اللمعة الحادية والعشرون

تخص الإخلاص

كانت هذه اللمعة المسألة الرابعة للمسائل السبع للمذكّرة السابعة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة» إلّا أنها أصبحت النقطة الثانية من «اللمعة العشرين». لمناسبة موضوعها -الإخلاص- وبناء على نورانيتها صارت «اللمعة الحادية والعشرين»، فدخلت في كتاب «اللمعات».

[تُقرأ هذه اللمعة كل خمسة عشر يوماً في الأقل]

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ر۪يحُكُمْ (الأنفال:46)

﴿وَقُومُوا لِلّٰهِ قَانِت۪ينَ (البقرة:238)

﴿قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكّٰيهَاۙۖ * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّٰيهَا (الشمس:9-10)

﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِاٰيَات۪ي ثَمَنًا قَل۪يلًا (البقرة:41)

يا إخوة الآخرة! ويا أصحابي في خدمة القرآن! اعلموا -وأنتم تعلمون- أنَّ الإخلاص في الأعمال ولاسيما الأخروية منها، هو أهم أساس، وأعظم قوة، وأرجى شفيع، وأثبت مُرتكز، وأقصر طريق للحقيقة، وأبرّ دعاء معنوي، وأكرم وسيلة للمقاصد، وأسمى خصلة، وأصفى عبودية.

فما دام في الإخلاص أنوار مشعة، وقوى رصينة كثيرة أمثال هذه الخواص.. ومادام الإحسان الإلهي قد ألقى على كاهلنا مهمة مقدسة ثقيلة، وخدمة عامة جليلة، تلك هي وظيفة الإيمان وخدمة القرآن.. ونحن في غاية القلة والضعف والفقر، ونواجه أعداءً ألدّاء ومضايقات شديدة، وتُحيط بنا البدع والضلالات التي تصول وتجول في هذا العصر العصيب.. فلا مناص لنا إلّا ببذل كل ما في وسعنا من جهد وطاقة كي نظفر بالإخلاص. فنحن مضطرون إليه، بل مكلفون به تكليفاً، وأحوج ما نكون إلى ترسيخ سر الإخلاص في ذواتنا، إذ لو لم نفز به لضاع منا بعض ما كسبناه من الخدمة المقدسة -لحد الآن- ولمَا دامت ولا استمرت خدمتنا، ثم نحاسَب عليها حساباً عسيراً، حيث نكون ممن يشملهم النهي الإلهي وتهديده الشديد في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِاٰيَات۪ي ثَمَنًا قَل۪يلًا﴾ بما أَخللنا بالإخلاص فأفسدنا السعادة الأبدية، لأجل مطامع دنيوية دنيئة، مقيتة، مضرة، مكدرة، لا طائل من ورائها ولا فائدة، إرضاء لمنافع شخصية جزئية تافهة، أمثال الإعجاب بالنفس والرياء. ونكون أيضاً من المتجاوزين على حقوق إخواننا في هذه الخدمة ومن المتعدين على نهج الخدمة القرآنية، ومن الذين أساءوا الأدب فلم يقدروا قُدسِيَّة الحقائق الإيمانية وسُمُوَّها حق قدرها.

فيا إخوتي! إن الأمور المهمة للخير والدروب العظيمة للصلاح، تعترضها موانع وعقبات مضرة كثيرة. فالشياطين يكدون أنفسهم ويجهدونها مع خُدام تلك الدعوة المقدسة، لذا ينبغي الاستناد إلى الإخلاص والاطمئنانُ إليه، لدفع تلك الموانع وصَدِّ تلك الشياطين. فاجتنبوا – يا إخوتي – الأسبابَ التي تقدح بالإخلاص وتثلمه كما تجتنبون العقارب والحيات. فلا وثوق بالنفس الأمارة ولا اعتماد عليها قط، كما جاء في القرآن الكريم على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿وَمَٓا اُبَرِّئُ نَفْس۪يۚ اِنَّ النَّفْسَ لَاَمَّارَةٌ بِالسُّٓوءِ اِلَّا مَا رَحِمَ رَبّ۪ي﴾ (يوسف:53) فلا تخدعنّكم الأنانيةُ والغرور ولا النفس الأمارة بالسوء أبداً.

ولأجل الوصول إلى الظفر بالإخلاص وللحفاظ عليه، ولدفع الموانع وإزالتها، اجعلوا الدساتير الآتية رائدكم:

دستوركم الأول:

ابتغاء مرضاة الله في عملكم. فإذا رضي هو سبحانه فلا قيمةَ لإعراض العالم أجمع ولا أهمية له. وإذا ما قَبِل هو سبحانه فلا تأثير لردّ الناس أجمعين. وإذا أراد هو سبحانه واقتضته حكمتُه بعد ما رضي وقَبِل العمل، جعل الناس يقبلونه ويرضون به، وإن لم تطلبوه أنتم، لذا ينبغي جعل رضى الله وحده دون سواه القصد الأساس في هذه الخدمة.. خدمة الإيمان والقرآن.

دستوركم الثاني:

هو عدم انتقاد إخوانكم العاملين في هذه الخدمة القرآنية، وعدم إثارة نوازع الحسد بالتفاخر والاستعلاء. لأنه كما لا تحاسد في جسم الإنسان بين اليدين، ولا انتقاد بين العينين، ولا يعترض اللسان على الأذن، ولا يرى القلبُ عيبَ الروح، بل يكمّل كلٌّ منه نقصَ الآخر ويستر تقصيره ويسعى لحاجته، ويعاونه في خدمته.. وإلّا انطفأت حياة ذلك الجسد، ولغادرته الروحُ وتمزق الجسم… وكما لا حسدَ بين تروس المعمل ودواليبه، ولا يتقدم بعضها على بعض ولا يتحكم، ولا يدفع أحدها الآخر إلى التعطل بالنقد والتجريح وتتبع العورات والنقائص، ولا يثبط شوقه إلى السعي، بل يعاون كل منها الآخر بكل ما لديه من طاقة موجهاً حركات التروس والدواليب إلى غايتها المرجوة، فيسير الجميع إلى ما وُجدوا لأجله، بالتساند التام والاتفاق الكامل. بحيث أنه لو تدخل شيء غريب أو تحكّم في الأمر -ولو بمقدار ذَرة- لاختل المعمل وأصابه العطبُ ويقوم صاحبه بدوره بتشتيت أجزائه وتقويضه من الأساس.

فيا طلاب رسائل النور ويا خدام القرآن! نحن جميعاً أجزاء وأعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يُطلق عليها: الإنسان الكامل.. ونحن جميعاً بمثابة تروسِ ودواليبِ معمل ينسج السعادة الأبدية في حياة خالدة. فنحن خدام عاملون في سفينة ربانية تسير بالأمة المحمدية إلى شاطئ السلامة وهي دار السلام.

نحن إذن بحاجة ماسة بل مضطرون إلى الإتحاد والتساند التام وإلى الفوز بسر الإخلاص الذي يهيئ قوة معنوية بمقدار ألف ومائة وأحد عشر «1111» ناتجة من أربعة أفراد. نعم، إنْ لم تتحد ثلاث «ألفات» فستبقى قيمتُها ثلاثاً فقط، أما إذا اتحدت وتساندت بسر العددية، فإنها تكسب قيمة مائة وأحد عشر «111»، وكذا الحال في أربع «أربعات» عندما تكتب كل «4» منفردة عن البقية فإن مجموعها «16» أما إذا اتحدت هذه الأرقام واتفقت بسر الأخوة ووحدة الهدف والمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة أربعة آلاف وأربعمائة وأربع وأربعين «4444» وقوتها. هناك شواهد ووقائع تاريخية كثيرة جداً أثبتت أن ستة عشر شخصاً من المتآخين المتحدين المضحين بسر الإخلاص التام تزيد قوتُهم المعنوية وقيمتُهم على أربعة آلاف شخص.

أما حكمة هذا السر فهي أنَّ كل فرد من عشرة أشخاص متفقين حقيقةً يمكنه أن يرى بعيون سائر إخوانه ويسمع بآذانهم. أي إن كلاً منهم يكون له من القوة المعنوية والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عيناً ويفكر بعشرة عقول ويسمع بعشرين أُذناً ويعمل بعشرين يداً. (حاشية) نعم، كما أنّ تسانداً حقيقياً، واتحاداً تاماً، نابعاً من «الإخلاص» هو محور تدور عليه منافع لا تنتهي، كذلك فهو ترس عظيم، ومرتكز قوي للوقوف تجاه المخاوف العديدة، بل أمام الموت، لأن الموت لا يسلب إلا روحاً واحدة، فالذي ارتبط بإخوانه بسر الاخوة الخالصة في الأمور المتعلقة بالآخرة وفي سبيل مرضاة الله، يحمل أرواحاً بعدد إخوانه، فيلقى الموت مبتسماً وقائلاً: لتَسلَم أرواحي الأخرى.. ولتبق معافاة، فإنها تديم لي حياة معنوية بكسبها الثواب لي دائما. فأنا لم أمت إذن. ويُسلّم روحه وهو قرير العين، ولسان حاله يقول: أنا أعيش بتلك الأرواح من حيث الثواب ولا أموت إلا من حيث الذنوب والآثام.

دستوركم الثالث:

اعلموا أنَّ قوتكم جميعاً في الإخلاص والحق.

نعم، إنَّ القوة في الحق والإخلاص، حتى إن أهل الباطل يحرزون القوةَ لما يبدون من ثبات وإخلاص في باطلهم.

نعم، إن خدمتنا هذه في سبيل الإيمان والقرآن هي دليل بذاتها على أن القوة في الحق والإخلاص. فشيء يسير من الإخلاص في سبيل هذه الخدمة يُثبت دعوانا هذه ويكون دليلاً عليه. ذلك: لأن ما قمنا به في أزيد من عشرين سنة في مدينتي وفي إستانبول من خدمة في سبيل الدين والعلوم الشرعية، قد قمنا معكم بأضعافه مائة مرة هنا في غضون ثماني سنوات. علماً بأن الذين كانوا يعاونونني هناك هم أكثر مائة مرة بل ألف مرة ممن يعاونونني هنا. إنَّ خدماتنا هنا في ثماني سنوات مع أنني وحيد غريب شبه أمّي وتحت رقابة موظفين لا إنصاف لهم وتحت مضايقاتهم قد أكسبتنا بفضل الله قوة معنوية أظهرت التوفيق والفلاح بمائة ضعف مما كان عليه سابقاً، لذا حصلت لديّ قناعة تامة من أن هذا التوفيق الإلهي ليس إلّا من صميم إخلاصكم. وإنني أعترف بأنكم أنقذتموني بإخلاصكم التام -إلى حد ما- من الرياء، ذلك الداء الوبيل الذي يداعب النفس تحت ستار الشهرة والصيت. نسأل الله أن يوفقكم جميعاً إلى الإخلاص الكامل وتقحموني فيه معكم.

تعلمون أنَّ الإمام علياً رضي الله عنه والشيخ الكيلاني (قدس الله سره)، قد توجها إليكم ونظرا بعين اللطف والاهتمام والتسلية في كراماتهما الخارقة، ويباركان خدماتكم معنىً. فلا يساورنّكم الشك في أن ذلك التوجه والالتفات والتسلية ليس إلّا بما تتمتعون به من إخلاص. فإن أفسدتم هذا الإخلاص متعمدين، تستحقون إذن لطماتهما. تذكّروا دائماً «لطمات الرأفة والرحمة» التي هي في «اللمعة العاشرة». ولو أردتم أن يظل هذان الفاضلان أستاذَين وظهيرَين معنويين لكم فاظفروا بالإخلاص الأتم بامتثالكم الآية الكريمة:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلٰٓى اَنْفُسِهِمْ﴾ (الحشر: 9). أي عليكم أن تفضلوا إخوانكم على أنفسكم في المراتب والمناصب والتكريم والتوجّه، حتى في المنافع المادية التي تهش لها النفس وترتاح إليها.

بل في تلك المنافع التي هي خالصة زكية كتعليم حقائق الإيمان إلى الآخرين، فلا تتطلعوا ما استطعتم أن يتم ذلك بأيديكم، بل ارضوا واطمئنوا أن يتم ذلك بيد غيركم لئلا يتسرب الإعجابُ إلى أنفسكم. وربما يكون لدى أحدكم التطلع للفوز بالثواب وحده، فيحاول أن يبين أمراً مهماً في الإيمان بنفسه، فرغم أن هذا لا إثم فيه ولا ضرر فقد يعكر صفو الإخلاص فيما بينكم.

اللمعة العشرون

تخص الإخلاص

 (حاشية) تنبيه: إن ما يوجب الشكر على هذه البلدة الطيبة «اسبارطة» أن قد أتاها الله حظاً عظيماً ، فلا يبدو بين من فيها من المتقين والصالحين وأهل الطرق الصوفية والعلماء اختلاف مشوب بالحسد، حتى لو ظهر فهو أخف بكثير مما هو عليه في سائر المناطق. وعلى الرغم من أن المحبة الخالصة والاتفاق التام غير موجودين كما ينبغي فإن الاختلاف المضر والحسد الممقوت مفقودان أيضا بالنسبة للمناطق الأخرى.

أحرز هذا البحث أهميةً خاصة أهّلته ليكون «اللمعة العشرين» بعد أن كان النقطة الأولى من خمس نقاط من المسألة الثانية من المسائل السبع للمذكّرة السابعة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اِنَّٓا اَنْزَلْنَٓا اِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللّٰهَ مُخْلِصًا لَهُ الدّ۪ينَۜ * اَلَا لِلّٰهِ الدّ۪ينُ الْخَالِصُ(الزمر2- 3)

وقال الرسول الأعظم ﷺ: (هَلَكَ النَّاسُ إلّا الْعَالِمُونَ وَهَلَكَ الْعَالِمونَ إلّا العَامِلُونَ وَهَلَكَ الْعَامِلوُنَ إلّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلى خَطَرٍ عَظيمٍ) أو كما قال.

تدلنا هذه الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف معاً على مدى أهمية الإخلاص في الإسلام، ومدى عظمته أساساً تستند إليه أمور الدين. فمن بين النكت التي لا حصر لها لمبحث «الإخلاص» نبين باختصار خمس نقاط فقط.

النقطة الأولى

سؤال مهم ومثير للدهشة:

لماذا يختلف أصحابُ الدين والعلماء وأرباب الطرق الصوفية وهم أهل حق ووفاق ووئام بالتنافس والتزاحم، في حين يتفق أهلُ الدنيا والغفلة بل أهل الضلالة والنفاق من دون مزاحمة ولا حسد فيما بينهم، مع أن الاتفاق هو من شأن أهل الوفاق والوئام، والخلاف ملازمٌ لأهل النفاق والشقاق. فكيف استبدل الحق والباطل مكانهما؛ فأصبح الحق بجانب هؤلاء والباطل بجانب أولئك؟

الجواب:  سنبين سبعة من الأسباب العديدة لهذه الحالة المؤلمة التي تقض مضجع الغيارى الشهمين.

السبب الأول: 

إنَّ اختلاف أهل الحق غير نابع من فقدان الحقيقة، كما أن اتفاق أهل الغفلة ليس نابعاً من ركونهم إلى الحقيقة. بل إن وظائف أهل الدنيا والسياسة والمثقفين وأمثالهم من طبقات المجتمع قد تعيّنت وتميزت؛ فلكل طائفة وجماعة وجمعية مهمة خاصة تنشغل بها، وما ينالونه من أجرة مادية -لقاء خدماتهم ولإدامة معيشتهم- هي كذلك متميزة ومتعيّنة، كما أن ما يكسبونه من أجرة معنوية كحب الجاه وذيوع الصيت والشهرة، هي الأخرى متعينة ومخصصة ومتميزة. (حاشية) تحذير: إنَّ إقبال الناس وتوجههم لا يُطلب، بل يوهب، ولو حصل الإقبال فلا يُسرّ به. وإذا ما ارتاح المرء لتوجه الناس إليه فقد ضيع الإخلاص ووقع في الرياء. أما التطلع إلى نيل الشهرة والصيت التي تتضمن توجه الناس والرغبة في إقبالهم فهو ليس بأجرة ولا ثواب، بل عتاب وعقاب نابعان من فقدان الإخلاص. نعم ، إن توجه الناس وإقبالهم لا يراد، لأن ما فيه من لذة جزئية تضر بالإخلاص الذي هو روح الأعمال الصالحة، ثم إنه لا يستمر إلا إلى حد باب القبر. فضلا عن أنه يكتسب ما وراء القبر صورة أليمة من عذاب القبر. فلا يُرغب في توجه الناس ونيل رضاهم إذن، بل يلزم الفرار والتهيب منه. فليصغ إلى هذا عُباد الشهرة والمتلهفون على كسب رضى الناس. فليس هناك إذن ما يولد منافسة أو مزاحمة أو حسداً فيما بينهم. وليس هناك ما يوجب المناقشة والجدال، لذا تراهم يتمكنون من الاتفاق مهما سلكوا من طرق الفساد.

أما أهل الدين وأصحاب العلم وأرباب الطرق الصوفية فإن وظيفة كل منهم متوجهة إلى الجميع، وأن أجرتهم العاجلة غير متعينة وغير متخصصة، كما أن حظهم من المقام الاجتماعي وتوجه الناس إليهم والرضى عنهم لم يتخصص أيضاً. فهناك مرشحون كثيرون لمقام واحد، وقد تمتد أيدٍ كثيرةٌ جداً إلى أية أجرة مادية كانت أو معنوية. ومن هنا تنشأ المزاحمة والمنافسة والحسد والغيرة؛ فيتبدل الوفاقُ نفاقاً والاتفاق اختلافاً وتفرقاً.

فلا يشفي هذا المرض العضال إلّا مرهمُ الإخلاص الناجع، أي أن ينال المرء شرف امتثال الآية الكريمة: ﴿اِنْ اَجْرِيَ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ(يونس:72) بإيثار الحق والهدى على اتباع النفس والهوى، وبترجيح الحق على أثَرة النفس.. وأن يحصل له امتثال بالآية الكريمة:
﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ اِلَّا الْبَلَاغُ الْمُب۪ينُ(النور:54) باستغنائه عن الأجر المادي والمعنوي المقبلَين من الناس (حاشية) لابد من جعل شيمة «الإيثار» التي تحلَّى بها الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم ونالوا بها ثناء القرآن الكريم نصب العين، واتخاذها دليلاً ومرشداً، وهذا يعني: تفضيل الآخرين على النفس عند قبول الهدايا والصدقات، وعدم قبول شئ مقابل ما يقوم به المرء من خدمات في سبيل الدين، بل لا يطلبه قلباً. وإذا حصل شئ من هذا القبيل فليعده إحساناً إلهياً محضاً، من دون البقاء تحت منة الناس. إذ ما ينبغي أن يُسأل شيء في الدنيا لقاء خدمات في سبيل الدين، لئلا يضيع الإخلاص. فالأمة وإن كان عليها أن تضمن معاش هؤلاء، كما انهم يستحقون الزكاة، إلا أن هؤلاء العاملين لا يسألون الناس شيئاً وربما يوهب لهم، حتى لو وهب لهم شيء فلا يأخذونه لقيامهم في خدمة الدين. فالأفضل إيثار من هم أهل لها على النفس، والرضى بما قسم الله من رزق والقناعة به، كي يحظى المرء بالثناء القرآني العظيم ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلٰٓى اَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر:9)، وعندئذ يكون ظافراً بالإخلاص ومنقذاً نفسه من شرور هذه التهلكة الخطرة. مدركاً أَنَّ استحسان الناس كلامَه وحسن تأثيره فيهم ونيل توجههم إليه هو مما يتولاه الله سبحانه وتعالى ومن إحسانه وفضله وحده، وليس داخلاً ضمن وظيفته التي هي منحصرةٌ في التبليغ فحسب. بل لا يلزمه ذلك ولا هو مكلف به أصلاً. فمن وفّقه الله إلى ما ذُكر آنفاً يجد لذة الإخلاص، وإلّا يفوته الخير الكثير.

السبب الثاني:

إن اتفاق أهل الضلالة نابع من ذلتهم، بينما اختلاف أهل الهداية نابع من عزّتهم؛ إذ لما كان أهل الدنيا والضلالة الغافلون لا يستندون إلى الحق والحقيقة فهم ضعفاء وأذلاء، يشعرون بحاجة ماسة إلى اكتساب القوة ويتشبثون بشدة إلى معاونة الآخرين والاتفاق معهم، ويحرصون على هذا الاتفاق ولو كان مسلكهم ضلالة، فكأنهم يعملون حقاً في تساندهم على الباطل، ويخلصون في ضلالهم، ويبدون ثباتاً وإصراراً على إلحادهم، ويتفقون في نفاقهم، فلأجل هذا يوفّقون في عملهم، لأن الإخلاص التام ولو كان في الشر لا يذهب سُدىً، ولا يكون دون نتيجة. فما من سائل يسأل بإخلاص أمراً إلّا قضاه الله له. (حاشية) نعم، إن «من طلب وَجَدّ وَجَدَ» دستور من دساتير الحقيقة له من السعة والشمول ما يشمل مسلكنا أيضاً.

أما أهل الهداية والدين وأصحاب العلم والطريقة فلأنهم يستندون إلى الحق والحقيقة، ولأن كلاً منهم أثناء سيره في طريق الحق لا يرجو إلّا رضى ربه الكريم ويطمئن إليه كل الاطمئنان، وينال عزة معنوية في مسلكه نفسه، إذ حالما يشعر بضعف ينيب إلى ربه دون الناس، ويستمد منه وحده القوة، زد على ذلك يرى أمامه اختلاف المشارب مع ما هو عليه، لذا تراه لا يستشعر بدواعي التعاون مع الآخرين بل لا يتمكن من رؤية جدوى الاتفاق مع مخالفيه ظاهراً ولا يجد في نفسه الحاجة إليه. وإذا ما كان ثمة غرورٌ وأنانية في النفس يتوهم المرء نفسه محقاً ومخالفيه على باطل فيقع الاختلاف والمنافسة بدل الاتفاق والمحبة، وعندها يفوته الإخلاصُ ويحبط عمله ويكون أثراً بعد عين.

والعلاج الوحيد لهذه الحالة والحيلولة دون رؤية نتيجتِها الوخيمة هو في تسعة أمور آتية:

1 – العمل الإيجابي البنّاء، وهو: عملُ المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب، من دون أن يرد إلى تفكيره، أو يتدخل في علمه عداءُ الآخرين أو التهوينُ من شأنهم، أي لا ينشغل بهم أصلاً.

2 – بل عليه أن يتحرى روابط الوحدة الكثيرة التي تربط المشارب المعروضة في ساحة الإسلام -مهما كان نوعها- والتي ستكون منابع محبة ووسائل أخوة واتفاق فيما بينها فيتفق معها.

3- واتخاذ دستور الإنصاف دليلاً ومرشداً، وهو: أن صاحبَ كل مسلك حق يستطيع القول: «إن مسلكي حق وهو أفضل وأجمل» من دون أن يتدخل في أمر مسالك الآخرين، ولكن لا يجوز له أن يقول: «الحق هو مسلكي فحسب» أو «أن الحسن والجمال في مسلكي وحده» الذي يقضي على بطلان المسالك الأخرى وفسادها.

4- العلم بأن الاتفاق مع أهل الحق هو أحد وسائل التوفيق الإلهي وأحد منابع العزة الإسلامية.

5 – الحفاظ على الحق والعدل بإيجاد شخص معنوي؛ وذلك بالاتفاق مع أهل الحق للوقوف تجاه أهل الضلالة والباطل الذين أخذوا يغيرون بدهاء شخص معنوي قوي في صورة جماعة على أهل الحق -بما يتمتعون به من تساند واتفاق- ثم الإدراك بأن أية مقاومة فردية -مهما كانت قوية- مغلوبةٌ على أمرها تجاه ذلك الشخص المعنوي للضلالة.

6 – ولأجل إنقاذ الحق من صولة الباطل:

7 – ترك غرور النفس وحظوظها.

8 – وترك ما يُتصور خطأً أنه من العزة والكرامة.

9 – وترك دواعي الحسد والمنافسة والأحاسيس النفسانية التافهة.

بهذه النقاط التسع يُظفَر بالإخلاص ويوفي الإنسان وظيفته حق الوفاء ويؤديها على الوجه المطلوب. (حاشية) لقد ثبت في الحديث الصحيح أن المتدينين الحقيقيين من النصارى سيتفقون في آخر الزمان مستندين إلى أهل القرآن للوقوف معاً تجاه عدوهم المشترك الزندقة، لذا فأهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضا إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى، فيتركوا مؤقتا كل ما يثير الخلافات والمناقشات دفعاً لعدوهم المشترك الملحد المتعدي.

السبب الثالث:

إنَّ اختلاف أهل الحق ليس ناشئاً عن الوضاعة وفقدان الهمة، كما أن اتفاق أهل الضلالة ليس ناشئاً عن علو الهمة، بل إن اختلاف أهل الهداية نابع من سوء استعمال علو الهمة والإفراط فيه، واتفاق أهل الضلالة مردّه الضعف والعجز الحاصلان من انعدام الهمة.

والذي يسوق أهل الهداية إلى سوء استعمال علو الهمة وبالتالي إلى الاختلاف والغيرة والحسد، إنما هو المبالغة في الحرص على الثواب الأخروي -الذي هو في حد ذاته خصلة ممدوحة- وطلب الاستزادة منها دون قناعة وحصرها على النفس. وهذا يستدرج الحريص شيئاً فشيئاً حتى يصل به الأمر إلى أن يتخذ وضعاً منافساً إزاء أخيه الحقيقي الذي هو بأمس الحاجة إلى محبته ومعاونته وأُخوته والأخذ بيده. كأن يقول -مثلاً- لأغنم أنا بهذا الثواب، ولأرشد أنا هؤلاء الناس وليسمعوا مني وحدي الكلام، وأمثالها من طلب المزيد من الثواب لنفسه.أو يقول: لماذا يذهب تلاميذي إلى فلان وعلان؟ ولماذا لا يبلغ تلاميذي عدد تلاميذه وزيادة؟ فتجد روح الأنانية لديه -بهذا الحوار الداخلي- الفرصة سانحة لترفع رأسها وتبرز، فتسوقه تدريجياً إلى التلوث بصفة مذمومة، تلك هي التطلع إلى حب الجاه، فيفوته الإخلاص وينسد دونه بابه، بينما ينفتح باب الرياء له على مصراعيه.

إنَّ علاج هذا الخطأ الجسيم والجرح البليغ والمرض الروحي العضال هو:

العلم بأن رضى الله لا يُنال إلّا بالإخلاص، فرضاه سبحانه ليس بكثرة التابعين ولا باطراد النجاح والتوفيق في الأعمال، ذلك لأن تكثير التابعين والتوفيق في الأعمال هو مما يتولاه الله سبحانه بفضله وكرمه، فلا يُسأل ولا يُطلب بل يؤتيه الله سبحانه من يشاء.

نعم، رُبّ كلمة واحدة تكون سبباً للنجاة من النار وتصبح موضع رضى الله سبحانه، ورُبّ إرشاد شخص واحد يكون موضع رضى الله سبحانه بقدر إرشاد ألف من الناس. فلا ينبغي أن تُؤخذ الكمية بنظر الاعتبار كثيراً.

ثم إنَّ الإخلاص في العمل ونشدان الحق فيه إنما يُعرف بصدق الرغبة في إفادة المسلمين عامةً أياً كان مصدر الاستفادة ومن أي شخص صدر. وإلّا فحصر النظر بأن يؤخذ الدرس والإرشاد مني فقط لأفوز بالثواب الأخروي هو حيلة النفس وخديعة الأنانية.

فيا من يحرص على المزيد من الثواب ولا يقنع بما قام به من أعمال للآخرة!

اعلم أن الله سبحانه قد بعث أنبياءً كراماً، وما آمن معهم إلّا قليل. ومع ذلك نالوا ثواب النبوة العظيم كاملاً غير منقوص. فليس السبق والفضل إذن في كثرة التابعين المؤمنين، وإنما في نيل شرف رضى الله سبحانه. فمَنْ أنت أيها الحريص حتى ترغب أن يسمعك الناس كلهم، وتتغافل عن واجبك وتحاول أن تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم واجبَك، ولا تحاول أن تتدخل في تدبير الله وتقديره. اعلم أن تصديق الناس كلامك وقبولهم دعوتك وتجمعهم حولك إنما هو من فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا تُشغل نفسك فيما يخصه سبحانه من تقدير وتدبير، بل اجمع همّك في القيام بما أُنيط بك من واجب.

ثم إن الإصغاء إلى الحق والحقيقة، ونوال المتكلم بهما الثواب ليس منحصراً على الجنس البشري وحده، بل لله عباد من ذوي الشعور ومن الروحانيين والملائكة قد ملأوا أركان الكون وعمروها. فإن كنت تريد مزيداً من الثواب الأخروي فاستمسك بالإخلاص واتخذه أساساً لعملك واجعل مرضاة الله وحدها الهدف والغاية في عملك، كي تحيا أفراد تلك الكلمات الطيبة المنطوقة من شفتيك منتشرة في جو السماء بالإخلاص وبالنية الخالصة لتصل إلى أسماع مخلوقات من ذوي المشاعر الذين لا يحصرهم العدّ، فتنوّرهم، وتنال بها الثواب العظيم أضعافاً مضاعفة. ذلك لأنك إذا قلت: «الْحَمْدُ لله» مثلاً فستُكتب بأمر الله على إثر نطقك بهذه الكلمة ملايين الملايين من «الحَمْد لله» صغيرة وكبيرة في الفضاء. فلقد خلق سبحانه ما لا يعد من الآذان والأسماع تصغي إلى تلك الكلمات الكثيرة الطيبة، حيث لا عبث ولا إسراف في عمل البارئ الحكيم. فإذا ما بعث الإخلاصُ والنيةُ الصادقة الحياةَ في تلك الكلمات المنتشرة في ذرات الهواء فستدخل أسماع أولئك الروحانيين لذيذة طيبة كلذة الفاكهة الطيبة، ولكن إذا لم يبعث رضى الله والإخلاص الحياةَ في تلك الكلمات، فلا تستساغ، بل تنبو عنها الأسماع، ويبقى ثوابها منحصراً فيما تفوّه به الفم. فليصغِ إلى هذا قراء القرآن الكريم الذين يتضايقون من افتقار أصواتهم إلى الجودة والإحسان فيشكون من قلة السامعين لهم.