي بتجلي اسم «الحي الحفيظ الباقي».. وأيضا رمزٌ من القدَر الإلهي إلى أن في الفاني ما يبقى.

اعلم أن من يحفظ بذر التينة مثلا في الأطوار ويحميه في الأدوار ويصونه عن الانحلال ويحفظ في تلك البذيرة لوازمات شجرة التينة بكمال الاهتمام والمحافظة، وهكذا سائر النباتات والحيوانات.. لا يهمل -ذلك الحفيظ- البتةَ أعمالَ البشر خليفة الأرض بالضرورة وبالحدس الصادق.

اعلم أن المعنى يبقى واللفظ يتبدل، واللب يبقى والقشر يتمزق، والجسد يبقى واللباس يتخرّق، والروح يبقى والجسد يتفرق، و«أنا» يشبّ والجسد يشيب، والواحد يبقى والكثير يبلى، والوحدة تدوم والكثرة تتمزق، والنور يبقى والمادة تتحلل. فالمعنى الذي يبقى من أول العمر إلى الآخر، مع تبديله لأجسادٍ، وانتقالِه في أطوار، وتدحرجِه على أدوار مع محافظة وحدانيته، يدل على أنَّه يتخطى على الموت أيضا وينسلّ من كلاليبه، متشققَ الجسد، عريان الروح، سالما في طريق الأبد. وشدّة دستور الحفظ والمحافظة في الماديات التي الأصلُ فيها الفناء، تدل بالحدس القطعي وبالطريق الأَولى على جريان ذلك القانون الباقي في المعنى والنور والروح الواحد البسيط، التي الأصلُ فيها البقاء.

اعلم أن عظمة الألوهيّة وعزّتَها واستقلالَها تستلزم دخولَ كلِّ شيء -مطلقا: عظيما أوحقيرا، أعظمَ الأشياء وأخَسَّها- تحت تصرفها. فخستُك وحقارةُ أحوالك لا تستلزم خروجَك. إذ بُعدُك لا يستلزم بعدَه، وحقارة صفتك لا تستلزم حقارةَ وجودك. وتلوث وجه المُلك فيك، لا يستلزم تلوثَ ملكوتك.. وكذا لا تستلزم عظمةُ الخالق خروجَ الحقير عن تصرفه، إذ العظمةُ الحقيقية تستلزم الإحاطةَ، والانفرادَ في الإيجاد.

اعلم أن المادي الكثيف كلّما تعاظم تباعدَ عن الدقائق والخفايا وتقاصر يدُه عنها. وأما النور فكلّما تعاظم وتعالى كان أتمَّ نفوذا في الخفايا والدقائق. وكلما كان النور ألطفَ كان أكشفَ لباطن الشيء كشعاع «رونتكن». فإذا كان هذا هكذا في الممكن المسكين والكثرة المشوشة، فكيف بنور الأنوار من طرف الوجوب والوحدة العالِمِ بالأسرار ومدبّر الليل والنهار؟ فعظمتُه تستلزم الإحاطةَ والنفوذ والشمول.

اعلم وانظر إلى كمال مراعاة القرآن ومماشاته وتأنيسه لأفهام جمهور العوام الذين هم الأكثر المطلق؛ إذ يَذكر في المسألة ذاتِ الدرجات الدرجةَ القريبةَ إليهم، والصحيفةَ الواضحة لنظرهم، وإلّا لزم أن يكون الدليل أخفى من النتيجة. فالقرآن يذكر الأشياء الكونية للاستدلال على صفات الخالق جلّ جلاله. فكلما كان أظهرَ لفهم الجمهور كان أوفق للإرشاد.

مثلا: يقول:

﴿وَمِنْ اٰيَاتِه خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ﴾ (الروم:22) مع أن خلفَ طبقة الألوان مسافاتِ تعيّناتِ الوجهِ كما أُشير إليها في «ذرّة» ويقول: ﴿اِنَّ في خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَاٰيَاتٍ﴾ (آل عمران:190) مع أن تحت صحيفة الليل والنهار المقروءة بأول النظر عجائبَ نقوشِ تحريكِ الأرض على نفسها وتدويرها حول الشمس. ويقول: ﴿وَالْجِبَالَ اَوْتَادًا﴾ (النبأ:7) مع أن تحت ما يُرى من صورة سفينة الأرض وخيمتها المرساة المربوطة بالعمد والأوتاد تسكينَ غضب الأرض التي ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (الملك:8) بسبب الهرج والمرج في بطنها وإسكات غضبها بخلق الجبال فتتنفس الأرضُ من منافذها، فتهتز بالزّلزلة فقط، بدل التمزق لولا الجبال، وتحت هذه الصحيفة أيضا جعل الجبال مخازنَ الماء ومشّاطةَ الهواء وحاميةَ التراب من استيلاء البحر والتوحل. وهذه العناصر أوتادُ حياة الحيوان، الذي الناطق منه «وتد» الدنيا. فقس على هذه أمثالها.

ومن هذا السر ترى الشريعةَ تعتبر رؤيةَ الطلوع والغروب، دون الحساب الحقيقي.. ومن هذا السر أيضا التردادُ للتثبيت، والتكريرُ للتقرير في القرآن الحكيم.

اعلم أن حقائق الآيات أوسع بمراتبَ من خيالات الأشعار، فتنـزّهتْ عن الشعرية. والمتكلمُ خلف الآيات يبحث عن شأنه وفعله، وفي الشعر فضوليٌّ يبحث عن غيره. والقرآن الباحث عن العاديّات في الجملة خارقٌ للعادة، والشعر الباحث عن خوارق العادات في الأكثر عادي.

اعلم أن مرايا وحدة الخالق وصحائفَ شواهدِها متعدّدةٌ متنوعة متداخلة متحدة المركز غيرُ محدودة؛ فتنوُّر واحدٍ في النظر المتبصر يستلزم تنوّرَ الكل، وبفتح واحدٍ يمكن بالدّخول فتحُ الكل، دون العكس؛ إذ انسدادُ واحد لاسيما الأدنى لا يستلزم انسداد الكل. مع أن النفسَ الأمارة بتعليم الشيطان تكذِّب الأصلَ الصادق وتصدّق بالعكس الكاذب.

اعلم أنه كما لا يمكن أن يكون كاتبُ الكلمة غيرَ كاتب الحرف، وكاتب السطر غيرَ كاتب الصحيفة، وكاتُبها غيرَ كاتب الكتاب.. كذلك لا يمكن أن يكون خالقُ النملة غيرَ خالق جنس الحيوان، وخالقُه غيرَ خالق الأرض، وخالقُها غيرَ رب العالمين.

ومن إشارات الربوبية المطلقة العامة كتابةُ كلمةٍ أوكلام أوكتاب في حرف كبير، لرمز عمومِ الشعور والإحاطة كخلق السمك في حرف البحر، وخلق دابة الأرضة في سطر الشجر، وخلقِ الحيوان في نقطة الأرض، والنملِ في كل موضع يُظَن أنه جامد مهمل متروك، حتى إن بعض المصنوعات كصورة «يس» كتبت فيها سورة «يس».

اعلم أن هذه النجومَ والشموس متماثلة متساوية في الجملة، فليس ربُّها منها بالضرورة، وربُّ واحدِها ربُّ كلِّها وربُّ كل شيء.

……

اعلم أن الفردَ الإنسان جماعةٌ من المكلَّفين، ولكل فردٍ من حواسه -ظاهرا وباطنا- عبادةٌ تخصُّه، وضلالةٌ تفسِّقُه. فكما أن سجدةَ الرأس لغير الله ضلالة، كذلك سجدةُ خيال الشعراء بالحيرة المفرطة والمحبة الوالهة في مدح غير الله -لا بحساب الله- أيضا ضلالةٌ يَفْسُق بها الخيالُ. وقس على الخيال إخوانَه.

اعلم أن من أَعمّ أسباب ضلالة فكر البشر؛ ظَنَّ المألوفِ معلوما، مع أن الألفةَ تتضمّن الجهلَ المركب، فبحُكمِ الألفة لا يتأملون في العادّيات المستمرة مع أنها كلَّها خوارقُ معجزاتِ القدرة، وما يمُعنون النظر إلا في ما فوق العاديّات من نوع التجليات السيالة، كمَن لا ينظر من مجموع البحر -مع ما في بطنه من الحيوانات- إلّا إلى تموّجاته بالهواء وتلألئه بشعاعات الشمس، فيستدل بهذين الحالتين فقط على عظمة مالك البحر وصانعه جلّ جلاله.

اعلم أن أكثر معلومات البشر الأرضية ومسلّماته، بل بدهياته مبنية على الألفة، وهي مفروشة على الجهل المركب. ففي الأساس فسادٌ أي فساد. فلهذا السر توجِّه الآياتُ أنظارَ البشر إلى العاديات المألوفة، وتثقب نجومُ القرآن حجابَ الألفة، ويأخذ بأُذُن البشر ويُميل رأسه، ويريه ما تحت الألفة من خوارق العادات في عين العاديات.

اعلم أن المناسبة حتى المكالمة لا تستلزم التساوي ولا التداني ولا التشابه؛ فقطرة المطر وزهرة الثمر لهما مناسبة ومعاملة مع الشمس. فيا أيها الإنسان! لا تحسبن أن حقارتَك تسترك عن نظر عناية خلاق الكون.

اعلم أن ما اشتهر من وقوع بسط الزّمان وطيّهِ لبعض الأولياء كما وقع للشعراني في مطالعته للفتوحات المكية، في يوم واحد مرتين ونصفا، كما في آخر «اليواقيت والجواهر» لا ينبغي أن يُستغرَب فيُستَنكر؛ إذ فيما تراه له نظائر تقرّبه إلى الفهم؛ ألا ترى أنك ترى في الرؤيا كأن مرَّ عليك سنة في ليلة بل في ساعة. ولوقرأتَ القرآن بَدَلَ ما جرى عليك، وما شاهدتَه من الأقاويل والأفاعيل لقرأت ختماتٍ في تلك الساعة. ففي انكشاف هذه الحالة لأهل الكشف في اليقظة ينبسط الزمان، ويطول العمر، ويتقرب إلى دائرة الروح التي لا يقيّدها الزمان. ولوصُوّرت «ساعة» لها أميالٌ متداخلة لأجل أن تكون ميزانا تشير إلى درجات سرعة الحركات الموجودة في مصنوعات الله، لا سيما لبيان درجات سرعة الصوت، والضياء، و«الألكتريق»، والخيال، ونور العقل، والملَك، والروح. فمِيلٌ يعدّ الساعات وميلٌ الدقائقَ، وميل الثوانيَ إلى الميل الذي يعدّ العاشرات، مع محافظة النسبة بين كلّ آنين من معدودِ أول الأميال إلى آخرها. ففي تلك الساعة مدارُ الميل العادّ للساعات المشيرِ إلى أبطأ الحركات، لوكان مثل دائرة ساعتك هذه، لكان مدارُ الميل العادّ للعاشرات المشيرة لأسرع الحركات مثل مدار زُحل بل أوسع، فافرض أحدا ركب ميلَ الساعات وواحدا امتطى ظهر ميل العاشرات، فانظر كَم بين ما رأَيَا وقَطَعا، فقد انطوى لهذا ما انبسط لذاك بدرجةٍ تكون ثانيةُ ذا سنةَ هذا. ولأن الحركةَ كجسم الزمان أوالزمان كلونِها، فما يجري فيها، يجري فيه أيضا. فلِمَ لا يجوز للولي الغالبِ روحُه على جسمانيّته أن يُصدر أفاعيلَه على مقياس سرعة الروح والخيال؟

اعلم أنه قد يستعظم المرءُ النتيجةَ وهي التوحيد المحض الخالص، ولا يسعها ذهنُه الكاسد، أولا يتحملها خيالُه الفاسد. فيشرع يردّ براهينَها الصحيحة القاطعة، ويتعلل بأن نتيجةً بهذه العظمة لا يمكن أن يقبَلها ويقيمَها هذا البرهان ولوكان في غاية القوة. فالمسكين لا يعرف أن قيّومَ النتيجة الإيمانُ، وما البرهان إلّا مَنفَذٌ ينظر إليها.. أومكنسة يطهّر الأوهامَ عنها. مع أن البرهان ليس واحدا، بل لها براهين عدد رمال الدهناء، وبمقدار حصى البطحاء وقطرات الأمطار وأمواج البحار.

اعلم أن من هيّأ البطيخَ والتفاح لأكلك، لا بد أن يكون أعلمَ بأكلك منك، وخبيرا بذوقك الوجداني الذي لا يدريه غيرُك. فأين العروق والأغصان الجامدة الميتة من هذا العلم؟ فما الأسبابُ والأغصان إلاّ موازيبُ الرحمة ومَسيلاتُ النعمة.

* * *


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «أوقاف» بإستانبول سنة 1340هـ (1922)م