الدعاء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «سيرة ذاتية».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النُّورْسِيّ

الفصل الرابع أوراق من الذكريات

الفصل الرابع أوراق من الذكريات

الصلاة في أوقاتها

كان الأستاذ جمّ الخشوع في صلاته ويقرأ الآيات آية بعد آية، وبعدما يقف منتصباً للصلاة ينوي ثم يكبر بـ«الله أكبر» بصوت عال جداً يكاد دويه يهز البيت الخشبي الذي يسكنه، وكانت الرهبة تملأنا ونحن خلفه مأمومون.

كان يهتم كثيراً بأوقات الصلاة وحريصاً عليها كل الحرص، وأسوق هنا مثالاً:

خرجنا يوماً من إسبارطة إلى أميرداغ ولم يبق إلّا خمس دقائق للوصول إلى أميرداغ وإذا بوقت الصلاة قد حان، فنظر الأستاذ إلى ساعته فأقام بنا الصلاة. ولم يكن الأستاذ يبالي بالبرد القارس ولا بالمطر إذا ما حان وقت الصلاة. فكنا نؤديها في أوقاتها في الحل والترحال، وكان يقول:

«إن أكثر من مائة مليون شخص من كل أرجاء العالم الإسلامي يجتمعون في الجامع المعظم ويشكلون جماعة كبرى لأداء كل صلاة في وقتها، فكل فرد من هذه الجماعة يدعو للجماعة كلها بقوله: ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ﴾ فهذه الآية الكريمة تصبح بمثابة دعاء وشفيع لكل فرد من أفراد الجماعة. نفهم من هذا: عِظم الثواب غير المتناهي والأخروي الذي يناله الفرد المؤدي صلاته في أوقاتها فالذي لا يشترك إذن مع هذه الجماعة لا يحصل على حظه من ذلك الثواب، مثله في هذا: الجندي الذي لم يجلب قصعته لأخذ طعامه من المطبخ الرئيس فلا يستلم أرزاقه المخصصة، أي إن الذي لا يؤدي الصلوات في أوقاتها كأنه لا يأخذ أرزاقه المعنوية من القدر الرئيس في المطبخ المعنوي للجماعة الكبرى».

تسبيحات الأستاذ

يقول ملا حميد: «كنت أنشرح كثيراً عندما أصلي مقتدياً بالأستاذ، كان قيامه للصلاة يزيد الإنسان رهبة وخشوعاً. وكان يرشدنا إلى أن التسبيحات والأذكار عقب الصلاة إنما هي بحكم نوى وبذور للصلاة، وكان يسبّح ويذكر الله بصوت رخيم حزين، فعندما يقول: «سبحان الله.. سبحان الله» كنا نسمعه يصدر على مهل من أعماق أعماق قلبه.

إنني شخصياً لم أرَ مثل الأستاذ قط مَن يصلي ثم يسبح بهذا الخشوع والحزن، مع أنني رأيت كثيراً من الشيوخ والعلماء.

وعندما كان يقول: «لا اله إلّا الله» ويبدأ بالتسبيحات ويستمر بها يصبح صوته كفرقعة المدافع في قوته وشدته، فلو كان عنده شخص من أهل الطريقة الصوفية إذن لأخذته الجذبة والشوق!».

أذكار الليل

كان الأستاذ ينام قليلاً ويأكل قليلاً جداً بحيث لا يكفي لإشباع حاجة الإنسان الاعتيادي وكان يقول لنا: «النوم الفطري والطبيعي هو خمس ساعات في اليوم».

وكان من عاداته -التي لم يتخل عنها طوال حياته المباركة- أن يقضي الليالي بالتسبيح والتهليل والدعاء والمناجاة والتهجد، وكان على وضوء دائم، وكان جيران الأستاذ في إسبارطة وبارلا وأميرداغ يقولون لنا: «كلما نظرنا إلى بيت الأستاذ في الليل رأينا مصباحه الخافت مضاء، ونسمع أنين أذكاره الحزين ودعاءه الرقيق».

الأشهر الثلاثة

عندما كان الأستاذ في إسبارطة، حلت الشهور الثلاثة: رجب، شعبان، رمضان. فقام بتوزيع أجزاء القرآن الكريم، لكل طالب جزء من التلاوة اليومية ليختم القرآن الكريم كل يوم في هذه الشهور المباركة، فيرفع إلى الملأ الأعلى قرآناً كاملاً من طلاب النور في «ساو، قوله أونلو، أتابَيْ، بازانون» فحظيت هذه النواحي ببركة ختم القرآن يومياً بعمل الأستاذ هذا. وفي الوقت نفسه كان الأستاذ يدعو الله سبحانه كثيراً ويذكر أسماء الطلاب في دعائه مستشفعاً برسول الله ﷺ ومنادياً باسمه وأصحابه الكرام.

وكان يستيقظ من الليل مبكراً ليصلي صلاة التهجد وينهي أوراده وتسبيحاته قبل صلاة الفجر بساعة، ثم يتضرع باسطاً يديه للدعاء رافعاً بهما إلى السماء، فيطيل في الدعاء بمقدار ساعة كاملة تقريباً، ونحن في هذا الوقت لا نجرؤ على دخول غرفة الأستاذ حتى يفرغ من دعائه، علماً أنه كان ينام بعد صلاة العشاء مباشرة دون انتظار شيء.

ليالي رمضان

كان الأستاذ في النصف الثاني من شهر رمضان المبارك يقيم الليل كله ولا ينام وما كان يسمح لنا أن ننام أيضاً. وفي أكثر الأحيان كان يتفقدنا فإذا رأى أحدنا نائماً يرش عليه الماء ويوقظه، فعلمنا السهر. فكنا نقيم الليالي المباركة ونبقى مستيقظين حتى صلاة الفجر وبعدها ننام. وكان يذكرنا بالحديث الشريف: «تَحَرّوا لَيلَة القَدر في الوتر من العَشر الأوَاخرِ من رَمضَان». ويعلمنا بأن هذه الليالي تتضمن ليلة مباركة هي ليلة القدر يعادل الثواب فيها ثواب عبادة ثمانين سنة.

وكان الأستاذ ينشغل بأوراده طوال شهر رمضان ويقرأ جزءاً واحداً كاملاً من القرآن الكريم كل يوم ويحثنا على التلاوة فكنا نقرأ جزءاً كل يوم أيضاً. وكان يعطينا من زكاة فطره. ويقول لنا: «أنتم طلاب علوم، يمكنكم أن تتبادلوا فيما بينكم زكاة الفطر». فنقوم بتطبيق ما يأمرنا به. فكنا نبتاع القمح بتلك الدراهم. ففي بعض الأحيان كنا نوصي بعمل الخبز. ولا نصرف شيئاً ولا ننفق إلّا باقتصاد تام.

[وقد لخص لي الأخ الكبير «مصطفى صونغور» مداومة الأستاذ على قراءة الأذكار والأوراد بالآتي:]

كان الأستاذ لا يسمح قطعاً بترك الأذكار الواردة سنةً مؤكدة عقب الصلوات وهي «سبحان الله، الحمد لله، الله أكبر» ثلاثاً وثلاثين مرة وكذا «لا إله إلا الله» كما ورد ذلك في رسالته في «ملحق قسطموني» حول المتكاسل في الأذكار وكان يدعو بدعاء «ترجمان الاسم الأعظم» الذي يبدأ «سبحانك يا الله، تعاليت يارحمن، أجرنا من النار، بعفوك يارحمن» عقب صلاة الصبح والعصر.

أما بين المغرب والعشاء فكان يذكر ما ورد في بداية «اللمعات» من دعاء سيدنا يونس وأيوب عليهما السلام.

وبالنسبة لدعاء الجوشن الكبير والأوراد القدسية للشاه النقشبند، فقد داوم عليهما وبيّن أهميتهما في نهاية «اللمعة الثالثة عشرة». أما «دلائل النور» فهي مختارات من الصلوات المشهورة لدى الأولياء كالشيخ الگيلاني والسيد البدوي وإبراهيم الدسوقي والجنيد البغدادي وأمثالهم من الأقطاب. ولم يبين الأستاذ لهذه الصلوات وقتاً معيناً، وقد شاهدناه في سجن أفيون سنة 1949 يقرؤها قبل الفجر بعد انشغاله بالعبادات أربع ساعات ليلاً. ولكن عندما تجاوز به العمر في سنة 1954 قال قصرت أورادي إلى ساعتين.

وعلاوة على ذلك كان يقرأ «السكينة» و«التحميدية» تسع عشرة مرة يومياً، وقد شاهدناه يقرأ ذلك الدعاء ونحن داخلون عليه للدرس. إلّا أننا لم نسمع عنه ولم نشاهد أنه خصص وقتاً معيناً لقراءته.

وحسب ما أدركنا من الأستاذ، إنه ليس هناك قيد لقراءة الأدعية كلها يومياً. أو تخصيص قراءة أحد الأدعية يومياً. بل الأفضل أن يقرأ مقداراً معيناً من دعاء الجوشن يومياً.

التجويد المعنوي

كان الأستاذ يقرأ في الصلوات الجهرية -عندما كان في بارلا- ولاسيما صلاة الصبح السورَ التي تبدأ بـ«الحمد لله».. وكانت قراءته قراءة فوق المعتادة، فكأنه كان يشرح الآيات ويفسرها حيث كانت قراءته تحيط بروحه، فتشعر كأن هالة من نور إلهي يغمرك. فقراءته كانت تختلف تماماً عن قراءة غيره من قراء القرآن. فقد كان يقرأه حسب معناه أي حسب التجويد المعنوي.

بتّ ليلة عنده في بارلا. كان يقوم الليل كله إلا قليلاً أما مصلياً أو ذاكراً أو مسبحاً. وما كان ينام إلا قليلاً.

شاركني في الدعاء

كان يقوم لصلاة التهجد كل ليلة. وكنت أحياناً أراه وهو يصلي فلا أستطيع النوم. وعندما كان يراني مستيقظاً يقول لي: ما دمت مستيقظاً فتعال وشاركني في الدعاء.

ولكني كنت أجهل قراءة أي دعاء، فكان يقول لي: سأدعو أنا وردِّد أنت بعدي: آمين، فأنا أدعو بدعاء سيدنا يونس عليه السلام وبدعاء «أويس القرني» وأطرق باب رحمة الله بهما.

وكنت أغفو أحياناً في أثناء الدعاء فكان ينظر إليّ ويقول: لقد كنتُ أنا أيضاً مثلك.. ولكنك ستتعود.

لا راحة بعد اليوم

عندما كان ينشغل الأستاذ بعباداته وتضرعاته ومناجاته كان يجلس جلسة التشهد في الصلاة، وكان يطيل هذا النوع من الجلوس ساعات طوالا، حتى إنه من جراء هذا الجلوس تقرحت إصبع قدمه.

فذات يوم طلب من أحد طلابه وهو -مَلّا رَسُول-  مرهماً لمداواة إصبعه الذي كان منهمكاً في إيقاد الحطب وإشعاله في الموقد. فالتفت إليه ملا رسول قائلاً: ونحن أيضاً نخشى الله ونخافه يا أستاذنا، ولكنك ترتعد من خشيتك حتى تكاد مرارتك تنفجر. فلو كنت تجلس مطمئناً مثلنا لما تقرحت إصبعك!

فأجابه قائلاً: ملا رسول! ملا رسول! لقد جئنا إلى هنا لكي نظفر بحياة أبدية خالدة، بهذا العمر القصير والدنيا القصيرة. أأعيش هنا كيفما أشاء ثم أدّعي الجنة وأطلبها.. لا يجوز هذا أبداً…! فلا أجرؤ على العيش كما أهوى!

كان الأستاذ يقول هذا وملا رسول يضع المرهم على الجرح أملا بالشفاء.

كيف كان يقضي أوقاته؟

يقول أحد تلاميذه: على جوانب نبع «الزرنباد» الصافي القريب من جبل «أرَك» تتكاثف الأشجار وتلتف أغصانها وتتشابك، صنعنا للأستاذ ما يشبه منصة خشبية كي يجلس عليها فوق الشجر. أما نحن فكنا نجلس على الأرض تحت ظلال الأشجار.

كان الأستاذ لا يصرف وقته سدى قط، فلا أراه إلا قائماً يصلي أو داعياً متضرعاً أو مسبحاً ذاكراً أو متأملاً في ملكوت السماوات والأرض، فهو حتماً منشغل بشغل يهمه. وحينما يزوره الأصدقاء كان يكلمهم، ويأخذ معهم بأطراف الحديث، وأول ما يبادرهم بالسؤال: هل من مسجد في قريتكم؟ وأي درس يدرّسه أئمة المساجد؟ فإذا أجابه الزائر بأنه ليس لديهم مسجد ولا معلم يعلمهم كان يتألم كثيراً ويحزن، ويعجب من أمرهم كيف يعيشون في مكان ليس فيه مسجد ولا مرشد؟!

وكان يغضب كثيراً من الغيبة والكذب ولا يسمح -بأي حال- لأحد أن يغتاب أحداً عنده.

لم يؤذ حتى النملة

بدأ الجو يبرد شيئاً فشيئاً حيث الشتاء مقبل ونحن لازلنا على جبل أرك، كنا نتوقع هطول أمطار غزيرة وتساقط الثلوج بكثرة وكان المكان الذي نبقى فيه هو على شكل ربوة أو مرتفع صغير، فأراد الأستاذ أن نبني غرفة. فبدأنا ببناء الغرفة على هذا المرتفع، وعندما حفرنا الأساس وجدنا مملكة للنمل، ولما رأى الأستاذ النمل أمرنا بالتوقف، فسألناه عن السبب، قال: هل يجوز بناء بيت بهدم بيت آخر؟ لا تخربوا بيوت هذه الحيوانات. احفروا في مكان آخر غيره.

فبدأنا نحفر في مكان آخر فوجدنا مملكة أخرى أيضاً للنمل، وحفرنا ثالثة فوجدنا الشيء نفسه. وهكذا تكررت العملية ثلاث مرات. فسألني أحد الطلاب الذي كان يساعدني في هذا العمل: هل سيستمر الأمر هكذا؟ علينا أن نحفر في مكان ما فإذا ظهر النمل واريناه التراب لئلا يراه الأستاذ ومن بعد ذلك نستمر بالحفر، وإلا فسوف نظل إلى العشاء ولما نقم بشيء، فليس في هذه المنطقة شبر إلا وفيها مملكة للنمل.

وعلى كل حال بنينا غرفة صغيرة للأستاذ هناك، فكان الأستاذ كلما يرى النمل ويشاهد مملكته في الغرفة يقدم له البرغل والسكر وفتات الخبز.

فسألناه عن سبب تقديمه السكر للنمل فأجابنا ضاحكاً: فليكن السكر شاياً لهم!

كان الأستاذ شديد الشفقة والرأفة بالأحياء فلم أره طول حياته يؤذي حيواناً حتى النمل.

نظرة حرام

يقول تلميذه: عندما كنا مع الأستاذ في جبل «أرك»، أعددت مجموعة من الأسئلة علني أجد جوابها عنده، ولكن أثناء حديثه في جلستنا الاعتيادية أخذت جواب أسئلتي من دون أن أسأله عنها، وبقى لدىّ سؤال واحد فقط دون جواب، وهو سؤال يتعلق بالنظر إلى النساء.. ظل السؤال يدور في صدري من دون أن أبوح به، وإذا بالأستاذ يضرب فخذه بقوة ويقول: أنا لست راضياً عن أعمال سعيد القديم وتصرفاته، سوى ثلاث حالات كانت عنده، فأنا راض عنها… ثم قال: كنت أستبدل كل أسبوع ملابسي وأختار أجملها وأكثرها أناقة أيام كنت في إسطنبول ذات الحياة البراقة البهيجة.. كنت أذهب إلى أجمل مناطقها حتى إن أصدقائي العلماء التفتوا إلى هذه الظاهرة، فعينوا أحدهم -دون علمي- مراقباً لتصرفاتي وأوصوه بملاحظة جميع ما أقوم به واعمل.

وبعد مضي ثلاثة أيام -من المراقبة الخفية- جمعتنا جلسة معهم، فقالوا لي:

يا أخانا سعيد أنت على حق مهما عملت من عمل، فأنت مسدّد إلى الحق وسيوفقك الله.

استغربت هذا الكلام ومن حكمهم هذا عليّ، وعندما استفسرت عن السبب. قالوا:

كنا نراقبك منذ ثلاثة أيام، ونحصي تصرفاتك في جميع مناطق إسطنبول، ومن دون علمك، فلم نر ما يخالف الإسلام قط بل رأيناك منهمكاً بنفسك دون الآخرين، ولهذا نسأل الله أن يوفقك في مسعاك…

نعم، يا إخوتي! كما أن ناراً صغيرة بل حقيرة -كعود الكبريت- تحرق غابة عظيمة كثيفة تدريجياً وتجعلها أثراً بعد عين، كذلك النظرة إلى النساء تحرق عمل المؤمن اليومي شيئاً فشيئاً.. وأخشى أن تكون عاقبتها وخيمة. ثم أضاف: إن سعيداً القديم وهو في عنفوان شبابه وفي قلب إسطنبول وطوال عشر سنوات لم ينظر نظرة حرام ولو مرة واحدة ولله الحمد.

إصلاح الأسس

كان الأستاذ يعظ الناس في جامع «نورشين» أيام الجمع، فكان الحديث في الوعظ يدور حول مسائل الحشر، والآخرة، والتوحيد وما شابهها من مسائل الإيمان الأساسية وحقائقه الكبرى. فسأله «ملا رسول» ذات يوم قائلا: أخي الأستاذ، نحن لا نكاد نفهم موعظتك فكيف غيرنا؟! فأجابه الأستاذ: نعم، إن مواعظي غير مفهومة غالباً، لأن غايتي إصلاح الأسس التي يبنى عليها الإيمان، فإذا أصبح الأساس صلباً قوياً فلا يؤثر فيه مؤثر بعد حتى الزلازل. فليجلس أحدكم إذاً بجنبي كي يذكرني عندما يصبح الموضوع غامضاً، لأبسطه بسطاً وأشرحه واضحاً.

حياة كلها عمل

في صباح يوم جميل من أيام الربيع، ذهبت لأجمع الحطب، وكان الأستاذ يعاونني في العمل، فلم أقبل منه ذلك. فقلت: أستاذي الكريم إنني أكفيك العمل فلا تتعب نفسك.

أجابني قائلاً: أخي، إن همتي وغيرتي لا تسمحان لي بالقعود وأنت تعمل أمامي. فلو عرفتَ ما في الغيرة والهمة من خير لكنت تقضي عمرك كله دون أن تخلد إلى الراحة، فما كانت تفوتك دقيقة فارغة..

حقاً لقد كانت حياته كلها عملاً.

حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة

يقول ملا حميد: في أول زيارتي للأستاذ وأنا أحسبه شيخاً من شيوخ الصوفية بادرني بالقول وقبل أن أتكلم بشيء: «أخي أنا لست شيخاً، أنا إمام كالغزالي والإمام الرباني، فأنا مثلهم إمام، فعصرنا عصر حفظ الإيمان لا حفظ الطريقة».

الرعاية باتباع السنة

وفي إحدى زياراتي للأستاذ شربنا الشاي عنده، ولم أنهِ ما في القدح من شاي، وبقيت فيه فضلة منه، فقال لي الأستاذ: أخي أنت لا تعرف السنّة.

كان يقصد إرشادنا بأن إنهاء الشيء في القدح سنة من سنن الرسول ﷺ وترك الفضلة فيه إسراف والإسراف خلاف السنة.

أثر التواضع

كنت طالباً في كلية الآداب، بينما أنا جالس في الصف أستمع إلى الدرس إذ جاء أحدهم وقال لي: إن رجلاً في الباب يطلبك فأسرع إليه، فلما أتيته رأيت شاباً رشيقاً وجميلاً يرتدي زي القرويين، عرّف نفسه قائلاً: أنا المعلم «مصطفى صونغور» جئت إليك من عند الأستاذ.

وأخذ يضمني إلى صدره، وأنا في حالة خجل شديد لا أرغب في الاحتضان، حيث كنت أقول في نفسي كيف أحتضن هذا القروي وأنظار الطلاب من أهل المدينة مصوبة إلينا، فقد رأيت أن نفسي تستنكف الموقف الحرج. ولكن شخصية هذا الشاب القوية وإخلاصه التام وتضحيته في سبيل الإيمان وحبه الجم لرسائل النور قد أثرت فيّ كثيراً. فالذي أريد أن أقوله هو أن رسائل النور والأستاذ نفسه يكسبان الإنسان حالة صميمة وخالصة وجادة، ويجعلان الإنسان يتوجه إلى الباري عز وجل بقلب سليم وبتواضع حقيقي دون غرور أو حب للنفس، حيث يصبح الإنسان فعلا في حالة فطرية جميلة وبصورة دائمة، لأنه ينظر دائماً إلى الوجه الحسن من أمور الدنيا ولا يفكر إلا بالجميل منها.

فهذه الحالات كانت تبرز بشكل أوضح عند الأستاذ. وأينما التقيتَ مع أي طالب من طلاب النور إلا ورأيت فيه هذه الصفات الخاصة فتغمرك أخوة خالصة وتواضع جاد. ولذلك عندما رأيت الأستاذ لأول مرة أخذتني الحيرة من شدة تواضعه. حتى دفعني هذا التواضع الشديد منه إلى أن أسأل أحد طلابه قائلا: هل يعرف الأستاذ القراءة والكتابة؟ وهل يعرف اللغة العربية؟

وعلى الرغم من أن الأستاذ لا يتحدث عن نفسه قط، بل كان جلّ حديثه حول رسائل النور إلا أن تعامله معك كصديق حميم وأخ مخلص يجعلك تنجذب إليه سواء أكنت طالباً أم صديقاً، فترتبط معه من صميم قلبك، فهو يحاول ربطك بحقائق القرآن ورسائل النور التي هي تفسيره في هذا العصر.

القول اللين

يقول أحد تلاميذه: عندما كان أحد المسؤولين من ذوي المناصب العالية يأتي لزيارة الأستاذ كان يذكر له أولا محاسنه وفضائله، ويشوقه بهذا الكلام الطيب إلى الإيمان ويحبب إليه خدمة الإيمان. فعندما كنا في «أميرداغ» كان علينا أن نقدم تقريراً طبياً حول حالة الأستاذ الصحية إلى المحكمة في «صامسون». وكان الناس يعتقدون بأن طبيب المدينة هو رجل ملحد شيوعي وأنه يعادي الأستاذ. ولم نكن نعتقد بأن هذا الطبيب سيكتب التقرير المطلوب للأستاذ، ولكن قبل زيارة الطبيب وحينما أتي الطبيب لزيارته كان الأستاذ متمدداً على فراشه يعاني من مرض شديد ومع هذا جلس مع الطبيب ساعات طويلة وحده. فبقدر ما فهمنا بعد ذلك من هذه الجلسة، أن الأستاذ قد تكلم مع الطبيب عما عاناه من مصاعب ومشاق، وأن غايته في الحياة ليست سوى الإيمان. ثم بين له أنه بحاجة إلى تقرير طبي، ولكنه قال للطبيب: لا أطلب منك أن تزودني بالتقرير باسمك، لأنني أخشى عليك الأذى. بل حوِّله إلى مدينة «أسكي شهر». ثم أعطاه الأستاذ كتاب «الحجة الزهراء» وأوصاه بالصلاة.. ولما خرج الطبيب من غرفة الأستاذ قال: يا خسارتنا.. لم نتعرف على هذا العالم من قبل.. فقد أصبحت مديناً لربي بقضاء الفوائت.

بل خادماً للقرآن

يذكر أحد الطلاب: كنا جالسين مع الأستاذ ذات يوم، فقال: كان بعض الطلاب -في سجن أفيون- يبدون شيئاً من الضيق والضجر. وعندما كنت أرى منهم هذا الوضع أتألم وأحزن. فقلت يوماً: يا رب أليس لي بين هؤلاء طالب؟ (أي طالب مخلص لا يبدي تذمراً) ولم أكمل الدعاء بعد حتى قام «طاهري موطلو»  قائلاً: نعم يا أستاذي!

فسررت لهذا الكلام سروراً بالغاً. وكان خير تسلية لي في حينه.

كان الأستاذ يطلق على الأخ طاهري بـ«الرائد». وحقاً لقد كان يتصف بخصال وشمائل قلما تجدها في غيره، فقد كان يصوم الأشهر الثلاثة طوال ثلاثين سنة من عمره، ولم أر منه أن صلى الوتر بعد العشاء وإنما كان يقوم الليل ويصلي التهجد ثم يوتر. لقد كان كنـز الدعوات لطلاب النور. وكان في طاعة تامة لأوامر الأستاذ ويطبقها بحذافيرها. لذا لم أسمع من الأستاذ أن قال لأحد من طلبة النور مثلما قاله للأخ طاهري، حين قال بحقه: «إن الأخ طاهري ولي من أولياء الله الصالحين، فعليه أن لا يعد نفسه أنه في الدنيا».

وفي أحد الأيام قال الأستاذ له: أتريد أن تعدّ نفسك في هذه الدنيا -أي تميل إليها قليلاً-؟ أم تريد أن تستخدم عاملاً وخادماً للقرآن الكريم؟ فأجاب: أستاذي الحبيب أرجوك.. بل خادماً للقرآن.

فقال الأستاذ ملتفتاً إلينا: بارك الله فيه، إنه حقاً ولي من الصالحين!

كان الأخ طاهري أكبرنا سناً، كما أنه أكثرنا عملا في سبيل القرآن؛ فما كانت تفوته كلمة أثناء قراءته القرآن الكريم أو أثناء تصحيحه الرسائل. ولقد ضحى بحياته كلها في سبيل خدمة القرآن. فإخلاصه الكامل في العمل كان يزيدنا نشاطاً وحيوية وشوقاً إلى خدمة الإيمان مهما كانت الظروف… كان رحمه الله مخلصاً لله. كل عمله كان لله. كنا نتخذه أباً معنوياً لنا لشدة شفقته علينا… لم يعرف التعب إليه سبيلاً ولم نره ملّ يوماً من العمل… رحمه الله رحمة واسعة.

لا تعب في الخدمة

لم يكن للأستاذ أي وقت فراغ طول حياته؛ فهو إما يقرأ أو يصحح أو يُقرأ له وهو يستمع.. كان في كلامه لطافة جمة وفيض كبير، إذ ما كنا لنتضايق ولا نملّ حتى لو طال الدرس من الصباح حتى المساء، وما كنا نضجر لو مشينا طريقاً طويلاً معه وابتلينا بمصاعب معه أو نال منا الجوع ما نال. وكلما شعرنا بضيق ننظر إلى وجهه الوضاح فترتاح نفوسنا وتنشرح صدورنا ونتحمس للعمل بشوق أكثر دون توقف ليلاً ونهاراً، رغم أننا قد لا ننام. فقد كنا نسهر الليالي الطوال من دون أن نشعر بالتعب لأجل الخدمة في نشر حقائق القرآن.

لا حياة لنصف إنسان

عندما كان كتاب «تاريخ حياة الأستاذ» تحت الطبع، وصلت رسالة إلى الأستاذ يسأل فيها صاحبها عن جواز الصورة الفوتوغرافية، قرأنا الرسالة على الأستاذ فتبسم وطلب قلم رصاص وجئنا له بالقلم فمر بخط على عنق الصورة وقال معقباً: لا حياة لنصف إنسان. فابعثوا له بالجواب مقروناً بهذه الصورة بهذا الشكل.

وهناك حادثة شبيهة بهذه وهي أنه: بعدما أخلي سبيل الأستاذ من سجن «أفيون» أستأجر بيتاً وبقي الأخ زبير معه في خدمته وملازمته.

وفي أحد الأيام جاء الأخ طاهري من مدينة إسبارطة لزيارة الأستاذ فبات ليلة واحدة ضيفاً عند الأستاذ. فكان الأخ طاهري يخرج محفظته من جيبه كلما أراد أن يدخل الصلاة لاحتواء النقود على صورة إنسان. وفي الصباح الباكر وبعد أن ودع الأخ طاهري أستاذنا قصد محطة نقل المسافرين، وعندما همّ بقطع تذكرة السفر فطن أنه نسي محفظته في دار الأستاذ، وأسرع بالرجوع إلى دار الأستاذ واستأذن بالدخول وأتاه الأخ زبير بمحفظته فلمحه الأستاذ وقال له: «لا تكرر هذا مرة أخرى، فلا حياة لنصف إنسان!».

لا أعمل بالرؤيا

في أحد الأيام بعث أحد الإخوة من مدينة «دياربكر» برسالة إلى الأستاذ يكتب فيها ما رآه أحد الإخوة هناك من رؤيا صالحة.

فقد رأى فيما يرى النائم مجلساً يحضره الرسول العظيم ﷺ ومعه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم والشيخ عبدالقادر الكيلاني قدس الله سره، فيدخل عليهم جبريل عليه السلام ويقول لهم: إن طبع الرسائل ونشرها والقيام بخدمة القرآن على هذه الشاكلة المعنوية قد انتهى دوره حيث جاء دور الجهاد المادي.

قرأنا الرسالة على الأستاذ، فطلب الأستاذ ورقاً وقلماً في الحال وأملى علينا هذا الجواب: إن ما رأيتموه من رؤيا يا أخي هو رؤيا مباركة ولكنها تحتاج إلى تأويل وتعبير وتفسير، فالجهاد المادي في الرؤيا هو الجهاد المعنوي في سبيل خدمة الإيمان، لأن الظهور على الأعداء والغلبة عليهم لا يقتصر على الجهاد المادي، فرؤياكم إشارة إلى انتصار البراهين الإيمانية المعنوية الساطعة على الكفر المطلق، فإياكم والتأويل المادي، والظن بأن الجهاد هو جهاد مادي فحسب، هذا فضلاً عن أنني لا أعمل بالرؤيا.

خدمة الإيمان

كان الأستاذ يرشد طلابه في دروسه التي يمليها علينا قائلاً:

«إخواني، إن وظيفتنا هي خدمة الإيمان والقرآن الكريم بإخلاص تام. أما توفيقنا ونجاحنا في العمل وإقبال الناس إلينا ودفع المعارضين عنا، فهو موكول إلى الله سبحانه، فنحن لا نتدخل في هذه الأمور. وحتى لو غُلبنا فلا ينقصنا هذا شيئاً من قوتنا المعنوية ولا يقعدنا عن خدمتنا، فعلينا بالثقة والاطمئنان والقناعة انطلاقاً من هذه النقطة.

مثال هذا: «كان جلال الدين خوارزم شاه -وهو أحد أبطال الإسلام الذي انتصر على جيش جنكيز خان انتصارات عديدة-.. كان يتقدم جيشه إلى الحرب، فخاطبه وزراؤه ومقربوه: سيظهرك الله على عدوك، وتنتصر عليهم! فأجابهم: إن ما عليّ هو الجهاد في سبيل الله اتباعاً لأمره سبحانه، ولا حق لي فيما لم أكلف به من شؤونه، فالنصر والهزيمة إنما هي من تقديره هو سبحانه.

وأنا أقول مقتدياً بذلك البطل: «إن وظيفتي هي خدمة الإيمان، أما قبول الناس للإيمان والرضى به فهذا أمر موكول إلى الله. فأنا عليّ أن أؤدي ما عليّ من واجب، ولا أتدخل فيما هو من شؤونه سبحانه»».

حسن الظن

لم يكن الأستاذ يقبل أن يغتاب أحد أمامه، فإذا ما قلنا في مجلسه: يا أستاذنا إن فلاناً قال كذا وكذا، يجيبنا بقوله: «أنتم على خطأ، إنه صديق حميم لي، وهو من قراء رسائل النور، وشخص مثله لا يقول ما تذكرونه عنه. كأنكم تريدون أن تقطعوا ما بيننا من علاقات ووشائج».

وأحياناً كانت ترده رسالة أو يقول له أحدهم: إن العالم الفلاني يعادي الأستاذ ورسائلَ النور، ويقول الأستاذ: إن هذا الرجل هو من أهل العلم فهو صديقنا، فيضطر القائل أن يسكت. وكان دائماً يحاول أن يؤَوِّل الأمور بحسن الظن ويحثنا على ذلك ويقول: «نحن مكلفون بحسن الظن».

الترابط الوثيق

ذات مرة جاءت من مدينة «قونيا» جماعتان من طلاب النور لزيارة الأستاذ فشكت الجماعة الأولى من تصرفات الجماعة الثانية إلى الأستاذ قائلين: إنهم لا يأخذون حذرهم ولا يحتاطون للأمر بل يقومون بإلقاء الدرس في المسجد. والجماعة الثانية شكت أيضاً من الجماعة الأولى، فقال لهم: «إخوتي! إن الإسلام لا حاجة له بخدمتكم وعملكم بقدر ما هو بحاجة ماسة إلى تساندكم وترابطكم، فعليكم أن تقرؤوا بين حين وآخر كلا من رسائل: «الإخلاص» و«الأخوة» و«الهجومات الست» فيما بينكم ذلك لأن تساندكم وإخلاصكم وثباتكم وصلابتكم السائدة فيما بينكم منذ البداية ستكون مفخرة لهذه البلاد».

وعندما كان الأستاذ يدرّس مواضيع الفداء والتضحية يذكر طلابه في الولايات الشرقية ذكراً حسناً ويضرب بهم الأمثال العالية.

الفصل الثالث مع الزائرين

الفصل الثالث مع الزائرين

 قاعدة تخص الزائرين

«ليكن معلوماً لدى الجميع، أن الذي يزورنا إما أنه يأتي إلينا لأجل أمور تخص الحياة الدنيا. فذلك الباب مسدود.

أو أنه يأتي إلينا من حيث الحياة الآخرة، ففي تلك الجهة بابان: فإما أنه يتصور إنني رجل مبارك صاحب مقام عند الله ولأجل هذا يأتي إلينا، هذا الباب أيضاً مسدود. إذ لا تعجبني نفسي ولا يعجبني من يعجب بي. فحمداً لله أجزل حمد إذ لم يجعلني راضياً عن نفسي.

أما الجهة الأخرى فهو يأتي إلينا لكوني خادماً للقرآن ودلّالاً له وداعياً إليه ليس إلّا. فمرحباً وأهلاً وسهلاً وعلى العين والرأس لمن يأتينا من هذا الباب».

حديث الأستاذ مع الزائرين

«أرسل الأستاذ يوماً أحد طلابه إلى أنقرة لبعض شؤون الدعوة، ولما أطلع الطالب على أوضاع الناس هناك، قال في نفسه: هيهات! متى يستمع هؤلاء إلى حقائق النور، وكيف سيمزق ستار الغفلة الكثيفة! فاستولى عليه اليأس. وعندما رجع إلى الأستاذ خاطبه قائلاً: إن وظيفتنا هي الخدمةُ، أما التوفيق وإفهام الناس فهو يخص الله سبحانه، ونحن مكلفون بأداء مهمتنا، فلا داعي لليأس، فلا أهمية للكثرة بل الأهمية في النوعية، فربّ طالب مخلص مضحٍ خير من ألف من غيره.. وهكذا أزال يأسه.

كان الأستاذ يتجول أيام الربيع والصيف -ونادراً في الشتاء- في ضواحي «أميرداغ» مشياً على الأقدام وأحياناً يخرج للتجوال بعربة يجرها الحصان. ويدفع أجرة العربة ويقول: أنا مضطر إلى دفع الأجرة فإن لقمة طعام هدية بدون ثمن تمرضني.

وعندما كان يتفسح في الوديان والغابات وحيداً كان الجندرمة يتعقبونه دائماً، فيجلس في مواضع متعددة لتصحيح الرسائل أو للتأمل والتفكر في خلق الله. استمر هذا الوضع حتى سنة 1947. وكان شديد الاهتمام بأمور الاستنساخ اليدوي أو بالرونيو عندما حصل عليها طلابه. ويقول: «إن رسائل النور معجزة قرآنية تنور هذا العصر والذي يليه من العصور». ويعدّ خدمة النور أجلّ الوظائف في هذا الزمان، حتى أصبح العمل للنور لديه غذاءه الروحي؛ إذ كان يصرف ساعات طوالاً في التصحيح، ولا يعرف التعب إليه سبيلاً. ولم ينقطع عن العمل حتى في أوقات مرضه الشديد.

وحرم من المؤانسة والسلوى بالناس، ولكنه ظفر ضمن هذا الحرمان بما لا ينضب معينه من ثروة عظيمة، إذ أحسن الله سبحانه إليه برحمته رسائل النور. فهي كل ما يملكه، وفرحه وسروره ونشوته ونبع سلواه كلها في رسائل النور. وإليها يصرف كل ما وهبه الله من قابليات وملكات، فكان يعدّ وظيفته الفطرية وسر خلقته تعليم الناس رسائل النور ونشرها.

ولا شك أنه في أثناء تجواله يصادف أصنافاً شتى من الناس فكان يتلاطف ويتبادل الحديث معهم.

ومن الثابت بمشاهدات الذين خبروه عن قرب واطلعوا على حياته أنه بلغ الذروة في العفة والاستقامة حتى في شبابه وصباه.. فكان كثير الدعاء للأطفال الأبرياء، والنساءِ بطلات الشفقة والحنان. فكان يذكّرهن بأنهن مسؤولات أمام الله عن تربية أولادهن على الإسلام ويكون لهن حظ من حسناتهم، ويرجو منهن الدعاء ويعتبرهن أخوات له في الآخرة، ويوجز الكلام معهن. والنساء بصفاء قلوبهن يدركن مدى كونه نموذجاً سامقاً من أهل الحق والحقيقة.

أما محاوراته مع الأطفال الأبرياء فتنطوي على عبر دقيقة ولذة عميقة؛ فكان يوليهم أهمية كأهميته للكبار ويتوجه إليهم قلباً حيث كانوا يهرعون إليه من القرى المجاورة. ويقول لهم: أولادي أنتم أبرياء لا ذنب لكم بعدُ. أرجو منكم الدعاء لي فإني مريض جداً فدعواتكم مقبولة إن شاء الله. وأنا بدوري أشرككم في دعائي وأعدّكم أولاداً معنويين لي وطلاباً للنور.. ويعزو سبب اهتمامه بهم بأن هؤلاء طلاب النور في المستقبل، أما توجههم إليّ واهتمامهم بي، فهو أن أرواحهم الصافية البريئة تشعر بأن رسائل النور أتت لإسعافهم وإمدادهم، وحيث إنني ترجمان تلك الأنوار فيبدون هذه المحبة والعلاقة الحميمة بغير اختيار منهم.

أما الشباب الذين كانوا يتناوبون عليه أحياناً فكان يوصيهم بقراءة رسائل النور والحذر من مهالك ضياع الأخلاق في هدا العصر وبلزوم أداء الصلوات. وبفضل الله فقد صحا الكثيرون من رقدتهم.

كان الأستاذ يتكلم حسب المستويات سواء أكان المستمع من عوام الناس أو من خواص العلماء، وكان يزوره أحياناً أهل القرى أو الرعاة فيتكلم معهم بنفس لغتهم ومستواهم وهضم نفس وتواضع، فيصبح الزائر مسروراً وممتناً له. بينما إذا تكلم مع البروفسور تكلم عن علم الفلك أو عن مساحة الكرة الأرضية أو قطرها ويستنتجه بالأرقام أو يتكلم عن دوران الأرض حسب الدقائق والثواني ويحسب عدد قطرات الأمطار التي تسقط على الأرض في الدقيقة الواحدة… إلخ، فكان العجب والحيرة يأخذان بالألباب من علمه الغزير بهذه المسائل.

وعندما كان يتحدث إلى الموظفين والعمال -في أثناء تجواله- يلقى عليهم دروساً تناسب عملهم ويهتم كثيراً بأداء الصلوات. ويقول لهم: إن أعمالكم الدنيوية أيضاً تكون أعمالاً مثابة عليها ما أديتم الصلوات. ومعلوم مدى الشوق والحرص على العمل فيما إذا فكر الإنسان بأن عمله وجهده يحسب له ثواباً في الآخرة بإقامة الصلاة. وفي الحقيقة إن هذه التوصية مرشدة جميع الموظفين والعاملين والتجار وأصحاب المهن والحرف؛ نورد هنا نماذج منها:

كنا مع الأستاذ في فندق «يلدز» في «أسكي شهر» فقال لزائريه من عمال معمل السكر ورؤسائهم: إن جميع أعمالكم في العمل ستكون بحكم العبادة ما أديتم الفرائض. لأنكم تؤدون للأمة خدمة مهمة في سد حاجة ضرورية للناس.

أقبل علينا أحد عمال سكة الحديد ونحن على بحيرة أغريدر نقرأ «مرشد الشباب» قال له الأستاذ: إن جميع أعمالك بحكم العبادة إذا أديت الفرائض واجتنبت الكبائر. حيث العمل في طريق القطار الذي يقطع مسافة عشر ساعات في ساعة واحدة، خدمة للإنسان لا تذهب سدى عند الله، وسيوفيها سبحانه يوم القيامة سعادة أبدية.

زاره يوماً عدد من الضباط والطيارين والجنود، في «أسكي شهر». فقال لهم القول نفسه: هذه الطائرات ستكون في خدمة الإسلام يوماً ما. فإذا ما أديتم الفرائض أو أديتم ما يفوتكم منها بالضرورة قضاءً -حيث إنكم عسكريون- فساعة واحدة من ساعاتكم تكون بمثابة عشر ساعات من العبادة، ولاسيما الطيار فإن ساعاته بمثابة ثلاثين ساعة من الساعات المثاب عليها. يكفي أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان ويوفي حق الصلاة التي يفرضها الإيمان.

وكان يقول للرعاة في كل من أميرداغ وإسبارطة وبارلا: إن رعاية هذه الحيوانات عبادة عظيمة حتى إن الله سبحانه أرسل رسلاً وأنبياء رعاةً، إلّا أن عليكم بأداء الفرائض كي تعدّ خدمتكم عبادة.

زاره يوماً عمال الكهرباء ورؤساؤهم في أغريدر. فقال لهم: للكهرباء منافع جمة تعم الناس أجمعين، فأدُّوا الفرائض كي تنتفعوا منها، إذ ستكون مساعيكم كلها تجارة أخروية رابحة وعبادة مثابا عليها..

وهناك عشرات الألوف من هذه الأمثلة».

بيان إلى الزائرين

«إلى جميع إخوتي الأعزاء الراغبين في مقابلتي وزيارتي أبيّن لهم الآتي:

إنني لا أطيق مقابلة الناس ما لم تكن هناك ضرورة، إذ التسمم الحالي، والضعف الذي اعترى جسمي، وكذا الشيخوخة والمرض.. كل ذلك جعلني عاجزاً عن التحدث كثيراً. ولأجل هذا أبلّغكم يقيناً أن كل كتاب من رسائل النور إنما هو «سعيد». فما من رسالة تطالعونها إلّا وتستفيدون فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف، بل تواجهونني مواجهة حقيقية. فلقد قررت أن أذكر في دعواتي وقراءاتي صباح كل يوم أولئك الراغبين في لقائي لوجه الله بديلاً عن عدم استطاعتهم اللقاء، وسأستمر على هذا القرار.

ومنذ شهرين لا يستطيع أستاذنا الكلام حتى مع من يعاونه في أموره، حيث ترتفع حرارته متى ما بدأ بالتكلم. وقد قال بناء على إخطار قلبيّ: إن حكمة هذا هي أن رسائل النور لا تدع حاجة إليّ. فلا داعي للكلام. فضلاً عن أنني قد لا أتكلم إلّا مع عشرين أو ثلاثين من أحبتي فلربما مُنعت من الكلام لئلا يجرح شعور أُلوف الأحبة الآخرين. فليعذرني الإخوة عن اللقاءات الخاصة».

الفصل الثاني مدرسة الزهراء

الفصل الثاني مدرسة الزهراء

الأسباب الموجبة لتأسيس مدرسة الزهراء

1- تدني العلوم في المدارس الدينية

«إن ترك المستعد لما هو أهل للقيام به، وتشبثه بما ليس أهلاً له، عصيان كبير وخرق فاضح لطاعة الشريعة الكونية (شريعة الخلقة). إذ من شأن هذه الشريعة: انتشار استعداد الإنسان ونفوذ قابليته في الصنعة واحترام مقاييس الصنعة ومحبتها وامتثال نواميسها والتمثل بها. وخلاصة الكلام: أن شأن هذه الشريعة الفناء في الصنعة.

وإذ وظيفة الخلقة هي هذه، فإن الإنسان بمخالفته هذه الشريعة؛ يغير الصورة اللائقة بالصنعة ويخل بنواميسها. ويشوّه صورة الصنعة غير الطبيعية -التي تشبث للقيام بها- بميله الكامن للصنعة الأخرى لعدم الامتزاج بين الميل والصنعة، فيختلط الحابل بالنابل.

وبناءً على هذا: فإن كثيراً جداً من الناس يمضي بميل السيادة والآمِريّة والتفوق على الآخرين، فيجعل العلم المشوّق المرشد الناصح اللطيف، وسيلة قسر وإكراه لاستبداده وتفوقه، فبدلاً من أن يخدم العلم يستخدمه. وعلى هذا فقد دخلت الوظائف بيد من ليسوا لها أهلاً، ولاسيما الوظائف في المدارس الدينية، فآلت إلى الاندراس نتيجة هذا الأمر.

والعلاج الوحيد لهذا: تنظيم المدرسين الذين هم في حكم العاملين في دائرة واحدة، في دوائر كثيرة كما هو الحال في الجامعة، كلٌ في مجال اختصاصه، ليذهب كل واحدٍ بسوق إنسانيته، وبتوجهه نحو حقه، ينفّذ قاعدة تقسيم الأعمال بميله الفطري امتثالاً للأمر المعنوي للحكمة الأزلية إن السبب المهم الذي أدّى إلى تدني علوم المدارس الدينية، وصرفها عن مجراها الطبيعي هو أن العلوم الآلية لما أدرجت في عداد العلوم المقصودة، أصاب الإهمال العلوم العالية، إذ سيطر على الأذهان حلّ العبارة العربية التي لباسها (لفظها) في حكم معناها، وظل العلم الذي هو أصل القصد تبعياً. زد على ذلك، أن الكتب التي أصبحت في سلسلة التحصيل العلمي رسمية، وعباراتها متداولة إلى حد ما. هذه الكتب حصرت الأوقات والأفكار في نفسها ولم تفسح المجال للخروج منها».

2- إصلاح الولايات الشرقية

«كنت ألمس الوضع الرديء لما كان يعيشه أهالي الولايات الشرقية فأدركت أن سعادتنا الدنيوية ستحصل -من جهة- بالعلوم الحديثة الحاضرة، وأن أحد الروافد غير الآسنة لتلك العلوم سيكون العلماء، والمنبع الآخر سيكون حتماً المدارس الدينية، كي يأنس علماء الدين بالعلوم الحديثة.

وحيث إن زمام الأمر في تلك البقاع التي أغلبيتها الساحقة أُمّيون بيد علماء الدين، فهذا الشعور هو الذي دفعني إلى المجيء إلى إسطنبول. ظناً مني أن نلقى السعادة في «دار السعادة» في ذلك الوقت.

[فقدّم إلى السلطان عبد الحميد العريضة الآتية لضرورة إنشاء مدرسة الزهراء في الولايات الشرقية:]

على الرغم من أن الحكومة على علم بأحوال أهالي كردستان الذين يمثلون عنصراً مهماً في الأمة العثمانية، فإني أرجو السماح لي بتقديم بعض المطاليب الخاصة بالخدمة العلمية السامية.

إن في هذا العالم، عالم الرقيّ والحضارة، ينظر بعين الشكر والتقدير إلى أوامر الحكومة بإنشاء مدارس في قصبات كردستان وقراها، أسوة بالإخوة الآخرين وبجنب ما تنجزه من خدمات في مرافق أخرى. إلّا أن مدى الاستفادة من هذه المدارس ينحصر في الذين يعرفون اللغة التركية، بينما يحرم الأكراد من العلوم والمعارف لعدم معرفتهم باللغة التركية ولعدم معرفة معلميهم باللغة المحلية، لذا لا يجدون أمامهم سوى الانخراط في المدارس الدينية طريقاً للمعرفة، مما يسبب شماتة الغرب لتفشي الجهل وحدوث الاضطرابات وانتشار الشبهات والأوهام فيما بينهم. وهذا ما يدعو أهل الغيرة والحمية إلى التأمل حيث الأكراد قد ظلوا في أماكنهم، بينما استفاد من هم أوطأ منهم من كل جهة منذ القدم من توقفهم هذا.

فهذه النقاط الثلاث تقض مضجع أهل البصيرة، لأنها تمهّد لضربة عنيفة توجّه إلى الأكراد في المستقبل.

وعلاج هذا النقص هو قيام الحكومة بفتح ثلاث مدارس نموذجية للتعليم في مواقع مختلفة من كردستان.

إحداها: في «بيت الشباب» التي هي مركز عشائر الأرتوشي.

ثانيتها: وسط «موتقان» و«بلقان» و«ساسون».

ثالثتها: في «وان» التي تمثل وسط «حيدران» و«سبكان».

وتدرس في هذه المدارس العلوم الدينية مع العلوم الحديثة الضرورية، وليكن في كل مدرسة خمسون طالباً في الأقل تتكفل الحكومة بمعاشهم.

ومن الأسباب المهمة لحياة كردستان المادية والمعنوية مستقبَلاً هو إحياء بعض المدارس. ويتم بإرساء أسس المعارف في هذه المنطقة، فتتقرر وحدة الأمة عليها، وتسلّم قوتها العظيمة -التي تضيع نتيجة الاختلافات الداخلية- إلى الحكومة لتوجيهها لمقاومة الأعداء في الخارج.

وبهذا يتيسر لأهل المنطقة السبيل لإظهار جوهر فطرتهم واستعدادهم لتقبل المدنية واستحقاقهم العدل».

3- المؤامرة الخبيثة على القرآن

«قبل خمسة وستين عاماً أخبرني والٍ من الولاة أنه قرأ في الصحف: إن وزير المستعمرات البريطاني خطب وبيده نسخة من المصحف الشريف قائلاً: «إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين ما دام هذا الكتاب بيدهم، فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به».

وهكذا دأبت المنظمات المفسدة الرهيبة على تحقيق هاتين الخطتين: إسقاط شأن القرآن الكريم من أعين الناس، وفصلهم عنه. فسعوا في هذا المضمار سعياً حثيثاً للإضرار بهذه الأمة المنكوبة البريئة المضحية.

وقد قررتُ قبل خمس وستين سنة أن أجابه هذه المؤامرات الخطرة مستمداً القوة من القرآن العظيم، فألهمني قلبي طريقاً قصيراً إلى الحقيقة، وإنشاء جامعة ضخمة. فمنذئذ نسعى لإنقاذ آخرتنا.

وإحدى ثمراتها أيضاً إنقاذ حياتنا الدنيوية من الاستبداد المطلق، والنجاة من مهالك الضلالة.

وإنماء علاقات الأخوة بين الأقوام الإسلامية. وقد وجدنا وسيلتين في هذه السبيل:

الوسيلة الأولى: رسائل النور التي تقوي وشائج الأخوة الإيمانية بتقوية الإيمان. والدليل على ذلك تأليفها في وقت الظلم والقسوة الشديدة، وتأثيرها البالغ في أنحاء العالم الإسلامي وفي أوروبا وأمريكا -في الوقت الحاضر- وغلبتها على المخلّين بالنظام والفلسفة الملحدة، وظهورها على المفاهيم الإلحادية السارية كالفلسفة الطبيعية والمادية مع عدم جرحها من قبل أية محكمة أو لجنة خبراء. وسيتبنى أمثالكم بإذن الله ممن كشفوا عن مفتاح الأخوة الإسلامية، هذه الرسائل التي تمثل نوراً من أنوار القرآن الكريم وينشرها في العالم الإسلامي كله.

الوسيلة الثانية: قبل خمس وستين سنة أردت الذهاب إلى الجامع الأزهر باعتباره مدرسة العالم الإسلامي، لأنهل فيه العلوم. ولكن لم يُكتب لي نصيب فيه، فهداني الله إلى فكرة وهي: أن الجامع الأزهر مدرسة عامة في قارة إفريقيا، فمن الضروري إنشاء جامعة في آسيا على غراره، بل أوسع منه بنسبة سعة آسيا على إفريقيا. وذلك لئلا تُفسد العنصرية الأقوامَ في البلدان العربية والهند وإيران والقفقاس وتركستان وكردستان وذلك لأجل إنماء الروح الإسلامية التي هي القومية الحقيقية الصائبة السامية الشاملة فتنال شرف الامتثال بالدستور القرآنى ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ﴾ (الحجرات:10).

وكذلك لتتصافح العلوم النابعة من الفلسفة مع الدين. وتتصالح الحضارة الأوروبية مع حقائق الإسلام مصالحة تامة. ولتتفق المدارس الحديثة وتتعاون مع المدارس الشرعية في الأناضول.

لذا بذلت جهدي كله لتأسيس هذه الجامعة في مركز الولايات الشرقية التي هي وسط بين الهند والبلاد العربية وإيران والقفقاس وتركستان، وسميتها «مدرسة الزهراء». فهي مدرسة حديثة ومدرسة شرعية في الوقت نفسه. فمثلما بذلت جهدي في سبيل إنشاء هذه الجامعة بذلته في سبيل نشر رسائل النور…»

4- دفعاً للنعرات القومية وإقراراً للسلام في المنطقة

«لقد ظهرت أضرار النعرة القومية والعنصرية في عهد الأمويين، كما فرّقت الناس شرّ فرقة في بداية عهد الحرية وإعلان الدستور، حيث تأسست النوادي والتكتلات، كما استغلت إثارة النعرة القومية مجدداً للتفريق بين الإخوة العرب النجباء وبين الأتراك المجاهدين، فعّم الاضطراب وسُلبت راحة الناس.

علماً أن الإضرار بالناس بأعمال سلبية هو فطرة القومية والعنصرية التي فطروا عليها. والأتراك مسلمون في أنحاء العالم كافة فقوميتهم مزجت بالإسلام لا يمكن فصلهم عنه. فالتركي يعني المسلم. حتى إن غير المسلم منهم لا يكون تركياً. وكذلك العرب فإن قوميتهم مزجت بالإسلام أيضا وينبغي هكذا. فقوميتهم الحقيقية هي الإسلام وهو حسبهم. ألا إن العنصرية ودعوى القومية خطر عظيم..

وقد أجاب «سعيد القديم» الذين اعترضوا من النواب بالآتي:

لنفرض فرضاً محالاً أنكم لستم بحاجة إلى ذلك، ولكن ظهور أكثر الأنبياء في آسيا والشرق وظهور أكثر الحكماء والفلاسفة في الغرب يدل على أن الذي يدفع آسيا إلى الرقيّ الحقيقي هو الشعور الديني أكثر من العلوم والفلسفة. فإن لم تأخذوا بهذا القانون الفطري وأهملتم الأعراف الإسلامية بحجة التغرب وأسستم الدولة على الإلحاد، فأنتم مضطرون أيضاً إلى الانحياز إلى الإسلام – لصالح الوطن والأمة – إقراراً للسلام في الولايات الشرقية الواقعة بين أربع دول كبرى.

وأورد لكم مثالاً واحداً من بين ألوف الأمثلة:

حينما كنت في مدينة «وان» قلت لأحد طلابي الأكراد الغيورين: لقد خدم الأتراكُ الإسلامَ كثيراً، فكيف تراهم؟ قال: إني أفضّل تركياً مسلماً على شقيقي الفاسق، بل أرتبط به أكثر من ارتباطي بوالدي، لخدمته الإيمان خدمة فعلية.

ومرت الأيام والسنون، ودخل ذلك الطالب -أيام أسري- المدرسةَ الحديثة في إسطنبول. ثم قابلته بعد عودتي فلمست أنّ عرق القومية الكردية قد تحرك فيه من جراء الدعوى العنصرية التركية لدى بعض معلميه. فقال لي: إنني أفضل الآن كردياً فاسقاً مجاهراً بل ملحداً على تركي صالح.. ثم جلست معه بضع جلسات فأنقذته بإذن الله، فاقتنع أن الأتراك هم جنود أبطال لهذه الأمة.

فيا أيها النواب السائلون!

إن في الشرق حوالي خمسة ملايين من الأكراد وحوالي مائة مليون من الإيرانيين والهنود وسبعين مليوناً من العرب وأربعين مليوناً من القفقاس، فهؤلاء جميعاً تربطهم الأخوة وحسن الجوار وحاجة بعضهم إلى البعض الآخر.

فأنا أسألكم! أيّهما أكثر ضرورة: الدرس الذي يتلقاه الطالب في مدرسة «وان» الجامعة بين الشعوب والأمم، أم الدرس الذي يفرق بين تلك الشعوب ويجعله يحصر تفكيره بقومه فقط وينكر أخوّة الإسلام، ويبذل جهده لتعلم العلوم الفلسفية دون اعتبار للعلوم الإسلامية، ألا تكون حاله كحالة الطالب الثانية؟

وعقب هذا السؤال قام المتغربون من النواب والمتحللون من الأعراف الإسلامية بتوقيع القرار. ولا أرى داعياً لذكر أسمائهم.. سامحهم الله، لقد توفوا..

إن هذه الجامعة حجر الأساس لإحلال السلام في الشرق الأوسط وقلعته الحصينة وستثمر فوائد جمة لصالح هذه البلاد والعباد بإذن الله.

إن العلوم الإسلامية ستكون أساساً في هذه الجامعة، لأن القوى الخارجية المدمّرة قوى إلحادية، تمحو المعنويات، ولا تقف تجاه تلك القوى المدمرّة إلّا قوة معنوية عظيمة، تنفلق على رأسها كالقنبلة الذرية».

5- وفاة المدارس الدينية

«إنه بوفاة مدرسة «خُورْخور» التي هي تحت قلعة «وان» الصلدة والتي هي مدرسة ابتدائية لمدرسة الزهراء، وغلقِ المدارس الشرعية في الأناضول كافة الدال على وفاتها، توفيت جميع المدارس، وكأن قلعة وان صارت شاهداً لقبرها العظيم. فيا أيها المُقبلون بعد ثلاثمائة سنة ازرعوا على قمة هذه القلعة زهرة مدرسة نورية»

مواقع تأسيسها

«نطلب تأسيس مدرسة الزهراء -شقيقةِ الجامع الأزهر- التي تتضمن الجامعة. نطلب تأسيسها في «بتليس» مع رفيقتها في كل من «وان» و«دياربكر» جناحَي بتليس. اطمَئِنُوا أننا -نحن الأكراد – لسنا كالآخرين- فنحن نعلم يقيناً أن حياتنا الاجتماعية تنشأ من حياة الأتراك وسعادتهم».

شروطها

«أولها: التسمية باسم «المدرسة» لأنه مألوف ومأنوس وجذّاب، ومع كونه عنواناً اعتبارياً إلّا أنه يتضمن حقيقة عظيمة ممّا يهيّج الأشواق وينبّه الرغبات.

ثانيها: مزج العلوم الكونية الحديثة ودرجها مع العلوم الدينية معَ جعل اللغة العربية واجبة، والكردية جائزة، والتركية لازمة. وذلك لتخليص المحاكمة الذهنية (العقلية) من ظلمات السفسطة الحاصلة من أربعة أنواع من الأقيسة التمثيلية الفاسـدة([1]) وإزالة المغالطة التي تولدها الملكة المتفلسفة على التقليد الطفيلي.

نعم، «إن ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الحديثة، فبامتزاجهما تتجلّى الحقيقة، فتتربّى همة الطالب وتعلو بكلا الجناحين، وبافتراقهما يتولد التعصب في الأولى والحيل والشبهات في الثانية».

الشرط الثالث: انتخاب المدرسين فيها، إما من العلماء الأكراد من ذوي الجناحين (أي الموثّقين والمعتمدين من قبل الأكراد والأتراك) أو ممن يعرفون اللغة المحلية ليُستأنس بهم.

الشرط الرابع: الاستشارة باستعداد الأكراد وقابلياتهم، وجعل صباوتهم وبساطتهم نصب العين. وكم من لباس يُستحسن على قامة، يستقبح على أخرى. وتعليم الصبيان قد يكون بالقسر أو بمداعبة ميولهم.

الشرط الخامس: تطبيق قاعدة «تقسيم الأعمال» بحذافيرها، حتى يتخرج من كل شعبة متخصصون مَهَرة مع أنها مداخل ومخارج بعضها ببعض.

إن الامتثال والطاعة لقانون التكامل والرقي للصانع الجليل -الجاري في الكون على وفق تقسيم الأعمال- فرض وواجب، إلّا أن الطاعة لإشارته ورضاه سبحانه الكامنين في ذلك القانون لم يوف حقهما. علماً أن يد عناية الحكمة الإلهية -التي تقتضي قاعدة تقسيم الأعمال- قد أودعت في ماهية البشر استعدادات وميولاً، لأداء العلوم والصناعات التي هي في حكم فرض الكفاية لشريعة الخلقة «السنن الكونية».

فمع وجود هذا الأمر المعنوي لأدائهما، أضعنا بسوء تصرفنا الشوق -الممد للميل، المنبعث من ذلك الاستعداد- وأطفأنا جذوته بهذا الحرص الكاذب، وبهذه الرغبة في التفوق التي هي رأس الرياء! فلا شك أن جزاء العاصي جهنم. فعُذّبنا بجهنم الجهل. لأننا لم نتمثل أوامر الشريعة الفطرية التي هي قانون الخلقة.. وما ينجينا من هذا العذاب إلّا العمل على وفق قانون «تقسيم الأعمال». فقد دخل أسلافنا جنان العلوم بالعمل على وفق تقسيم الأعمال.

الشرط السادس: إيجاد سبيل بعد تخرج المداومين وضمانُ تقدمهم واستفاضتهم حتى يتساووا مع خريجي المدارس العليا ويتعامل معهم بنفس المعاملة مع المدارس العليا والمعاهد الرسمية، وجعل امتحاناتها كامتحانات تلك المدارس منتجة، دون تركها عقيمة.

الشرط السابع: اتخاذ دار المعلمين -موقتاً- ركيزة لهذه المدرسة ودمجها معها، ليسري الانتظام والاستفاضة من العلم من هذه إلى تلك، والفضيلةُ والتدين من تلك إلى هذه، حتى يكون كل منها ذا جناحين بالتبادل».

وارداتـها

«س: ما وارداتها؟

ج: الحمية والغيرة..

ثم إن هذه المدرسة كنواة تتضمن -بالقوة- شجرة طوبى. فان اخضرّت بالحميّة والغيرة استغنت عنكم وعن خزائنكم المنضوبة، وذلك بجذبها الطبيعي لحياتها المادية.

س: بأية جهة؟

ج: بجهات عديدة.

الأولى: الأوقاف، لو انتظمت انتظاماً حقيقياً، لأسالَت إلى هذا الحوض عيناً سيالة بتوحيد المدارس.

الثانية: الزكاة، فنحن شافعيون وأحناف، فإذا أبدت -بعد حين- تلك المدرسة الزهراء خدماتها للإسلام والإنسانية، فلا ريب أن يتوجه إليها قسم من الزكاة وتحصرها لنفسها باستحقاق، وحتى لو كانت لها زكاة الزكاة لكفتها.

الثالثة: النذور والصدقات… فكما أن هذه المدرسة تكوّن وتمثل عند العقول أسمى «مدرسة» وبنظر القلوب والوجدان أقدس زاوية (تكية) وذلك بما تنشره من ثمرات وما تعمه من ضياء وما تقدمه للإسلام من خدمات جليلة. أي فكما هي مدرسة دينية فهي مدرسة حديثة، وتكية أيضاً. وحينها يتوجه إليها قسم من النذور والصدقات التي هي من جملة التكافل الاجتماعي في الإسلام.

الرابعة: الإعارة.. بتوسيع واردات دار المعلمين -بعد الدمج لأجل التبادل المذكور- توسيعاً نسبياً، يمكن إعارة تلك الواردات إليها موقتاً، وحينما تستغني -بعد مدة- ستردّ تلك العارية».

فوائدها وثمراتـها

«مجملاً:

تأمين مستقبل العلماء الأكراد والأتراك

وإقحام المعرفة عن طريق «المدرسة» إلى كردستان

وإظهار محاسن «المشروطية» و«الحرية» والاستفادة منها.

وفوائدها بالتفصيل:

الأولى: توحيد المدارس الدينية وإصلاحها…

الثانية: إنقاذ الإسلام من الأساطير والإسرائيليات والتعصب الممقوت، تلك التي أصابت سيف الإسلام المهنّد بالصدأ.

نعم، إن شأن الإسلام الصلابة في الدين وهي المتانة والثبات والتمسك بالحق، وليس التعصب الناشئ عن الجهل وعدم المحاكمة العقلية، إن أخطر أنواع التعصب -في نظري- هو ذلك الذي يحمله قسم من مقلدي أوروبا وملحديها، حين يصرّون بعناد على شبهاتهم السطحية، وليس هذا من شأن العلماء المتمسكين بالبرهان.

الثالثة: فتح باب لنشر محاسن المشروطية.

نعم، ليس هناك في العشائر من فكرٍ يجرح المشروطية، ولكن إن لم تستحسن في نظرهم فلا يستفاد منها. وهذا أشد ضرراً، فلا شك أن المريض لا يستعمل دواءً يظنه مشوباً بالسم.

الرابعة: فتح طريق لجريان العلوم الكونية الحديثة إلى المدارس الدينية، بفتح نبع صافٍ لتلك العلوم بحيث لا ينفر منها أهل المدارس الدينية، ولقد قلت مراراً بأن فهماً خطأً وتوهماً مشؤوماً قد أقاما -لحد الآن- سَدَّين أمام جريان العلوم.

إذ إن أهم الموانع، والبلاء النازل هو توهمنا -نحن والأجانب- بخيال باطل، وجودَ تناقض وتصادم بين بعض ظواهر الإسلام وبعض مسائل العلوم. فمرحى لجهود المعرفة الفياضة وانتشارها، وبخٍ بخٍ لعناء العلوم الغيورة، اللتين أمدّتا تحري الحقائق وشحنتا الإنسانية، وغرستا ميل الإنصاف في البشرية فجهزتا تلك الحقائق بالأعتدة لدفع الموانع، فقضت وستقضي عليها قضاءً تاماً.

نعم، إن أعظم سبب سلب منا الراحة في الدنيا، وحرم الأجانب من سعادة الآخرة، وحجب شمس الإسلام وكسفها هو سوء الفهم وتوهم مناقضة الإسلام ومخالفته لحقائق العلوم.

فيا للعجب! كيف يكون العبد عدوّ سيده، والخادم خصم رئيسه، وكيف يعارض الابن والده! فالإسلام سيد العلوم ومرشدها ورئيس العلوم الحقة ووالدها.

ولكن، يا للأسف.. هذا الفهم الخطأ، هذا الفهم الباطل، قد أجرى حكمه إلى الوقت الحاضر، فألقى بشبهاته في النفوس، وأوصد أبواب المدنية والمعرفة في وجه الأكراد وأمثالهم. فذعروا من توهم المنافاة بين ظواهر من الدين لمسائل من العلوم.

الخامسة: أكرر ما قلته مراراً -بل مائة مرة- إن هذه المدرسة تصالح بين أهل المدرسة «الدينية» والمدرسة «الحديثة» وأهل الزوايا (التكايا) وتجعلهم يتحدون -في الأقل- في المقصد، وذلك بما تحدث فيما بينهم من الميل وتبادل الأفكار.

نعم، نشاهد بأسى وأسف أن تباين أفكارهم كما فرّق الاتحاد فيما بينهم فإن تخالف مشاربهم قد أوقف التقدم والرقي أيضاً، وذلك لأن كلاً منهم بحكم المتعصب لمسلكه ونظره السطحي لمسلك الآخر، انساق إلى الإفراط والتفريط، ففرّط هذا بتضليل ذاك، وأفرط ذاك بتجهيل هذا.

الخلاصة: أن الإسلام لو تجسّم لكان قصراً مشيداً نورانياً ينور الأرض ويبهجها فأحد منازله «مدرسة حديثة»، وإحدى حجراته «مدرسة دينية»، وإحدى زواياه (تكية)، ورواقه مجمع الكل، ومجلس الشورى، يكمل البعض نقص الآخر.. وكما أن المرآة تمثل صورة الشمس وتعكسها فهذه المدرسة الزهراء ستعكس وتمثل أيضاً صورة ذلك القصر الإلهي الفخم في البلدان الخارجية».

الحكومات المتعاقبة تتبنى القضية

«لقد ألقيتُ هذه المباحث حول «مدرسة الزهراء» في السنة الثالثة من إعلان الحرية على صورة خطب للأهالي في كل من بتليس ووان ودياربكر وغيرها من الأماكن، وقابلوني جميعاً بالموافقة وبأن هذه المسألة حقيقة، وممكنة، وقابلة للتطبيق، لذا أستطيع أن أقول:إنني مترجم لما كان يدور بخلدهم في هذه المسألة.

فالسلطان «رشاد» رحمه الله هو أول من قدّر أهمية إنشاء هذه الجامعة، فخصص عشرين ألف ليرة ذهبية لإنجاز بنائها فقط. وحينما رجعت من الأسر في الحرب العالمية الأولى وافق مائة وثلاثة وستون نائباً -من بين مائتين- في البرلمان ووقّعوا على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة -بقيمة الليرة الثمينة آنئذٍ- للغرض نفسه. وكان مصطفى كمال من ضمنهم. وهذا يعنى أنهم أولوا أهمية لإنشاء هذه الجامعة أكثر من أي شيء آخر. بل وقّع ذلك القرارَ المتغربون من النواب الذين لا يهمهم أمر الدين من قريب أو بعيد والذين قطعوا صلتهم بالأعراف الإسلامية سوى اثنين منهم حيث قالا: نحن بحاجة إلى الحضارة الغربية أكثر من حاجتنا إلى الجمع بين العلوم الدينية والحديثة.

وهكذا طرحتُ عليهم مشروع بناء جامعة في مدينة «وان» باسم «مدرسة الزهراء» على غرار الأزهر الشريف.. حتى إنني وضعت حجرها الأساس بنفسي، ولكن ما إن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى شكلت من طلابي والمتطوعين «فرق الأنصار» وتوليت قيادتهم، فخضنا معارك ضارية في جبهة القفقاس مع الروس المعتدين في «بتليس»..

ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ إلى أنقرة، وسعيت في إنجاز تلك الحقيقة، وفعلاً وافق مائة وثلاثة وستون نائباً في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسة عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن يا للأسف -ألف ألف مرة- سدّت جميع المدارس الدينية، ولم أستطع أن أنسجم معهم فتأخر المشروع أيضاً.

وإنه لفأل حسن بعد انكسار حدّة الاستبداد الرهيب «سنة 1950» الذي دام خمساً وعشرين سنة، والذي أنهى حياة المدارس الشرعية، قرارُ وزير المعارف «توفيق إيلري» على إنشاء مدرسة الزهراء في «وان» باسم جامعة الشرق، واستصوب رئيس الجمهورية «جلال بايار» -من حيث لم يحتسب- قرار الوزير وجعله ضمن قائمة المسائل المهمة. وهذا ما كان يتمناه سعيد قبل أربعين سنة، وسيتحقق بإذن الله. حيث أدخل رئيس الجمهورية إنشاء الجامعة في الشرق ضمن المسائل السياسية المهمة، حتى إنه حاول إصدار قانون لتخصيص ستين مليوناً من الليرات لإنشائها..»

تحققها برسائل النور منهجاً وطلاباً

«إن المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائص المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في إسبارطة فأظهر رسائل النور للوجود. وسيوفق -إن شاء الله- طلاب النور إلى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضاً. ولكن لما كان هناك موانع كثيرة جداً تحول دون إنشاء مدرسة الزهراء بصورتها المادية، فهي الآن الدائرة الشاملة لطلاب النور.

ومن هنا فإن طلاب النور في الجامعة يمثلون «سعيدين» شباب، فهم يؤدون مهمة مدرسة الزهراء حق الأداء، سواءً في إسطنبول أو في أنقرة، ولا يدعون حاجة إلى هذا السعيد الضعيف.

ومن المعلوم أن «مدرسة الزهراء» تتوسع وتزود الأذهان والقلوب بسر الإخلاص الحقيقي والتضحية الجادة وترك الأنانية والتواضع التام وذلك ضمن دائرة النور، وتقوم بنشر هذه الأمور في الأوساط…

حمداً لله وشكراً له بما لا يتناهى من الحمد والشكر، إذ جعل ولاية إسبارطة مدرسة الزهراء والجامع الأزهر والذي كان هدف خيالي منذ مدة. فأقلامكم تغنى رسائل النور عن المطبعة ونشركم بالرونيو هذا العدد الكبير من النسخ المضبوطة.

وحينما كنت أشاهد في عدد من الولايات اهتمام النساء برسائل النور اهتماماً حاراً خالصاً وعلمت اعتمادهن على دروسي التي تخص النور بما يفوق حدي بكثير، جئت مرة ثالثة إلى مدرسة الزهراء المعنوية، هذه المدينة المباركة إسبارطة، فسمعت أن أولئك النساء الطيبات المباركات، أخواتي في الآخرة، ينتظرن مني أن ألقي عليهن درسا…

[ويقول أحد أركان مدرسة الزهراء:]

حينما وكّلني أستاذنا -بسبب مرضه- بمتابعة شؤون رسائل النور في المحاكم بأنقرة، قدّمنا إلى النواب الأفاضل الرسالة المرفقة أدناه ونقدمها الآن لكم ولحضرات النواب الأفاضل مجدداً. والداعي لهذا هو استمرار المسألة نفسها ولاسيما المحاولات الجارية في الشهور الأخيرة لإنشاء الجامعة الجديدة في الولايات الشرقية.

إن الانتشار الواسع لرسائل النور في السنين الثلاثين الماضية، سواء في الداخل أو في الخارج وتأثيرها الجيد في الناس، والسعي المتواصل لإنشاء دار الفنون (الجامعة) في الولايات الشرقية قبل خمس وخمسين سنة، مسألتان مهمتان متعاقبتان متممتان إحداهما للأخرى، وهما موضع اهتمام العالم الإسلامي.

فهذه الأمة ولاسيما أهل الولايات الشرقية وأربعمائة مليون من الأمة الإسلامية وعالم النصرانية المحتاج إلى السلام العالمي تهتم بهاتين النتيجتين العظيمتين والحادثتين الجليلتين. حيث إنهما مصدران واسعان لإعلان الإسلام ونشر حقائق القرآن.

ولقد بذل أستاذنا المحترم منذ خمس وخمسين سنة جهوده وبهمة فائقة متوسلاً بوسائل شتى لإنشاء جامعة إسلامية باسم مدرسة الزهراء في شرقي الأناضول على غرار الجامع الأزهر، ودعا للحاجة الماسة إليها. مثلما ورد في تهنئته لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بهذا الخصوص حيث قال:

إن جامعة الشرق ستحرز مقاماً مرموقاً بين المسلمين بفضل ما تتمتع به من موقع مركزيٍّ في العالم الإسلامي. إذ ستبعث وتتجسم فيها الخدمات الدينية الجليلة السامية السابقة والخصال المعنوية الخالدة لألوف العلماء والعارفين والشهداء والمحققين من أجدادنا الراقدين في تلك الولايات، فيؤدون وظائفهم الإيمانية في أوسع ميدان.

أما الدرس الأساس الجدير بأن يكون منهجاً وبرنامجاً لجامعة الشرق فهو رسائل النور التي تفسّر الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، والتي تقيم البراهين العقلية والدلائل المنطقية الإيمانية لإثبات مسائل القرآن العظيم. فقمين بهذه الرسائل أن تكون موضع دراسة في الجامعات والمدارس الحديثة. إن رسائل النور ظهرت بوساطة طالب من طلاب أساتذة الشرق ومدارسها الدينية المنتشرة في أرجائه كافة والتي فجّرت الينابيع المعنوية الباعثة على الحياة.

فنحن نرجو ونتمنى من الرحمة الإلهية بكل أرواحنا وكياننا أن يتسنم أولئك الأساتذة الأفاضل وظائفهم السابقة مجدداً فيوسعوا من دائرة أعمالهم الفكرية وخدماتهم القرآنية بالثمار اليانعة المنورة الحالية لجهودهم فتتهيأ الظروف الحياتية الزمانية والمكانية والسلام العام لتحقيق أمانينا هذه.

نعم، إن رسائل النور التي هي ثمرة واحدة ونتيجة عظيمة كلية لنشاط العلم والمعرفة في الشرق جديرة بأن تلقى اهتمام العاملين للإسلام وهذه الأمة والعالم الإسلامي.
هذا وإن الإقبال على رسائل النور وطلبها في كل من أمريكا وأوروبا وانتشارها هناك تبين أهمية دعوانا هذه».

  مصطفى صونغور.

المدرسة اليوسفية تحقق أهداف الزهراء أيضاً

«لقد أغاثتني العناية الربانية فحوّلت ذلك السجن الرهيب إلى مدرسة نورية، فحقاً إن السجن مدرسة يوسفية، وبدأت رسائل النور بالانتشار والتوسع حيث بدأ أبطال «مدرسة الزهراء» بكتابة تلـك الرسائـل بأقـلامهـم الألماسيـة.

وستكون المدرسة اليوسفية أيضاً موضع دراسة مباركة لمدرسة الزهراء إن شاء الله.

فيا إخواني لما كنتم قد ارتبطتم بـرسائل النور نيلاً لثواب الآخرة، وأداءً لنوع من العبادة، فلا شك أن كل ساعة من ساعاتكم -تحت هذه الشروط والأحوال الصعبة- تصبح في حكم عبادة عشرين ساعة، والعشرون ساعة من العمل في خدمة القرآن والإيمان -لما فيها من جهاد معنوي- تكسب أهمية مائة ساعة، والمائة ساعة التي تمضي في لقاء مجاهدين حقيقيين من إخوة طيبين -كل منهم يعادل في الأهمية مائة شخص- وعقد أواصر الأخوة معهم، وإمدادهم -بالقوة المعنوية- والاستمداد منهم، وتسليتهم والتسلي بهم، والاستمرار معهم في خدمة الإيمان السامية بترابط حقيقي وثبات تام، والانتفاع بسجاياهم الكريمة، وكسب أهلية الطالب في مدرسة الزهراء بالدخول في مجلس الامتحان هذا، في هذه المدرسة اليوسفية، وأخذ كل طالب قسمته المقسومة له قَدَراً، وتناوله رزقه المقدّر له فيها، نيلاً للثواب.. تستوجب الشكر على مجيئكم إلى هنا، والتجمل بالصبر وتحمل جميع المشقات والمضايقات مع التفكر في الفوائد المذكورة.

حقاً إن رؤية أحباء حقيقيين رحماء -أرحم على الإنسان من شقيقه- في هذا الشتاء المادي والمعنوي المضاعف، الذي تعطلت فيه الأعمال، وفي هذه المدرسة اليوسفية التي هي مدرسة واحدة من مدارس الزهراء، واللقاء بإخوة الآخرة، وهم بمثابة مرشدين ناصحين، وزيارتهم والاستفادة من مزاياهم الخاصة والتـزود من حسناتهم التي تسري سريان النور والنوراني في المواد الشفافة، وحصول ذلك بمنتهى الرخص وبتكاليف قليلة، فضلاً عن الاستمداد من معاونتهم المعنوية ومن مسرّاتهم وسلوانهم.. كل ذلك يجعل هذه المصيبة تبدل شكلها وتتحول إلى نوع من مشهد عناية ربانية معنوية».


[1]  من أمثال تلك القياسات الفاسدة: قياس المعنويات على الماديات، واتخاذ ما تقوله أوروبا حجة في المعنويات، أي كما أنهم ماهرون في الماديات، ويقتدى بهم فيها، فهم ماهرون في العقائد أيضاً. وثانيتها: رفض أقوال العلماء -ممن لم يطّلعوا على بعض العلوم الحديثة- في العلوم الدينية أيضاً. ثالثتها: الاعتماد على النفس والاعتداد بها في الدين لاغترار صاحبها بمهارته في العلوم الحديثة. رابعتها: قياس السلف على الخلف والماضي على الحاضر، ثم شن الهجوم وتقديم الاعتراضات الباطلة – شقيق المؤلف عبد المجيد.

الفصل الأول حالات متميزة

الفصل الأول حالات متميزة

1- الانبساط والانقباض

«من أول صباوتي إلى الآن، تتفاوت حالي كأني أكون في حين على رأس المنارة، وفي وقت في قعر البئر.. وكم من حقائق هي أحبّتي ويعرفنني، تصير أجنبية أنكرها في آن.. ثم في حين آخر تجئ الحقيقة الدقيقة التي ما سمعت باسمها إلى يديّ بلا دعوة. وكم أكون أجهل من «باقل» قد أظن نفسي في السياسة كـ«سَحبان».

نعم، ما حيلتي.. هكذا ترد السانحات إلى القلب.. فبينما أجدني كأنني أتكلم فوق منارة عالية، إذا بي -في أحيان أخرى- أنادي من قعر بئر عميق».

2- رفض الهدايا

«كنت أرفض قبول أموال الناس وهداياهم منذ نعومة أظفاري. فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم أنني كنت فقير الحال وفي حاجة إلى المال، وما كنت زاهداً ولا صوفياً ولا صاحب رياضة روحية، فضلاً عن أنني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.

فإزاء هذه الحالة كنت أحار من أمري كما كان يحار من يعرفني من الأصدقاء. ولقد فهمت حكمتها قبل بضع سنين، أنها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجيء اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عز وجل تلك الحالة الروحية.. وإلّا لكان أعدائي الرهيبون ينـزلون بي ضربتهم القاضية من تلك الناحية.

ويا إخوتي، تعلمون أنني لا أقبل الصدقات والمعونات، كما لا أكون وسيلة لأمثالها من المساعدات، لذا أبيع ملابسي الخاصة وحاجياتي الضرورية، لأبتاع بثمنها -من إخوتي- كتبي التي استنسخوها وذلك لأحول دون دخول منافع دنيوية في إخلاص رسائل النور، لئلا يصيبها ضرر. وليعتبر من ذلك الإخوة الآخرون، فلا يجعلوا الرسائل وسيلة لأي شيء كان.

إن السبب المهم للاستغناء عن الناس هو ما يقوله ابن حجر.  الموثوق حسب مذهبنا الشافعي: «يحرم قبول ما يوهب لك بنية الصلاح، إن لم تكن صالحاً».

نعم، إن إنسان هذا العصر يبيع هديته البخسة بثمن باهظ، لحرصه وطمعه، فيتصور شخصاً مذنباً عاجزاً مثلي ولياً صالحاً، ثم يعطيني رغيفاً هديةً. فإذا اعتقدت أنني صالح -حاش لله- فهذا علامة الغرور، ودليل على عدم الصلاح. وإن لم اعتقد بصلاحي، فقبول ذلك المال غير جائز لي.

وأيضاً إنّ أخذ الصدقة والهدية مقابل الأعمال المتوجهة للآخرة يعني قطف ثمراتٍ خالدة للآخرة، بصورة فانية في الدنيا.

هذا وإن أسباباً كثيرة تمنعني عن قبول الهدايا، أذكر أهمها وهو: الإخلال بالعلاقة الخالصة الحميمة بيني وبين طلاب النور، علاوة على أنني لست محتاجاً حاجة ماسة، وذلك بفضل الالتزام بالاقتصاد والقناعة والبركة، بل لا أستطيع أن أمدّ يدي إلى أموال الدنيا، فذلك خارج طوقي وإرادتي.

وسأبين سبباً دقيقاً واحداً من بين الأسباب الكثيرة:

أتي صديق حميم تاجر، بمقدار من الشاي يبلغ ثمنه ثلاثين قرشاً، فلم أقبله. فقال: لا تردّني خائباً يا أستاذي، لقد جلبته لك من إسطنبول! فقبلته ولكن دفعت له ضعف ثمنه. فقال: لِمَ تتعامل هكذا يا أستاذي، ما الحكمة فيه؟ قلت: لئلا أُنزل قيمة الدرس الذي تتلقاه -وهو بقيمة الألماس- إلى قيمة قطع زجاجية تافهة. فإنني أدع نفعي الخاص لأجل نفعك أنت!

نعم، إن درس الحقيقة الذي تأخذه من أستاذ لا يتنازل إلى حطام الدنيا ولا تزل قدمه إلى الطمع والذل، ولا يطلب عوضاً عن أدائه الحق والحقيقة، ولا يضطر إلى التصنع.. هذا الدرس هو بقيمة الألماس.

بينما الدرس الذي يُتلقى من أستاذ اضطر إلى أخذ الصدقات، وإلى التصنع للأغنياء وإلى التضحية حتى بعزته العلمية، في سبيل جلب أنظار الناس إليه، فمال إلى الرياء أمام الذين يتصدّقون عليه. وبهذا جوّز أخذ ثمرات الآخرة في الدنيا. أقول: إن هذا الدرس نفسه يهون في هذه الحالة إلى مستوى قطع زجاجية».

3- عدم السؤال من أي أحد كان

«وذلك لما عاهد رسول الله ﷺ في رؤياه، مع إجابته عن كل سؤال يُسأل عنه بأجوبة صائبة. فكان يقول: إنني لا أنكر علم العلماء الأفاضل، فلا داعي لطرح السؤال عليهم امتحاناً لهم. ولكن إن كان أحد يشك في علمي فله أن يسأل ما يشاء من الأسئلة فأنا أجيبه عنها».

4- الزهد والعزوف عن الدنيا

«كان سعيد القديم يخبر طلابه -في مؤلفاته القديمة وفي إفادة المرام لإشارات الإعجاز- ويقول لهم مكرراً: ستحدث زلزلة اجتماعية بشرية عظيمة، زلزلة مادية ومعنوية، وسيغبطونني على اعتكافي وانزوائي وبقائي عزباً.

[فنذر نفسه لخدمة الإيمان والقرآن لاسيما بعدما سمع بـمؤامرة خبيثة تحاك حول القرآن الكريم، حتى إنه ترك الزواج وبقي عزباً طوال حياته، ويعلله بالآتي:]

أولا: في الوقت الذي يلزم لصد هجوم زندقة رهيبة تُغير منذ أربعين سنة، فدائيون يضحّون بكل ما لديهم، قررت أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم لا بسعادتي الدنيوية وحدها، بل حتى إذا استدعى الأمر بسعادتي الأخروية كذلك، فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي -مع علمي بأنه سنة نبوية- بل لو وُهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطراً إلى التخلي عنهن جميعاً، من أجل تلك الحقيقة، حقيقة القرآن. لأن هذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة، وتدبر مكايد خبيثة، فلا بد لصدها من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجعل جميع الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه الله وحده، من دون أن تكون وسيلة لشيء مهما كان.

ولقد أفتى علماء منكوبون، وأناس أتقياء، لصالح البدع، أو ظهروا بمظهر الموالين لها، من جراء هموم عيش أولادهم وأهليهم، لذا يقتضي منتهى التضحية والفداء، ومنتهى الثبات والصلابة وغاية الاستغناء عن الناس، وعن كل شيء، تجاه الهجوم المرعب العنيف على الدين، ولا سيما بعد إلغاء دروس الدين في المدارس وتبديل الأذان الشرعي ومنع الحجاب بقوة القانون؛ لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنها سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض. إذ لا يمكن أن تقترف محرمات كثيرة لأجل أداء سنة واحدة. فلقد وجد علماء أدوا تلك السنة النبوية أنفسهم مضطرين إلى الدخول في عشر كبائر ومحرمات وترك قسم من السنن والفرائض، في غضون هذه السنوات الأربعين.

ثانيا: إن الآية الكريمة ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ (النساء:3) والحديث الشريف «تَناكحُوا تَكثُروا..» وأمثالهما من الأوامر، ليست أوامر وجوبية ودائمية، بل استحبابية مسنونة، فضلا عن أنها موقوفة بشروط لا بد من توافرها، وقد يتعذر توافرها للجميع وفي كل وقت. ثم إن الحديث الشريف «لا رُهبَانِيَة في الإسلام» لا يعني أن الانزواء والعزوبة -كما هو لدى الرهبان- محرمتان مرفوضتان لا أصل لهما. بل هو حث على الانخراط في الحياة الاجتماعية كما هو مضمون الحديث الشريف «خَيرُ النَّاس أنفَعهُم للنَّاس». وإلّا فإن ألوفاً من السلف الصالحين قد اعتزلوا الناس موقتاً، وآثروا الانزواء في المغارات لفترة من الزمن، واستغنوا عن زينة الحياة الدنيا الفانية وجردوا أنفسهم عنها، كي يقوموا ببناء حياتهم الأخروية على الوجه الصحيح. فما دام الكثيرون من السلف الصالحين تركوا الدنيا وزينتها بلوغاً إلى كمال باق وخاص بشخصهم، فلا بد أن من يعمل لأجل سعادة باقية، لكثير جداً من المنكوبين، ويحول بينهم وبين السقوط في هاوية الضلالة، ويسعى لتقوية إيمانهم، خدمةً للقرآن والإيمان خدمة حقيقية، ويثبت تجاه هجمات الإلحاد المغير من الخارج والظاهر في الداخل، أقول لا بد أن الذي يقوم بهذا العمل العام الكلي -وليس عملا خاصاً لنفسه- تاركاً دنياه الآفلة، لا يخالف السنة النبوية بل يعمل طبقا لحقيقة السنة النبوية.

ثم إنني أتمنى أن أغنم ذرة واحدة من هذا الكلام الصادق الصادر من الصديق الأكبر رضي الله عنه: «ليكبر جسمي في جهنم حتى لا يبقى موضع لمؤمن».. ولأجله آثر هذا السعيد الضعيف العزوبةَ والاستغناء عن الناس طوال حياته كلها.

ثالثاً: لم نقل لطلاب النور: «تخلوا عن الزواج، دعوه للآخرين» ولا ينبغي أن يقال لهم هذا الكلام. ولكن الطلاب أنفسهم على مراتب وطبقات. فمنهم من يلزم عليه ألّا يربط نفسه بحاجات الدنيا قدر المستطاع في هذا الوقت، وفي فترة من عمره، بلوغاً إلى التضحية العظمى والثبات الأعظم والإخلاص الأتم. وإذا ما وجد الزوجة التي تعينه على خدمة القرآن والإيمان، فبها ونعمت. إذ لا يضر هذا الزواج بخدمته وعمله للقرآن، ولله الحمد والمنة، ففي صفوف طلاب النور كثيرون من أمثال هؤلاء، وزوجاتهم لا يقصرن عنهم في خدمة القرآن والإيمان، بل قد يفقن أزواجهن ويسبقنهم لما فطرن عليه من الشفقة التي لا تطلب عوضاً، فيؤدين العمل بهذه البطولة الموهوبة لهن بإخلاص تام.

هذا وإن المتقدمين والسابقين من طلاب النور أغلبهم متزوجون، وقد أقاموا هذه السنّة الشريفة على وجهها، ورسائل النور تخاطبهم قائلة: اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمارُ تطبيقِ هذه السنة، على الإيمان، فيكونوا لكم شفعاء يوم القيامة، وأبناء بررة في هذه الدنيا، وعندها تتقرر هذه السنة الشريفة فيكم حقاً. وبخلافه لو تربي الأولاد على التربية الأوروبية وحدها -كما حدث خلال ثلاثين سنة خلت- فإن أولئك الأولاد يكونون غير نافعين لكم في الدنيا -من جهة- ومدّعين عليكم يوم القيامة، إذ يقولون لكم: «لِمَ لم تنقذوا إيماننا؟» فتندمون وتحزنون من قولهم هذا، يوم لا ينفع الندم، وما هذا إلا مخالفة لحكمة السنة النبوية الشريفة».

5- عدم إطلاق اللحية

«إن إطلاق اللحية سنة نبوية، وليست خاصة بالعلماء. وقد نشأتُ منذ صغري عديم اللحية وعشتُ في وسط أناس تسعون بالمائة منهم لا يطلقون لحاهم.

هذا، وإن الأعداء يغيرون علينا دائماً وقد حلقوا لحى بعض أحبابي فأدركتُ عندها حكمة عدم إطلاقي اللحية، وإنه عناية ربانية، إذ لو كنت مطلِقاً اللحيةَ وحُلقتْ، لكانت رسائل النور تتضرر ضرراً بالغاً، حيث كنت لا أتحمل ذلك فأموت.

ولقد قال بعض العلماء: «لا يجوز حلق اللحية». وهم يقصدون عدم حلقها بعد إطلاقها، لأن حلقها بعد إطلاقها حرام. أما إذا لم يطلقها فيكون تاركاً لسنة نبوية.

ولكن في الوقت الحاضر، لأجل اجتناب كبائر عظيمة جداً قضينا طوال عشرين سنة حياة أليمة أشبه بالسجن الانفرادي، نسأله تعالى أن تكون كفارة لترك تلك السنة النبوية.

وأعلن أيضاً إعلاناً صريحاً قاطعاً: أن رسائل النور مُلك القرآن العظيم، فأنّى لي الجرأة أن أدّعي تملّكها! لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي فيها قطعاً، فأنا لست إلّا خادماً مذنباً لذلك النور الباهر، ودلّالاً داعياً في متجر المجوهرات والألماس. فأحوالي المضطربة لا تؤثر فيها ولا تمسّها أصلاً».

الفصل العاشر السنوات الأخيرة في إسبارطة

الفصل العاشر السنوات الأخيرة في إسبارطة

ما بعد سجن «أفيون» إلى سنة 1950

بعد أن قضى الأستاذ النُّورْسِيّ وطلابه مدة محكوميتهم في سجن أفيون أُفرج عنهم في 20/9/1949 ولكن لم يسمح للأستاذ بمغادرة أفيون إلّا في 2/12/1949 فتوجه إلى «أميرداغ» برفقة شرطي. للإقامة الإجبارية هناك، فأمضى فيها سنتين.

وفي هذه الفترة أرسل رسائل تهنئة إلى طلابه، وأرسل مجموعة كاملة من رسائل النور المصحّحة إلى رئيس الشؤون الدينية بوساطة تلميذه مصطفى صونغور.

رسالة شخصية إلى رئيس الشؤون الدينية

باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حضرة السيد أحمد حمدي المحترم!

سأبين لكم حادثة روحية جرت لي:

قبل مدة مديدة كانت فكرة اتباع الرخصة الشرعية -بناء على الضرورة- وترك العزيمة لا ينسجم مع فكري، مثلما سلكتموه أنتم وعلماء معكم. فكنت أغضب وأحتدّ عليكم وعليهم. وأقول: لِمَ يتركون العزيمة متبعين الرخصة؟. لذا ما كنت أبعث إليكم رسائل النور مباشرة.

ولكن قبل حوالي أربع سنوات ورد إلى قلبي أسف شديد مشحون بالانتقاد. وفجأة خطر على القلب ما يأتي:

إن هؤلاء الأفاضل أصدقاؤك وزملاؤك في المدرسة الشرعية، وفي مقدمتهم السيد أحمد حمدي، قد هوّنوا الخطر الداهم -على الإسلام- إلى الرُّبع. وذلك بصرفهم قسماً من الوظيفة العلمية -حسب المستطاع- من أمام التخريبات الرهيبة العنيفة، حفاظاً على المقدسات، متبعين الدستور الشرعي «أهون الشرين» وسيكون عملهم هذا -إن شاء الله- كفارة لبعض نقائصهم وتقصيراتهم التي اضطروا إليها.

فبدأتُ من ذلك الوقت أنظر إليكم وإلى أمثالكم نظرة أُخوّة حقيقية -كالسابق- فأنتم إخوتي في المدرسة الشرعية وزملائي في الدراسة.

وحيث إنني كنت أترقب وفاتي من وراء تسميمي هذا، عزمت على تقديم مجموعة كاملة إليكم قبل ثلاث سنوات آملاً أن تكونوا الصاحب الحقيقي لرسائل النور وحاميها بدلاً عني. غير أن المجموعة ليست مصححة ولا كاملة، إلّا أنني قمت بشيء من التصحيح لمجموعة كاملة أكثر أجزائها استنسخها -قبل خمس عشرة سنة- ثلاثة طلاب لرسائل النور لهم شأنهم..

فما كنت أعطى هذه المجموعة النفيسة إلى غيرك، حيث إن كتابتها من قبل هؤلاء الثلاثة الأعزاء جعلتْ قيمتها تعادل عشر مجموعات كاملة. ومقابل هذا فإن ثمنها المعنوي ثلاثة أمور:

الأول: استنساخ ثلاثين نسخة تقريباً من كل منها بالرونيو بالحروف القديمة إن أمكن، وإلّا فبالحروف الجديدة، وتوزيعها على شُعب رئاسة الشؤون الدينية في البلاد. بشرط أن يكون أحد إخواننا الخواص مُعيناً على إجراء التصحيح وقائماً بأمره. لأن نشر أمثال هذه المؤلفات من مهمة رئاسة الشؤون الدينية.

الثاني: لما كانت رسائل النور بضاعة المدرسة الشرعية وملكها، وأنتم أساس المدرسة الشرعية ورؤساؤها وطلابها، فالرسائل إذن ملككم الحقيقي. فانشروا ما ترتأون منها وأجّلوا الأخرى!

الثالث: ليُطبع المصحف الشريف الذي يبين التوافقات في لفظ الجلالة، بالصورة الفوطوغرافية لتشاهَد لمعة الإعجاز في التوافقات. ويرجى عدم طبع التعاريف التركية حول التوافقات الموجودة في البداية مع المصحف الشريف، بل الأفضل طبعها في كراس مستقل باللغة التركية أو تترجم ترجمة أمينة إلى العربية».

رسالة صونغور من أنقرة إلى الأستاذ

باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

«حضرة الفاضل أستاذي العزيز المشفق المبارك المحبوب!

لقد سلّمت رسالتكم الغراء إلى حضرة السيد أحمد حمدي رئيس ديوان الشؤون الدينية، مع مجموعة من الرسائل. فوضعها بفرح بالغ في مكتبته الخاصة وقال: «سأعطي -إن شاء الله- هذه المجموعة إلى إخوتي الخاصين لقراءتها، وسنحاول -على هذه الصورة- طبعها تدريجياً» وقد قال أيضاً – يا سيدي ويا أستاذي المحبوب: إنه سيعمل حسب ما ورد في رسالتكم الكريمة، إلّا أنه لا يمكن نشر هذه المجموعات دفعة واحدة في الوقت الحاضر، إلّا أنني سأجعل إخوتي الخواص يقرؤونها وننشرها حسب اهتمام الناس بها والطلب عليها، وبإذن الله سأسعى لنشرها على أفضل ما يكون».

صونغور

سنة 1950

برقية إلى رئيس الجمهورية

جلال بايار / رئيس الجمهورية

«نهنئكم وندعو الله تعالى أن يوفقكم لخدمة الإسلام والوطن والأمة.

عن طلاب النور / سعيدالنُّورْسِيّ».([1])

وأجاب رئيس الجمهورية بالبرقية الآتية:

بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ – أميرداغ

أسعدتنا تهانيكم القلبية كثيراً أشكركم شكراً جزيلاً

 جلال بايار

بشارة إعادة الأذان الشرعي

«مع غلبة رسائل النور وظهورها ظهوراً معنوياً كاملاً يحاول ملحدو الماسونيين وزنادقة الشيوعيين أن يستهولوا صغائر الأمور، فيَحُولوا دون حرية نشر رسائل النور. حتى إنهم سببوا تأجيل محكمتنا -هذه المرة أيضاً- لخمسة وثلاثين يوماً. وأحدثوا ضجة ومشادة مع محامينا، ليمنعوا إعادة مصحفنا الشريف. إلّا أن العناية الإلهية جعلت جميع خططهم عقيمة بائرة حيث إن رسائل النور في إسطنبول وأنقرة تستقرئ نفسها للشباب بشوق كامل وترشدهم إلى الصواب. حتى أدّت الغلبة المعنوية هذه إلى إرسال البرقيات من قبل مئات الشباب المثقفين تعبيراً عن تهانيهم وشكرانهم إلى رئيس الوزراء الذي سعى لإعادة الأذان المحمدي «على الوجه الشرعي»».

سنة 1951

برقية من الفاتيكان

الفاتيكان 22 شباط 1951

مقام البابوية الرفيع

السكرتير الخاص

رئاسة القلم الخاص  رقم 232247

سيدي! تلقينا كتابكم المخطوط الجميل «ذوالفقار» بوساطة وكالة مقام البابوية باسطنبول، وتم تقديمه إلى حضرة البابا الذي رجانا أن نبلغكم بالغ سروره من هذه الالتفاتة الكريمة منكم، ودعواته من الله عز وجل أن يشملكم بلطفه وفضله. ونحن ننتهز هذه الفرصة لنبلغكم احتراماتنا.

التوقيع

  رئاسة سكرتارية الفاتيكان.

إلى السيد رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الوزراء – أنقرة

«نحن طلاب النور أصبحنا هدفاً لما لا مثيل له من ضروب التعذيب والإهانة طوال عشرين سنة، فصبرنا تجاه ذلك حتى أتى المولى الكريم بكم لمعاونتنا.

ونقدم محكمة التمييز ومحكمة دنيزلي شاهدين على عدم وجود أي سبب كان لتلك الإهانات منذ خمس وعشرين سنة حيث لم تتمكن ثلاث محاكم من وجدان السبب، لا حقيقة ولا قانوناً بعد تدقيقاتهم في مائة وثلاثين كتاباً وألوف المكاتيب.

وعلى الرغم من أنني تركت السياسة منذ ثلاثين سنة، فإنني اقدم تهانيّ إلى رئيس الجمهورية وإلى مجلس الوزراء الذين تولوا رئاسة الأحرار، وأقرن التهنئة بالإفصاح عن «حقيقة» وهي الآتية:

إن الذين يغيرون علينا ويعذبوننا في المحاكم قالوا: «ربما يستغل طلاب النور الدين في سبيل أغراض سياسية»! ونحن قلنا ونقول لأولئك الظالمين في دفاعاتنا ونسند قولنا بأُلوف الحجج:

إننا لا نجعل الدين أداة للسياسة، فليس لنا غاية إلّا رضاه تعالى، ولن نجعل الدين أداة لا للسياسة ولا للسلطة ولا للدنيا برمتها. هذا هو مسلكنا. وقد تحقق لدى أعدائنا، أنهم على الرغم من تدقيقاتهم المغرضة طوال ثلاث سنوات في ثلاثة أكياس مليئة بالكتب والمكاتيب لا يستطيعون إدانتنا، بل لا يجدون مبرراً للأحكام الاعتباطية التي حكموا علينا بها. وحيث إنهم لم يجدوا أي شيء علينا فسخت محكمة التمييز ذلك الحكم. فنحن لا نجعل الدين أداة للسياسة بل نتخذ السياسة آلة للدين وفي مصالحة ووئام معه عندما نجد أنفسنا مضطرين اضطراراً قاطعاً إلى أن ننظر إلى السياسة تجاه الذين يجعلون السياسة المستبدة أداة للإلحاد، إضراراً للبلاد والعباد، فعمَلُنا يحقق رابطة أخوية لثلاثمائة وخمسين مليونا مع إخوانهم في هذه البلاد.

حاصل الكلام: إننا سعينا لأجل إسعاد هذه الأمة والبلاد بجعل السياسة أداة للدين وفي وئام معه تجاه أولئك الذين جعلوا السياسة المستبدة آلة للإلحاد وعذّبونا..»

نصيحة للإخوة الديمقراطيين

«إن أمضى أسلحة عبيد العهد الماضي من الماسونيين الذين هدروا الدين والإيمان والأرواح في البلاد أثناء حكم الدكتاتورية والرئاسة الفردية وهم في أنفاسهم الأخيرة، الموجهة ضد الديمقراطيين، هي السعي في إظهارهم وكأنهم أقل ديناً مما كانوا عليه. ويتلبس نفر منهم بأزياء التدين فيشيعون بأن الديمقراطيين لن يفوا بوعودهم للشعب في إطلاق الحريات الدينية. ويتهم نفر آخر منهم الديمقراطيين بحماية «الرجعية الدينية» لصدهم عن معاضدة حرية الدين وتوجههم إلى تخريب الدين والمؤسسات الدينية وفرض الشدة على أهل الدين.

إن تصرف الحزب الديمقراطي بحزم ضد الشيوعيين منذ استلامه للسلطة، وإطلاق حرية الأذان المحمدي بصورته الشرعية وكسبه محبة الشعب لهذا السبب وحصوله على قوة تعدل قوته عشرين ضعفاً، أقلق حزب الشعب الجمهوري غاية القلق.

نحن نثق بأن الديمقراطيين لن يقعوا في الفخ لأنهم يدركون أن هذا الوضع الذي وقع فيه أولئك كان بسبب سياسة العهد الماضي الظالمة ضد أهل الدين وضد جماعة النور، أهل القرآن.

إن الشعار المعلن للنظام السابق معلوم للجميع. وينبغي للديمقراطيين، ما داموا يريدون البقاء، أن يتخذوا سياسة مناقضة لذلك الشعار مناقضة تامة: وهي التشدد ضد الشيوعية من جهة، وحماية الدين وأهل الدين من جهة أخرى. إنهم ملزمون بسلوك هذا السبيل في وضوح وجرأة. وأن أي بادرة ضعف كان أو بادرة فتور بهذا الشأن، يوقعهم في شراك حزب الشعب الجمهوري.

نحن، طلاب النور لا نشتغل في السياسة قطعاً. وأملنا الوحيد ضمان حرية الدين في الوطن، ورفع الظلم والتضييق الواقع منذ ربع قرن على الدين وأهله وجماعة النور، أهل القرآن. وننصح الإخوة الديمقرطيين ألّا ينخدعوا بحيل النظام السابق الشيطانية ومصائدهم، وألّا يخوضوا في الضلالة التي خاضوها، وألّا يستخفوا بروح الشعب وإرادته مثلما استخفوا. وليمضوا بعزم في الطريق السليم الذي سلكوه إزاء الشيوعية والدين».

 عن طلاب النور

 صادق وصونغور وضياء

أول زيارة حرة إلى أسكي شهر

بعد أن قضى الأستاذ في «أميرداغ» سنتين سافر إلى أسكي شهر في 29/11/1951 واستقر في فندق «يلدز» ما يقارب الشهر ونصف الشهر وبعث إلى طلابه الرسالة الآتية:

الحقيقة هي التي تتكلم

«لقد أثبتت رسائل النور أنه قد تنبثق عدالة من بين طيات الظلم، أي قد يتعرض أحدهم إلى الظلم وإلى الحيف فتصيبه نكبة، وقد يُحكم عليه بالحبس ويُرمى به في غياهب السجون.. لا شك أن مثل هذا الحكم ظلم واضح، ولكنه قد يكون سبباً لتجلي العدالة وظهورها، ذلك لأن القدر الإلهي قد يستخدم الظالم لتوجيه العقوبة إلى شخص استحقها بسبب آخر، وهذا نوع من أنواع تجلي العدالة الإلهية.

وأنا الآن أفكر.. لِمَ أُساق من محكمة إلى محكمة، ومن ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى طوال ثمانيا وعشرين عاماً؟ وما التهمة الموجهة إليّ من قبل من ارتضوا لأنفسهم معاملتي بكل هذا التعذيب الظالم؟ أليست هي تهمة استغلال الدين في سبيل السياسة؟ ولكن لِمَ لا يستطيعون إثبات ذلك؟.. ذلك لأنه لا يوجد أي شيء من هذا القبيل في الحقيقة وفي الواقع. فهذه محكمة تقضي الشهور والسنوات في محاولة الحصول على أي دليل يدينني فلا تستطيع، وإذا بمحكمة أخرى تسوقني للتحقيق وللمحاكمة تحت التهمة نفسها وتقضي بدورها مدة في هذه المحاولة وفي الضغط عليّ وتعرّضني لأنواع شتى من التعذيب، وعندما لا تحصل على أية نتيجة تتركني، وإذا بمحكمة ثالثة تمسك بخناقي هذه المرة.. وهكذا أنتقل من مصيبة إلى مصيبة، ومن نكبة إلى أخرى. لقد انقضت ثمان وعشرون سنة من عمري على هذا المنوال، وأخيراً أيقنوا عدم وجود أي نصيب من الصحة للتهم المسندة إليَّ؛

وإني أتساءَل: سواء أكان ذلك قصداً أو وهماً فإنني أعلم علم اليقين عدم وجود أية علاقة لي بهذه التهمة، كما أن جميع أهل الإنصاف يعرفون بأنني لست بالرجل الذي يستغل الدين لغاية سياسية، بل إن الذين وجّهوا إليّ هذه التهمة يعرفون ذلك في قرارة نفوسهم. إذن فما السبب في إصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيتُ معرضاً على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئاً ودون أي ذنب؟ ولماذا لم أستطع التخلص من هذه المصائب؟ ألم تكن هذه الأحوال مخالفة للعدالة الإلهية؟

لقد بحثت عن أجوبة لهذه الأسئلة خلال ربع قرن من الزمن فلم أُوفق في ذلك. ولكني الآن عرفت السبب الحقيقي في قيامهم بظلمي وتعذيـبي. وأنا أقول وكلي أسف:

إن ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي والكمالات الروحية. والآن بدأتُ أفهم هذا وأحسه تماماً، وأنا أشكر الله تعالى آلاف المرات لأنه طوال سنوات طويلة وُضعت موانعُ معنوية وقوية جداً خارج إرادتي لكي لا أتخذ خدماتي الإيمانية وسيلة للترقيات المادية والمعنوية أو من أجل الخلاص من العذاب ومن جهنم أو حتى من أجل سعادتي الأبدية أو من أجل أية غاية أخرى.

لقد أذهلتني هذه الأحاسيس الداخلية العميقة والخواطر الإلهامية، فبينما نرى أن كل فرد له الحق في اكتساب المقامات التي يعشقها، وفي نيل السعادة الأخروية عن طريق الأعمال الصالحة، هذا زيادة على أنه لا ينتج أي ضرر لأي أحد، ومع هذا فقد رأيت أنني أُمنع -روحياً وقلبياً- من هذه الأحوال ومن سلوك هذا الطريق. وجُعل نصب عيني أن عليّ ألّا أهتم -بجانب الفوز بالرضى الإلهي- إلا بواجب خدمة الإيمان. ذلك لأن الزمن الحالي يحتاج إلى إعطاء نوع من الدرس القرآني الذي لا يكون في خدمة أي غرض آخر للذين لم يتوصلوا بفطرة العبودية الموجودة في أنفسهم إلى الحقائق الإيمانية التي هي فوق كل شيء، وإلى الذين هم بحاجة إلى فهم هذه الحقائق وذلك بأسلوب مؤثر، بحيث يستطيع إنقاذ الإيمان في مثل دنيا الاضطراب هذه التي اختلطت فيها الأمور، ويستطيع إقناع كل أحد حتى المعاندين وبعث الطمأنينة في نفوسهم، وبذلك يستطيع قصم ظهر الكفر المطلق والضلال المتمرد والمعاند وبذلك يهب القناعة الكاملة للجميع.

ولا تحصل مثل هذه القناعة في الظروف الحالية إلّا عندما يكون الدين بعيداً عن كونه وسيلة لأية غاية شخصية أو دنيوية أو أخروية، مادية كانت أو معنوية. وإذا لم يتحقق هذا فإن أي شخص كان مهما بلغ من المراتب المعنوية يقف عاجزاً تجاه التيار الرهيب -المتولد من المنظمات والجمعيات السرية- ضد الدين؛ لأنه لا يستطيع إزالة كل الشكوك والشبهات. ذلك لأن النفس الأمارة للشخص المعاند الذي يرغب في الدخول إلى حلقة الإيمان ستقول له: «إن ذلك الشخص زين لنا هذا بدهائه وبمستواه الرفيع واستطاع بهذا إقناعنا».. يقول هذا ويبقى الشك يساوره.

فلله الشكر ألوف ألوف المرات ففي طيّ تهمة القيام باستغلال الدين في السياسة قام القدر الإلهي -الذي هو العدل المحض- طوال ثمان وعشرين سنة بمنعي من جعل الدين -دون علمي ودون إرادة مني- آلة لأي غرض شخصي، وذلك باستخدام الأيدي الظالمة للبشر في توجيه الصفعات لي وفي تذكيري وتنبيهي.. هذه الصفعات التي كانت عدلاً محضاً وتحذرني قائلة: إياك إياك! أن تجعل الحقائق الإيمانية آلة لشخصك، وذلك لكي يعلم المحتاجون إلى الحقائق أن الحقائق وحدها هي التي تتكلم، ولكي لا تبقى هناك أوهام النفس ودسائس الشيطان، بل لتخرس وتصمت.

هذا هو سر تأثير رسائل النور في إشعال الحماس في القلوب وفي الأرواح كالأمواج في البحار الواسعة. وهذا هو سر تأثيرها في القلوب وفي الأرواح وليس شيئاً غيره. ومع أن هناك آلافاً من العلماء سجلوا الحقائق التي تتحدث عنها رسائل النور في مئات الآلاف من الكتب، والتي هي أكثر بلاغة من رسائل النور، لم تستطع إيقاف الكفر البواح. فإذ كانت رسائل النور قد وفّقت إلى حدّ ما في مقارعة الكفر البواح تحت هذه الظروف القاسية، فقد كان هذا هو سر هذا النجاح.. ففي هذا الموضوع لا وجود لـ«سعيد»، ولا وجود لقابلية سعيد وقدرته، فالحقيقة هي التي تتحدث عن نفسها.. نعم.. الحقيقة الإيمانية هي التي تتحدث.

وما دامت رسائل النور تؤثر في القلوب العطشى إلى الإيمان وإلى نور الحقائق، إذن لا يُفدّى بـسعيدٍ واحد بل بألف «سعيد وسعيد». وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً. أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يوصموني بمختلف التهم والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد عفوت عنهم ذلك وتنازلت عن حقوقي تجاههم.

وأقول للقدر العادل: إنني كنت مستحقاً لصفعاتك العادلة لأنني سلكت مثل الآخرين طريقاً -هي بذاتها مشروعة ولا ضرر منها- فكرت فيها بشخصي، ولو لم أضح بمشاعري في الفيوضات المادية والمعنوية، لفقدت هذه القوة المعنوية الكبيرة في أثناء تأدية خدماتي من أجل الحفاظ على الإيمان. لقد ضحيت بكل شيء وتحملت كل أذى، وبذلك انتشرت الحقائق الإيمانية في كل مكان، ونشأ مئات الآلاف -بل ربما الملايين- من طلاب مدرسة النور ونهلوا من معارفها. وهؤلاء هم الذين سيستمرون في هذه الطريق في خدمة الإيمان، ولن يحيدوا عن طريقتي في التضحية بكل شيء مادياً كان أو معنوياً، إذ سيكون سعيهم لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره.

إن الكثيرين من طلابي قد ابتلوا بشتى أنواع البلايا والمصائب، وتعرّضوا لصنوف العذاب والمتاعب، واجتازوا امتحانات عسيرة بفضل الله. إنني أطلب منهم أن يتجاوزوا -مثلي- عمن اقترف تلك المظالم وهضم الحقوق، لأن أولئك قد ارتكبوا تلك الأمور عن جهل منهم والذين آذونا وعذبونا، ساعدوا على نشر الحقائق الإيمانية دون أن يدركوا تجليات أسرار القدر الإلهي.. ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي التمني لهم بالهداية.

أوصى طلابي ألّا يحمل أحد منهم شيئاً من روح الانتقام في قلبه ولو بمقدار ذرة، وأن يسعوا سعياً جاداً لنشر رسائل النور وليرتبطوا بها ارتباطا وثيقاً. إنني مريض جداً.. لا طاقة لي لا في الكتابة ولا في الحديث.. وقد يكون هذا آخر أقوالي.. فعلى طلاب رسائل النور لمدرسة الزهراء ألّا ينسوا وصيتي هذه».

 سنة 1952

قضية «مرشد الشباب»

بعد المكوث في مدينة «أسكي شهر» توجّه الأستاذ بديع الزمان إلى مدينة «إسبارطة» في أواخر سنة 1951 حيث بقي فيها سبعين يوماً، التقى طلابه مستعيداً ذكرى سنوات نفيه التي قضاها فيها.

في تلك الأيام قام بعض طلاب النور الجامعيين في إسطنبول بطبع رسالة «مرشد الشباب» بالحروف الجديدة مما تسبّب في إقامة دعوى ضده بحجة مخالفته ل»المادة 163» في الدستور التركي؛ وهي المادة التي تحظر أي نشاط يستهدف إقامة الدولة على أسس دينية.

وقد استُدعي الأستاذ بديع الزمان إلى إسطنبول للمثول أمام محكمة الجزاء الكبرى وحدد يوم 22/1/1952م للنظر في هذه الدعوى، فتوجّه بديع الزمان إلى إسطنبول في 15/1/1952. كانت هذه أول زيارة لمدينة إسطنبول بعد غيـبة دامت سبعة وعشرين عاماً. ولهذا تقاطر عليه الزوار في فندق «آق شهر» ثم في فندق «رشادية».

انعقدت المحكمة في يوم 22/1/1952. وجاء الأستاذ يحف به المئات من طلبة النور.

كانت قاعة المحكمة قد امتلأت بجموع من الشعب الذين حضروا لمتابعة هذه القضية ولرؤية هذا العالم الجليل الذي شغل تركيا كل هذه السنين. كما امتلأت ممرات المحكمة، وامتد الازدحام إلى الشارع.

جلس الأستاذ في المكان المخصص للمتهمين. وبدأ الادعاء العام بقراءة تقرير الخبراء المكلفين بتدقيق رسالة «مرشد الشباب» ثم تمّ استجواب الأستاذ. كان تقرير الخبراء يقول باختصار ما يأتي:

«إن المؤلف يحاول في رسالته هذه نشر الفكرة الدينية، وإنه يحاول رسم طريق معين للشباب بوساطة هذه الأفكار، وإنه يدعو النساء إلى الاحتشام وعدم السير والتجول بملابس تكشف عن أجسامهن لأن ذلك يصادم الفطرة، ويخالف الإسلام والآداب القرآنية.

كما أن المؤلف يدعو إلى تدريس الدين وهو بذلك يؤيد إقامة نظام الدولة على أسس دينية.. الخ».

وبعد الانتهاء من قراءة صيغة الاتهام قام الأستاذ بديع الزمان للردّ على ما ورد أعلاه.


[1]  الملاحق، ملحق أميرداغ 2. وقد أملى الأستاذ بديع الزمان هذه البرقية على طالبه زبير كوندوزآلب ثم التفت إليه قائلاً: أتدري لِمَ أُرسل برقية التهنئة هذه؟ وسكت الطالب، فوضّح الأستاذ:

     سيقول الجمهوريون للديمقراطيين: صحيح أن سعيداً ليس معنا فهو ليس معكم كذلك، بل له هدف آخر يستهدفه، ويخدعونهم بهذا الكلام ويدفعونهم إلى استعمال قوة الدولة التي في أيديهم ضد المتدينين وضد طلاب النور. ولكن ما إن يتسلم الديمقراطيون برقية التهنئة حتى يقولوا لهم: إن سعيداً صديق لنا. وعندها لا تستغل قوة الدولة على غير وجهها الصائب. (ش) 382.

الفصل التاسع في سجن أفيون

الفصل التاسع في سجن أفيون

(المدرسة اليوسفية الثالثة)

28/1/1948-20/9/1949

إثارة التهم مرة أخرى

«لم يتمكن أعداء رسائل النور المتسترون أن يتحملوا تلك الفتوحات النورية، فنبهوا المسؤولين في الدولة ضدنا وأثاروهم علينا، فأصبحت الحياة -مرة أخرى- ثقيلة مضجرة، إلّا أن العناية الإلهية تجلت على حين غرة، حيث إن المسؤولين أنفسهم -وهم أحوج الناس إلى رسائل النور- بدؤوا فعلاً بقراءة الرسائل المصادرة بشوق واهتمام، وذلك بحكم وظيفتهم. واستطاعت تلك الرسائل بفضل الله أن تليّن قلوبَهم وتجعلها تجنح إلى جانبها. فتوسعت بذلك دائرة مدارس النور، حيث إنهم بدؤوا بتقديرها والإعجاب بها بدلاً من جرحها ونقدها. فأكسبتنا هذه النتيجة منافع جمة، إذ هي خيرٌ مائةَ مرة ممّا نحن فيه من الأضرار المادية، وأذهبت ما نعانيه من اضطراب وقلق. ولكن ما إن مرّت فترة وجيزة، حتى حوّل المنافقون -وهم الأعداء المتسترون- نظر الحكومة إلى شخصي أنا، ونبّهوا أذهانها إلى حياتي السياسية السابقة، فأثاروا الأوهام والشكوك، وبثوا المخاوف من حولي في صفوف دوائر العدل والمعارف (التربية) والأمن ووزارة الداخلية. ومما وسّع تلك المخاوف لديهم ما يجري من المشاحنات بين الأحزاب السياسية، وما أثاره الفوضويون والإرهابيون -وهم واجهة الشيوعيين- حتى إن الحكومة قامت إثر ذلك بحملة توقيف وتضييق شديد علينا، وبمصادرة ما تمكنت من الحصول عليه من الرسائل، فتوقف نشاط طلاب النور وفعالياتهم.

وبالرغم من أن بعض الموظفين المسؤولين أشاعوا دعايات مغرضة عجيبة لجرح شخصيتي وذمّها -مما لا يمكن أن يصدّقها أحد- إلّا أنهم باؤوا بالإخفاق الذريع، فلم يستطيعوا أن يقنعوا أحداً بها. ومع ذلك أحالوني إلى الموقف لمدة يومين بحجج رخيصة تافهة جداً، ووضعوني في قاعة واسعة جداً وحيداً في تلك الأيام الشديدة البرد كالزمهرير، علماً أنني ما كنت أتحمل البرد في بيتي إلّا على مضض وكنت أقاومه بشدة بإشعال الموقد دائماً وبإشعال المدفأة عدة مرات يومياً، وذلك لما أعانيه من ضعف ومرض».

وتبدأ الأسطوانة نفسها من جديد، ويشاع في البلد أن النُّورْسِيّ يشكل جمعية سرية، ويحرض الناس على الحكومة محاولاً هدم نظام الدولة، ويطلق على مصطفى كمال أنه دجال المسلمين.. وأمثالها من الإشاعات والتهم، فيساق الأستاذ مع خمسين طالباً للنور معه إلى محكمة الجزاء الكبرى لأفيون ويودعون جميعاً إلى التوقيف في 23/1/1948.

وبعد إجراء التحقيقات الرسمية المشددة، لم يعثروا على مادة تدينهم قط.. ولكن المحكمة حكمت بقناعة الحاكم الوجدانية -أي دون الاعتماد على دليل- على الأستاذ النُّورْسِيّ بالسجن عشرين شهراً وعلى عالم فاضل ثمانية أشهر، وعلى اثنين وعشرين طالبا ستة أشهر، وأُفرج عن الباقين.

اعترض الأستاذ وطلابه على هذه المعاملات الاعتباطية إلى محكمة التمييز، فأجابت بالآتي: «لما كان بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ قد أصبح بريئاً من التهمة بقرار محكمة دنيزلي، فلا تؤخذ الدعوى المصدّقة من قبل التمييز مرة ثانية بالمحكمة، حتى لو كان قرار محكمة دنيزلي خطأ».

وعلى هذا بدأت المحكمة من جديد واستجوبت المتهمين الأبرياء. وطالب طلابُ النور المحكمة بتنفيذ قرار محكمة التمييز، إلّا أنها تماطلت.. وفي النهاية قررت تنفيذ قرار التمييز إلّا أن المحكمة ادّعت أنها تكمّل بعض الأمور الرسمية الناقصة. بيد أن هذه الأمور الناقصة لم تنته إلى أن قضى الأستاذ وطلاب النور الأحكام الصادرة بحقهم رغم براءتهم.

وفي هذه الأثناء تولى سلطةَ البلاد الحزبُ الديمقراطي وأعلن العفو العام وأُغلقت القضية لأنها ضمن شمولية قانون العفو العام. ولكن هيئة المحكمة لم تبرئ ساحة رسائل النور، بل استمرت في قرارها حول مصادرتها فقررت المصادرة مرتين، لكن محكمة التمييز نقضت القرارين معاً. ثم اضطرت محكمة أفيون إلى إقرار براءة رسائل النور وعدم مصادرتها. ولكن محكمة التمييز نقضت -هذه المرة- قرار محكمة أفيون لنقص في الأصول الرسمية، وطلبت تدقيق رئاسة الشؤون الدينية للرسائل، فقدّمت الرئاسة تقريراً إيجابياً بحقها. واستمرت المكاتبات الرسمية حتى سنة 1956 فقررت محكمة أفيون بالإجماع براءة رسائل النور استناداً إلى تقرير الخبراء المذكور. وأصبح هذا القرار قراراً نهائياً قاطعاً. وبعد هذا القرار أصبح طبع رسائل النور مسموحاً به في كل مكان.

ولقد عانى الأستاذ النُّورْسِيّ في سجن أفيون معاناة تفوق بكثير عما كان عليه في سجن دنيزلي، بل إن يوماً من سجن أفيون يفوق شهراً من سجن دنيزلي من العذاب، إذ قاسى من أثر التسميم ما قاسى حتى انقطع عن تناول الغذاء لأيام عدة، وكان وحيداً في ردهة كبيرة في جو شديد البرد، ولم يسمحوا لأحد أن يخدمه أو يعاونه وهو الشيخ الكبير. إنهم كانوا ينتظرون أجله على هذه الصورة..

«فبينما كنت أتقلب من شدة الحمّى المتولدة من البرد، وأتململ من حالتي النفسية المتضايقة جداً، انكشفت في قلبي حقيقة عناية إلهية، ونُبّهت إلى ما يأتي:

إنك قد أطلقت على السجن اسم «المدرسة اليوسفية»، وقد وَهب لك سجنُ دنيزلي من النتائج والفوائد أضعاف أضعاف ما أذاقكم من الضيق والشدة، ومنحكم فرحاً شديداً وسروراً عظيماً وغنائم معنوية كثيرة، باستفادة المساجين معكم من رسائل النور، وقراءة رسائل النور في الأوساط الرسمية العليا وغيرها من الفوائد، حتى جعلتكم في شكر دائم مستمر بدل التشكي والضجر محوّلة كل ساعة من ساعات السجن والضيق إلى عشر ساعات من العبادة، فخلّدت تلك الساعات الفانية، فهذه «المدرسة اليوسفية الثالثة» كذلك ستعطي -بإذن الله- من الحرارة الكافية ما يدفئ هذا البرد الشديد، وستمنح من الفرح والبهجة ما يرفع هذا الضيق الثقيل، باستفادة أهل المصائب والبلاء معكم من رسائل النور ووجدانهم السلوانَ فيها. أما الذين غضبتَ واحتديت عليهم، فإن كانوا من المغرّر بهم ومن المخدوعين فلا يستحقون الغضب والحدّة، إذ إنهم يظلمونك دون قصد ولا علم ولا شعور. وإن كانوا يعذبونك ويشددون عليك الخناق وهم يقومون بهذا عن علم وعن حقد دفين إرضاء لأهل الضلالة، فإنهم سيعذّبون عن قريب بالموت الذي يتصورونه إعداماً أبدياً، وسيرون الضيق الشديد الدائم المقيم في السجن المنفرد وهو القبر. وأنت بدورك تكسب ثواباً عظيماً -نتيجة ظلمهم- وتظفر بخلود ساعاتك الفانية، وتغنم لذائذ روحية معنوية فضلاً عن قيامك بمهمتك العلمية والدينية بإخلاص.

هكذا ورد إلى روحي هذا المعنى فقلت بكل ما أوتيت من قوة: «الحمد لله». وأشفقت على أولئك الظَلَمة بحكم إنسانيتي ودعوت: يا ربّي أصلح شأن هؤلاء..

ولقد ثبّت في إفادتي التي كتبتُها إلى وزارة الداخلية: أن هذه الحادثة الجديدة غير قانونية، وأثبتها بعشرة أوجه، بل إن هؤلاء الظلمة الذين يخرقون القانون باسم القانون هم المجرمون حقاً، حيث بدؤوا بالبحث عن حجج واهية جداً وتتبعوا افتراءات مختلقة إلى حدّ أن جلبوا سخرية السامعين وأبكت أهل الحق المنصفين، وأظهروا لأهل الإنصاف أنهم لا يجدون باسم القانون والحق أي مسوّغ للتعرض لـرسائل النور ومسّ طلابها بسوء، فيزلّون إلى البلاهة والجنون ويتخبطون خبط عشواء.

مثال ذلك: أنه لم يجد الجواسيسُ الذين راقبونا لمدة شهر شيئاً علينا، لذا لفّقوا التقرير الآتي: «إن خادم «سعيد» قد اشترى له الخمر من حانوت». إلّا أنهم لم يجدوا أحداً يوقّع على هذا التقرير تصديقاً لهم، إلّا شخصاً غريباً وسكيراً في الوقت نفسه، فطلبوا منه -تحت الضغط والتهديد- أن يوقع مصدقاً على ذلك التقرير، فردّ عليهم: «استغفر الله من يستطيع أن يوقع -هذا التقرير- مصدقاً هذا الكذب العجيب!» فاضطروا إلى إتلاف التقرير.

مثال آخر: لحاجتي الشديدة لاستنشاق الهواء النقي، ولِمَا يُعلم من اعتلال صحتي، فقد أعارني شخص لا أعرفه -ولم أتعرف عليه لحدّ الآن- عربةً ذات حصان، لأتنـزه بها خارج البلدة فكنت أقضي ساعة أو ساعتين في هذه النـزهة. وكنت قد وعدت صاحب العربة والحصان بأن أوفي أجرتها كتباً تثمن بخمسين ليرة، لئلا أحيد عن قاعدتي التي اتخذتها لنفسي، ولئلا أظل تحت منّة أحد من الناس وأذاه.. فهل هناك احتمال لأن ينجم ضرر ما من هذا العمل؟! غير أن دائرة الشرطة ودائرة العدل والأمن الداخلي وحتى المحافظ نفسه استفسروا بأكثر من خمسين مرة: لمنْ هذا الحصان؟ ولمن هذه العربة؟ وكأنه قد حدثت حادثة سياسية خطيرة للإخلال بالأمن والنظام! مما اضطر أحد الأشخاص أن يتطوع فيدّعي أن الحصان ملكه لقطع دابر هذه الاستفسارات السخيفة المتتالية، وادّعى آخر بأن العربة له، فصدر الأمر بالقبض عليهما وأودعا معي في السجن. فبمثل هذه النماذج أصبحنا من المتفرجين على لعب الصبيان ودُماهم، فبكينا ضاحكين وحزنّا ساخرين، وعرفنا أن كل من يتعرض لرسائل النور ولطلابها يصبح أضحوكة وموضع هزء وسخرية.

وإليك محاورة لطيفة من تلك النماذج: لقد قلتُ للمدعي العام -قبل أن أطلّع على ما كتب في محضر اتهامي من الإخلال بالأمن- قلت له: لقد اغتبتك أمس، إذ قلت لأحد أفراد الشرطة الذي استجوبني نيابة عن مدير الأمن: «ليهلكْني الله -ثلاث مرات- إن لم أكن قد خدمت الأمن العام لهذا البلد أكثر من ألف مدير أمن وأكثر من ألف مدع عام..».

ثم إنني في الوقت الذي كنتُ في أمسّ الحاجة إلى الإخلاد إلى الراحة وعدم الاهتمام بهموم الدنيا والابتعاد نهائياً عن البرد، فإن قيام هؤلاء بنفيي -في هذه الفترة من البرد بالذات- وتهجيري من مدينة لأخرى بما يفوق تحملي، ومن ثم توقيفي والتضييق علىّ بأكثر من طاقتي وبما يشعر أنه حقدٌ دفين وأمر متعمد مقصود.. كل ذلك ولّد عندي غيظاً وامتعاضاً غير اعتيادي تجاه هؤلاء. ولكن العناية الإلهية أغاثتني فنبهتْ القلبَ إلى هذا المعنى:

إن للقدر الإلهي -الذي هو عدل محض- حصةً عظيمة جداً فيما يسلطه عليك هؤلاء البشر من الظلم البيّن، وإن رزقك في السجن هو الذي دعاك إلى السجن، فينبغي إذن أن تقابل هذه الحصة بالرضى والتسليم.

وإن للحكمة الربانية ورحمتها حظاً وافراً أيضاً كفتح طريق النور والهداية إلى قلوب المساجين وبث السلوان والأمل فيهم، ومن ثُمَّ إحراز الثواب لكم؛ لذا ينبغي تقديم آلاف الحمد والشكر لله -من خلال الصبر- تجاه هذا الحظ العظيم.

وكذا فإن لنفسك أنت أيضاً حصتها حيث إن لها ما لا تعرف من التقصيرات..

فينبغي مقابلة هذه الحصة أيضاً بالاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله وتأنيب النفس بأنها مستحقة لهذه الصفعة.

وكذا فإن بعض الموظفين السذج والجبناء المنخدعين الذين يساقون إلى ذلك الظلم بدسائس الأعداء المتسترين منهم حصة أيضاً ونصيب، فرسائل النور قد ثأرت لك ثأراً كاملاً من هؤلاء المنافقين بما أنزلت بهم من صفعاتها المعنوية المدهشة. فحسبهم تلك الضربات.

أما الحصة الأخيرة فهي لأولئك الموظفين الذين هم وسائط فعلية. ولكن لكونهم منتفعين حتماً من جهة الإيمان -سواء أرادوا أم لم يريدوا- عند نظرهم إلى رسائل النور وقراءتهم لها بنيّة النقد أو الجـرح، فإن العـفـو والتجاوز عنهـم وفـق دستور ﴿وَالْكَاظِمينَ الْغَيْظَ وَالْعَافينَ عَنِ النَّاسِ﴾ (آل عمران:134) هو شهامة ونجابة.

وبعد أن تلقيت هذا التنبيه والتحذير الذي كلّه حق وحقيقة قررت أن أظل صابراً وشاكراً جذلاً في هذه المدرسة اليوسفية الجديدة. بل قررت أن أعاقب نفسي بتقصير لا ضرر فيه فأساعد وأعاون حتى أولئك الذين يسيئون إلى ويخاصمونني.

ثم إن من كان مثلي في الخامسة والسبعين من عمره، وقد انقطعت علاقاته مع الدنيا ولم يبق من أحبابه في الدنيا إلّا خمسة من كل سبعين شخصاً، وتقوم سبعون ألف نسخة من رسائل النور بمهمته النورية بكل حرية، وله من الإخوان ومن الورثة مَن يؤدون وظيفة الإيمان بآلاف الألسنة بدلاً من لسان واحد.. فالقبر لمثلي إذن خير وأفضل مائة مرّة من هذا السجن. فضلاً عن أن هذا السجن هو أكثر نفعاً وأكثر راحة بمائة مرة من الحرية المقيدة في الخارج، ومن الحياة تحت تحكّم الآخرين وسيطرتهم؛ لأن المرء يتحمل مضطراً مع مئات المساجين تحكماً من بعض المسؤولين؛ أمثال المدير ورئيس الحراس بحكم وظيفتهم، فيجد سلواناً وإكراماً أخوياً من أصدقاء كثيرين من حوله، بينما يتحمل وحده في الخارج سيطرة مئات الموظفين والمسؤولين.

وكذلك الرأفة الإسلامية والفطرة البشرية تسعيان بالرحمة للشيوخ ولاسيما من هم في هذه الحالة، فتبدلان مشقة السجن وعذابه إلى رحمة أيضاً.. لأجل كل ذلك فقد رضيت بالسجن..

وحينما قُدمتُ إلى هذه المحكمة الثالثة جلست على كرسي خارج باب المحكمة لما كنت أحسّ من النصب والضيق في الوقوف لشدة ضعفي وشيخوختي ومرضي. وفجأة أتى الحاكم وقال مغاضباً مع إهانة وتحقير: لِمَ لا ينتظر هذا واقفاً؟!

ففار الغضب في أعماقي على انعدام الرحمة للشيب، والتفتُّ وإذا بجمع غفير من المسلمين قد احتشدوا حولنا ينظرون إلينا بعيون ملؤها الرأفة، وقلوب ملؤها الرحمة والأخوّة، حتى لم يستطع أحد من صرفهم عن هذا التجمع، وهنا وردت إلى القلب هاتان الحقيقتان:

الأولى: أن أعدائي وأعداء النور المتسترين قد أقنعوا بعض الموظفين الغافلين وساقوهم إلى مثل هذه المعاملات المهينة كي يحطموا شخصيتي أمام أنظار الناس، ويصرفوا ما لا أرغبه أبداً من توجه الناس وإقبالهم علىّ، ظناً منهم أنهم يتمكنون بذلك من إقامة سدّ منيع أمام سيل فتوحات النور. فتجاه تلك الإهانة الصادرة من رجل واحد فقد صرفت العناية الإلهية نظري إلى هؤلاء «المائة» إكراماً منها للخدمة الإيمانية التي تقدمها رسائل النور وطلابها قائلة: انظر إلى هؤلاء، فقد أتوا للترحيب بكم لخدمتكم تلك، بقلوب ملآى بالرأفة والحزن والإعجاب والارتباط الوثيق!

بل حتى في اليوم الثاني عندما كنت أجيب على أسئلة حاكم التحقيق؛ احتشد ألف من الناس في الساحة المقابلة لنوافذ المقر. وكانت ملامح وجوههم تعبّر عن وضعهم، وتقول: «لا تضايقوا هؤلاء». ولشدة ارتباطهم بنا، عجزت الشرطة عن أن تفرقهم. وعند ذلك ورد إلى القلب أن هؤلاء الناس في هذا الوقت العصيب؛ ينشدون سلواناً كاملاً، ونوراً لا ينطفئ، وإيماناً راسخاً، وبشارة صادقة بالسعادة الأبدية، بل يبحثون عنها بفطرتهم، وقد طرق سمعَهم أن ما يبحثون عنه موجود فعلاً في رسائل النور، لذا يبدون هذا الاحترام والتقدير لشخصي الذي لا أهمية له بما يفوق طاقتي وحدي، من موقع كوني خادماً للإيمان، وعسى أن أكون قد قمت بشيء من الخدمة له.

الحقيقة الثانية: لقد ورد إلى القلب أنه حيال إهانتنا والاستخفاف بنا بحجة إخلالنا بالأمن العام، وإزاء صرف إقبال الناس عنا بالمعاملات الدنيئة التي يقوم بها أشخاص معدودون من المغرر بهم.. فإن هناك الترحيب الحار والتقدير اللائق لكم من قبل أهل الحقيقة وأبناء الجيل القادم. نعم، في الوقت الذي تنشط الفوضى والإرهاب المتستّر بستار الشيوعية للإخلال بالأمن العام، فإن طلاب رسائل النور يقفون بوجه ذلك الإفساد المرعب، في جميع أرجاء البلاد ويكسرون شوكته بقوة الإيمان التحقيقي، ويسعون حثيثاً لإحلال الأمن والنظام مكان الخوف والفوضى. فلم تظهر في العشرين سنة السابقة أية حادثة كانت حول إخلالهم بالأمن، رغم كثرة طلاب النور وانتشارهم في جميع أنحاء البلاد، فلم يجد ولم يسجل عليهم أحد من الضباط المسؤولين حدثاً، في عشر ولايات وعبر حوالي أربع محاكم ذات علاقة، بل لقد قال ضباط منصفون لثلاث ولايات: «إن طلاب النور ضباط معنويون للأمن في البلاد، إنهم يساعدوننا في الحفاظ على الأمن والنظام لما يجعلون من فكر كل من يقرأ رسائل النور بالإيمان التحقيقي حارساً ورقيباً عليه فيسعون بذلك للحفاظ على الأمن العام»».

مقتطفات من دفاع الأستاذ النُّورْسِيّ

أمام محكمة أفيون

ردّ على لائحة الادعاء

«بعد صمت دام ثمانية عشر عاماً، اضطررت إلى إعادة تقديم هذه الدعوى رداً على لائحة الادعاء، رغم تقديمها إلى المحكمة وتقديم صورة منها إلى المراجع العليا في أنقرة».

«أدناه خلاصة لدفاع قصير -هو الحقيقة عينها- قد قلته للمدعين العامين وضابطي الشرطة الذين أتوا لتحري منـزلي في «قسطموني» ثلاث مرات، وقلته أيضاً لمدير الشرطة ولثلة من أفراد الشرطة -في المرة الثالثة- ولمحكمة دنيزلي وأفيون. فليكن معلوماً لديكم أن ما قلته لهم هو: أنني أعيش معتكفاً ومنـزوياَ منذ عشرين سنة. فطوال ثماني سنوات في «قسطموني» بقيت مقابل مخفر الشرطة وكذا الحال في بقية الأماكن؛ كنت طوال هذه الفترة تحت المراقبة والترصد الدائم. وقد تحرّوا منـزلي عدة مرات، ومع ذلك لم يعثروا على أية أمارة لها علاقة بالدنيا أو بالسياسة. فلو كان لي شيء من التدخل بها لكانت الشرطة والعدلية تعلم به، أو علمتْ به ولكن لم تعر له بالاً، بمعنى أنهم مسؤولون أكثر مني.

فما دام الأمر هكذا فلِمَ تتعرضون لي إلى هذا الحد دون داع إليه وبما يلحق الضرر بالبلاد والعباد. علماً أنه لا يُتعرض في الدنيا كلها للمنـزوين المعتكفين المنشغلين بآخرتهم.

نحن طلاب النور آلينا على أنفسنا ألّا نجعل من رسائل النور أداة طيعة للتيارات السياسية، بل للكون كله. فضلاً عن أن القرآن الكريم قد منعنا بشدة من الاشتغال بالسياسة.

نعم، إن مهمة رسائل النور الأساس هي خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يُودِي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سماً زعافاً وجحيماً لا يطاق.

ومنهجها في ذلك هو إظهار الحقائق الإيمانية الناصعة المدعمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي تلزم أشد الفلاسفة والمتزندقة تمرداً على التسليم بالإيمان. لذا فليس من حقنا أن نجعل رسائل النور أداة لأي شيء كان، وذلك لأسباب:

أولاً: كي لا تحول الحقائق القرآنية التي تفوق الألماس نفاسة إلى قطع زجاج متكسر في نظر أهل الغفلة، حيث يتوهمونها كأنها دعاية سياسية تخدم أغراضاً معينة، وكي لا نمتهن تلك المعاني القرآنية القيمة.

ثانياً: إن منهج رسائل النور الذي هو عبارة عن الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير ليمنعنا بشدة عن التدخل بالأمور السياسية أو بشؤون السلطة الحاكمة. لأنه إذا كان هناك بعض ممن ابتلوا بالإلحاد واستحقوا بذلك العقاب فإن وراء كل واحد منهم عدداً من الأطفال والمرضى والشيوخ الأبرياء. فإذا نزل بأحد أولئك المبتلَيْنَ المستحقين للعقاب كارثة أو مصيبة، فإن أولئك الأبرياء أيضاً سيحترقون بنارهم دون ذنب جنوه. وكذا لأن حصول النتيجة المرجوة أمر مشكوك فيه، لذا فقد مُنعنا بشدة من التدخل في الشؤون الإدارية بما يخل بأمن البلاد ونظامها عن طريق وسائل سياسية.

ثالثاً: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسة أسس ثابتة، حتى يمكن إنقاذ البلاد وإنقاذ الحياة الاجتماعية بأبنائها من الفوضى والانقسام. وهذه المبادئ هي:

1- الاحترام المتبادل

2- الشفقة والرحمة

3- الابتعاد عن الحرام

4- الحفاظ على الأمن

5- نبذ الفوضى والغوغائية، والدخول في الطاعة.

والدليل على أن رسائل النور في نظرتها إلى الحياة الاجتماعية قد ظلت تثبت وتحكم هذه الأسس الخمسة وتحترمها احتراماً جاداً محافظة بذلك على الحجر الأساس لأمن البلاد، هو أن رسائل النور قد استطاعت في مدى عشرين عاماً أن تجعل أكثر من مائة ألف رجل أعضاء نافعين للبلاد والعباد دون أن يتأذى أو يتضرر بهم أحد من الناس. ولعل محافظتي إسبارطة وقسطموني خير شاهد وأبرز دليل على صدق ما نقول.

فإذا كانت هذه هي الحقيقة، فلا شك أن أكثر أولئك الذين يتعرضون لأجزاء رسائل النور إنما يخونون الوطن والأمة والسيادة الإسلامية. ويعملون -سواءً بعلم أو بدون علم- لحساب الفوضوية والتطرف.

إن مائة وثلاثين رسالة من أجزاء رسائل النور التي منحت مائة وثلاثين حسنة وفائدة لهذه البلاد، لا تزيلها الأضرار الموهومة التي يتوهمها أهل الغفلة القاصرو النظر الشكاكون، من نقص وقصور في رسالتين أو ثلاث. فالذي يهوّن من شأن تلك الرسائل بهذه الأوهام والشبهات ظلومٌ مبين.

أما تقصيراتي وذنوبي التي تمس شخصي الذي لا أهمية له، فإني أضطر دون رغبة مني إلى القول بأن الذي قضى حياة الاغتراب التي هي أشبه ما تكون بالسجن الانفرادي طوال اثنتين وعشرين سنة، معتكفاً ومنـزوياً عن أحوال الناس. والذي لم يخرج باختياره طوال هذه الفترة إلى مجمع الناس في السوق وفي الجوامع الكبيرة. والذي أجري عليه أشد أنواع الضيق والعنت وخالف أمثاله من المنفيين فلم يراجع الحكومة ولو لمرة واحدة. ولم يقرأ جريدة ولم يستمع إليها، بل لم يكترث بها طوال هذه الفترة.

وخير شاهد على هذا القريبون من أصدقائه وأحبّائه خلال سنتين في قسطموني وخلال سبع سنوات في أماكن أخرى. بل لم يعرف أحداث الحرب العالمية ولا المنتصر من المغلوب، ولم يهتم بالمعاهدة والصلح، بل لم يعرف حتى من هم أطراف الحرب، ولم يتحرك فضوله لمعرفتهم، ولم يسأل عنهم ولم يستمع إلى الراديو القريب منه خلال ثلاث سنوات سوى ثلاث مرات. والذي يواجه الكفر المطلق برسائل النور، ذلك الكفر الذي يفني الحياة الأبدية ويزيد آلام الحياة الدنيا ويجعلها عذاباً في عذاب. والشاهد الصادق لذلك مائة ألف ممن أنقذوا إيمانهم برسائل النور المترشحة من فيض نور القرآن العظيم والتي تجعل الموت بحق مائة ألف شخص تذكرة تسريح بدلاً من الإعدام الأبدي.

تُرى أي قانون يسمح بالتعرض لهذا الرجل -يقصد نفسه- وجعله في يأس من الحياة، ودفعه إلى البكاء والحزن، مما يدفع مائة ألف من إخوانه إلى البكاء؟ بل أية مصلحة في ذلك؟ ألا يرتكبون باسم العدالة غدراً لا مثيل له ولا نظير؟ أفلا يكون باسم القانون خروجاً عن القانون؟

أما إذا قلتم واحتججتم بتصرفكم هذا بما يحتج به فريق من الموظفين في هذه التحريات وادعيتم كما يدعون، بأنك وطائفة من رسائلك تخالفان نُظمنا ومبادءنا.

فالجواب:

أولاً: ليس من حق نظمكم ومبادئكم المبتدعة هذه أن تدخل معتكفات المنـزوين إطلاقاً.

ثانياً: إن ردّ أمر ما شيء وعدم قبوله قلبياً شيء آخر. وعدم العمل به شيء آخر تماماً. وإن ولاة الأمور إنما ينظرون إلى اليد لا إلى القلب. وهناك في كل قطر وفي كل مكان معارضون شديدون للحكومة لا يتدخلون في شؤون الإدارة والأمن. حتى إنه في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه لم يمُسّ النصارى بشيء مع أنهم كانوا ينكرون الإسلام وقوانين الشريعة.

وعلى هذا واستناداً إلى مبدأ حرية الفكر والوجدان، إذا كان بعض طلاب النور يرفضون نظمكم ومبادئكم، وينتقدونها على أساس علمي نقداً بناءً، أو إن صدرت منهم أعمال وتصرفات لا تتفق وتلك المبادئ، بما في ذلك إضمار العداء لأولى الأمر، فليس من حق القانون أن يحاسبهم على ذلك بشرط واحد وهو أن لا يتدخلوا في الشؤؤن الإدارية، وألّا يخلّو بالأمن والنظام.

أما بالنسبة للرسائل، فقد أطلقنا على تلك الرسائل أنها سرية وخاصة، وحظرنا نشرها. حتى إن أحدهم قد أتى لي بنسخة واحدة من الرسالة التي سببت هذه الحادثة لمرة أو مرتين طوال ثماني سنوات في قسطموني، وضيعناها في اليوم نفسه. وأنتم الآن تشهرونها بالقوة والإكراه، وقد اشتهرت حقاً.

ومن المعلوم أنه إذا وجد نقص يوجب الذنب في رسالة ما، فإن تلك الكلمات وحدها تُحذف ويُسمح بالبقية، ولقد وجدوا خمس عشرة كلمة فقط هي مدار النقد من بين مائة رسالة من رسائل النور بعد إجراء تدقيقات عليها دامت أربعة أشهر في محكمة «أسكي شهر». ووجدوا في صفحتين فقط من بين أربعمائة صفحة من مجموعة «ذوالفقار» موضع نقد بعدم تلاؤمها مع القانون المدني حيث فيهما تفسير الآيات الكريمة الخاصة بميراث المرأة وحجابها، ذلك التفسير الذي كتب قبل ثلاثين سنة.. كل ذلك يثبت أن هدف رسائل النور ليست الدنيا، بل الناس كافة بحاجة إليها. فلا تصادر تلك المجموعة (ذوالفقار) لأجل تلكما الصفحتين. ولترفع إذن الصفحتان وتُعَدْ لنا مجموعتنا. نعم من حقنا أن نطالب بإعادتها لنا.

أما إذا خلتم الإلحاد ضرباً من متطلبات السياسة وقلتم بزعمكم كما يزعم البعض: «إنك برسائلك هذه تفسد علينا مدنيتنا وتحول دون تمتعنا بمباهج الحياة وملذاتها»…فأنا أقول: «إنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش بلا دين. وهذا دستور عام، معترف به في الدنيا كلها. ولا سيما إن كان هناك كفر مطلق فإنه يسبب لصاحبه عذاباً أشد إيلاماً من عذاب جهنم في الدنيا نفسها. كما أثبت ذلك بأدلة وبراهين لا تقبل المناقشة في رسالة «مرشد الشباب»، تلك الرسالة المطبوعة رسمياً، إذ لو ارتد مسلم -والعياذ بالله- فإنه يقع في الكفر المطلق، ولن يبقى في الكفر المشكوك فيه الذي يمهل الحياة لصاحبه إلى حدٍ ما. ولا يكون كملاحدة الأجانب أيضاً. بل من حيث التمتع بملذات الحياة التي قد يتصورها، لا يكون حظه من ذلك سوى الهبوط إلى مرتبة أدنى من مرتبة الحيوانات بمائة مرة التي لا معنى للماضي والمستقبل لديها. وذلك لأن موت الموجودات السابقة واللاحقة وفراقها الأبدي، يترك في نفسه آلاماً مستمرة متعاقبة بسبب ضلاله.

أما إذا جاء الإيمان ولامس بشاشة القلب وتمكّن فيه، فإن أولئك الأصدقاء الذين لا يحصيهم العد سيحيون فجأةً ويقولون بلسان حالهم: نحن لم نمت.. ولم نفنَ..! وحينئذٍ تنقلب تلك الحالة الجهنمية إلى لذائذ فيحاء وروضة غناء.

فما دامت الحقيقية هي هذه، فإنني أذكّركم بالآتي: لا تبارزوا رسائل النور المستندة إلى القرآن الكريم فإنها لا تُغلب، وإلّا فسيكون أمر هذه البلاد مؤسفاً إذا ما حاول أحد طمس نورها وسوف تذهب إلى مكان آخر، وتنور أيضاً.

ألا فلتعلموا جيداً بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفُصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها.

لا شك أنه لا ينظر إلى نقائص تقع في إفادة معتكف منذ عشرين سنة، ولا يقال إنه خرج عن الصدد، ذلك لأنه يدافع عن رسائل النور، إذ ما دامت محكمة «أسكي شهر» لم تجد غير مادة أو مادتين لرسالة أو رسالتين من بين مائة من الرسائل السرية الخاصة والعلنية العامة، أثناء إجراء التدقيق عليها خلال أربعة أشهر، علماً أن المادتين توجبان عقاباً خفيفاً، حتى إن المحكمة حكمت بالسجن لمدة ستة أشهر على خمسة عشر من المتهمين البالغ عددهم مائة وعشرين شخصاً، ونحن بدورنا قضينا هذا العقاب..

وما دامت جميع أجزاء رسائل النور قد أصبحت في متناول المسؤولين -قبل سنوات- وأعيدت إلى أصحابها بعد إجراء التدقيق عليها خلال شهور عدة..

وما دامت لم تظهر أية أمارة تمس العدلية والأمن طوال ثماني سنوات في «قسطموني» رغم التحريات الدقيقة..

وما دام قد تحقق لدى هيئة التحريات الأخيرة في «قسطموني» -قبل سنوات- أن بعض الرسائل وجدت تحت أكوام الحطب، مما يومئ إلى عدم نشرها بل فقدانها..

وما دام مدير الشرطة في قسطموني ومسؤول العدلية قد وعداني وعداً قاطعاً بإعادة الكتب المخفية لي وقبل استلامي لها ساقوني في اليوم التالي بمجرد مجيء أمر التوقيف من إسبارطة..

ومادامت محكمتا «دنيزلي» و«أنقرة» قد برأتا ساحتنا و أعادتا إلينا جميع الرسائل..

فلا بد وبناء على هذه الحقائق الست بمقتضى واجب محكمة «دنيزلي» ومدعيها العام كما هو من واجب عدلية «أفيون» ومدعيها العام أخذُ جميع حقوقي المهمة بنظر الاعتبار. فأنا على أمل أن المدعي العام الذي يدافع عن الحقوق العامة سيدافع عن حقوقي الشخصية التي أصبحت بمثابة الحقوق العامة لمناسبة رسائل النور. بل أنتظر ذلك منه.

إن سعيداً الجديد الذي انسحب من ميدان الحياة الاجتماعية منذ اثنتين وعشرين سنة، ويجهل القوانين الحاضرة وأصول الدفاع الحالية، والذي قدم مائة صحيفة من الدفاع المبرهن ببراهين لا تجرح والذي قدّمها سابقاً إلى محكمتي «أسكي شهر ودنيزلي» وقاسى جزاء تقصيراته إلى ذلك الوقت. ومن بعده في قسطموني وفي أميرداغ حيث قضى حياته فيما يشبه السجن المنفرد وتحت الرقابة الدائمة.. أقول: إن هذا السعيد الجديد وأمره هذا، يؤثر جانب الصمت ويدع الكلام لسعيد القديم.

يقول سعيد القديم: لما كان سعيد الجديد قد أعرض عن الدنيا ولا يتكلم مع أهلها ولا يجد مبرراً للدفاع إلاّ إذا اضطر إلى ذلك. إلاّ أن المسألة تمس الكثيرين من الأبرياء من الفلاحين وأصحاب الأعمال حيث يعتقلون بمناسبة علاقتهم الواهية معنا، ويصيب أعمالهم الكساد لعجزهم عن تدارك حاجات أهليهم وأطفالهم في موسم العمل هذا.. إن هذا الأمر قد مسّ وجداني مساً قوياً وأبكاني من الأعماق.

لذا أقسم بالله العظيم أنه لو كان باستطاعتي أن آخذ على عاتقي جميع مشاق أولئك لأخذتها، فالذنب كله يعود لي -إن كان هناك ذنب- وهم أبرياء أصلاً.

الفصل الثامن في منفى أميرداغ

الفصل الثامن في منفى أميرداغ

(المدرسة النورية الثالثة)

1/8/1944 – 23/1/1948

نفي آخر

«عندما كنت نزيل غرفة في «أميرداغ» تحت الإقامة الجبرية وحيداً فريداً، كانت عيون الترصد تتعقبني وتضايقني دائماً فأتعذب منها أشد العذاب، حتى مللت الحياة نفسها وتأسفت لخروجي من السجن، بل رغبتُ من كل قلبي في أن أعود إلى سجن «دنيزلي» أو أدخل القبر، حيث السجن أو القبر أفضل من هذا اللون من الحياة. [حتى كتب إلى المسؤولين في أنقرة:]

إذا كان الحاكم والمدعي واحداً، فإلى من تُرفع الشكوى؟ لقد حرتُ طويلاً في هذه المشكلة..

أجل، إن حالتي اليوم وأنا طليق مراقَب أكثرُ شدة عليّ من الأيام التي كنت مسجوناً فيها، وإن يوماً واحداً من هذه الحياة يضايقني أكثر من شهر كامل في سجني الانفرادي ذاك. لقد مُنعت من كل شيء رغم ضعفي وتقدمي في السن وفي هذا الشتاء القارس. فلا أقابل غير صبي وشخص مريض. على أنني منذ عشرين سنة أعاني مأساة حبس منفرد.

إن مضاعفة المضايقات والمراقبة عليّ وعزلي عن الناس أكثر من هذا الحد سيمس غيرة الله سبحانه وتعالى وتكون العاقبة وخيمة..

إنني أقول: إن أهم وظيفة لهذه الحكومة -بمسؤولي الأمن ومأموري العدل فيها- والتي تعاملني معاملة وجدانية إنسانية هي حمايتي حماية تامة. لأن الحكومة وثلاث محاكم عدلية برأت ساحتنا وأفرجت عنا بعد إجراء تدقيقات دامت طوال تسعة أشهر على ما كتبتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات ومكاتيب. ولكن المنظمة السرية التي تعمل بخفاء في خدمة الأجنبي ألقت في روع قسم من الموظفين الشبهات -بجعلها الحبة قبة- طمعاً في إفساد براءتنا. وغايتهم في ذلك هي أن ينفد صبري فأقول: «كفَى كفى»! على أن سبب غضبهم عليّ في الوقت الحاضر هو سكوتي، وعدم تدخلي بأمور الدنيا. وكأنهم يريدون أن أتدخل حتى تتحقق لهم بغيتهم.

أبيّن لكم بعض مكايدهم التي يستعملونها في بث الشكوك والشبهات في قلوب قسم من الموظفين الحكوميين إذ يقولون: إن لسعيد نفوذاً في الأوساط العامة، وإن مؤلفاته كثيرة ولها تأثير بالغ في الناس، فمن يتقرب منه يصادقه، لذا يلزم كسر هذا النفوذ بتجريده من كل شيء وإهانته وعدم الاهتمام به وتجنيب الناس منه وإخافة محبيه. وهكذا أصبحت الحكومة في حيرة من أمرها فتشدد عليّ الخناق وتضاعف المضايقات. وأنا أقول:

أيها الإخوة المحبون لهذه الأمة والبلاد!

أجل، إن هناك نفوذاً وتأثيراً كما يقوله المنافقون، ولكن ليس لي، وإنما لرسائل النور. فرسائل النور لا تنطفئ وكلما تعرض لها شيء قويت! ولم تستعمل إلّا لصالح الأمة والبلاد ولا يمكن غير ذلك. إن قيام محكمتين عدليتين طوال عشر سنوات بتدقيقات ما كتبتُه خلال عشرين سنة تدقيقاً شديداً لم يسفر عن حجة حقيقية لإدانتنا.. وهذه حجة لا تُجرح، وشاهد صدق لدعوانا.

نعم، إن المؤلفات ذات تأثير بالغ، ولكن لمصلحة الأمة والبلاد. وذلك بإرشادها إلى الإيمان التحقيقي لمائة ألف من الناس من دون أن تمسّ أحداً بسوء. فتأثيرها إذن هو في العمل لسعادتهم الدنيوية وحياتهم الأبدية.

إن مئات المساجين المحكومين في سجن «دنيزلي» -وبعضهم قد عوقب بعقوبات شديدة- قد أصبحوا متدينين ذوي أخلاق فاضلة بعد قراءتهم «رسالة الثمرة» وحدها، حتى الذين قتلوا ثلاثة أشخاص تحاشوا عن قتل بقة الفراش بعد قراءتهم لتلك الرسالة. مما دفع هذا الوضع مدير السجن على الإقرار بأن السجن أصبح في حكم مدرسة تربوية.. كل هذا حجة قوية لا تجرح لصدق مدّعانا.

نعم، إن تجريدي من جميع حقوقي الإنسانية بعد هذا كله إنما هو ظلم مضاعف وعذاب مضاعف وغدر وخيانة لهذه الأمة في الوقت نفسه. ذلك لأن الدليل القاطع على أن هذه الأمة المتدينة -التي لم يجد أحد أي ضرر مني رغم بقائي ما يقرب من أربعين سنة بين ظهرانيهم- بحاجة إلى قوة معنوية وتسل عظيم، هو: أن الأمة لا تلتفت إلى الدعايات المغرضة المشاعة ضدي، فتتوجه في كل مكان إلى رسائل النور وتشتاق إليها.. بل أعترف أنهم يبدون من التوقير والاحترام لي يفوق ما أستحقه بمائة ضعف، فأنا لست أهلاً له.([1])

ورغم هذا هيأ الله أسرة «جالشقان» في أميرداغ فبذلوا كل ما في وسعهم شيباً وشباباً لتأمين راحة شيخ كبير وعالم فاضل مهما كانت التبعات، حيث كان الحارس ملازماً بابه لا يغادره».

منع الذهاب إلى المسجد

«كنت أتردد إلى المسجد في الأوقات الخالية. وصنع الطلاب -بدون علمي- في المحفل غرفة خشبية صغيرة لحمايتي من البرد. وقد قررت ألّا أذهب إلى المسجد، بعد أن رفع ضابط الأمن المعروف تلك الغرفة الصغيرة، وأبلغوني رسمياً: عليك ألّا تذهب إلى المسجد. ولكنهم أثاروا ضجة بين الناس باستهوالهم الأمر، جاعلين من الحبة قبة».

دس السم في الطعام

وبأمر من السلطات، تسور أحد الحراس ليلاً شباك غرفة الأستاذ ودسّ السم في طعامه. ومن غده أمضّه الألم أسبوعا كاملاً من شدة السم ولم يذق طعاماً ولا شراباً إلّا النـزر اليسير. فنجّاه الله من الموت المحقق، وكان في هذه الفترة دائم التلاوة للأوراد والأذكار وبخاصة الجوشن الكبير والأوراد القدسية للشاه النقشبند. وتكررت الحادثة ثلاث مرات، إلّا أن الأخيرة كانت شديدة إلى الدرجة التي لم يتمكن الأستاذ فيها من أداء صلواته سوى الفرائض وهو طريح الفراش. يذكر طالبان من طلابه الذين سهروا عليه أنه في يوم من الأيام «استعدل في فراشه قرب الفجر مغمض العينين، ورفع يديه للتضرع إلى المولى الكريم ودعا بصوت خافت جداً لظهور دعوة النور وسلامة طلابه. ثم أغمى عليه ووقع في الفراش».

كان الأستاذ شديد الحاجة إلى الهواء الطلق، فكان يخرج للتجوال في ضواحي المدينة، والمراقبةُ تتعقبه حتى أطلق عليه أحد المرات طلقة من الخلف ولكن لم تصبه، كل ذلك لإزعاجه والتخلص منه.

ومن المضايقات أيضاً التعرض لزيّه وإكراهُه على لبس القبعة. حتى جُلب مرتين إلى المحكمة والادعاء العام لهذا الغرض، فرفض الأستاذ وعاد إلى غرفته منـزوياً. [يقول عن هذه الفترة من حياته]:

فأتتني العناية الإلهية مغيثة، إذ وهبتْ آلة الرونيو -التي ظهرت حديثاً- لطلاب «مدرسة الزهراء» وهم يحملون أقلاماً ماسية. فباتت رسائل النور تظهر بخمسمائة نسخة بقلم واحد. فتلك الفتوحات التي هيأتها العناية الإلهية لرسائل النور جعلتني أحب تلك الحياة الضجرة القلقة المضطربة، بل جعلتني أردد ألف شكر وشكر للبارئ سبحانه وتعالى.

هكذا تقتضي خدمة الإيمان

«أخي الصدّيق العزيز وصديقي الحميم الشهم في هذه الدنيا الفانية.

أولاً: أشكركم جزيل الشكر على سبقكم جميع أصدقائي وأهل مدينة أرضروم، على علاقتكم المشحونة بالشفقة الخالصة، وسعيكم فكراً لمدّ يد العون لي في حياتي التي مضت بالعذاب والظلم. فلا أنسى فضلكم هذا إلى نهاية عمري، فألف ألف ما شاء الله بارك الله فيكم.

ثانياً: سأبيّن بعض ما يخص حالتي وتعذيب الظلمة لي، مخالفاً بذلك مسلكي وما تعلّمته من رسائل النور، ومنافياً لدستور حياتي، وهو عدم النظر -منذ عشر سنوات- إلى حوادث الدنيا العابرة التافهة. أبيّنه تطميناً لخاطرك واهتمامك الذي ذكرته في رسالتك الأخيرة ليس إلّا.

الأول: حينما كنت عضواً في «دار الحكمة الإسلامية» قبل ثلاثين سنة قال لي أحد أعضائها وهو السيد سعد الدين باشا: سمعت ممن أثق بكلامه أن منظمة للزندقة مدعومة من جهات أجنبية، قرؤوا كتاباً لك وقالوا: لا يمكننا نشر أفكارنا ما دام هذا الرجل حياً، ولذلك قرروا القضاء عليك. فجئت لأخبرك بالأمر فإنك عزيز عليّ.

فقلت: توكلت على الله، والأجلُ واحد لا يتغير ولا يتبدل.

فهذه المنظمة قد توسعت، واستعملت بحقي جميع حبائل المكر والخديعة منذ ثلاثين أو أربعين سنة فسببت دخولي السجن مرتين وتسميمي إحدى عشرة مرة. وآخر خطتهم هي استعمال نفوذ الحكومة الرسمية بتشديدها عليّ، وذلك بدفعهم وزير الداخلية السابق ومحافظ أفيون السابق ووكيل قائمقام أميرداغ السابق ليأخذوا جبهة متحدة ضدي. حتى إنهم بدؤوا ببث الأراجيف والشائعات المغرضة لمثلي وأنا العاجز الضعيف الكهل المنـزوي الفقير الغريب المحتاج إلى من يعاونه ويخدمه، فبلغ الخوف لدى الناس مبلغاً -لشدة دعاياتهم- بحيث لا يجرؤ أحد من الموظفين أن يسلّم عليّ تجنباً من نقله إلى بلد آخر بمجرد وصول الإخبارية إليهم. لذا لم يمرّ عليّ غير المخبرين الجواسيس، بل حتى جيراني قطعوا عني السلام. ولكن رغم كل هذا فقد منحني الحفيظ العليم وشملني بعنايته الواسعة وأعطاني تحملاً عجيباً وصبراً جميلاً ولم يجعلني مضطراً إلى التوسل بهم قطعاً رغم المضايقات الشديدة.

الثالث: لم تجد محكمتان مبرراً قانونياً واحداً لإدانتنا بعد طول تدقيق وتمحيص استغرق سنتين، فبرّأت ساحتنا. ولكن تلك المنظمة للزندقة أخذت تستغل بعض الموظفين المنافقين فدبّروا معاً خطة رسمية في مركز الحكومة، وعزلوني عن جميع طلابي وأخلائي كلياً. ونفوني إلى مكانٍ ناءٍ غير ملائم كلياً لصحتي وحياتي وهو أميرداغ. وقد تحقق لدي الآن أنهم يستهدفون غايتين في هذه المعاملة:

أولاها: افتعال حادثة بإثارتي وإغضابي، لمعرفتهم بأني لا أتحمل الإهانة مهما كانت وعندها يكون لديهم مبرر لإنهاء حياتي.

ولكن لأنهم لم يجنوا شيئاً من هذه المحاولة حاولوا إنهاء حياتي بالتسميم. ولكن العناية الإلهية الشاملة ودعوات طلاب النور والصبر والتحمل.. كلها أصبحت كالترياق الشافي لذلك السم، فباءت الخطة بالإخفاق.

إنه لم يقتَرف في التاريخ وفي أية حكومة كانت خرق للقانون ولا إنزال لأنواع العذاب والمظالم باسم القانون وباسم الحكومة بمثل ما اقتُرف بحقي، إذ كان الترصد والمراقبة مستمرة بحيث تثير أعصابي حتى تبلغ مبلغ الحدة والغضب مع إلقاء الرعب في قلوب الناس.. وقد خطر إلى قلبي فجأةً خاطرٌ هو: عليك بالإشفاق على هؤلاء الظلمة لا الحدة عليهم. لأن كل واحد منهم سيلقى ألوفاً من العذاب الدائمي الأشد بعد مدة قليلة بدلاً من العذاب المؤقت الذي يذيقونك إياه. فيُثأر لك منهم بألف ضعف وضعف لما يلاقون من جهنم مادي ومعنوي. وسيُعذب قسم منهم عذاباً وجدانياً طالما هو في الدنيا حتى يُقضى عليه. فضلاً عن القلق والخوف من الإعدام الأبدي الذي ينتظرهم. وأنا بدوري تركت الغضب جانباً وأشفقت عليهم قائلاً: يا رب أصلح شأن هؤلاء.

إنني أشكر ربي الجليل وأشعر بفرح غامر ضمن المضايقات الرهيبة، إذ إن انشغالهم بي بدلاً من رسائل النور وطلابها وصبّهم العذاب عليّ وحدي، ينفع من حيث سلامة النوريين فضلاً عن كسبي للثواب.

رابعاً: أما ما ذكرته في رسالتك حول مراجعتك الحكومة الحالية إذا اقتضى الأمر لذهابي إلى الشام أو الحجاز لضمان راحتي… فأقول:

أولاً: إنه يجب عليّ المجيء إلى هنا حتى لو كنت في مكة المكرمة وذلك إنقاذاً للإيمان وخدمة للقرآن الكريم، فالحاجة هنا شديدة جداً. فلو كنت أملك ألف روح وروح، وابتليت بألف مرض ومرض، وقاسيت ألوفاً من صنوف الآلام والمصاعب، فإن قراري -وقرارنا- هو البقاء هنا، خدمةً لإيمان هذه الأمة وسعياً لإكسابهم السعادة الأبدية، ذلك ما تعلمناه من دروس القرآن الكريم.

ثانياً: تكتب إليّ -يا أخي- عن الإهانة التي أقابَل بها بدلاً من الاحترام والتقدير وتقول: «لو كنتَ في مصر أو أمريكا لكنتَ تُذكر في التاريخ بإعجاب وفخر».

أخي العزيز الفطن!

نحن نهرب هروباً من احترام الناس إيانا وتوقيرهم لنا وحسن ظنهم بنا وإكرامهم لنا وإعجابهم بنا، وذلك بمقتضى مسلكنا. فاللهاث وراء الشهرة التي هي رياء عجيب، ودخول التاريخ بفخر وبهاء، وهو عُجب ذو فتنة، وحب الظهور وكسب إعجاب الناس.. كل ذلك مناف ومخالف للإخلاص الذي هو أساس من أسس مسلك النور وطريقه. فنحن نجفِل ونهرب مذعورين من هذه الأمور باعتبارنا الشخصي؛ ناهيك عن الرغبة فيها.

ولكننا نرجو من رحمة الله الواسعة إظهار رسائل النور النابعة من فيض القرآن الكريم، والتي هي لمعات إعجازه المعنوي، ومفسرة حقائقه وكشافة أسراره.. فنرجو من رحمته تعالى الإعلان عن هذه الرسائل والرواج لها وشعور الناس بحاجتهم إليها وإظهار قيمتها الرفيعة جداً، وتقدير الناس لها وإعجابهم بها، وتبيان كراماتها المعنوية الظاهرة جداً وإظهار غلبتها على الزندقة بجميع أنواعها بسر الإيمان، فنحن نريد إعلام هذه الأمور وإفهام الناس بها وإظهار تلك المزايا، ونرجو ذلك من رحمته تعالى».

تأليف رسالة حول حكمة التكرار في القرآن

«طرق سمعي قبل اثنتي عشرة سنة، أن زنديقاً عنيداً، قد فضح سوء طويته وخبث قصده بإقدامه على ترجمة القرآن الكريم، فحاك خطة رهيبة، للتهوين من شأنه بمحاولة ترجمته. وصرح قائلاً: ليترجم القرآن لتظهرَ قيمته؟ أي ليرى الناس تكراراته غير الضرورية! ولتتلى ترجمته بدلاً منه! إلى آخره من الأفكار السامة. إلّا أن رسائل النور بفضل الله، قد شلت تلك الفكرة وجعلتها عقيمةً بائرة وذلك بحججها الدامغة وبانتشارها السريع في كل مكان، فأثبتت إثباتاً قاطعاً أنه لا يمكن قطعا ترجمة القرآن الكريم ترجمة حقيقية.. وأن أية لغة غير اللغة العربية الفصحى عاجزة عن الحفاظ على مزايا القرآن الكريم ونكته البلاغية اللطيفة.. وأن الترجمات العادية الجزئية التي يقوم بها البشر لن تحل بأي حال محل التعابير الجامعة المعجزة للكلمات القرآنية التي في كل حرف من حروفها حسنات تتصاعد من العشرة إلى الألف، لذا لا يمكن مطلقا تلاوةُ الترجمة بدلاً منه.

بيد أن المنافقين الذين تتلمذوا على يد ذلك الزنديق، سعوا بمحاولات هوجاء في سبيل الشيطان ليطفئوا نور القرآن الكريم بأفواههم. ولكن لما كنت لا ألتقي أحداً، فلا علم لي بحقيقة ما يدور من أوضاع، إلّا أن أغلب ظني أن ما أوردته آنفا هو السبب الذي دعا إلى إملاء هذه «المسألة العاشرة» على الرغم مما يحيط بي من ضيق».

ورغم كل الصعاب كان محبو الأستاذ يتقاطرون إلى زيارته ولا يوفّق منهم للزيارة إلّا القليل، لشدة الترصد. وكان يتجاذب معهم الحديث حسب مستواهم الفكري والثقافي حيث كان الزائرون من طبقات الشعب كافة.. فكان حديثه مجملاً حول أهمية الإيمان في الوقت الحاضر وأن القصد الأساس لرسائل النور تقوية الإيمان وصد الإلحاد الذي يهدد الأمة والوطن، وأن أهم قضية في الوقت الحاضر إنقاذ الإيمان وتقويته بالاعتصام بالقرآن الكريم. ورسائل النور تحصر نظرها في هذا المقصد. ولهذا يتكالب عليها الأعداء من الملحدين ويختلقون الافتراءات الظالمة والإشاعات المغرضة، فلا محيد عن العمل الإيجابي البنّاء وحده، إذ في يدنا نور وليس صولجان السياسة. وحتى لو كانت لنا مائة من الأيدي لكانت تكفي للنور. وإن أساس مسلكنا الإخلاص وابتغاء مرضاة الله وحده، وهذا هو مصدر قوة النور. فالعناية الإلهية تحمي خدمتنا مادمنا مخلصين نعمل عملاً إيجابياً بناءً».

نماذج من الرسائل التوجيهية

 من أميرداغ

لا نجعل من الدين وسيلة لمكاسب دنيوية

«إخوتي الصديقين الأعزاء!

سؤال: لِمَ لا تكوّن علاقة ولا تمد وشائج ارتباط مع التيارات الجارية داخل البلاد وخارجها، ولا سيما مع الجماعات ذات الاهتمامات السياسية، بل ترفض ذلك وتمنع -ما وسعك- طلاب النور عن أي تماسٍ كان بتلك التيارات! والحال أنك لو كوّنت علاقة معهم فإن ألوف الناس سيدخلون دائرة رسائل النور زَرافات ووُحداناً وسيسعون لنشر حقائقها الساطعة، فضلاً عن أنك لا تكون هدفاً إلى هذا الحد للمضايقات الشديدة التي لا مبرر لها؟

الجواب: إن أهم سبب لهذا الاجتناب وعدم الاهتمام بالتيارات الجارية، هو الإخلاص؛ الذي هو أساس مسلكنا، فالإخلاص هو الذي يمنعنا عن ذلك، لأن في زمن الغفلة هذا، ولاسيما من يحمل أفكاراً موالية لجهة معينة، يحاول أن يجعل كل شيء أداة طيعة لمسلكه، بل يجعل حتى دينه وأعماله الأخروية وسائل لذلك المسلك الدنيوي. بينما الحقائق الإيمانية والخدمة النورية المقدسة تأبى أن تكون وسيلة لأي شيء كان في الكون، ولا يمكن أن تكون لها غاية إلّا رضى الله سبحانه.

وفي الحقيقة، إنه من الصعوبة بمكان الحفاظُ على سر الإخلاص في خضم الصراعات المتنافرة للتيارات الحالية، ومن العسير الحيلولة دون جعل الدين وسيلة لمكاسب دنيوية، لذا فإن أفضل علاج لهذا هو الاستناد إلى العناية الإلهية وتفويض الأمر إلى توفيق رب العالمين بدلاً من الاستناد إلى قوة التيارات الحالية.

ومن جملة الأسباب الداعية لاجتنابنا هذا هو «الشفقة» التي هي أساس من الأسس الأربعة لرسائل النور، أي عدم التلوث بظلم الآخرين وإضرارهم. إذ الإنسان -بمضمون الآية الكريمة: ﴿اِنَّ الْاِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم:34) يرد معاملة المقابل له في هذا العصر بلا رحمة وبظلم شنيع مخالفاً بذلك الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى﴾ (فاطر:18) التي هي دستور الإرادة الإلهية. حيث تتغلب عليه العاطفة والانحياز إلى جهة، وعندها لا يقصر عداءه على المجرم وحده ولا يأخذ بجريرته جميع أقاربه وحدهم، بل أيضاً يعاقب كل مَن له صلة بالمجرم من قريب أو بعيد، حتى إنه إذا ما كان له سلطة أو حكم، يبيد قرية كاملة بالقنابل بجريرة مجرم واحد. بينما الإنصاف يقتضي ألّا يُضحّى بحق بريء واحد بسبب مائة مجرم وأن لا يُظلم ذلك البريء بسببهم. ولكن الوضع الحالي يخالف الآية الكريمة، فيقحم مائة من الأبرياء في بلايا وأضرار بسبب بضع مجرمين.

فمثلاً: إن إهلاك والدين عجوزين لمن ارتكب خطأ، وتشريد أطفاله الصغار ودفعهم جميعاً إلى هاوية الفقر والذل ومعاداتهم بالانحياز إلى جهة ما مناف كلياً لأساس الشفقة على الخلق.

فمن جراء الانحياز إلى التيارات الجارية -بين المسلمين- لا ينجو الأبرياء من الظلم بل يشيع شيوعاً كلياً ولا سيما بالأسباب الداعية إلى قيام الاضطرابات والثورات.

ولو كان الجهاد قائماً وهو جهاد إسلامي، فإن حال أطفال الكفار تبقى على وضع آبائهم، وربما يكونون من الغنائم ويتمكن المسلمون أن يجعلوهم تحت إمرتهم وملك يمينهم. ولكن لو ارتد أحد داخل ديار المسلمين، فلا يُمتلك أطفاله قطعاً. ولا يجوز التجاوز على حقوقهم بأي شكل من الأشكال. لأن أولئك الأبرياء إنما يرتبطون بالإسلام وبجماعة المسلمين، برابطة الإسلام، التي انقطعت عن والدهم.أما أولاد الكفار فرغم أنهم من أهل النجاة، فإنهم يتبعون والدهم في الحقوق والحياة. لذا ربما يكونون أُسراء أو عبيداً في أثناء الجهاد الإسلامي».

الرسائل مُلك القرآن

«وأعلن أيضاً إعلاناً صريحاً قاطعاً أن رسائل النور مُلك القرآن العظيم، فأنَّى لي الجرأة أن أدّعي تملّكها! لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي فيها قطعاً، فأنا لست إلّا خادماً مذنباً لذلك النور الباهر،ودلّالاً داعياً في متجر المجوهرات والألماس. فأحوالي المضطربة لا تؤثر فيها ولا تمسها أصلاً.

وفي الحقيقة أن الدرس الذي لقنتنا إياه رسائلُ النور هو التمسك بحقيقة الإخلاص، وترك الأنانية، ومعرفة أن النفس مقصرة دائماً، والحذر الشديد من الإعجاب بالنفس. فنحن لا نظهر أنفسنا بل نظهر الشخصية المعنوية لرسائل النور ونبينها.

نحن نشكر من يرى نقائصنا ويريها لنا -بشرط أن تكون حقيقية- ونقول له: ليرضَ الله عنك. إذ كما نشكر من إذا وجد عقرباً في عنقنا ويرميها عنا قبل أن تؤذينا ونقدم له أجزل الشكر والامتنان، كذلك نقبل ونرضى بتبصيرنا نقائصنا وتقصيراتنا ونظل في شكر وامتنان لمن نبهنا عليها، بشرط عدم تدخل الأغراض الشخصية والعناد وعدم جعله وسيلة لمعاونة أهل الضلالة والبدع..»

ما تتطلبه خدمة الإيمان

«إن تلك الكرامات لا تعود لي، وليس من حدّي أن أكون صاحب تلك الكرامات، بل هي لرسائل النور التي هي ترشحات من المعجزة المعنوية للقرآن الكريم ولمعات منها وتفسير حقيقي له، متخذة شكل الكرامات، لأجل تقوية الروح المعنوية لطلاب النور، فهي من نوع الإكرامات الإلهية، وإظهارُ الإكرام الإلهي شكر، وهو جائز ومقبول أيضاً…

والآن أوضح الجواب قليلاً بناء على سبب مهم؛ وقد ورد السؤال الآتي: «لمَ أُظهر تلك الإكرامات الإلهية، ولِمَ أحشّد الكلام حولها، ولِمَ أُكثر البحثَ حولها، حتى إن أكثر المكاتيب متوجهة إليها؟».

الجواب: إن الخدمة الإيمانية التي تقدمها رسائل النور في هذا الوقت تجابَه بألوف المخربين، مما يلزم أن تكون في صفها مئات الألوف من المعمِّرين.. ويستدعي الأمر أن يكون معي في الأقل مئات من المعاونين والكتّاب.. وتقضي الضرورة على الأمة والمسؤولين في البلاد أن يمدّوا يد المساعدة بتقدير وإعجاب وحض منهم على الخدمة الإيمانية ويثمنوا قيمتها ويوثقوا الصلة بها، وألا يتحرزوا من التماس بها فينسحبوا من الميدان.. بل وتطلب هذه الخدمة من أهل الإيمان أن يفضّلوها على مشاغل الحياة الفانية وفوائدها، إذ إنها خدمة إيمانية خالصة تبغي النجاة في الآخرة.

فبينما الأمور تقتضي هكذا، أجعل من نفسي مثالاً فأقول: إن منعي عن كل شيء، وحظر الاتصال معي، وقطع طريق العون عني، زد على ذلك تهوين قوة زملائي المعنوية ببث الدعايات المغرضة بكل ما أوتوا من قوة واستعمال شتى الوسائل ما استطاعوا إليها سبيلاً لتنفيرهم عنّي وعن رسائل النور. أقول: في مثل هذه الظروف وضمن هذه الشروط فإن وضع مهمة ترزح تحتها ألوف الأشخاص، على كاهل شخص عاجز مثلي، وأنا الضعيف المريض العجوز الغريب عن بلاده، والمحروم من الأهل والأقارب، فضلاً عن تجنيب الناس الاتصال بي وكأنني مصاب بمرض معدٍ، حتى أضطر إلى الابتعاد وعدم الاختلاط.. زد على ذلك إلقاء الرعب والأوهام في قلوب الناس، وإحاطتهم بهالة من الذعر والخوف لإبعادهم عن خدمة الإيمان، وذلك للفتّ بعضد القوة المعنوية.. ففي مثل هذه الأحوال وتجاه جميع تلك الموانع فإن الأمر يقتضي حشد قوى معنوية حول رسائل النور ببيان الإكرامات الإلهية التي هي مدار القوة المعنوية لطلاب النور، وإظهار قوتها بقوة جيش عظيم لا تحتاج إلى إمداد أحد من الناس، بل هي التي تتحدى الأعداء.. فلأجل هذه الحكم المذكورة آنفاً كُتّبت الإكرامات وأمثالها. وإلّا فنحن لا نريد مزايدات على أنفسنا، وجلب إعجاب الناس بنا وحضهم على القيام بمدحنا والثناء علينا، وذلك حفاظاً على الإخلاص الذي هو أساس مهم من أسس رسائل النور».

إنقاذ الإيمان أعظم إحسان في هذا الزمان

«إخوتي الأعزاء الصادقين!

إن أعظم إحسان أعدّه في هذا الزمان وأجلّ وظيفة، هو إنقاذ الإنسان لإيمانه والسعي لإمداد إيمان الآخرين بالقوة. فاحذر يا أخي الأنانية والغرور، وتجنَّب من كل ما يؤدي إليهما، بل ينبغي لأهل الحقيقة في هذا الزمان نكران الذات، ونبذ الغرور والأنانية، وهذا هو الألزم لهم، لأن أعظم خطر يتأتى في هذا العصر، إنما يتأتي من الأنانية والسمعة، فعلى كل فرد من أفراد أهل الحق والحقيقة أن ينظر إلى تقصيرات نفسه ويتهمها دائماً ويتحلى بالتواضع التام.

إنه لمقام عظيم حفاظُكم ببطولة فائقة على إيمانكم وعبوديتكم لله، تحت هذه الظروف القاسية.

نعم، إن رسائل النور لم تنهزم تجاه جميع الهجمات الشرسة في هذا العصر، بل أرغمت رسمياً أعتى المعاندين لها على قبول نشرها. حتى إنه منذ سنتين وبعد إجراء التدقيقات صدّق المسؤولون الكبار وذوو المناصب الرفيعة في وزارة العدل على إطلاق حرية نشر رسائل النور فأعادوا الرسائل العامة والخاصة لأصحابها.

إن مما يُثبت أن رسائل النور معجزة معنوية للقرآن الكريم في هذا العصر هو عدم انهزام مسلك رسائل النور -كسائر المسالك والطرق الصوفية- بل انتصاره وإدخاله الكثيرين من أهل العناد إلى حظيرة الإسلام، والشهود على ذلك حوادث كثيرة جداً. ولقد أقنعتنا الحوادث أنه لن تكون خدمة الدين خارج دائرة رسائل النور خدمة كاملة -في الأغلب في هذه البلاد- حيث هو عمل خاص جزئي وحيد وشخصي أو مستتر منهزم، أو متساهل مع البدع ضمن تحريفات بتأويلات فاسدة.

ما دمتَ يا أخي تملك همة عالية وقوة راسخة من الإيمان، فكن طالباً لرسائل النور واستمسك بها بإخلاص تام وتواضع تام وثبات تام. كي تشارك في المغانم الأخروية لألوف بل مئات الألوف من الطلاب، وذلك على وفق دستور الاشتراك المعنوي الأخروي في الأعمال. وبهذا تتحول حسناتك وخيراتك إلى حسنات وخيرات كلية جماعية تكسبك تجارة رابحة في الآخرة بعد أن كانت حسنات جزئية فردية».

ممن تلقيتُ درس الحقيقة؟

«إن حسن ظنكم المفرط نحوي هو فوق حدّي بكثير فلا أستطيع قبوله إلّا أن يكون باسم شخص رسائل النور المعنوي، وإلّا فليس من حدّي وطوقي أن اظهر مزايا تلك المقامات الرفيعة. ثم إن مسلك رسائل النور ليس مسلك الطرق الصوفية بل هو مسلك الحقيقة، فهو مسلك مقتبس من نور مسلك الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية بل زمان إنقاذ الإيمان. ولله الحمد فإن رسائل النور قد أنجزت وما تزال تنجز هذه المهمة وفي أصعب الظروف. إن دائرة رسائل النور في هذا الزمان هي دائرة طلاب الإمام علي والحسن والحسين والشيخ الكيلاني رضوان الله عليهم أجمعين.. إذ تلقيتُ درس الحقيقة -على طريقة أويس القرني- مباشرة من الإمام علي رضي الله عنه بوساطة الشيخ الكيلاني قدس سره والإمام زين العابدين والحسن والحسين رضي الله عنهم، لذا فإن دائرة عملنا وخدماتنا هي دائرتهم.

ثم إنني أعترف بأني لا أستحق بأي وجه من الوجوه ذلك المقام الرفيع الذي يمنحني إخوتي لأتملك هذا الأثر المقبول القيم. ولكنّ خلقَ شجرة باسقة ضخمة من بذرة صغيرة جداً هو من شأن القدرة الإلهية ومن سنته الجارية وهو دليل على عظمتها. وأنا أطمئنكم مقسما بالله أن قصدي من الثناء على رسائل النور إنما هو تأييد حقائق القرآن وإثبات أركان الإيمان ونشرها. وإنني أشكر ربي الرحيم شكراً لا منتهى له، على أنه لم يجعلني أعجب بنفسي قط، وأنه أظهرَ لي عيوب نفسي وتقصيراتي حتى لم تبق لي أية رغبة في إظهار تلك النفس إلى الآخرين.

نعم، إن من كان واقفاً على شفير القبر لا ينظر إلى الدنيا الفانية التي تركها وراء ظهره، وإذا ما نظر إليها فهو حماقة يرثى لها وخسارة فادحة.

اللّهم احفظنا من مثل هذه الخسائر آمين.

تحياتنا إلى جميع الإخوة فرداً فرداً مقرونة بالدعاء لهم راجين دعواتهم».

الحقيقة الخالدة لا تُبنى على فانِينَ

«أولاً: إن حقيقة خالدة دائمة لا تبنى على أشخاص فانين زائلين. ولو بنيت عليهم لنجم ظلم وإجحاف شديدان، إذ المهمة التي لها الدوام والكمال من كل جانب لا تربط بأشخاص معرضين للفناء، ومبتلين بالإهانات. فإن رُبط الأمر بهم، تُصَبْ المهمة نفسها بضرر بالغ.

ثانياً: إن رسائل النور ليست نابعة من بنات أفكار المؤلف أو بلسان حاجته الروحية بفيض من القرآن الكريم، فهي ليست فيوضات متوجهة إلى حاجة المؤلف واستعداده وحده، بل هي أيضاً نابعة من طلب مخاطبي ذلك المؤلف وزملائه في درس القرآن الأفاضل الخالصين الصادقين الصلبين، وسؤالِهم روحاً تلك الفيوضات وقبولها والتصديق بها وتطبيقها. فهي مستفاضة من القرآن الكريم من هذه الجهات وأمثالها من جهات كثيرة أخرى. فهي فيوضات تفوق كثيراً استعداد المؤلف وقابليته. فكما أن أولئك المخاطبين أصبحوا السبب في ظهور رسائل النور، كذلك هم الذين يشكلون حقيقة الشخص المعنوي لرسائل النور وطلابها. أما المؤلف فله حصة من تلك الحقيقة، وقد يكون له حظ شرف السبق إن لم يُفسده بعدم الإخلاص.

ثالثاً: إن هذا الزمان زمن الجماعة، فلو بلغ دهاء الأشخاص فرداً فرداً حد الخوارق، فلربما يُغلب تجاه الدهاء الناشئ من شخص الجماعة المعنوي. لذا أقول كما كتب ذلك الأخ الكريم: إن مهمة إيمانية جليلة بحيث تنور عالم الإسلام من جهة وناشئة من أنوار دهاء قدسي، لا تحمّل على كاهل شخص واحد ضعيف مغلوب ظاهراً، يتربص به أعداء لا يعدّون وخصماء ألدّاء يحاولون التنقيص من شأنه بالإهانات. فلو حُمّلت، وتزعزع ذلك الشخص العاجز تحت ضربات إهانة أعدائه الشديدة، لسقط الحمل وتبعثر».


[1]  الملاحق، ملحق أميرداغ 1. على الرغم من أن الأستاذ النورسي لم يراجع الجهات الرسمية طوال فترة سجنه أو نفيه في غضون ما يقرب من عشرين سنة خلت، ولم يستدع إلى مقر الوالي إلا مرة واحدة في قسطموني، إلّا أنه في هذه الفترة من حياته في أميرداغ أي خلال ثلاث سنوات ونصف السنة استدعِي خمس عشرة مرة من قبل المراجع الرسمية، منها دائرة الأمن أو مخفر الشرطة أو العدلية.. وفي الوقت نفسه نراه يقدم عرائض إلى الجهات المسؤولة لبيان الظلم الواقع عليه كالمذكورة أعلاه، وعريضة مقدمة إلى وزير الداخلية والى مدير الأمن العام، والى مدير أمن أفيون، وإلى رئيس مجلس الأمة والمسؤولين في أنقرة والى رئيس الجمهورية والى المدعي العام والى حاكم التحقيق لأميرداغ.. كل ذلك دليل على مدى الظلم المجحف الذي كان يرزح تحته. (ب2/1206).

الفصل السابع في سجن دنيزلي

الفصل السابع في سجن دنيزلي

(المدرسة اليوسفية الثانية)

20/9/1943-15/6/1944

التُهم كسابقتها

«بدأ أعداؤنا المتسترون يحرّضون علينا بعضاً من المسؤولين وبعضاً ممن يعتدّون بأنفسهم والمغرورين من العلماء والمشايخ الصوفية، فأصبحوا الوسيلة في جمعنا في تلك المدرسة اليوسفية سجن دنيزلي مع طلاب النور القادمين من عدة ولايات.

أما التهمة الموجهة، فهي كسابقاتها: «تأليف جمعية سرية، وتحريض الشعب على الحكومة العلمانية، ومحاولة قلب نظام الحكم، ثم تسمية مصطفى كمال ب»الدجال» و«السفياني»».

وهكذا ساقونا إلى سجن دنيزلي وزجّوني في ردهة كبيرة ذات عفونة ورطوبة شديدتين فوق ما فيها من برودة شديدة، فاعتراني حزن وألم شديدان من جراء ابتلاء أصدقائي الأبرياء بسبـبي فضلاً عن الحزن النابع مما أصاب انتشار «النور» من عطل ومصادرة مع ما كنت أعانيه من الشيب والمرض.. كل ذلك جعلني أتقلب مضطرباً في ضجر وسأم.. حتى أغاثتني العناية الربانية فحوّلت ذلك السجن الرهيب إلى مدرسة نورية. فحقاً إن السجن مدرسة يوسفية، وبدأت رسائل النور بالانتشار والتوسع حيث بدأ أبطال «مدرسة الزهراء» بكتابة تلـك الرسائـل بأقلامهم الألماسية. حتى إن بطل النور قد استنسخ أكثر من عشرين نسخة من رسالتَي «الثمرة» و«الدفاع» خـلال مدة لم تتجاوز أربعة أشهر، مع ضراوة تلك الظروف المحيطة، فكانت تلك النسخ سبباً للفتوحات في السجن وفي خارجه، فحوّل ضررنا في تلك المصيبة إلى منافع وبدّل ضجـرنا وحزنـنا إلى أفراح، مبـدياً مرة أخرى سراً من أسرار الآية الكريمة: ﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (البقرة:216).

ثم وُزّع ضدنا بيان شديد اللهجة بناء على التقرير السطحي الخاطئ المقدَّم من قبل «الخبراء الأوليين». وشَنّ وزير التربية هجوماً عنيفاً علينا، مما حدا بالبعض أن يطالب بإعدامنا بل قد سعوا في الأمر.

وفي هذا الوقت العصيب بالذات جاءتنا العناية الربانية فأسعفتنا أيضاً، إذ بينا ننتظر انتقادات لاذعة عنيفة من «خبراء أنقرة» إذا بتقاريرهم المتضمنة للإعجاب والتقدير برسائل النور، وإذا بهم لم يجدوا من مجموع خمسة صناديق من رسائل النور إلّا بضعة أخطاء لا تتجاوز العشرة. وقد وضّحنا أمام المحكمة وأثبتنا كذلك أن هذه الأخطاء التي أوردوها ليست أخطاءً، بل هي الحقيقة بعينها، وأن الخبراء هم أنفسهم على خطأ فيما يدّعون، وبيّنا أن في تقريرهم المتكون من خمس أوراق حوالي عشرة أخطاء.

ولقد قلت لهم: إن هؤلاء الخبراء -الذين لا خبرة لهم على الإطلاق- غير مؤهلين لتدقيق رسائل النور، لذا فإنني أطالب بتأليف لجنة عليا في أنقرة تتألف من أهل العلم. وإذا لزم الأمر فليُستقدم متخصصون، وعلماء من أوروبا لتدقيق هذه الرسائل، فإذا وجدوا فيها أي عنصر يستوجب العقاب، فإنني أرضى بذلك العقاب.

وفعلاً ألفت الحكومة لجنة أخرى من علماء وخبراء قاموا بدراسة وتدقيق جميع رسائل النور، وكانت النتيجة انهم لم يعثروا فيها على أي شيء يكون موجباً للتُهمة».

وبينما كنا ننتظر التهديد والأوامر المشددّة من الدوائر الرسمية السبع التي أرسلت إليها رسائل «الثمرة» و«الدفاع» كما أُرسلت إلى دائرة العدل جميع الرسائل، ولاسيما تلك الرسائل الخاصة المتضمنة للصفعات الشديدة والتعرض لأهل الضلالة.. أجل، بينما كنا ننتظر التهديد العنيف منهم، إذا بتقاريرهم المسلّية وهي في منتهى اللين والرقة -الشبيهة بتلك الرسالة التي بعثها رئيس الوزراء إلينا- وكأنهم يبدون رغبتهم في المصالحة معنا. فأثبت -كل هذا- إثباتاً قاطعاً أن حقائق رسائل النور بفضل العناية الإلهية وكرامتها قد غلبتهم وانتصرت عليهم حتى جعلتهم يقرؤونها ويسترشدون بها، وحولت تلك الدوائر الرسمية الواسعة إلى ما يشبه المدارس النورية، وأنقذت كثيراً من الحيارى والمترددين وشدّت من إيمانهم، مما ملأنا بهجة وسروراً هو أضعاف أضعاف ما كنا نعانيه من ضيق وضجر».

تأليف رسالة الثمرة

«إننا قمنا في ظرف أسبوعين بتأليف رسالة «الثمرة» للمسجونين، وهي رسالة تلخص أهداف رسائل النور وتبين أسسها وغاياتها. فهي بمثابة رسالة دفاع عن رسائل النور.

وعندما كنت أصحح الثمار الفردوسية واليوسفية للأبطال الميامين، جلبت انتباهي تلك الرسالة (الثمرة) حيث بدت لي أهميتها. فصرخت: لو تضاعفت متاعب السجن كلها مائة ضعف فقد أدّت هذه الرسالة أضعافها من الوظائف، إذ تستقرئ نفسها في شتى الأوساط العامة، وتسوق إلى الإيمان حتى المتعنتين.

أيها الشقاة! يا من تضيّقون عليّ الخناق! اعملوا ما شئتم واقضوا ما أنتم قاضون، فلا أهمية لعملكم، كل المصائب التي تنـزل بنا هينة تافهة، بل إنها عناية إلهية محضة ورحمة بعينها… قلت هذا ووجدت السلوان الكامل.

إنني أخال أن الرسالة الصغيرة التي أثمرها سجن «دنيزلي» ستكون دفاعنا الحقيقي والأخير، لأن الخطط المنصوبة للقضاء علينا سابقاً والناشئة من أوهامٍ وشكوك أثيرت ضدنا منذ سنة، قد صممت على نطاق واسع، وهي: العمل لطريقة صوفية.. إنهم منظمة سرية.. وأداة لتيارات خارجية.. إثارة المشاعر الدينية واستغلالها في سبيل السياسة، والسعي لهدم الجمهورية والتعرض للدولة والإخلال بأمن البلاد.. وأشباهها من الحجج التي لا أساس لها من الصحة. لذا شنوا هجومهم علينا.

فلله الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر، أصبحت خططهم بائرة وباءت بالإخفاق، إذ لم يجدوا في هذا الميدان الواسع وبين مئات من الطلاب ومئات من الرسائل والكتب طوال ثماني عشرة سنة سوى أبحاث في حقيقة الإيمان والقرآن وتحقق الآخرة والسعي للسعادة الأبدية، لذا بدءوا يتحرون عن حجج تافهة جداً ليستروا بها خططهم.

ولكن إزاء احتمال الهجوم علينا باستغفال بعض أركان الحكومة والتغرير بهم وإثارتهم علينا من قبل منظمة ملحدة رهيبة متسترة تعمل حالياً عملاً مباشراً في سبيل الكفر المطلق، فإن رسالة «الثمرة» الواضحة كالشمس والمزيلة للشبهات والأوهام، والراسخة رسوخ الشم العوالي، تكون أقوى دفاع لنا تجاههم، وسوف تسكتهم بإذن الله. وأحسب أنها كُتّبت لنا لأجل هذا.

وما إن دخل طلاب النور ورسالة الثمرة التي كُتبت للمسجونين حتى تاب أكثرُ من مائتي سجين وتحلّوا بالطاعة والصلاح، وذلك في غضون ثلاثة أشهر أو تزيد. حتى إن قاتلاً لأكثر من ثلاثة أشخاص كان يتحاشى أن يقتل «بقة الفراش». فلم يعد عضواً لا يضر فحسب، بل أصبح نافعاً رحيماً بالبلاد والعباد.

فكان الموظفون المسؤولون ينظرون إلى هذا الوضع بحَيرة وإعجاب، حتى صرّح بعض الشباب قبل أن يستلموا قرار المحكمة: «إذا لبث طلاب النور في السجن فسنحكُم على أنفسنا وندينُها لنظلّ معهم ونتتلمذ عليهم ونصلح أنفسنا بإرشاداتهم لنكون أمثالهم». فالذين يتهمون طلاب النور الذين لهم هذه الخصائص والخصال بإخلال الأمن لا محالة قد انخدعوا بشكل مفجع، أو خُدعوا، أو أنهم يستغفلون أركان الحكومة في سبيل الفوضى والإرهاب -من حيث يعلمون أو لا يعلمون- لذا يسعَون لإبادتنا وإقحامنا في العذاب.

فنحن نقول لهؤلاء: «مادام الموتُ لا يُقتَل والقبرُ لا يُغلق بابه، وقوافل البشرية في دار ضيافة الدنيا تغيب وتتوارى تحت التراب بسرعة مذهلة.. فلا مناص أننا سنفترق في أقرب وقت، وسترَون جزاء ظلمكم جزاءً رهيباً، وفي الأقل ستذوقون الموتَ الذي هو رخصة من الحياة عند أهل الإيمان المظلومين، ستذوقونه إعداماً أبدياً لكم، فالأذواق الفانية التي تكسبونها بتوهمكم الخلود في الدنيا ستنقلب إلى آلام باقية مؤلمة دائمة..

إنَّ حقيقة الإسلام التي ظفرتْ بها هذه الأمة المتدينة وحافظت عليها بدماء مئات الملايين من شهدائها الذين هم بمرتبة الأولياء وسيوف أبطالها المجاهدين يُطلِق عليها اليوم -مع الأسف- أعداؤنا المنافقون المتسترون اسم «الطريقة الصوفية» أحياناً، ويظهرون الطريقة الصوفية التي هي شعاع واحد من أشعة تلك الشمس المنيرة كأنها الشمسُ نفسها ليموّهوا على بعض الموظفين السطحيين، مطلِقين على طلاب النور الذين يسعون بجد ونشاط لإبراز حقيقة القرآن وحقائق الإيمان اسم «أهل الطريقة الصوفية» أو «جمعية سياسية» ولا يبغون من ورائها إلّا التشويه والتحريض علينا. فنحن نقول لهؤلاء ولكل من يصغي إليهم قَولتَنا التي قلناها أمام محكمة دنيزلي العادلة:

«إن الحقيقةَ المقدسة التي افتدتها ملايينُ الرؤوس فداءٌ لها رؤوسنا أيضاً، فلو أشعلتم الدنيا على رؤوسنا ناراً فلن ترضخ تلك الرؤوس التي افتدت الحقيقةَ القرآنية ولن تُسلم القيادة للزندقة ولن تتخلّى عن مهمتها المقدسة بإذن الله».

وهكذا فلا أستبدل بسنةٍ واحدة من شيخوختي التي أنشأت حوادثُها اليأسَ والأعباءَ الثقيلة والتي أسعفها السلوانُ النـزيه النابع من الإيمان والقرآن، مع ما فيها من معاناة وضيق، عشرَ سنوات بهيجة سارة من حياة شبابي. وبالأخص إذا كان كل ساعة من ساعات التائب المقيم لفرائضه في السجن بحكم عشر ساعات له من العبادة، وإن كُل يوم يمرّ بالمريض وهو مظلوم يجعل صاحبَه يفوز بثواب عشرة أيام خالدة، فكم يكون مثل هذه الحياة مبعث شكر وامتنان لله لمثلي الذي يترقب دورَه وهو على شفير القبر.

نعم، فهذا هو الذي فهمتُه من ذلك التنبيه المعنوي، فقلت: شكراً لله بلا نهاية.. وفرحت بشيخوختي ورضيت بالسجن. حيث إن العمر لا يتوقف بل يمضي مسرعاً، فإن مضى باللذة والفرح فإنه يورث الحزن والأسى؛ لأنَّ زوالَ اللذة يورث الألم، وإن مضى مشبعاً بالغفلة خاوياً من الشكر فإنه يترك بعض آثار الآثام ويفنى هو ويمضي. ولكن إذا مضى بالعناء والسجن، فلِما أن زوال الألم يورث لذةً معنوية، وأن مثل هذا العمر يعدّ نوعاً من العبادة، يظل باقياً من جهة، فيجعل صاحبَه يفوز بعمر خالد بثمرات خالدة خيّرة، ومن جهة أخرى يكون كفّارة للذنوب السابقة وتزكية للأخطاء التي سببت السجن. فمن زاوية النظر هذه، على المسجونين الذين يؤدون الفرائض أن يشكروا الله تعالى ضمن الصبر».

إلى أخي العزيز الحافظ علي!

«لا تهتم لمرضك، نسأله تعالى أن يرزقك الشفاء. آمين. فإنك رابح غانم كثيراً، لأن كل ساعة من العبادة في السجن بمثابة اثنتي عشرة ساعة. فإن كنت محتاجاً إلى الدواء فلديّ بعضه لأرسله إليك. علماً أن وباءً خفيفاً منتشر في الأوساط. ففي اليوم الذي أذهب فيه إلى المحكمة أمْرَضُ بلا شك.. ولعلك أصبحت معيناً لي في ذلك فأخذت شيئاً من مرضي، كما كانت تحدث بطولات خارقة سابقاً، فيتمرض أحدهم بدلاً من أخيه أو يموت بدلاً منه».

استشهاد الحافظ علي

«ثم دسّ الأعداء المتسترون السُّم في طعامي ونُقل بطل النور الشهيد الحافظ علي على إثرها إلى المستشفى بدلاً عنى، ومن ثم ارتحل إلى عالم البرزخ أيضاً عوضاً عني، مما جعلنا نحزن كثيراً ونبكى بكاءً حاراً عليه.

لقد قلت يوماً -قبل نزول هذه المصيبة بنا- وأنا على جبل قسطموني، بل صرخت مراراً: يا إخواني «لا تلقوا اللحم أمام الحصان ولا العشب أمام الأسد» بمعنى: لا تعطوا كل رسالة أياً كان، حذراً من أن يتعرضوا لنا بسوء. وكأن الأخ الحافظ علي قد سمع بهاتفه المعنوي كلامي هذا «وهو على بُعد مسيرة سبعة أيام». فكتب إليّ -في الوقت نفسه- يقول: «نعم، يا أستاذي.. إنها من إحدى كرامات رسائل النور وخصائصها أنها لا تعطي الحصان اللحم ولا الأسد العشب، بل تعطى الحصان العشب والأسد اللحم» حتى أعطى ذلك العالِم رسالة الإخلاص، وبعد سبعة أيام تسلمنا رسالته هذه، وبدأنا بالعدّ والحساب فعلمنا أنه قد كتب تلك العبارة الغريبة نفسها في الوقت الذي كنت أرددها من فوق جبل قسطموني.

فوفاة بطل معنوي مثل هذا البطل من أبطال النور، والمنافقون يسعون لإدانتنا وإنزال العقوبة بنا، علاوة على قلقي المستمرّ من أخذهم إياي بأمر رسمي إلى المستشفى لمرضي الناشئ من التسمم.. في هذا الوقت وجميع هذه المضايقات تحيط بنا، إذا بالعناية الإلهية تأتي لإمدادنا؛ فلقد أزال الدعاءُ الخالص المرفوع من قبل إخواني الطيبين خطر التسمم. وهناك أمارات قوية جداً تدل على أن ذلك البطل الشهيد منهمك في قبره برسائل النور، وأنه يجيب بها عن أسئلة الملائكة. وإن بطل دنيزلي «حسن فيضي» تغمده الله برحمته وأصدقاءه الأوفياء سيحلون محله فيقومون بمهمته في خدمة النور سراً.. وإن أعداءنا قد انضموا إلى الرأي القائل بضرورة إخراجنا من السجن خوفاً من سعة انتشار الرسائل بين المساجين وسرعة استجابتهم لها ليحُولوا بيننا وبين السجناء، وقد حوّل تلاميذ النور تلك الخلوة المزعجة إلى ما يشبه كهف أصحاب الكهف، أولئك الذين آمنوا بربهم فزادهم هدى، أو ما يشبه مغارات المنـزوين من الزهاد، وسعوا بكل اطمئنان وسكينة في كتابة الرسائل ونشرها.. كل ذلك أثبت أن العناية الإلهية كانت تمدّنا وتغيثنا.

ولقد خطر للقلب أنّ الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان وأمثاله من الأئمة المجتهدين قد أوذوا بالسجن وتحملوا عذابه، وأن الإمام أحمد بن حنبل وأمثاله من المجاهدين العظام قد عذّبوا كثيراً لأجل مسألة واحدة من مسائل القرآن الكريم، وقد ثبت الجميع أمام تلك المحن القاسية وكانوا في قمة الصبر والجلد، فلم يُبد أحدهم الضجر والشكوى، ولم يتراجع عن مسألته التي قالها، وكذا علماء عظام كثيرون وأئمة عديدون لم يتزلزلوا قط أمام الآلام والأذى الذي نزل بهم، بل صبروا شاكرين لله تعالى، مع أن البلاء الذي نزل بهم كان أشدّ مما هو نازل بكم، فلا بد أن في أعناقكم دَين الشكر لله تبارك وتعالى شكراً جزيلاً على ما تتحملونه من العذاب القليل والمشقة اليسيرة النازلة بكم في سبيل حقائق عديدة للقرآن الكريم مع الثواب الجزيل والأجر العميم».

عزاء جميل وفي أنسب وقت

«إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لكل مصيبة نقول: ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156).

أُعزّي نفسي وأعزّيكم وأعزّي رسائل النور. ولكني أهنئ المرحوم «الحافظ علي» وأهنئ مقبرة «دنيزلي» لأن أخانا الرائد الذي أدرك حقيقة «رسالة الثمرة» علم اليقين، قد ترك جسده في القبر، صاعداً كالملائكة إلى النجوم وعالم الأرواح، لأجل الارتقاء إلى مقام عين اليقين وحق اليقين، وخلد إلى الراحة والسكون متسرحاً عن وظيفته التي أدّاها حق الأداء.

نسأل الله الرحمن الرحيم أن يكتب في سجل أعماله حسنات بعدد جميع حروف رسائل النور المكتوبة والمقروءة. آمين. وينـزلَ شآبيب رحمته بعددها على روحه… آمين. ويجعلَ القرآن الكريم ورسائل النور مؤنسين لطيفين له في القبر.. آمين. ويحسنَ إلى «مصنع النور» بعشرة عاملين بدلاً منه.. آمين.. آمين.. آمين.

أما أنتم فيا إخوتي، اذكروه في أدعيتكم، كما أذكره أنا، مستعملين ألف لسان عوضاً عن لسانه، راجين من رحمته تعالى أن يكسبه ألف حياة وألف لسان بدلاً عما فقده من حياة واحدة ولسانٍ واحد.

ويا إخوتي الأعزاء الأوفياء!

نحمد الله سبحانه وتعالى بما لا يتناهى من الحمد والشكر، على ما يسّر لنا من نيل شرف المقام الرفيع لطلبة العلوم وأعمالهم الجليلة بوساطتكم في هذا الزمان العجيب والمكان الغريب.

ولقد ثبت بوقائع عديدة بمشاهدة أهل كشف القبور، أن طالب علم جاد تواق للعلوم عندما يتوفى أثناء تحصيله لها، يرى نفسه -كالشهداء- حياً يُرزق ويزاول الدرس. حتى إن أحد أهل كشف القبور المشهورين قد راقب كيفية إجابة طالب علم متوفىً في أثناء دراسته لعلم الصرف والنحو، لأسئلة المنكر والنكير في القبر، فشاهد أنه عندما سأله الملك: من ربك؟ أجاب: مَن: مبتدأ، ربك: خبره، وذلك على وفق علم النحو، يحسب نفسه أنه مازال في المدرسة يتلقى العلم.

فبناء على هذه الحادثة فإني أعتقد أن المرحوم الحافظ علي منهمك برسائل النور كما كان دأبه في الحياة، وهو على هيئة طالب علم يتلقى أرفع علم وأسماه، وقد تسنّم مرتبة الشهداء حقاً ويزاول نمط حياتهم.

وبناء على هذه القاعدة أدعو له في أدعيتي، وأدعو لمثيله «محمد زهدي» و«الحافظ محمد» قائلاً: يا رب سخر هؤلاء إلى يوم القيامة لينشغلوا بحقائق الإيمان وأسرار القرآن ضمن رسائل النور بكمال الفرح والسرور… آمين. إن شاء الله».

مقتطفات من دفاع الأستاذ النُّورْسِيّ

في محكمة دنيزلي

«السيد الرئيس!

لقد تم اتخاذ ثلاثة أسس في قرار المحكمة:

المادة الأولى: الجمعية.

إنني أُشهد جميع طلاب النور الموجودين هنا وجميع من قابلوني وتحدثوا إليّ وجميع من قرءوا أو استنسخوا رسائل النور، وتستطيعون أن تسألوهم إن قلت لأيّ منهم: إننا سنشكل جمعية سياسية أو طريقة نقشبندية، بل كنت أقول دائماً: إننا نحاول إنقاذ إيماننا، ولم يجر بيننا حديث خارج عموم أهل الإيمان وخارج الجماعة الإسلامية المقدسة التي يربو عدد أفرادها على ثلاثمائة مليون مسلم، ولم نجد لأنفسنا مكاناً خارج ما أطلق القرآن الكريم عليه اسم «حزب الله» الذي يجمع تحت ظل أخوّة الإيمان جميع أهل الإيمان. ولأننا حصرنا جهدنا في خدمة القرآن فلا شك أننا من «حزب القرآن» ومن «حزب الله» فإن كان قرار الاتهام يشير إلى هذا فإننا نقر بذلك بكل خلجة من خلجات أرواحنا وبكل فخر واعتزاز. أما إن كان يشير إلى معانٍ أخرى فإننا لا نعلم عنها شيئاً.

المادة الثانية: إن قرار الاتهام يعترف -استناداً إلى تقرير وشهادة شرطة «قسطموني»- بأن «رسالة الحجاب» و«رسالة الهجمات الست وذيلها» وجدت داخل صناديق مغلقة ومسمّرة وتحت أكوام الحطب والفحم. أي لم تكن معدة للنشر أبداً. وقد مرت من تدقيق ونقد محكمة «أسكي شهر» وأدّت إلى إصدار عقوبة خفيفة لي. ولكن الادعاء العام الذي أخذ بعض الجمل من هذه الرسائل وأعطى لها مفهوماً ومعاني غير صحيحة، يريد أن يرجع بنا تسع سنوات إلى الوراء وأن يحمّلنا مسؤولية جديدة حول تهمة سبق وأن عوقبنا من أجلها.

المادة الثالثة: ورد في قرار الاتهام وفي مواضع عدة عبارات أمثال «يمكن أن يخل بأمن الدولة». أي تم وضع الاحتمالات والإمكانات محل الوقائع الثابتة. وأنا أقول: إن من الممكن ومن المحتمل أن يقوم كل شخص باقتراف جريمة القتل، فهل يمكن إدانة كل شخص وتجريمه على أساس الاحتمال؟.

أيها السادة! إنني أؤكد لكم أن الذوات الموجودين هنا إما لا تربطهم رابطة مع رسائل النور أو هناك مجرد رابطة بسيطة معها، مع أن لي العديد من الإخوة الحقيقيين بكل معاني الأخوّة التي تستطيعون تصورها. ولي على درب الحقيقة العديد من الأصدقاء الواصلين للحقيقة.

إننا أيها السادة على يقين تام لا يتزعزع بأن الموت بالنسبة لنا -بسر القرآن الكريم- ليس إعداماً أبدياً بل مذكرة تسريح.. بينما يعد هذا الموت بالنسبة لمعارضينا وبالنسبة للسائرين في درب الضلالة موتاً أكيداً وإعداماً أبدياً «إن لم يكن يؤمن بالآخرة إيماناً لا شبهة فيه».. أو أن هذا الموت يعد بالنسبة إليه سجناً انفرادياً أبدياً ومظلماً «إن كان يؤمن بالآخرة ولكنه منغمس في حياة السفاهة والضلالة».

إنني أسألكم: أتوجد في هذه الدنيا مسألة أكبر من مسألة الموت؟.. أهناك مسألة إنسانية أهم وأكبر من هذه المسألة؟ فكيف إذن يمكن أن تستغل هذه المسألة من أجل شيء آخر؟.. ومادام من المستحيل أن يكون هناك شيء آخر أهم من هذه المسألة، إذن فلِمَ أنتم منشغلون بنا هكذا؟

إننا لا ننظر إلى أشد عقوبتكم وأقصاها إلا أنها تسريح وتذكرة سفر إلى عالم النور، لذا فإننا ننتظرها بثبات كامل.. ولكننا نعلم علم اليقين أن الذين وقفوا ضدنا وأصدروا الأحكام ضدنا سيلقون عن قريب عقابهم بالإعدام الأبدي وبالسجن الانفرادي، ذلك العقاب المرعب.. إننا نوقن ذلك وكأننا نشاهدهم في عذابهم هذا كما نشاهدكم أنتم في هذا المجلس.. إننا نشاهدهم هكذا ونتألم كثيراً من الناحية الإنسانية من أجلهم. وأنا على أتم استعداد لإثبات هذه الحقيقة المهمة والبرهنة عليها وإفحام أكبر المنكرين لها وإلزام أشد المتمردين عليها.. وأنا على أتم استعداد لقبول أي عقاب كان إن لم أقم بهذا الإثبات أوضح من الشمس في رابعة النهار وأمام أكبر علمائكم وفلاسفتكم وليس فقط أمام المختصين من هذه اللجنة الذين لا يملكون أي نصيب من العلم ومن الاختصاص، إنهم مشبعون بالحقد ولا علم لهم بالمعنويات ولا يهتمون بها…

والخلاصة: إن أمامكم طريقين: إما أن تطلقوا الحرية الكاملة لرسائل النور أو تحاولوا -إن استطعتم- أن تغلبوا الحقائق الواردة فيها وتقضوا عليها.

إنني لم أكن حتى الآن أفكر فيكم ولا في دنياكم، وما كان في نيتي أن أتفكر فيهما في المستقبل، ولكنكم اضطررتموني إلى هذا، وربما كان هذا ضرورياً لتنبيهكم وإيقاظكم، ولعل القدر الإلهي هو الذي ساقنا إلى هذا. أما نحن فإن مرشدنا هو الدستور القائل «مَن آمن بالقدر أمِن من الكدر» لذا فقد عقدنا العزم على تحمل جميع صنوف مضايقاتكم بكل صبر.

أجل، نحن جمعية، تلك الجمعية التي لها ثلاثمائة وخمسون مليوناً من الأعضاء في كل عصر. وهم يؤكدون كمال احترامهم وصادق ارتباطهم وتعلقهم بمبادئ تلك الجمعية المقدسة -بإقامة الصلاة- خمس مرات يومياً، ويتسابقون في مدّ يد العون والمساعدة بعضهم إلى بعض، سواء بدعواتهم الشخصية عن ظهر الغيب، أو بمكاسبهم المعنوية الوفيرة وفق الدستور الإلهي: ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ﴾ (الحجرات:10).

وهكذا فنحن أعضاء في تلك الجمعية المقدسة العظمى إذن، أما وظيفتنا ضمن نطاق هذه الجمعية فهي: تبليغ الحقائق الإيمانية التي يتضمنها القرآن الكريم إلى طلاب الحق والإيمان على أصح وجه وأنزهه، إنقاذاً لأنفسنا وإياهم من الإعدام الأبدي وبرزخ السجن الانفرادي السرمدي.

أما الجمعيات الدنيوية المؤسسة على الدسائس والأحابيل السياسية فلا علاقة لنا بها من قريب أو بعيد بل نترفع عنها.

لو كانت لدينا رغبة في التوجه إلى الأمور الدنيوية، لما كان الصوت الصادر منا مثل طنين الذباب، بل لكان صوتاً هادراً كدويّ المدافع.

أجل، إن رجلاً دافع بكل شدة وصلابة دفاعاً مؤثراً ودون خوف أو وجل أمام المحكمة العرفية العسكرية التي انعقدت بسبب أحداث 31 مارت، وفي مجلس المبعوثان دون أن يبالي بغضب مصطفى كمال وحدّته.. كيف يُتهم هذا الشخص بأنه يدير سراً خلال ثماني عشرة سنة ودون أن يشعر به أحد مؤامرات سياسية؟ إن من يقوم بمثل هذا الاتهام لا شك أنه شخص مغرض.

لا يجوز التهجم على رسائل النور بحجة وجود قصور في شخصي أو في بعض إخواني، ذلك لأن رسائل النور مرتبطة بالقرآن مباشرة، والقران مرتبط بالعرش الأعظم. إذن فمن ذا يجرُؤ أن يمد يده إلى هناك، وأن يحل تلك الحبال القوية؟ ثم إن رسائل النور لا يمكن أن تكون مسؤولة عن عيوبنا وعن قصورنا الشخصي، لا يمكن هذا ولا يجوز أن يكون أبداً، حيث إن بركتها المادية والمعنوية وخدماتها الجليلة لهذه البلاد قد تحققت بإشارات ثلاث وثلاثين آية قرآنية وبثلاث كرامات غيبية للإمام علي رضى الله عنه وبالإخبار الغيبي للشيخ الكيلاني قدس سره. وإلا فإن هذا البلد سيواجه خسائر وأضراراً مادية ومعنوية لا يمكن تلافيها.

وسيرتد كيد الأعداء الخفيين لرسائل النور من الملاحدة إلى نحورهم وستفشل بإذن الله الخططُ الشيطانية التي يحوكونها والحملات التي يشنونها عليها. ذلك لأن طلبة النور ليسوا مثل الآخرين، فبعون الله تعالى وعنايته لا يمكن تشتيتهم ولا حملهم على ترك دعوتهم ولا التغلب عليهم. ولو لم يكن القرآن مانعاً عن الدفاع المادي فإن طلبة النور -الذين كسبوا محبة جماهير هذه الأمة وتقديرها، وهم في حكم شريان حياة هذه الأمة- والذين هم موجودون في كل مكان، لن يشتركوا في حادثة جزئية كحادثة الشيخ سعيد أو حادثة «مَنَمَن» إذ لو وقع عليهم -لا سمح الله- ظلم شديد إلى درجة الضرورة القصوى وهوجمت رسائل النور فإن الملاحدة والمنافقين الذين خدعوا الحكومة سيندمون لا محالة ندماً شديداً..

والخلاصة أنه مادمنا لا نتعرض لدنيا أهل الدنيا، فيجب عليهم ألّا يتعرضوا لآخرتنا ولا لخدماتنا الإيمانية.

ثم إني رغم مقاساتي سنة واحدة من العقاب النازل بي حول «رسالة الحجاب» التي عثروا عليها تحت أكوام الحطب والوقود، نراهم يريدون إدانتنا بها وكأنها ألفت هذه السنة ونشرت.

ثم إنني لما اعترضت بكلمات قاسية على ذلك الشخص المعروف الذي تولى رئاسة الحكومة بأنقرة، فلم يقابلني بشيء، بل آثر الصمت. إلّا أن بعد موته أظهرت حقيقةُ حديث شريف خطأه -كنت قد كتبته قبل أربعين سنة- فتلك الحقيقة والانتقادات التي كانت فطرية وضرورية واتخذناها سرية، وعامة غير خاصة على ذلك الشخص قد طبقها المدعى العام بحذلقة على ذلك الشخص، وجعلها مدار مسؤولية علينا.

فأين عدالة القوانين التي هي رمز الأمة وتذكارها وتجل من تجليات الله سبحانه، وأين خاطر شخص مات وانقطعت علاقته بالدولة؟

ثم إننا جعلنا حرية الوجدان والعقيدة التي اتخذتها حكومة الجمهورية أساساً لها، مدار استناد لنا. ودافعنا عن حقوقنا بهذه المادة، ولكن اتخذتها المحكمة مدار مسؤولية وكأننا نعارض حرية الوجدان والعقيدة.

وفى رسالة أخرى انتقدتُ سيئات المدنية الحاضرة وبينت نواقصها، فأسند إليّ في أوراق التحقيق شيء لم يخطر ببالي قط، وهو إظهاري بمظهر من يرفض استعمال الراديو([1]) وركوب القطار والطائرة. فأكون مسؤولا عن كوني معارضاً للرقي الحضاري الحاضر.!..

وأغرب من جميع ما ذكر هو أن الطائرة والقطار والراديو التي تعتبر من نعم الله العظيمة وينبغي أن تقابَل بالشكر لله، لم تقابلها البشرية بالشكر فنـزلت على رؤوسهم قنابل الطائرات.

والراديو نعمة إلهية عظيمة بحيث ينبغي أن يكون الشكر المقدم لأجله في استخدامه جهازاً حافظاً للقرآن الكريم يُسمع البشرية جمعاء. ولقد قلنا في «الكلمة العشرين»: إن القرآن الكريم يخبر عن خوارق المدنية الحاضرة، وبيّنّا فيها عند حديثنا عن إشارة من إشارات آية كريمة، بأن الكفار سيَغلبون العالم الإسلامي بوساطة القطار. ففي الوقت الذي أحثُّ المسلمين إلى مثل هذه البدائع الحضارية فقد جعلها بعض المدعين العامين لمحاكم سابقة مدار اتهام لنا وكأنني أعارض هذه الاختراعات.

ثم إن أحدهم قال: إن رسالة النور نابعة من نور القرآن الكريم، أي إلهام منه، وهى وارثة، تؤدى وظيفة الرسالة والشريعة. فأورد المدعى العام معنى خطأ فاضحاً ببيانه ما لا علاقة له أصلاً وكأن «رسالة النور رسول» وجعلوا ذلك مادة اتهام لي.

ولقد أثبتنا في عشرين موضعاً في الدفاع وبحجج قاطعة أننا لا نجعل الدين والقرآن ورسائل النور أداة ووسيلة لكسب العالم أجمع، ولا ينبغي أن تكون وسائل قطعاً. ولا نستبدل بحقيقة منها سلطنة الدنيا كلها. ونحن في الواقع هكذا. وهناك ألوف من الأمارات على هذه الدعوى… فما دام الأمر هكذا فنحن نقول بكل ما نملك: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾

أيها السادة! إنني مقتنع تماماً -نتيجة شواهد ودلائل عديدة- بأن الهجمات التي تُشن علينا ليس مبعثها الزعم القائل بأننا «نستغل الشعور الديني للإخلال بالأمن الداخلي».. كلا، ولكن ذلك الهجوم -الذي يتم تحت ذلك الغطاء الزائف- يتم في سبيل الكفر والزندقة ويستهدف إيماننا وإنهاء مساعينا وخدماتنا في سبيل هذا الإيمان ومن أجل إقرار الهدوء.. ونحن نملك أدلة وبراهين عديدة على هذا. ولنقدمْ هنا برهاناً واحداً فقط على ذلك:

لقد قرأ عشرون ألف فرد عشرين ألف نسخة من رسائل النور في غضون عشرين سنة، ورضوا بها وتقبلوها. ومع ذلك لم تقع حادثة واحدة مخلة بالأمن من قبل طلاب رسائل النور، ولم تسجل المراجع الرسمية أية حادثة من هذا القبيل، كما لم تستطع المحكمة السابقة ولا المحكمة الحالية العثور على مثل هذه الحادثة، علماً بأن نتائج مثل هذه الدعاية القوية والمنتشرة بكثرة كان لا بد لها من الظهور في ظرف عشرين يوماً بشكل حوادث ووقائع.

إذن فإن «القانون رقم 163» ليس إلّا غطاء كاذباً وزائفاً يشهر ضد حرية الضمير وحرية الوجدان والعقيدة، وقانوناً مطاطاً يراد منه أن يشمل كل المتدينين وكل الناصحين والدعاة، ولا يريد أهل الإلحاد والزندقة إلّا القيام باستغفال بعض المسؤولين الحكوميين لضربنا وتحطيمنا.

وما دامت هذه هي الحقيقة فإننا نصرخ بكل قوتنا:

أيها البائسون الذين سقطوا في درك الكفر المطلق.. يا من بعتم دينكم بدنياكم!..

اعملوا كل ما تستطيعون عمله، ولتكن دنياكم وبالاً عليكم.. وستكون.. أما نحن فقد وضعنا رؤوسنا فداءً للحقيقة القدسية التي يفتديها مئات الملايين من الأبطال برؤوسهم.. فنحن متهيئون وجاهزون لاستقبال كل أنواع عقوباتكم.. بل حتى إعدامكم.

إن وضعنا وحالنا خارج السجن -تحت هذه الظروف- أسوأ مائة مرة من حالنا داخله، ولا يبقى بعد هذا الاستبداد المطلق الموجه إلينا أيُّ نوع من أنواع الحرية.. لا الحرية العلمية ولا الحرية الوجدانية ولا الحرية الدينية.. أي لا يبقى أمام أهل الشهامة وأهل الديانة وأمام مناصري الحرية ومحبيها من سبيل إلا الموت أو الدخول إلى السجن.

أما نحن فلا يسعنا إلا أن نقول: ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ونعتصم بربنا ونلوذ به».


[1]  لأجل تقديم الشكر لله تجاه نعمة الراديو، وهى نعمة إلهية عظمى، فقد قلت: «إن ذلك يكون بتلاوة القرآن الكريم من الراديو كي يُسمع ذلك الصوت الندي إلى العالم اجمع فيكون الهواء بذلك قارئاً للقرآن الكريم» (المؤلف).

الفصل السادس في منفى قسطموني

الفصل السادس في منفى قسطموني

(المدرسة النورية الثانية)

1936-1943م

مدرسة نورية ثانية

«عندما ساقوني منفياً إلى قسطموني بعد أن أكملت سنة محكوميتي في سجن «أسكي شهر» وأنا الشيخ الهرم، مكثت موقوفاً هناك في مركز الشرطة حوالي ثلاثة أشهر. ولا يخـفى عليكم مدى الأذى الذي يلحق بمثلي في مثل هذه الأماكن، وقد انعزل عن الناس، ولا يتحمل البقاء حتى مع أصدقائه الأوفياء، ولا يطيق أن يبدل زيّه الذي اعتاد عليه.

فبينما كان اليأس يحيط بي من كل جانب، إذا بالعناية الإلهية تغيث شيخوختي، إذ أصبح أفراد الشرطة المسؤولون في ذلك المخفر بمثابة أصدقاء أوفياء، حتى كانوا يخرجونني متى شئت للاستجمام والتجوال في سياحة حول المدينة وقاموا بخدمتي كأي خادم خاص، فضلاً عن أنهم لم يصروا عليّ بلبس القبعة مطلقاً.

ثم دخلتُ المدرسة النورية التي كانت مقابل ذلك المخفر في قسطموني وبدأت بتأليف الرسائل، وبَدأ كلٌ مِن «فيضي وأمين وحلمي وصادق ونظيف وصلاح الدين» وأمثالهم من أبطال النور يداومون في تلك المدرسة لأجل نشر الرسائل وتكثيرها، وأبدوا في مذاكراتهم العلمية القيّمة التي أمضوها هناك جدارة تفوق ما كنت قضيتها أيام شبابي مع طلابي السابقين».

العلوم تعرّف بالخالق

«جاءني فريق من طلاب الثانوية في «قسطموني» قائلين:

عرّفنا بخالقنا، فإن مدرسينا لا يذكرون الله لنا!.

فقلت لهم: إن كل علم من العلوم التي تقرؤونها يبحث عن الله دوما، ويعرّف بالخالق الكريم بلغته الخاصة. فأصغوا إلى تلك العلوم دون المدرسين..

فمثلا: لو كانت هناك صيدلية ضخمة، في كل قنينة من قنانيها أدوية ومستحضرات حيوية، وضِعت فيها بموازين حساسة، وبمقادير دقيقة؛ فكما أنها ترينا أن وراءها صيدلياً حكيماً وكيميائياً ماهراً، كذلك صيدلية الكرة الأرضية التي تضم أكثر من أربعمائة ألف نوع من الأحياء -نباتا وحيوانا- وكل واحد منها في الحقيقة بمثابة زجاجةِ مستحضرات كيماوية دقيقة، وقنينة مخاليط حيوية عجيبة، فهذه الصيدلية الكبرى تُرِي حتى للعميان صيدليّها الحكيم ذا الجلال، وتعرّف خالقها الكريم سبحانه بدرجة كمالها، وانتظامها، وعظمتها، قياسا على تلك الصيدلية التي في السوق، على وفق مقاييس علم الطب الذي تقرؤونه..

[ثم يستطرد في ذكر الأمثلة إلى أن يقول:]

ومثلاً: لو كان هناك كتاب، كُتِبَ في كل سطر منه كتابٌ بخط دقيق وكُتِبَ في كل كلمة من كلماته سورةٌ قرآنية، وكانت جميعُ مسائله ذات مغزى ومعنى عميق، وكلُّها يؤيد بعضُها البعض، فهـذا الكتاب العجيب يُبِّينُ بلا شك مهارةَ كاتبه الفائقة، وقدرة مؤلّفه الكاملة. أي إن مثل هذا الكتاب يُعرّف كاتبَه ومصنّفه تعريفاً يضاهي وضوح النهار، ويبين كمـالَه وقـدرتَه، ويثير من الإعجاب والتقدير لدى الناظرين إليه ما لا يملكون معه إلّا ترديد: «تبارك الله، سبحان الله، ما شاء الله!» من كلمات الاستحسان والإعجاب؛ كذلك هذا الكتاب الكبير للكون الذي يُكتَب في صحيفة واحدة منه، وهي سطح الأرض، ويُكتبُ في ملزمة واحدة منه، وهي الربيع، ثلثمائة ألف نوع من الكتب المختلفة، وهي طوائف الحيوانات وأجناس النباتات، كل منها بمثابة كتاب.. يُكتب كل ذلك معاً ومتداخلاً بعضها ببعض بلا اختلاط ولا خطأ ولا نسيان، وفي منتهى الانتظام والكمال، بل يُكتب في كل كلمة منه كالشجرة قصيدة كاملة رائعة، وفي كل نقطة منه كالبذرة فهرسُ كتابٍ كامل. فكما أنّ هذا مشاهَد وماثل أمامنا، ويُرينا بالتأكيد أن وراءه قلماً سيالاً يسطر، فلكم إذن أن تقدروا مدى دلالة كتاب الكون الكبير العظيم الذي في كل كلمة منه معان جمّة وحِكَمٌ شتى، ومدى دلالة هذا القرآن الأكبر المجسم وهو العالم، على بارئه سبحانه وعلى كاتبه جل وعلا، قياساً إلى ذلك الكتاب المذكور في المثال. وذلك بمقتضى ما تقرؤونه من «علم حكمة الأشياء» أو «فن القراءة والكتابة»، وتناوله بمقياس أكبر، وبالنظرة الواسعة إلى هذا الكون الكبير. بل تفهمون كيف يُعرّف الخالقَ العظيم بـ«الله أكبر» وكيف يعلّم التقديس بـ«سبحان الله» وكيف يحبّب الله سبحانه إلينا بثناء «الحمد لله».

وهكذا، فإن كل علم من العلوم العديدة جداً، يدل على خالق الكون ذي الجلال -قياساً على ما سبق- ويعرّفه لنا سبحانه بأسمائه الحسنى، ويعلّمه إيانا بصفاته الجليلة وكمالاته. وذلك بما يملك من مقاييس واسعة، ومرايا خاصة، وعيون حادة باصرة، ونظرات ذات عبرة.

فقلت لأولئك الطلبة الشباب: إنَّ حكمة تكرار القرآن الكريم من: ﴿خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ﴾ و﴿رَبُّ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ إنما هي لأجل الإرشاد إلى هذه الحقيقة المذكورة، وتلقين هذا البرهان الباهر للتوحيد، ولأجل تعريفنا بخالقنا العظيم سبحانه.

فقالوا: شكراً لربنا الخالق بغير حدّ، على هذا الدرس الذي هو الحقيقة السامية عيُنها، فجزاك الله عنا خير الجزاء ورضي عنك..»

سعاة بريد النور

بقي بديع الزمان في «قسطموني» ثماني سنوات استمر خلالها في مراسلة طلابه بشتى الوسائل متخطّياً العيون المترصدة لحركاته، إذ كانت رسائله تنقل سراً، ثم تستنسخ باليد ثم توزع على القرى والنواحي والمدن القريبة، فتشكلت بهذا «سعاة بريد النور» الذين كان واجبهم ينحصر في نقل الرسائل من قرية إلى قرية، ومن مدينة إلى مدينة، كما انتظمت وقويت مسألة استنساخ الرسائل، فهناك بعض الطَلبة الذين استنسخوا وحدهم أكثر من ألف رسالة، وبهذه الطريقة استُنسخت رسائل النور كتابة باليد ستمائة ألف نسخة، وانتشرت في أرجاء تركيا تدريجياً منتصرة على جيوش الظلام، ومعلنةً بأنه لا يمكن إطفاء نور الإسلام أبداً.

جمعت الرسائل التوجيهية التي تشمل نواحي دقيقة في فقه الدعوة إلى الله، ومسائل إيمانية دقيقة، تحت عنوان «ملحق قسطموني».

نماذج من الرسائل التوجيهية

نتائج دنيوية في العمل للنور

«إخوتي الأعزاء الصادقين!

أهنئكم بالعيد السعيد، وأثمن خدماتكم الجليلة، وأدعوه تعالى أن يوفقكم فيها، وأشكر خالقي الرحيم شكراً لا يتناهي إذ جعل من إخوة ثابتين مضحين من أمثالكم مالكين لرسائل النور وناشرين لها. فكلما تذكرتكم امتلأت روحي انشراحاً وقلبي فرحاً، فلا تكون مغادرتي الدنيا موضع أسف، بل أنظر إلى الموت كصديق، لدوام حياتي ببقائكم أنتم، فأنتظر أجلي دون قلق واضطراب.

ليرضَ الله عنكم أبداً… آمين. آمين.

مثلما يشعر أغلب العاملين من طلاب رسائل النور نوعاً من الكرامة والإكرام الإلهيين، يشعر أخوكم هذا العاجز بأغلب أنواعها وأنماطها، وذلك لشدة حاجته إليها.

وطلاب النور الموجودون في هذه المناطق يعترفون مقسمين بالله: أننا كلما انشغلنا في خدمة النور وجدنا السعة في المعيشة والانشراح في القلب، وفرحاً غامراً يملأ كياننا. إنني كذلك أشعر بهذا في كياني كله شعوراً تاماً بحيث تسكت نفسي الأمارة وشيطاني أيضاً محتارَين أمام تلك البداهة».

وظيفة المنتسب إلى رسائل النور

«إن أهم وظيفة للمنتسب إلى رسائل النور، كتابتها، ودعوة الآخرين إلى كتابتها، وتعزيز انتشارها؛ فالذي يكتبها أو يستكتبها، يكسب عنوان طالب رسائل النور، فيغنم بهذا العنوان حظًا من مكتسباتي المعنوية، ومن دعواتي الخيرة وتضرعاتي التي أدعوها كل أربع وعشرين ساعة بمائة مرة بل تزيد أحياناً. فضلاً عن ذلك يكسب حظاً من مكتسبات معنوية لألوف من إخواني البررة ومن دعواتهم الطيبة التي يدعون الله بها.

وعلاوة على ذلك فإنه بكتابته الرسائل التي هي بمثابة أربعة أنواع من عبادة مقبولة يكسبها بأربعة وجوه.. إذ يقوي إيمانه.. ويسعى لإنقاذ إيمان غيره من المهالك.. وينال التفكر الإيماني الذي يكون بمثابة عبادة سنة أحياناً كما ورد في الأثر ويدفع غيره إلى هذا التفكر.. ويشترك في حسنات أستاذه الذي لا يجيد الخط ويقاسي من الأوضاع الشديدة ما يقاسي بمعاونته له.. نعم، يستطيع أن يكسب أمثال هذه الفوائد الجليلة».

صداقة الأبطال

«أخي فيضي!  إن كنت ترغب أن تكون مثيل أبطال ولاية إسبارطة، فعليك أن تشبههم وتكون مثلهم تماماً. فلقد كان معنا في السجن شيخ عظيم ومرشد مرموق ذو جاذبية من أولياء الطريقة النقشبندية -رحمه الله- جالَسَ ما يقرب من ستين من طلاب النور طوال أربعة أشهر وحاورهم محاورات مغرية لجلبهم إلى الطريقة، إلّا أنه لم يتمكن إلّا من ضم واحدٍ منهم إلى صفه، وبصورة مؤقتة. أما الباقون فقد ظلوا مستغنين عنه وهو الولي الصالح، إذ كفتهم الخدمة الإيمانية الرفيعة التي تقدمها رسائل النور، واطمأنوا بها. ولقد فقه أولئك الأبطال بقلوبهم الواعية ورأوا ببصيرتهم النافذة الحقيقة الآتية:

إن خدمة رسائل النور هي إنقاذ الإيمان، أما الطريقة والمشيخة فهي تكسب المرء مراتب الولاية. وإن إنقاذ إيمان شخص من الضلال أهم بكثير وأجزل ثواباً من رفع عشرة من المؤمنين إلى مرتبة الولاية؛ حيث إن الإيمان بمنحه للإنسان السعادة الأبدية يضمن له ملكاً أوسع من الأرض كلها. أما الولاية فإنها توسّع من جنة المؤمن وتجعلها أسطع وأبهر. وكما أن رفع مرتبة إنسان اعتيادي إلى سلطان، أعظم من رفع عشرة من الجنود إلى مرتبة القائد، كذلك الثواب في إنقاذ إيمان إنسان من الضلالة أعظم وأجزل من رفع عشرة من الناس إلى مرتبة أولياء صالحين. فهذا السر الدقيق هو الذي أبصرته القلوب النفاذّة لإخوانك في إسبارطة، وإن لم تره عقول قسم منهم. ولهذا فضّلوا صداقة شخص ضعيف مذنب مثلي، على صداقة أولياء عظام بل على مجتهدين إن وجدوا.

فبناء على هذه الحقيقة لو أن قطباً من أقطاب الأولياء أو شيخاً جليلاً كالكيلاني، أتى إلى هذه المدينة وقال لك سأرفع مرتبتك إلى مرتبة الولاية في عشرة أيام، وذهبت إليه تاركاً رسائل النور، فلا تستطيع أن تصادق أبطال إسبارطة».

ورطة المتدينين

«إن هذا العصر العجيب الذي أثقل كاهل الإنسان بالحياة الدنيوية بما كثّر عليه من متطلبات الحياة وضيق عليه مواردها، وحوّل حاجاته غير الضرورية إلى ضرورية بما ابتلاه من تقليد الناس بعضهم بعضاً، ومن التمسك بعادات مستحكمة فيهم، حتى جعل الحياة والمعاش هي الغاية القصوى والمقصد الأعظم للإنسان في كل وقت.

فهذا العصر العجيب أسدل بهذه الأمور حجاباً دون الحياة الدينية والأخروية والأبدية، أو في الأقل جعلها أمراً ثانوياً أو ثالثياً بالنسبة له. لذا جوزي الإنسان على خطئه هذا بلطمة قوية شديدة حوّلت دنياه إلى جحيم لا تطاق. وهكذا يتورط المتدينون أيضاً في هذه المصيبة الرهيبة، ولا يشعر قسم منهم أنهم قد وقعوا في الورطة.

وأذكر مثالاً: رأيت عدداً من الأشخاص -من أهل التقوى- يرغبون في الدين ويحبون أن يقيموا أوامره كي يوفقوا في حياتهم الدنيوية ويفلحوا في أعمالهم. حتى إن منهم من يطلب الطريقة الصوفية لأجل ما فيها من كرامات وكشفيات. بمعنى أنه يجعل رغبته في الآخرة وثمارها تكأة ومرتبة سلم للوصول إلى أمور دنيوية، ولا يعلم هذا أن الحقائق الدينية التي هي أساس السعادة الدنيوية كما هي أساس السعادة الأخروية، لا تكون فوائدها الدنيوية إلّا مرجحة ومشوقة، فإذا ارتقت تلك الفائدة إلى مرتبة العلة لِعَمَلِ البر، فإنها تبطله، وفي الأقل يفسد إخلاصه، ويذهب ثوابه. وقد ثبت بالتجربة أن أفضل منقذ من ظلم هذا العصر المريض الغادر المشؤوم ومن ظلماته الدامسة؛ هو النور الذي تشعه رسائل النور بموازينها الدقيقة وموازناتها السديدة. يشهد على صدق هذا أربعون ألف شاهد.

بمعنى أن القريبين من دائرة رسائل النور إن لم يدخلوها، فهناك احتمال قوي لهلاكهم».

الحقائق الإيمانية أول المقاصد

«بينما ينبغي أن تكون الحقائق الإيمانية أول مقصد وأسبقه في هذا الزمان، وأنْ تبقى سائر الأمور في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، وفي الوقت الذي ينبغي أن تكون خدمة الحقائق الإيمانية برسائل النور أجلّ وظيفة وموضع اهتمام ولهفة ومقصودة بالذات، إلّا أن أحوال العالم الحاضرة ولاسيما الحياة الدنيوية ولاسيما الحياة الاجتماعية والحياة السياسية خاصة وأخبار الحرب العالمية بالأخص -التي هي تجل من تجليات غضب الله النازل عقاباً لضلالة المدنية الحاضرة وسفاهتها- والتي تستميل الناس إلى جانبها وتهيج الأعصاب والعروق حتى تدخل إلى باطن القلب، بل حتى مكّنت فيه الرغبات الفاسدة المضرة بدلاً من الحقائق الإيمانية الرفيعة النافعة. فهذا العصر المشؤوم قد غرز الناس بهذه الأمور ومازال، ولقّحهم بأفكاره ومازال، بحيث جعل العلماء الذين هم خارج دائرة رسائل النور، بل بعض الأولياء يُنـزلون حكم الحقائق الإيمانية إلى الدرجة الثانية والثالثة بسبب ارتباطهم بتلك الحياة السياسية والاجتماعية منجرفين مع تلك التيارات، فيُولُون حبهم للمنافقين الذين يبادلونهم الفكر نفسه، ويعادون من يخالفهم الرأي من أهل الحقيقة بل من أهل الولاية وينتقدونهم. حتى جعلوا المشاعر الدينية تابعة لتلك التيارات.

فتجاه هذه المهالك العجيبة التي يحملها هذا العصر، فإن خدمة رسائل النور والانشغال بها قد أسقطا من عيني التيارات السياسية الحاضرة، إلى درجة لم أهتم في غضون هذه الشهور الأربعة بأخبار هذه الحرب ولم أسأل عنها.

ثم إن طلاب رسائل النور الخواص وهم منهمكون بمهمة نشر الحقائق الإيمانية الثمينة لا ينبغي لهم أن يورثوا الفتور في وظيفتهم المقدسة بمشاهدة لعب الشطرنج للظالمين ولا يعكّروا صفو أذهانهم وأفكارهم بالنظر إلى لعبهم؛ فلقد وهب لنا سبحانه وتعالى النور والمهمة النورانية، وأعطاهم لعباً مظلمة ظالمة، فهم يستنكفون منا ولا يمدون يد المعاونة إلينا ولا يرغبون فيما لدينا من أنوار سامية. فمن الخطأ التنـزل إلى مشاهدة لعبهم المظلمة على حساب وظيفتنا.

فالأذواق المعنوية والأنوار الإيمانية التي هي ضمن دائرتنا كافيتان ووافيتان لنا».

تعديل الشفقة المفرطة

«لما كانت شفقة الإنسان تجلياً من تجليات الرحمة الربانية، لا ينبغي تجاوز درجة الرحمة الإلهية والمغالاة أكثر من رحمة من هو رحمة للعالمين ﷺ، فلو تجاوزها وغالى بها فإنها ليست رحمة ولا رأفة قط، بل هي مرض روحي وسقم قلبي يفضي إلى الضلالة والإلحاد.

فمثلاً: إن الانسياق إلى تأويل عذاب الكفار والمنافقين في جهنم، وما يترتب على الجهاد وأمثالها من الحوادث -من جراء ضيق شفقة المرء عن استيعابه وعدم تحملها له- إنكار لقسم عظيم من القرآن الكريم والأديان السماوية وتكذيب له، وهو ظلم عظيم وعدم رحمة في منتهى الجور في الوقت نفسه؛ لأن حماية الوحوش الكاسرة والعطف عليها، وهي التي تمزق الحيوانات البريئة، غدر عظيم تجاه تلك الحيوانات البريئة، ووحشية بالغة نابعة من فقدان الوجدان والضمير.

فالتعاطف إذن وموالاة أولئك الذين يبيدون حياة ألوف المسلمين الأبدية ويمحونها، ويسوقون مئات المؤمنين إلى سوء العاقبة بدفعهم إلى ارتكاب الذنوب والخطايا، والدعاء لأولئك الكفار والمنافقين، رحمةً بهم وعطفاً عليهم لينجوا من العقاب الشديد، لا شك أنه ظلم عظيم وغدر شنيع تجاه أولئك المؤمنين المظلومين.

وقد أثبتتْ رسائل النور إثباتاً قاطعاً: أن الكفر والضلالة تحقير عظيم للكائنات وظلم شنيع للموجودات، ووسيلة لرفع الرحمة الإلهية ونزول المصائب والبلايا، حتى وردت روايات من أن الأسماك التي في قعر البحر تشكو إلى الله ظلم الجناة، لسلبهم راحتها.

ولهذا فالذي يرأف ويعطف على تجرع الكافر صنوف العذاب في النار، يعني أنه لا يرأف ولا يعطف على أبرياء لا يحصيهم العد ممن هم أليق بالرأفة وأجدر بالعطف بل ولا يشفق عليهم، بل يظلمهم ظلماً فاضحاً.

ولكن هناك أمر آخر وهو أن البلاء عندما ينـزل بالمستحقين له، يُبتلى به الأبرياء أيضاً. وعندها لا يمكن عدم الرأفة بهم. إلّا أن هناك رحمة خفية لأولئك الأبرياء المظلومين الذين تضرروا من ذلك البلاء النازل بالجناة.

ولقد كنت -في وقت ما في الحرب العالمية الأولى- أتألم كثيراً من المظالم والقتل الذي يرتكبه الأعداء تجاه المسلمين ولاسيما تجاه أطفالهم وعوائلهم، وكنت أتعذّب عذاباً يفوق طاقتي -لما فيّ من شفقة مفرطة ورأفة متزايدة- وحينها ورد على القلب فجأة الآتي:

إن أولئك الأبرياء المقتولين يُستشهدون ويصبحون أولياء صالحين، وإن حياتهم الفانية تُبدل إلى حياة باقية، وإن أموالهم الضائعة تصبح بحكم الصدقة فتبدل أموالاً باقية. بل حتى لو كان أولئك المظلومون كفاراً فإن لهم من خزينة الرحمة الإلهية مكافآت كثيرة بالنسبة لهم -مقابل ما عانوا من البلاء في الدنيا- بحيث لو رفع ستار الغيب فإن ما ينالونه من رحمة ظاهرة يدفعهم إلى أن يلهجوا ب»الشكر لله والحمد لله».

عرفتُ هذا، واقتنعت به قناعة تامة، ونجوت بفضل الله من الألم الشديد الناشئ من الشفقة المفرطة».

مصير الأبرياء من الكفار في البلايا

«لقد مسّ مسّاً شديداً مشاعري وأحاسيسي المفرطة في الرأفة والعطف ما أصاب الضعفاء المساكين من نكبات وويلات ومجاعات ومهالك من جراء هذه الطامة البشرية التي نزلت بهم وفي هذا الشتاء القارس… ولكن على حين غرة نُبّهتُ إلى أن هذه المصائب وأمثالها تنطوي على نوع من الرحمة والمجازاة -حتى على الكافر- بحيث تهوّن تلك المصيبة، فتظل هينة بسيطة بالنسبة إليهم. وأصبح هذا التنبيه مرهماً شافياً لإشفاقي المؤلم على الأطفال والعوائل في أوروبا وروسيا، رغم أنني لم أتلق شيئاً عن أوضاع الدنيا وأخبار الحرب منذ بضعة أشهر.

نعم، إن الذين نزلت بهم هذه الكارثة العظمى -التي ارتكبها الظالمون- إن كانوا صغاراً وإلى الخامسة عشرة من العمر، فهم في حكم الشهداء، من أي دين كانوا. فالجزاء المعنوي العظيم الذي ينتظرهم يهوّن عليهم تلك المصيبة.

أما الذين تجاوزوا الخامسة عشرة من العمر، فإن كانوا أبرياء مظلومين، فلهم جزاء عظيم ربما ينجيهم من جهنم، لأن الدين -ولاسيما الإسلام- يُستر بستار اللامبالاة في آخر الزمان، وأن الدين الحقيقي لسيدنا عيسى عليه السلام سيحكم ويتكاتف مع الإسلام. فيمكن القول بلا شك أن ما يكابده المظلومون من النصارى المنتسبين إلى سيدنا عيسى عليه السلام والذين يعيشون الآن في ظلمات تشبه ظلمات «الفترة» وما يقاسونه من الويلات تكون بحقهم نوعاً من الشهادة. ولاسيما الكهول وأهل النوائب والفقراء والضعفاء المساكين الذين يقاسون النكبات والويلات تحت قهر المستبدين والطغاة الظالمين.

وقد بلغني من الحقيقة أن تلك النكبات والويلات كفارة بحقهم من الذنوب النابعة من سفاهات المدنية وكفرانها بالنعم ومن ضلالات الفلسفة وكفرها، لذا فهي أربح لهم مائة مرة.

وبهذا وجدتُ السلوان والعزاء من ذلك الألم المعذِّب النابع من العطف المتزايد، فشكرتُ الله شكراً لا نهاية له.

أما أولئك الظالمون الذين يسعّرون نار تلك الفتن والنكبات، أولئك السفلة من شياطين الأنس والجبابرة الطغاة الذين ينفذونها إشباعاً لمنافعهم الشخصية، فهم يستحقون ذلك العذاب المهين، فهو بحقهم عدالة ربانية محضة.

ولكن إن كان الذين يقاسون تلك النكبات هم ممن يهرعون إلى نجدة المظلومين ويكافحون في سبيل تحقيق راحة البشرية والحفاظ على الأسس الدينية والمقدسات السماوية والحقوق الإنسانية، فلا بد أن النتائج المعنوية والأخروية لتلك التضحيات الجسام كبيرة جداً بحيث تجعل تلك الويلات بحقهم مدار شرف واعتزاز لهم بل وتحببها إليهم».

خدمتنا تسعى لإنقاذ النظام والأمن

«جاءني موظف مسؤول له علاقة معنا ومع السياسة ومنشغل بمراقبتنا كثيراً فقلت له:

إنني لم أراجعكم منذ ثماني عشرة سنة، ولم أقرأ صحيفة واحدة من الصحف، وها قد مرت ثمانية شهور لم أسأل ولو مرة واحدة عما يحدث في العالم، ولم أستمع إلى الراديو الذي يُسمع هنا منذ ثلاث سنوات. كل ذلك كي لا يلحق ضرر معنوي بخدمتنا السامية.

والسبب في ذلك هو أن خدمة الإيمان وحقائق الإيمان هي أجلّ من كل شيء في الكون، فلا تكون أداة لأي شيء كان؛ فإن خدمة القرآن الكريم قد منعتنا كلياً من السياسة. حيث إن أهل الغفلة والضلالة في هذا الزمان الذين يبيعون دينهم للحصول على حطام الدنيا ويستبدلون بالألماس القطعَ الزجاجية المتكسرة، يحاولون اتهام تلك الخدمة الإيمانية بأنها أداة لتيارات قوية خارج البلاد وذلك للتهوين من شأنها الرفيع.

فأنتم يا أهل السياسة والحكومة! لا تنشغلوا بنا بناءً على الظنون والأوهام، بل عليكم أن تذللوا المصاعب لنا وتسهّلوا الطريق أمامنا، لأن خدمتنا تؤسس الأمن والاحترام والرحمة وتسعى لإنقاذ النظام والأمن والحياة الاجتماعية من الفوضى والإرهاب. فخدمتنا ترسي ركائز وظيفتكم الحقيقية وتقويها وتؤيدها».

زمان الجماعة

«إن هذا الزمان -لأهل الحقيقة- زمان الجماعة، وليس زمان الشخصية الفردية وإظهار الفردية والأنانية. فالشخص المعنوي الناشئ من الجماعة هو الذي ينفّذ حكمه ويصمد تجاه الأعاصير. فلأجل الحصول على حوض عظيم، ينبغي للفرد إلقاء شخصيته وأنانيته التي هي كقطعة ثلج في ذلك الحوض وإذابتها فيه. وإلّا فستذوب حتماً تلك القطعة من الثلج، وتذهب هباءً وتفوت الفرصة من الاستفادة من ذلك الحوض أيضاً.

إنه لمن العجب وموضع الأسف أن يضيّع أهل الحق والحقيقة القوة العظمى في الاتفاق بالاختلاف فيما بينهم، بينما يتفق أهل النفاق والضلالة للحصول على القوة المهمة فيه -رغم اختلاف مشاربهم- فيغلبون تسعين بالمائة من أهل الحقيقة مع أنهم لا يتجاوزون العشرة بالمائة».