الكلمة السادسة

الكلمة السادسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ(التوبة: 111)

إذا أردت أن تعلم أن بيع النفس والمال إلى الله تعالى، والعبودية له، والجندية في سبيله أربح تجارة واشرفها! فأنصت إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وضع سلطان -ذات يوم- لدى اثنين من رعاياه وديعةً وأمانةً، لكل منهما مزرعة واسعة، فيها كل ما تتطلبه من مكائن وآلات وأسلحة وحيوانات وغيرها.. وتوافق أن كان الوقت آنذاك وقت حرب طاحنة، لا يقرّ قرار لشئ؛ فإما أن تبدّله الحرب وتغيّره أو تجعله أثرًا بعد عين. فأرسل السلطان رحمةً منه وفضلًا أحدَ رجاله المقربين مصحوبًا بأمره الكريم ليقول لهما:

«بيعوا لي ما لديكم من أمانتي لأحفظها لكم، فلا تذهب هباء في هذا الوقت العصيب، وسأردّها لكم حالما تضع الحرب أوزارها.. وسأوفي ثمنها لكم غاليًا، كأن تلك الأمانة ملككم.. وستُشغّل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وبأسمي وعهدتي.. وسترتفع اثمانها من الواحد إلى الألف، فضلًا عن أن جميع الأرباح ستعود إليكم أيضًا.. وسأتعهد عنكم بجميع تكاليفها ومصاريفها، حيث أنكم عاجزون فقراء لا تتحملون مصاريف تلك المكائن.. وسأرد لكم جميع وارداتها ومنافعها، علمًا أني سأبقيها عندكم لتستفيدوا منها وتتمتعوا بها إلى أن يحين وقت أخذها.

فلكم خمس مراتب من الأرباح في صفقة واحدة.

وإن لم تبيعوها لي فسيزول حتمًا كل ما لديكم، حيث ترون أن أحدًا لا يستطيع أن يمسك بما عنده.. وستحرمون من تلك الأثمان الغالية.. وستهمل تلك الآلات الدقيقة النفيسة والموازين الحساسة والمعادن الثمينة، وتفقد قيمتها كليًا، وذلك لعدم استعمالها في أعمال راقية.. وستتحملون وحدكم إدارتها وتكاليفها وسترون جزاء خيانتكم للأمانة.. فتلك خمس خسائر في صفقة واحدة. وفوق هذا كله إن هذا البيع يعني أن البائع يصبح جنديًا حرًا أبيًا خاصًا بي، يتصرف باسمي ولا يبقى أسيرًا عاديًا وشخصًا سائبًا..».

أنصت الرجلان مليًا إلى هذا الكلام الجميل والأمر السلطاني الكريم. فقال العاقل الرزين منهما:

سمعًا وطاعة لأمر السلطان، رضيت بالبيع بكل فخر وشكر.

أما الآخر المغرور المتفرعن الغافل فقد ظن أن مزرعته لا تبيد أبدًا، ولا تصيبها تقلبات الدهر واضطرابات الدنيا، فقال:

«لا!.. ومَن السلطان؟ لا ابيع ملكي ولا أفسد نشوتي!».

ودارت الأيام.. فأصبح الرجل الأول في مقام يغبطه الناس جميعًا، إذ اضحى يعيش في بحبوحة قصر السلطان، يتنعم بألطافه ويتقلب على أرائك أفضاله. أما الآخر فقد ابتلي شرّ بلاء حتى رثى لحاله الناس كلهم، رغم إنهم قالوا: إنه يستحقها! إذ هو الذي ورّط نفسه في مرارة العذاب جزاء ما ارتكب من خطأ، فلا دامت له نشوته ولا دام له ملكه.

فيا نفسي المغرورة!

انظري من خلال منظار هذه الحكاية إلى وجه الحقيقة الناصعة. فالسلطان هو سلطان الأزل والأبد وهو ربك وخالقك. وتلك المزرعة والمكائن والآلات والموازين هي ما تملكينه في الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب، وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، أي جميع الحواس الظاهرة والباطنة. وأما الرسول الكريم فهو سيدنا محمد صلىى الله عليه وسلم. وأما الأمر السلطاني المحكم فهو القرآن الكريم الذي يعلن هذا البيع والتجارة الرابحة في هذه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: 111) وأما الميدان المضطرب والحرب المدمّرة فهي أحوال هذه الدنيا، إذ لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الإنسان بهذا السؤال:

«إن جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في أيدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن أن يحل البقاء بهذا الفناء؟!».

وبينما الإنسان غارق في هذا التفكير، إذا به يسمع صدى القرآن السماوي يدوّي في الآفاق ويقول له بتلك الآية الكريمة: نعم! إن هناك علاجًا لهذا الداء، بل هو علاج لطيف فيه ربح عظيم في خمس مراتب.

سؤال: وما العلاج؟

الجواب: بيعُ الأمانة إلى مالكها الحقيقي، في هذا البيع خمس درجات من الربح في صفقة واحدة.

الربح الأول: المال الفاني يجد البقاء، لأن العمر الزائل الذي يوهب للحي القيوم الباقي، ويبذل في سبيله سبحانه، ينقلب عمرًا أبديًا باقيًا. عندئذٍ تثمر دقائق العمر ثمارًا يانعة وأزاهير سعادة وضاءة في عالم البقاء مثلما تفنى البذور ظاهرًا وتنشق عنها الأزهار والسنابل.

الربح الثاني: الثمن هو الجنة.

الربح الثالث: يرتفع ثمن كل عضو وحاسة ويغلو من الواحدة إلى الألف.

فمثلًا: العقل عضو وآلة، إن لم تبعه -يا أخي- لله ولم تستعمله في سبيله، بل جعلته في سبيل الهوى والنفس، فإنه يتحول إلى عضو مشؤوم مزعج وعاجز، إذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ إلى درك آلة ضارة مشؤومة، ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر إنقاذًا لنفسه من إزعاجات عقله؟ ولكن إذا بيع العقل إلى الله، واُستُعمل في سبيله ولأجله، فإنه يكون مفتاحًا رائعًا بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية فأينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شئ، وكل موجود، وكل حادثة. ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة مرشدٍ رباني يهئ صاحبه للسعادة الخالدة.

ومثلًا: العين حاسة، تطل الروح منها على هذا العالم، فإن لم تستعملها في سبيل الله، واستعملتها لأجل النفس والهوى، فإنها بمشاهدتها بعض المناظر الجميلة المؤقتة الزائلة تصبح في درك الخادمة والسمسارة الدنيئة لإثارة شهوات النفس والهوى. ولكن إن بعتها إلى خالقها البصير واستعملتها فيما يرضيه، عندئذٍ تكون العين مطالِعة لكتاب الكون الكبير هذا وقارئة له، ومشاهِدة لمعجزات الصنعة الربانية في الوجود، وكأنها نحلة بين أزاهير الرحمة الإلهية في بستان الأرض، فتقطّر من شَهْد العبرة والمعرفة والمحبة نور الشهادة إلى القلب المؤمن.

ومثلًا: إن لم تبع حاسة الذوق -التي في اللسان- إلى فاطرها الحكيم، واستعملتها لأجل المعدة والنفس، فحينئذٍ تهوي إلى درك بوّاب معمل المعدة واصطبلها، فتهبط قيمتها. ولكن إن بعتَها إلى الرزاق الكريم، فإنها ترقى إلى درجة ناظر ماهر لخزائن الرحمة الإلهية، ومفتش شاكر لمطابخ القدرة الصمدانية.

فيا أيها العقل! أفق، أين الآلة المشؤومة من مفتاح كنوز الكائنات؟

ويا أيتها العين! أبصري جيدًا، أين السمسرة الدنيئة من الإمعان في المكتبة الإلهية؟

-ويا أيها اللسان! ذق بحلاوة أين بواب المعمل والإصطبل من ناظر خزينة الرحمة الإلهية؟.

فإن شئت -يا أخي- فقس بقية الأعضاء والحواس على هذا، وعندها تفهم أن المؤمن يكسب حقًا خاصية تليق بالجنة، كما أن الكافر يكتسب ماهية توافق جهنم. فما جوزي كل منهما بهذا الجزاء العادل إلاّ لأن المؤمن يستعمل بإيمانه أمانة خالقه سبحانه بأسمه وضمن دائرة مرضاته، وأن الكافر يخون الأمانة فيستعملها لهواه ولنفسه الأمارة بالسوء.

الربح الرابع: إن الإنسان ضعيف بينما مصائبه كثيرة، وهو فقير ولكن حاجته في ازدياد، وعاجز إلاّ أن تكاليف عيشه مرهقة، فإن لم يتوكل هذا الإنسان على العلي القدير ولم يستند إليه، وإن لم يسلّم الأمر إليه ولم يطمئن به، فسيظل يقاسي في وجدانه آلامًا دائمة، وتخنقه حسراته وكدحه العقيم، فإما يحوله إلى مجرم قذر أو سكير عابث.

الربح الخامس: إنه من المتفق عليه إجماعًا بين أهل الاختصاص والشهود والذوق والكشف أن العبادات والأذكار والتسبيحات التي تقوم بها الأعضاء عندما تعمل ضمن مرضاته سبحانه تتحول إلى ثمار طيبة لذيذة من ثمار الجنة، وتقدّم إليك في وقت أنت في أمس الحاجة إليها.

وهكذا.. ففي هذه التجارة ربح عظيم فيه خمس مراتب من الأرباح، فإن لم تقم بها فستحرم من أرباحها جميعها، فضلًا عن خسرانك خمس خسارات اخرى هي:

الخسارة الأولى: إن ما تحبه من مال وأولاد، وما تعشقه من هوى النفس وما تعجب به من حياة وشباب، سيضيع كله ويزول، مخلفًا آثامه وآلامه مثقل بها ظهرك.

الخسارة الثانية: ستنال عقاب من يخون الأمانة. لأنك باستعمالك أثمن الآلات والأعضاء في أخس الأعمال قد ظلمت نفسك.

الخسارة الثالثة: لقد افتريت وجنيت على الحكمة الإلهية، إذ اسقطت جميع تلك الأجهزة الإنسانية الراقية إلى دركات الأنعام بل أضل.

الخسارة الرابعة: ستدعو بالويل والثبور دائمًا، وستئن من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي أرهقت بها كاهلك الـضعيف مع أن فقرك قائم وعجزك دائم.

الخسارة الخامسة: إن هدايا الرحمن الجميلة -كالعقل والقلب والعين وما شابهها- ما وُهبت لك إلاّ لتهيئك لفتح أبواب السعادة الأبدية، فما أعظمها خسارة أن تتحول تلك الهدايا إلى صورة مؤلمة تفتح لك أبواب جهنم!.

والآن.. سننظر إلى البيع نفسه. أهو ثقيل متعب حقًا بحيث يهرب منه الكثيرون؟.

– كلا، ثم كلا.. فلا تعب فيه ولا ثقل أبدًا. لأن دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام.

أما ما افترضهَّ الله علينا فهو كذلك خفيف وضئيل، وأن العبودية لله بحد ذاتها شرف عظيم إذ هي جندية في سبيله سبحانه وفيها من اللذة وراحة الوجدان ما لا يوصف.

أما الواجب فهو أن تكون ذلك الجندي، فتبدأ باسم الله، وتعمل باسم الله، وتأخذ وتعطي في سبيله ولأجله، وتتحرك وتسكن ضمن دائرة مرضاته وأوامره، وإن كان هناك تقصير فدونك باب الاستغفار، فتضرع إليه وقل:

اللّهم اغفر لنا خطايانا، واقبلنا في عبادك، واجعلنا أمناء على ما أمّنته عندنا إلى يوم لقائك … آمـين.

 

الكلمة الخامسة

الكلمة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(النحل:128)

إذا أردت أن ترى أن إقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالإنسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته.. فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة واستمع إليها:

كان في الحرب العالمية الأولى، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه. والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه. كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله بأوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث أنه أدرك يقينًا أن إعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد بل حتى مداواته إذا تمرض بل حتى وضع اللقمة -إذا احتاج الأمر- في فمه، إنما هو من واجب الدولة. وأما واجبه الأساس فهو التدّرب على أمور الجهاد ليس إلاّ، مع علمه أن هذا لا يمنع من أن يقوم بشؤون التجهيز وبعض أعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الأثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما أقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعًا، ولا يجيب: إنني أسعى لأجل كسب لوازم العيش.

أما الجندي الآخر، الجاهل بواجباته فلم يكن ليبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب. فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بأمور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يَدَع الفوج ليزاول البيع والشراء في الأسواق.

قال له صديقه المجدّ ذات يوم:

– يا أخي!! إن مهمتك الأصلية هي التدرّب والاستعداد للحرب، وقد جئ بك إلى هنا من أجل ذلك؛ فاعتمد على السلطان واطمئن إليه في أمر معاشك، فلن يَدَعَك جائعًا، فذلك واجبُه ووظيفته. ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدير أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدّونك عاصيًا لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة.

نعم؛ إن وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا:

أحداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه باعاشتنا. ونحن قد نُستخدم مجانًا في إنجاز تلك الوظيفة.

وأُخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي: التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدّم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة.

فيا أخي تأمل لو لم يُعِر الجندي المهمِل سمعًا لكلام ذلك المجاهد المدرَّب كم يكون خاسرًا ومتعرضًا للأخطار والتهلكة؟!

فيا نفسي الكسول!!

إن تلك الساحة التي تمور مورًا بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة.. وأمّا ذلك الجيش المقسم إلى الأفواج فهو الأجيال البشرية.. وأمّا ذلك الفوج نفسه فهو المجتمع المسلم المعاصر.. وأمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والإنس، إنقاذًا لقلبه وروحه معًا من الهلاك الأبدي والخسران المبين.

وأما تانك الوظيفتان الإثنتان؛ فأحداهما منح الحياة ورعايتها. والأخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه والتوكل عليه والاطمئنان إليه.

أجل! إن الذي وهب الحياة؛ وأنشأها صنعةً صمدانية معجزة تتلمع، وجعلها حكمةً ربانية خارقة تتألق، هو الذي يربيها، وهو وحده الذي يرعاها ويديمها بالرزق.

أوَ تريد الدليل؟!

إن أضعف حيوان وأبلده ليُرزَق بأفضل رزق وأجوده (كالأسماك وديدان الفواكه). وإن أعجز مخلوق وأرقه ليأكل أحسن رزق وأطيبه (كالأطفال والصغار).

ولكي تفهم أن وسيلة الرزق الحلال ليست الاقتدار والاختيار، بل هي العجز والـضعف، يكفيك أن تعقد مقارنه بين الأسماك البليدة والثعالب، وبين الصغار الذين لا قوة لهم والوحوش الكاسرة، وبين الأشجار المنتصبة والحيوانات اللاهثة.

فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسوّل متسكعًا في الأسواق. بينما الذي يقيم الصلاة دون أن ينسى نصيبه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضًا.

ثم إن فطرة الإنسان وما أودع الله فيه من أجهزة معنوية تدلاّن على أنه مخلوق للعبادة؛ لأن ما أودع فيه من قدرات وما يؤديه من عمل لحياته الدنيا لا تبلغه مرتبة أدنى عصفور -الذي يتمتع بالحياة أكثر منه وأفضل- بينما يكون الإنسان سلطان الكائنات وسيد المخلوقات من حيث حياته المعنوية والأخروية بما أودع الله فيه من علم به وافتقار إليه وقيام بعبادته.

فيا نفسي!

إن كنت تجعلين الحياة الدنيا غاية المقصد وافرغت في سبيلها جهدك فسوف تكونين في حكم أصغر عصفور.

اما إن كنت تجعلين الحياة الأخرى غاية المنى وتتخذين هذه الحياة الدنيا وسيلة لها ومزرعة، وسعيتِ لها سعيها.. فسوف تكونين في حكم سيد الأحياء والعبد العزيز لدى خالقه الكريم وستصبحين الـضيف المكرم الفاضل في هذه الدنيا.

فدونك طريقان اثنان، فاختاري أيّما تشائين.

واسألي الرب الرحيم الهداية و التوفيق.

 

الكلمة الرابعة

الكلمة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

«الصلاة عماد الدين»

إن كنت تريد أن تعرف أهمية الصلاة وقيمتها، وكم هو يسير نيلها وزهيد كسبها، وأن من لا يقيمها ولا يؤدي حقها أبله خاسر.. نعم! إن كنت تريد أن تعرف ذلك كله بيقين تام -كحاصل ضرب الإثنين في اثنين يساوي أربعًا- فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

يُرسل حاكمٌ عظيم -ذات يوم- إثنين من خَدَمه إلى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كلًا منهما أربعًا وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول إلى المزرعة التي هي على بُعد شهرين.. ويأمرهما: «أنفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، واقتنيا ما يلزمكما هناك من لوزام السكن والإقامة.. هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد، توجد فيها جميع أنواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار.. ولكلٍ ثمنه».

يخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر.. كان أحدهما سعيدًا محظوظًا، إذ صرف شيئًا يسيرًا مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيدُه، فارتفع رأس ماله من الواحد إلى الألف.

أما الخادم الآخر، فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثًا وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة..

خاطبه صاحبه:

-يا هذا.. اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيّعها كذلك، فسيدُنا كريمٌ رحيمٌ، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معًا محل إقامتنا في يوم واحد. فإن لم تفعل ما أقوله لك فستضطر إلى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشيًا على الأقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وأنت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة.

تُرى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلًا من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنزٍ له. ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقًا.. ألا يُدرك هذا أغبى إنسان؟

فيا من لا يؤدي الصلاة! ويا نفسي المتضايقة منها!

إن ذلك الحاكم هو ربُّنا وخالقنا جلّ وعلا..

أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتديّن الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل التارك للصلاة..

وأما تلك الليرات الذهبية الأربعة والعشرون فهي الأربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر..

وأما ذلك البستان الخاص فهو الجنة..

وأما تلك المحطة فهي القبر..

وأما تلك السياحة والسفر الطويل فهي رحلة البشر السائرة نحو القبر والماضية إلى الحشر والمنطلقة إلى دار الخلود. فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة، كلٌ حسب عمله ومدى تقواه، فقسم من المتقين يقطعون في يوم واحد مسافة ألف سنة كأنهم البرق، وقسم منهم يقطعون في يوم واحد مسافة خمسين ألف سنة كأنهم الخيال. وقد أشار القرآن العظيم إلى هذه الحقيقة في آيتين كريمتين..

أما تلك التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمسُ صلوات مع وضوئها أكثر من ساعة!

فيا خسارة مَن يصرف ثلاثًا وعشرين من ساعاته على هذه الحياة الدنيا القصيرة ولا يصرف ساعةً واحدة على تلك الحياة الأبدية المديدة!. ويا له من ظالم لنفسه مبين! ويا له من أحمق أبله!

لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمنًا لقمار اليانصيب -الذي يشترك فيه أكثر من ألف شخص- يعدّ أمرًا معقولًا، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحدٍ من اربعة وعشرين مما يملكه، في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، باحتمال تسع وتسعين من مائة.. ألا يُعدّ هذا العمل خلافًا للعقل، ومجانبًا للحكمة.. ألا يدرك ذلك كلُّ من يعدّ نفسه عاقلًا؟

إن الصلاة بذاتها راحة كبرى للروح والقلب والعقل معًا. فضلًا عن أنها ليست عملًا مرهقًا للجسم. وفوق ذلك فإن سائر أعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله، وذلك بالنية الصالحة.. فيستطيع إذن أن يحوّل المصلي جميع رأس مال عمره إلى الآخرة، فيكسب عمرًا خالدًا بعمره الفاني.

 

الكلمة الثالثة

الكلمة الثالثة 

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا..﴾ (البقرة: 21)

إن كنت تريد أن تفهم كيف أن العبادة تجارة عظمى وسعادة كبرى، وأن الفسق والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقق، فانظر إلى هـذه الحكاية التمثيليـة وانصت اليها:

تسلَّم جنديان اثنان -ذات يوم- أمرًا بالذهاب إلى مدينة بعيدة، فسافرا معًا، إلى أن وصلا مفرق طريقين، فوجدا هناك رجلًا يقول لهما:

«إن هذا الطريق الأيمن، مع عدم وجود الـضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسلكونه الراحة والاطمئنان والربح مضمونًا بنسبة تسعة من عشرة. أما الطريق الأيسر، فمع كونه عديم النفع يتضرر تسعة من عشرة من عابريه. علمًا أن كليهما في الطول سواء، مع فرق واحد فقط، هو أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيسر -غير المرتبط بنظامٍ وحكومة- يمضي بلا حقيبة متاع ولا سلاح، فيجد في نفسه خفَّة ظاهرة وراحة موهومة. غير أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيمن -المنتظم تحت شرف الجندية- مضطر لحمل حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع أوقيات وسلاحًا حكوميًا يزن اوقيتين يستطيع أن يغلب به كل عدو».

وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الأيمن، ومضى في دربه حاملًا على ظهره وكتفه رطلًا من الأثقال إلا أن قلبه وروحه قد تخلّصا من آلاف الأرطال من ثقل المنَّة والخوف.

بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الأرطال من المنَّ والأذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد. فمضى في سبيله مستجديًا كل شخص، وجلًا مرتعشًا من كل شئ، خائفًا من كل حادثة، إلى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه.

أما المسافر المتوجه نحو الطريق الأيمن -ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه- فقد سار منطلقًا مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت إلى منَّة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد.. إلى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابَه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى.

فيا أيتها النفس السادرة السارحة!

اعلمي أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للأهواء..

وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الأرواح ويمر من القبر المؤدي إلى عالم الآخرة..

وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهرًا إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لأن العابد يقول في صلاته: «لا إله إلا الله» أي لا خالق ولا رازق إلا هو، النفع والـضر بيده، وإنه حكيم لا يعمل عبثًا كما أنه رحيم واسع الرحمة والاحسان.

فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئٍ بابًا ينفتح إلى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء إليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستندًا إلى التوكل، فيمنحه إيمانه هذا الأمان التام والاطمئنان الكامل.

نعم! إن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الإيمان والعبودية، وأن منبع الجبُن ككل السيئات هو الضلالة والسفاهة.

فلو أصبحت الكرة الأرضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابدًا لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها بإعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفًا -ممن يُعدّ ذا عقل راجح- اذا رأى في الفضاء نجمًا مذنبًا يعتوره الخوف ويرتعش هلعًا ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الأوهام (لقد ارتعد الأمريكان يومًا من نجم مذنب ظهر في السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل).

نعم! رغم أن حاجات الإنسان تمتد إلى ما لا نهاية له من الأشياء، فرأس ماله في حُكم المعدوم. ورغم أنه معرَّض إلى ما لانهاية له من المصائب فاقتداره كذلك في حكم لا شئ، إذ إن مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل إليه يده، بينما دوائر آماله ورغائبه وآلامه وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال.

فما أحوج روح البشر العاجزة الـضعيفة الفقيرة إلى حقائق العبادة والتوكل، وإلى التوحيد والاستسلام! وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة! فمن لم يفقد بصره كليًا يرى ذلك ويدركه. إذ من المعلوم أن الطريق غير الـضار يُرجَّح على الطريق الـضار حتى لو كان النفع فيه احتمالًا واحدًا من عشرة احتمالات. علمًا أن مسألتنا هذه، طريق العبادة، فمع كونه عديم الـضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فإنه يعطينا كنزًا للسعادة الأبدية، بينما طريق الفسق والسفاهة – باعتراف الفاسق نفسه – فمع كونه عديم النفع فإنه سبب الشقاء والهلاك الأبديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة من عشرة… وهذا الأمر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (أهل الاختصاص والإثبات) بدرجة التواتر والاجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف.

نحصل من هذا: أن سعادة الدنيا أيضًا -كالآخرة- هي في العبادة وفي الجندية الخالصة لله.

فعلينا إذن أن نردد دائمًا: الحمد لله على الطاعة والتوفيق وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون.

 

الكلمة الثانية

الكلمة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

إن كنت تريد أن تعرف مدى ما في الإيمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع إلى هذه الحكاية القصيرة:

خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى أحدهما وكان أنانيًا شقيًا إلى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد إلى جهة ثانية.

فالأناني المغرور الذي كان متشائمًا لقي بلدًا في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءًا وفاقًا على تشاؤمه، حتى إنه كان يرى -أينما اتجه- عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمّرة. فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجًا لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدوًا يتربص به، واجنبيًا يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءًا يائسًا مريرًا.

أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.

فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سـرورًا، وفي كل زاويـة حبـورًا، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقًا صدوقًا وقريبًا حبيبًا له. ثم يرى أن المملكة كلها تعلن -في حفل التسريح العام- هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضًا أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون إلى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجل الأول المتشائم منشغلًا بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسرورًا مع سرور الناس كلهم فرحًا مع فرحهم. فضلًا عن أنه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.

ولدى عودته إلى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له:

ــ «يا هذا لقد جننتَ! فإن ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح وإجازة نهب وسلب. عُد إلى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وإن مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك… لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور».

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع إلى صوابه رويدًا رويدًا، ويفكر بعقله ويقول متندمًا:

ــ نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد انقذتني من جحيم الشقاء.

فيا نفسي!

اعلمي أن الرجل الأول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الأحيـاء أيتام يبكون تألمًا من ضــربات الزوال وصفعات الفراق..

أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته..

وأما الموجودات الضخام -كالجبال والبحار- فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة..

وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبها عذابًا معنويًا مريرًا.

أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الإنس والجان..

أما الوفيات كافة ـ من حيوان وإنسان – فهي اعفاء من الوظائف، وإنهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنويًا، حيث إنهم ينقلون إلى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعًا لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم..

أما المواليد كافة -من حيوان وإنسان- فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن إنما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع.. .

وأما الاصوات المنبعثة والاصداء المرتدة من أرجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل إيذانًا بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته..

فالموجودات كلها -في نظر هذا المؤمن- خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من إيمانه كثير جدًا من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق.

فالإيمان إذن يضم حقًا بذرة معنوية منشقة من طوبى الجنة..

أما الكفر فإنه يخفي بذرة معنوية قد نفثته زقوم جهنم.

فالسلامة والأمان إذن لا وجود لهما إلاّ في الإسلام والإيمان.

فعلينا أن نردد دائمًا:

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الإيمان..

 

الكلمة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الأخ!

لقد سألتني بعض النصائح، فها أنذا أسدي إليك بضع حقائق ضمن ثماني حكايات قصيرة، فاستمع إليها مع نفسي التي أراها أحوج ما تكون إلى النصيحة، وسأوردها لك بأمثلة عسكرية لكونك جنديًا، فلقد خاطبتُ بها نفسي يومًا خطابًا مسهبًا، في ثماني (كلمات) أفدتها من ثماني آيات كريمات، اذكرها الآن لنفسي ذكرًا مقتضبًا، وبلسان العوام، فمن يجد في نفسه الرغبة فليُلق السمع معنا.

الكلمة الأولى

«بسم الله» رأس كل خير وبدء كل أمر ذي بال، فنحن أيضًا نستهل بها.

فيا نفسي إعلمي! ان هذه الكلمة الطيبة المباركة كما أنها شعار الإسلام، فهي ذكر جميع الموجودات بألسنة أحوالها.

فإن كنت راغبة في إدراك مدى ما في ((بسم الله)) من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابدّ له أن ينتمي إلى رئيس قبيلة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتدارك حاجاته، وإلاّ فسيبقى وحده حائرًا مضطربًا أمام كثرة من الأعداء، ولا حد لها من الحاجات.

وهكذا.. فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان أحدهما متواضعًا، والآخر مغرورًا، فالمتواضع انتسب إلى رئيس، بينما المغرور رفض الانتساب. فتجولا في هذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له: ((إنني اتجول باسم ذلك الرئيس)).. فيتخلى عنه الشقي. أما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسوّل مستديم، فأذلّ نفسه وأهانها.

فيا نفسي المغرورة! اعلمي!.. إنك أنتِ ذلك السائح البدوي. وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وإن ((فقرك)) و ((عجزك)) لاحد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما. فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجي من ذُلّ التسول أمام الكائنات، ومهانة الخوف أمام الحادثات.

نعم! إن هذه الكلمة الطيبة ((بسم الله)) كنز عظيم لا يفنى أبدًا، إذ بها يرتبط((فقرك)) برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق ((عجزك)) بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات إلى المجرات، حتى انه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال.

ان الذي يتحرك ويسكن ويصبح ويمسي بهذه الكلمة ((بسم الله)) كمن انخرط في الجندية؛ يتصرف باسم الدولة ولا يخاف أحدًا، حيث انه يتكلم باسم القانون وباسم الدولة، فينجز الاعمال ويثبت امام كل شئ.

وقد ذكرنا في البداية: ان جميع الموجودات تذكر بلسان حالها اسم الله، اي انها تقول: ((بسم الله)).. أهو كذلك؟

نعم! فكما لو رأيت ان أحدًا يسوق الناس إلى صعيد واحد، ويرغمهم على القيام بأعمال مختلفة، فانك تتيقن ان هذا الشخص لا يمثل نفسه ولا يسوق الناس باسمه وبقوته، وانما هو جندي يتصرف باسم الدولة، ويستند إلى قوة سلطان.

فالموجودات أيضًا تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغرتحمل فوق رؤوسها باسم الله اشجارًا ضخمة واثقالًا هائلة. أي ان كل شجرة تقول: ((بسم الله)) وتملأ ايديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها إلينا.. وكل بستان يقول: ((بسم الله)) فيغدو مطبخًا للقدرة الإلهية تنضج فيه انواع من الاطعمة اللذيذة.. وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع ـ كالابل والمعزى والبقر ـ يقول: ((بسم الله)) فيصبح ينبوعًا دفاقًا للّبن السائغ، فيقدم إلينا باسم الرزاق ألطف مغذّ وانظفه.. وجذور كل نبات وعشب تقول ((بسم الله)) وتشق الصخور الصلدة باسم الله وتثقبها بشعيراتها الحريرية الرقيقة فيُسخَّر أمامها باسم الله وباسم الرحمن كل أمر صعب وكل شئ صلد!.

نعم، ان انتشار الاغصان في الهواء وحملها للأثمار، وتشعب الجذور في الصخور الصماء، وخزنها للغذاء في ظلمات التراب.. وكذا تحمّل الاوراق الخضراء شدة الحرارة ولفحاتها، وبقاءها طرية ندية.. كل ذلك وغيره صفعة قوية على افواه الماديين عَبَدة الاسباب، وصرخة مدوية في وجوههم، تقول لهم: ان ما تتباهون به من صلابة وحرارة أيضًا لا تعملان بنفسيهما، بل تـؤديان وظائفـهما بأمر آمر واحد، بحيث يجعل تلك العروق الدقيقة الرقيقة كــأنها عصا موســى تشق الصخـور وتمتثـل أمر ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ (البقرة:60) ويجعل تلك الاوراق الطرية الندية كأنها اعضاء ابراهيم عليه السلام تقرأ تجاه لفحة الحرارة: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا….﴾  (الانبياء:69).

فما دام كل شئ في الوجود يقول معنىً ((بسم الله)) ويجلب نِعَم الله باسم الله ويقدمّها إلينا، فعلينا أن نقول أيضًا ((بسم الله)) ونعطي باسم الله ونأخذ باسم الله. وعلينا أيضًا ان نردّ أيدي الغافلين الذين لم يعطوا باسم الله.

سؤال: إننا نبدي احترامًا وتوقيرًا لمن يكون سببًا لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منا ربنُّا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟

الجواب: إن ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة أمور ثمنًا لتلك النعم الغالية:

الأول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر..

فـ ((بسم الله)) بدءًا هي ذكرٌ، و((الحمد لله)) ختامًا هي شكرٌ، وما يتوسطهما هو ((فكر)) أي التأمل في هذه النعم البديعة، والإدراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصمد وهدايا رحمته الواسعة… فهذا التأمل هو الفكر.

ولكن أليس الذي يقبّل أقدام الجندي الخادم الذي يقدّم هدية السلطان يرتكب حماقة فظيعة وبلاهة مشينة؟ إذن فما بال مَن يُثني على الأسباب المادية الجالبة للنعم، ويخصصها بالحب والود، دون المنعم الحقيقي! ألا يكون مقترفًا بلاهة أشد منها ألف مرة؟

فيا نفس!! إن كنت تأبين أن تكوني مثل الأحمق الأبله،

فاعطي باسم الله..

وخذي باسم الله..

وابدأي باسم الله..

واعملي باسم الله..

والسـلام.

(حاشية) وضع الأستاذ المؤلف ((المقام الثاني من اللمعة الرابعة عشرة)) عقب هذه الكلمة الأولى، لمناسبة المقام حبث يضم ستة من اسرار ((بسم الله الرحمن الرحيم)). وسيجده القارئ الكريم في موضعه من كتاب ((اللمعات)) فليراجع . ـ المترجم .