أحداث مهمة في حياة النُّورْسِيّ

أحداث مهمة

في حياة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ

حسب التسلسل التاريخي

سنة 1876-1877م/1294هـ

– ولادته وأيام طفولته.

سنة 1885م/1303هـ

– خطواته الأولى نحو العلم.

– تلقيه العلم في قرية «تاغ».

سنة 1888م/1306هـ

– تَتَلْمُذُهُ على «الشيخ السيد نور محمد».

سنة 1891م/1308هـ

– رؤيا الرسول ﷺ في المنام في حضن والديه.

– الدراسة الحقة لدى الشيخ الجلالي في «بايزيد».

سنة 1892م/1309هـ

– امتحانه العلمي لدى «الملا فتح الله».

– مناظرته للعلماء في «سعرد».

– منحه لقب بديع الزمان.

سنة 1893م/1310هـ

– مكوثه في «شيروان».

سنة 1894م/1311هـ

– انزواؤه في «تيلّو».

– تحدّيه ظلم «مصطفى باشا».

– مناظرته العلماء في الجزيرة.

– ذهابه إلى «ماردين» واهتمامه بالسياسة.

سنة 1895م/1312هـ

– نفيه من ماردين إلى «بتليس».

سنة 1897م/1314هـ

– ذهابه إلى «وان» بدعوة من الوالي.

– اطلاعه على العلوم الحديثة في مضيف الوالي وحفظه لمتون تسعين كتابا.

– اطلاعه على تصريح وزير المستعمرات البريطاني.

– سقوطه من قلعة «وان».

سنة 1899م/1316هـ

– حدوث الانقلاب الفكري

سنة 1906م/1334هـ

– خدمة القرآن

سنة 1907م/1325هـ

– مجيؤه إلى إسطنبول بغية إنشاء مدرسة الزهراء.

– إعلانه عن المناظرة مع العلماء في خان الشكرجي.

– أجوبة القائد الياباني.

– تقديمه طلبا للسلطان عبد الحميد حول إصلاح الأوضاع في المنطقة الشرقية وإنشاء مدرسة الزهراء.

– سوقه إلى مستشفى المجاذيب.

– محاورته الطبيب.

– محاورته مع وزير الأمن «شفيق باشا».

سنة 1908م/1326هـ

– إعلان المشروطية الثانية في 23/7/1908.

– خطابه لشرح المفهوم الصحيح للحرية والمشروطية.

– اجتماعه بـ«عمانوئيل كراصو».

– لقاؤه الشيخ «بخيت».

– ردّه لما كُتب في الصحف.

– تهدئته المشاعر المتهيجة في مسرح الفرح.

– تهدئته الحمالين حول مقاطعة البضائع النمساوية.

سنة 1909م/1327هـ

– تهدئته طلاب الشريعة في ميدان بايزيد في 27/2/1909.

– تأسيس جمعية الاتحاد المحمدي في 5/4/1909 – تنبيهه أرباب الصحافة.

– حادثة 31 مارت 1325 رومي في 13/4/1909م.

– تهدئته الفوضى الناشئة من الأحداث وإرجاعه ثمانية أفواج عسكرية إلى الطاعة.

– سوقه إلى المحكمة العسكرية العرفية بسبب أحداث 31 مارت وبراءته منها.

سنة 1910م/1328هـ

– مغادرته إسطنبول إلى «وان».

– محاورته مع البوليس الروسي في «تفليس».

– تجواله بين العشائر وتأليف رسالة «المناظرات».

سنة 1911م/1329هـ

– ذهابه إلى الشام شتاءً.

– إلقاؤه خطبة في الجامع الأموي.

– عودته إلى إسطنبول عن طريق بيروت، إزمير.

– مرافقته السلطان رشاد في سياحته لرومَلي 7-26/6/1911.

– وضعه الحجر الأساس لمدرسة الزهراء في «وان».

سنة 1913م/1331هـ

– سعيه دون قيام «الشيخ سليم» بالثورة.

– تصديه لعصابات الأرمن.

– تدريبه لطلابه الفدائيين مع الاستمرار في النشاط العلمي في «خورخور».

سنة 1915م/1333هـ

– رؤيا صادقة حول إعجاز القرآن.

– تشكيله فرقة المتطوعين.

– في خضم الحرب مع الروس في جبهة القتال.

سنة 1916م/1334هـ

– تأليفه «إشارات الإعجاز».

– سعيه لإنقاذ الأهالي.

– سقوطه أسيراً بيد الروس في 2/3/1916.

– سوقه إلى «قوصتورما» واستمراره على دروس الإيمان هناك.

– أول صحوة روحية في مسجد للتتار.

سنة 1918م/1336هـ

– هروبه من الأسر وعودته إلى إسطنبول في 17/6/1918.

– تعيينه عضواً في دار الحكمة الإسلامية في 13/8/1918.

سنة 1919م/1337هـ

– خطاب في رؤيا «أيلول» 1919م.

– بقاؤه مع عبد الرحمن في جاملجة.

– تجدد الصحوة الروحية.

سنة 1920م/1338هـ

– احتلال الإنكليز لإسطنبول في 16/3/1920.

– نشره «الخطوات الست» بالتركية والعربية.

– اعتزاله في «صاري ير» بإسطنبول في أواسط 1920م.

– تركه الدوام في دار الحكمة الإسلامية.

سنة 1921م/1339هـ

– جوابه للكنيسة الإنكليكية.

– جوابه للفتوى الصادرة من المشيخة ضد حركة التحرير.

سنة 1922م/1340هـ

– انزواؤه في «تل يوشع» وتحوله إلى سعيد الجديد بانكشاف روحاني وانقلاب قلبي وفكري.

– مجيؤه إلى أنقرة في 19/11/1922.

– تأملاته على قلعتها.

– استقباله من قبل مجلس النواب «المبعوثان» في22/11/1922.

سنة 1923م/1341هـ

– نشره البيان إلى النواب في 19/1/ 1923 نشره لرسالة «حباب» وذيلها.

– مغادرته أنقرة بعد 30/4/1923.

– عودته إلى «وان» بداية حزيران.

سنة 1924م/1342هـ

– قضاؤه سنتين في جبل أرك.

سنة 1925م/1343هـ

– تصدّيه للثورات.

– جوابه للشيخ سعيد بيران «البالوي».

– نفيه من وان في 25/2/1925 إلى بوردور.

سنة 1926م/1344هـ

– نيسان- مايو، يؤتى به إلى إسطنبول.

– نشوب الحريق في المشيخة الإسلامية.

– أخذه إلى «بوردور» عن طريق إزمير أنطاليا.

– تأليفه «المدخل إلى النور» في بوردور.

سنة 1927م/1345هـ

– 1/3/1927 يوم الثلاثاء وصوله إلى بارلا قبل حلول شهر رمضان بثلاثة أيام.

سنة 1929م/1347هـ

– التعدي الأول على مسجده.

سنة 1932م/1350هـ

– مداهمة مسجده في 18/7/1932.

سنة 1934م/1352هـ

– أخذه من بارلا إلى إسبارطة «أواسط الصيف».

سنة 1935م/1353هـ

– أخذ طلاب النور من أماكنهم ووضعهم في التوقيف 25/4/1935.

– مجيء وزير الداخلية في 27/4/1935، وسوق الموقوفين إلى أسكي شهر.

– دفاع الأستاذ وقرار محكمة الجزاء الكبرى في 19/8/1935 بالحكم عليه بسبب «رسالة الحجاب».

سنة 1936م/1354هـ

– الإفراج عنه في 27/3/1936 ونفيه إلى قسطموني للإقامة الإجبارية.

سنة 1943م/1362هـ

– مداهمة بيته ثلاث مرات وتوقيفه في 20/9/1943 وإرساله إلى أنقرة.

سنة 1944م/1363هـ

– محكمة دنيزلي وتدقيق رسائل النور من قبل الخبراء.

– 15/6/1944 إعلان براءة الأستاذ.

– بقاؤه في دنيزلي شهرين.

– إقامته إجبارياً في أميرداغ بأمر من أنقرة في أواخر آب.

– منعه الذهاب إلى المسجد في أميرداغ.

سنة 1948م/1367هـ

– 23/1/1948 سوقه وطلابه إلى محكمة آفيون.

– 6/12/1948 الحكم عليهم.

سنة 1949م/1368هـ

-20/9/1949 إخلاء سبيلهم من سجن آفيون.

-20/11/1949 إعادة الأستاذ إلى أميرداغ في 2/12/1949.

سنة 1950م/1369هـ

– إرساله برقية تهنئة إلى رئيس الجمهورية لمناسبة فوزهم في الانتخابات في 14/5/1950.

– 16/6/1950 رفع الحظر عن الأذان الشرعي، وتهنئته الطلاب والعالم الإسلامي به.

سنة 1951م/1370هـ

-21/2/1951 رسالة إلى الفاتيكان مع إرسال بعض رسائل النور.

-20/11/1951 ذهابه إلى أميرداغ والبقاء فيها أسبوعاً.

-29/11/1951 إلى أسكي شهر والإقامة في فندق يلدز لمدة شهر ونصف الشهر.

– 29/12/1951 إلى إسبارطة.

سنة 1952م/1371 هـ

– 15/1/1952 مجيؤه إلى إسطنبول لحضور محكمة حول «مرشد الشباب» والجلسات في 22/1/1952، 19/2/1952، 5/3/1952.

سنة 1953م/1372هـ

– عودته إلى أميرداغ أوائل نيسان.

– براءته من قضية «مرشد الشباب».

– مجيؤه إلى إسطنبول لأجل الذهاب إلى صامسون للمحكمة. والبقاء فيها ثلاثة أشهر تقريباً.

– مغادرته إسطنبول أواسط الصيف إلى أسكي شهر ومنها إلى أميرداغ ومنها إلى إسبارطة فبارلا.

– سفرات متقطعة بين إسبارطة – بارلا – إسبارطة – أميرداغ وأحياناً أفيون وأسكي شهر.

سنة 1956م/1375هـ

– 23/5/1956 براءة رسائل النور من محكمة آفيون.

سنة 1958م/1377هـ

– قضية أنقرة.

السفرات الوداعية

سنة 1959م/ 1378هـ

– 2/12/1959 من أميرداغ إلى أنقرة والعودة في اليوم التالي إلى أميرداغ.

– 3/12/1959 إلى إسبارطة والعودة بعد 15 يوماً إلى أميرداغ.

– 19/12/1959 إلى قونية والعودة منها إلى إسبارطة ثم إلى أميرداغ.

-20/12/1959 مرة ثانية إلى قونية وتركها بعد صلاة الصبح إلى أميرداغ.

-31/12/1959 من أميرداغ إلى أنقرة.

سنة 1960م/ 1379هـ

– 1/1/1960 إلى إسطنبول.

– 3/1/1960 عودته إلى أنقرة «الدرس الأخير».

– 5/1/1960 مقابلة مراسل صحيفة «تايمس» اللندنية.

– 6/1/1960 ذهابه إلى قونية ومن هناك إلى إسبارطة و«أميرداغ».

– 11/1/1960 عودته إلى أنقرة وتوصية الحكومة ببقائه «إجباريا» في أميرداغ.

– 20/1/1960 من أميرداغ إلى إسبارطة ومنها إلى أفيون وعودته إلى أميرداغ.

– 19/3/1960 من أميرداغ إلى إسبارطة.

– 20/3/1960 بقاؤه في إسبارطة يومين وتوجهه إلى أورفة.

– 21/3/1960 إلى قونية – أطنة – غازي عنتاب.

– 22/3/1960 أهالي أورفة يزورونه.

– 23/3/1960 الساعة الثالثة ليلاً توفاه الله وتغمده برحمته الواسعة.

– 24/3/1960 مراسيم الدفن في أورفة.

– أوائل الشهر السابع نُبش قبره من قبل السلطات وأُخذ جثمانه إلى مكان مجهول.

* * *

 

 

نظرة الأستاذ النُّورْسِيّ إلى سيرته الذاتية

نظرة الأستاذ النُّورْسِيّ إلى سيرته الذاتية

حياتي بذرة لخدمة القرآن

«لقد تحقق لديّ يقيناً أن أكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيـري، إذ أُعطي لها سيرٌ معينٌ ووُجّهت وجهةً غريبةً لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بـمثابة مقدمات تمهيدية لبيان إعجاز القرآن بـ«الكلمات»([1]) حتى إنه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب وعزلي عن الناس -دون سبب أو مبـرر وبـما يخالف رغبتي- أُمضي أيام حياتي في قرية نائية خلافاً لـمشربي وعازفاً عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتُها سابقاً.. كل ذلك ولّد لي قناعة تامة لا يداخلها شك من أنه تهيئة لي وتحضير للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لا شائبة فيها.

بل إنني على قناعة تامة من أن المضايقات التي يضايقونني بها في أغلب الأوقات والعنت الذي أرزح تحته ظلماً، إنما هو لدفعي -بِيَد عناية خفية رحيمة- إلى حصر النظر في أسرار القرآن دون سواها. وعدمِ تشتيـت النظر وصرفه هنا وهناك. وعلى الرغم من أنني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وُهبتْ روحي مجانبةٌ وإعراضٌ عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم.

فأدركت أن الذي دفعني إلى ترك المطالعة -التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة- ليس إلّا كون الآيات القرآنية وحدها أستاذاً مطلقاً لي.([2])

نعم، إن بذرة شجرة الصنوبر التي هي بحجم حبة الحنطة تكون منشأً لشجرة صنوبـر ضخمة؛ فالقدرة الإلهية تخلق تلك الشجرة العجيبة من تلك البذرة، وقد لا توجد للبذرة إلّا حصة واحدة من مليون حصة من الخلق، حيث سَطّر فيها قلمُ القدر فهرساً معنوياً لتلك الشجرة. فلو لم يُسـند الأمر إلى القدرة الإلهية للزم وجود مصانع تَسَعُ مدينة كاملة كي تتكون تلك الشجرة العجيبة بأغصانها المتشعبة.

وهكذا، فإن إحدى دلائل عظمة الله وقدرته سبحانه هو أنه يخلق من شيء صغير جداً كالذرة، أشياء عظيمة عظمة الجبال. وبمثل هذا المثال أُعلنُ باقتناع تام وبخالص نيتي ولا أتكلف التواضع ونكران الذات، فأقول: إن خدماتي وأحداث حياتي قد أصبحت في حكم بذرة، لكي تكون مبدأً لخدمة إيـمانية جليلة، قد منحت العناية الإلهية منها في هذا الزمان شجرة مثمرة برسائل النور النابعة من القرآن الكريم.

فأُقسم لكم لتطمئنوا فأقول: إنني ما كنت أجد في نفسي قابلية ولا مزيّة ولا أهلية فائقة لتلك الخوارق التي مرّت في حياتي، لذا كنت أتقلب في حيرة. بل ما أجد في نفسي كفاءة لتدبير أمورها وارتباطها بعلاقات بالمجتمع فكيف لها بدهاء خارق وولاية خارقة!

نعم، لقد ظهرت حالاتٌ جلبت الأنظار إليّ، ولكنها كانت خارجة عن إرادتي واختياري، حتى بدت كأنها نوع من جلب الإعجاب، وما كانت إلّا من قبيل عدم تكذيب حسن الظن الذي كان يحمله الناس نحوي.

ولكن لما كنت أجهل الحكمة في عدم كوني في الحقيقة على ما يظنه الناس بي، ولا أفيد شيئا للدنيا، وها قد أصبحتُ موضع توجه الناس بما يفوقني بألف مرتبة ومرتبة، لذا كنت أتلقى هذا الأمر باعتباره خلافاً للحقيقة كليا.

ولكن بفضل الله وكرمه، وألف حمد وشكر له، إذ قد أنعم عليّ فهم شيء من حكمة ذلك الأمر، في أواخر أيامي بعد قضاء ما يقرب من ثمانين سنة من العمر…

فمثلاً: إن هذا المسكين سعيداً، برغم حاجته الشديدة إلى الكتابة وجودة الخط، وانشغاله بها منذ سبعين سنة، واضطراره إلى تصحيح مأتي صفحة في اليوم الواحد أحيانا، لا يملك من الخط ما يتعلمه طفل ذكي في العاشر من العمر في عشرة أيام. هذا الأمر محيّـر حقاً، إذ لم يكن سعيد محروماً من القابليات كلياً، فضلا عن أن أشقاءه يجيدون الخط وحسن الكتابة.

فأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن حكمة بقائي نصف أُمّي برداءة الخط وأنا في أشد الحاجة إليه هي: أنه سيأتي زمان لا يمكن للقدرات والقوى الشخصية والجزئية أن تقاوم وتصدّ هجوم أعداء رهيبين، فيبحث «سعيد» بحثا حثيثا عن الذين يملكون خطاً جيداً ليشركهم في خدمته فيشكلون معاً آلاف الأقلام التي تحوّل تلك الخدمة الشخصية الجزئية إلى خدمة كلية عامة قوية، إذ يجتمعون حول تلك البذرة، بذرةِ النور، اجتماعَ الماء والهواء والنور، ويمدّون تلك الشجرة المعنوية بالعون. ففضلا عن هذه الحكمة، فإن إذابة أنانيته في حوض الجماعة المبارك كإذابة قالب الثلج نيلاً للإخلاص الحقيقي، حكمةٌ أخرى تدفع لخدمة الإيمان.([3])

إنني ضمرت ضمور البذرة النابتة، وأعتقد أن الأهمية والقيمة والحيوية والشرف والمنـزلة كلها قد سارت إلى رسائل النور التي نـمت من تلك البذرة، ولأجل ذلك أُظهر قيمة رسائل النور وأهميتها إظهاراً لإعجاز القرآن».([4])


[1] أي كليات رسائل النور.

[2] المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون.

[3] الملاحق، ملحق أميرداغ 2.

[4] الشعاعات، الشعاع الثامن، الرمز الثامن.

مقدمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هذه السيرة الذاتية

الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لعل القارئ الكريم يشاركني الإحساس بأن كتابة سيرة الحياة ولا سيما «السيرة الذاتية» من الكتابات الصعبة التي ينأى عنها كثير من الكتّاب، لما لها من التـزامات وأساليب ومقتضيات خاصة بـها. ومع هذا فقد تـناول كثير من الكتاب والباحثين حياة الأستاذ النُّورْسِيّ الحافلة بالأحداث، بأساليب شتى، منهم من التـزم السرد التاريخي فحسب وآخرون فضّـلوا الأسلوب الروائي ومنهم من اختار الأسلوب العلمي الأكاديمي وهكذا.

وأول من أقدَم على كتابة تاريخ حياة الأستاذ ابنُ أخيه وتلميذه المخلص عبدالرحمن ونشره في كتيب في سنة 1919م.

وفي بداية الخمسينيات نشر طلاب النور الجامعيون بآلة الاستنساخ -الرونيو- وبالحروف العربية كتاباً بعنوان «وتشرق الشمس من تركيا على عالم العلم والعرفان». وأعقب ذلك ما كتبه الأديب التركي الشهيـر «أشرف أديب» عن حياة الأستاذ في سلسلة من المقالات في مجلته «سبيل الرشاد».

ثم قام طلاب الأستاذ النُّورْسِيّ ممن درسوا عليه ولازموه ملازمة الظل في السجون والمنافي، بكتابة تاريخ حياة أستاذهم وهو مازال بينهم، ثم عرضوا عليه ما كتبـوه، فأقرّ عملهم بعد قيامه بحذف كل ما فيه إطراء أو إشادة لشخصه. وبعد الحذف والتشذيب نشروه في سنة 1958 تحت اسم «تاريخجهءِ حياة» (أي تاريخ الحياة).

وقد برز بعد ذلك باحثون في هذا الميدان وكتبوا باللغة التركية أبحاثهم ودراساتهم، وغدت تلك الدراسات مصادر لا يستغنى عنها لدى الكتابة عن حياة الأستاذ، نخص منهم بالذكر الأخَوَين الكريمين «عبد القادر بَادِلّلي» و«نجم الدين شاهين أر»؛ فكتب الأول «حياة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ بصورة مفصلة» ([1])(Bediuzzaman Said-i Nursi, Mufassal Tarihce-i Hayatı) في ثلاثة مجلدات؛ وكتب الآخر: «جوانب مجهولة من حياة بديع الزمان»(Bilinmeyen Taraflariyle B.S.Nursi) ([2]) و«الشهود الأواخر» (Son Şahitler) في أربعة مجلدات. وقد ضم كل منهما إلى مؤلفاتهما الوثائق التاريخية والمستمسكات الرسمية والعلمية بعد أن تجشما عناء الأسفار الطوال في سبيل الحصول على المعلومات من منابعها الأصلية.

بيد أني في أثناء سيري في ترجمة «كليات رسائل النور» لاحظتُ، بل لمستُ لمس اليد أن الأستاذ النُّورْسِيّ قد سجّل أغلب الأحداث التي مرّت به أو مرّ بـها، بل حتى خواطره ومعاناته النفسية والروحية، ونظراته وآراءه وتحليلاته للأحداث، سجلها كلها في الرسائل إلا أنه نثرها نثراً بين ثناياها وضمّها بين فقراتها وعباراتها مستخدماً إياها وسائل في خدمة الإيمان وتحقيقِه في القلوب وترسيخِه في العقول. فلم تعد تلك الذكريات ذكريـات تاريخية عابرة، وإنما أصبحت أحداثاً متفاعلة مع الحياة والإيمان، وكذلك وسائلَ ودلائل وإشارات إلى مباحث الإيمان.

ومن هنا فقد آثرتُ أن أتبع منهجاً متميزاً في كتابة هذه السيرة، وهو التقاط تلك المتناثرات والمبثوثات من الخواطر والأحداث من بين سطور «كليات رسائل النور» البالغةِ ثمانية مجلدات ثم ترتيبها وتنظيمها حسب تسلسلها التاريخي.

ولعل السبب الأساس في اختيار هذا النمط الصعب من الكتابة هو جعل القارئ الكريم يواجه الأستاذ النُّورْسِيّ مباشرة ويستمع إليه بنفسه من دون أن يكون لي دخل في الأمر، وذلك لئلا أتدخل في مشـاعر القارئ وأحاسيسه، حيث إن الكاتب مهما حاول التجرد والموضوعية فإنه قد يضفي شيئاً من إعجابه بكلمات المدح والثناء على ما كتب وسجل.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أي مصدر من المصادر لا يرقى في مصداقيته مهما كان صائباً وصادقاً إلى ما سجّله الأستاذ النُّورْسِيّ عن نفسه.

وعلاوة على ذلك، أحببت أن أضع بين يدي القارئ الكريم باللغة العربية أكبر كمية ممكنة من المباحث والخواطر والأحداث والوثائق الصائبة، وفي الوقت نفسه أرفع عن كاهل الباحثين الذين يرغبون في كتابة حياة الأستاذ النُّورْسِيّ عناء البحث والتنقيب.

ولهذا فقد جعلت متن الكتاب كله من كلام الأستاذ نفسه مع فقرات من كتاب «تاريخجهء حياة» الذي أقرّه بنفسه، ونظمت كلها حسب التسلسل التاريخي. بينما أوردت في الهوامش ما يعزز المتن ويوضحه مما اقتبسته من المصادر التركية، بل أضفت في بعض المواضع ما سمعتُه مباشرة من تلاميذ الأستاذ النُّورْسِيّ الأحياء من أمثال: «مصطفى صونغور» و«بايرام يوكسل» و«محمد فرنجي» وآخرين، وما سمعه الباحثون ممن شاهدوه، فانتقيت من هذه المشاهدات والخواطر ما تَأيّد من قبل شهود كثيرين أو ما تواتروا عليه.

ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من محاسن ومثالب، فمن جملة محاسنه إعطاء القارئ أصدق تاريخ حياة للأستاذ النُّورْسِيّ وأنزهه حيث لا نُقحم أنفسنا في إبداء رأي أو تأويل عبارة مما يجعل البحث عن الأستاذ النُّورْسِيّ تعبيراً عن نفسه وليس تعبيراً عما يختلج في صدورنا من دواعي الإعجاب والانبهار الذي يستحقه، فلا دخل لي فيه من شيء إلّا التنـظيم والترتيب. لذا يظل القارئ حرّ التفكير بعيداً عن أحاسيس الكاتب ومشاعره من بداية الكتاب إلى نـهايته. فضلاً عن وجود كمية وافرة من المعلومات والخواطر بين يديه.

ولكن مع هذا هناك نقص سيلمسه القارئ في هذا الأسلوب، وهو أن الفقرات المأخوذة من كلام الأستاذ في رسائل النور أومن تاريخ حياته الذي أقرَّه، في صياغتين متباينتين، فمرة ترد بصيغة المتكلم وأخرى بصيغة الغائب. ولهذا اضطررت إلى وضع عنـاوين صغيرة أو جمل قصيرة وربما كلمة واحدة بين الفقرات بين معقوفين [ ] كي لا تنقطع سلسلة أفكار القارئ الكريم.

ولعل عملنا هذا لرأب الصدع ورفع النقص يكون وسيلة لدفع القارئ إلى إعمال الذهن وقراءة ما بين السطور والقيام بالتركيب والتحليل، متجاوزاً القراءة العابرة. فيكون عند ذلك من جملة المحاسن وليس من المثالب.

ولا شك أن البحث قد أخذنا للتطرق إلى خُطَب الأستاذ النُّورْسِيّ ومقالاته ومؤلفاته ورسائله ومرافعاته في المحاكم وغيرها من الأمور. لذا لجأتُ إلى أخذ نموذج واحدٍ أو بضع فقرات فحسب من النصوص الأصلية، مع ذكر مواضعها في الهامش ليتشوق القارئ إلى مراجعة النص الكامل في موضعه ولئلا نحرمه من مصاحبة الأستاذ النُّورْسِيّ بالإقتباسـات المطولة. وتسهيلاً للأمر وضعنا في مستهل بعض الفصول تمهيداً نلخص فيه ما سبق من الأحداث ليعينه على الربط وتذكّر تسلسل الأحداث.

ومما أعاقني في البحث هو تأريخ الحوادث، حيث يرد تارة حسب التقويم الرومي -الذي كان مستعملاً رسمياً في أواخر الدولة العثمانية- وتارة بالتاريخ الهجري وأخرى بالميـلادي. فاضطررت إلى تحويل التواريخ الموجودة في المصادر إلى التقويم الميلادي والهجري مما سبّب وجود بعض الاختلافات في الأشهر دون السنين.

وقد أشركتُ معي إخوةً أعزاء في ترجمة بعض المباحث، واقتبست كثيراً من كتاب: «ذكريات عن سعيد النُّورْسِيّ» من ترجمة ابني الحبيب «أُسيد». كما استفدت من الخرائط الموجودة في كتاب: /The Author of the Risale-i Nur Bediuzzaman Said Nursi/ للأخت الفاضلة «شكران واحدة» مترجِمةِ «كليات رسائل النور» إلى اللغة الإنكليزية. حفظهم الله جميعاً وأثابهم ثواباً جزيلاً.

وبعد الانتهاء من عملي وجدت أستاذ الأدب العربي الأخ الكريم «فاروق رسول يحيى» مترجم «كليات رسائل النور» إلى اللغة الكردية، بجنبى، مُعيناً لي بملاحظاته القيّمة وتصحيحاته الدقيقة. فجزاه الله عنا خيراً.

وكلّي أمل أن يحظى هذا العمل بالقبول عند الله سبحانه وتعالى مع اعترافي بنقائصـه وهفواته النابعة من قصر باعي في هذا الميدان. وأسأله تعالى أن يقيّض لهذا العمل في قابل الأيـام من هو جدير به فيتناوله كما وصفه الأخ الحبيب «أديب إبراهيم الدباغ» في رسالته إليّ حيث قال:

«أخي الحبيب!

ذكرت في رسالتك أنك تنوي كتابة سيرة ذاتية للأستاذ النُّورْسِيّ مستخلصة من تراثه الفكري والإيماني، وهو بلا شك عمل جيد سيتوِّج أعمالك العظيمة في التحقيق والتأليف والتـرجمة. لذا أقدِّر أنه سيكون مؤلّفاً متميزاً سيُحدث -أو ينبغي أن يُحدث- من التأثير في أوساط المثقفين والمفكرين ما هو أهله، ويلفت انتباههم بقوة إلى هذا الإمام الجليل وإلى تراثه الفكري العظيم.

أخي الحبيب!

أرجو ألّا تعتبرني فضولياً! فبحق الأخوّة التي بيننا أدعوك إلى أن تنأى بالكتاب عن أن يكون عادياً وتقليدياً. فالرجل الذي تترجم له لم يكن في يوم من الأيام عادياً أو تقليدياً في كل ما كتب وترك من تراث.

فالتأنّي التأنّي -أخي الكريم- لا تتعجل أبداً، فالكتاب الذي أتمنى من صميم قلبي أن تكتبه لا ينبغي أن يكون أكاديمياً بارداً فتقتله البرودة في مهده، صحيح إن العـلمية مطلوبة والحقائق تفرض نفسها فرضاً على المؤلف، ولكن لا بد للحقيقة من أن يتناولهـا قلم حارٌ وإلّا ظلت باردة غير قادرة على التحريك والتحفيز. فأنت -يا عزيزي- تتناول بقلمك شخصية حارة ملتهبة، تتفجر حيوية، وتتدفق أفكاراً حارة لاهبـة، فليكن قلمك مغموساً بهذا اللهب الإيماني النوراني لكي يلهب الأفكار وينير القلوب. ولربما سأكون إلى جانبك يوماً لأسهم معك في كتابة بعضٍ من فصوله…»([3])

والله نسأل أن يحقق رغبة أخي الكريم بل رغبتنا جميعاً ويهيئ لهذا العمل من هو أهل له ويوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلِّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

إحسان قاسم الصالحي


[1]() وقد رمزت لهذا المصدر بـ(ب).

[2]() وقد رمزت له بـ(ش).

[3]() وقد حقق المولى الكريم أمنيته الصادقة لخلوص نيته فكان إلى جانبي حيث قرأ الكتاب قراءة متفحصة وأبدى ملاحظاته السديدة قبل أن يغادرنا لتولي مهامه أستاذاً للأدب العربي في جامعة داغستان الخاصة.

تقديم الأخ الفاضل مصطفى صونغور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تقديم الأخ الفاضل مصطفى صونغور

مَن بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ الذي انتشرت دعوته في أنحاء العالم برسائله المسماة بـ«رسائل النور» والبالغة أكثر من مائة وثلاثين رسالة، وبجماعته «طلاب النور» الذين يتدارسون هذه الرسائل وينشرونها في آفاق الأرض فتُقرأ في تركيا، في مدنها كلها بل في أقضيتها وقراها، كما تُقرأ في أنحاء شتى من العالم الإسلامي والإنساني. فأحيا -في هذا العصر- روح طلب العلم من خلال التزود من دروس علمية إيمانية في ميدان واسع سعة العالم، حيث تُرجمت هذه الرسائل إلى مختلف لغات العالم علاوة على ترجمتها إلى اللغة العربية، وتناولها الناس بلهفة بالغة حتى وصلت إلى مناطق قصيّة من آسيا الوسطى وروسيا، فأصبحت وسيلة لإخراج ما لا يعد ولا يحصى من الناس، من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الضلالة إلى الهداية، ووهبت لهم سعادة أبدية خالدة.. وهكذا تزداد بفضل الله سعة دائرة هذه الدعوة الإيمانية يوماً بعد يوم؟

فمَن هذا النُّورْسِيّ، وكيف كانت حياته، وما دعوته، وما آثاره ومؤلفاته، وما هدفه ومقصده..؟ إن الكتب المؤلفة حول حياته الحافلة بالأحداث، تجيب عن هذه الأسئلة جميعها. وإن كتاب «تاريخ حياة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ» الذي أعدّه طلابه الذين كانوا في صحبته ويعاونونه في أموره، والذي أقرّه بعد تصحيحه وتشذيبه، منتشر في أوساط الناس ومتداول بين أيديهم، وقد أضاف إليه المؤلف نفسه أجزاءً من رسالة «الآية الكبرى» ورسالة «المناجاة» وأجزاء من رسائل أخرى كثيرة وأوضح في مكاتيبه أن هذا الكتاب بقيمة عشرين مجموعة من رسائل النور، وهو الآن في طور الترجمة إلى اللغة العربية كما أن قسما كبيرا منه ترجم إلى اللغة الإنكليزية.

والآن يقدم المترجم المحترم إحسان قاسم الصالحي هذه «السيرة الذاتية» بأسلوب متميز وبمنهج أصيل حقا، وذلك لقيامه بجمع المتون الأصلية من كلام الأستاذ نفسه والمستخلصة من كليات رسائل النور كلها ومن «تاريخ حياة الأستاذ». وبهذا تحرز هذه «السيرة الذاتية» أهمية بالغة وتضفي رونقاً جديداً وجمالاً آخر إلى بحث تاريخ حياة الأستاذ.

إن هذا الفقير إلى الله تعالى العاجز قد حظي -برحمة من الله تعالى- بنعمة ملازمة الأستاذ النورسي -مع إخوته الآخرين- لأكثر من السنين العشر الأخيرة من حياته المباركة. فباسم أولئك الإخوة وبلسانهم أحاول عرفاناً بالجميل وتحقيقاً لرغبة المترجم المحترم إحسان قاسم، أن أتناول بعض المسائل باختصار شديد حيث إن رسائل النور قد ذكرتها.

ولا بد أن نذكّر أننا لكي نستطيع أن نوفى حقّ التعبير عن أهمية رسائل النور ونقدرها حق قدرها، ينبغي التفكير في فترة تأليفها وكتابتها ونشرها أولاً:

بدأ تأليف رسائل النور بعد نفي الأستاذ النُورسي من مدينة «وان» في شرقي الأناضول، إلى «بارلا» في غربي الأناضول وذلك عقب حركة «الشيخ سعيد بيران». هذه الفترة هي بداية تنفيذ إجراءات شديدة لاستبداد مطلق، دام ربع قرن من الزمان.

نعم، إن المنظمات الإلحادية السرية كانت تستهدف إزالة الشعائر الإسلامية ورفعها الواحدة تلو الأخرى وطمس روح الإسلام في الأمة التركية التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون بل منذ عهد العباسيين. ولتحقيق هدفهم هذا بدأوا بتنفيذ خطة «تنشئة جيل يقوم بنفسه بعد ثلاثين سنة بإزالة القرآن ونـزعه من القلوب». وفعلاً بدأوا بتنفيذ خطتهم هذه ونجحوا في قطع روابط هذه الأمة بالإسلام وسعوا لها بشتى الوسائل.

فالقضية إذن ليست قضية جزئية موضعية، بل هي قضية كلية عامة شاملة تتعلق بإيمان الملايين من أبناء الجيل المقبل، وتتعلق بالحياة الأبدية لشعب كامل، شعب الأناضول حيث شهدت تلك الفترة تحولات رهيبة ودمارا فظيعا وعداء شرسا للإسلام والقرآن، ومسخا للتاريخ المجيد لهذه الأمة البطلة. حتى دفعت تلك المنظمات الإلحادية الجيل الناشئ -ولا سيما طلاب المدارس- إلى نسيان ماضي أجدادهم المليء بالجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وذلك بكلام براق في الظاهر لكي يقطعوا صلتهم بالإسلام، حتى هيأوا جواً ملائماً لإقرار نظام إلحادي سافر.

فينبغي إذن وضع تلك الأيام الحالكة القاسية الرهيبة نصب العين لدى دراسة دعوة الأستاذ النُورسي وخدمته للقرآن والإيمان. ولعل بعض الإشارات الغيبية المتعلقة بالعنايات الإلهية التي رافقت دعوة رسائل النور، والتوفيق الرباني الذي لازم مؤلفها ليست لشخص المؤلف بذاته وإنما لأهمية هذه الخدمة القرآنية في تلك الأوقات العصيبة.

يعلل الأستاذ هذه الأهمية فيقول: «من المعلوم أن دقيقة واحدة تكون ذات أهمية تقابل ساعة كاملة وأنها تثمر من النتائج ما تنتجه تلك الساعة، وربما ما ينتجه يوم كامل، بل قد تكون بمثابة سنين. ويحدث أحياناً أن تكون ساعة واحدة لها من الأهمية وتعطي من النتائج ما لسنة من العمر بل العمر كله.

فمثلاً: إن الذي يستشهد في سبيل الله في دقيقة واحدة يفوز بمرتبة الأولياء، وإن مرابطة ساعة واحدة في ثغر المسلمين عند اشتداد البرد وصولة الأعداء الرهيبة، قد تكون لها من الأهمية ما لسنة من العبادة.

وهكذا الأمر في رسائل النور؛ إذ إن سبب الاهتمام الذي نالته رسائل النور نابع من أهمية الزمان نفسه.. من شدة الهدم الذي أحدثه هذا العصر في الشريعة المحمدية والشعائر الأحمدية.. ومن فتنة آخر الزمان الحالية التي استعاذت منها الأمة الإسلامية منذ القدم.. ومن زاوية إنقاذ إيمان المؤمنين من صولة تلك الفتن.

نعم، لقد تزعزعت قلاع الإيمان التقليدية وتصدعت أمام هجمات هذا العصر الرهيب، ونأى الإيمانُ عن الناس وتستر بحجب وأستار، مما يستوجب على كل مؤمن أن يملك إيماناً تحقيقياً قوياً جداً كي يمكّنه من المقاومة والثبات وحده تجاه هجوم الضلالة هجوماً جماعياً.

فرسائل النور تؤدي هذه الوظيفة، في أحلك الحالات وأشدها رهبة، وفي أحوج الأوقات وأحرجها، فتنجز خدماتها الإيمانية بأسلوب يفهمه الناس جميعاً. وقد أثبتت أعمق حقائق القرآن والإيمان وأخفاها ببراهين قوية، حتى أصبح كل طالبِ نورٍ وفيٍّ صادق يحمل في قلبه الإيمان التحقيقي كأنه قطب مخفيّ من أقطاب الأولياء وركيزة معنوية للمؤمنين، وذلك لخدماته الإيمانية في القرية أو القصبة أو المدينة التي يقيم فيها. ورغم أنهم غير معروفين وغير ظاهرين ولا يلتقيهم أحد فقد صار كل منهم بعقيدته المعنوية القوية كضابط شجاع في الجيش يبعث مدداً معنوياً إلى قلوب أهل الإيمان فيبث فيهم وينفخ روح الحماس والشجاعة».

ويقول أيضاً: «إن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم وهى وثيقة الصلة به، ذلك الكتاب الجليل المرتبط بالعرش الأعظم، لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي الشخصية إلى الرسائل».

إن هذه «السيرة الذاتية» المعدّة من كلام الأستاذ النورسي إذ تقدم لأنظار القارئ الكريم سيرة حياة الأستاذ، تقدم في الوقت نفسه مسلكه ومشربه ومنهجه في الدعوة إلى القرآن والإيمان، كل ذلك من كلام الأستاذ نفسه. ونحن هنا نذكر بعض ما يتعلق بأسلوب دعوة الأستاذ ومنهجه أيضاً من خلال ما كان يتطرق إليه في أثناء الدروس النورية أيام حضورنا بقربه، وفي فترات انشغالنا بنشر الرسائل -بفضل الله- طوال السنوات العشر الأخيرة من حياته.

ونؤكد فنقول: إن هناك الكثير مما سمعناه من الأستاذ كنا نكتمه لأنه يتعلق بنا أو بي خاصة، ولكن بعد مدة تبين أن تلك الأمور مذكورة أيضاً في الرسائل.. وكنت أحار من هذا كثيراً. وحتى إنني سألت السيد «محمد فيضي» الذي لازم الأستاذ في قسطوني ثماني سنوات، فقلت: ما سر إطلاق الأستاذ عليكم اسم «كاتب السر» فأجاب مبتسماً: «لم يهمس الأستاذ في أذني شيئاً خارج ما كتبه في الرسائل». بمعنى أن هذه الرسائل عبّرت عن كل شيء فليس لدينا شيء خارجها.

أورد لذلك مثالاً: كنا ذات يوم في «بارلا» مع الأستاذ -أنا وجَيلان وزبير- في بيت مدير الناحية السابق. فقال لي الأستاذ: «تعال أنت وجَيلان إليّ». فدخلنا غرفته وهو منهمك بقراءة الأوراد القدسية للشاه النقشبند، ووقفنا منتظرَين أيّ أمر كان. فسألَنا: «هل قرأتم رسالة «الآية الكبرى»؟» فأجبنا: «نعم قرأناها». فقال: «أتعلمون مَن ذلك السائح الذي جال في العصور وفتش في طبقات الكائنات، ومن ذلك الروح النشط الذي ساح في آفاق العالم؟». قلنا -في أنفسنا- «نعم، أنتم ذلك السائح الذي جال في آفاق العالم». ثم قال: «انصرفوا». فخرجنا.

كنت أذكر هذه الخاطرة كذكرى لطيفة من الأستاذ، ولكن عندما قرأت يوماً الفقرة التي هي في بداية المقام الثاني لرسالة «الحجة الزهراء» تبيّن لي أن هناك نماذج كثيرة مثل هذا النموذج. بمعنى أن معظم الذكريات والخواطر التي نوردها موجودة في الرسائل، والفقرة هي:

إن سائح الدنيا في رسالة «الآية الكبرى» الذي سأل جميع الكائنات وأنواع الموجودات في أثناء بحثه عن خالقه، ووجدانه له، ومعرفته إياه، فعرّفه بثلاث وثلاثين طريقاً وببراهين قاطعة بدرجة علم اليقين وعين اليقين، فإن السائح نفسه قد ساح بعقله وقلبه وخياله في أجواء طبقات العصور والأرض والسماوات، دون أن يصيبه تعب أو نصب، بل ما زال يسيح ليشفى غليله حتى ساح في أرجاء الدنيا الواسعة كلها فبحث في جميع نواحيها -كمن يسيح في مدينة-، مستنداً بعقله أحياناً إلى حكمة القرآن وتارة إلى حكمة الفلسفة كاشفاً بمنظار الخيال أقصى الطبقات إلى أن رأى الحقائق كما هي في الواقع، فأخبر عن قسم منها في تلك الرسالة «الآية الكبرى».

وسأذكر خاطرة أو خاطرتين جديرتين بالذكر:

كنت قد خرجت توا من سجن «صامسون» في بداية سنة 1954، وكان الأستاذ في «أميرداغ» حيث أتى إليها من «إسبارطة» أواسط سنة 1935 واستأجر بيتا فأقام في تلك المدرسة النورية الثالثة، فكنا مع الإخوة طاهري وزبير وجيلان وبيرام، في غرفة من البيت، فدخل علينا الأستاذ يوما قبيل العشاء وقال: «خطر على قلبي أمر: سأعلمكم اللغة العربية، وسنبدأ بـ«المثنوي العربي النوري» صباح غد». وفعلا بدأ في اليوم التالي بتدريسنا المثنوي العربي النوري كان الدرس يدوم على الأغلب ثلاث ساعات أو أربع ساعات وأحيانا بل نادرا يطول إلى خمس ساعات. كان يقرأ علينا باللغة العربية ويوضح ويشرح المعنى بالتركية. ولا يخفى ما للمثنوي العربي النوري من أهمية حيث يمثل منشأ رسائل النور وأصولها، وقد درّسنا الأستاذ «المثنوي» مرتين. ودرّسنا كذلك «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» العربية.

والحقيقة أننا لا نستطيع أن نعبر عن مدى استفادتنا من تلك الدروس ومدى استمدادنا الغذاء الروحي والمعنوي منها. فتلك الأيام كانت حقا أسعد أيام حياتنا، إذ كنا نذهب معا إلى «بارلا» وإلى جبل «جام» والدروس مستمرة لا تتوقف، علما بأننا نكاد لا نستوعب الدرس كله في الأيام الأولى لعدم إتقاننا اللغة العربية ولكننا كنا نستفيد ونستفيض من الدرس كمن فهمه كله، إذ كنا نستمع إلى الأستاذ وكأن على رؤوسنا الطير ونرتشف أقواله وكلامه ارتشاف الرحيق ونستسيغه استساغة الظمآن للماء العذب السلسبيل ونتنفسه تنفس الهواء العليل بعد طول تعب وعناء.. وحقا إن أرواحنا وعقولنا ولطائفنا قد استمدت دروسا كثيرة من الأستاذ فنشكر الله تعالى ونحمده حمدا لا نهاية له، وهذا من فضل ربي.

قضينا أياماً على جبل جام وعلى قمة شجرة الصنوبر التي كانت موضع تأمل الأستاذ. وبعد مضى سنتين أتى «حسني» أيضا الذي خدم رسائل النور في «أورفة» واشترك معنا في الدرس.

نعم، لا يمكنني نسيان ذكريات تلك الأيام الجميلة التي مرت مع الأستاذ، وأذكر لهذه المناسبة بأن الأستاذ كان يبقينا في صحبته أحيانا وأحيانا أخرى يرسلنا إلى أنقرة وإسطنبول وأورفة وغيرها من المدن لخدمة رسائل النور وذلك اعتبارا من سجن أفيون سنة 1948 حتى سنة 1950، أما بعد هذه السنة فقد أخَذَنا في معيّته واستخدَمَنا في معاونة شؤونه فحسب. وظل الأخ «عبد الله يكن» من قبل في معية الأستاذ وخدمته طوال سنتين أيضاً، وهناك آخرون ظلوا معه وفي خدمته. وقد درّسنا «كليات رسائل النور» التركية منها والعربية، وأمر بطبع «المثنوي العربي النوري» بآلة الاستنساخ -الرونيو- وإرساله إلى مختلف أنحاء العالم. فكانت الرسائل تطبع في أنقرة سنة 1956، وتأتي المَلازِم وتُقرأ في الدروس ويتابعها الأستاذ من النسخة الأصلية التي هي بالحروف العربية ثم يأمر بمباشَرة الطبع. ثم التحقتْ إسطنبول أيضاً بفعاليات الطبع والنشر فطبعت «اللمعات، إشارات الإعجاز، المثنوي العربي النوري، عصا موسى، تاريخ الحياة، الشعاعات، وسكة التصديق الغيبي، مع عدد من الرسائل الصغيرة».

وكنا نقرأ يوميا عقب صلاة الفجر من تلك الرسائل وأحياناً بعد الصلوات الأخرى. فأسس الأستاذ بهذا أصول دراسة رسائل النور وهي التي عليها الجماعة في الوقت الحاضر.

وهكذا مرت السنوات حتى اقتربنا من سنة 1960 فنُشرت «الملاحق» ومحاورات الأستاذ في مجالسه عند زياراته لكل من بارلا وأميرداغ وأسكي شهر وأغردير وإسبارطة وغيرها. نذكر من تلك الخواطر:

قال الأستاذ يوماً: «عندما كنت في «وان» خصص الوالي طاهر باشا غرفة لي في الطابق العلوي من مضيفه فكنت أبيت هناك وقد حفظت آنذاك ما يقرب من تسعين كتاباً في الحقائق، وكنت أعيد ما حفظته في ذاكرتي ثلاث ساعات يومياً فأكمله كل ثلاثة أشهر. فيا إخواني إني أشكر الله كثيراً على تكراري لتلك المحفوظات حيث أصبحتْ وسيلة للعروج إلى حقائق القرآن الكريم. ثم بلغت القرآن الكريم وشاهدت أن كل آية كريمة منه تحيط بالكون إحاطة تامة، وبعد ذلك أغناني القرآن عن غيره».

وقد ذكر الأستاذ في «اللمعة الثلاثين» ما يؤيد هذه الخاطرة من أن حجب بعض الآيات قد انكشفت أمامه لدى شرحه للأسماء الحسنى: «الفرد، الحي، القيوم، الحكم، العدل، القدوس» حيث قال: «لقد تراءت في أفق عقلي نكتة من النكات الدقيقة.. وتجل من تجليات نور الاسم الأعظم «الحي» أو أحد نوريه أو أحد أنواره الستة، وذلك في شهر شوال عندما كنت في سجن «أسكي شهر» فلم أتمكن أن أثبتها في حينه ولم أستطع أن أقتنص ذلك الطائر السامي، ولكن بعدما تباعد ذلك القبس الوضيء اضطررت إلى الإشارة إليه بوضع رموز ترمز إلى أشعة تلك الحقيقة الكبرى وذلك النور الأعظم».

وأقصد من عرض هذه الأمثلة تأييد ما ذكره الأستاذ النورسي من «أن رسائل النور تفسير معنوي للقرآن الكريم ومعجزة معنوية له».

وأورد خاطرة أخرى مثالاً للحقائق المذكورة: كنت أنا وزبير مع الأستاذ في غرفة في بستان على حافة بحيرة بارلا «أغردير» وذلك في ربيع سنة 1954 فقال الأستاذ: «قبل ثلاثين سنة تقريبا وفي هذا الموسم حيث تتفتح أزاهير أشجار اللوز، كنت أتجول هنا -مشيرا إلى الأشجار والبساتين- وإذا بالآية الكريمة: ﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰىۚ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ﴾ (الروم:50) تَرِدُ إلى خاطري، وفتح الله عليّ هذه الآية في ذلك اليوم فكنت أسير وأتجول وأتلوها بصوت عال حتى قرأتها أربعين مرة، وفي المساء ألفت رسالة الحشر (الكلمة العاشرة) مع الحافظ توفيق الشامي -أي أمليت عليه الرسالة وكتبها-.

وينقل المرحوم خلوصي يحيى كيل، الطالب الأول للنور، أن الأستاذ قال له: «كانت مائتا آية كريمة تمدني عندما كنت أؤلف الكلمة العاشرة».

وقال الأستاذ نفسه: «إنني لا أقول هذا الكلام الذي يخص «الكلمات» تواضعا، بل بيانا للحقيقة وهي: أن الحقائق والمزايا الموجودة في «الكلمات» ليست من بنات أفكاري ولا تعود إليّ أبدا وإنما للقرآن وحده، فلقد ترشحتْ من زلال القرآن حتى إن الكلمة العاشرة (رسالة الحشر) ما هي إلا قطرات ترشحت من مئات الآيات القرآنية الجليلة وكذا الأمر في سائر الرسائل بصورة عامة».

وأكد الأستاذ في كثير من مكاتيبه أنه لا يملك الرسائل ولا يمكن له أن يمتلكها فهي ملك القرآن. نورد واحدة منها إذ يقول: «ولو بلغ صوتي أرجاء العالم كافة لقلت بكل ما أوتيت من قوة: إن «الكلمات» جميلة رائعة وإنها حقائق وهي ليست مِنّي بل هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم أجمّل أنا حقائق القرآن بل لم أتمكن من إظهار جمالها، وإنما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جملت عباراتي ورفعت من شأنها».

وهناك إيضاح في رسالة «المعجزات القرآنية»، يخص ما ذكر أعلاه وهو: «أن أصدق دليل على سمو القرآن الكريم وعلوه، وأوضح برهان على كونه صدقا وعدلا وأقوى علامة على إعجازه هو أن القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع أقسامه مع جميع مراتب تلك الأقسام وجميع لوازمه، ولم يخل باتزان أي منها.. ثم إنه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الأحكام التي تقتضيها الأسماء الإلهية الحسنى مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الأحكام.. ثم إنه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والألوهية.

هذه «المحافظة والموازنة والجمع» خاصية لا توجد قطعا في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج أفكار أعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الأولياء الصالحين النافذين إلى عالم الملكوت، ولا في كتب الإشراقيين الموغلين في بواطن الأمور، ولا في معارف الروحانيين الماضين إلى عالم الغيب، بل كل قسم من أولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من أغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كليا مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت إلى غيره من الأغصان، إما لجهله به أو لعدم التفاته إليه، وكأن هناك نوعا من تقسيم الأعمال فيما بينهم.

نعم، إن الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة، إذ تلزم نظرٌ كليّ كنظر القرآن الكريم ليحيط بها، فكل ما سوى القرآن الكريم -ولو تَلقّى الدرس منه- لا يرى تماماً بعقله الجزئي المحدود إلا طرفاً أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخل بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالإفراط أو التفريط».

يُفهم من هذه الفقرة، ومن كلام الأستاذ نفسه أن رسائل النور لكونها تفسيرا للقرآن الكريم قد أخذت لُميعة من هذه الخاصية المعجزة الجامعة الكلية. نورد مثالا واحدا فقط لذلك: «إنك تقول -يا أخي- في رسالتك: إن المفسرين قالوا لدى تفسيرهم ﴿رَبِّ الْعَالَمين أن هناك ثمانية عشر ألف عالم، وتستفسر عن حكمة ذلك العدد؟

أخي إنني الآن لا أعلم حكمة ذلك العدد، ولكني أكتفي بالآتي: إن جمل القرآن الحكيم لا تنحصر في معنى واحد، بل هي في حكم كلي يتضمن معاني لكل طبقة من طبقات البشرية، وذلك لكون القرآن الكريم خطابا لعموم طبقات البشر. لذا فالمعاني المبينة هي في حكم جزئيات لتلك القاعدة الكلية، فيذكر كلُّ مفسر، وكل عارف بالله جزءاً من ذلك المعنى الكلي ويستند في تفسيره هذا إما إلى كشفياته أو إلى دليله أو إلى مشربه، فيرجح معنى من المعاني. وقد كشفت طائفة في هذا أيضا معنى موافقا لذلك العدد.

فمثلا يذكر الأولياء في أورادهم ويكررون باهتمام بالغ قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِۙ ﴿19 بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ (الرحمن:19-20) ولهذه الآية الكريمة معان جزئية ابتداء من بحر الربوبية في دائرة الوجوب وبحر العبودية في دائرة الإمكان، وانتهاء إلى بحرَي الدنيا والآخرة، وإلى بحرَي عالم الشهادة وعالم الغيب، وإلى البحار المحيطة في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، وإلى بحر الروم وبحر فارس، والبحر الأبيض والأسود، وإلى المضيق بينهما الذي يخرج منه السمك المسمى بالمرجان، وإلى البحر الأحمر وقناة السويس، وإلى بحار المياه العذبة والمالحة، وإلى بحار المياه الجوفية العذبة المتفرقة والبحار المالحة التي على ظهر الأرض المتصل بعضها ببعض مما يسمى بالبحار الصغيرة العذبة من الأنهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، والبحار المالحة التي تختلط معها.

كل هذه الجزئيات موجودة ضمن معاني تلك الآية الكريمة، وجميع هذه الجزئيات تصح أن تكون مرادة ومقصودة، فهي معان حقيقية للآية الكريمة ومعان مجازية لها.

وهكذا فإن ﴿الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمين أيضا جامعة لحقائق كثيرة جدا مثلما ذكر، وإن أهل الكشف والحقيقة يبينونها ببيانات متباينة حسب كشفياتهم. وأنا أفهم من الآية الكريمة الآتيَ: إن في السماوات ألوفا من العوالم، ويمكن أن يكون كل نجم في مجموعته عالما بذاته، وإن كل جنس من المخلوقات في الأرض أيضا عالم بذاته، حتى إن كل إنسان عالم صغير. فكلمة «ربّ العالَمين» تعني: أن كل عالم يدار ويربى ويدبر شؤونه بربوبيته سبحانه وتعالى مباشرة».

وأورد خاطرة من أستاذنا: كنا في إسبارطة، نتدارس في رسائل النور درسا إيمانيا، والأستاذ جالس على سريره ويتابع الدرس في رسالة بالحروف العربية، وإذا به يعتدل ويخرج نظارته ويتوجه إلينا قائلا: أنتم شباب، ذاكرتكم قوية، أما أنا فقد شبت وكلّت ذاكرتي ولكنى أقسم لكم بالله إنني استفدت من هذا الدرس وكأنني أقرأه لأول مرة، علما أنني قد قرأته لحد الآن عشرة آلاف مرة. وبعد بضعة أيام قال: «أوَ قد قلت لكم قبل أيام كذا وكذا. إن هذه الدروس لا حد للرقي فيها لأنها من فيض القرآن الكريم».

كان الأستاذ حريصا على صرف الأنظار عن شخصه إلى رسائل النور، فكان يقول: إن رسائل النور درس قرآنيّ يوافق فهم هذا العصر. وقد علق لوحة على ظهر الباب الخارجي لمحل إقامته في كل من إسبارطة وأميرداغ، وكان يستقرئها لكل زائر له. يقول فيها «لم تدع رسائل النور حاجة إليّ فما من رسالة من ملايينِ نسخها التي تطالعونها إلا تستفيدون فوائد أفضل من مقابلتي بعشرة أضعاف».

ويقول في موضع آخر: «أما من حيث العمل للقرآن الكريم، فلقد وهب لي الله سبحانه وتعالى برحمته إخوانا ميامين في العمل للقرآن والإيمان، وستُؤدَى تلك الخدمة الإيمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلا من مركز واحد، ولو أسكت الموت لساني فستنطلق ألسنة قوية بالنطق بدلا عنى وتديم تلك الخدمة».

ويقول أيضاً: «إن خدماتي وأحداث حياتي قد أصبحت في حكم بذرة لكي تكون مبدأ لخدمة إيمانية، قد منحت العناية الإلهية منها في هذا الزمان شجرة مثمرة برسائل النور النابعة من القرآن الكريم».

وعندما تُذكر العناياتُ الربانية لدى تأليف رسائل النور في أيامها الأولى يقول: «سمعت من أحد الأولياء -قبل مدة- أنه قد استخرج من الإشارات الغيبية لأولياء سابقين ما أورثه القناعةَ بأن نورا سيظهر من جهة الشرق ويبدد ظلمات البدع. ولقد انتظرت طويلا ظهور مثل هذا النور، ومازلت منتظرا له. بيد أن الأزاهير تتفتح في الربيع، فينبغي تهيئة السبل لمثل هذه الأزاهير المقدسة.. وأدركنا أننا بخدمتنا هذه إنما نمهد هذه السبل لأولئك الكرام النوارنيين». والحمد لله تعالى، فقد تفتحت تلك الأزاهير وتسنبلت وأثمرت ثمارا نورانية وستثمر بإذن الله!

والآن لمناسبة هذه «السيرة الذاتية» ندرج أدناه ما سجله الأخَوانِ الفاضلان محمد فيضي وأمين جايجي حول حياة الأستاذ وهما اللذان لازما الأستاذ في أثناء إقامته في قسطموني إذ يقولان: «إننا نسجل قناعتنا إلى الذين يريدون أن يتعرفوا على الشخصية المعنوية لأستاذنا:

إن بديع الزمان سعيد النورسي قد نال من خزينة حقائق القرآن الكريم، حقائق عظيمة ومعارف جليلة، بحظوته بتجليات اسم الله «النور» واسم الله «الحكيم»، وأظهَرَ تلك الحقائق القرآنية إلى أنظار البشرية تحدثا بنعمة الله عليه. وقد تخلق بالأخلاق المحمدية متجاوزا برازخ النفس والهوى، حتى برز في هذا العصر مثالا فريدا مجسما لمكارم الأخلاق. فأمضى حياته حاملا همة عالية واطمئنانا راسخا وعفة تامة مع نكران ذات صادق تتحير منه العقول. كل ذلك بما وهبه المولى الكريم من صفاء قلب وتوكل كامل وقناعة تامة، فنرى البساطة الكاملة في عيشه وملبسه بل في كل حاله وطوره. حتى لا تراه يحمل ذرة من محبة الدنيا وميل إليها.

وقد حافظ على عزة العلم حفاظا تاما، ولم يعرض افتقاره لغير الله، وكان هذا أعظم دستور له في حياته، فأدبر عن الدنيا رغم إقبالها عليه. ونحن على يقين من أن هذه المحافظة والملازمة للنـزاهة والعفة هي من العناية الإلهية له فما كان يأخذ صدقات وزكوات، بل يدفع حتى إيجار البيت بنفسه. ثم كان أستاذنا يكره كراهية شديدة التكلف والتصنع والتعظيم، ويأمر طلابه بالابتعاد عن التكلف قائلا: «إن التكلف منهي عنه شرعا وحكمةً، لأنه يسوق إلى تجاوز الحد المعروف، والمتكلفون لا ينجون من التظاهر والتفاخر والرياء الثقيل، وكل ذلك يفسد الإخلاص».

ثم كان في غاية التواضع؛ يتجنب بشدة دواعي التفوق على الآخرين والتميز عنهم. وكان يعامل جميع الناس بالحسنى ولا سيما الشيوخ والأطفال والفقراء ويشملهم بالرفق والمحبة الأخوية واللين في المعاملة. فكانت المحبة والبشاشة الممتزجة بنور الوقار تتلمع من وجهه الطليق دائماً، فلا نرى فيه غير آثار الأُلفة والأنس مع الهيبة والجلال، نعم كان مبتسما على الدوام، وأحيانا تظهر عليه المهابة والصرامة بحيث ينعقد لساننا عنده ولا نتفوه بشيء.

أما كلامه، فكان قليلاً وموجزاً، لم نر منه ذما قط، وما كان يقبل أن يغتاب عنده أحد، بل كان يستر الهفوات والأخطاء، ويُحسن الظن بالآخرين حتى لا يدع أحدا ينقل إليه كلام سوء كأن يقول: إن فلانا قد قال بحقك كذا وكذا، فيرد ويقول: «كلا.. هذا غير صحيح، فإن ذلك الشخص لا يقول شيئاً كهذا قطعاً». ويسكت القائل.

وكان له قدم راسخ في محاسبة النفس والمجاهدة. فلم يحقق رغبات نفسه وحظوظها، حتى إنه ما كان يأكل إلا ما يسد الرمق ولا ينام إلا قليلا ويقضى الليل في عبادة خاشعة تلفت الأنظار، وكان هذا دأبه مهما تبدلت المواسم، ولم نر منه أنه ترك التهجد قطعا ولا أوراده ومناجاته، حتى في أوقات مرضه. وحينما ظل لا يتمكن من الإفطار طوال ستة أيام في شهر لشدة ما كان يعانيه من المرض، لم يدع عبادته وتهجده، حتى كان جيرانه في حيرة من أمر عباداته وخشوعه وتضرعه ليلاً -صيفاً وشتاءً- وكانوا ينصتون إلى مناجاته النابعة من قلب مجروح.

كان أستاذنا يراعي أمور الطهور والنظافة المطلوبة شرعا مراعاة شديدة، ويظل على وضوء دائم، ويراعي الزمن فلم يصرف وقته سدى أبدا، فإما نراه يؤلف رسائل النور أو يصححها أو يقرأ الأوراد والأذكار أو يستغرق في عبادة التفكر والتأمل في آيات الله. وكان هذا دأبه في الحل والترحال؛ إذ كنا نخرج معه أيام الصيف إلى الغابة البعيدة، فكان يصحح في الطريق أو يستمع إلى ما نقرؤه من الرسائل أو يدرسنا شيئاً من أحد مؤلفاته القديمة.. وهكذا.. فما كنا نشعر بسأم ولا تعب مع الأستاذ حتى ولو كان الدرس من الصباح إلى المساء، ومشيا على الأقدام.

كان أستاذنا يقول: «منذ عشرين سنة لم أقتن ولم أقرأ غير كتاب الله ورسائل النور». لذا كان يفضل العمل لرسائل النور التي هي تفسير للقرآن على أي شيء آخر. تُرى ما حاجة من أفاض الله على قلبه من فيض قرآنه المجيد إلى غيره؟

نعم، لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على أستاذنا في أثناء تأليف رسائل النور قدرة بلاغية عجيبة وقابليةَ كلامٍ بديع قد لا يوفق إليها الكثيرون. فتلك الرسائل ألفت في حالات من الاغتراب والمرض والمراقبة والضيق بل ضمن ظروف لا تطاق، ولكن بتوفيق من الله سبحانه، وإسعافا للمؤمنين، ورغم جميع المشاكل والمعوقات، ألفت تلك الرسائل في الجبال والوديان والفيافى والبساتين، بعيدا عن أنظار المراقبة وأحيانا دون أن يكون لديه كاتب يعينه. وهكذا فالعناية الإلهية قد أحاطت بأستاذنا إحاطة خارقة في أثناء تأليفه الرسائل، فالحمد لله والشكر له وحده، إذ فتح الله سبحانه أمامه الكائنات كتابا واضحا ووهب له قدرة مطالعته بالكشف والشهود حتى بلغ مرتبة حق اليقين، فهذه الآثار ليست إلا حصيلة توفيق رباني، إذ بيّن فيها حقائق القرآن الكريم ومعارفه بما فيها الآيات التشريعية والآيات الكونية.

ففي الوقت الذي ينبغي أن يكون هذا «السعيد» المسعود موضع فخر واعتزاز بما بيّن للبشرية بنور القرآن المبين طريق العروج إلى أعلى مراتب المعرفة الإلهية، برسائل النور، قام أهل الشقاء بنقيض ذلك فتجرّأوا على تسميمه مرات ومرات. وربما كان ذلك من مقتضيات الحكمة الإلهية حيث تنـزل المصائب والبلايا على ورثة الأنبياء والصالحين كما هو ثابت في الحديث الشريف «أشَدّ الناسِ بَلاءً الأنبيَاءُ ثُم الصّالحُونَ ثم الأمثلُ فالأمثل». حتى رماه الصبيان بالحجارة حينما خرج من بيته يوما في قسطموني قاصداً الوضوء من النبع، ولكنه تحمل وتجمل بالصبر، ولم يحمل في صدره غير السلامة وفي قلبه غيرَ الطهر لأولئك الصبيان، فلم يغضب ولم يحقد عليهم بل دعا لهم بالخير وقال: «لقد أصبح هؤلاء سببا لكشفي سرا من أسرار آية جليلة في سورة «يس». ثم أصبح أولئك الصبيان بفضل الله وبركة الدعاء لهم، بعد ذلك يهرولون إلى أستاذنا أينما رأوه ويقبلون يده ويرجون منه الدعاء.

إن لأستاذنا مالا يعد ولا يحصى من خوارق الأحوال، وفي مقدمتها تأليف رسائل النور. نعم إننا نعترف أن أستاذنا كان يقرأ خواطر قلوبنا، أدق وأكثر منا. وكثيرا ما كان ينبهنا إليه، ثم ننتبه. فعندما كنا نذهب مع أستاذنا إلى الجبل، نراه أحيانا يقوم فورا ويأمرنا بالقيام قبل أن يحين موعد العودة إلى البيت فنستفسر عن السبب فيقول: لنعد إلى المدينة بسرعة، إنهم ينتظروننا لخدمة رسائل النور. وفعلا لدى عودتنا نجد أن أحد طلاب النور ينتظرنا لأمر مهم، أو يخبرنا الجيران أن أحداً قد سأل عنكم وتردد إلى البيت كثيرا ثم مضى إلى طريقه.

وذات يوم أعطت السيدة «آسيا» -وهى من نسل العاشق الصغير أحد طلاب مولانا خالد قدس سره- جبة مولانا خالد والتي كانت تحتفظ بها منذ سنوات طويلة، أعطتها إلى «فيضي». وإذا بأستاذنا يأمر «أمين» بغسلها، ويبدأ هو بالشكر والحمد لله تعالى و«فيضي» يحار من الأمر إذ يرد إلى خاطره أن هذه السيدة قد أعطتني هذه الجبة منذ عشرين يوما، فلماذا يريد الأستاذ امتلاكها من دوني؟. وبعد مدة يلتقي السيدةَ آسيا فتقول له: لقد قلت لك ما قلت حول الجبة لكي يقبلها الأستاذ -فدته أرواحنا- فهي له، لعلمي أنه لا يقبل الهدايا إذا أرسلتها إليه مباشرة. نعم، إن قبول أستاذنا تلك الجبة علامة على انتقال مهمة التجديد إليه بعد مولانا خالد. فقد ورد في الحديث الشريف «إنّ الله يَبعثُ على رَأسِ كلّ مائة سَنة مَن يُجدّد لهذه الأمة دينها» فإن ولادة مولانا خالد سنة 1193 وولادة أستاذنا 1293.

كان الأستاذ كثيراً ما يلاطفنا ويقول ستجازَون، وتعاقَبون.. وتدخلون السجن، وفعلا لا يمضى زمن طويل حتى يتحقق ما قاله الأستاذ لنا.

وكذلك حدث قبل سجن دنيزلي؛ إذ قال: «منذ مدة لم أبق في مكان أكثر من ثماني سنوات. وقد مضت على مجيئي إلى هنا ثمانُ سنوات، فإما سأموت هذه السنة أو أُنقل إلى مكان آخر». فأشار بهذا إلى مغادرته لقسطموني.

وذات يوم قال: «احذروا حذرا شديدا.. إنني أشعر أن هجوما عنيفا يشن على رسائل النور من جهات عدة». وفعلا لم يمض كثيرُ وقتٍ حتى ظهرت حادثة اعتراض شيخ عالم في إسطنبول على مسألة في إحدى رسائل النور وقيام السيد علي رضا -رحمة الله عليه- وهو أمين الفتوى بالرد عليه، وتصديقِه أحقيةَ رسائل النور.

وكان أستاذنا يقول: «ليحذر أهل الدنيا من التعرض لرسائل النور ومهاجمتها، فإنهم يكونون بذلك سببا لنـزول المصائب والآفات، حيث تعد الرسائل صدقة من نوع الكلمة الطيبة، والصدقة تدفع البلاء»..

وقبل حادثة سجن دنيزلي قال لنا: «هناك خطة رهيبة ضد رسائل النور، ولكن أبشروا فإن العناية الإلهية ستمدنا. إذ لما فتحتُ اليوم «الحزب الأعظم للأوراد القرآنية» قابلتني الآية الكريمة: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَاِنَّكَ بِاَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ (الطور:48) وتقول لي ضمنا: تَدبّر فيّ، فتدبرت فيها ورأيت أنها تبشرنا بإحدى معانيها الإشارية، مشيرة إلى مصيبة السجن ثم النجاة منه».. كان هذا قبل قرار براءتنا من سجن دنيزلي بتسعة أشهر، فأظهر لنا جوهرة من كنوز تلك الآية الجليلة وكشف عن نكتة إعجاز فيها وبشرنا نحن الضعفاء وأدخل السرور في قلوبنا. والخلاصة: مهما قلنا ومهما كتبنا، ولا سيما نحن الضعفاء فقد وهب له المولى الكريم أوصافا متميزة في دعوته. فيا سعادة من هو في خدمة رسائل النور التي هي تفسير قيّم للقرآن الكريم، ويا حظ من تلقى دروسه منها. نسأل الله سبحانه أن يحشرنا مع أستاذنا بديع الزمان وكنـز العلوم والعرفان وعلّامة العصر الذي نشر حقائق الإيمان والقرآن طوال وجوده في مدينتنا قسطموني، وبذل كل ما في وسعه لننال السعادة، ونسأله تعالى أن نكون معه يوم الحشر الأعظم ويأخذنا بيده الحانية المنورة الطيبة إلى حضرة الرسول الأكرم ﷺ.. إن شاء الله.»

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

العاجز مصطفى صونغور

الخادم

لخادم القرآن بديع الزمان

سعيد النُّورْسِيّ