الآية (2)

﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّقينۙ﴿2

مقدمة

اعلم أن من أساس البلاغة الذي به يبرُق حُسن الكلام تجاوب الهيئات وتداعي القيود وتآخذها على المقصد الأصلي، وإمداد كلٍّ بقدْرِ الطاقة للمقصد، الذي هو كمجمَع الأودية أو الحوض المتشرب من الجوانب، بأن تكون مصداقاً وتمثالاً لما قيل:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ      وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

مثلاً: تأمَّل في آيةِ ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ المسوقةِ للتهويل، المستفادِ من التقليل بسرّ انعكاس الضدّ من الضد. أفلا ترى التشكيك في ﴿إنْ كيف يمدّ التقليل، والمسّ بدل الإصابة في «مسّت» كيف يشير إلى القلّة والتروّح فقط، والمرّتيّة والتحقير في جوهرِ وصيغةِ وتنوينِ  ﴿نَفْحَةٌ كيف تلوِّح بالقلّة، والبعضية في ﴿مِنْ كيف تومئ إليها، وتبديل النَكال بالـ﴿عَذَابِ كيف يرمز إليها، والشفقةُ المستفادة من الـ«ربّ» كيف تشير إليها، وقِس؟! فكلٌّ يُمد المقصدَ بجهته الخاصة. وقِس على هذه الآية أخواتِها. وبالخاصة ﴿الٓمٓۚ ﴿1﴾ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّقين لأنَّ هذه الآية ذُكرت لمَدح القرآن وإثبات الكمال له.

ولقد تجاوبَ وتآخذ على هذا المقصد: القَسَم بـ ﴿الٓمٓۚ  على وجه، وإشارة ﴿ذٰلِكَ ومحسوسيته وبُعديته، والألف واللام في  ﴿ الْكِتَابُ، وتوجيه إثباته بـ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهۚ.  فكلٌّ كما يُمد المقصدَ ويلقي إليه حصتَه يرمز ويشفّ من تحته عن ما يستند إليه من الدليل وإنْ دقّ.

فإن شئت تأمل في القَسَم بـ﴿الٓمٓۚ  إذ إنه كما يؤكّد، كذلك يُشعر بالتعظيم الموجّه للنظر الموجب لانكشاف ما تحته من اللطائف المذكورة ليبرهن على الدعوى المرموز إليها.

وانظر الإشارة في ﴿ذٰلِكَ المختصة بالرجوع إلى الذات مع الصفات لتعلَم أنها كما تفيد التعظيم -لأنها إما إشارة إلى المشار إليه بـ﴿الٓمٓۚ  أو المبشَّر به في التوراة والإنجيل – كذلك تلوّح بدليلها؛ إذ ما أعظم ما أُقسمَ به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة والإنجيل! ثم أمعِن النظر في الإشارة الحسية إلى الأمر المعقول لترى أنها كما تفيد التعظيم والأهمية؛ كذلك تشير إلى أن القرآن كالمغناطيس المنجذِب إليه الأذهان، والمتزاحم عليه الأنظارُ المجْبِر لخيالِ كلٍّ على الإشتغال به. فتظاهرَ بدرجة -تراه العيون من خلفها إذا راجعت الخيال- يرمز بلسان الحال إلى وثوقِه بصدقه وتبرّيه عن الضعف والحيلة الداعيَين إلى التستر.. ثم تفكّر في البُعدية المستفادة من ﴿ذٰلِكَ؛ إذ إنها كما تفيد علوّ الرتبة المفيد لكماله؛ كذلك تومئ إلى دليله بأنه بعيدٌ عن ما سلك عليه أمثالُه. فإما تحت كلٍّ وهو باطل بالاتفاق، فهو فوق الكلِّ.

ثم تدبّر في «الـ» ﴿الْكِتَابُ لأنها كما تفيد الحصرَ العرفي المفيد للكمال؛ تفتح بابَ الموازنة وتلمِّح بها إلى أن القرآن كما جمَع محاسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملُها..

ثم قف على التعبير بـ﴿الْكِتَابُ﴾ كيف يلوّح بأن الكتاب لا يكون من مصنوع الأمّيّ الذي ليس من أهل القراءة والكتابة.

أما ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهۚ  ففيه وجهان:

إرجاع الضميرِ إلى الحُكم، أو إلى الكتاب:

فعلى الأول -كما عليه المفتاح- يكون بمعنى يقيناً، وبلا شك، فيكون جهةً وتحقيقاً لإثبات كماله.

وعلى الثاني -كما عليه الكشاف- يكون تأكيداً لثبوت كماله.

وعلى الكل يناجي من تحت ﴿لَا رَيْبَۚ بـ ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه۪﴾ (البقرة:23) ويرمز إلى دليله الخاص..

والاستغراق في ﴿لَا  بسبب إعدام الريوب الموجودة ينشد:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً        وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ

ويشير إلى أن المحلّ ليس بقابلٍ لتولّد الشكوك؛ إذ أقام على الثغور أماراتٍ تتنادى من الجوانب وتطرد الريوب المتهاجمة عليه.

وفي ظرفيةِ ﴿فيهۚ والتعبيرِ بـ«فِي» بدلَ أخواتها إشارةٌ إلى إنفاذ النظر في الباطن. وإلى أن حقائقه تطرد وتطيّر الأوهامَ المتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.

فيا مَن آنس قيمةَ التركيب من جانب التحليل، وأدرَك فرقَ الكلِّ عن كلٍّ! انظُر نظرة واحدة إلى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌّ حصته إلى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب.

اعلم أنه لم يُربَط بين جُمَل ﴿الٓمٓۚ … ذٰلِكَ الْكِتَابُ… لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ… هُـدًى لِلْمُتَّقين بحلقات العطف لشدة الاتصال والتعانق بينها، وأخذِ كلٍّ بحَجز سابقتها وذيل لاحقتها. فإن كلَّ واحدة كما أنها دليلٌ لكلٍّ بجهة؛ كذلك نتيجةٌ لكلِّ واحدة بجهة أخرى. ولقد انتقش الإعجاز على هذه الآية بنسج اثني عشر من خطوط المناسبات المتشابكة المتداخلة..

إن شئت التفصيل تأمل في هذا:

﴿الٓمٓۚ فإنها تومئ بالمآل إلى: «هذا متحدًّى به، ومَن يبرز إلى الميدان؟» ثم تلوِّح بأنه معجز.

وتفكَّر في ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ فإنها تصرِّح بأنه ازداد على أخواته وطمَّ عليها، ثم تلمِّح بأنه مستثنى ممتاز لا يماثَل.

ثم تدبر في ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهِۚ فإنها كما تُفصح عن أنه ليس محلاً للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين.

ثم انظُر في ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين إذ إنها كما تهدي إليك أنه يُري الطريق المستقيم؛ تفيدك أنه قد تجسم من نور الهداية.

فكلٌّ منها باعتبار المعنى الأول برهانٌ لرفقائها وباعتبار المعنى الثاني نتيجةٌ لكل منها.

ونذكر على وجه المثال ثلاثاً من الروابط الثنتي عشرة لتقيس عليها البواقي:

فـ ﴿الٓمٓۚأي هذا يتحدّى كلَّ معارض، فهو أكملُ الكتب، فهو يقيني؛ إذ كمالُ الكتاب باليقين، فهو مجسَّم الهداية للبشر..

ثم ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ أي هو ازداد على أمثاله فهو معجز -أو- أي هو ممتاز ومستثنى؛ إذ لا شك فيه؛ إذ إنه يُري السبيل السويّ للمتقين..

ثم ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين أي يرشد إلى الطريق المستقيم، فهو يقيني، فهو ممتاز، فهو معجِز.. وعليك باستنباط البواقي.

أما ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين فاعلم أن منبع حُسن هذا الكلام من أربع نقط:

الأولى: حذفُ المبتدأ، إذ فيه إشارة إلى أن حُكمَ الاتحاد مسلَّمٌ. كأنَّ ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لا تغايرَ بينهما في الذهن أيضاً.

والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، إذ فيه رمز إلى أن نور الهداية تجسَّمَ فصار نفسَ جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحُمرة فيصير قرْمِزاً.

والثالثة: تنكير﴿هُـدًى إذ فيه إيماءٌ إلى نهاية دقة هداية القرآن حتى لايُكْتنه كُنْهها، وإلى غاية وسعتها حتى لا يُحاط بها علماً. إذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الإحاطة. ومن هنا قد يكون التنكيرُ للتحقير وقد يكون للتعظيم.

والرابعة: الإيجاز في ﴿لِلْمُتَّقين بدل «الناس الذين يصيرون متقين به» أوجز بالمجاز الأوْل إشارة إلى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزاً إلى البرهان «الإِنِّيّ» على وجود الهداية. فإن السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقُه.

 إن قلت: كيف تتولد البلاغة الخارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة المعدودة؟

قيل لك: إنَّ في التعاون والاجتماع سراً عجيباً. لأنه إذا اجتمع حُسنُ ثلاثة أشياء صار كخمسة، وخمسةٌ كعشرة، وعشرةٌ كأربعين بسر الانعكاس. إذ في كل شيء نوع من الانعكاس ودرجة من التمثل. كما إذا جمعتَ بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياءُ كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كلَّ صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلاً فطرياً إلى أن ينضمّ إلى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حُسناً إلى حُسنه. حتى إن الحَجر مع حَجَريته إذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدَّب يميل ويُخضع رأسَه ليُماسّ رأسَ أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالإنسانُ الذي لا يدرك سرّ التعاون لهو أجمد من الحجر؛ إذ من الحجر من يتقوس لمعاونة أخيه!

 إن قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الأذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في أمثال هذه الآية اختلفوا اختلافاً مشتتاً، وأظهروا احتمالات مختلفة، وبيّنوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟

قيل لك: قد يكون الكلُّ حقاً بالنسبة إلى سامعٍ فسامعٍ؛ إذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الإنسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍّ فيه حصةٌ ونصيب من الفهم. والحال أن فهمَ نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانباً جانباً.. واستحسانَه يتفرق وجهاً وجهاً.. ولذتَه تتنوع نوعاً نوعاً.. وطبيعتَه تتباين قسماً قسماً. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذُّها طبقةٌ ولا تتنـزل إليها طبقة. وقِس!

فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌّ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظّم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الأفهام المختلفة ليأخذ كلُّ فهمٍ حصته. وقس! فإذن يجوز أن يكون الوجوهُ بتمامها مرادةً بشرط أن لا تردّها علومُ العربية، وبشرط أن تستحسنها البلاغةُ، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.

فظهر من هذه النكتة أن من وجوه إعجاز القرآن نظمَه وسبكَه في أسلوب ينطبق على أفهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.

الآية (1)

 ﴿الٓمٓ﴾

اعلم أن ههنا مباحث أربعة:

المبحث الأول

إن الإعجاز قد تنفّس من أُفق ﴿الٓمٓ﴾ لأن الإعجاز نورٌ يتجلى من امتزاج لمعات لطائف البلاغة. وفي هذا المبحث لطائفُ، كلٌّ منها وإنْ دقَّ لكنّ الكلَّ فجرٌ صادق.

منها: أنَّ ﴿الٓمٓ﴾ مع سائر أخواتها في أوائل السور تُنصّف كلَّ الحروف الهجائية التي هي عناصر كلِّ الكلمات. فتأمل!

ومنها: أنَّ النصف المأخوذ أكثر استعمالاً من المتروك.

ومنها: أنَّ القرآن كرّر من المأخوذ ما هو أيْسَرُ على الألسنة كالألف واللام.

ومنها: أنه ذكر المقطّعات في رأس تسعٍ وعشرين سورة عدّة الحروف الهجائية.

ومنها: أن النصف المأخوذ ينصّف كلَّ أزواج أجناسِ طبائع الحروف، من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة والمستعلية والمنخفضة والمنفتحة وغيرها، وأما الأوتارُ فمن الثقيل القليل كالقلقلة؛ ومن الخفيف الكثير كالذلّاقة.

ومنها: أن النصفَ المأخوذ من طبائعها ألطفُ سجيةً.

ومنها: أن القرآن اختار طريقاً في المقطّعات من بين أربعة وخمسمائة احتمال، لا يمكن تنصيفُ طبائع الحروف إلا بتلك الطريق، لأن التقسيمات الكثيرة متداخلةٌ ومشتبكة ومتفاوتة. ففي تنصيف كلٍّ غرابةٌ عجيبة.

فمَن لم يجتَن نورَ الإعجاز من مزج تلك اللمعات فلا يلومنّ إلّا ذوقَه.

المبحث الثاني

اعلم أن ﴿الٓمٓ كقَرع العصا؛ يوقِظ السامعَ ويهزُّ عِطفَه بأنه -بغرابته- طليعةُ غريبٍ وعجيبٍ.

وفي هذا المبحث أيضاً لطائفُ:

منها: أن التهجّي وتقطيع الحروف في الاسم إشارةٌ إلى جنس ما يتولّد منه المسمّى.

ومنها: أن التقطيع إشارةٌ إلى أن المسمّى واحد اعتباريّ لا مركب مَزجي.

ومنها: أن التهجي بالتقطيع تلميحٌ إلى إراءة مادة الصنعة؛ كإلقاء القلم والقرطاس لمَن يعارضك في الكتابة. كأنّ القرآن يقول: «أيها المعاندون المدّعون أنكم أُمراءُ الكلام! هذه المادة التي بين أيديكم هي التي أصنع منها ما أصنع».

ومنها: أن التقطيع المُرمِز إلى الإهمال عن المعنى يشير إلى قطع حُجتهم بـ«أنّا لا نعرف الحقائق والقصص والأحكام حتى نقابلك». فكأنّ القرآن يقول: «لا أطلب منكم إلّا نظمَ البلاغة، فجيئوا به ولو مفتَريات».

ومنها: أن التعبير عن الحروف بأسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة، ومَن يسمعون منه الكلامَ أمّيٌّ مع محيطه، فنظراً إلى السجية -مع أن أول ما يتلقاهم خلافُ المنتظر- يرمز إلى: «أن هذا الكلام لا يتولد منه بل يُلقى إليه».

ومنها: أن التهجّي أساسُ القراءة ومبدؤها، فيومئ إلى أن القرآن مؤسسٌ لطريق خاص ومعلّم لأمّيين.

ومَن لم يرَ نقشاً عالياً من انتساج هذه الخيوط -وإن دقّ البعضُ- فهو دخيلٌ في صنعة البلاغة فليقلِّد فتاوى أهلِها.

المبحث الثالث

إنَّ  ﴿الٓمٓ إشارة إلى نهاية الإيجاز، الذي هو ثاني أساسَي الإعجاز.

وفيه لطائف:

منها: أن ﴿ الٓمٓ   يرمز ويشير ويومئ ويُلَوِّح ويلَمِّح بالقياس التمثيلي المتسلسل إلى: «أن هذا كلام الله الأزلي، نزلَ به جبريلُ على محمد عليهما الصلاة والسلام». لأنه كما أن الأحكامَ المفصّلة في مجموع القرآن قد ترتسم في سورةٍ طويلة إجمالاً؛ وقد تتمثل سورةٌ طويلة في قصيرة إشارةً؛ وقد تندرج سورةٌ قصيرة في آيةٍ رمزاً؛ وقد تندمج آيةٌ في كلام واحدٍ تلويحاً؛ وقد يتداخل كلامٌ في كلمة تلميحاً، وقد تتراءى تلك الكلمةُ الجامعةُ في حروف مقطّعة، كـ«سين، لام، ميم».. كالقرآنِ في البقرة، والبقرةِ في الفاتحة، والفاتحةِ في  ﴿بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيم و﴿بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيم في البسملة المنحوتة؛ كذلك يجوز ذلك في ﴿الٓمٓ أيضاً.

فبالاستناد إلى هذا القياس التمثيلي المتسلسل، وبإشارة ﴿ذٰلِكَ الْكتاب يتجلى من ﴿الٓمٓ﴾ «هذا كلامُ الله الأزلي نزل به جبريلُ على محمد عليهما الصلاة والسلام».

ومنها: أنَّ الحروف المقطّعة كالشفرة الإلهية أبرَقَها إلى رسوله الذي عنده مفتاحُها. ولم يتطاول يدُ فكر البشر إليه بعدُ.

ومنها: أنَّ ﴿الٓمٓ﴾  إشارة إلى شدة ذَكاوة المُنـزَل عليه رمزاً إلى أن الرمز له كالتصريح.

ومنها: أنَّ التقطيع إشارة إلى أن قيمةَ الحروف ليست في معانيها فقط، بل بينها مناسباتٌ فطرية كمناسبة الأعداد، كشَفَها علمُ أسرار الحروف.

ومنها: أنَّ ﴿الٓمٓ﴾  خاصةً، إشارةٌ بالتقطيع إلى المخارج الثلاثة، من الحلق والوسط والشفة، وترمز تلك الإشارة إلى إجبار الذهن للدقّة، وشقّ حجاب الألفة؛ ليلجأ إلى مطالعة عجائب ألوان نقش خلقة الحروف.

فيا مَن صبغ يدَه بصنعة البلاغة! رَكِّبْ قطعاتِ هذه اللطائف وانظرْها واحدةً، واستمع، لتقرأ عليك: «هذا كَلَامُ الله».

المبحث الرابع

إنَّ ﴿الٓمٓۚ  مع أخواتها لمّا برزت بتلك الصورة كانت كأنها تنادى: «نحن الأئمة؛ لا نُقلِّد أحداً، وما اتَّبعنا إماماً، وأُسلوبنا بديعٌ، وطرزُنا غريب».

وفيه لطائف:

منها: أن مِن دَيدن الخطباء والفصحاء التأسّي بمثال والنسجَ على منوال والتمشي في طريق مسلوكة، مع أنها لم يطمثهن قبلَه إنس ولا جان.

ومنها: أن القرآن بفواتحه ومقاطعه بقيَ بعدُ كما كان قبلُ، لم يماثِل ولم يُقلَّد مع تآخذ أسباب التقليد والتأسِّي من شوق الأودَّاء وتحدي الأعداء. إنْ شئت شاهداً فهذه ملايينُ من الكتب العربية! هل ترى واحداً منها يوازيه، أو يقع قريباً منه؟ كلا! بل الجاهل العاميّ أيضاً إذا قاسَها معه وقابَله بها ناداه نظرُه بـ«أنَّ هذا ليس في مرتبتها». فإما هو تحت الكلِّ وهو محال بالضرورة، وإما هو فوق الكلِّ وهو المطلوب، فهو نصيبُه من دَرْك الإعجاز.

ومنها: أنَّ من شأن صنعة البشر أنها تظهر أول ما تظهر خشنة ناقصة من وجوه، يابسة من الطلاوة، ثم تتكمل وتحلو. مع أن أسلوب القرآن لمّا ظهرَ ظهرَ بطلاوة وطراوة وشبابية، وتحدّى مع الأفكار المعمّرين -بتلاحق الأفكار وسرقة البعضِ عن البعض- وغلَبَهم، فأعلن بالغلبة «أنه من صُنع خالق القُوى والقَدر».

فيا مَنْ استنشق نسيمَ البلاغة! أفلا يجتني نحلُ ذهنِك عن أزهار تلك المباحث الأربعة شَهْدَ: «أشْهَدُ أنَّ هذَا كَلَامُ الله»؟

*  *  *

الآية (3)

﴿اَلَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلٰوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾

﴿اَلَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

اعلم أن وجه نظم المحصَّل مع المحصِّل انصبابُ مدحِ القرآن إلى مدح المؤمنين وانسجامه به؛ إذ إنه نتيجةٌ له، وبرهانٌ إنّيّ عليه، وثمرةُ هدايته، وشاهدٌ عليه. وبسبب تضمّن التشويق إشارةٌ إلى جهة حصّة هذه الآية من الهداية، وإلى أنها مثال لها.

أما وجه ﴿اَلَّذينَ ﴾ مع ﴿لِلْمُتَّقينَ﴾ فتشييعُ التخلية بالتحلية التي هي رفيقتُها أبداً؛ إذ التزيين بعد التنـزيه، ألا ترى أن التقوى هي التخلّي عن السيئات. وقد ذكرها القرآن بمراتبها الثلاث، وهي: ترك الشرك، ثم ترك المعاصي، ثم ترك ما سوى الله. والتحلية فعلُ الحسنات: إما بالقلب أو القالب أو المال. فشمس الأعمال القلبية: «الإيمان». والفهرستةُ الجامعة للأعمال القالبية: «الصلاة»، التي هي عماد الدين. وقطب الأعمال المالية: «الزكاة»، إذ هي قنطرة الإسلام.

اعلم أن ﴿اَلَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ مع أنه إذا نظرتَ إلى مقتضى الحال إيجاز، إلَّا أنه إذا وازنتَ بينه وبين مرادفه وهو «المؤمنون» تظنّه إطناباً؛ فأبدَل «ال» بـ ﴿اَلَّذينَ﴾ الذي من شأنه الإشارة إلى الذات بالصلة فقط، كأنه لا صفة له إلّا هي، للتشويق على الإيمان، والتعظيم له؛ والرمز إلى أن الإيمان هو المنار على الذات؛ قد تضاءلت تحته سائرُ الصفات.. وأبدلَ «مؤمنون» بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ لتصوير وإظهارِ تلك الحالة المستحسَنة في نظر الخيال، وللإشارة إلى تجدُّده بالاستمرار وتجلّيه بترادف الدلائل الآفاقية والأنفسية، فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا إيماناً.

﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي بالقلب، أي بالإخلاص بلا نفاق. ومع الغائِبِيَّة.. وبالغائب.. وبعالم الغيب.

واعلم أن الايمان هو النور الحاصل بالتصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام تفصيلا في ضروريات الدين وإجمالاً في غيرها.

 إن قلت: لا يقتدر على التعبير عن حقائق الإيمان من العوام من المائة إلّا واحد؟

قيل لك: إن عدم التعبير ليس عَلَماً على عدم الوجود؛ فكما أن اللسان كثيراً ما يتقاصر عن أن يترجم عن دقائق ما في تصورات العقل؛ كذلك قد لا يتراءى بل يتغامض عن العقل سرائرُ ما في الوجدان، فكيف يترجم عن كلِّ ما فيه؟ ألا ترى ذكاءَ السكاكي ذلك الإمام الداهي قد تقاصر عن اجتناء دقائق ما أبرزته سجيّة امرئ القيس، أو بدويّ آخر؟ فبناءً على ذلك، الاستدلالُ على وجود الإيمان في العامي يثبت بالاستفسار والاستيضاح منه، بأن تستفسر من العاميّ بالسؤال المردّد بين النفي والإثبات هكذا: أيها العامي! أيمكن في عقلك أن يكون الصانع الذي كان العالمُ بجهاته الست في قبضة تصرفه أن يتمكّن في جهة من جهاته أو لا؟ فإن قال: «لا»، فنفي الجهة ثابتٌ في وجدانه، وذلك كافٍ. وقس على هذا..

ثم إن الإيمان -كما فسّره السعد- نورٌ يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الاختياري. فالإيمان نورٌ لوجدان البشر وشعاع من شمس الأزل يضيء دفعةً ملكوتيةَ الوجدان بتمامها. فينشر أُنسيةً له مع كل الكائنات.. ويؤسس مناسبةً بين الوجدان وبين كل شيء.. ويُلقي في القلب قوةً معنوية يقتدر بها الإنسانُ أن يصارع جميعَ الحوادث والمصيبات.. ويعطيه وُسْعةً يقتدر بها أنْ يبتلع الماضي والمستقبل. وكما أن الايمان شعاعٌ من شمس الأزل؛ كذلك لمعة من السعادة الأبدية أي الحشر. فينمو بضياء تلك اللمعة بذورُ كلِّ الآمال، ونواةُ كلِّ الاستعدادات المودَعة في الوجدان، فتنبت ممتدةً إلى الأبد، فتنقلب نواةُ الاستعداد كشجرة طوبى.

﴿وَيُقيمُونَ الصَّلٰوةَ﴾

اعلم أن وجه النظم أظهرُ من الشمس في رابعة النهار. وأن في تخصيص «الصلاة» من بين حسنات القالب إشارةً إلى أنها فهرستةُ كل الحسنات وأنموذجها ومَعْكسها. كالفاتحةِ للقرآن، والإنسانِ للعالم. لاشتمالها على نوع صومٍ وحج وزكاة وغيرها، ولاشتمالها على أنواع عبادات المخلوقات، الفطرية والاختيارية من الملائكة الراكعين الساجدين القائمين، ومن الحجر الساجد، والشجر القائم، والحيوان الراكع..

ثم إنه أقام ﴿يُقيمُونَ﴾ مقام «المقيمين» لإحضار تلك الحركة الحياتية الواسعة والإنتباه الروحاني الإلهي في العالم الإسلامي إلى نظر السامع. ووضع تلك الوضعية المستحسَنة والحالة المنتظمة من نواحي نوع البشر نصبَ عين الخيال، ليهيّج ويوقظ ميَلان السامع للتأسِّي؛ إذ مَنْ تأمل في تأثير النداء بالآلة المعروفة في نفرات العسكر المنتشرين المغمورين بين الناس وتحريك النداء لهم دفعة، وإلقاء انتباه فيهم، وإفراغهم في وضع مستحسن، وجمعهم تحت نظام مستملَح يرى في نفسه اشتياقاً لأن ينساب إليهم. فهكذا الأذان المحمَّدي بين الإنسان في صحراء العالم – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ -..

وإنما لم يقتصر في مسافة الإيجاز على «يصلّون» بل أتمّها بـ ﴿يُقيمُونَ الصَّلٰوةَ﴾ للإشارة إلى أهمية مراعاة معاني «الإقامة» في الصلاة من تعديلِ الأركان، والمداومةِ، والمحافظة، والجدِّ، وترويجها في سوق العالم. تأمل!

ثم إن الصلاة نسبةٌ عالية، ومناسبةٌ غالية، وخدمة نزيهة بين العبد وسلطان الأزل، فمن شأن تلك النسبة أن يعشقَها كلُّ روح.. وأركانُها متضمنةٌ للأسرار التي شرحها أمثال «الفتوحات المكية»، فمن شأن تلك الأسرار أن يحبَّها كلُّ وجدان.. وإنها دعوةُ صانع الأزل إلى سرادق حضوره خمسَ دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حُكم المعراج. فمن شأنها أن يشتاقَها كلُّ قلب.. وفيها إدامةُ تصوّرِ عظمةِ الصانع في القلوب وتوجيه العقول إليها لتأسيس إطاعة قانون العدالة الإلهية، وامتثالِ النظام الرباني. والإنسان يحتاج إلى تلك الإدامة من حيث هو إنسان لأنه مدنيّ بالطبع.. فيا ويلَ من تركها! ويا خسارةَ من تكاسل فيها! ويا جهالةَ مَن لم يعرف قيمتها! فسُحقاً وبُعداً وأُفّاً وتُفّاً لنفسِ مَن لم يستحسنها.

﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾

وجه النظم: أنه كما أن الصلاة عماد الدين وبها قوامُه؛ كذلك الزكاةُ قنطرة الإسلام، وبها التعاون بين أهله.

ثم إن من شروطِ أن تقع الصدقة موقعها اللائق: أن لا يُسرف المتصدق فيقعُد ملوماً.. وأن لا يأخذ من هذا ويعطيَ لذاك؛ بل من مال نفسه.. وأن لا يمنّ فيستكثر.. وأن لا يخاف من الفقر.. وأن لا يقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضاً.. وأن لا يصرف الآخذُ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.

فلإِحسان هذه النُكت، وإحساس هذه الشروط تصدَّق القرآنُ على الأفهام بإيثارِ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ على «يتصدقون» أو «يزكّون» وغيرهما؛ إذ أشار بـ«من» التبعيض إلى ردِّ الإسراف.. وبتقديم ﴿مِمَّا﴾ إلى كونه من مال نفسه.. وبـ ﴿رَزَقْنَا﴾ إلى قطع المنّة. أي إن الله هو المعطي وأنت واسطة.. وبالإسناد إلى «نا» إلى: «لَاتَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالاً».. وبالإطلاق إلى تعميم التصدق للعلم والفكر وغيرهما. وبمادة ﴿يُنْفِقُونَ﴾ إلى شرط صرف الآخذ في النفقة والحاجات الضرورية.

ثم إن في الحديث الصحيح: «الزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الإسلام» أي الزكاة جسر يغيث المسلمُ أخاه المسلمَ بالعبور عليها؛ إذ هي الواسطةُ للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطةُ لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياقُ للسموم الواقعة في ترقيات البشر.

نعم، في «وجوب الزكاة» و«حُرمةِ الربا» حكمةٌ عظيمة، ومصلحة عالية، ورحمة واسعة؛ إذ لو أمعنتَ النظر في صحيفة العالم نظراً تاريخياً وتأملتَ في مساوي جمعية البشر لرأيت أُسَّ أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبعَ كلِّ الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:

إحداهـما: «إنْ شَبِعْتُ فلا عليَّ أن يموتَ غيرِي من الجُوعِ».

والثـانية: «اكْتَسِبْ أنْتَ لآكُلَ أنَا، واتْعَبْ أنتَ لأستريحَ أنَا».

فالكلمة الأولى الغدّارة النَهِمَة الشنعاء هي التي زلزلت العالم الإنسانيَّ فأشرف على الخراب. والقاطعُ لعِرق تلك الكلمة ليس إلّا «الزكاة».

والكلمة الثانية الظالمة الحريصة الشوهاء هي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج والمَرْج. والمستأصِلُ والدواءُ لتلك الكلمة ليس إلّا «حُرمة الربا». فتأمل!

اعلم أن شرط انتظام الهيئة الاجتماعية أن لا تتجافى طبقاتُ الإنسان، وأن لا تتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياءُ عن الفقراء بدرجةٍ ينقطع خيطُ الصلة بينهم. مع أن بإهمال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت المسافةُ بين الطبقات، وتباعدت طبقاتُ الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما. ولا يفور من الطبقة السفلى إلى العليا إلّا أصداء الاختلال، وصياحُ الحسد، وأنينُ الحقد والنفرة بدلاً عن الاحترام والإطاعة والتحبب. ولا يفيضُ من العليا على السفلى بدلَ المرحمة والإحسان والتلطيف إلّا نارُ الظلم والتحكم، ورعدُ التحقير. فأسفاً! لأجل هذا قد صارت «مزيةُ الخواص» التي هي سببُ التواضع والترحّم سبباً للتكبّر والغرور. وصار «عجزُ الفقراء» و«فقرُ العوام» اللذان هما سبباَ المرحمةِ عليهم والإحسان إليهم سبباً لأسارتهم وسَفالتهم.. وإن شئت شاهداً فعليك بفسادِ ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهدُ كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها إلّا جعل الزكاة -التي هي ركن من أركان الإسلامية- دستوراً عالياً واسعاً في تدوير الهيئة الاجتماعية.

* * *

السورة الأولى من الزَّهْرَاوَيْنِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

السورة الأولى من الزَّهْرَاوَيْنِ

 إن قلت: إنّ في القرآن الموجز المعجِز أشياءً مكررة تكراراً كثيراً في الظاهر كالبسملة و﴿فَبِاَيِّ اٰلَٓاءِ…﴾ الخ.. و﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ…﴾ الخ.. وقصة موسى وأمثالِها، مع أن التكرار يُمِلُّ وينافي البلاغة.

قيل لك: «مَا كُلُّ مَا يَتَلَأْلَأُ يُحْرِقُ» فإن التكرار قد يُمِلُّ، لا مطلقاً. بل قد يُستحسَن وقد يُسْئِم. فكما أن في غذاء الإنسان ما هو قُوتٌ كلما تكرّر حلا وكان آنَسَ، وما هو تفكّهٌ إن تكرر مَلَّ وإن تجدد اُستُلِذّ؛ كذلك في الكلام ما هو حقيقةٌ وقوتٌ وقوَّةٌ للأفكار وغذاءٌ للأرواح كلما استُعيد استُحسِن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس. وفيه ما هو من قبيل الزينة والتفكّه، لذّتُه في تجدّد صورتِه وتلوّن لباسه.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه: كما أن القرآن بمجموعه قوتٌ وقوّة للقلوب لا يُمَلُّ على التكرار، بل يُستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ما هو روحٌ لذلك القُوت كلما تكرّر تلألأ وفارت أشعةُ الحق والحقيقة من أطرافه، وفي ذلك البعضِ ما هو أُسّ الأساس والعُقدة الحياتية والنور المتجسّد بجسدٍ سرمدي كـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. فيا هذا، شاوِرْ مذاقَك إنْ كنت ذا مذاق!

هذا بناءً على تسليم التكرار، وإلّا فيجوز أن تكون قصةُ موسى -مثلاً- مذكورةً في كلِّ مقامٍ لوجهٍ مناسب من الوجوه المشتملة هي عليها. فإن قصة موسى أجدى من تفاريق العصا أخذَها القرآنُ بيده البيضاء فضةً فصاغها ذهباً، فخرّت سَحَرةُ البيان ساجدين لبلاغته.

وكذا في «البسملة» جهاتٌ: من الاستعانة، والتبرّك، والموضوعية، بل الغايَتِيَّة والفهرستية للنقط الأساسية في القرآن.

وأيضا فيها مقاماتٌ: كمقام التوحيد، ومقام التنـزيه، ومقام الثناء، ومقام الجلال والجمال، ومقام الإحسان وغيرها.

وأيضا فيها أحكام ضمنية: كالإشارة إلى التوحيد والنبوة والحشر والعدل. أعني المقاصد الأربعة المشهورة، مع أن في أكثر السور يكون المقصودُ بالذات واحداً منها، والباقي استطرادياً.

فلِمَ لا يجوز أن يكون لجهةٍ أو حُكمٍ أو مقام منها مناسبةٌ مخصوصةٌ لروح السورة وتكون موضوعاً للمقام بل فهرستة إجمالية باعتبار تلك الجهات والمقامات؟

* * *