الآية (16)

﴿اُولٰٓئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدٰىۖ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدينَ ﴿16﴾﴾

اعلم أن وجه نظمها بسابقتها هو أن هذه الآية فذلكةٌ وإجمال للتفاصيل السابقة، وتصويرٌ لها بصورة عالية مؤثرة. وتخصيصُ أسلوب التجارة للتمثيل، لأجل أن المخاطَبين في الصف الأول قد ذاقوا حلوَ التجارة ومرَّها برحلتَي الصيف والشتاء.

ووجهُ المناسبة، هو أن نوع البشر أُرسل إلى الدنيا لا للتوطّن فيها، بل ليتَّجروا في رأس مالِهم من الاستعدادات والقابليات ليَزرعوا ثم يتصرفوا في غَلّاتها.

ثم إن وجه النظم بين جمل هذه الآية هو أنها ترتبت ترتبا فطريّاً سلِساً على نسق أسلوب التمثيل وهو هذا:

إن تاجراً مغبونا مخذولاً أُعطي له رأسُ مالٍ غالٍ، فاشترى به السّموم وما يضرّه، فتصرّف فيه، فلم يربح ولم يفِد؛ بل ألقاه في خسارة على خسارة، فأضاع رأسَ ماله، ثم أضلّ الطريق؛ بحيث لا يستطيع أن يرجع.

أما نظم هيئات جملة جملة:

فلفظُ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ موضوعٌ لإحضار المحسوس البعيد: أما الإحضار فإشارةٌ إلى أن من شأن كلِّ سامع إذا سمعَ تلك الجنايات المذكورة أن يحصُل شيئاً فشيئاً في قلبه نفرةٌ وغيظ يتشدد تدريجاً بحيث يريد أن يراهم ليتشفّى الغيظ منهم، ويقابلهم بالنفرة والتحقير.. وأما المحسوسية فرمزٌ إلى أن الاتّصاف بهذه الأوصاف العجيبة يجسّمُهم في الذهن حتى صاروا محسوسين نصبَ الخيال. ومن المحسوسية رمز إلى علّة الحُكم بسرّ انجرار المعصية إلى المعصية.. وأما البُعدية فإشارةٌ إلى شدّة بُعدهم عن الطريق الحق، ذهبوا إلى حيث لا يرجعون، فالذهابُ في أيديهم دون الإياب.

ولفظ ﴿اَلَّذينَ﴾ إشارة إلى أن هذا نوعٌ من التجارة عجيبٌ خبيث تحدَّثَ وطَفِقَ أن يصير أساساً ومسلكا يمرّ عليه ناس؛ إذ قد مرّ أن الموصول إشارةٌ إلى الحقائق الجديدة التي أخذت في الانعقاد.

ولفظ ﴿اشْتَرَوُا﴾ إشارة إلى ردّ اعتذارهم بـ«أن فطرتنا هكذا». فكأن القرآن يقول لهم: لا! ولقد أعطاكم الله أنفاسَ العمر رأسَ مالٍ، وأودع في روحكم استعدادَ الكمال، وغرسَ في وجدانكم نواةَ الحقيقة وهي الهدايةُ الفطرية لتشتروا السعادةَ فاشتريتم بدلَها -بل بتركها- اللذائذَ العاجلة والمنافع الدنيوية فاخترتُم بسوء اختياركم مسلكَ الضلالة على منهج الهداية، فأفسدتُم الهداية الفطرية، وضيّعتم رأسَ مالكم.

ولفظُ ﴿الضَّلَالَةَ بِالْهُدٰى﴾ فيه إشارة إلى أنهم خسِروا خسارةً على خسارة. إذ كما خسروا بالضلالة؛ كذلك خسروا بترك النعمة العظيمة التي هي الهداية.

أما جملة ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ فاعلم أن في تخصيصِ نفي الربح -مع أنهم كما قد خسروا فقد أضاعوا رأسَ المال أيضاً- إشارة إلى أن من شأن العاقل أن لا يُقْدِم على تجارة لا ربح فيها، فضلاً عما فيها خسارةٌ وإضاعةُ رأس المال.. ثم في إسناد الفعل إلى التجارة، مع أن الأصل «فما ربحوا في تجارتهم» إشارةٌ إلى أن تجارتَهم هذه بجميع أجزائها وكلِّ أحوالها وقاطبةِ وسائطها لا فائدةَ فيها، لا جزئياً ولا كليا؛ لا كبعض التجارات التي لا يكون في محصّلها وفذلكتها ربحٌ، ولكن في أجزائها فوائدُ، ولوسائط خدمتها استفاداتٌ.. أما هذه فشرٌّ محض وضررٌ بحت. ونظير هذا الإسناد «نامَ لَيْلُهُ» بدل «نام في الليل»؛ إذ الأول يفيد أن ليلَه أيضا ساكن وساكت كالنائم لا يحرِّك ليلتَه شيءٌ ولا يموِّجه طارقٌ.

وأما جملة ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدينَ﴾ -أي كما خسروا وأضاعوا المال؛ كذلك قد أضلوا الطريق- فترشيحٌ وتزيين كسابقتها لأسلوب ﴿اشْتَرَوُا﴾.. وأيضاً فيها رمز خفيٌّ إلى ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ في رأس السورة. كأنه يقول: أعطى القرآنُ الهداية فما قَبِل هؤلاء.

* * *

 

الآية (14-15)

﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا قَالُٓوا اٰمَنَّا وَاِذَا خَلَوْا اِلٰى شَيَاطينِهِمْ قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ ﴿14﴾ اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿15﴾﴾

اعلم أن وجه نظم مآل هذه الآية بمآل سابقتها: عطفُ الجناية الرابعة، أعني الاستهزاء والاستخفاف على الجنايات السابقة من التسفيه والإفساد والفساد.

وأن وجه النظم بين جملها هو أنه: كما أن للإيمان الذي هو نقطةُ استنادٍ عن الآلام ونقطةُ استمداد للآمال ثلاثَ خواص حقيقية:

إحداها: عزةُ النفس الناشئة من «نقطة الاستناد»، ومن شأن عزة النفس عدمُ التنزّل للتذلّل.

والثانية: الشفقةُ التي من شأنها عدم التذليل والتحقير.

والثالثة: احترامُ الحقائق ومعرفةُ قيمتها، لأن صاحبَ غالي القيمة ذو حقيقةٍ، وعنده الجوهر الفريد. وعدمُ الاستخفاف بالحقيقة لأنه أيضاً رزين… كذلك لضد الإيمان، أعني النفاقَ أضدادُ خواصِّه الثلاث، فخواصّ النفاق الناشئة منه: ذلةُ النفس، وميل الإِفساد، والغرور بتحقير الغير.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن النفاق يولِّد ذلةَ النفس وهي تنتج التذللَ، وهو الرياءَ، وهو المداهنةَ، وهي الكذبَ. فأشار اليه بقوله: ﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا قَالُٓوا اٰمَنَّا…﴾.

ثم لما كان النفاقُ مفسداً للقلب وفسادُه ينتج يُتْمَ الروحِ، أي عدمَ الصاحب والحامي والمالك، فيتولد الخوفُ، وهو يُلجِئه إلى التستر. أشار إليه بلفظ ﴿وَاِذَا خَلَوْا…﴾.

ثم لما كان النفاق قاطعا للرحم وقطعُه يزيل الشفقةَ، وزوالُها ينتج الإفسادَ، وهو الفتنةَ وهي الخيانةَ، وهي الضعفَ، وهو يضطره إلى الالتجاء إلى ظهيرٍ ومستنَد، أشار إليه بلفظ إلى ﴿شَيَاطينِهِمْ﴾..

ثم لمّا كان النفاق جهلاً تردّدياً أنتج تذبذبَ الطبيعةِ، وهو عدمَ الثبات وهو عدم المسلك وهو عدم الأَمنية بهم، وهو يُجبرهم على تجديد عهدهم، أشار إلى هذه السلسلة بلفظ ﴿قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ﴾.

ثم لمّا احتاجوا إلى الاعتذار استخفّوا بالحقيقة لخفّتهم، ورخّصوا غاليَ القيمةَ لعدم قيمتِهم، وأهانوا بالعالي لهَون نفسِهم وضعفِها الذي ينشأ منه الغرورُ، فقال: ﴿قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾..

ثم بينما كان السامع منتظراً من انصباب الكلام مقابلةَ المؤمنين لهم، رأى أن الله قابلَهم بدلاً عن المؤمنين إشارةً إلى تشريفهم، ورمزاً إلى أن استهزاءهم في مقابلة جزاءِ الله تعالى كالعدم، وإيماءً إلى حُمقهم وزجرهم وردّهم؛ إذ كيف يُستَهْزأُ بمَن كان الله حاميَه؟ فقال تعالى: ﴿اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي يعاقبُهم على استهزائهم أشدَّ جزاءٍ بصورةِ استخفافٍ وتهكُّمٍ بهم في الدنيا والآخرة مع الاستمرار التجدديّ.. وجملة ﴿وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
كشفٌ وتفصيل وتصويرٌ لجزاء استهزائهم بطرز الاستهزاء.

أما وجه نظم هيئات كل جملة جملة:

فاعلم أن جملة ﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا قَالُٓوا اٰمَنَّا﴾ التي سيقت في مُداهنتهم؛

قطعيةُ ﴿اِذَا﴾ فيها إيماء إلى الجزم والتعمّد والقصد، أي عزموا بعَمدٍ وقصد ملاقاتَهم..

ولفظ ﴿لَقُوا﴾ إيماء إلى أنهم تعمّدوا مصادفتَهم في الطرق بين ظهراني الناس..

ولفظُ ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ بدل «المؤمنين» إشارة إلى مباشرتهم معهم وتماسّهم بهم، وإلى أن ارتباطهم معهم بصفة الإيمان، وإلى أن مدارَ النظر بين أوصاف المؤمنين صفةُ الإيمان فقط.

ولفظ ﴿قَالُٓوا﴾ تلويح إلى أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وأن قولهم للتصنّع والرياء والمداهنة ودفعِ التهمة والحرص على جلب منافع المؤمنين والاطلاع على أسرارهم.

ولفظ ﴿اٰمَنَّا﴾ بلا تأكيد مع اقتضاء المقام إياه، وبإيراده جملة فعلية، إشارةٌ إلى أنْ ليس في قلوبهم مشوّق وعشق محركٌ ليتشددوا ويتجلدوا في كلامهم.. وأيضاً إن في ترك التأكيد إيماءً إلى تشددهم في دفع التهمة عنهم، كأنهم يقولون: «إنكارُكم ليس في موقعه بل في منـزلة العدم، إذ لسنا أهلاً للتهمة..» وأيضاً فيه رمز إلى أن التأكيد لا يروّج عنهم.. وأيضاً فيه لمحٌ إلى أن هذا الحجاب الرقيق الضعيف على الكذب إذا شُدّد تمزّق.. وأيضاً في فعليته إشارة إلى أنه لا يمكن لهم أن يدعوا الثبات والدوام، وإنما غرضُهم من هذا التصنع الاشتراكُ في منافع المؤمنين والاطلاعُ على أسرارهم بادّعاء حدوث الإيمان.

وأما جملة ﴿وَاِذَا خَلَوْا اِلٰى شَيَاطينِهِمْ قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ﴾

فـ«الواو» الجامعة في ﴿وَاِذَا﴾ إيماءٌ إلى أن هذا الكلام سيق لبيان أن لا مسلَك لهم، ولبيان تذبذبهم المفصّل بهاتين الشرطيتين.

والجزمية في ﴿اِذَا﴾ رمز إلى أنهم بحكم الفساد والإفساد يرون الالتجاء وظيفةً ضرورية.

ولفظ ﴿خَلَوْا﴾ إشارة إلى أنهم بحُكم الخيانة يتخوفون، وبحكم الخوف يتسترون..

ولفظ ﴿اِلٰى﴾ بدلَ «مع» المناسب لِـ ﴿خَلَوْا﴾ إشارة إلى أنهم بحكم العَجز
والضعف يلتجئون، وبحكم الفتنة والإفساد يوصلون أسرار المؤمنين إلى الكافرين.. ولفظ «الشياطين» إشارة إلى أن رؤساءهم كالشياطين متسترون موَسوسون، وإلى أنهم كالشياطين يضرّون، وإلى أنهم على مذهب الشياطين لا يتصورون إلّا الشر.

وأما جملة ﴿قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ﴾ المَسوقة لتبرئة ذمّتهم وتجديد عهدهم وثباتهم في مسلكهم، فاعلم أنه أكّد مع غير المنكِر هنا، وترك التأكيد مع المنكِر هناك إشارةً ودلالةً على عدم الشوق المحرك في قلب المتكلم هناك ووجودِه هنا. أما اسميةُ هذا وفعلية ذاك، فلأن المقصود إثباتُ الثبوتِ والدوامِ في ذا، والحدوثِ في ذلك.

أما ﴿اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾ فاعلم أنه لم يَعطف، إذ الوصلُ إنما هو بالتوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع. مع أن هذه الجملة بدلٌ بجهةٍ وتأكيدٌ بجهة، وهما من كمال الاتصال، وجوابُ سؤالٍ مقدَّر بجهة أخرى، وهو من كمال الانقطاع لخبَرية الجواب وإنشائية السؤال في الأغلب.. أمّا وجهُ التأكيد -ويقربُ منه البدل- فهو أن مآلها إهانةُ الحق وأهله فيكون تعظيماً للباطل وأهلِه، وهو مآل ﴿اِنَّا مَعَكُمْ﴾.. وأما وجهُ الجوابية للسؤال المقدّر فكأن شياطينَهم يقولون لهم: «إن كنتم معنا وفي مسلكنا فما بالكم توافقون المؤمنين؟ فإما أنتم في مذهبهم أو لا مذهبَ لكم» فاعتذَروا مجيبين بـ ﴿اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَفصرّحوا بأنهم ليسوا من الإسلام في شيء، وأشاروا بحصر ﴿اِنَّمَا﴾ إلى أنهم ليسوا مذبذبين بلا مذهب معلوم، وباسمية ﴿مُسْتَهْزِؤُ۫نَإلى أن الاستهزاء شأنُهم وصفتُهم. ففعلُهم هذا ليس بالجِدّ.

وأما جملة ﴿اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ فاعلم أنها لم توصَل بسوابقها بل فُصِلت فصلاً؛ لأنها لو عُطفت فإما على ﴿اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه أيضاً تأكيداً لـ
﴿اِنَّا مَعَكُمْ﴾.. وإما على ﴿قَالُٓوا﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه أيضاً مقولاً لهم.. وإما على ﴿قَالُٓوا﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه أيضاً مقيدةً بوقت الخلوة، مع أن استهزاءَ الله بالدوام.. وإما على ﴿وَاِذَا خَلَوْا﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه من تتمة صفة تذبذبهم.. وإما على
﴿إِذَا لَقُوا﴾ وهو يستلزم أن يكون الغرضُ منهما واحداً. مع أن الأول لبيان العمل، والثاني للجزاء، واللوازم باطلة، فالوصل لا يصحّ. فلَم يبقَ إلّا أن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر. ثم إن في هذا الاستيناف إيماءً ورمزاً إلى أن شناعتَهم وخباثتهم بلغت درجةً تُجبر روحَ كلِّ سامعٍ و راءٍ أن يسأل بـ«كيف جزاءُ مَن هذا عملُه؟».

ثم إن الافتتاح بلفظة ﴿اَللّٰهُ﴾ مع أن ذهن السامع كان منتظراً لتلقي مقابلة المؤمنين معهم، إشارةٌ إلى تشريف المؤمنين وترحّمه عليهم، إذ قد قابل بدلاً عنهم.. وأيضاً رمزٌ إلى زَجرهم؛ إذ لا يُستهزأ بمَن استناده بعلّام الغيوب.. وأيضاً إيماء بالاقتطاع وعدم النظر إلى تقرر استهزائهم، إلى أن استهزاءهم كالعدم بالنظر إلى جزائه.. ثم إن التعبير عن نكايات الله تعالى معهم بالاستهزاء -الذي لا يليق بشأنه تعالى- للمشاكلة في الصحبة، وللرمز إلى أن النكاية جزاءٌ للاستهزاء ونتيجة ولازمةٌ له، مع أن المراد لازمُ الاستهزاء، أعني التحقيرَ.. وأيضاً إيماء إلى أن استهزاءهم الذي لا يفيد، بل يضر عينُ استهزاء الله تعالى معهم؛ كمن يظن أنه يستهزئ مع أنك تراه كالمجنون، تريد أن يتكلم ولو بشتمك، لتضحك منه، فاستهزاؤه بعضُ استهزائك.

ثم في ﴿يَسْتَهْزِئُ﴾ مضارعاً مع أن السابق ﴿مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾ اسم فاعل، إشارة إلى أن نكايات الله تعالى وتحقيراته تتجدد عليهم ليحسّوا بالألم ويتأثروا به؛ إذ ما استمر على نسق يقلّ تأثيرُه بل قد يعدم. ولذا قيل: شرط الإحساس الاختلاف.

أما ﴿وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي توسّلوا بأسباب الضلالة وطلبوها فأعطاهم الله تعالى.. ففي لفظ «يَمُدُّ» رمز إلى ردّ الاعتزال، وفي تضمّن «يَمُدُّ» للاستمداد إيماءٌ إلى ردّ الجبر، أي اختاروا بسوء اختيارهم واستمدوا، فأمدّهم الله تعالى وأرخى عنانَهم.. وفي إضافة الطغيان إلى «هُمْ» (أي إن لهم فيه اختياراً) رمزٌ إلى ردّ عذرهم بالمجبورية.. وفي الطغيان إشارة إلى أن ضرَرهم متعدٍّ استغرق المحاسنَ كالسيل وهَدَم أساس الكمالات، فلم يبقَ إلّا غُثاءً أحوى.

و﴿يَعْمَهُونَ﴾ أي يتحيرون ويترددون. وفيه إشارة إلى أنه لا مسلك لهم وليس لهم مقصود معين.

* * *

الآية (13)

﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ اٰمِنُوا كَمَٓا اٰمَنَ النَّاسُ قَالُٓوا اَنُؤْمِنُ كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَٓاءُ وَلٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾﴾

اعلم أن وجه نظم هذا النوع بالنوع الأول: من حيث إنهما نصيحةٌ وإرشاد؛ عطف الأمر بالمعروف والتحلية والترغيب على النهي عن المنكر والتخلية والترهيب..

ومن حيث إنهما من الجناية؛ عطف تسفيههم للمؤمنين وغرورهم على إفسادهم، كما ربط إفسادهم بفسادهم اللاتي كلٌّ منها غصن من شجرة زقّوم النفاق.

وأما وجه النظم بين جمل هذه الآية فاعلم أنه لمّا قيل: ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ اٰمِنُوا كَمَٓا اٰمَنَ النَّاسُ﴾ وأُشير بهيئاتها إلى وجوب النصيحة على سبيل الكفاية بإيمان خالص اتّباعاً للجمهور الذين هم الناسُ الكُمّل ليأمرهم الوجدانُ دائماً بهذا الأمر، حكى وقال: ﴿قَالُٓوا اَنُؤْمِنُ كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ إشارةً إلى تمردهم وغرورهم ودعواهم أنهم على الحق كما هو شأنُ كلِّ مُبطل يرى باطلَه حقاً ويعلم جهلَه علماً؛ إذ بالنفاق تفسَّد قلبُهم، وبالفساد نشأ غرورٌ وميلُ إفساد، وبحكم التفسّد تمرّدوا، وبحكم الإفساد يقول بعضهم لبعض متناجياً بالإضلال، وبحكم الغرور يرَون شدة الديانة وكمالَ الإيمان المقتضيين للاستغناء والقناعة سفالةً وسفاهة وفقراً. ثم بحكم النفاق ينافقون في كلامهم هذا أيضاً؛ إذ ظاهرُه: كيف نكون كالسفهاء ولسنا مجانين ونحن أخيار كما تطلبون؟ وباطنُه: كيف نكون كالمؤمنين الذين أكثرهم فقراء، وهم في نظرنا سفهاء تحزّبوا من أوْباش الأقوام؟ وإليك التطبيق بين دقائق الجزئين من الشرطية.

ثم ألقَمهم الحجرَ بقوله: ﴿اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَٓاءُ﴾؛ إذ مَن كان متمرداً بهذه الدرجة وجاهلاً بجهله فحقُّهم الإعلان بين الخلق وتشهيرهم بانحصار السفاهة وأنه من الحقائق الثابتة، وأن تسفيهَهم لسفاهة نفسهم..

ثم قال: ﴿وَلٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ إشارة إلى أنهم جاهلون بجَهلهم فيكون جهلاً مركباً فلا يُجديهم النصيحةُ، فلابد أن يُعرَض عنهم صفحاً؛ إذ لا يَفهم النصيحةَ إلَّا مَنْ يعلم جهلَه.

وأما وجه النظم في هيئات كل جملة جملة:

ففي جملة: ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ اٰمِنُوا كَمَٓا اٰمَنَ النَّاسُ﴾ لفظ ﴿اِذَا﴾ بجزميته رمز إلى لزوم الإرشاد بالأمر بالمعروف.. وبناء المفعول في ﴿قيلَ﴾ إيماء إلى أن وجوبَ النصيحة على سبيل الكفاية كما مرَّ.

ولفظ ﴿اٰمِنُوا﴾ بدل «أخلِصوا في إيمانكم» إشارة إلى أن الإيمان بلا إخلاص ليس بإيمان.

ولفظ ﴿كَمَٓا اٰمَنَ﴾ تلويح بالأسوة الحسنة وحُسن المثال ليخلصوا على منواله.

وفي لفظ ﴿النَّاسُ﴾ نكتتان: وهما السبب في جعل الوجدان آمراً بالمعروف دائماً؛ إذ
﴿كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ يترشح بـ«فاتّبِعوا جمهور الناس» إذ مخالفةُ الجمهور خطأ من شأن القلب أن لا يُقدِم عليه، وأيضاً يلوّح بأنهم هم الناس فقط، كأن مَن عداهم ليسوا بإنسان إلّا صورةً، إما بترقي هؤلاء في الكمالات وانحصار حقيقةِ الإنسانية عليهم، وإما بتدني أُولئك عن مرتبة الإنسانية.

أما جملة : ﴿قَالُٓوا اَنُؤْمِنُ كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ التي مآلُها: «لا نقبل النصيحة، كيف نكون كهؤلاء الأذلّاء؛ إذ هم في نظرنا سفهاء ولا نُقاسُ نحن معاشر أهل الجاه عليهم».. ففي لفظ ﴿قَالُٓوا﴾ رمز إلى تبرئة النفس وترويج المسلك والاستغناء عن النصيحة والغرور والدعوى.. وفي لفظ ﴿اَنُؤْمِنُ﴾ بالاستفهام الإنكاريّ إشارة إلى شدة تمرّدهم في جهلهم المركب، كأنهم بصورة الاستفهام يقولون: «أيها الناصح راجعْ وجدانَك هل ترى إنصافَك يقبل ردّنا؟»

ثم إن في متعلق ﴿قَالُٓوا﴾ وجوهاً ثلاثة مترتبة؛ أي قالوا لأنفسهم، ثم لأبناء جنسهم، ثم لمرشدهم، كما هو شأن كل متنصّحٍ إذا نصحه الناصح، فأول الأمر يشاور مع نفسه، ثم يحاور مع أبناء جنسه، ثم يراجعك بنتيجة محاكمَتهم. فعلى هذا لمّا قيل لهم ما قيل راجَعوا قلوبَهم المتفسدة ووجدانَهم المتفسخ فأشارت عليهم بالإنكار، فقالوا مترجمين عما في ضميرهم، ثم راجَعوا بنظر الإفساد إلى إخوانهم، فأشاروا عليهم أيضاً بالإنكار فأخذوا بنجواهم ومحاورتهم، ثم رجعوا بطريق الاعتذار والسفسطة إلى الناصح فشاغَبوا وقالوا: «بيننا فرق لا نُقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون مجبورون فشدَّتُهم في الديانة وتصوّفُهم بالاضطرار. أما نحن فأهلُ عزة وجاه». فبحكم الغرور يحيلون الناصح على إنصافه. وبحكم الخداع والحيلة يتكلمون بكلام ذي لسانين، أي أيها المرشد! لا تظننا سفهاء، ولا نكون كالسفهاء في نظركم، بل نفعل كما يفعل المؤمنون الخلّص. مع أن مرادَهم باطناً: لا نكون كهؤلاء المؤمنين الفقراء؛ إذ لا اعتداد بهم في نظرنا. ففي هذا اللفظ رمز خفيّ إلى فسادهم وإفسادهم وغرورهم ونفاقهم..

﴿كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ أي الذين تظنونَهم الناسَ الكاملين هم في نظرنا أذلاءُ فقراء مجبورون مع كثرتهم، كلٌّ منهم سفيهُ قومٍ. ففي دعواهم الفرقَ في القياس إشارة إلى أن الإسلامية كهفُ المساكين وملجأ الفقراء وحاميةُ الحق وحافظة الحقيقة ومانعة الغرور وقامعةُ التكبّر، وما مقياس الكمال والمجد إلّا هي.. وأيضاً في الفرق إشارةٌ إلى أن سبب النفاق في الأغلب هو الغرضُ والغرور والتكبر كما يفسره: ﴿وَمَا نَرٰيكَ اتَّبَعَكَ اِلَّا الَّذينَ هُمْ اَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ (هود:27). وأيضاً في الفرق إشارةٌ خفية إلى أن الإسلامية لا تصير وسيلةَ التحكم والتغلب في أيدي أهل الدنيا والجاه؛ بل إنما هي واسطة لإِحقاق الحق في أيادي أهل الفقر والضرورة خلافَ سائر الأديان. ويشهد على هذه الحقيقة التاريخُ.

أما جملة ﴿اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَٓاءُ﴾ فاعلم أن القرآن إنما أكثرَ من التشديد والتشنيع على النفاق لأجل أن أكثر بليات العالم الإسلامي من أنواع النفاق.. ثم إن لفظ ﴿اَلَٓا﴾ للتنبيه وتشهير سفاهتهم على رؤوس الأشهاد، ولاستشهاد فكر العموم على سفاهتهم. وأصلُ معنى ﴿اَلَٓا﴾ ألا تعلمون أنهم سفهاء؟ أي فاعلموا.. ثم إن «إنَّ» مرآةُ الحقيقة ووسيلةٌ إليها، كأنه يقول: راجعوا الحقيقة لتعلموا أن سفسطتهم الظاهرية لا أصل لها. ثم لفظ «هُم» للحصر لردّ تبرئة أنفسهم، ودفع تسفيههم للمؤمنين الذي أشاروا إليه بـ ﴿كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾. أي إن السفيه مَن ترك الآخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون مَن اشترى الباقي بترك الهوسات الفانية. ثم إن الألف واللام في ﴿السُّفَهَٓاءُ﴾ لتعريف الحُكم أي معلومٌ أنهم سفهاء. وللكمال أي كمال السفاهة فيهم.

أمّا: ﴿وَلٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ففيه إشارات ثلاث:

إحداها: أنَّ تمييز الحق عن الباطل وتفريقَ مسلك المؤمنين عن مسلكهم محتاجٌ إلى نظر وعلم، بخلاف إفسادهم وفتنتهم، فإنه ظاهر يُحِسُّ به مَن له أدنى شعور. ولهذا ذيّل الآية الأولى بـ ﴿وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

والثانية: أنّ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ وأمثالَها من فواصل الآيات، مِن ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ و(لَا يَتَفَكَّرُونَ) و(لَا يَتَذَكَّرُونَ) وغيرها تشير إلى أن الإسلامية مؤسسةٌ على العقل والحكمة والعلم. فمن شأنها أن يقبلَها كلُّ عقل سليم لا كسائر الأديان المبنية على التقليد والتعصب. ففي هذه الإشارة بشارة كما ذُكرت في موضع آخر.

والثالثة: الإعراض عنهم وعدم الاهتمام بهم، إذ النصيحة لا تجديهم، إذ لا يعلمون جهلَهم حتى يتحرّوا زوالَه.

* * *

الآية (11-12)

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿11﴾ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿12﴾﴾

اعلم أن وجه نظم هذه الآية بما قبلها هو أنَّ الله تعالى لمّا ذكر الأُولى من الجنايات الناشئة عن نفاقهم وهي ظلمُهم أنفسَهم وتجاوزُهم على حقوق الله تعالى بنتائجها المتسلسلة المذكورة، عقّبها بثانيةِ الجنايات؛ وهي تجاوزُهم على حقوق العباد وإيقاعُهم الفساد بينهم مع تفرعاتها..

ثم إن ﴿اِذَا قيلَ﴾ كما أنه مربوط باعتبار القصة بـ ﴿يَقُولُ﴾ في ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ وباعتبار المآل بـ ﴿يُخَادِعُونَ﴾؛ كذلك يرتبط باعتبار نفسه بـ ﴿يَكْذِبُونَ﴾.
وتغير الأسلوب من الحَمْلية إلى الشرطية أمارة ورمزٌ خفي إلى مُقدَّر بينهما، كأنه يقول: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾؛ إذ إذا كذبوا فتنوا، وإذا فتنوا أفسدوا، وإذا نوصحوا لم يقبلوا، ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا…﴾ الخ.

وأما وجه النظم بين الجمل الصريحة والضمنية في هذه الآية فهو عينُ النظم والربط في ما أمثّل لك وهو أنك إذا رأيت أحداً يسلك في طريق تنجرّ إلى هلاكه، فأولاً تنصحه قائلا له: «مذهبُك هذا ينهار بك في البوار فتجنَّب». وإن لم ينتهِ بنُهاه، تعُود عليه بالزّجر والنهي والنعي وتؤيّد نهيَك وتديمُه في ذهنه إما بتخويفه بنفرةِ العموم، وإما بترقيق قلبه بالشفقة الجنسية كما سيأتيك بيانُهما. فإن كان ذلك الشخص متعنتاً لَجوجاً مُصرّاً ألدَّ راكباً متنَ الجهل المركّب فهو لا يسكت، بل يدافع عن نفسه، كما هو شأنُ كل مفسد يرى فسادَه صلاحاً؛ إذ الإنسانيةُ لا تُخلّى أن يرتكب الفسادَ من حيث هو فساد. ثم يستدِل ويدّعي بـ«أن طريقي هذا حق، ومعلوم أنه كذلك؛ فلا حقّ لك في النصيحة فلا احتياج إلى نصيحتك، بل أنت محتاج إلى التعلّم، فما السبيل السويّ إلّا سبيلُنا، فلا تعرّض بوجود طريقٍ أصوبَ». وإن كان ذلك الشخص اللجوج ذا الوجهين يكون كلامُه ذا اللسانين؛ يداري الناصحَ لإلزامه بوجهٍ، ويتحفظ على مسلكه بآخر، فيقول: أنا مصلحٌ أي ظاهراً كما تطلُب، وباطناً كما أعتقد.. ثم من شأنه تأييد وتأكيد دعواه بأن الصلاح من صفتي المستمرة، لا أني كنتُ صالحاً الآن بعد فسادي قبلُ.. ثم إذا كان ذلك الشخصُ متمردا ومُتَنَمِّراً ومصرّاً في نشر مذهبه، وترويجِ مسلكه، وتزييفِ ناصحه وتعريضِ أهل الحق بهذه الدرجة، ظهر أنه لا يجدي له دواءٌ، ولم يبقَ إلا آخرُ الدواء، أعني المعالجةَ لعدم السراية. وما هذه المعالجة إلّا تنبيهُ الناس وإعلامُهم بأنه مفسدٌ لا صلاحَ فيه؛ إذ لا يستعمِل عقلَه ولا يستخدم شعورَه حتى يحس بهذا الشيء الظاهر المحسوس.

فإذا تفهّمتَ الحلقات المُسرَّدة في هذا المثال تفطنتَ ما بين الجمل المنصوصة والمرموزة إليها بالقيود، في ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ﴾ إلى آخره. فإن فيما بينها نظماً فطرياً بإيجاز يحمرّ من تحته الإعجاز.

وأما نظم هيئات كل جملةٍ جملةٍ:

فاعلم أن جملة ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْاَرْضِ﴾

القطعيةُ في ﴿اِذَا﴾ إشارةٌ إلى لزوم النهي عن المنكر ووجوبه..

وبناء المفعول في ﴿قيلَ﴾ رمز إلى أن النهي فرضُ كفاية على العموم..

وفي لام ﴿لَهُمْ﴾ إيماء إلى أن النهي لابد أن يكون على وجه النصيحة دون التحكم، والنصيحة على وجه اللطف دون التقريع..

و ﴿لَا تُفْسِدُوا﴾ فذلكةٌ وخلاصة لصورة قياس استثنائي أي لا تفعلوا هكذا، وإلّا نشأ منه الهَرْج والمَرْج، فينقطع خيطُ الإطاعة، فيتشوش نظام العدالة، فتنحلّ رابطة الاتفاق، فيتولد منه الفسادُ، فلا تفعلوا لئلا تفسدوا..

ولفظ ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ تأييدٌ وتأكيد للنهي وإدامةٌ للزجر، إذ نهيُ الناصح موقتٌ لابد من إدامته في ذهن المنصوح بتوكيل وجدانه ليزجرَه دائما من تحته. وهو إما بتحريك عِرق الشفقة الجنسية، وإما بتهييج عرق التنفُّر من نفرة العموم.. و﴿فِي الْاَرْضِ﴾ هو الذي يوقظ العِرقَين وينعشهما؛ إذ لفظ ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ يناجيهم بأن فسادكم هذا يسري إلى نوع البشر فأيُّ حقدٍ وغيظ لكم على جميع الناس الذين فيهم المعصومون والفقراء والذين لا تعرفونهم، أفلا تتوجعون لهم ولِمَ لا تترحّمون بهم؟ هب أن ليست لكم تلك الشفقة الجنسية، فلا أقلَّ من أن تلاحظوا أن حركتكم هذه تجلب عليكم معنى نَفرة العموم.

 فإن قلت: أيّ غرض لهم بالعموم وكيف ينجرّ فسادُهم إلى الكل؟

قيل لك: كما أن من نظر بمرآة البصرِ السوداءِ رأى كلَّ شيء أسودَ قبيحاً. كذلك من احتجبت بصيرتُه بالنفاق وفسَد قلبُه بالكفر رأى كل شيء قبيحاً مبغوضاً، (و) يحصل في قلبه عنادٌ وحقد مع كل البشر بل كل الكائنات.. ثم كما أن انكسار سنٍّ من جَرْخٍ من دولابٍ من ساعة يتأثر به الكلُّ كلياً أو جزئياً؛ كذلك بنفاق الشخص يتأثر نظامُ هيئة البشر التي انتظمت بالعدالة والإسلامية والإطاعة. فأسفاً قد تظاهرت سمومُهم المتسلسلة حتى أنتجت هذه السفالة.

وأما جملة: ﴿قَالُٓوا اِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ففي ﴿قَالُٓوا﴾ بدلَ «لا يقبلون النصيحة» الظاهرِ من السياق إشارة إلى أنهم يدّعون ويَدْعون إلى مسلكهم.

وفي ﴿اِنَّمَا﴾ خاصيتان:

الأولى: أن مدخوله لابد أن يكون معلوماً حقيقةً أو ادّعاءً. ففيها رمز إلى تزييف الناصح وإظهار ثباتهم على جهلهم المركب.

والثانية: الحصر، ففيها إشارة إلى أن صلاحهم لا يشوبُه فسادٌ فليسوا كغيرهم؛ ففي الإشارة رمز إلى التعريض بالمؤمنين.

وفي اسميّة ﴿مُصْلِحُونَ﴾ بدلَ «نصلح» إشارة إلى أن الصلاحَ صفتُنا الثابتة المستمرة. فحالنا هذه عين الإصلاح بالاستصحاب.. ثم إنهم ينافقون في هذا الكلام أيضاً، إذ يَتَبَطَّنون خلاف ما يُظهرون، فباطناً يدعون فسادهم صلاحاً وظاهراً يُرَاؤُونَ أن عملَهم لصلاح المؤمنين ومنفعتهم.

وأما جملة ﴿اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فاعلم أنهم لمّا أدرجوا في معاطف الجملة السابقة معاني: من ترويج مسلكهم ودعوى ثبوت الصلاح لهم، وأن الصلاح صفتُهم المستمرة.. وأنهم منحصرون عليه.. وأن الفساد لا يشوب صلاحَهم.. وأن هذا الحكم ظاهر معلوم.. ومن تعريضهم بالمؤمنين ومن تجهيلهم للناصح؛ أجابَهم القرآنُ بهذه الجملة المتضمنة لأحكامٍ من إثبات الفساد لهم، وأنهم متحدون مع حقيقة المفسدين.. وأن الفساد منحصر عليهم.. وأن هذا الحكم حقيقة ثابتة.. ومن تنبيه الناس على شناعتهم.. ومن تجهيلهم بنفي الحس عنهم كأنهم جمادات.

وإن شئت فانظر إلى ﴿اَلَٓا﴾ التي للتنبيه كيف تزيِّف بتنبيهها ترويجَهم الناشئ من دعواهم المترشحَ من ﴿قَالُٓوا﴾.. وإلى ﴿اِنَّا﴾ التي للتحقيق كيف تردّ دعواهم المعلومية بـ ﴿اِنَّمَا﴾، كأن ﴿اِنَّا﴾ تقول: حالُهم في الحقيقة والباطن فسادٌ، فلا يجديهم الصلاحُ ظاهراً.. وإلى الحصر في ﴿هُم﴾ كيف يقابل تعريضَهم الضمنيّ في ﴿اِنَّمَا﴾ و﴿نَحْنُ﴾.. وإلى تعريف ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ -الذي معناه حقيقة المفسدين تُرى في ذاتهم فهُم هي- كيف يدافع حصرَهم المستفاد من ﴿اِنَّمَا﴾ أيضاً.. وإلى ﴿وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ كيف يدافع تزييفهم الناصح وأنهم ليسوا مستحقين للنصيحة بدعوى المعلومية. فتأمل!

* * *

الآية (9-10)

﴿يُخَادِعُونَ اللّٰهَ وَالَّذينَ اٰمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ اِلَّٓا اَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴿10﴾﴾

اعلم أن وجهَ النظم: إشاراتُ جُمَلها: إلى التوبيخ على النفاق.. ثم تشنيعُه.. ثم تقبيحُهم.. ثم التهديدُ عليه.. ثم ترهيبُهم.. ثم التعجُّب منهم.. ثم بيانُ مقصدهم من قولهم المذكور.. ثم بيانُ علّة قولهم.. ثم بيانُ أولِ الجنايات الأربع الناشئةِ من النفاق وهي الخداعُ، والإفساد، وتسفيهُ المؤمنين، والاستهزاءُ بهم.. ثم تمثيلُ جناياتِهم وحيَلهم بأسلوبِ استعارةٍ تمثيلية هكذا: بأن صوّر معاملتَهم مع أحكامِ الله تعالى ومع النبي عليه السلام والمؤمنين -بإظهارهِم الإيمانَ لأغراضٍ دنيوية مع تبطّن الكفر- ومعاملةَ الله والنبي والمؤمنين معهم -بإجراء أحكام المؤمنين عليهم استدراجاً، مع أنهم أخبثُ الكفَرة عند الله- بصورة خداعِ شخصين، أو الصياد مع الصيد الذي يُحِسّ الصياد بالخروج عن القاصعاء ثم يفرّ من النافقاء.

أما نظمُ جُمل الجناية الأولى من ﴿يَخْدَعُونَ﴾ إلى ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ فانظر إلى ما تضمنت من النتائج المتسلسلة المترتبة في الجُمل السبع، وهي: تحميقُهم بطلب المُحال.. ثم تسفيهُهم بإضرار أنفسهم بنيّة المنفعة.. ثم تجهيلُهم بعدم التمييز بين الضرّ والنفع.. ثم ترذيلُهم بخبث الطينة ومرضِ معدن الصحة وموتِ منبع الحياة.. ثم تذليلُهم بتزييد المرض في طلب الشفاء.. ثم تهديدُهم بألمٍ محض يولّد ألماً صرفاً.. ثم تشهيرُهم بين الناس بأقبح العلامات، أعني الكذب.

وأما اتّساقُ وانتظام تلك الجمل السبع وانصباب الحُكم فيما بينها فهو أنك كما إذا أردتَ زجْرَ واحد عن شيءٍ ونُصحَه، تقول له أولاً: يا هذا! إنْ كان لك عقلٌ فهذا محال.. ثم إن كنت تحب نفسَك فهذا يضرّها.. ثم إن كان لك حسٌّ فلِمَ لا تميّز بين الضر والنفع؟. ثم إن لم يكن لك اختيارٌ فلا أقل من أن تعرف فسادَ سجيتك، وفيها مرضٌ يحرِّف الحقيقة، ويريك الحُلوَ مُراً.. ثم إن تطلب الشفاء فهذا يزيد مرضَك ولا يشفي، مثلُك كمثل مَن ابتُلى بداء السهَر فاجتهد في النوم فانتج له قلقا طيّر نعاسَه أيضاً، أو كمن أُصيب قلبُه بداء «المَرَق»

فاغتمّ لوجود المصيبة حتى صيَّر المصيبة مصيبتين.. ثم إن تتحرَّ اللذةَ فهذا فيه ألمٌ شديد ينتج ألماً أشدَّ، ليس كأمثاله التي فيها لذةٌ مزخرفة.. ثم إنْ لم تنتبه ولم تنـزجر لا يبقى إلّا أن يُوسمَ على خرطومِك بوَسمٍ قبيح، وتُعلَن بين الناس لِمنع سرايةِ فسادِك إلى الناس.

كذلك إن الله تعالى قال لزجر المنافقين: ﴿يُخَادِعُونَ اللّٰهَ﴾ بدل «يخادعون النبيّ» لتحميقهم، أي كيف يخادعون النبيّ عليه السلام والنبيُّ مبلِّغٌ عن الله تعالى، فحيلتُهم راجعة إلى الله، والاحتيال مع الله تعالى محالٌ، وطلبُ المحال حُمقٌ. ومِثل هذا الحُمق مما يُتعجَّب منه.

ثم أتبعه ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ اِلَّٓا اَنْفُسَهُمْ﴾ لتسفيههم، أي ليس في فعلكم نفعٌ بل فيه ضرر، وضررُه يعود على أنفسكم، فكأنكم تخادعون أنفسكم.. ثم عقّبه ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ لتجهيلهم أي أيّها الجهلاء! قد صرتم أضلَّ من الحيوان، كالأحجار الجامدة لا تحسّون بالفرق بين الضر والنفع.

ثم أردفه ﴿في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ لترذيلهم بانفساد الجوهر، أي إنْ لم يكن لكم اختيارٌ فلا أقلَّ من أن تعرفوا المرض مرضاً، وأن سجيتكم فسدَت. وأن النفاق والحسد مرضٌ في الروح، من شأنه تحريفُ الحقيقة وتغييرُها حتى تظنون الحلو مراً والمرَّ حلواً والسوداء بيضاء والأبيض أسودَ فلا تتبعوه.

ثم زاد ﴿فَزَادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضًا﴾ لتذليلهم، أي إن كنتم تطلبون بهذا الدواءَ والتشفّيَ من غيظكم وحسَدكم فهذا داءٌ لا يزيدُكم إلَّا مرضاً على مرض. فأنتم كمَن كَسرَ أحدٌ يدَه فأراد الانتقام فضرَبَه بتلك اليد المكسورة فازداد كسراً على كسرٍ.

ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ﴾ لتهديدهم، أي إن تتحرَّوا اللذةَ فما نفاقُكم هذا إلَّا فيه ألمٌ شديد عاجل يُنتج ألماً أشدَّ آجلاً، ليس كسائر المعاصي التي فيها نوعٌ من اللذة السفلية العاجلة.

ثم أتمَّه بقول: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ لِتَوسيمهم بأشنع الوَسْم، أي إن لم تنتبهوا ولم تنتهوا لم يبقَ إلّا أن تُشَهَّروا بين الناس بالكذب المانع للاعتماد لئلّا يتعدى مرضُكم.

أما وجهُ النظم بين أجزاء كلِّ جملة:

ففي الأولى: أعني جملة ﴿يُخَادِعُونَ اللّٰهَ وَالَّذينَ اٰمَنُوا﴾ هو أنَّ في التعبير عن عملهم بالخداع مع المُضارِعيّة، لاسيما من باب المشاركة، خصوصاً مع إقامة لفظة ﴿اللّٰهَ﴾ مقام النبيّ وإقامة ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ مقام «المؤمنين» تنصيصاً وتصريحاً بمُحاليّة غرضهم من حيلتِهم، وجعل المُحالية نصبَ العين بصورة تتنفّر عنها النفوسُ وترتعدُ، إذ فيما في الخداع من الاستعارة التمثيلية ما يوقظ النفرةَ.. وفيما في المضارعية من التصوير مع الاستمرار ما يَشْمَئِزُّ منه القلب.. وفيما في المشاركة من المشاكلة نظِير: ﴿وَجَزٰٓؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ (الشورى:40) ما ينتج عدم إنتاج حيلتهم؛ إذ في باب المشاركة فعلُ الفاعل سببٌ لفعل المفعول، وهنا فعلُ المفعول صار سبباً لعُقم خداع الفاعل وعدمِ تأثيره، بل جُعل الخداعُ صورةً واهية كانعكاس المقصد؛ فيما إذا استَهزيتَ بأحدٍ لجهلِه، مع أنه مستبطنٌ علماً ومستَخفٍ استهزاءً بك.. وفيما في التصريح بلفظة ﴿اللّٰهَ﴾ من التنصيص على مُحالية الغرض -إذ خداع النبي عليه السلام ينجر إليه تعالى- ما يشبط العقلَ عن الحيلةِ.. وما في ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ من جعل الصلة مداراً، إشارة إلى أن المنافقين يتحببون إليهم بصفة الإيمان ويهيِّجون عِرق إيمانهم للتحبب والتداخل فيهم.. وفيه إيماء أيضاً إلى أن جماعة المؤمنين المنوَّرين عقولُهم بنور الإيمان لا تتستر عنهم الحيلةُ فينتج أيضاً عُقمَ حيلتهم..

وفي الثانية: أعني جملة ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ اِلَّٓا اَنْفُسَهُمْ﴾ هو أنَّ في هذا الحصر إشارةً إلى كمال سفاهتهم بعكس العمل في معاملتهم كمَن رمى حجراً إلى جدار فانثنى لكسرِ رأسه؛ إذ رشوا النبالَ لضرر المؤمنين فأُصيبَت أنفسُهم، فكأنهم يخادعون بالذات ذواتِهم..

وفي تبديل «يضرون» بـ ﴿يَخْدَعُونَ﴾ إشارة إلى نهاية سفاهتهم، إذ يوجد في أهل العقل مَن يضرّ نفسه قصداً ولا يوجد من يخادع نفسه عمداً إلَّا أن يكون حماراً في صورة إنسان.

وفي عنوان ﴿اَنْفُسَهُمْ﴾ رمزٌ خفي إلى أن نفاقَهم وحيلتهم لمّا كان لحظٍّ نفسانيّ وغرض نفسيّ أنتج نقيض مطلوبهم لنفسهم.

 إن قلت: هذا الحصر يومئ إلى أن خداعهم ما ضرّ الإسلام والمسلمين، مع أن الإسلام ما رأى من شيءٍ ضرراً مثل ما رأى من أنواع النفاق وشُعُباته المنتشرة كالسُّم في عناصر العالم الإسلاميّ؟

قيل لك: وما تراه من الضرر المتعدي والسمّ الساري إنما هو من طبيعتهم المتفسدة وفطرتِهم المتفسخة ووجدانِهم المتعفن نظيرَ سرايةِ المرض؛ وليس نتيجةَ حيلتهم وخداعهم باختيارهم إذ يريدون خداع الله والنبيّ وجماعة المؤمنين، والله عالمٌ بكل شيء والنبي عليه السلام يوحى اليه، وجماعة المؤمنين لا تستطيع الحيلةُ أن تتستر عنهم مدة مديدة فهم لا ينخدعون. فثبت أنهم لا يخدعون إلّا أنفسهم فقط.

وفي الثالثة: أعني جملة ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي لا يحسون، هو أن في هذه الفذلكة تجهيلا أيَّ تجهيل لهم، لأنها تُشعر بأنهم إن كانوا عقلاء فهذا ليس من شأن العقل، وإن كانوا حيوانات يتحركون بمَيل نفسانيّ فشأنهم أن يحسوا ويشعروا بمثل هذا الضرر المحسوس. فثبت أنهم صاروا مثل جمادات لا اختيار لها.

وفي الرابعة: أعني جملة ﴿في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هو أنَّ سَوقها يفيد أنهم لمّا لَم يعملوا بمقتضى المحاكمة العقلية والشعورِ الحسيّ ظهر أن في روحهم مرضاً فلا أقلَّ من أن يعرفوا أنه مرضٌ ليجتنبوا عن القضايا ولا يحكموا عليها؛ إذ من شأن المرض تغييرُ الحقيقةِ وتشويهُ المزيّن وتحليةُ المُرِّ كما مر..

وفي لفظ ﴿في﴾ رمز إلى أن حسدَهم وحقدهم مرض في ملكوت القلب وهي اللطيفةُ التي مرّ ذكرها..

وفي عنوان «القلب» إشارة إلى أنه كما أن جسمَ القلب إذا مرض اختلَّ جميعُ أفعال البدن؛ كذلك إذا مرض معنى القلب بالخداع والنفاق انحرف كلُّ أفعالِ الروح عن منهج الاستقامة إذ هو منبع الحياة ومَاكِنَتُها..

وفي تقديم ﴿في قُلُوبِهِمْ﴾ على ﴿مَرَضٌ﴾ إيماءٌ إلى الحصر بجهتين، ومن الإيماء إشارةٌ بطريق التعريض إلى أن الإيمان نور، شأنه أن يعطي لجميع أفعال الإنسان وآثاره صحةً واستقامةً.. وأيضاً في إيماء الحصر رمز إلى أن الفساد في الأساس فلا يجدي تعميرُ الفروعات.

وفي لفظ «المرض» رمز إلى قطع عذرهم وإلقامهم الحجر بأنّ الفطرةَ مهيأةٌ للحقيقة. وما الفساد والخراب إلّا مرض عارض..

وفي تنوين التنكير إشارة إلى أنه في مكمن عميق لا يُرى حتى يُداوى.

وفي الخامسة: أعني جملة ﴿فَزَادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضًا﴾ هو أنهم حينما لم يعرفوا أنه مرض حتى يتجنبوا منه بل طلبوه مستحسنين له زادَهم الله تعالى؛ إذ «مَن طلب وَجَدَ»..

وفي «الفاء» التي هي للتعقيب السببي -مع أن وجود المرض ليس سببا لزيادته- رمزٌ إلى أنهم لمّا لم يشخّصوا المرض فلم يتحرَّوا وسائلَ الشفاء بل توسلوا بأسباب الزيادة كمن يضارب خصماً غالباً بيده العليلة، صاروا كأنهم طلبوا الزيادة فزادهم الله مرضاً بقلبِ أمَلِهم يأساً مزعجاً، بسبب ظفر المؤمنين، وقلبِ خصومَتهم حقداً مُحرقاً للقلب بسبب غلبةِ المؤمنين، فتولّد من مرضَي اليأس والحقد داءُ الخوف وعلّة الضعف ومرضُ الذلة، فاستولت على القلب.

ثم إن الله تعالى لم يقل: «فزاد الله مرضهم» بل جعل المفعولَ تمييزاً للإشارة إلى أن المرض الباطنيّ القلبيّ سرى إلى الظاهر أيضاً وتعدى إلى جميع الأفعال، فكأن هذا الداءَ الخبيث استولى على وجودهم فكأن وجودَهم نفسُ الداء، فزيادةُ جراحاتِ المرض ونفطاتِه زيادةٌ لنفس ذواتهم؛ إذ «اشْتَعَلَ الْبَيْتُ ناراً» يفيد أن النار سرت إلى تمام البيت حتى كأن تمام البَيت نارٌ تلتهب، بخلاف «اشتعلتْ نَارُ الْبَيْتِ» فإنه يصدق بتلهُّب النار من أيّ جانب كان.

وفي السادسة: أعني جملة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ﴾ هو أن «اللام» التي هي للنفع إشارة إلى أنه لو كان لهم منفعةٌ لكانت البتةَ ألماً معذِّباً دنيوياً، أو عذاباً أُخروياً مؤلماً، وكونُه منفعةً من المحال، فمحالٌ لهم المنفعة.. وفي وصف العذاب بالأليم أي المتألِم، مع أن الأليم هو الشخص رمزٌ إلى أن العذاب استولى على وجودهم وأحاط بذواتهم ونفذ في بواطنهم بحيث تحولوا بنفس العذاب، وصار العذابُ عينَ ذواتهم، كانقلاب الفحم جمرةَ نار بنفوذ النار. فإذا نظر الخيال إلى صورة العذاب واستمع من جوانبه أنيناً وتألماً وعويلاً تتولد من الحياة المتجددة تحت العذاب، يتخيل أن العذاب هو الذي يئنّ ويتألّم. فما أشدَّ التهديد لمَن تأمل!

وفي السابعة: أعني جملة ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ هو أن في تعليق العذاب من بين جناياتهم المذكورة بالكذب فقط، إشارةً إلى شدة شناعة الكذب وقبحِه وسماجتِه. وهذه الإشارة شاهدُ صدق على شدة تأثير سمّ الكذب؛ إذ الكذبُ أساس الكفر، بل الكفرُ كذبٌ ورأس الكذب، وهو الأُولى من علامات النفاق. وما الكذب إلا افتراء على القدرة الإلهية، وضدٌّ للحكمة الربانية.. وهو الذي خرّب الأخلاق العالية.. وهو الذي صيّر التشبثات العظيمة كالشبحات المُنتنة.. وبه انتشر السمُّ في الإسلام.. وبه اختلت أحوالُ نوع البشر.. وهو الذي قيّد العالم الإنساني عن كمالاته، وأوقفه عن ترقياته.. وبه وقع أمثال «مسيلمة الكذاب» في أسفل سافلي الخسةِ.. وهو الحمل الثقيل على ظهر الإنسان فيعوِّقُه عن مقصوده.. وهو الأب للرياء والأم للتصنع.. فلهذه الأسباب اختص بالتلعين والتهديد والنعي النازل من فوق العرش..

فيا أيّها الناس! لاسيما أيّها المسلمون! إن هذه الآية تدعوكم إلى الدّقّة!

 فإن قلتم: إن الكذب للمصلحة عفوٌ؟

قيل لكم: إذا كانت المصلحةُ ضروريةً قطعية، مع أنه عذر باطل؛ إذ تقرر في أصول الشريعة: «إن الأمر الغير المضبوط (أي الذي لا يتحصّل) -بسبب كونه قابلاً لسوء الاستعمال- لا يصير علةً ومداراً للحكم»، كما أن المشقة لعدم انضباطها ما صارت علةً للقَصر، بل العلةُ السفرُ. ولئن سلّمنا فغلبةُ الضرر على منفعة شيء تفتي بنَسخه وتكون المصلحةُ في عدمه. وما ترى من الهَرْج والمَرْج في حال العالَم شاهدٌ على غلبة ضرر عذر المصلحة. إلّا أن التعريض والكناية ليسا من الكذب. فالسبيل مَثْنَى: إما السكوت؛ إذ «لا يلزم من لزومِ صدقِ كلِّ قولٍ قولُ كلِّ صدق». وإما الصدق؛ إذ الصدق هو أساس الإسلامية، وهو خاصة الإيمان، بل الإيمان صدقٌ ورأسه.. وهو الرابط لكل الكمالات.. وهو الحياة للأخلاق العالية.. وهو العِرق الرابط للأشياء بالحقيقة.. وهو تجلّي الحق في اللسان.. وهو محور ترقي الإنسان.. وهو نظام العالم الإسلامي.. وهو الذي يُسرِع بنوع البشر في طريق الترقي -كالبرق- إلى كعبة الكمالات.. وهو الذي يصيّر أخمدَ الناس وأفقرَه أعزّ من السلاطين.. وبه تَفوَّق أصحابُ النبيّ عليه الصلاة والسلام على جميع الناس.. وبه ارتفع «سَيّدُنا محمد الهاشميّ» عليه الصلاة والسلام إلى أعلى عليي مراتبِ البشر.

* * *

الآية (8)

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ اٰمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْاٰخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَۢ ﴿8﴾﴾

وجه النظم:  أنه كما يُعطَف المفردُ على المفردِ للاشتراك في الحُكم، والجملةُ على الجملةِ للاتحاد في المقصِد؛ كذلك قد تُعطَف القصةُ على القصة للتناسب في الغَرَض. ومن الأخير عطفُ قصةِ المنافقين على الكافرين. أي عطفُ ملخّص اثنتي عشرة آية على مآل آيتين؛ إذ لما افتتح التنـزيلُ بثناء ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ﴾ فاستتبع ثمراتِ ثنائه من مدح المؤمنين، فاستردف ذمَّ أضدادهم بسرّ «إنما تُعرف الأشياءُ بأضدادها»، ولِتَتم حكمةُ الإرشاد… ناسَبَ تعقيبُ المنافقين تكميلاً للأقسام.

 إن قلت: لِمَ أوجزَ في حق الكافرين كفراً محضاً بآيتين وأطنب في النفاق باثنتي عشرة آية؟

قيل لك: لنكاتٍ؛

منها: أنَّ العدُوّ إذا لم يُعْرَف كان أضرَّ. وإذا كان مُخَنّساً كان أخبثَ. وإذا كان كذاباً كان أشدَّ فساداً. وإذا كان داخلياً كان أعظمَ ضرراً؛ إذ الداخليُّ يفتّت الصلابةَ ويشتِّت القوةَ بخلاف الخارجي فإنه يتسبب لتشدّد الصلابة العصبية. فأسفاً! إن جنايةَ النفاق على الإسلام عظيمةٌ جداً. وما هذه المُشَوَّشِيَّة إلّا منه. ولهذا أكثَر القرآنُ من التشنيع عليهم.

ومنها: أن المنافق لاختلاطه بالمؤمنين يَستأنس شيئاً فشيئاً، ويألَف بالإيمان قليلاً قليلاً، ويستعدّ لأن يتنفّر عن حال نفسِه بسبب تقبيح أعماله وتشنيع حركاته؛ فتتقطرُ كلمةُ التوحيد من لسانه إلى قلبه.

ومنها: أن المنافق يزيد على الكفر جناياتٍ أُخَر كالاستهزاءِ والخداع والتدليس والحيلة والكذب والرياء.

ومنها: أن المنافق في الأغلب يكون من أهل الكتابِ ومن أهل الجَرْبَزَة الوهمية فيكون حَيّالاً دسّاساً ذا ذكاء شيطانيّ، فالإطنابُ في حقّه أعرقُ في البلاغة.

أما تحليل كلمات هذه الآية، فاعلم أن ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ خبرٌ مقدَّم لـ ﴿مَنْ﴾ على وجهٍ.

 إن قلت: كون المنافق إنساناً بديهيٌّ…؟

قيل لك: إذا كان الحُكم بديهياً يكون الغرضُ واحداً من لوازمه، وهنا هو التّعجيب. كأنه يقول: كونُ المنافق الرذيل إنساناً عجيبٌ؛ إذ الإنسان مكرّم، ليس من شأنه أن يتنـزّل إلى هذه الدَرَكة من الخِسّة.

 إن قلت: فَلِمَ قدَّم؟

قيل لك: من شأن إنشاء التعجّبِ الصدارةُ، وليتمركز النظرُ على صفة المبتدأ التي هي مناطُ الغرض وإلّا لانتظرَ ومرَّ إلى الخبر.

ثم إن عنوان ﴿النَّاسِ﴾ يترشح منه لطائف:

منها: أنه لم يفضَحهم بالتعيين، بل ستَرَهم تحت عنوان ﴿النَّاسِ﴾ إيماءً إلى أن سَترَهم وعدمَ كشف الحجاب عن وجوههم القبيحة أنسبُ بسياسة النبيّ عليه السلام؛ إذ لو فضَحَهم بالتشخيص لتوَسوَس المؤمنون؛ إذ لا يُؤْمَن من دسائس النفس. والوسوسةُ تنجرُّ إلى الخوف، والخوفُ إلى الرياء، والرياء إلى النفاق.. ولأنه لو شنّعَهم بالتعيين لقيل: إن النبي عليه السلام متردّدٌ لا يثقُ بأتباعِه.. ولأن بعضاً من الفساد لو بقيَ تحت الحجاب لانطفأ شيئاً فشيئاً واجتَهد صاحبُه في إخفائه ولو رُفع الحجاب -فبناءً على ما قيل «إِذا لمْ تسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ»- لَيقولُ: فليكن ما كان، ويأخذ في النشر ولا يبالي.

ومنها: أن التعبير بـ ﴿النَّاسِ﴾ يشير إلى أنه مع قطع النظر عن سائر الصفات المنافية للنفاق فأعَمُّ الصفات، -أعني «الإنسانية»- أيضاً منافيةٌ له؛ إذ الإنسانُ مكرَّم ليس من شأنه هذه الرَذالة.

ومنها: أنه رمزٌ إلى أن النفاق لا يختصُّ بطائفةٍ ولا طبقة، بل يوجد في نوع الإنسان أيةَ طائفةٍ كانت.

ومنها: أنه يُلَوِّح بأن النفاق يُخِلّ بحيثية كلِّ مَن كان إنساناً فلابد أن يتحرك غضبُ الكل عليه، ويتوجّه الكلُّ إلى تحديده، لئلا ينتشر ذلك السُّمُّ؛ كما يُخِلُّ بناموس طائفةٍ ويهيِّج غضبَهم شناعةُ فرد منهم.

وأما ﴿مَنْ يَقُولُ اٰمَنَّا﴾

 فإن قلت: لِمَ أفردَ ﴿يَقُولُ﴾ وجمع ﴿اٰمَنَّا﴾ مع أن المرجِع واحد؟

قيل لك: فيه إشارة إلى لطافةٍ ظريفة هي: إظهارُ أن المتكلمَ مع الغير متكلمٌ وحدَه فـ ﴿يَقُولُ﴾: للتلفظ وحدَه و﴿اٰمَنَّا﴾ لأنه مع الغير في الحُكم.. ثم إن هذا حكايةٌ عن دعواهم ففي صورة الحكاية إشارةٌ إلى ردّ المَحكيّ بوجهين، كما أن في المَحكيّ إشارةً إلى قوته بجهتين؛ إذ ﴿يَقُولُ﴾ يرمز بمادَّته إلى أن قولَهم ليس عن اعتقادٍ وفعلٍ، بل يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.. وبصيغته يومئ إلى أن سببَ استمرار مُدافعَتهم وادعائهم مُراءاة الناس لا مُحرّك وجداني.. وفي الدعوى إيماءٌ منهم بصيغة الماضي إلى: «إنّا معاشرَ أهل الكتاب قد آمنا قبلُ فكيف لا نؤمن الآن».. وفي لفظ ﴿نَا﴾ رمزٌ منهم إلى: «إنّا جماعة متحزّبون لسنا كفردٍ يَكذِب أو يُكذَّب».

وأما ﴿بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْاٰخِرِ﴾ فاعلم أن للتنـزيل أنْ يأخذ المَحكيَّ بعينه، أو يتصرفَ فيه بأخذ مآله، أو تلخيص عبارته:

فعلى الأولِ: ذكروا الأولَ والآخرَ من أركان الإيمان إظهاراً للقوي، ولِما هو أقربُ لأن يُقبَل منهم، وأشاروا إلى سلسلة الأركان بتكرار الباء مع القُرب.

وعلى الثاني: بأن يكون كلامَه تعالى؛ ففي ذكر القُطبين فقط إشارةٌ إلى أن أقوى ما يدَّعونه أيضاً ليس بإيمان؛ إذ ليس إيمانُهم بهما على وجههما. وكرّر الباء للتفاوت؛ إذ الإيمان بالله إيمانٌ بوجوده ووَحدته، وباليوم الآخر بحقيّته ومجيئه كما مرّ.

وأما ﴿وَمَا هُمْ بمؤمِنينَ﴾

 فإن قلت: لِمَ لم يقل «وما آمنوا» الأشبهِ بـ ﴿اٰمَنَّا﴾ ؟

قيل لك: لئلا يُتوهمَ التناقضُ صورةً، ولئلّا يَرجِع التكذيبُ إلى نفس ﴿اٰمَنَّا﴾، الظاهر إنشائيتُه المانعةُ من التكذيب. بل ليرجِع النفيُ والتكذيبُ إلى الجملة الضمنية المستفادَة من ﴿اٰمَنَّا﴾، وهي «فنحن مؤمنون».. وأيضاً ليدلّ باسميّة الجملة على دوام نفي الإيمانِ عنهم.

 إن قلت: لِمَ لا يدل على نفي الدوام مع أن «ما» مقدَّم؟.

قيل لك: إنَّ النفي معنى الحرف الكثيف، والدوامَ معنى الهيئة الخفيفة، فالنفيُ أغمسُ وأقربُ إلى الحُكم.

 إن قلت: ما نكتةُ[1] الباء على خبر «ما»؟

قيل لك: ليَدلّ على أنهم ليسوا ذواتاً أهلاً للإيمان وإن آمنوا صورةً، إذ فرقٌ بين «ما زيدٌ سخياً» و«ما زيدٌ بسخي»؛ إذ الأول -لهوائية الذات- معناه: زيدٌ لا يسخو بالفعل وإن كان أهلاً ومن نوع الكرماء. وأما الثاني: فمعناه زيدٌ ليس بذاتٍ قابل للسماحة وليس من نوع الأسخياء وإن أحسنَ بالفعل.

* * *


[1] نكتة في غاية الدقة (المؤلف).

 

الآية (7)

 ﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَعَلٰى سَمْعِهِمْ وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌۘ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ۟ ﴿7﴾﴾

مقدمة

اعلم أنه لزمنا أن نقف هنا حتى نستمع لما يتكلّم به المتكلمون؛ إذ تحت هذه الآية حربٌ عظيمة بين أهل الاعتزال وأهل الجبر وأهل السنة والجماعة. ومثل هذه الحرب تستوقف النُظّار. فناسَبَ أن نذكر أساساتٍ لتستفيد منها:

إنَّ مذهب أهل السنة والجماعة هو الصراطُ المستقيم، وما عداه إما إفراطٌ أو تفريط.

منها: أنه قد تحقق: «أنْ لا مُؤَثِّرَ فِي الْكَوْنِ إِلّا الله» فإذن لا تفويض.

ومنها: «أن الله حكيم» فلا يكون الثوابُ والعقاب عبَثين، فحينئذ لا اضطرارَ. فكما أن التوحيدَ يدفع في صدر الاعتزال؛ كذلك التنـزيهُ يضرب على فمِ الجبر.

ومنها: أن لكل شيء جهتين: جهة مِلْكية هي قد تكون حسنةً وقد تكون قبيحةً تتوارد عليها الأشكالُ كظهر المرآة. وجهةٌ مَلَكوتية تنظر إلى الخالق. وتلك شفافةٌ في كل شيء كوجهِ المرآة. فخَلقُ القبيح ليس قبيحاً؛ إذ الخَلق من جهة الملكوتية حَسنٌ، ولأن خلقَه لتكميل المحاسن فيحسُن بالغير. فلا تُصغِ إلى سفسطة الاعتزال!

ومنها: أن الحاصل بالمصدر أمرٌ قارٌ مخلوق جامد لا يُشتق منه الصفاتُ. وأما المصدر فمكسوبٌ نسبيّ اعتباريّ يُشتق منه الصفات. فلا يكون خالقُ القتل قاتلاً.. فَذَرْ أهل الاعتزالِ في خوضهم يَلْعَبُون!

ومنها: أن الفعل الظاهريّ في الأغلب نتيجةٌ لأفعال متسلسلةٍ منتهيةٍ إلى ميَلان النفسِ الذي يسمّى بـ«الجزء الاختياري». فتدور المنازعاتُ على هذا الأساس.

ومنها: أن الإرادة الكلية الإلهية ناظرةٌ بعادته تعالى إلى الإرادةِ الجزئية للعبد، فلا اضطرارَ.

ومنها: أن العلمَ تابعٌ للمعلوم، فلا يتبعُه المعلومُ حتى يدور. فلا يُتعلل في العمل بإحالة مقاييسه على القدَر.

ومنها: أن خلقَ الحاصل بالمصدر متوقفٌ على كسب المصدرِ بجريان عادة الله تعالى باشتراطه به. والنواةُ في كسب المصدر والعُقدة الحياتية فيه هي الميَلان، فبحَلّه تنحلّ عُقدة المسألة.

ومنها: أن الترجُّحَ بلا مُرجِّح محالٌ دون الترجيحِ بلا مرجِّحٍ، فلا يُعلّلُ أفعالُه تعالى بالأغراض؛ بل اختيارُه تعالى هو المرجِّح.

ومنها: أن الأمر الموجود لابد له من مؤثر وإلا لزَم الترجّح بلا مرجِّح وهو محال كما مرَّ. وأما الأمرُ الاعتباري فتخصُّصُه بلا مخصّصٍّ لا يلزم منه المحالُ.

ومنها: أن الموجود يجبُ أن يجبَ ثم يوجَدَ. وأما الأمر الاعتباري فالترجُّح بلا انتهاء إلى حدّ الوجوبِ كافٍ، فلا يلزمُ ممكنٌ بلا مؤثر.

ومنها: أن العلم بوجود شيءٍ لا يستلزم العلمَ بماهيتِه، وعدمَ العلم بالماهية لا يستلزم العدمَ. فعدمُ التعبير عن كُنهِ الاختيار لا يُنافي قطعيةَ وجودِه.

وإذا تفطنتَ لهذه الأساسات فاستمع لما يُتلى عليك:

فنحن معاشرَ أهل السنة والجماعة نقول: يا أهل الاعتزال! إن العبد ليس خالقاً للحاصل بالمصدر كالحاصلِ من المصدر، بل هو مصدرُ المصدرِ فقط؛ إذ «لا مؤثر في الكون إلا الله»، والتوحيد هكذا يقتضي. ثم نقول: يا أهل الجبر! ليس العبدُ مضطراً بل له جزءٌ اختياري لأن الله حكيم. وهكذا يقتضي التنـزيه.

 فإن قلتم: كلّما يُشرّح الجزءُ الاختياري بالتحليل لا يظهر منه إلا الجبرُ.

قيل لكم:

أولاً: إنَّ الوجدان والفطرة يشهدان أن بين الأمر الاختياري والاضطراري أمراً خفياً فارقاً، وجودُه قطعي. فلا علينا أن لا نعبِّر عنه.

وثانياً: نقول إن المَيَلان إن كان أمراً موجوداً -كما عليه الأشاعرة- فالتصرّفُ فيه أمر اعتباري بيد العبد؛ وإن كان المَيلان أمراً اعتبارياً -كما عليه الماتريدية- فذلك الأمر الاعتباري ثبوتُه وتخصصُه لا يستلزم العلةَ التامة الموجِبة فيجوز التخلّف. فتأمل!

والحاصل: أنَّ الحاصل بالمصدر موقوفٌ عادة على المصدر الذي أساسُه المَيَلانُ الذي هو -أو التصرف فيه- ليس موجوداً حتى يلزمَ مِن تخصّصِه مرةً هذا ومرةً ذاك ممكنٌ بلا مؤثر، أو ترجّحٌ بلا مُرجّح.. ولا معدوماً أيضاً حتى لا يصلُح أن يكون شرطاً لخَلق الحاصل بالمصدر أو سبباً للثواب والعقاب.

 إن قلت: العلمُ الأزلي والإرادةُ الأزلية ينحيان على الاختيار بالقَلع؟

قيل لك: إنَّ العلم بفعلٍ باختيارٍ لا ينافي الاختيارَ..

وأيضاً إن العلمَ الأزلي محيطٌ كالسماء، لا مبدأٌ للسلسلة، كرأسِ زمانِ الماضي حتى تسند إليه المسبّباتُ متغافلاً عن الأسباب موهماً خروجُها..

وأيضاً إن العلم تابعٌ للمعلوم، أي على أيّ كيفية يكون المعلومُ، كذلك يحيط به العلمُ، فلا يستند مقاييسُ المعلوم إلى أساساتِ القدَر..

وأيضاً إن الإرادةَ لا تتعلق بالمسبَّب فقط مرةً وبالسبب مرةً أخرى حتى لا تبقى فائدةٌ في الاختيار والسبب؛ بل تتعلق تعلقاً واحداً بالمسبَّب وبسَببه. وعلى هذا السرّ لو قتل شخصٌ شخصاً بالبندقة مثلاً، ثم فرضنا عدمَ السبب والرمي هل يموت ذلك الشخص في ذلك الآن أم لا؟ فأهلُ الجبر يقولون: لو لم يُقتَل لمات أيضاً لتعدد التعلّق، والانقطاع بين السبب والمسبَّب.. وأهلُ الاعتزال يقولون: لم يمت، لجواز تخلّف المرادِ عن الإرادة عندهم.. وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: نتوقفُ ونسكتُ؛ إذ فرضُ عدم السبب يستلزم فرضَ عدم تعلّقِ الإرادة والعلمِ بالمسبَّب أيضاً، إذ التعلق واحد. فهذا الفرضُ المحال جازَ أن يستلزم محالاً. فتأمل!

* * *

مقدمة أخرى

اعلم أن الطبيعيين يقولون: إنَّ للأسباب تأثيراً حقيقياً.. والمجوس يقولون: إنَّ للشرّ خالقاً آخرَ.. والمعتزلة يدّعون: أن الحيوان خالقٌ لأفعاله الاختيارية. وأساسُ هذه الثلاثة مبنيٌ على وهمٍ باطلٍ، وخطأٍ محضٍ، وتجاوزٍ عن الحدِّ وقياسٍ مع الفارق، خدعَهم وشبطهم؛
إذ ذهبوا ظناً منهم إلى التنـزيه فوقعوا في شَرَك الشِرك. وإن شئت التفصيلَ فاستمع لمسائل تطرُد ذلك الوهمَ:

منها: أنه كما أن استماع الإنسان وتكلّمَه وملاحظتَه وتفكره جزئيةٌ تتعلق بشيءٍ فشيءٍ على سبيل التعاقُب؛ كذلك همتُه جزئيةٌ لا تشتغل بالأشياء إلَّا على سبيل التناوب.

ومنها: أن قيمةَ الإنسان بنسبة ماهيته.. وماهيتُه بدرجة همّته.. وهمتُه بمقدار أهمية المقصد الذي يشتغل به.

ومنها: أن الإنسان إلى أي شيء توجَّه يفنى فيه وينحبسُ عليه. ومن هذه النقطة ترى الناس -في عُرفهم- لا يُسندون شيئاً خسيساً وأمراً جزئياً إلى شخص عظيم وذاتٍ عال؛ بل إلى الوسائل ظناً منهم أن الاشتغالَ بالأمر الخسيس لا يناسب وقارَه، وهو لا يتنـزَّلُ له ولا يسعُ الأمرُ الحقير همّتَه العظيمة، ولا يوازَن الأمرُ الخفيفُ مع همّته العظيمة.

ومنها: أن من شأن الإنسان -إذا تفكّر في شيء لمحاكمةِ أحواله- أن يتحرّى مقاييسَه وروابطه وأساساتِه، أولاً في نفسه، ثم في أبناءِ جنسه.. وإن لم يجد ففي جوانبه من الممكنات. حتى إن واجبَ الوجود الذي لا يشبه الممكنات بوجهٍ من الوجوه إذا تفكّر فيه الإنسانُ تُلجِئُه القوةُ الواهمة لأن يجعل هذا الوهمَ السيء المذكورَ دستوراً، والقياسَ الخادعَ منظاراً له. مع أنّ الصانعَ جلّ جلالُه لا يُنظر إليه من هذه النقطة؛ إذ لا انحصار لقدرتِه.

ومنها: أن قدرتَه وعلمَه وإرادتَه جلّ جلالُه كضياء الشمس –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾– شاملةٌ لكل شيء، وعامةٌ لكلِّ أمر. فلا تقعُ في الانحصار ولا تجيءُ في الموازنة. فكما تتعلقُ بأعظم الأشياء كالعرش؛ تتعلق بأصغرِها كالجَوهر الفرد.. وكما خلَقَ الشمس والقمر؛ كذلك خلَق عينَي البرغوث والبعوضة.. وكما أودع نظاماً عالياً في الكائنات؛ كذلك أوقعَ نظاماً دقيقاً في أمعاء الحيوانات الخُرْدَبِينِيَّة.. وكما ربطَ الأجرامَ العلويةَ والنجومَ المعلَّقةَ بقانونِه المسمّى بالجاذب العمومي؛ كذلك نظّم الجواهرَ الفَردةَ بنظير ذلك القانون كأنه مثالٌ مصغّر لها. إذ بتداخل العَجز تتفاوتُ مراتبُ القُدرة. فمَن امتنعَ عليه العجزُ تتساوى في قدرته الأشياءُ، إذ العجزُ ضدُّ القدرةِ الذاتية. فتأمل!

ومنها: أن أول ما تتعلق به القدرةُ ملكوتيةُ الأشياء وهي شفّافةٌ حسنةٌ في الكلِّ كما مرَّ. فكما أنه جلّ جلالُه جعل وجهَ الشمس مجلىً ووجهَ القمر مستضيئاً؛ كذلك صيَّر ملكوتيةَ الليل والغيمِ حسنةً منيرةً.

ومنها: أن مقياسَ عظمته تعالى وميزانَ كمالاته وواسطةَ محاكمة أوصافه لا يسعُها ذهنُ البشر، ولا يمكن له إلّا بوجهٍ، بل إنما هو بما يتحصّل من جميع مصنوعاته.. وبما يتجلّى من مجموع آثاره.. وبما يتلخّص من كل أفعاله. نَعم، الذرةُ تكون مرآةً ولا تكون مقياساً.

وإذا تفطنتَ لهذه المسائل فاعلم أن الواجب تعالى لا يُقاس على الممكنات، إذ الفرقُ من الثرى إلى الثريا. ألا ترى أهلَ الطبيعة والاعتزال والمجوس -بناءً على تسلّط القوة الواهمة بهذا القياس على عقولهم- كيف التجَأوا إلى إسنادِ التأثير الحقيقي إلى الأسباب، وخلقِ الأفعال للحيوان، وخلقِ الشر لغيره تعالى؟ يظنون ويتوهمون أن الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنـزُّهه كيف يتنـزَّلُ لهذه الأمور الخسيسةِ والأشياءِ القبيحة؟ فسحقاً لهم! كيف صيَّروا العقلَ أسيراً لهذا الوهم الواهي هذا؟.. يا هذا! هذا الوهمُ قد يتسلط على المؤمن أيضا من جهة الوَسوسة فتجنَّب!

* * *

﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَعَلٰى سَمْعِهِمْ وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌۘ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾

أما تحليل كلمات هذه الآية ونظمها:

فاعلم أن ربطَ ﴿خَتَمَ﴾ بـ ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وتعقيبَه به نظيرُ ترتّب العقابِ على العمل. كأنه يقول لمّا أفسدوا الجزءَ الاختياري ولم يؤمنوا، عوقبوا بخَتم القلبِ وسَدِّه. ثم لفظ «الختم» يشير إلى استعارة مركبةٍ تومئُ إلى أسلوب تمثيلي يرمز إلى ضربِ مَثَلٍ يصوِّر ضلالَتهم؛ إذ المعنى فيه منعُ نفوذِ الحق إلى القلب. فالتعبيرُ بالختم يُصوِّر القلبَ بيتاً بناه الله تعالى ليكون خزينةَ الجواهر، ثم بسوء الاختيار فَسدَ وتعفَّن وصار ما فيه سُموماً فأُغلق وأُمهِرَ ليُجتَنب.

وأما ﴿اللّٰهُ﴾ فاعلم أن فيه التفاتاً من التكلم إلى الغَيبة. ومع نكتة الالتفاتِ ففي مناسبة لفظِ ﴿اللّٰهُ﴾ مع متعلِّق ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ في النية، أعني لفظَ «بالله»، إشارةٌ إلى لطافةٍ، هي أنه لمّا جاء نورُ معرفةِ الله إليهم فلم يفتحوا بابَ قلبِهم له، تولّى عنه مُغضباً وأغلق البابَ عليهم.

وأما ﴿عَلٰى﴾ فاعلم أن فيه -بناءً على كون الختم متعدّياً بنفسه- إشارةً إلى تضمين ﴿خَتَمَ﴾ «وَسَم»، كأنه يقول: جعل الله الختمَ وَسْماً وعلامةً على القلب يتوسّمُه الملائكةُ.. وفي ﴿عَلٰى﴾ أيضاً إيماءٌ إلى أن المسدودَ البابُ العلويُّ من القلب لا البابُ السفلي الناظرُ إلى الدنيا.

وأما ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ قدَّمَه على السمع والبصر لأنه هو محلُّ الإيمان.. ولأن أولَ دلائل الصانع يتجلى من مشاورة القلبِ مع نفسه، ومراجعةِ الوجدان إلى فطرته، لأنه إذا راجع نفسَه يُحِسُّ بعَجزٍ شديد يُلجئه إلى نقطةِ استنادٍ، ويرى احتياجاً شديداً لتنمية آمالِه فيضطرّ إلى نقطةِ استمداد، ولا استنادَ ولا استمدادَ إلَّا بالإيمان.. ثم إن المرادَ بالقلب اللطيفةُ الربانيةُ التي مظهرُ حسيّاتِها الوجدانُ، ومَعكَس أفكارها الدماغُ، لا الجسمُ الصنوبريُّ. فإذاً في التعبير بالقلب رمزٌ إلى أن اللطيفةَ الربانيةَ لمعنويات الإنسان كالجسم الصنوبري لجسدِه. فكما أن ذلك الجسمَ ماكينةٌ حياتية تنشُر ماءَ الحياة لأقطار البدن، وإذا انسدّ وسكَنَ جمَد الجسدُ؛ كذلك تلك اللطيفةُ تنشُر نورَ الحياة الحقيقية لأقطار الهيئة المجسَّمة من معنوياته وأحواله وآماله. وإذا زال نورُ الإيمان -العياذ بالله- صارت ماهيتُه التي يصارع بها الكائنات كشَبَحٍ لا حراكَ به وأظلمَ عليه.

وأما ﴿وَعَلٰى سَمْعِهِمْ﴾ كرّر ﴿عَلٰى﴾ للإشارة إلى استقلال كلٍّ بنوعٍ من الدلائل. فالقلبُ بالدلائل العقلية والوجدانية. والسمعُ بالدلائل النقليةِ والخارجية، وللرمز إلى أن ختمَ السمعِ ليس من جنس ختمِ القلب.. ثم إن في إفراد السمع مع جمعِ جانبَيه إيجازاً ورموزاً إلى أن السمعَ مصدرٌ، لعدم الجَفن له.. وإلى أن المُسمِعَ فرد.. وأن المسموعَ للكلِّ فردٌ.. وأنه يُسمِعُ فرداً فرداً.. ولاشتراك الكلِّ كأن أسماعَهم بالاتصال صارت فرداً.. ولاتحاد الجماعة وتشخّصها يُتَخيّل لها سمعُ فردٍ.. وإلى إغناء سمعِ الفرد عن استماع الكلِّ فحقُّ السمع في البلاغة الإفرادُ.. لكن القلوبَ والأبصارَ مختلفةٌ متعلقاتُهما، ومتباينةٌ طرقُهُما، ومتفاوتةٌ دلائلهُما، ومعلِّمُهما على أنواع، وملقّنُهما على أقسام. فلهذا توسّط المُفرَدُ بين الجَمعَين. وعُقّب القلبُ بالسمع لأن السمعَ أبٌ لملَكاته، وأقربُ إليه، ونظيرُه في تساوي الجهات الست عنده.

وأما ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فاعلم أن في تغيير الأسلوب باختيار الجملة الاسمية إشارةً إلى أن جِنانَ البصَر التي يُجتَنى منها دلائلُه ثابتةٌ دائمةٌ بخلاف حدائقِ السمع والقلب؛ فإنها متجدّدةٌ.. وفي إسناد الختم إلى الله تعالى دون الغشاوةِ إشارة إلى أن الختمَ جزاءُ كسبِهم، والغشاوة مكسوبةٌ لهم، ورمزٌ إلى أن في مبدأ السمع والقلب اختياراً، وفي مبدأ البصر اضطراراً، ومحل الاختيار غشاوةُ التعامي. وفي عنوان الغشاوة إشارةٌ إلى أن للعين جهةً واحدةً. وتنكيرُها للتنكير، أي التعامي حجابٌ غيرُ معروف حتى يُتَحفَّظ منه.. قدّم ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ﴾ ليوجّه العيونَ إلى عيونهم، إذ العين مرآةُ سرائر القلب.

وأما ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾ فاعلم أنه كما أشار بالكلمات السابقة إلى حنظلات تلك الشجرة الملعونة الكفرية في الدنيا؛ كذلك أشار بهذه إلى حنظلة جانبها الممتد إلى الآخرة وهي زقّومُ جهنّم..

ثم إن سجية الأسلوب تقتضي «وعليهم عقاب شديد». ففي إبدال ﴿عَلٰى﴾ باللام و«العقاب» بالعذاب و«الشديد» بالعظيم، مع أن كلا منها يليق بالنعمة رمزٌ إلى نوعِ تهكّم توبيخيّ تعريضيّ؛ كأنه ينعي بهم: ما منفعتُهم، ولا لذتُهم، ولا نعمتُهم العظيمة إلَّا العقابُ؛ نظير «تَحِيَّةُ بَيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجِيع». و ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَليمٍ﴾ (آل عمران:21).

إذ اللام لعاقبة العمل وفائدتِه. فكأنه يتلو عليهم: «خذوا أُجرة عملكم».

وفي لفظ الـ«عذاب» رمزٌ خفي إلى أن يذكّرَهم استعذابَهم واستلذاذَهم بالمعاصي في الدنيا فكأنه يقرأ عليهم «ذوقوا مرارةَ حلاوتكم».

وفي لفظ الـ«عظيم» إشارةٌ خفية إلى تذكيرهم حالَ صاحبِ النعمة العظيمة في الجنة فكأنه يلقّنهم: انظروا إلى ما ضيَّعتم على أنفسكم من النعمة العظيمة، وكيف وقعتُم في الألم الأليم. ثم إن ﴿عَظيمٌ﴾ تأكيد لتنوين ﴿عَذَابٌ﴾.

 إن قلت: إنَّ معصية الكفر كانت في زمانٍ قليل والجزاءُ أبديٌّ غيرُ متناهٍ، فكيف ينطبق هذا الجزاءُ على العدالة الإلهية؟ وإنْ سُلِّم، فكيف يوافق الحكمةَ الأزلية؟ وإن سُلِّم، فكيف تساعده المرحمةُ الربانية؟

قيل لك: مع تسليم عدم تناهي الجزاءِ، إن الكفر في زمان متناهٍ جنايةٌ غيرُ متناهية بستِّ جهات:

منها: أن من مات على الكفر لو بقي أبداً لكان كافراً أبداً لِفَساد جوهر روحِه، فهذا القلبُ الفاسد استعدَّ لجناية غير متناهية.

ومنها: أن الكفر وإن كان في زمانٍ متناهٍ لكنه جنايةٌ على غير المتناهي، وتكذيبٌ لغير المتناهي أعني عمومَ الكائنات التي تشهد على الوحدانية.

ومنها: أن الكفر كفرانٌ لنِعَمٍ غير متناهية.

ومنها: أن الكفر جناية في مقابلة الغير المتناهي وهو الذاتُ والصفاتُ الإلهية.

ومنها: أن وجدان البشر -بسرّ حديثِ: «لَا يَسَعُني أرْضِي وَلا سَمائي»- وإن كان في الظاهر والمُلك محصوراً ومتناهياً لكن ملكوتيتَه بالحقيقة نشرت ومدّت عروقها إلى الأبد. فهو من هذه الجهة كغير المتناهي وبالكفر تلوّث واضمحلّ.

ومنها: أن الضدَّ وإن كان معانِداً لضدِّه لكنه مماثلٌ له في أكثر الأحكام. فكما أن الإيمان يُثمر اللذائذَ الأبدية، كذلك من شأن الكفر أن يتولد منه الآلامُ الأبدية.

فمَن مزَج هذه الجهات الست يستنتج أنّ الجزاء الغير المتناهي إنما هو في مقابلة الجناية الغير المتناهية وما هو إلّا عينُ العدالة.

 إن قلت: طابقَ العدالة، لكن أين الحكمةُ الغنيةُ عن وجود الشرور المنتجة للعذاب؟

قيل لك: -كما قد سمعتَ مرة أخرى- إنه لا يُترك الخيرُ الكثيرُ لتخلّل الشرِّ القليل، لأنه شرٌّ كثيرٌ. إذ لمّا اقتضت الحكمةُ الإلهية تظاهُرَ ثبوتِ الحقائق النسبية -التي هي أزيدُ بدرجاتٍ من الحقائق الحقيقية- ولا يمكن هذا التظاهرُ إلا بوجود الشر؛ ولا يمكن توقيفُ الشرِّ على حدِّه ومنعُ طغيانه إلّا بالترهيب؛ ولا يمكن تأثيرُ الترهيب حقيقةً في الوجدان إلّا بتصديق الترهيب وتحقيقِه بوجود عذاب خارجي؛ إذ الوجدانُ لا يتأثر حق التأثر -كالعقل والوَهم- بالترهيب إلّا بعد أن يتحدّس بالحقيقة الخارجية الأبدية بتفاريق الأمارات.. فمِن عينِ الحكمة بعد التخويف من النار في الدنيا وجودُ النار في الآخرة.

 إن قلت: قد وافق الحكمةَ فما جهةُ المرحمة فيه؟

قلت: لا يُتصور في حقّهم إلاّ العدمُ أو الوجودُ في العذاب، والوجودُ -ولو في جهنم- مرحمةٌ وخيرٌ بالنسبة إلى العدم إنْ تأملتَ في وجدانك؛ إذ العدمُ شرٌّ محض، حتى إن العدمَ مرجعُ كلِّ المصائب والمعاصي إنْ تفكرتَ في تحليلها. وأما الوجودُ فخيرٌ محض فليكن في جهنم.. وكذا إن من شأن فطرةِ الروح -إذا عَلِم أن العذابَ جزاءٌ مزيلٌ لجنايته وعصيانه- أن يرضى به لتخفيف حمل خجالة الجناية، ويقولَ: «هو حقٌ، وأنا مستحق». بل حباً للعدالة قد يلتذُّ معنىً! وكم من صاحب ناموس في الدنيا يشتاق إلى إجراء الحدّ على نفسه ليزولَ عنه حجابُ خجالة الجناية. وكذا إن الدخول وإن كان إلى خلود دائم وجهنمُ بيتُهم أبداً، لكن بعد مرور جزاء العمل دون الاستحقاق يحصل لهم نوع ألفةٍ وتطبّع مع تخفيفات كثيرة مكافأةً لأعمالهم الخيرية. أشارت إليها الأحاديث. فهذا مرحمةٌ لهم مع عدم لياقتهم.

الآية (6)

 ﴿اِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا سَوَٓاءٌ عَلَيْهِمْ ءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴿6﴾﴾

وجه النظم:

اعلم أن للذات الأحديِّ في عالَم صفاته الأزلية تجلِّيَيْن جلاليٌّ وجماليّ. فبتجليهما في عالم صفات الأفعال يتظاهر اللطفُ والقهرُ والحُسن والهيبة. ثم بالانعطاف في عالَم الأفعال يتولد التحليةُ والتخلية والتزيينُ والتنـزيه. ثم بالانطباع في العالم الأُخروي من عالم الآثار يتجلى اللطفُ جَنَّةً ونوراً، والقهرُ جهنمَ وناراً. ثم بالانعكاس في عالم الذِكر ينقسم الذكرُ إلى الحمد والتسبيح. ثم بتمثّلهما في عالَم الكلام يتنوع الكلام إلى الأمر والنهي. ثم بالارتسام في عالم الإرشاد يقسمانه إلى الترغيب والترهيب والتبشير والإنذار. ثم بتجليهما على الوجدان يتولد الرجاءُ والخوف.. وهكذا. ثم إن من شأن الإرشاد إدامةَ الموازنة بين الرجاء والخوف، ليدعوَ الرجاءُ إلى أن يسعى بصرف القوى، والخوفُ إلى أن لا يتجاوز بالاسترسال فلا ييأسَ من الرحمة فيقعد ملوماً، ولا يأمَنَ العذابَ فيتعسفَ ولا يباليَ. فلهذه الحكمة المتسلسلةِ ما رغّب القرآنُ إلّا وقد رهَّبَ، وما مدحَ الأبرارَ إلّا وقرَنَه بذمّ الفجار.

إن قلت: فلِمَ لم يعطف هنا كما عطف في ﴿اِنَّ الْاَبْرَارَ لَفي نَعيمٍ * وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحيمٍ﴾ (الانفطار:13-14)؟

قيل لك: إنَّ حُسن العطف ينظر إلى حُسن المناسبة، وحُسن المناسبة يختلف باختلاف الغرض المَسوق له الكلامُ. ولما اختلف الغرضُ هنا وهنالك، لم يُستحسن العطفُ هنا؛ إذ مدحُ المؤمنين منجرّ ومقدمةٌ لمدح القرآن، ونتيجةٌ له، وسِيق له. وأما ذمُّ الكافرين فللترهيب لا يتصل بمدحِ القرآن.

ثم انظر إلى اللطائف المندمجة في نظم أجزاء هذه الآية:

فأولاً: استأنِس بـ ﴿اِنَّ﴾ و ﴿اَلَّذينَ﴾ فإنهما أجْوَلُ وأسْيَرُ ما يصادفك في منازل التنـزيل. ولأمرٍ مّا أكثر القرآنُ من ذكرهما؛ إذ معهما من جوهر البلاغة نكتتان عامّتان غيرُ ما تختصّ كلَّ موقع.

أما ﴿اِنَّ﴾ فإن من شأنها أن تثقب السطح نافذةً إلى الحقيقة، وتوصل الحُكم إليها؛ كأنها عِرق الدعوى اتصلت بالحق. مثلاً: إنَّ هذا كذا.. أي الحُكمُ وهذه الدعوى ليست خيالية ولا مبتدعة ولا اعتبارية ولا مستحدَثة؛ بل هي من الحقائق الجارية الثابتة. وما يُقال من أن ﴿اِنَّ﴾ للتحقيق فعنوانٌ لهذه الحقيقة والخاصيّة. والنكتةُ الخصوصية هنا هي أن ﴿اِنَّ﴾ الذي شأنُه ردُّ الشّك والإنكار مع عدمِهما في المخاطَب للإشارة إلى شدّة حرص النبي عليه السلام على إيمانهم.

وأما ﴿اَلَّذينَ﴾ فاعلم أن «الذي» من شأنه الإشارةُ إلى الحقيقة الجديدة التي أحسّ بها العقلُ قبل العين، وأخذت في الانعقاد ولم تشتدَّ، بل تتولد من امتزاج أشياءٍ وتَآخُذِ أسبابٍ مع نوع غَرابة. ولهذا ترى من بين وسائط الإشارة والتصوير في الانقلاب المجدِّد للحقائق لفظَ «الذي» أسْيَرَ على الألسنة وأكثرَ دوراناً. فلما أن تجلّى مؤسِّسُ الحقائق وهو القرآن، اضمحل أنواعٌ ونُقِضت فصولُها وتشكلت أنواعٌ أُخر وتولدت حقائق أُخرى. أمَا ترى زمانَ الجاهلية كيف تشكلت الأنواعُ على الروابط الملّية وتولدت الحقائقُ الاجتماعية على العصبيات القومية فلما أنْ جاء القرآنُ قطع تلك الروابط وخرَّب تلك الحقائق فأسس بدلاً عنها أنواعاً، فصولُها الروابط الدينية؟ فتأمل! فلما أشرق القرآنُ على نوع البشر تزاهرَ بضيائه وأثمَر بنوره قلوبٌ، فتحصلت حقيقةٌ نورانية هي فصلُ نوع المؤمنين. ثم لخُبث بعض النفوس تعفّنت في مقابلة الضياء تلك النفوسُ فتولّدت حقيقةٌ سمّيّة هي خاصةُ نوعِ مَن كفر..

وأيضاً بين ﴿اَلَّذينَ﴾ و ﴿اَلَّذينَ﴾ تناسب.

اعلم أن الموصول كالألف واللام يُستعمل في خمسة معانٍ أشهرُها العهدُ؛ فـ ﴿اَلَّذينَ﴾ هنا إشارة إلى صناديد الكفر أمثال أبي جهل وأبي لهب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر. فعلى هذا في الآية إخبارٌ عن الغيب. وأمثال هذا لمعاتٌ يتولد منها نوعٌ من الإعجاز من الأنواع الأربعة للإعجاز المعنوي.

وأما لفظ ﴿كَفَرُوا﴾ فاعلم أن الكفر ظلمةٌ تحصل من إنكار شيءٍ مما عُلِمَ ضرورةً مجيء الرسول عليه السلام به.

 إن قلت: إنَّ القرآن من الضروريات وقد اختُلف في معانيه؟

قيل لك: إنَّ في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا:

إحداها: «هذا كلامُ الله».

والثانية: «معناه المراد حق». وإنكار كلٍّ من هاتين كفرٌ.

والثالثة: «معناه المراد هذا»؛ فإنْ كان مُحْكَماً أو مفسّراً فالإيمان به واجب بعد الاطلاع، والإنكار كفر. وإن كان ظاهراً، أو نصاً يحتمل معنى آخر، فالإنكار بناءً على التأويل-دون التشهّي- ليس بكفر.

ومثل الآية الحديثُ المتواتر؛ إلَّا أن في إنكار القضية الأولى من الحديث تأملاً.

 إن قلت: الكفرُ جهلٌ وفي التنـزيل: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ اَبْنَٓاءَهُمْ﴾ (البقرة:146) فما التوفيق؟

قيل لك: إنَّ الكفر قسمان:

جهليّ، يُنكِر لأنه لا يعلم. والثاني: جحوديٌّ تمرّديّ، يَعرِفُ لكنْ لا يَقبل، يتيقّن لكن لا يعتقد، يصدِّق لكن لا يذعن وجدانُه. فتأمل!

 إن قلت: هل في قلب الشيطان معرفة؟

قيل لك: لا، إذ بحكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائماً بالإضلالِ، ويتصور عقلُه دائماً الكفرَ للتلقين فلا ينقطع هذا الشغلُ، ولا يزول ذلك التصوّر عن عقله حتى تتمكن فيه المعرفةُ.

 إن قلت: الكفر صفةُ القلب فكيف كان شدّ الزُنّار -وقد قيس عليه «الشَّوْقَة»- كفراً؟

قيل لك: إنَّ الشريعة تعتبر بالأمارات على الأمور الخفية حتى أقامت الأسباب الظاهرية مقام العِلل. ففي شدِّ الزُنَّار المانع بعضُ نوعِه عن إتمام الركوع، وإلباس «الشَوْقَة» المانعة عن تمام السجود علامة الاستغناء عن العبودية، والتشبّه بالكَفرة المومِئ باستحسانِ مسلكِهم وملّيتهم. فما دام لم يُقطَع بانتفاء الأمر الخفي يُحكَم بالأمر الظاهر.

 إن قلت: إذا لم يُجْدِ الإنذارُ فلِمَ التكليفُ؟

قيل لك: لإلزام الحُجةِ عليهم.

 إن قلت: الإخبار عن تمرّدهم يستلزم امتناع إيمانهم فيكون التكليفُ بالمحال؟

قيل لك: إن الإخبارَ وكذا العلمُ والإرادةُ لا تتعلق بكُفرهم مستقلاً مقطوعاً عن السبب، بل إنما تتعلق بكفرهم باختيارهم. كما يأتيك تفصيلُه. ومن هنا يُقال: «الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار».

 إن قلت: إيمانُهم بعدم إيمانهم محالٌ عقليّ يشبه «الجذرَ الأصمَّ الكلاميّ»؟

قيل لك: إنهم ليسوا مكلّفين بالتفصيل حتى يلزم المحالُ.

ثم في إيراد ﴿كَفَرُوا﴾ فعلاً ماضياً، إشارةٌ إلى أنهم اختاروا الكفر بعد تبيُّن الحقِّ فلذا لا يُفيدُ الإنذار.

وأما ﴿سَوَٓاءٌ﴾ فمجازٌ عن: «إنذارُك كعدم الإنذار في عدم الفائدة أو في صحة
الوقوع» أي لا موجبَ للإنذار ولا لعدمِه.

وأما ﴿عَلَيْهِمْ﴾ ففيه إيماءٌ إلى أنهم أخلدوا إلى الأرض فلا يرفعون رؤوسَهم ولا يصغون إلى كلام آمرهم.. وفيه أيضا رمزٌ إلى أنه ليس سواءً عليك، لأنَّ لك الخيرَ في التبليغ؛ إذ ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ اِلَّا الْبَلَاغُ﴾ (المائدة:99).

وأما ﴿ءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فالهمزةُ و«أمْ» هنا في حُكم «سواء حرفي»، تأكيد لـ ﴿سَوَٓاءٌ﴾ الأولِ. أو تأسيسٌ نظراً إلى اقتسامهما المعنيين المذكورين للمساواة.

 إن قلت: فلِمَ عبّر عن المساواة بصورة الاستفهام؟

قيل لك: إذا أردت أن تنبّه المخاطَب على عدم الفائدة في فعل نفسه بوجهٍ لطيف مُقنع، لابد أن تستفهم ليتوجّه ذهنُه إلى فعله فينتقل منه إلى النتيجة فيطمئن.. ثم العلاقة بين الاستفهام والمساواة تضمنه لها؛ إذ السائل يتساوى في علمه الوجودُ والعدم.. وأيضاً كثيراً ما يكون الجوابُ هذه المساواةَ الضمنية.

 إن قلت: لِمَ عبّر عن الإنذار في ﴿ءَاَنْذَرْتَهُمْ﴾ بصورة الماضي؟

قيل لك: لينادي «يا محمد قد جرَّبْتَ» فقِس!

 إن قلت: لِمَ ذكر ﴿اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مع أن عدم فائدة عدم الإنذار ظاهر؟

قيل لك: كما قد ينتج الإنذارُ إصراراً، كذلك قد يُجدي السكوتُ إنصافَ المخاطب.

 إن قلت: لِمَ أنذر بالترهيب فقط مع أنه بشير نذير؟

قيل لك: إذ الترهيبُ هو المناسبُ للكفر، ولأن دفعَ المضارّ أولى من جَلب المنافع وأشدُّ تأثيراً، ولأن الترهيبَ هنا يهزّ عِطْفَ الخيالَ ويوقظُه لأن يتلقى ويجتني بعد قوله ﴿لَا يُؤْمِنُون «أبشّرتَهم أم لم تبشرهم».

ثم اعلم كما أن لكل حُكمٍ معنى حرفياً ومقصداً خفياً؛ كذلك لهذا الكلامِ معانٍ طيارةٌ ومقصد سيق له، هو تخفيفُ الزحمة، وتهوينُ الشدة عن النبي عليه السلام، وتسليتُه بتأسّيه بالرسل السالفين. إذ خوطبَ أكثرُهم بمثل هذا الخطاب، حتى قال نوح بعده: ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْاَرْضِ مِنَ الْكَافِرينَ دَيَّارًا﴾ (نوح:26)..

ثم لأن آياتِ القرآن كالمرايا المتناظرة، وقصصَ الأنبياء كالهالة للقمر تنظر إلى حال النبي عليه السلام؛ كان كأن هذا الكلامَ يقول: هذا قانونٌ فطريٌّ إلهيّ يجب الانقياد له.

واعلم بعد هذا التحليل؛

أن مجموع هذه الآية إلى ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾ سيقت مشيرةً بعقودها إلى تقبيح الكفر وترذيله، والتنفيرِ منه والنهي الضمني عنه، وتذليلِ أهله، والتسجيل عليهم، والترهيب عنه، وتهديدهم.. مناديةً بكلماتها بأن في الكفر مصائبَ عظيمةً، وفواتَ نِعَمٍ جسيمةٍ، وتولّدَ آلامٍ شديدة، وزوالَ لذائذَ عالية.. مصرّحةً بجُمَلها بأن الكفرَ أخبثُ الأشياء وأضرُّها.

إذ أشار بلفظ ﴿كَفَرُوا﴾ بدلَ «لم يؤمنوا» إلى أنهم بعدم الإيمان وقعوا في ظُلمة الكفر الذي هو مصيبةٌ تفسد جوهرَ الروح وأيضاً هو معدِن الآلام.

وبلفظ ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بدلَ «لا يتركون الكفر» إلى أنهم مع تلك الخسارة سقط من أيديهم الإيمان الذي هو منبعُ جميع السعادات.

وبلفظ ﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ﴾ إلى أن القلبَ والوجدان -الذي حياتُه وفرحُه وسروره وكمالاته بتجلي الحقائق الإلهية بنور الإيمان- بعدما كفروا صار كالبناء المُوحِش الغير المعمور المشحون بالمضرات والحشرات، فأُقْفِلَ وأُمْهِرَ على بابه ليُجتَنبَ، وتُرك مفوّضاً للعقارب والأفاعي.

وبلفظ ﴿وَعَلٰى سَمْعِهِمْ﴾ إلى فوات نعمةٍ عظيمة سمعية بسبب الكفر؛ إذ السمعُ من شأنه -إذا استقر خلفَ صِماخه نورُ الإيمان واستندَ إليه- الاحتساسُ بنداءِ كل العالم وفَهْمُ أذكارِها، وسَمْعُ صياح الكائنات وتفهُّمُ تسبيحاتِها.. حتى إن السمعَ ليَسمعُ من ترنّمات هبوب الريح، ومن نَعَرات رعدِ الغَيم، ومن نغَمات أمواج البحر، ومن صرَخات دقدقةِ الحجَر، ومن هزَجات نزولِ المطر، ومن سجَعات غناءِ الطير كلاماً ربانياً، ويفهَم تسبيحاً عُلوياً، كأن الكائناتِ موسيقيةٌ عظيمة له، تُهيّجُ في قلبه حُزناً علوياً وعِشقاً روحانياً، فيحزَنُ بتذكّر الأحباب والأنيس، فيكون الحزنُ لذةً؛ لا بعدَم الأحباب فيكونَ غمّاً.. وإذا أظلمَ ذلك السمعُ بالكفر صار أصمَّ من تلك الأصوات اللذيذة، ولا يسمع من الكائنات إلّا نياحات المأتم ونعيات الموت، فلا يُلقي في القلب إلّا غمَّ اليُتمَة أي عدمِ الأحباب، ووحشةَ الغُربة أي عدمِ المالك والمتعهّد. فبناءً على هذا السر أحلّ الشرعُ بعضَ الأصوات وهو ما هيّج عشقاً علوياً وحُزناً عاشقياً، وحرّم بعضَها وهو ما أنتج اشتهاءً نفسياً وحزناً يُتمياً، وما لم يُرِكَ الشرعُ فمَيِّزْه بتأثيره في روحك ووجدانك.

وبكلمة ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ إلى زوال نعمةٍ جسيمة بسبب الكفر؛ إذ البصرُ من شأنه -إذا استضاء نورُه واتصل بنور الإيمان الساكنِ خلفَ شُبيكتِه ممدّاً ومحرّكاً له- كان كلُّ الكائنات كجنة مزيَّنة بالزهر والحُور، ويصير نورُ العين نحلاً تطير عليها فتجتني من تلك الأزاهير عصارةَ العِبرة والفكرة والأُنسية والاستيناس والتحبّب والتهنئة، فتأخذ حَميلتَها فتتخذ في الوجدان شهدَ الكمالات.. وإذا أظلمَ -العياذ بالله- ذلك البصرُ بالكفر طُمِسَ، وصارت الدنيا في نظره سجناً، وتستّرت عنه الحقائق وتوحّشت عليه الكائناتُ وتُلقي إلى قلبه آلاماً تحيط بوجدانه من الرأس إلى القدم..

وبلفظ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾ إلى ثمرةِ شجرة زقّوم الكفر في العالم الأخروي من عذاب جهنم ومن نَكالِ الغضَب الإلهي. هذا.

وأما ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فتأكيدٌ لـ ﴿سَوَٓاءٌ﴾ ينص على جهة المساواة.

* * *

الآية (5)

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَاُولٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿5﴾﴾

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾

اعلم أن المظان التي تتلمّع فيها النُّكَتُ: هي نظمُها مع سابقها، ثم المحسوسيةُ في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾، ثم البُعْدية فيها، ثم العلوّ في ﴿عَلٰى﴾، ثم التنكير في ﴿هُدًى﴾، ثم لفظ ﴿مِنْ﴾، ثم التربية في ﴿رَبِّهِمْ﴾.

أما النظم، فاعلم أن هذه مرتبطةٌ بسابقها بخطوطِ مناسبات. منها الاستيناف، أي جوابٌ لثلاثة أسئلة مقدَّرة:

منها: السؤالُ عن المثال، كأن السامعَ بعدما سمِع أن القرآن من شأنه الهدايةُ لأشخاص من شأنهم -بسبب الهداية- الاتّصاف بأوصافٍ، أحبَّ أن يراهم وهم بالفعل تلبّسوا بتلك الأوصاف متكئين على أرائك الهداية. فأجاب مُريئاً للسامع بقوله:

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾

ومنها: السؤال عن العلّة، كأن السائل يقول: ما بالُ هؤلاء استحقوا الهداية واختصّوا بها؟ فأجاب: بأن هؤلاء الذين امتزجت واجتمعت فيهم تلك الأوصافُ -إن تأملتَ- لجديرون بنور الهداية.

 فإن قلت: التفصيلُ السابق أجلى للعلّة من الإجمال في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾؟

قيل لك: قد يكون الإجمال أوضحَ من التفصيل لاسيما إذا كان المطلوبُ متولداً من المجموع؛ إذ بسبب جزئيةِ ذهن السامع، والتدرّجِ في أجزاء التفصيل، وتداخلِ النسيان بينها، وتجلِّي العلّةِ من مزج الأجزاء قد لا يُتفَطّن لتولد العلّةِ. فالإجمال في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ لأجل الامتزاج أجلى للعلّية.

ومنها: السؤالُ عن نتيجة الهداية وثمرتِها، والنعمةِ واللذة فيها؛ كأن السامع يقول: ما اللذةُ والنعمة؟ فأجاب بأن فيها سعادةَ الدارين. أي إنَّ نتيجة الهدايةِ نفسُها، وثمرتَها عينُها، إذ هي بذاتها نعمةٌ عظمى ولذةٌ وجدانية، بل جنةُ الروح؛ كما أن الضلالةَ جهنمُها. ثم بعد ذلك تثمر الفلاحَ في الآخرة.

وأما المحسوسية في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فإشارةٌ إلى أن ذكر الأوصاف الكثيرة سببٌ للتجسّم في الذهن، والحضور في العقل، والمحسوسيةِ للخيال. فمن العهد الذِكْريّ ينفتح بابٌ إلى العهد الخارجيّ، ومن العهد الخارجي ينتقل إلى امتيازهم، وينظر إلى تلألئهم في نوع البشر كأنه مَن رفعَ رأسَه وفتح عينيه لا يتراءى له إلَّا هؤلاء.

وأما البُعدية في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ مع قُربيتهم في الجملة، فللإشارة إلى تعالِي رتبتِهم؛ إذ الناظر إلى البُعَداء لا يرى إلَّا أطولَهم قامةً، مع أن حقيقة البُعد الزماني والمكاني أقضى لحقّ البلاغة؛ إذ هذه الآية كما أن عصرَ السعادة لسانٌ ذاكر لها وهي تَنـزل، كذلك كلٌّ من الأعصار الاستقبالية كأنه لسانٌ ذاكرٌ لها، وهي شابةٌ طريةٌ كأنها إذ ذاك نزلَت لا أنها نزلت ثم حُكِيت. فأوائلُ الصفوف المشار إليهم بـ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ يتراءَون من بُعْدٍ. ولأجل الرؤيةِ مع بُعدهم يُعلَم عظمتُهم وعلوُّ رتبتهم.

وأما لفظ ﴿عَلٰى﴾ فاعلم أن سرّ المناسبة بين الأشياء صيَّر أكثرَ الأمور كالمرايا التي تتراءى في أنفسها؛ هذه في تلك، وتلك في هذه. فكما أن قطعةَ زجاجةٍ تريك صحراءَ واسعة؛ كذلك كثيراً ما تذكِّرك كلمةٌ فذة خيالاً طويلاً، وتمثِّل نُصبَ عينيك هيئةُ كلمةٍ حكايةً عجيبةً. ويجول بذهنك كلامٌ في عالم المثال المثالي. كما أن لفظ «بارَزَ» يفتح لك معركة الحرب، ولفظ «ثمرة» في الآية يفتح لك باب الجنة، وقِس! فعلى هذا لفظُ ﴿عَلٰى﴾ للذهن كالكُوَّة إلى أُسلوبٍ تمثيلي، هو أنَّ هدايةَ القرآن بُراقٌ إلهيّ أهداه للمؤمنين ليَسلكوا-وهم عليه- في الطريق المستقيم سائرين إلى عرش الكمالات.

وأما التنكير في ﴿هُـدًى﴾ فيشير إلى أنه غير ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ إذ المنكَّر المكرّر غيرُ الأول في الأغلب؛ فذاك مصدرٌ وهذا حاصلٌ بالمصدر.. وهو صفة محسوسة قارَّة كثمرة الأول.

وأما لفظ ﴿مِنْ﴾ فيشير إلى أن الخلق والتوفيق في اهتدائهم -المكسوبِ لهم- من الله.

وأما لفظ الـ«رب» فيشير إلى أن الهداية من شأن الربوبية؛ فكما يربّيهم بالرزق يغذّيهم بالهداية.

﴿وَاُولٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

اعلم أن مظانّ تحري النُكت هي: عطفُ «الواو»، ثم تكرار ﴿اُولٰٓئِكَ﴾، ثم «ضمير الفصل»، ثم الألف واللام، ثم إطلاق «مفلحون» وعدمُ تعيين وجه الفلاح.

أما العطف فمبنيٌّ على المناسبة؛ إذ كما أن ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الأولَ إشارة إلى ثمرة الهداية من السعادة العاجلة؛ فهذا إشارةٌ إلى ثمرتها من السعادة الآجلة. ثم إنه مع أن كلاًّ منهما ثمرةٌ لكلِّ ما مرَّ، إلّا أن الأولى أنّ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الأول يرتبط عِرْقُه بـ ﴿اَلَّذينَ ﴾ الأولِ، الظاهر أنهم المؤمنون من الأميين، ويأخذ قوتَه من أركان الإسلامية، وينظر إلى ما قبل ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾. و ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الثاني ينظر برمز خفي إلى ﴿اَلَّذينَ ﴾ الثاني، الظاهر أنهم مؤمنو أهل الكتاب. ويكون مأخذُه أركان الإيمان واليقين بالآخرة. فتأمل!

وأما تكرار ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فإشارةٌ إلى استقلال كلٍّ من هاتين الثمرتين في العلّة الغائية للهداية والسببية لتميّزهم ومدحِهم، إلّا أن الأولى أن يكون ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الثاني إشارةً إلى الأول مع حكمه كما تقول: ذلك عالمٌ وذلك مكرَّم.

وأما ضميرُ الفصل فمع أنه تأكيدُ الحصر الذي فيه تعريضٌ بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبيّ عليه السلام، فيه نكتةٌ لطيفة وهي: أن توسُّط ﴿هُم﴾ بين المبتدأ والخبر من شأنه أن يحوّل المبتدأ للخبر الواحد موضوعاً لأحكام كثيرةٍ يُذكَر البعضُ ويُحال الباقيةُ على الخيال؛ لأن ﴿هُم﴾ ينَبِّه الخيال على عدم التحديد ويشوّقه على تحرّي الأحكام المناسبة. فكما أنك تضع «زيداً» بين عيني السامع فتأخذ تغزل منه الأحكام قائلا: هو عالمٌ، هو عامل، هو كذا وكذا. ثم تقول قس! كذلك لما قال ﴿اُولٰٓئِكَثم جاء ﴿هُمهيّج الخيالَ لأن يجتني ويثني بواسطة الضمير أحكاماً مناسبة لصفاتهم،كـ: أولئك هم على هدى.. هم مفلحون.. هم فائزون من النار.. هم فائزون بالجنة.. هم ظافرون برؤية جمال الله تعالى…إلى آخره.

وأما الألف واللام فلتصوير الحقيقة. كأنه يقول: إن أحببتَ أن ترى حقيقةَ المفلحين، فانظر في مرآة ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ لتمثّل لك..أو لتمييز ذواتهم، كأنه يقول: الذين سمعتَ أنهم من أهل الفلاح إن أردتَ أن تعرفهم فعليك بـ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فهم هم.. أو لظهور الحُكم وبداهته نظير «والدُه العبدُ» إذ كون والدِه عبداً معلومٌ ظاهر..

وأما إطلاق «مفلحون» فللتعميم؛ إذ مخاطَب القرآن على طبقاتٍ، مطالِبُهم مختلفةٌ. فبعضُهم يطلب الفوزَ من النار.. وبعضٌ إنما يقصد الفوزَ بالجنة.. وبعضٌ إنما يتحرّى الرضاء الإلهي.. وبعضٌ ما يحبّ إلّا رؤيةَ جمالِه.. وهلمَّ جرّاً.. فأطلق هنا لتعمّ مائدةُ إحسانه فيجتني كلٌّ مشتهاه.

* * *

 

الآية (4)

﴿وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَٓا اُنْزِلَ اِلَيْكَ وَمَٓا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿4﴾﴾

اعلم أن القرآن أرسلَ النظمَ أي لم يعيّن بوضعِ أمارةٍ وجهاً من وجوه التراكيب في كثير من أمثال هذه الآية، لسرٍّ لطيف، هو منشأ الإيجاز الذي هو منشأ الإعجاز، وهو:

أنَّ البلاغة هي مطابقةُ مقتضى الحال. والحال أن المخاطَبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي أعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الأعصار، ليستفيد مخاطَبُ كلِ نوعٍ ما قُدِّرَ له من حصته، حَذَف القرآنُ في كثيرٍ للتعميم والتوزيع، وأطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وأرسَل النظمَ في كثيرٍ لتكثير الوجوه، وتضمينِ الاحتمالات المستحسَنة في نظر البلاغة والمقبولةِ عند العِلم العربي ليفيض على كلِّ ذهنٍ بمقدار ذوقه. فتأمل!

ثم إن وجه نظم هذه الآية بسابقتها التخصيصُ بعد التعميم. ليعلن على رؤوس الأشهاد شرفَ مَنْ آمن من أهل الكتاب، وليردّ يدَ استغناء أهله في أفواههم، وليأخذ يدَ أمثال «عبد الله بن سلام»، ويشوِّق غيرَه لأن يأتمّ به.. وأيضا التنصيصُ على قسْمَي المتقين للتصريح بشمول هداية القرآن لكافة الأُمم، والتلويحُ لعموم رسالة محمد عليه السلام لقاطبة المِلل.. وأيضا التفصيلُ بعد الإجمال لشرح أركان الإيمان المندمجة في صَدَفِ ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إذ دلَّ على الكتب والقيامة صراحة، وعلى الرسل والملائكة ضمناً.

ثم إن القرآن لم يوجز هنا بنحو «والمؤمنين بالقرآن» لترصيع هذا المعنى بلطائفَ وتزيين ذيوله بنكَت، فآثر ﴿وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَٓا اُنْزِلَ﴾.

إذ في ﴿اَلَّذينَ﴾ رمزٌ إلى أن وصفَ الإيمان هو مناطُ الحكم وأن الذات مع سائر الصفات تابعةٌ له ومغمورة تحتَه.

وفي ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بدلَ «المؤمنين» الدالِّ على الثبوت في زمان ما، تلويحٌ إلى تجدد الإيمان بتواتر النـزول وتكرّر الظهور مستمراً.

وفي «مَا» الإبهامِ، إيماء إلى أن الإيمان مجمَلاً قد يكفي، وإلى تشميل الإيمان للوحي الظاهر والباطن وهو الحديث.

وفي ﴿اُنْزِلَ﴾ باعتبار مادته إشارةٌ إلى أن الإيمان بالقرآن هو الإيمان بنـزوله من عند الله. كما أن الإيمان بالله هو الإيمان بوجوده، وباليوم الآخر هو الإيمان بمجيئه. وبالنظر إلى صيغته الماضَوية -مع أنه لم يتم النـزول إذ ذاك- إشارةٌ إلى تحقُّقِه المُنـزَّلِ بمنـزلة الواقع مع أن مضارعِيَّةَ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ تتلافى ما في ماضويته. بل لأجل هذا التنـزيل ترى في أساليب التنـزيل كثيراً ما يبتلع الزمانُ الماضي المستقبلَ ويتَزَيَّا المضارعُ بزيّ الماضي، إذ فيه بلاغة لطيفة. لأن مَن سمع الماضيَ فيما لم يمضِ بالنسبة إليه اهتزّ ذهنُه، وتيقّظ أنه ليس وحدَه، وتذكّر أن خلفَه غيرَه من الصفوف بمسافات. حتى كأن الأعصارَ مدارجُ والأجيالَ صفوفٌ قاعدون خلفَها، وتَنبَّهَ أن الخطابَ والنداءَ الموجّه إليه بدرجة من الشدة والعلوّ يسمعه كلُّ الأجيال. وهو خُطبةٌ إلهية أنصتَ لها كلُّ الصفوف في كل الأعصار. فالماضي حقيقةٌ في الكثير -في أكثر الأزمان- ومجازٌ في القليل -في أقلّها- ومراعاةُ الأكثر أوفَى لحق البلاغة.

وفي ﴿اِلَيْكَ﴾ بدلَ «عليك» رمز إلى أن الرسالة وظيفةٌ كُلِّف بها النبي عليه السلام وتحمَّلها بجزئه الاختياري.. وإيماءٌ إلى علوّه بخدمة جبرائيل بالتقديم إليه؛ إذ في «عَلى» شمُّ اضطرارٍ وعلوِّ واسطةِ النـزول.. وفي خطابِ ﴿اِلَيْكَ﴾ بدل «إلى نحو محمد» تلويحٌ إلى أن محمداً عليه السلام ما هو إلّا مخاطَب والكلامُ كلام الله.. وأيضا معنى الخطاب تأكيد وتصوير لمعنى النـزول؛ الذي هو الوحي، الذي هو القرآن، الذي هو خطابُ الله معه، الذي هو الخاصة النافذة في الكل. فكشف هذا الجزءُ الحجابَ عن حصته من تلك الخاصة. فظهر أن هذا الكلام بالنظر إلى اشتماله على هذه اللطائف المذكورة في نهاية الإيجاز.

﴿وَمَٓا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾

اعلم أن أمثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً، يتضمن أحكاماً إنشائية. كآمِنوا كذا وكذا.. ولا تفرقوا..

ثم إن في هذا النظم والربط أربعَ لطائف:

إحداها: عطفُ المدلول على الدليل. أي «ياأيها الناس إذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة أيضاً، إذ القرآن مصدِّقٌ لها وشاهد عليها» بدليل ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (البقرة:97).

والثانية: عطفُ الدليل على المدلول، أي «يا أهل الكتاب إذا آمنتم بالأنبياء السابقين والكتب السالفة لزم عليكم أن تؤمنوا بالقرآن وبمحمد عليه السلام، لأنهم قد بشّروا به. ولأن مدارَ صدقهم ونزولِها، ومناطَ نبوتهم يوجد بحقيقته وبروحه في القرآن بوجه أكمل وفي محمد عليه السلام بالوجه الأظهر. فيكون القرآنُ كلامَ الله بالقياس الأوْلَوِيّ، ومحمَّدٌ عليه الصلاة والسلام رسولَه بالطريق الأولى».

والثالثة: أنَّ فيه إشارة إلى أن مآل القرآن -أعني الإسلامية الناشئة في زمان السعادة- كشجرةٍ أصلُها ثابت في أعماق الماضي، منتشرةُ العروق، متشربةٌ عن منابع حياتها وقوّتها، وفرعُها في سماء الاستقبال ناشرةٌ، أغصانُها مثمرةٌ. أي أخذت الإسلامية بقَرنَي الماضي والاستقبال.

والرابعة: أنَّ فيه إشارةً إلى تشويق أهل الكتاب على الإيمان وتأنيسِهم، والتسهيلِ عليهم. كأنه يقول: «لا يَشقَّنَّ عليكم الدخولُ في هذا السلك، إذ لا تخرجون عن قشركم بالمرّة، بل إنما تكمّلون معتقداتكم، وتبنون على ما هو مؤسَّس لديكم»إذ القرآن معدِّلٌ ومكمِّلٌ في الأُصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة وأُصولِ الشرائع السالفة. إلّا أنه مؤسِّس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغيّر الزمان والمكان؛ فكما تتحول الأدويةُ والألبسةُ في الفصول الأربعة، وطرزُ التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي الحكمةُ والمصلحة تبدل الأحكام الفرعية في مراتبِ عمرِ نوعِ البشر. فكم من حُكمٍ فرعيٍّ كان مصلحةً في زمان، ودواءً في وقتِ طفوليةِ النوع، لا يبقى مصلحةً في آخَرَ، ودواءً عند شبابية النوع. ولهذا السرّ نَسخَ القرآنُ بعض الفروع. أي بيّن انقضاءَ أوقات تلك الفروع ودخولَ وقت آخر.

وفي ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ لطائف:

اعلم أنه ما من كلمة في التنـزيل يأبى عنها مكانُها، أو لم يرضَ بها، أو كان غيرُها أولى به. بل ما من كلمة من التنـزيل إلا وهي كدُرٍّ مُرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فإن شئتَ مثالاً تأمل في ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية تَوَضَّعتْ على هذه الكلمة الفذة.

فإن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ تشرّبتْ وتلوّنت -فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائف- المناسباتِ المنعكسة من المقاصد الخمسة المندمجة في مسألة النبوة المسوقةِ لها هذه الآيةَ.

أما المقاصد المندمجة فهي أن محمداً عليه السلام نبيٌّ، وأنه أكمل الأنبياء، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه مُرسل لكافة الأقوام، وأن شريعتَه ناسخةٌ لجميع الشرائع، وجامعةٌ لمحاسنها.

أما وجه انعكاس المقصد الأول في تلك الكلمة، فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ إنما يقال إذا اتّحد المسلك وكان الطريق واحداً. فكأن هذه الكلمة تترشح بأن الحججَ على نبوة مَن قبله وصِدقِ كُتبهم، حُجةٌ بمجموعها بتنقيح المناط وتحقيق المناط بالقياس الأوْلَوِي على نبوة محمد عليه السلام ونزولِ كتابه. فكأن جميعَ معجزاتهم معجزةٌ فذّة على صدق محمد عليه السلام.

وأما وجه انعكاس المقصد الثاني، وهو الأكملية فيها، فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ بناءً على ملاحظة عادةِ «أن السلطان يخرج في أُخريات الناس».. وعلى قاعدة التكمّل في نوع البشر المقتضية لأكملية المربِّي الثاني عن المربِّي الأول.. وعلى أغلبية مهارةِ وزيادةِ الخَلَف على السَّلَف، تلوّح بأن محمداً عليه السلام سلطانُ الأنبياء، أكملُ من كلّهم. كما أن القرآنَ أجمعُ وأجملُ من كُتبهم.

وأما وجه تشرّبها من المقصد الثالث وهو «الخاتمية» فهو أنَّ ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ بسر قاعدة: «إن الواحد إذا تكثَّر تسلْسَلَ لا يسكن، وإن الكثير إذا اتّحد استقرّ لا ينقطع»، وبإشمام المفهوم المخالف تُلمّح بأنه عليه السلام خاتم الأنبياء.

وأما وجه انصباغها من المقصد الرابع وهو «عموم الدعوة» فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ المفيدةَ «أنك خَلَفُهم وكلٌّ منهم سلَفُك» بسر قاعدة: «إنَّ الخلف يأخذ تمامَ وظيفة السلف ويقوم مقامَه» تشير بأنه إذا كان كلٌّ منهم سلفَك فأنت نائبُ الكل، ورسولُ
جميع الأُمم.

نعم، لا يكون إلّا كذلك! إذ الفطرةُ حاكمة له، والحكمةُ قاضية به؛ لأنه كانت أُمم العالَم الإنساني قبل زمان السعادة في غاية التباعد والاختلاف مادةً ومعنىً، واستعداداً وتربيةً؛ ما كفَت لهم التربيةُ الواحدة وما شملت الدعوةُ المفردة. ثم لمّا انتبه العالمُ الإنساني بزمان السعادة بعده، وتمايلَ إلى الاتحاد بمداولة الأفكار، ومبادلةِ الطبائع، واختلاطِ الأقوام، وتحرّى البعضُ عن حال البعض حتى تمخّض الزمانُ بكثرة طرق المخابرة والمناقلة؛ فصارت الكرةُ كمملكة، وهي كولاية، وهي كبلدة، واتصل الرحم بين أهل الدنيا؛ كَفَت الدعوةُ الواحدة والنبوةُ الفريدة للكافة.

وأما وجه إشمامها بالمقصد الخامس فهو أنَّ ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ المومية من «مِن» إلى «إلى»، ومن «إلى» إلى الإغناء، أي «انتهت الرسالة بقدومك إذ أغْنَتْ شريعتُك»، ترمز بأن شريعتَه عليه السلام ناسخةٌ بالانتهاء وجامعةٌ بالإغناء.

واعلم أن الأمارة لنظر البلاغة على تشرّب هذه الكلمة لهؤلاء اللطائف هي أن هذه المقاصد الخمسة كالأنهار الجارية تحت هذه الآيات، حتى يفورُ هذا بكماله في آية.. وينبع ذاك بتمامه في أُخرى.. ويتجلى ذلك بشَرَاشيره في آخرة. فأدنى ترشُّح على السطح يومي بتماسّ عروق الكلمة بها. وأيضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقةٍ لها.

﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

اعلم أن مآل هذه الآية هو المقصدُ الرابع من المقاصد الأربعة المشهورة وهو «مسألة الحشر».

ثم إنّا قد استفدنا من نظم القرآن عشرةَ براهين عليها، ذكرناها في كتاب آخر فناسبَ تلخيصُها هنا. وهي:

أنَّ الحشر حقٌّ؛ لأن في الكائنات نظاماً أكملَ قصديّاً..

وأنّ في الخلقة حكمةً تامة..

وأنْ لا عبثية في العالم..

وأنْ لا إسراف في الفطرة.. والمزكّي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كلٌّ منها شاهدُ صدق على نظامِ نوعِ موضوعِه..

وأيضا إن في كثير من الأنواع مثل اليوم والسنة وغيرهما قيامةً مكررةً نوعية..

وأيضا جوهرُ استعداد البشر يرمز إلى الحشر..

وأيضا عدمُ تناهي آمال البشر وميولِه يشير إليه..

وأيضا رحمةُ الصانع الحكيم تلوّح به..

وأيضا لسانُ الرسول الصادق عليه السلام يصرّح به..

وأيضا بيانُ القرآن المعجِز في أمثال: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَارًا﴾ (نوح:14) ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ (فصلت:46) يشهد له. تلك عشرةٌ كاملةٌ، مفاتيحُ للسعادة الأبدية وأبوابٌ لتلك الجنة.

أما بيان البرهان الأول: فهو أنه لو لم تنجرَّ الكائناتُ إلى السعادة الأبدية لصار ذلك النظام الذي أتقن فيه صانعُه إتقاناً حَيَّرَ فيه العقولَ صورةً ضعيفةً خادعة، وجميعُ المعنويات والروابط والنسب في النظام هباءً منثوراً. فليس نظامُ ذلك النظام إلّا اتصالَه بالسعادة، أي إن النكت والمعنويات في ذلك النظام إنما تتسنبل في عالم الآخرة. وإلّا لانطَفأ جميعُ المعنويات، وتقطّع مجموعُ الروابط، وتمزّقَ كل النسب، وتفتَتَ هذا النظام؛ مع أن القوة المندمجة في النظام تنادي بأعلى صوتها: أن ليس من شأنها الانقضاضُ والانحلال.

وأما البرهان الثاني: فهو أن تمثالَ العناية الأزلية الذي هو الحكمةُ التامة، التي هي رعايةُ المصالح والحِكَم في كل نوع، بل في كل جزئي -بشهادة كلِّ الفنون- يبشّر بقدوم السعادة الأبدية. وإلّا لَزِم إنكار هذه الحِكم والفوائد التي أجبرتنا البداهةُ على الإقرار بها؛ إذ حينئذ تكون الفائدةُ لا فائدة.. والحكمةُ غير حكمةٍ.. والمصلحةُ عدم مصلحة. وإن هذا إلّا سفسطة.

وأما البرهان الثالث المفسّر للثاني: فهو أن الفن يشهد أيضاً أن الصانع اختار في كل شيء الطريقَ الأقصر، والجهةَ الأقرب، والصورةَ الأخف والأحسن. فيدلّ على أن لا عبثية. فيدلّ على أنه جدّيّ حقيقي. وما هو إلا بمجيء السعادة الأبدية. وإلّا لتنـزل هذا الوجود منـزلةَ العدم الصرف. وتحول كلُّ شيء عبثاً محضاً.. سبحانك ماخلَقْتَ هذا عَبَثاً.

أما البرهان الرابع الموضِّح للثالث: فهو أن لا إسراف في الفطرة بشهادة الفنون. فإن تقاصر ذِهْنُك عن إدراك حِكَم الإنسان الأكبر وهو «العالم» فأمعِن النظر في العالم الأصغر وهو «الإنسان». فإن فن منافع الأعضاء قد شرح وأثبت أن في جسد الإنسان -تقريباً- ستمائة عظم كلٌّ لمنفعة.. وستةَ آلاف عصب هي مجارٍ للدم كلٌّ لفائدة.. ومائةَ وأربعة وعشرين ألفَ مسامةٍ وكوّة للحجيرات التي تعمل في كلٍّ منها خمسُ قوى من الجاذبة والدافعة والممسكة والمصوّرة والمولّدة كلٌّ منها لمصلحة. وإذا كان العالَمُ الأصغر كذا فكيف يكون الإنسان الأكبر أنقصَ منه؟ وإذا كان الجسد الذي لا أهمية له بالنسبة إلى لبِّه بتلك الدرجة من عدم الإسراف، فكيف يُتصوَّر إهمالُ جوهر الروح؟ وإسرافُ كلِّ آثاره من المعنويات والآمال والأفكار؟ إذ لولا السعادةُ الأبدية لتقلصت كلُّ المعنويات وصارت إسرافاً. فبالله عليك، أيُمكن في العقل أن يكون لك جوهرةٌ قيمتُها الدنيا، فتهتم بصدَفها وغلافها حتى لا تخلي أن يصل الغبار إليه، ثم تأخذ الجوهرةَ فتكسّرها شذراً مذراً وتمحو آثارَها؟ كلا ثم كلا! ما تهتم بالغلاف إلّا لأجل ما فيه.. وأيضاً إذا أفهمتْك قوةُ البِنية في شخص وصحةُ أعضائه واستعداده استمرارَ بقائه وتَكمُّله؛ أفلا تُفهّمك الحقيقةُ الثابتة الجارية في روح الكائنات، والقوةُ الكاملة المومية بالاستمرار في الانتظام، والكمالُ المنجرّ إلى التكمل في النظام مجيءَ السعادة الأبدية من باب الحشر الجسماني؟ إذ هي المخلّصةُ للانتظام عن الاختلال، والواسطةُ للتكمل وانكشاف تلك القوة المؤبَّدة.

وأما البرهان الخامس والحدسُ المُرمِز إلى المقصد: فهو أن وجودَ نوعِ قياماتٍ مكرّرةٍ نوعيةٍ في كثير من الأنواع يشير إلى القيامة العظمى. وإن شئتَ تمثُّلَ الرمزِ في مثالٍ، فانظر في ساعتك الأُسبوعية، فكما أن فيها دواليبَ مختلفةً دوّارة متحركة محركة للإبر والأمْيالِ العادّةِ واحدةٌ منها للثواني، وهي مقدمة ومخبِرة لحركة إبرة الدقائق، وهي مُعدّة ومُعلِنة لحركة مِيل الساعات، وهي محصّلة ومُؤْذنة لحركة الإبرة التي تَعُدّ أيام الأُسبوع. فإتمام دورة السابقة يشير بأن أُختَها اللاحقة تتم دورَها؛ كذلك إن لله تعالى ساعةً كبرى دواليبُها الأفلاكُ تعدّ أميالُها الأيامَ والسنين وعمرَ البشر وبقاءَ الدنيا، نظير الثواني والدقائق والساعات والأيام في ساعتك. فمجيءُ الصبح بعد كل ليلة، والربيعِ بعد كل شتاء -بناء على حركة تلك الساعة- يشير إشارةً خفية ويرمز رمزاً دقيقاً بتولّد صبحِ ربيع الحشر من تلك الساعة الكبرى.

 إن قلت: القيامةُ النوعية لا تُحشَر الأشخاصُ بأعيانهم فكيف ترمز بالقيامة الكبرى لِعَوْد الأشخاص هناك بأعيانهم؟

قيل لك: إنَّ شخصَ الإنسان كنوعِ غيره، إذ نورُ الفكر أعطَى لآمال البشر وروحه وُسْعةً وإنبساطاً بدرجة وسِعَت الأزمنةَ الثلاثة، لو ابتلع الماضيَ والمستقبل مع الحال لم تمتلئ آمالُه؛ لأن نور الفكر صيّر ماهيتَه عُلْوية، وقيمتَه عمومية، ونظرَه كلياً، وكمالَه غير محصور، ولذتَه دائمية، وألمَه مستمراً. أما فردُ النوع الآخر فماهيتُه جزئية، وقيمتُه شخصية، ونظرُه محدود، وكمالُه محصور، ولذتُه آنيّة، وألمُه دفعيّ، فوجودُ نوعِ قيامة في الأنواع، كيف لا يشير بالقيامة الشخصية العمومية للإنسان؟

وأما البرهان السادس الملوّح: فهو عدمُ تناهي استعدادات البشر؛ نعم، إن تصوراتِ البشر وأفكارَه التي لا تتناهى، المتولدةَ من آماله الغير المتناهية، الحاصلةِ من ميوله الغيرِ المضبوطةِ، الناشئةِ من قابلياته الغير المحدودة، المستترةِ في استعداداته الغير المحصورة، المزروعةِ في جوهر روحه الذي كرّمه الله تعالى؛ كلٌّ منها يشير في ما وراءَ الحشر الجسماني بإصبع الشهادةِ إلى السعادة الأبدية وتمد نظرَها اليه. فتأمل!

وأما البرهان السابع المبشر: فهو أن رحمةَ الرحمن الرحيم تبشّر بقدوم أعظم الرحمة، أعني السعادة الأبدية؛ إذ بها تصيرُ الرحمةُ رحمةً، والنعمةُ نعمةً. وبها تخلص الكائناتُ من النياحات المرتفعة من المأتم العموميّ المتولد من الفراق الأبديّ المصيّر للنِعم نِقماً. إذ لو لم يجئ روحُ النِعَم أعني السعادة الأبدية، لتحوّل جميعُ النعم نِقماً؛ ولَلزم المكابرةُ في إنكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة..

فيا أيها الحبيب الشفيق العاشق! انظُر إلى ألطفِ آثار رحمة الله، أعني المحبةَ والشفقة والعشق؛ ثم راجعْ وجدانَك، لكن بعد فرض تعقّب الفراقِ الأبدي والهجران اللايزالي عليها، كيف ترى الوجدانَ يستغيث.. والخيالَ يصرخ.. والروحَ يضجر من انقلاب تلك المحبة والشفقة -اللتين هما أحسنُ وألطفُ أنواع الرحمة والنعمة- أعظمَ مصيبةٍ عليك وأشدَّ بلاءٍ فيك؟ أفيمكن في العقل أن تساعد تلك الرحمةُ الضرورية لهجوم الفراق الأبدي والهجرانِ اللايزاليّ على المحبة والشفقة؟ لا! بل من شأن تلك الرحمة أن تسلِّط الفراقَ الأبدي على الهجران اللايزاليّ، والهجرانَ اللايزاليّ على الفراق الأبدي، والعدمَ عليهما.

وأما البرهان الثامن المصرّح: فهو لسانُ محمد عليه السلام الصادق المصدوق، ولقد فتح كلامُه أبوابَ السعادة الأبدية، على أن إجماع الأنبياء من آدمهم إلى خاتمهم عليهم السلام على هذه الحقيقة حُجةٌ حقيقيةٌ قطعية على هذا المدّعَى. ولِأمرٍ مّا اتفقوا.

وأما البرهان التاسع: فهو إخبار القرآن المعجِز؛ إذ التنـزيلُ المصدَّق إعجازُه بسبعة أوجه في ثلاثةَ عشرَ عصراً دعواه عينُ برهانها. فإخباره كشَّافٌ للحشر الجسماني ومفتاحٌ له.

وأما البرهان العاشر، المشتمل على ألوفٍ من البراهين التي تضمّنَها كثيرٌ من الآيات مثل ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَارًا﴾ المشيرِ إلى «قياس تمثيلي»، و﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ المشيرِ إلى «دليل عَدْليّ»، وغيرهما، فلقد فتح القرآن في أكثر الآيات كُوّاتٍ ناظرة إلى الحشر.

أما القياس التمثيلي المشار إليه بالآية الأُولى: فانظر في وجود الإنسان فإنه ينتقل من طَور إلى طور؛ من النطفة إلى العلَقة.. ومنها إلى المضغة.. ومنها إلى العظم واللحم.. ومنه إلى الخلق الجديد. ولكلٍّ من تلك الأطوار قوانينُ مخصوصة، ونظاماتٌ معيّنة، وحركاتٌ مطّردة يشفّ كلٌّ منها عن قصدٍ وإرادةٍ واختيارٍ.. ثم تأمل في بقائه فإن هذا الوجود يجدّد لباسَه في كل سنة، ومن شأنه التحللُ والتركّب، أي انقضاضُ الحجيرات وتعميرُها ببدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزّعة على نسبة مناسبة الأعضاء التي يُحضِرها صانعُها بقانون مخصوص. ثم تأمل في أطوار تلك المادةِ اللطيفة الحاملةِ لأرزاق الأجزاء. كيف تنتشر في أقطار البدَن انتشاراً تحيّر فيه العقولُ. وكيف تنقسم بقانون التقسيم المعيّن على مقدار حاجات الأعضاء؛ بعد أن تلخّصت تلك المادةُ بنظام ثابت، ودستور معين، وحركة عجيبة من أربع مصفاتات، وانطبخت في أربعة مطابخ بعد أربعةِ انقلابات عجيبة؛ المأخوذةِ تلك المادة من القُوتِ المحصَّل من المواليد المنتشرة في عالم العناصر بدستورٍ منتظم؛ ونظام مخصوص، وقانون معين. وكلٌّ من القوانين والنظامات في تلك الأطوار يشفّ عن سائقٍ وقصدٍ وحكمةٍ. كيف لا، ولو تأملتَ من قافلة تلك المادة اللطيفة في ذرةٍ مثلاً، مُستَّرةً في عنصر الهواء تصير بالآخرة جزءاً من سواد عين «الحبيب»، لعَلِمتَ أن تلك الذرةَ وهي في الهواء معيّنةٌ كأنها موظفةٌ مأمورة بالذهاب إلى مكانها الذي عُيّن لها؛ إذ لو نظرت إليها بنظرِ فنّيّ تيقنتَ أن ليست حركتُها «اتفاقية عمياء» «بتصادف أعمى»، بل تلك الذرةُ ما دخلت في مرتبةٍ إلَّا تبعَت نظاماتِها المخصوصة، وما تدرّجَتْ إلى طورٍ إلَّا عَمِلت بقوانينه المعيّنة، وما سافرت إلى طبقة إلَّا وهي تُساق بحركة عجيبة منتظمة، فتمرّ على تلك الأطوار حتى تصل إلى موضعها. مع أنها لا تنحرف قطعاً مقدار ذرة عن هدف مقصدها.

والحاصل: أن من تأمل في النشأة الأولى لم يبقَ له تردّدٌ في النشأة الأخرى، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عَجباً لمن يَرى النشأةَ الأُولَى كيفَ ينكر النشأة الأخرى».

نعم، كما أن جمعَ نفراتِ عسكرِ فرقةٍ أُذِنَ لهم بالاستراحة والانتشار إذا دُعوا بالآلة المعروفة -يتسللون عن كل طرَف ومكمَن، فيجتمعون متّحدين تحت لوائهم- يكون أسهلَ وأسهلَ من جلبهم أول الأمر إلى الانتظام تحت السلاح؛ كذلك إن جمعَ الذرات التي حصَلت بينها المؤانسةُ والمناسبة بالامتزاج في وجودٍ واحدٍ إذا نوديتْ بصُور إسرافيل فينساب الكلُّ من كل فجٍّ عميق مُلبِّيةً لأمر خالقها، يكون أسهلَ وأمكن في العقل من إنشائها وتركيبها أول المرة.

أما بالنسبة إلى القدرة فأعظمُ الأشياء كأصغرِها.

ثم الظاهر أن المُعاد يُعاد بأجزائه الأصلية والفضولية معاً. كما يشير إليه كبرُ أجسام أهل الحشر وكراهةُ قصّ الأظفار والأشعار ونحوها للجُنُب، وسُنِّـيَّةُ دفنِها. والتحقيق أن عَجب الذَّنَب يكفي أن يكون بذراً ومادةً لتشكّله.

وأما الدليل الذي لوّح به: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ : فاعلم أنّا كثيراً ما نرى الظالمَ الفاجر الغدّار في غاية التنعّم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة، ثم نرى المظلومَ الفقير المتديّن الحَسَنَ الخُلقِ ينقضي عمرُه في غاية الزحمة والذلّةِ والمظلومية، ثم يجيء الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواةُ بلا نهايةٍ تُرى ظُلماً. والعدالةُ والحكمة الإلهيتان اللتان شهِدت عليهما الكائناتُ منـزّهتان عن الظلم؛ فلابد من مجمَعٍ آخر ليرى الأولُ جزاءَه والثاني ثوابَه فيتجلى العدالةُ الإلهية.

وقِس على هاتين الآيتين نظائرهما. هذا..

أما وجهُ النظم في أجزاء ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ فاعلم أن مناط النكت: «الواو»، ثم تقديمُ ﴿بِالآخِرَةِ﴾ ثم الألف واللام فيها، ثم التعبير بهذا العنوان، ثم ذِكر ﴿هُمْ﴾، ثم ذِكر ﴿ يُوقِنُونَ﴾ بدلَ «يؤمنون».

أما «الواو» ففيها التخصيص بعد التعميم، للتنصيص على هذا الركن من الإيمان، إذ هو أحد القطبين اللذين تدور عليهما الكتبُ السماوية.

وأما تقديمُ ﴿بِالآخِرَةِ﴾ ففيه حصرٌ، وفي الحصر تعريضٌ بأن أهلَ الكتاب بناءً على قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ اِلَّٓا اَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ (البقرة:80) ونفيِهم اللذائذ الجسمانية، آخرتُهم آخرةٌ مجازية اسمية، ما هي بحقيقة الآخرة.

وأما الألف واللام فللعَهد، أي إشارةٌ إلى المعهود بالدوران على ألسنة كلِّ الكتب السماوية.. وفي العهد لمحٌ إلى أنها حقٌ وإشارة إلى الحقيقة المعهودة الحاضرة بين أهداب العقول بسبب الدلائل الفطرية المذكورة.. وفي العهد حينئذ رمزٌ إلى أنها حقيقة.. وأما التعبير بعنوان «الآخِرَةِ» الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن إلى النشأة الأولى، لينتقل إلى إمكان النشأة الأخرى.

وأما ﴿هُمْ﴾ ففيه حصرٌ، وفي الحصر تعريض بأن إيمان من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب ليس بيقين، بل إنما يظنونه يقيناً.

وأما ذكر ﴿ يُوقِنُونَ﴾ بدل «يؤمنون» مع أن الإيمان هو التصديقُ مع اليقين، فليضع الإصبع على مناط الغرض قصداً لإطارة الشكوكِ؛ إذ القيامةُ محشرُ الريوب.. وأيضا بالتنصيص ينسدّ طُرق التعلل بـ«إنا مؤمنون فليؤمن مَن لم يؤمن».

* * *