ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:٧-٨)

 ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ (ﺍلأﻧﻌﺎﻡ:32)

   ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﻣﻘﺎﻣﻴﻦ ﻋﺎﻟﻴﻴﻦ ﻭﺫﻳﻞ ﺳﺎﻃﻊ.

    ﺇﻥّ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻭﺍﻟﺮﺯﺍﻕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﻋﻴﺪ ﺑﻬﻴﺞ ﻭﺍﺣﺘﻔﺎﻝ ﻣﻬﻴﺐ ﻭﻣﻬﺮﺟﺎﻥ ﻋﻈﻴﻢ ﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ، ﻭﺯﻳّﻨﻬﺎ ﺑﺎلآﺛﺎﺭ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ لأﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻭﺧﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺭﻭﺡ -ﺻﻐﻴﺮﺍ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﻛﺒﻴﺮﺍ، ﻋﺎﻟﻴﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﺳﺎﻓـلا-، ﺟﺴﺪﺍ ﻋﻠﻰ ﻗﺪّﻩ ﻭﻗﺪﺭﻩ، ﻭﺟﻬّﺰﻩ ﺑﺎﻟﺤﻮﺍﺱ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻮﺍﻓﻘﻪ ﻟـلاﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﺍلآلاﺀ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻭﺍﻟﻨﻌﻢ ﺍﻟﻤﺘﻨﻮﻋﺔ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﻌﺪ ﻭلا ﺗﺤﺼﻰ، ﻭﺍﻟﻤﺒﺜﻮﺛﺔ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﺍﻟﺒﻬﻴﺞ، ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻭﺿﺔ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ. ﻭﻣﻨﺢ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻟﻜﻞ ﺭﻭﺡ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﺟﺴﻤﺎﻧﻴﺎ (ﻣﺎﺩﻳﺎ) ﻭﺃﺭﺳﻠﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﻭﺍﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻥ ﻣﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺛﻢ ﻗﺴّﻢ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻊ ﺟﺪﺍ ﺯﻣﺎﻧﺎ ﻭﻣﻜﺎﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﻋﺼﻮﺭ ﻭﺳﻨﻮﺍﺕ ﻭﻣﻮﺍﺳﻢ، ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﺇﻟﻰ ﺃﻳﺎﻡ ﻭﺃﺟﺰﺍﺀ ﺃﻳﺎﻡ، ﺟﺎﻋـلا ﻣﻦ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﺳﻨﺔ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﻳﻮﻡ، ﻣﻬﺮﺟﺎﻧﺎ ﺳﺎﻣﻴﺎ ﻭﻋﻴﺪﺍ ﺭﻓﻴﻌﺎ ﻭﺍﺳﺘﻌﺮﺍﺿﺎ ﻋﺎﻣﺎ ﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺗﻪ ﺫﻭﺍﺕ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﻭﻣﻦ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ، ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﺳﻄﺢُ ﺍلأﺭﺽ، ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﻭﺍﻟﺼﻴﻒ، ﺟﺎﻋـلا ﺃﻋﻴﺎﺩﺍ ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ، ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﺗﻠﻮ ﺍلآﺧﺮ، ﻟﻄﻮﺍﺋﻒ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﺣﺘﻰ ﻏﺪﺍ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﻋﻴﺪﺍ ﺭﺍﺋﻌﺎ ﺟﺬﺍﺑﺎ ﻟَﻔَﺖَ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻭﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ  ﻭﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﻣﺸﺎﻫﺪﺗﻪ، ﻭﺟﻠﺐ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻄﺎﻟﻌﺘﻪ ﺑﻤﺘﻌﺔ ﺇﻟﻰ ﺣﺪ ﻳﻌﺠﺰ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻋﻦ ﺍﺳﺘﻜﻨﺎﻩ ﻣﺘﻌﺘﻬﺎ.. ﻭﻟﻜﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻀﻴﺎﻓﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﻴﺪ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ، ﻭﻣﺎ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﺳﻢ (ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ) ﻭ(ﺍﻟﻤﺤﻴﻲ) ﻳﻜﺘﻨﻔﻬﺎ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻭﺍﻟﻤﻮﺕ، ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺮﺯ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻠﻪ (ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ) ﻭ(ﺍﻟﻤﻤﻴﺖ) ﻭﺭﺑّﻤﺎ ﻫﺬﺍ لا ﻳﻮﺍﻓﻖ -ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪﻭ- ﺷﻤﻮﻝ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:156). ﻭﻟﻜﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻨﺎﻙ ﺟﻬﺎﺕ ﻋﺪﺓ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺍلاﻧﺴﺠﺎﻡ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﻓﻘﺔ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ، ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﻬﺔً ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻓﻘﻂ:

ﻭﻫﻲ ﺃﻧﻪ ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺘﻬﺎﺀ ﺍلاﺳﺘﻌﺮﺍﺽ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﻟﻜﻞ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻮﺍﺋﻒ، ﻭﺑﻌﺪ ﺍﺳﺘﺤﺼﺎﻝ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩﺓ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺮﺽ، ﻳﺘﻔﻀﻞ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻮﺍﺋﻒ، ﻓﻴﻤﻨﺤﻬﻢ ﺭﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ ﻭﺍﺷﺘﻴﺎﻗﺎ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭﻣﻴـلا ﺇﻟﻰ ﺍلاﻧﺘﻘﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢٍ ﺁﺧﺮ، ﻭﻳُﺴﺌﻤﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺄﺷﻜﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻔﻮﺭ ﻭﺍﻟﺴﺄﻡ ﺭﺣﻤﺔً ﺑﻬﻢ.

ﻭﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳُﺮﺧّﺼﻮﻥ ﻣﻦ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﻳُﺴﺮّﺣﻮﻥ ﻣﻦ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﺎ، ﻳُﻨﺒّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﻲ ﺃﺭﻭﺍﺣﻬﻢ ﺭﻏﺒﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻭﺣﻨﻴﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﻃﻨﻬﻢ ﺍلأﺻﻠﻲ. ﻭﻛﻤﺎ ﻳﻤﻨﺢ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﻟﺠﻨﺪﻱ ﺑﺴﻴﻂ ﻳُﻘﺘﻞ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺃﺩﺍﺀ ﺍﻟﺨﺪﻣﺔ ﻭﻳﻬﻠﻚ ﻓﻲ ﻣﻬﻤﺔ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ، ﻭﻛﻤﺎ ﻳﻤﻨﺢ ﺍﻟﺸﺎﺓ ﺍلأﺿﺤﻴﺔ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﻣﺎﺩﻳﺎ ﻓﻲ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻭﻳﻜﺎﻓﺆﻫﺎ ﺑﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻄﻴﺔ ﻛﺎﻟﺒﺮﺍﻕ ﻟﺼﺎﺣﺒﻬﺎ ﻣﺎﺭﺓ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﺮﺍﻁ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻴﻢ، ﻓﻠﻴﺲ ﺑﻌﻴﺪﺍ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺃﻥ ﻳﻤﻨﺢ ﻟﺬﻭﻱ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﺛﻮﺍﺑﺎ ﺭﻭﺣﺎﻧﻴﺎ ﻳـلاﺋﻤﻬﻢ ﻭﺃﺟﺮﺍ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﻳﻮﺍﻓﻖ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻫﻢ، ﻣﻦ ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ، ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻗﺎﺳﻮﺍ ﺍﻟﻤﺸﻘﺎﺕ ﻭﻫﻠﻜﻮﺍ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺃﺩﺍﺀ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﻢ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﻢ، ﻭﻋﺎﻧﻮﺍ ﻣﺎ ﻋﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﻃﺎﻋﺘﻬﻢ ﻟـلأﻭﺍﻣﺮ ﺍﻟﺴﺒﺤﺎﻧﻴﺔ. ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺌـلا ﻳﺘﺄﻟﻤﻮﺍ ﺃﻟﻤﺎ ﺷﺪﻳﺪﺍ ﻟﺪﻯ ﺗﺮﻛﻬﻢ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﺑﻞ ﻳﻜﻮﻧﻮﻥ ﺭﺍﺿﻴﻦ ﻣﺮﺿﻴﻴﻦ.. ﻭلا ﻳﻌﻠﻢ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﺇلا ﺍﻟﻠﻪ.

ﺑَﻴْﺪَ ﺃﻥّ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺃﺷﺮﻑ ﺫﻭﻱ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺃﻛﺜﺮﻫﻢ ﺍﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻴﺪ -ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻜﻤﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﻮﻋﻴﺔ- ﻳﻮﻫﺐ ﻟﻪ ﺑﺮﺣﻤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻟﻄﻒ ﻣﻨﻪ ﺣﺎﻟﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﺍﻟﺮﻭﺣﻲ ﺗﻨﻔّﺮﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺑﺘﻠﻲ ﺑﻬﺎ، ﻛﻲ ﻳﻌﺒﺮ ﺇﻟﻰ ﺍلآﺧﺮﺓ ﺑﺄﻣﺎﻥ. ﻓﺎلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﺗﻐﺮﻕ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻀـلاﻟﺔ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﻓﻴﺮﺣﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻗﻠﺒﻪ ﻣﻄﻤﺌﻦ ﺑﺎلإﻳﻤﺎﻥ.

ﻧﺒﻴﻦ ﻫﻨﺎ ﺧﻤﺴﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺭﺙ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ:

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍلأﻭﻝ: ﺇﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳُﻈﻬﺮ ﻟﻺ ﻧﺴﺎﻥ -ﺑﺤﻠﻮﻝ ﺍﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ- ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻭﺍﻟﺰﻭﺍﻝ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﺍﻟﻔﺘﺎﻧﺔ، ﻭﻳﻔﻬّﻤﻪ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﺮﻳﺮﺓ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﻨﻔﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻳﺴﺮﻉ ﻟﻠﺘﺤﺮﻱ ﻋﻦ ﻣﻄﻠﻮﺏ ﺑﺎﻕ ﺧﺎﻟﺪ ﺑﺪلا ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺍﻟﺰﺍﺋﻞ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺇﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳُﺸﻌﺮ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺷﻮﻗﺎ ﻭﺭﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺣﻴﺚ ﺭﺣﻞ ﺗﺴﻊ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺘﻪ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻣﻌﻬﻢ ﻭﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﺳﺘﻘﺮﻭﺍ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺁﺧﺮ، ﻓﺘﺪﻓﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺠﺎﺩﺓ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻭﺍلأﺟﻞَ ﺑﺴﺮﻭﺭ ﻭﻓﺮﺡ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺇﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﺪﻓﻊ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺴﺘﺸﻌﺮ ﺿﻌﻔﻪ ﻭﻋﺠﺰﻩ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺘﻨﺎﻫﻴﻴﻦ، ﺳﻮﺍﺀ ﺑﻤﺪﻯ ﺛﻘﻞ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺃﻭ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺍﻟﻌﻴﺶ ﺃﻭ ﺃﻣﻮﺭ ﺃﺧﺮﻯ، ﻓﻴﻮﻟﺪ ﻟﺪﻳﻪ ﺭﻏﺒﺔ ﺟﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ ﻭﺷﻮﻗﺎ ﺧﺎﻟﺼﺎ ﻟﻠﻤﻀﻲ ﺇﻟﻰ ﺩﻳﺎﺭ ﺃﺧﺮﻯ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ: ﺇﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﺒﻴّﻦ ﻟﻺ ﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ -ﺑﻨﻮﺭ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ- ﺃﻥّ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻟﻴﺲ ﺇﻋﺪﺍﻣﺎ ﺑﻞ ﺗﺒﺪﻳﻞ ﻣﻜﺎﻥ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻟﻴﺲ ﻓﻮﻫﺔ ﺑﺌﺮ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺑﻞ ﺑﺎﺏ ﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺒﺎﻫﺠﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﺳﺠﻦ ﺿﻴﻖ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺴﻌﺔ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻭﺟﻤﺎﻟﻬﺎ. ﻓـلا ﺷﻚ ﺃﻥّ ﺍﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻦ ﺳﺠﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﻟﻨﺠﺎﺓ ﻣﻦ ﺿﻴﻘﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ ﺍلأﺧﺮﻭﻳﺔ، ﻭﺍلاﻧﺘﻘﺎﻝ ﻣﻦ ﻣﻨﻐﺼﺎﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﻤﺰﻋﺠﺔ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ ﻭﺍﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ﻭﻃﻴﺮﺍﻥ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ، ﻭﺍلاﻧﺴـلاﺥ ﻣﻦ ﺿﺠﻴﺞ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻭﺻﺨﺒﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻬﺎﺩﺋﺔ ﺍﻟﻤﻄﻤﺌﻨﺔ ﺍﻟﺮﺍﺿﻴﺔ، ﺳﻴﺎﺣﺔ ﺑﻞ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﻣﻄﻠﻮﺑﺔ ﺑﺄﻟﻒِ ﻓﺪﺍﺀ ﻭﻓﺪﺍﺀ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺨﺎﻣﺲ: ﺇﻧّﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳُﻔﻬّﻢ ﺍﻟﻤﻨﺼﺖَ ﻟﻠﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﻭﻳﻌﻠّﻤﻪ ﺑﻨﻮﺭ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﺣﺘﻰ ﻳﻐﺪﻭ ﻋﺸﻘﻬﺎ ﻭﺍﻟﺮﻛﻮﻥ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺗﺎﻓﻬﺎ لا ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻪ.. ﺃﻱْ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻪ ﻭﻳُﺜﺒﺖ: ﺃﻥّ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻛﺘﺎﺏ ﺭﺑﺎﻧﻲ ﺻﻤﺪﺍﻧﻲ ﻣﻔﺘﻮﺡ ﻟـلأﻧﻈﺎﺭ، ﺣﺮﻭﻓﻪ ﻭﻛﻠﻤﺎﺗﻪ لا ﺗﻤﺜﻞ ﻧﻔﺴَﻬﺎ، ﺑﻞ ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺫﺍﺕ ﺑﺎﺭﺋﻬﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻭﻟﻬﺬﺍ، ﺍﻓﻬﻢ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﻭﺧﺬ ﺑﻬﺎ، ﻭﺩَﻉ ﻋﻨﻚ ﻧﻘﻮﺷﻬﺎ ﻭﺍﻣﺾِ ﺇﻟﻰ ﺷﺎﻧﻚ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺰﺭﻋﺔ ﻟﻶ ﺧﺮﺓ، ﻓﺎﺯﺭﻉ ﻭﺍﺟﻦِ ﺛﻤﺮﺍﺗﻬﺎ ﻭﺍﺣﺘﻔﻆ ﺑﻬﺎ، ﻭﺃﻫﻤﻞ ﻗﺬﺍﺭﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ.. ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺠﺎﻣﻴﻊ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ، ﻓﺘﻌﺮّﻑ ﺇﻟﻰ ﻣَﻦ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﻋﺎﻳﻦ ﺃﻧﻮﺍﺭﻩ، ﻭﺃﺩﺭﻙ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﺍﺣﺒﺐ ﻣﺴﻤّﺎﻫﺎ، ﻭﺍﻗﻄﻊ ﻋـلاﻗﺘﻚ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﻄﻊ ﺍﻟﺰﺟﺎﺟﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻜﺴﺮ ﻭﺍﻟﺰﻭﺍﻝ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﻮﺿﻊ ﺗﺠﺎﺭﺓ ﺳﻴّﺎﺭ، ﻓﻘﻢ ﺑﺎﻟﺒﻴﻊ ﻭﺍﻟﺸﺮﺍﺀ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻣﻨﻚ، ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻠﻬﺚَ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﻘﻮﺍﻓﻞ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻫﻤﻠﺘﻚ ﻭﺟﺎﻭﺯﺗﻚ، ﻓﺘﺘﻌﺐ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺘﻨﺰﻩ ﻣﺆﻗﺖ ﻓﺎﺳﺮﺡ ﺑﺒﺼﺮﻙ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ، ﻭﺩﻗﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﻤﺘﺴﺘﺮ، ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ، ﻭﺃﻋﺮﺽ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻘﺒﻴﺢ ﺍﻟﺪﻣﻴﻢ ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﻫﻮﻯ ﺍﻟﻨﻔﺲ، ﻭلا ﺗﺒﻚ ﻛﺎﻟﻄﻔﻞ ﺍﻟﻐﺮﻳﺮ ﻋﻨﺪ ﺍﻧﺴﺪﺍﻝ ﺍﻟﺴﺘﺎﺋﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﻳﻚ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﻇﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﺩﺍﺭ ﺿﻴﺎﻓﺔ، ﻭﺃﻧﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺿﻴﻒ ﻣﻜﺮﻡ، ﻓﻜُﻞْ ﻭﺍﺷﺮﺏْ ﺑﺈﺫﻥِ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻀﻴﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟﻜﺮﻡ، ﻭﻗﺪّﻡ ﻟﻪ ﺍﻟﺸﻜﺮ، ﻭلا ﺗﺘﺤﺮﻙ ﺇلا ﻭﻓﻖ ﺃﻭﺍﻣﺮﻩ ﻭﺣﺪﻭﺩﻩ، ﻭﺍﺭﺣﻞ ﻋﻨﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻰ ﻭﺭﺍﺋﻚ.. ﻭﺇﻳّﺎﻙ ﺃﻥ ﺗﺘﺪﺧﻞ ﺑﻔﻀﻮﻝ ﺑﺄﻣﻮﺭ لا ﺗﻌﻮﺩ ﺇﻟﻴﻚ ﻭلا ﺗﻔﻴﺪﻙ ﺑﺸﻲﺀ، ﻓـلا ﺗﻐﺮﻕ ﻧﻔﺴﻚ ﺑﺸﺆﻭﻧﻬﺎ ﺍﻟﻌﺎﺑﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﺎﺭﻗﻚ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻳﺨﻔﻒ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻦ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﻦ ﺁلاﻡ ﻓﺮﺍﻕ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﺤﺒﺒﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﺎﺑﻬﻴﻦ ﺍﻟﻴﻘﻈﻴﻦ، ﺑﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭﺇﻧﻪ ﺃﺛﺮٍ ﻣﻦ ﺁﺛﺎﺭ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﺄْﻥ. ﻭﺇﺫْ ﻳﺸﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺨﻤﺴﺔ، ﻓﺈﻥّ ﺁﻳﺎﺕٍ ﻛﺮﻳﻤﺔ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻮﻩ ﺧﺎﺻﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻛﺬﻟﻚ.

   ﻓﻴﺎ ﻟﺘﻌﺎﺳﺔ ﻣﻦ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺣﻆ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺨﻤﺴﺔ.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﻳﺲ:82-83)

ﻛﺘﺒﺖُ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﻟﺘﻤﻨﺢ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻌﻤﻴﺎﺀَ ﺑﺼﻴﺮﺓً، ﻭﻟﺘﺒﺪﺩ ﺍﻟﻈﻠﻤﺎﺕ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﻭﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﺒﻌﺜﺎ لاﻃﻤﺌﻨﺎﻧﻬﺎ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﺈﺭﺍﺀﺗﻬﺎ ﺃﺭﺑﻊ ﺃﺷﻌﺎﺕ ﻣﻦ ﻧﻮﺭ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍلأﻭﻝ

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﺠﺎﻫﻠﺔ! ﺗﻘﻮﻟﻴﻦ: ﺇﻥّ ﺃﺣﺪﻳﺔ ﺫﺍﺕِ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻣﻊ ﻛﻠﻴﺔ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ، ﻭﻭﺣﺪﺓ ﺫﺍﺗﻪ ﻣﻊ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺩﻭﻥ ﻣﻌِﻴﻦ، ﻭﻓﺮﺩﻳﺘﻪ ﻣﻊ ﺷﻤﻮﻝ ﺗﺼﺮﻓﺎﺗﻪ ﺩﻭﻥ ﺷﺮﻳﻚ، ﻭﺣﻀﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ ﻣﻊ ﺗﻨﺰﻫﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻭﺭﻓﻌﺘﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻣﻊ ﻗﺮﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﻭﺣﺪﺍﻧﻴﺘﻪ ﻣﻊ ﺃﻥ ﻛﻞَّ ﺷﻲﺀ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺘﻪ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ.. ﻭﺗﻘﻮﻟﻴﻦ: ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺣﻜﻴﻢ، ﻭﺍﻟﺤﻜﻴﻢ لا ﻳﺤﻤّﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﺎ لا ﻳﻘﺒﻠﻪ. ﺑَﻴْﺪَ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻳﺮﻯ ﻣﻨﺎﻓﺎﺓ ﻇﺎﻫﺮﺓ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻣﻮﺭ. ﻟﺬﺍ ﺃﻃﻠﺐُ ﺇﻳﻀﺎﺣﺎ ﻳﺴﻮﻕ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ.

   ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﻣﺎﺩﺍﻡ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ، ﻭﺗﻄﻠﺒﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﻟﺒﻠﻮﻍ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ، ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻘﻮﻝ ﻣﺴﺘﻨﺪﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﻓﻴﺾ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ: ﺇﻥ ﺍﺳﻢ (ﺍﻟﻨﻮﺭ) -ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ- ﻗﺪ ﺣﻞّ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﻦ ﻣﺸﻜـلاﺗﻨﺎ، ﻭﻳﺤﻞّ ﺑﺈﺫﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺃﻳﻀﺎ.

ﻧﻘﻮﻝ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺍلإﻣﺎﻡ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﺃﺣﻤﺪ ﺍﻟﻔﺎﺭﻭﻗﻲ ﺍﻟﺴﺮﻫﻨﺪﻱ، ﻣﻨﺘﻘﻴﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺍﻟﻮﺍﺿﺢ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻤﻨﻮﺭ ﻟﻠﻘﻠﺐ:

     ﻧَﻪ ﺷَﺒَﻢْ ﻧَﻪ ﺷَﺐْ ﭘَﺮَﺳْﺘَﻢْ ﻣَﻦْ     ﻏُـلاﻡِ ﺷَﻤْﺴَﻢْ ﺍَﺯْ ﺷَﻤْﺲِ ﻣِﻰ ﮔُﻮﻳَﻢْ ﺧَﺒَﺮْ

 (حاشية) ﻳﻌﻨﻲ: ﻭﺇﻧﻲ ﻏـلاﻡ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺃﺭﻭﻱ ﺣﺪﻳﺜَﻬﺎ ﻓﻤﺎ ﻟﻲ ﻭﻟﻠّﻴﻞ ﻓﺄﺭﻭﻱ ﺣﺪﻳﺜَﻪ.

ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺃﺳﻄﻊ ﻣﺮﺁﺓ ﻋﺎﻛﺴﺔ لإﻋﺠﺎﺯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻓﻨﺤﻦ ﺃﻳﻀﺎ ﺳﻨﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺮ ﻣﻦ ﺧـلاﻝ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ. ﻭﺫﻟﻚ: ﺃﻥ ﺷﺨﺼﺎ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻳﻜﺴﺐ ﺻﻔﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﺟﺰﺋﻲ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻳﺼﺒﺢ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻛﻠﻲ ﻣﺎﻟﻚ ﻟﺸﺆﻭﻥ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻋﺎﻣﺔ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻭﻫﻲ ﺟﺰﺋﻲ ﻣﺸﺨّﺺ، ﻭﻟﻜﻦ ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﺗﺼﺒﺢ ﺑﺤﻜﻢ ﺍﻟﻜﻠﻲ ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﻤﻸ ﺳﻄﺢ ﺍلأﺭﺽ ﺑﺼﻮﺭﻫﺎ ﻭﺍﻧﻌﻜﺎﺳﺎﺗﻬﺎ، ﺑﻞ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻠﻮﺍﺕ ﺑﻌﺪﺩ ﺍﻟﻘﻄﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﺬﺭﺍﺕ ﺍﻟﺴﺎﻃﻌﺔ. ﻭﺣﺮﺍﺭﺓ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺿﻴﺎﺅﻫﺎ، ﻭﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻟﻮﺍﻥ ﺳﺒﻌﺔ، ﻳﺤﻴﻂ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺎلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﻭﻳﺸﻤﻠﻬﺎ ﻭﻳﻌﻤّﻬﺎ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ ﻓﺎﻥ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺷﻔﺎﻑ ﻳﺨﺒﺊ ﻓﻲ ﺑﺆﺑﺆ ﻋﻴﻨﻪ -ﻣﻊ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺸﻤﺲ- ﺍﻟﺤﺮﺍﺭﺓ ﻭﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﻟﻮﺍﻥ ﺍﻟﺴﺒﻌﺔ ﺃﻳﻀﺎ، ﺟﺎﻋـلا ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻪ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮ ﻋﺮﺷﺎ ﻟﻬﺎ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﺼﻔﺔ ﻭﺍﺣﺪﻳﺘﻬﺎ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺎﺑﻠﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺃﺣﺪﻳﺘﻬﺎ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻨﻮﻉٍ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻲ ﺫﺍﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﻊ (ﺧﺎﺻﻴﺘﻬﺎ) ﻭﺃﻭﺻﺎﻓﻬﺎ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ.

ﻭﻣﺎ ﺩﻣﻨﺎ ﻗﺪ ﺍﻧﺘﻘﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻤﺜّﻞ، ﻓﺴﻨﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺛـلاﺛﺔ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﻣﺤﻮﺭ ﻣﺴﺄﻟﺘﻨﺎ ﻫﺬﻩ.

ﺃﻭﻟﻬﺎ: ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻸ ﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﻜﺜﻴﻔﺔ، ﻫﻲ ﻏﻴﺮ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻋﻴﻨﺎ، ﻭﻫﻲ ﻣﻮﺍﺕ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻣﺎﻟﻜﺔ لأﻳﺔ ﺧﺎﺻﻴﺔ ﻏﻴﺮ ﻫﻮﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺼﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺇﺫﺍ ﺩﺧﻠﺖَ -ﻳﺎ ﺳﻌﻴﺪ- ﺇﻟﻰ ﻣﺨﺰﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺳﻌﻴﺪ ﻭﺍﺣﺪ ﺃﻟﻒ ﺳﻌﻴﺪ، ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﻠﻚ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻟﻮﻑ، ﻫﻮ ﺃﻧﺖ ﻓﻘﻂ لا ﻏﻴﺮ، ﻭﺍﻟﺒﻘﻴﺔ ﺃﻣﻮﺍﺕ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻬﻢ ﺧﻮﺍﺹ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ.

ثانيها: ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻠﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ؛ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﻴﻨﺎ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻏﻴﺮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ، ﺇﺫ لا ﺗﺴﺘﻮﻋﺐ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ؛ ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺎﻟﻜﺔ لأﻛﺜﺮ ﺧﻮﺍﺹ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ؛ ﻓﺘﻌﺘﺒﺮ ﺫﺍﺕ ﺣﻴﺎﺓ ﻣﺜﻠﻪ.

ﻓﻤﺜـلا: ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻨﺸﺮ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺃﺷﻌﺘﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺁﺓ، ﻓﻜﻞ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﻨﻌﻜﺴﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﺎﺛﻞ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻣﻦ ﺿﻮﺀ ﻭﺃﻟﻮﺍﻥ ﺳﺒﻌﺔ. ﻓﻠﻮ ﺍﻓﺘﺮﺿﺖ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺫﺍﺕ ﺷﻌﻮﺭ، ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ ﺣﺮﺍﺭﺗﻬﺎ ﻋﻴﻦ ﻗﺪﺭﺗﻬﺎ، ﻭﺿﻴﺎﺅﻫﺎ ﻋﻴﻦ ﻋﻠﻤﻬﺎ، ﻭﺃﻟﻮﺍﻧﻬﺎ ﺍﻟﺴﺒﻌﺔ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ ﺍﻟﺴﺒﻊ، ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺗﻮﺟﺪ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻔﺮﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺁﺓ، ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴِﻬﺎ، ﻭلاﺗﺨﺬﺕ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﺮﺷﺎ ﻟﻬﺎ ﻳﺨﺼﻬﺎ، ﻭﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﻫﺎﺗﻒ؛ ﻓـلا ﻳﻤﻨﻊ ﺷﻲﺀ ﺷﻴﺌﺎ؛ ﻭلأﻣﻜﻨﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻘﺎﺑﻞ ﻛـلا ﻣﻨﺎ ﺑﺎﻟﻤﺮﺁﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻲ ﺃﻳﺪﻳﻨﺎ، ﻭﻣﻊ ﺃﻧﻨﺎ ﺑﻌﻴﺪﻭﻥ ﻋﻨﻬﺎ؛ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﺃﻧﻔﺴﻨﺎ.

ﺛﺎﻟﺜﻬﺎ: ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻸﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ؛ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺣﻴﺔ، ﻭﻫﻲ ﻋﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ، ﻭﻟﻜﻦ لأﻥّ ﻇﻬﻮﺭﻫﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻭﻓﻖ ﻗﺎﺑﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ، ﻓﺎﻟﻤﺮﺁﺓ لا ﺗﺴﻊ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ. ﻓﻤﺜـلا: ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻳﺤﻀﺮ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺲ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﻲ ﺩﺣﻴﺔ ﺍﻟﻜﻠﺒﻲ؛ ﻛﺎﻥ ﻳﺴﺠﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍلإﻟﻬﻲ ﺑﺄﺟﻨﺤﺘﻪ ﺍﻟﻤﻬﻴﺒﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻌﺮﺵ ﺍلأﻋﻈﻢ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻛﻦ لا ﺗﻌﺪّ ﻭلا ﺗﺤﺼﻰ، ﺇﺫ ﻛﺎﻥ ﻳﺒﻠّﻎ ﺍلأﻭﺍﻣﺮ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ. ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻓﻌﻞ ﻳﻤﻨﻊ ﻓﻌـلا.

ﻭﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺮ ﻧﻔﻬﻢ ﻛﻴﻒ ﻳﺴﻤﻊ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم، ﺻﻠﻮﺍﺕِ ﺃﻣّﺘﻪ ﻛﻠِّﻬﺎ، ﻓﻲ ﺍلأﻧﺤﺎﺀ ﻛﺎﻓﺔ، ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ، ﺇﺫ ﻣﺎﻫﻴﺘﻪ ﻧﻮﺭ ﻭﻫﻮﻳﺘﻪ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ.. ﻭﻧﻔﻬﻢ ﻛﺬﻟﻚ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﻪ صلى الله عليه وسلم ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍلأﺻﻔﻴﺎﺀ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻓﻲ ﻭﻗﺖ ﻭﺍﺣﺪ، ﻓـلا ﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪُ ﺍلآﺧﺮ.. ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﻛﺘﺴﺒﻮﺍ ﻣﺰﻳﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﺳﻢ (ﺍلأﺑﺪﺍﻝ) ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﻳﻘﺎﻝ ﺇﻧﻬﻢ ﻳﺸﺎﻫَﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ، ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻛﻦ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ. ﻭﻳُﺮﻭﻯ ﻋﻨﻬﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻧﻔﺴَﻪ ﻳﻨﺠﺰ ﺃﻋﻤﺎلا ﻣﺘﺒﺎﻳﻨﺔ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ. ﺇﺫ  ﻛﻤﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﺰﺟﺎﺝ ﻭﺍﻟﻤﺎﺀ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻟﻸﺟﺴﺎﻡ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻭﺍلأﺛﻴﺮ ﻭﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ، ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻟﻠﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ ﻭﻭﺳﺎﺋﻂ ﺳﻴﺮ ﻭﺗﺠﻮﺍﻝ ﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﺍﻟﺒﺮﻕ ﻭﺍﻟﺨﻴﺎﻝ. ﻓﺘﺘﺠﻮﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ ﻭﺗﺴﻴﺢ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺯﻝ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ ﺍﻟﻨﻈﻴﻔﺔ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ، ﻓﺘﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺃﻟﻮﻑ ﺍلأﻣﺎﻛﻦ ﻓﻲ ﺁﻥ ﻭﺍﺣﺪ.

ﻓﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻋﺎﺟﺰﺓ ﻭﻣﺴﺨﺮﺓ ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ، ﻭﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺷﺒﻪ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻣﻘﻴﺪﺓ ﺑﺎﻟﻤﺎﺩﺓ ﻛﺎﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻲ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻊ ﻭﺍﺣﺪ ﻭﻓﻲ ﻋﺪﺓ ﻣﻮﺍﺿﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ، ﺑﺴﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ، ﺇﺫ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﺟﺰﺋﻲ ﻣﻘﻴّﺪ ﻳﻜﺴﺐ ﺣُﻜﻤﺎ ﻛﻠﻴﺎ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻳﻔﻌﻞ ﺑﺎﺧﺘﻴﺎﺭ ﺟﺰﺋﻲ ﺃﻋﻤﺎلا ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺁﻥ ﻭﺍﺣﺪ.. ﻓﻜﻴﻒ ﺇﺫﻥ ﺑﻤﻦ ﻫﻮ ﻣﺠﺮﺩ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻭﻣﻘﺪﺱ ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻣﻦ ﻫﻮ ﻣﻨﺰّﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﺑﺎﻟﻘﻴﺪ ﻭﻇﻠﻤﺔ ﺍﻟﻜﺜﺎﻓﺔ ﻭﻣُﺒﺮّﺃ ﻋﻨﻬﺎ.. ﺑﻞ ﻣﺎ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻧﻮﺍﺭ ﻭﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺎﺕ ﻛﻠﻬﺎ ﺇلا ﻇـلاﻝ ﻛﺜﻴﻔﺔ لأﻧﻮﺍﺭ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﺑﻞ ﻣﺎ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻛﻠﻬﺎ، ﻭﻋﺎﻟﻢ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺇلا ﻣﺮﺍﻳﺎ ﺷﺒﻪ ﺷﻔﺎﻓﺔ لإﻇﻬﺎﺭ ﺟﻤﺎﻝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺪﻭﺱ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻣﺤﻴﻄﺔ ﺑﻜﻞ ﺷﻲﺀ ﻭﺷﺆﻭﻧﻪ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ.. ﺗُﺮﻯ ﺃﻱُّ ﺷﻲﺀ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺘﺴﺘﺮ ﻋﻦ ﺗﻮﺟﻪ ﺃﺣﺪﻳﺘﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺿﻤﻦ ﺗﺠﻠﻲ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﺍﻟﻤﺤﻴﻄﺔ ﻭﺗﺠﻠﻲ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﺑﺈﺭﺍﺩﺗﻪ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻋﻠﻤﻪ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ.. ﻭﺃﻱُّ ﺷﻲﺀ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺃﻱُّ ﺷﻲﺀ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺘﺨﻔَّﻰ ﻋﻨﻪ.. ﻭﺃﻱُّ ﻓﺮﺩ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻈﻞ ﺑﻌﻴﺪﺍ ﻋﻨﻪ.. ﻭﺃﻳﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻘﺘﺮﺏَ ﻣﻨﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻜﺘﺴﺐَ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ؟

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﻧﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻄﻠﻴﻖ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﻘﻴﺪ، ﻭﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﺑﺆﺑﺆ ﻋﻴﻨﻚ، ﻭﻣﻊ ﻫﺬﺍ ﻓﺄﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻌﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ، لأﻧﻚ ﻣﻘﻴﺪ، ﻓﻴﻠﺰﻡ ﺍﻟﺘﺠﺮﺩ ﻣﻦ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ، ﻭﻗﻄﻊ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﺗﺠﺎﻭﺯﻫﺎ ﻛﻲ ﺗﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﻫﺬﺍ ﻳﺴﺘﻠﺰﻡ ﺃﻥ ﺗﻜﺒﺮ ﻛﺒﺮ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﻭﺗﻌﻠﻮ ﻋُﻠﻮّ ﺍﻟﻘﻤﺮ، ﻭﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺘﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍلأﺻﻠﻴﺔ ﻟﻠﺸﻤﺲ -ﺇﻟﻰ ﺣﺪٍ ﻣﺎ- ﻭﺗﺘﻘﺎﺑﻞ ﻣﻌﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺣﺠﺎﺏ.

ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، ﻭﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺫﻱ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ-، ﻓﻬﻮ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﺃﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﻌﺪﺍ لا ﺣَﺪَّ ﻟﻪ. ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻚ ﻗﻮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻠﺐ، ﻭﻋﻠﻮّ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻓﺤﺎﻭﻝْ ﺃﻥ ﺗﻄﺒﻖ ﺍﻟﻨﻘﺎﻁ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ

    ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (ﻳﺲ:82) ﻭﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ (ﻳﺲ:53)

ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻐﺎﻓﻠﺔ! ﺗﻘﻮﻟﻴﻦ ﺃﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬَﺎ ﺗﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺧُﻠﻘﺖ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺃﻣﺮ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﻇَﻬَﺮﺕ ﻟﻠﻮﺟﻮﺩ ﺩﻓﻌﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍلآﺗﻴﺔ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (ﺍﻟﻨﻤﻞ:٨٨) ﻭ﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (ﺍﻟﺴﺠﺪﺓ:٧) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺗﺒﻴﻦ ﺃﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭُﺟﺪﺕْ ﺗﺪﺭﻳﺠﻴﺎ، ﺑﻘﺪﺭﺓ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻭﻋﻠﻢ ﻣﺤﻴﻂ، ﻭﺇﺗﻘﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺼُّﻨﻊ ﺿﻤﻦ ﺣﻜﻤﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ. ﻓﺄﻳﻦَ ﻭﺟﻪُ ﺍﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؟

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﻧﻘﻮﻝ ﻣﺴﺘﻨﺪﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﻓﻴﺾ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ:

ﺃﻭلا: لا ﻣﻨﺎﻓﺎﺓَ ﺑﻴﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ، ﺇﺫ ﻗﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻳُﺨﻠﻖ ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍلأﻭﻟﻰ، ﻛﺎلإﻳﺠﺎﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺪﺀ، ﻭﻗﺴﻢ ﺁﺧﺮ ﻳﻜﻮﻥ ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻛﺈﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﺜﻞ.

ﺛﺎﻧﻴﺎ: ﺇﻥ ﻣﺎ ﻳُﺸﺎﻫﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﻭﻛﻤﺎﻝ ﺍﻟﺨﻠﻘﺔ، ﺿﻤﻦ ﺳﻬﻮﻟﺔ ﻭﺳﺮﻋﺔ ﻭﻛﺜﺮﺓ ﻭﺳﻌﺔ، ﻳﺸﻬﺪ ﺑﻮﺟﻮﺩ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﻘﺴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﻣﻄﻠﻘﺔ. ﻟﺬﺍ لا ﺩﺍﻋﻲ لأﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺪﺍﺭُ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺗﺤﻘﻖ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻣﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻳﺼﺢ ﺃﻥ ﻳﻘﺎﻝ: ﻣﺎ ﺳﺮُّ ﺣﻜﻤﺔ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﻘﺴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍلإﻳﺠﺎﺩ ﻭﺍﻟﺨﻠﻖ؟.. ﻟﺬﺍ ﻧﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺑﻘﻴﺎﺱ ﺗﻤﺜﻴﻠﻲ؛ ﻓﻨﻘﻮﻝ ﻣﺜـلا:

ﺇﻥّ ﺻﺎﻧﻌﺎ ﻣﺎﻫﺮﺍ -ﻛﺎﻟﺨﻴّﺎﻁ ﻣﺜـلا- ﻳﺼﺮﻑ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻭﻳﺒﺬﻝ ﺟﻬﺪﺍ ﻭﻳﺰﺍﻭﻝ ﻣﻬﺎﺭﺓً ﻭﻓﻨﺎ، ﻟﻜﻲ ﻳﻮﺟﺪ ﺷﻴﺌﺎ ﺟﻤﻴـلا ﻳﺨﺺ ﺻﻨﻌﺘﻪ، ﻓﻴﻌﻤﻞ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ (ﻣﻮﺩﻳـلا) ﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ، ﺇﺫ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻤﻞ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﺑـلا ﻣﺼﺎﺭﻳﻒ ﻭلا ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﻭﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﺗﺎﻣﺔ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍلأﻣﺮ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﺳﻬـلا ﻭﻳﺴﻴﺮﺍ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﻭﻛﺄﻧﻪ ﻳﺄﻣﺮ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﻳُﻨﺠَﺰ، ﻭﺫﻟﻚ لأﻧﻪ ﻗﺪ ﻛﺴﺐ ﺍﻧﺘﻈﺎﻣﺎ ﻭﺍﻃﺮﺍﺩﺍ ﺩﻗﻴﻘﺎ ﻛﺎﻟﺴﺎﻋﺔ ﻭﻛﺄﻥ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻳﺘﻢ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍلأﻣﺮ ﻟﻪ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻭﺍﻟﻤﺼﻮﺭ ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ، ﻗﺪ ﺃﺑﺪﻉ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ، ﺛﻢ ﺃﻭﺩﻉ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻴﻪ، ﺟﺰﺋﻴﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﻛﻠﻴﺎ، ﺟﺰﺀﺍ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﻛـلا، ﻣﻘﺪﺍﺭﺍ ﻣﻌﻴﻨﺎ، ﺑﻨﻈﺎﻡ ﻗﺪﺭﻱ ﺷﺒﻴﻪ ﺑﻨﻤﻮﺫﺝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻲﺀ.

ﻓﺈﻥ ﺗﺄﻣﻠﺖَ ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺼﻮﺭ ﺍلأﺯﻟﻲ، ﺗﺮﺍﻩ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ (ﻣﻮﺩﻳـلا) ﻳُﻠﺒﺴﻪ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﺑﻜﺮﺍ ﺟﺪﻳﺪﺍ ﻟﻄﻴﻔﺎ ﻣﺰﻳﻨﺎ ﺑﻤﻌﺠﺰﺍﺕ ﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺳﻨﺔ ﻣﻘﻴﺎﺳﺎ ﻳﻨﺴﺞ -ﺑﺨﻮﺍﺭﻕ ﺭﺣﻤﺘﻪ- ﻛﺎﺋﻨﺎﺕٍ ﺑِﻜﺮﺍ ﻋﻠﻰ ﻗﺪِّﻩ، ﻭﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺳﻄﺮﺍ ﻳﻜﺘﺐ ﻓﻴﻪ ﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺕٍ ﺑِﻜﺮﺍ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻣﺰﻳﻨﺔ ﺑﺪﻗﺎﺋﻖ ﺣﻜﻤﺘﻪ. ﺛﻢ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﻛﻤﺎ ﺟﻌﻞ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﻭﻛﻞ ﺳﻨﺔ ﻭﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﺳﻄﺢ ﺍلأﺭﺽ ﺃﻳﻀﺎ، ﺑﻞ ﻛﻞ ﺟﺒﻞ ﻭﺻﺤﺮﺍﺀ، ﻭﻛﻞ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻭﺑﺴﺘﺎﻥ ﻭﻛﻞ ﺷﺠﺮ ﻭﺯﻫﺮ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ ﻭﻳُﻨﺸﺊ ﻛﺎﺋﻨﺎﺕٍ ﺟﺪﻳﺪﺓً ﻏﻀّﺔً ﻣﺘﺠﺪﺩﺓ ﻣﺘﺮﺍﺩﻓﺔ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺭﺽ، ﻓﻴﺨﻠﻖ ﺩﻧﻴﺎ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﻭﻳﺄﺗﻲ ﺑﻌﺎﻟﻢ ﻣﻨﺴَّﻖ ﺟﺪﻳﺪ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺳﺤﺐ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳُﻈﻬﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕٍ ﺑﻜﺮٍ ﻟﻘﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻳُﺒﺮﺯ ﻫﺪﺍﻳﺎ ﻣﺠﺪﺩﺓ ﻟﺮﺣﻤﺘﻪ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻭﺑﺴﺘﺎﻥ، ﻓﻴﻜﺘﺐ ﻛﺘﺎﺏ ﺣﻜﻤﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺑِﻜﺮ، ﻭﻳﻨﺼﺐ ﻣﻄﺒﺦ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﻣﺘﺠﺪﺩﺍ ﻭﻳُﻠﺒﺲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩَ ﺣُﻠّﺔ ﺑﺪﻳﻌﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﻭﻳﺨﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﺠﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﺑﻴﻊ ﻭﺷﺎﺡ ﺍﻟﺴﻨﺪﺱ ﻭﻳﺰﻳّﻨﻪ ﺑﻤﺮﺻﻌﺎﺕ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺑﻜﺮ ﻛﺎﻟﻨﺠﻮﻡ ﺍﻟﻤﺘﻸ ﻟﺌﺔ، ﻭﻳﻤﻸ  ﺃﻳﺪﻳﻬﺎ ﺑﻬﺪﺍﻳﺎ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ..

ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻬﺬﻩ ﺍلأﻋﻤﺎﻝ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻛﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺒﺪّﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﺍﻟﻤﻨﺸﻮﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺣﺒﻞ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻳﻌﻘﺐ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﻌﻀﺎ، ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﻭﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻭﺍلإﺗﻘﺎﻥ، لا ﺭﻳﺐ ﺃﻧﻪ ﻗﺪﻳﺮ ﻣﻄﻠﻖ ﻭﺣﻜﻴﻢ ﻣﻄﻠﻖ ﻭﺑﺼﻴﺮ ﻣﻄﻠﻖ ﻭﻋﻠﻴﻢ ﻣﻄﻠﻖ، لا ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺤﺎﻝ ﻣﻦ ﺍلأﺣﻮﺍﻝ ﺃﻥ ﺗﺒﺪﻭ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ ﻗﻄﻌﺎ، ﻓﺬﻟﻜﻢ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻳﻘﻮﻝ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (ﻳﺲ:83) ﻭ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ (ﺍﻟﻨﺤﻞ:٧٧) ﻓﻴﻌﻠﻦ ﻗﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻳﺒﻴﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﻭﺍﻟﻴﺴﺮ، ﻭﺍﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻛﻠَّﻬﺎ ﻣﺴﺨّﺮﺓ لأﻭﺍﻣﺮﻩ ﻭﻣﻨﻘﺎﺩﺓ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ، ﻭﺃﻧﻪ ﻳﺨﻠﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺩﻭﻥ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻭلا ﻣﺰﺍﻭﻟﺔ ﻭلا ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﻭلأﺟﻞ ﺍلإﻓﺎﺩﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻓﻲ ﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻋﺒّﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ ﺃﻧﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍلأﻣﺮ.

ﻭﺍﻟﺨـلاﺻﺔ: ﺃﻥّ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻳﻌﻠﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﻲ ﺧﻠﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﻖ. ﻭﻗﺴﻤﺎ ﺁﺧﺮ ﻳﺒﻴﻦ ﺍﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﺍﻟﺴﺮﻋﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﻜﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭلاﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺗﻜﺮﺍﺭ ﺇﻳﺠﺎﺩﻫﺎ ﻭﺇﻋﺎﺩﺗﻬﺎ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻤﻮﺳﻮﺳﺔ! ﻳﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﺎﻭﺯﺕِ ﺣﺪّﻙِ   ﺇﻧﻚ ﺗﻘﻮﻟﻴﻦ: ﺇﻥ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (ﻫﻮﺩ:56) ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (ﻳﺲ:83) ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ﻕ:16).. ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﺍلإﻟﻬﻲ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺁﻳﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﺜﻞ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﻳﺲ:83) ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺝ:٤) ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ (..ﺳﺒﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﺣﺠﺎﺏ) ﻭﻛﺬﺍ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝ.. ﻛﻞ ﻫﺬﻩ ﺗﺒﻴﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺑُﻌْﺪِﻧﺎ ﻋﻨﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻓﺄﺭﻳﺪُ ﺇﻳﻀﺎﺣﺎ ﻟﺘﻘﺮﻳﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺮ ﺍﻟﻐﺎﻣﺾ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺫﻫﺎﻥ؟

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﻭﻟﻬﺬﺍ ﺍﺳﺘﻤﻊ:

  ﺃﻭلا: ﻟﻘﺪ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻓﻲ ﺧﺘﺎﻡ ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍلأﻭﻝ؛ ﺃﻥّ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺑﻨﻮﺭﻫﺎ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﻘﻴّﺪ، ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﺑﺆﺑﺆ ﻋﻴﻨﻚ -ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﻟﻨﺎﻓﺬﺓ ﺭﻭﺣﻚ- ﺇلا ﺃﻧﻚ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﻌﺪ، لأﻧﻚ ﻣﻘﻴﺪ ﻭﻣﺤﺒﻮﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ. ﻭلا ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺃﻥ ﺗﻤﺲ ﺇلا ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺻﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻭﻇـلاﻟﻬﺎ ﻭلا ﺗﻘﺎﺑﻞ ﺇلا ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﺟﻠﻮﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﻭلا ﺗﺘﻘﺮﺏ ﺇلا لأﻟﻮﺍﻧﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ، ﻭﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺃﺷﻌﺘﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺃﺳﻤﺎﺋﻬﺎ.

ﻭﻟﻮ ﺃﺭﺩﺕَ ﺃﻥ ﺗﺘﻘﺮﺏَ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍلأﺻﻠﻴﺔ ﻟﻠﺸﻤﺲ، ﻭﺃﺭﺩﺕَ ﺃﻥ ﺗﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﺑﺬﺍﺗﻬﺎ، ﻟَﺰِﻡَ ﻋﻠﻴﻚ ﺍﻟﺘﺠﺮﺩُ ﻋﻦ ﻛﺜﻴﺮ ﺟﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﻭﺍﻟﻤﻀﻲ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﻛﻠﻴﺔ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﻭﻛﺄﻧﻚ ﺗَﻜْﺒُﺮُ ﻣﻌﻨﻰً -ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺘﺠﺮﺩ- ﺑﻘﺪﺭ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﻭﺗﻨﺒﺴﻂ ﺭﻭﺣﺎ ﻛﺎﻟﻬﻮﺍﺀ، ﻭﺗﺮﺗﻔﻊ ﻋﺎﻟﻴﺎ ﻛﺎﻟﻘﻤﺮ، ﻭﺗﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻛﺎﻟﺒﺪﺭ. ﻭﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺃﻥ ﺗﺪّﻋﻲ ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﺩﻭﻥ ﺣﺠﺎﺏ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﺎﻟﺠﻠﻴﻞ ﺫﻭ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﺠـلاﻝ، ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﺍﻟﻤﻮﺟﺪ  ﻟﻜﻞ ﻣﻮﺟﻮﺩ، ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺍﻟﺴﺮﻣﺪ، ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﺯﻝ ﻭﺍلأﺑﺪ، ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻚ، ﻭﺃﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻚ ﻗﻮﺓ ﺍلاﺳﺘﻨﺒﺎﻁ، ﻓﻄﺒّﻖ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ.

ﺛﺎﻧﻴﺎ: ﺇﻥ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻘﺎﺋﺪ -ﻣﺜـلا- ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻲ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﻣﺘﺪﺍﺧﻠﺔ ﻓﻲ ﺩﻭﻟﺘﻪ، ﻓﺎﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻱ ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤﺸﻴﺮ ﻭﺍﻟﻔﺮﻳﻖ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﻠﻎ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤـلاﺯﻡ ﻭﺍﻟﻌﺮﻳﻒ. ﺃﻱ ﺃﻥّ ﺗﺠﻠِّﻲ ﻇﻬﻮﺭِﻩِ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﻭﺍﺳﻌﺔ ﻭﺩﻭﺍﺋﺮ ﺿﻴﻘﺔ ﻭﺑﺸﻜﻞ ﻛﻠﻲ ﻭﺟﺰﺋﻲ.

ﻓﺎﻟﺠﻨﺪﻱ، ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺧﺪﻣﺘﻪ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ، ﻳﺘﺨﺬ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻌﺮﻳﻒ ﻣﺮﺟﻌﺎ ﻟﻪ، ﻟﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻇﻬﻮﺭ ﺟﺰﺋﻲ ﺟﺪﺍ ﻟﻠﻘﻴﺎﺩﺓ. ﻭﻳﺘﺼﻞ ﺑﻘﺎﺋﺪﻩ ﺍلأﻋﻠﻰ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ لاﺳﻤﻪ، ﻭﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻪ ﺑﻌـلاﻗﺔ. ﻭﻟﻜﻦ ﻟﻮ ﺃﺭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﻨﺪﻱ ﺃﻥ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻘﺎﺋﺪ ﺍلأﻋﻠﻰ ﺑﺎﺳﻤﻪ ﺍلأﺻﻠﻲ، ﻭﺃﻥ ﻳﻘﺎﺑﻠﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻪ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﻭﻗﻄﻊ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻌﺮﻳﻒ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﻌﺎﻡ. ﺃﻱ ﺇﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺠﻨﺪﻱ ﺑﺎﺳﻤﻪ ﻭﺣﻜﻤﻪ ﻭﻗﺎﻧﻮﻧﻪ ﻭﻋﻠﻤﻪ ﻭﻫﺎﺗﻔﻪ ﻭﺗﺪﺑﻴﺮﻩ، ﻭﺍﻥ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺎ ﻭﻣﻦ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍلأﺑﺪﺍﻝ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺮﻳﺒﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺤﻀﻮﺭﻩ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﺇﺫ لا ﻳﻤﻨﻊ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻭلا ﻳﺤﻮﻝ ﺩﻭﻧﻪ ﺷﻲﺀ. ﻭﻣﻊ ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺠﻨﺪﻱ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ، ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﻌﺪ ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻮﻝ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺠﺐ ﺗﻔﺼﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻳﺸﻔﻖ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﺠﻨﻮﺩ ﻓﻴﺄﺧﺬﻩ ﺇﻟﻰ ﺣﻀﻮﺭ ﺩﻳﻮﺍﻧﻪ  ﺧـلاﻑ ﺍﻟﻤﻌﺘﺎﺩ  ﻭﻳﺴﺒﻎ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻓﻀﺎﻟﻪ ﻭﺃﻟﻄﺎﻓﻪ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﺎﻟﻤﺎﻟﻚ لأﻣﺮ (ﻛﻦ ﻓﻴﻜﻮﻥ) ﺍﻟﻤﺴﺨّﺮ ﻟﻠﺸﻤﻮﺱ ﻭﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻛﺎﻟﺠﻨﻮﺩ ﺍﻟﻤﻨﻘﺎﺩﺓ؛ ﻓﻬﻮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ ﻛﺎﻥ، ﻣﻊ ﺃﻥ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪﺍ لا ﺣﺪﻭﺩ ﻟﻪ. ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺭﻳﺪ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺩﻳﻮﺍﻥ ﻗﺮﺑﻪ ﻭﺣﻀﻮﺭﻩ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ ﺑـلا ﺣﺠﺎﺏ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﺘﻠﺰﻡ ﺍﻟﻤﺮﻭﺭ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺳﺒﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﺣﺠﺎﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺠﺐ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻈﻠﻤﺔ، ﺃﻱ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻭﺍلأﺳﻤﺎﺋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺼﻔﺎﺗﻴﺔ، ﺛﻢ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺍﺳﻢ ﻣﻦ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻪ ﺃﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ ﻭﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺮﻭﺭ ﺇﻟﻰ ﻃﺒﻘﺎﺕ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﻭﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺛﻢ ﺍﻟﻌﺮﻭﺝ ﺇﻟﻰ ﻋﺮﺷﻪ ﺍلأﻋﻈﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﻈﻲ ﺑﺎلاﺳﻢ ﺍلأﻋﻈﻢ؛ ﻓﺎﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎﻙ ﺟﺬﺏ ﻭﻟﻄﻒ ﺇﻟﻬﻲ ﻳﻠﺰﻡ ﺃﻟﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﺳﻨﻲّ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻭﺍﻟﺴﻠﻮﻙ.

ﻣﺜﺎﻝ: ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﺕ ﺃﻥ ﺗﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ) ﻓﻌﻠﻴﻚ ﺍلاﺭﺗﺒﺎﻁ ﻭﺗﻜﻮﻳﻦ ﻋـلاﻗﺔ ﺃﻭلا ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﺧﺎﻟﻘﻚ ﺍﻟﺨﺎﺹ، ﺛﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﺧﺎﻟﻖ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﺛﻢ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﺃﻧﻪ ﺧﺎﻟﻖ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺍﻟﺤﻴﺔ، ﺛﻢ ﺑﺎﺳﻢ ﺧﺎﻟﻖ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻛﻠِّﻬﺎ. ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﺗﺘﺪﺭﺝ ﻫﻜﺬﺍ ﺗﺒﻘﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﻞ ﻭلا ﺗﺠﺪ ﺇلا ﺟﻠﻮﺓ ﺟﺰﺋﻴﺔ.

ﺗﻨﺒﻴﻪ: ﺇﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻗﺪ ﻭﺿﻊ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﺓ ﻭﺳﺎﺋﻂ ﻛﺎﻟﻤﺸﻴﺮ ﻭﺍﻟﻔﺮﻳﻖ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻌﺠﺰﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﺎلأﻋﻤﺎﻝ ﺑﻨﻔﺴﻪ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻴﺪﻩ ﻣﻠﻜﻮﺕ ﻛﻞِّ ﺷﻲﺀ، ﻭﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ، ﻓﻬﻮ ﻣﺴﺘﻐﻦٍ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻂ، ﺑﻞ ﻟﻴﺴﺖ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻂ ﺇلا ﺃﻣﻮﺭﺍ ﻇﺎﻫﺮﻳﺔ ﺑﺤﺘﺔ، ﺗﻤﺜﻞ ﺳﺘﺎﺭ ﺍﻟﻌﺰﺓ ﻭﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﻭﺩلاﺋﻞ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺧـلاﻝ ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ ﻭﻋﺠﺰ ﻭﺍﻓﺘﻘﺎﺭ ﻭﺍﻧﺒﻬﺎﺭ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻂ ﻣُﻌﻴﻨﺔ ﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭلا ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺷﺮﻳﻜﺔ ﻓﻲ ﺳﻠﻄﻨﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻗﻄﻌﺎ لأﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺇلا ﻭﺳﺎﺋﻞ ﻟﻠﻤﺸﺎﻫﺪﺓ ﻭﺍﻟﺘﻔﺮﺝ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻜﺴﻮﻟﺔ!. ﺇﻥّ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻛﻤﻌﺮﺍﺝ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﻘﺒﻮﻝ ﺩﺧﻮﻝ ﺟﻨﺪﻱ ﺑﺴﻴﻂ ﺇﻟﻰ ﺩﻳﻮﺍﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﻋﻈﻢ ﺑﻤﺤﺾ ﻟﻄﻔﻪ -ﻛﻤﺎ ﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ- ﻓﻘﺒﻮﻟﻚ ﺃﻳﻀﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺜﻮﻝ ﺃﻣﺎﻡ ﺟـلاﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﻤﺤﺾ ﻟﻄﻒ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻤﻌﺒﻮﺩ ﺫﻱ ﺍﻟﺠـلاﻝ. ﻓﺄﻧﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻘﻮﻝ: ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ. ﺗﻤﻀﻲ ﻣﻌﻨﻰً ﻭﺗﻘﻄﻊ ﺧﻴﺎلا ﺃﻭ ﻧﻴّﺔً ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍلآﺧﺮﺓ، ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺠﺮﺩ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﻓﺘﺼﻌﺪ ﻣﻜﺘﺴﺒﺎ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﺃﻭ ﻇـلا ﻣﻦ ﻇـلاﻝ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺃﻭ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻣﻦ ﺻﻮﺭﻫﺎ، ﻭﺗﺘﺸﺮﻑ ﺑﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ ﻭﺍﻟﻤﺜﻮﻝ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﺘﻨﺎﻝ ﺣﻈﻮﺓ ﻋﻈﻤﻰ ﺑﺨﻄﺎﺏ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ﻛﻞّ ﺣﺴﺐَ ﺩﺭﺟﺘﻪ.

ﺣﻘﺎ ﺇﻥ ﻛﻠﻤﺔ (ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ.. ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ) ﻭﺗﻜﺮﺍﺭَﻫﺎ ﻓﻲ ﺣﺮﻛﺎﺕ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﻭﺃﻓﻌﺎﻟِﻬﺎ ﻫﻲ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻟﻘﻄﻊ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﻭﺍﻟﻌﺮﻭﺝ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺮﻗﻲ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ، ﻭﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ، ﻓﻬﻲ ﻋﻨﻮﺍﻥ ﻟﻤﺠﻤﻞ ﻛﻤﺎلاﺕ ﻛﺒﺮﻳﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺧﺎﺭﺝ ﻧﻄﺎﻕ ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ، ﻭﻛﺄﻥّ ﻛﻞَّ ﻛﻠﻤﺔ ﻣﻦ (ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ) ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻗﻄﻊ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺒﻠﻮﻍ ﺇﻟﻰ ﻇﻞ ﺃﻭ ﺷﻌﺎﻉ ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﻫﺬﻩ، ﻣﻌﻨﻰً ﺃﻭ ﻧﻴﺔً ﺃﻭ ﺗﺼﻮﺭﺍ ﺃﻭ ﺧﻴﺎلا ﻟﻬﻮ ﻧﻌﻤﺔ ﻋﻈﻤﻰ ﻭﺳﻌﺎﺩﺓ ﻛﺒﺮﻯ. ﻭلأﺟﻞ ﻫﺬﺍ ﻳُﺮﺩﺩ ﺫﻛﺮ (ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ) ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺞ ﺑﻜﺜﺮﺓ ﻫﺎﺋﻠﺔ. لأﻥ ﺍﻟﺤﺞ؛ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﻟﻜﻞ ﺣﺎﺝ ﺑﺎلأﺻﺎﻟﺔ.

ﻓﺎﻟﺠﻨﺪﻱ ﺍﻟﺒﺴﻴﻂ ﻳﺬﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﻤﻠﻜﻲ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﺧﺎﺹ -ﻛﺎﻟﻌﻴﺪ- ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺬﻫﺐ ﺍﻟﻔﺮﻳﻖ ﻓﻴﻨﺎﻝُ ﻟﻄﻒَ ﻣﻠﻴﻜﻪ ﻭﻛﺮﻣﻪ. ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﺎﺝ -ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻮﺍﻡ- ﻓﻬﻮ ﻣﺘﻮﺟِّﻪ ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ، ﻛﺎﻟﻮﻟﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﻄﻊ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ، ﻓﻬﻮ ﻣﺸﺮّﻑ ﺑﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﻛﻠﻴﺔ، ﻓـلاﺑﺪَّ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﺘﺢ ﺑﻤﻔﺘﺎﺡ ﺍﻟﺤﺞ، ﻭﺁﻓﺎﻕ ﻋﻈﻤﺔ ﺍلأﻟﻮﻫﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺑﻤﻨﻈﺎﺭ ﺍﻟﺤﺞ، ﻭﺩﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻮﺳﻊ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ ﺍﻟﺤﺎﺝ ﻭﺧﻴﺎﻟﻪ، ﻛﻠﻤﺎ ﻗﺎﻡ ﻭﺃﺩّﻯ ﻣﻨﺎﺳﻚ ﺍﻟﺤﺞ، ﻭﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻜﺒﺮﻳﺎﺀ ﻭﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﻭﺃﻓﻖ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺢ ﺣﺮﺍﺭﺓ ﺍﻟﺸﻮﻕ، ﻭﺍلإﻋﺠﺎﺏ ﻭﺍلاﻧﺒﻬﺎﺭ، ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻈﻤﺔ ﺍلأﻟﻮﻫﻴﺔ ﻭﻫﻴﺒﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ، لا ﻳﺴﻜّﻦ ﺇلا ﺑـ(ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ.. ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ)! ﻭﺑﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻌﻠﻦ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻤﻨﻜﺸﻔﺔ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩﺓ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺘﺼﻮﺭﺓ.

ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺘﺠﻠﻰ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺤﺞ ﻓﻲ ﺻـلاﺓ ﺍﻟﻌﻴﺪ، ﺑﺪﺭﺟﺎﺕ ﻋﻠﻮﻳﺔ ﻭﻛﻠﻴﺔ ﻭﻣﺘﻔﺎﻭﺗﺔ، ﻭﻛﺬﺍ ﻓﻲ ﺻـلاﺓ ﺍلاﺳﺘﺴﻘﺎﺀ ﻭﺻـلاﺓ ﺍﻟﻜﺴﻮﻑ ﻭﺍﻟﺨﺴﻮﻑ ﻭﺻـلاﺓ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ.

ﻭﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺗﻈﻬﺮ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﺸﻌﺎﺋﺮ ﺍلإﺳـلاﻣﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ﺍﻟﺴﻨﻦ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ.

ﺳﺒﺤﺎﻥ ﻣﻦ ﺟﻌﻞ ﺧﺰﺍﺋﻨﻪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻜﺎﻑ ﻭﺍﻟﻨﻮﻥ.

 ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﻳﺲ:83)

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

 ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾

﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾

ﻭَﺻَﻞِّ ﻭَﺳَﻠِّﻢْ ﻋَﻠَﻰ ﺭَﺳُﻮﻟِﻚَ ﺍْلأﻛْﺮَﻡِ، ﻣَﻈْﻬَﺮِ ﺍﺳْﻤِﻚَ ﺍْلأﻋْﻈَﻢِ، ﻭَﻋَﻠَﻰ ﺁﻟِﻪِ ﻭَﺃﺻْﺤَﺎﺑِﻪِ ﻭَﺇﺧْﻮَﺍﻧِﻪِ ﻭَﺃﺗْﺒَﺎﻋِﻪِ ﺁﻣِﻴﻦَ ﻳَﺎ ﺃﺭْﺣَﻢَ ﺍﻟﺮَّﺍﺣِﻤِﻴﻦَ.

   ﺫﻳﻞ ﺻﻐﻴﺮ

    ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ، ﻳُﻈﻬﺮ ﻗﺪﺭﺗَﻪ ﻭﺣﻜﻤﺘﻪ، ﻭﻋﺪﻡَ ﺗﺪﺧﻞ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻓﻌﻞ ﻣﻦ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﻗﻄﻌﺎ، ﺑﺎﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻈﻬﺮﻩ ﻋﺎﺩﺍﺗُﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ.. ﻭﻛﺬﺍ ﻳُﻈﻬﺮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﺸﻮﺍﺫ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ، ﻭﺑﺨﻮﺍﺭﻕ ﻋﺎﺩﺍﺗﻪ، ﻭﺑﺎﻟﺘﻐﻴﺮﺍﺕ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ، ﻭﺑﺎﺧﺘـلاﻑ ﺍﻟﺘﺸﺨﺼﺎﺕ، ﻭﺑﺘﺒﺪﻝ ﺯﻣﺎﻥ ﺍﻟﻨﺰﻭﻝ ﻭﺍﻟﻈﻬﻮﺭ.. ﻳُﻈﻬﺮ ﻣﺸﻴﺌﺘَﻪ ﻭﺇﺭﺍﺩﺗَﻪ، ﻭﺃﻧﻪ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺍﻟﻤﺨﺘﺎﺭ، ﻭﺃﻥ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻩ لا ﻳﺮﺿﺦ لأﻱ ﻗﻴﺪ ﻛﺎﻥ، ﻣﻤﺰّﻗﺎ ﺑﻬﺬﺍ ﺳﺘﺎﺭ ﺍﻟﺮﺗﺎﺑﺔ ﻭﺍلاﻃﺮﺍﺩ، ﻓﻴُﻌﻠﻢ: ﺃﻥّ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺁﻥ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﺄﻥ ﻣﻦ ﺷﺆﻭﻧﻪ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺨﺼﻪ ﻭﻳﻌﻮﺩ ﺇﻟﻴﻪ، ﻣﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻣﻨﻘﺎﺩ ﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺘﻪ.. ﻭﺑﻬﺬﺍ ﻳُﺸﺘﺖ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔَ، ﻭﻳﺼﺮﻑُ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ، ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ ﻋﻦ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺒﺐ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ.

ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﺎﺱ ﺗﺘﻮﺟﻪ ﺑﻴﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ.

ﻓﻤﺜـلا: ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻲ ﺃﻏﻠﺐ ﺍلأﻣﺎﻛﻦ، ﺃﻥ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلأﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﻤﺜﻤﺮﺓ، ﺗﺜﻤﺮ ﺳﻨﺔ، ﺃﻱ ﺗُﻌﻄﻰ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﻭﻫﻲ ﺑﺪﻭﺭﻫﺎ ﺗﺴﻠّﻤﻬﺎ ﺇﻟﻴﻨﺎ. ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍلأﺧﺮﻯ ﺗﺘﺴﻠﻢ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓ ﺇلا ﺃﻧﻬﺎ لا ﺗﻌﻄﻴﻬﺎ، ﺭﻏﻢ ﻭﺟﻮﺩ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﻟﻸﺛﻤﺎﺭ.

ﻭﻣﺜـلا: ﺇﻥ ﺃﻭﻗﺎﺕَ ﻧﺰﻭﻝ ﺍﻟﻤﻄﺮ -ﺑﺨـلاﻑ ﺍلأﻣﻮﺭ ﺍﻟـلاﺯﻣﺔ ﺍلأﺧﺮﻯ- ﻣﺘﺤﻮﻟﺔ ﻭﻣﺘﻐﻴﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﺩﺧﻠﺖ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻤﻐﻴّﺒﺎﺕ ﺍﻟﺨﻤﺴﺔ ﺇﺫ ﺇﻥ ﺃﻫﻢَّ ﻣﻮﻗﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻫﻮ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﻭﺍﻟﻤﻄﺮ ﻣﻨﺸﺄ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺼﺔ، ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻤﻬﺪﺍﺓ، لا ﻳﺪﺧﻞ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻘﺎﻋﺪﺓ ﺍﻟﻤﻄﺮﺩﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺠﺐ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺗﻮﺭﺙ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ، ﺑﻞ ﺗﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺔ ﺫﻱ ﺍﻟﺠـلاﻝ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺣﺠﺎﺏ ﻭﺿﻤﻦ ﺗﺼﺮﻑ ﺍﻟﻤﻨﻌﻢ ﺍﻟﻤﺤﻴﻲ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ. ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻜﻲ ﺗﺒﻘﻰ ﺃﺑﻮﺍﺏُ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻭﺍﻟﺸﻜﺮ ﻣﻔﺘﻮﺣﺔً ﺩﺍﺋﻤﺎ.

ﻭﻣﺜـلا: ﺇﻥ ﺇﻋﻄﺎﺀ ﺍﻟﺮﺯﻕ، ﻭﺗﺸﺨﻴﺺَ ﺳﻴﻤﺎﺀ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻣـلاﻣِﺤﻪ ﻭﺻﻮﺭﺗِﻪ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺇﺣﺴﺎﻥ ﺇﻟﻬﻲ ﻳﻮﻫﺒﻪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ لا ﻳُﺤﺘﺴﺐ، ﻣﻤﺎ ﻳﺒﻴّﻦ ﺑﺠـلاﺀ ﻃـلاﻗﺔ ﺍﻟﻤﺸﻴﺌﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍلاﺧﺘﻴﺎﺭ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ.

ﻭﻗﺲ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺗﺼﺮﻳﻒ ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﻭﺗﺴﺨﻴﺮ ﺍﻟﺴﺤﺎﺏ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ (ﺍﻟﻤﻠﻚ:٥)

    ﻳﺎ ﻣَﻦ ﺗَﻌﻠَّﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻣﺴﺎﺋﻞَ ﻓﺎﻗﺪﺓً ﻟﻠﺮﻭﺡ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻔﻠﻚ، ﻓﻀﺎﻕ ﺫﻫﻨُﻪ، ﻭﺍﻧﺤﺪﺭ ﻋﻘﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﺍﺳﺘﻌﺼﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﺳﺘﻴﻌﺎﺏ ﺍﻟﺴﺮ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻟﻬﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ. ﺍﻋﻠﻢ ﺃﻥّ ﻟﻠﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺳﻤﺎﺀ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺳُﻠّﻤﺎ ﺫﺍ ﺳَﺒْﻊِ ﺩﺭﺟﺎﺕٍ ﻭﻣﺮﺍﺗﺐَ، ﻫﻴّﺎ ﻧﺼﻌﺪْ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻌﺎ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ

    ﺇﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺗﻘﺘﻀﻴﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻠﺴﻤﺎﺀ ﺃﻫﻠﻮﻥ ﻳﻨﺎﺳﺒﻮﻧﻬﺎ -ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺽ- ﻭﻳﺴﻤﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍلأﺟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ.

ﻧﻌﻢ، ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﻫﻜﺬﺍ، ﺇﺫ ﺇﻥ ﻣَﻞﺀ ﺍلأﺭﺽ، ﻣﻊ ﺻﻐﺮﻫﺎ ﻭﺣﻘﺎﺭﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﺑﺬﻭﻱ ﺣﻴﺎﺓ ﻭﺇﺩﺭﺍﻙ، ﻭﺇﻋﻤﺎﺭﻫﺎ ﺣﻴﻨﺎ ﺑﻌﺪ ﺣﻴﻦ ﺑﺬﻭﻱ ﺇﺩﺍﺭﻙ ﺁﺧﺮﻳﻦ ﺑﻌﺪ ﺇﺧـلاﺋﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﻴﻦ ﻳﺸﻴﺮ -ﺑﻞ ﻳﺼﺮّﺡ- ﺑﺎﻣﺘـلاﺀ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺫﺍﺕِ ﺍﻟﺒﺮﻭﺝ ﺍﻟﻤﺸﻴﺪﺓ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﺰﻳﻨﺔ، ﺑﺬﻭﻱ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻭﺷﻌﻮﺭ. ﻓﻬﺆلاﺀ ﻛﺎﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ، ﻣُﺸﺎﻫﺪﻭ ﻗﺼﺮِ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻣُﻄﺎﻟﻌﻮ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﻜﻮﻥ، ﺃﺩلاﺀ ﺇﻟﻰ ﻋﻈﻤﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻭﻣﻨﺎﺩﻭﻥ ﺇﻟﻴﻬﺎ؛ لأﻥ ﺗﺰﻳﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﺗﺠﻤﻴﻠَﻪ ﺑﻤﺎ لا ﻳُﻌﺪ ﻭلا ﻳﺤﺼﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺰﻳﻴﻨﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﺤﺎﺳﻦ ﻭﺍﻟﻨﻘﻮﺵ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ، ﻳﻘﺘﻀﻲ -ﺑﺪﺍﻫﺔً- ﺟﻠﺐَ ﺃﻧﻈﺎﺭٍ ﻣﺘﻔﻜﺮﻳﻦ ﻣﺴﺘﺤﺴﻨﻴﻦ ﻭﻣﻘﺪّﺭﻳﻦ ﻣﻌﺠﺒﻴﻦ، ﺇﺫ لا ﻳُﻈْﻬَﺮ ﺍﻟﺤﺴﻦُ ﺇلا ﻟﻌﺎﺷﻖ، ﻛﻤﺎ لا ﻳُﻌﻄﻰ ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ ﺇلا ﻟﺠﺎﺋﻊ، ﻣﻊ ﺃﻥ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﻦ لا ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﺎﻥ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺇلا ﺑﻮﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﻣﻠﻴﻮﻥ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩﺓ ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺍلإﺷﺮﺍﻑ  ﺍﻟﻤﻬﻴﺐ ﻭﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻟﻤﺘﻨﻮﻋﺔ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﺘﻲ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ لا ﻳﻌﺪ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺃﺟﻨﺎﺱ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ. ﻭﻛﺬﺍ، ﺑﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻭﺍلآﺛﺎﺭ، ﻭﺑﻤﻘﺘﻀﻰ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ:

ﺇﻥّ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلأﺟﺴﺎﻡ ﺍﻟﺴﻴّﺎﺭﺓ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺑﺎﻟﻘﻄﺮﺍﺕ ﺍﻟﺪﻗﻴﻘﺔ، ﻣﺮﺍﻛﺐ ﻟﻘﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ، ﻓﻬﻢ ﻳﺮﻛﺒﻮﻥ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺟﺴﺎﻡ  ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ  ﻭﻳﺘﺠﻮﻟﻮﻥ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﻭﻳﺘﻔﺮﺟﻮﻥ ﻋﻠﻴﻪ.

ﻭﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺃﻳﻀﺎ: ﺇﻥ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلأﺟﺴﺎﻡ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﻴﺔ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﻃﻴﻮﺭ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﺍﻟﻤﻮﺻﻮﻓﺔ ﺑـ (ﻃﻴﺮ ﺧﻀﺮ) -ﻛﻤﺎ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ- ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺑﺎﻟﺬﺑﺎﺏ ﻭﺍﻟﺒﻌﻮﺽ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺽ، ﻃﻴﺎﺭﺍﺕ ﻟﺠﻨﺲ ﻣﻦ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ، ﺗﺪﺧﻞ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻓﻲ ﺃﺟﻮﺍﻓﻬﺎ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﻠﻪ (ﺍﻟﺤﻖ) ﻭﺗﺸﺎﻫﺪُ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺠﺴﻤﺎﻧﻴﺎﺕ، ﻭﺗُﻄﻞُّ ﻣﻦ ﻧﻮﺍﻓﺬ ﺣﻮﺍﺱِ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻣﺸﺎﻫﺪﺓَ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕِ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓ ﺍﻟﺠﺴﻤﺎﻧﻴﺔ.

ﻓﺎﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﻠﻖ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺍﻟﻜﺜﻴﻒ ﻭﺍﻟﻤﺎﺀ ﺍﻟﻌﻜﺮ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕٍ ﺫﻭﺍﺕ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻣﻨﻮﺭﺓ، ﻭﺣﻴﺎﺓ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻟﻄﻴﻔﺔ، لا ﺭﻳﺐ ﺃﻥ ﻟﻪ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕٍ ﺫﻭﺍﺕ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻭﺷﻌﻮﺭ ﻳﺨﻠﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺑﻞ ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﻈﻠﻤﺎﺕ، ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﺃﻟﻴﻖ ﻟﻠﺮﻭﺡ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺃﻧﺴﺐ ﻟﻬﻤﺎ. ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﺑﻜﺜﺮﺓ ﻫﺎﺋﻠﺔ.

ﻓﺈﻥ ﺷﺌﺖ ﻓﺮﺍﺟﻊ ﺭﺳﺎﻟﺔ (ﻧﻘﻄﺔ ﻣﻦ ﻧﻮﺭ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻞّ ﺟـلاﻟﻪ) ﻭ(ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ) ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺُّ ﺇﺛﺒﺎﺕَ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ. ﻓﻘﺪ ﺃﺛﺒﺘﻨﺎ ﻭﺟﻮﺩﻫﻢ ﺇﺛﺒﺎﺗﺎ ﺟﺎﺯﻣﺎ ﻗﺎﻃﻌﺎ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

    ﺇﻥ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺫﺍﺕُ ﻋـلاﻗﺔٍ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ، ﻛﻌـلاﻗﺔ ﻣﻤﻠﻜﺘﻴﻦ ﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻓﺒﻴﻨﻬﻤﺎ ﺍﺭﺗﺒﺎﻁ ﻭﺛﻴﻖ ﻭﻣﻌﺎﻣـلاﺕ ﻣﻬﻤﺔ، ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﺿﺮﻭﺭﻱ ﻟـلأﺭﺽ ﻣﻦ ﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺤﺮﺍﺭﺓ ﻭﺍﻟﺒﺮﻛﺔ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﻭﻣﺎ ﺷﺎﺑﻬﻬﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﻛﻠُّﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺭﺽ، ﺃﻱ ﺗُﺮﺳﻞ ﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ.

ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺒﺈﺟﻤﺎﻉ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺩﻳﺎﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻨﺪﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺣﻲ ﺍلإﻟﻬﻲ، ﻭﺑﺎﻟﺘﻮﺍﺗﺮ ﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﻣﻦ ﺷﻬﻮﺩ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻜﺸﻒ، ﺇﻥّ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕِ ﻳﺄﺗﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺭﺽ. ﻓﺒﺎﻟﺤﺪﺱ ﺍﻟﻘﻄﻌﻲ -ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﺍلاﺳﺘﺸﻌﺎﺭ ﻭﺍلإﺣﺴﺎﺱ- ﺇﻥّ ﻟﺴﻜﻨﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻳﺼﻌﺪﻭﻥ ﺑﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ. ﺇﺫ ﻛﻤﺎ ﻳﺮﻧﻮ ﻋﻘﻞ ﻛﻞ ﻓﺮﺩ ﻭﺧﻴﺎﻟﻪ ﻭﻧﻈﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺣﻴﻦ، ﻛﺬﻟﻚ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺧﻔّﻮﺍ ﺑﻮﺿﻊ ﺃﺛﻘﺎﻟﻬﻢ، ﻭﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍلأﻣﻮﺍﺕ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺧﻠﻌﻮﺍ ﺃﺟﺴﺎﺩﻫﻢ ﻳﺼﻌﺪﻭﻥ ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺧﻔّﻮﺍ ﻭﻟﻄﻔﻮﺍ ﻳﺬﻫﺒﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﻫﻨﺎﻙ، ﻓـلاﺑﺪَّ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﺒﺴﻮﻥ ﺟﺴﺪﺍ ﻣﺜﺎﻟﻴﺎ، ﻭﺍﻟﻠﻄﻴﻔﻴﻦ ﺍﻟﺨﻔﻴﻔﻴﻦ ﻟﻄﺎﻓﺔ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻭﺧﻔﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺳﻜﻨﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

    ﺇﻥ ﺳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺳﻜﻮﺗَﻬﺎ ﻭﺍﻧﺘﻈﺎﻣَﻬﺎ ﻭﺍﻃﺮﺍﺩَﻫﺎ ﻭﻭﺳﻌَﺘﻬﺎ ﻭﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺘَﻬﺎ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﻫﻠﻬﺎ ﻟﻴﺴﻮﺍ ﻛﺄﻫﻞ ﺍلأﺭﺽ، ﺑﻞ ﻛﻞُّ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﻄﻴﻌﻮﻥ ﻳﻔﻌﻠﻮﻥ ﻣﺎ ﻳﺆﻣَﺮﻭﻥ، ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺎ ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﻤﺰﺍﺣﻤﺔ ﻭﺍلاﺧﺘـلاﻓﺎﺕ، لأﻥّ ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺔ ﻭﺍﺳﻌﺔ ﻓﺴﻴﺤﺔ ﺟﺪﺍ، ﻭﻫﻢ ﻣﻔﻄﻮﺭﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﻔﺎﺀ ﻭﺍﻟﻨﻘﺎﺀ، ﻣﻌﺼﻮﻣﻮﻥ لا ﺫﻧﺐ ﻟﻬﻢ، ﻭﻣﻘﺎﻣﻬﻢ ﺛﺎﺑﺖ ﺑﺨـلاﻑ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍلأﺿﺪﺍﺩ ﻭﺍﺧﺘـلاﻁ ﺍلأﺷﺮﺍﺭ ﺑﺎلأﺑﺮﺍﺭ، ﻣﻤﺎ ﻭﻟّﺪ ﺍلاﺧﺘـلاﻓﺎﺕ ﺍﻟﻤﺆﺩﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍلاﺿﻄﺮﺍﺑﺎﺕ ﻭﺍﻟﻘـلاﻗﻞ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﺟﺮﺍﺕ. ﻭﺍﻧﻔﺘﺢ ﺑﺬﻟﻚ ﺑﺎﺏ ﺍلاﻣﺘﺤﺎﻥ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﺑﻘﺔ ﻭﻇﻬﺮﺕ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺮُّﻗﻲ ﻭﺩﺭﻛﺎﺕِ ﺍﻟﺘﺪﻧﻲ.

ﻭﺣﻜﻤﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﺃﻥ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻫﻮ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺨِﻠْﻘﺔ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓ ﻫﻲ ﺃﺑﻌﺪُ ﺃﺟﺰﺍﺀ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﻭﺃﺟﻤﻌﻬﺎ ﻭﺃﻟﻄﻔﻬﺎ، ﻟﺬﺍ ﻓﺎلإﻧﺴﺎﻥ ﻫﻮ ﺛﻤﺮﺓ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﺃﺟﻤﻊ ﻭﺃﺑﺪﻉ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺃﻛﺜﺮﻫﺎ ﻋﺠﺰﺍ ﻭﺿﻌﻔﺎ ﻭﻟﻄﻔﺎ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻓﺈﻥ ﻣﻬﺪ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻣﺴﻜﻨﻪ -ﻭﻫﻮ ﺍلأﺭﺽ- ﻛﻒﺀ ﻟﻠﺴﻤﺎﺀ ﻣﻌﻨﻰً ﻭﺻﻨﻌﺔً. ﻭﻣﻊ ﺻِﻐﺮ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺣﻘﺎﺭﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻓﻬﻲ ﻗﻠﺐُ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﻣﺮﻛﺰﻩ.. ﻭﻣﺸﻬﺮُ ﺟﻤﻴﻊِ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ.. ﻭﻣﻈﻬﺮُ ﺟﻤﻴﻊ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﻭﺑﺆﺭﺗﻬﺎ.. ﻭﻣﻌﻜﺲ ﺍﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻣﺤﺸﺮﻫﺎ.. ﻭﺳﻮﻕ ﻋﺮﺽ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺑﺠﻮﺩ ﻣﻄﻠﻖ، ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﻋﺮﺿُﻬﺎ ﻟﻜﺜﺮﺓ ﻛﺎﺛﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ.. ﻭﻫﻲ ﻧﻤﻮﺫﺝ ﻣﺼﻐّﺮ ﻟﻤﺎ ﻳﻌﺮﺽ  ﻓﻲ ﻋﻮﺍﻟﻢ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻣﻦ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺕ.. ﻭ ﻣﺼﻨﻊ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ لإﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻤﻨﺴﻮﺟﺎﺕ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻇﺮ ﺍﻟﺴﺮﻣﺪﻳﺔ ﺍﻟﻤﺘﺒﺪﻟﺔ ﺑﺴﺮﻋﺔ.. ﻭﻫﻲ ﻣﺰﺭﻋﺔ ﺿﻴﻘﺔ ﻣﺆﻗﺘﺔ لاﺳﺘﻨﺒﺎﺕ ﺑﺬﻭﺭ ﺍﻟﺒﺴﺎﺗﻴﻦ ﺍﻟﺪﺍﺋﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ.

ﻭﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻟـلأﺭﺽ (حاشية) ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍلأﺭﺽ ﻣﻊ ﺻﻐﺮﻫﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻌﺪﻝ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، لأﻧﻪ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﺇﻥ ﻧﺒﻌﺎ ﺩﺍﺋﻢ ﺍﻟﻌﻄﺎﺀ ﻫﻮ ﺃﻛﺒﺮ ﻣﻦ ﺑﺤﻴﺮﺓ لا ﻳﺠﻨﻰ ﻣﻨﻬﺎ ﺷﻲﺀ. ﺛﻢ ﺇﻧﻪ ﺇﺫﺍ ﻛﻴﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﺎ ﺑﻤﻜﻴﺎﻝ، ﻭﻭﺿﻊ ﺟﺎﻧﺒﺎ، ﺛﻢ ﻛﻴﻠﺖ ﻣﺤﺎﺻﻴﻠﻪ ﺑﺎﻟﻤﻜﻴﺎﻝ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻭﺿﻌﺖ ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺁﺧﺮ، ﻓﻤﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺃﺿﺨﻢ ﻭﺃﻛﺒﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻜﻴﺎﻝ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻟﻮ ﺑﺄﻟﻮﻑ ﺍﻟﻤﺮﺍﺕ ﻇﺎﻫﺮﺍ، ﺇلا ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻜﻴﺎﻝ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻌﺎﺩﻝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻭﻳﻘﺎﺭﻥ ﻣﻌﻪ.

 ﻛﺬﻟﻚ ﺍلأﺭﺽ، ﻓﻘﺪ ﺧﻠﻘﻬﺎ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻣﺸﻬﺮ ﺻﻨﻌﺘﻪ، ﻣﺤﺸﺮ ﺇﻳﺠﺎﺩﻩ، ﻣﺪﺍﺭ ﺣﻜﻤﺘﻪ، ﻣﻈﻬﺮ ﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻣﺰﻫﺮ ﺭﺣﻤﺘﻪ، ﻣﺰﺭﻋﺔ ﺟﻨﺘﻪ، ﻣﻜﻴﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ  ﺃﻱ ﻭﺣﺪﺓ ﻗﻴﺎﺱ ﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ  ﻭﺧﻠﻘﻬﺎ ﻧﺒﻌﺎ ﻓﻴﺎﺿﺎ ﺗﺴﻴﻞ ﻣﻨﻪ  ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ  ﺇﻟﻰ ﺑﺤﺎﺭ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻐﻴﺐ. ﻭﺧﻠﻘﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺒﺪّﻝ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻨﻮﻳﺎ ﺃﺛﻮﺍﺑﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﺴﻮﺟﺔ ﺑﺒﺪﺍﺋﻊ ﺻﻨﻌﻪ، ﻳﺒﺪﻟﻬﺎ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺗﻠﻮ ﺍلأﺧﺮﻯ، ﺑﻤﺌﺎﺕ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍلأﻧﻮﺍﻉ ﻭﺍلأﺷﻜﺎﻝ.

 ﻭﺍلآﻥ ﺧﺬ ﺃﻣﺎﻡ ﻧﻈﺮﻙ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺐ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻭﺗﻠﻚ ﺍلأﺛﻮﺍﺏ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻠﺒﺴﻬﺎ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺗﻨﺰﻋﻬﺎ، ﺃﻱ ﺍﻓﺘﺮﺽ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺽ ﺣﺎﺿﺮﺍ، ﺛﻢ ﻗﺎﺑﻠﻬﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻋﻠﻰ ﻭﺗﻴﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻭﺑﺴﺎﻃﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﻌﻘﺪﺓ، ﻭﻭﺍﺯﻥ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ، ﺗﺮ ﺃﻥ ﺍلأﺭﺽ، ﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﺜﻘﻞ ﻋﻠﻰ ﻛﻔﺔ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻓـلا ﺗﺒﻘﻰ ﻗﺎﺻﺮﺓ ﻋﻨﻬﺎ. ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺗﻔﻬﻢ ﺳﺮ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ:

 ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ .ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ. ﻭﺃﻫﻤﻴﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ، ﺟﻌﻠﻬﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻛُﻔﺆﺍ ﻟﻠﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﻋﺪلا ﻟﻬﺎ، ﻣﻊ ﺃﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻛﺎﻟﺜﻤﺮﺓ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺑﺸﺠﺮﺗﻬﺎ ﺍﻟﻀﺨﻤﺔ، ﻓﻴﺠﻌﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻔﺔٍ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻓﻲ ﻛﻔﺔ ﺃﺧﺮﻯ، ﻓﻴﻜﺮﺭ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺗﺤﻮﻝ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺴﺮﻳﻊ، ﻭﺗﻐﻴّﺮﻫﺎ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ -ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ- ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﺗﻄﺮﺃ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻴﻬﺎ ﺃﻳﻀﺎ ﺗﺤﻮلاﺕ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﻬﺎ. ﻭﻛﺬﺍ ﺇﻥ ﺍلأﺭﺽ ﻣﻊ ﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺘﻬﺎ، ﻧﺎﻟﺖْ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻌﺪﻡ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻗﻮﻯ ﺃﻫﻠﻴﻬﺎ ﺫﻭﻱ ﺍﻟﺸﺄﻥ ﻭﻫﻤﺎ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ؛ ﺑﺤﺪّ ﻓﻄﺮﻱ ﺃﻭ ﻗﻴﺪٍ ﺧﻠﻘﻲ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻓﻲ ﺳﺎﺋﺮ ﺫﻭﻱ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ. ﻟﺬﺍ ﻏﺪﺕ ﺍلأﺭﺽ ﻣﻌﺮﺿﺎ ﻟﺮﻗﻲٍّ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ ﻭﻟﺘﺪﻥٍ لا ﻏﺎﻳﺔ ﻟﻪ. ﻓﺎﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺑﺎﻟﻨﻤﺎﺭﺩﺓ ﺍﻟﻄﻐﺎﺓ ﻭﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﻭﺍﺳﻊ ﺟﺪﺍ ﻟـلاﻣﺘﺤﺎﻥ ﻭﺍلاﺧﺘﺒﺎﺭ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥّ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﻔﺮﻋﻨﺔ ﺳﺘﻘﺬﻑ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﻫﻠﻬﺎ ﺑﺸﺮﺍﺭﺍﺗﻬﺎ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩﺓ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ

    ﺇﻥّ ﻟﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ﻭﺧﺎﻟِﻘﻬﺎ ﻭﻣﺪﺑِّﺮ ﺃﻣﺮﻫﺎ ﺫﻱ ﺍﻟﺠـلاﻝ ﻭﺍلإﻛﺮﺍﻡ، ﺃﺳﻤﺎﺀً ﺣﺴﻨﻰ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻣﺘﻐﺎﻳﺮﺓً ﺃﺣﻜﺎﻣُﻬﺎ، ﻣﺘﻔﺎﻭﺗﺔً ﻋﻨﺎﻭﻳﻨُﻬﺎ. ﻓﺎلاﺳﻢ ﻭﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻭﺍﻟﺼﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺇﺭﺳﺎﻝ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻟﻠﻘﺘﺎﻝ ﻓﻲ ﺻﻒ ﺍﻟﺼّﺤﺎﺑﺔ ﺍﻟﻜﺮﺍﻡ ﻣﻊ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم  ﻟﺪﻯ ﻣﺤﺎﺭﺑﺔ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ، ﻫﻮ ﺍلاﺳﻢ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻧﻔﺴُﻪ ﻭﺍﻟﺼﻔﺔ ﻧﻔﺴُﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺤﺎﺭﺑﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ، ﻭﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺒﺎﺭﺯﺓ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﻴﻦ ﺍلأﺧﻴﺎﺭ ﻭﺍلأﺭﺿﻴﻴﻦ ﺍلأﺷﺮﺍﺭ.

ﺇﻥّ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺍﻟﻤﺎﻟﻚ لأﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﻭﺃﻧﻔﺎﺳﻬﻢ ﻭﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺔ ﻗﺪﺭﺗﻪ لا ﻳُﻔﻨﻴﻬﻢ ﺑﺄﻣﺮ ﻣﻨﻪ، ﻭلا ﺑﺼﻴﺤﺔ، ﺑﻞ ﻳَﻔﺘﺢ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻣﺘﺤﺎﻥ ﻭﻣﺒﺎﺭﺯﺓ، ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ، ﻭﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ  ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ،  ﺍﻟﻤﺪﺑّﺮ .

ﻓﻤﺜـلا -ﻭلا ﻣﺸﺎﺣﺔ ﻓﻲ ﺍلأﻣﺜﺎﻝ-: ﻧﺮﻯ ﺃﻥّ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻟﻪ ﻋﻨﺎﻭﻳﻦُ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻭﺃﺳﻤﺎﺀ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﺣﺴﺐَ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺣﻜﻮﻣﺘﻪ، ﻓﺎﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻌﺪﻟﻴﺔ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻌﺎﺩﻝ)، ﻭﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﻌﺎﻡ)، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤﺸﻴﺨﺔ ﺗﺬﻛﺮﻩ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔ)، ﻭﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ)، ﻭﺍلأﻫﻠﻮﻥ ﺍﻟﻤﻄﻴﻌﻮﻥ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎﻥ ﻳﺬﻛﺮﻭﻧﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ)، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻌﺼﺎﺓ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻧﻪ (ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ). ﻭﻗِﺲْ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ، ﻓﺈﻥّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺍﻟﻤﺎﻟﻚ ﻟﻨﺎﺻﻴﺔ ﺍلأﻫﻠﻴﻦ ﻛﺎﻓﺔً، لا ﻳﻌﺪﻡ ﺑﺄﻣﺮٍ ﻣﻨﻪ ﺷﺨﺼﺎ ﻋﺎﺟﺰﺍ ﻋﺎﺻﻴﺎ ﺫﻟﻴـلا، ﺑﻞ ﻳﺴﻮﻗﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺤﻜﻤﺔ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻌﺎﺩﻝ، ﺛﻢ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ لا ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺍﻟﺘﻔﺎﺗﺔَ ﺗﻜﺮﻳﻢٍ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺪٍ ﻣﻦ ﻣﻮﻇﻔﻴﻪ ﺍﻟﺠﺪﻳﺮﻳﻦ ﺑﻬﺎ ﺣَﺴَﺐَ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﻪ ﻭلا ﻳﻜﺮﻣﻪ ﺑﻬﺎﺗﻔﻪ ﺍﻟﺨﺎﺹ. ﺑﻞ ﻳﻔﺘﺢ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﻣﺴﺎﺑﻘﺔ، ﻭﻳُﻬﻴﺊ ﻟﻪ ﺍﺳﺘﻘﺒﺎلا ﺭﺳﻤﻴﺎ، ﻳﺄﻣﺮ ﻭﺯﻳﺮﻩ ﻭﻳﺪﻋﻮ ﺍلأﻫﻠﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﻣﺸﺎﻫﺪﺓ ﺍﻟﻤﺴﺎﺑﻘﺔ، ﺛﻢ ﻳﻜﺎﻓﺊ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻮﻇﻒَ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﻫﻴﺌﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺇﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ، ﻓﻴﻌﻠﻦ ﻣﻜﺎﻓﺄﺗَﻪ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﻧﻈﻴﺮَ ﺍﺳﺘﻘﺎﻣﺘﻪ، ﺃﻱ ﻳﻜﺮﻣﻪ ﻭﻳﺘﻔﻀﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﺟﻤﻮﻉ ﻏﻔﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺃﺷﺨﺎﺹ ﺳﺎﻣﻴﻦ، ﺑﻌﺪ ﺍﻣﺘﺤﺎﻥ ﻣﻬﻴﺐ، لإﺛﺒﺎﺕ ﺟَﺪﺍﺭﺗﻪ ﺃﻣﺎﻣﻬﻢ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﻠﻠّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺣﺴﻨﻰ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻭﻟﻪ ﺷﺆﻭﻥ ﻭﻋﻨﺎﻭﻳﻦ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﻭﻟﻪ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺟـلاﻟﻴﺔ ﻭﻇﻮﺍﻫﺮ ﺟﻤﺎﻟﻴﺔ. ﻓﺎلاﺳﻢ ﻭﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻭﺍﻟﺸﺄﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﻭﺟﻮﺩَ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﺍﻟﻈـلاﻡ، ﻭﺍﻟﺼﻴﻒ ﻭﺍﻟﺸﺘﺎﺀ، ﻭﺍﻟﺠﻨﺔ ﻭﺍﻟﻨﺎﺭ، ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺷﻤﻮﻝ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﻧﻮﻋﺎ ﻣﺎ ﻭﺗﻌﻤﻴﻤﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﻛﻘﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻞ ﻭﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺴﺎﺑﻘﺔ ﻭﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻥ ﻛﺄﻣﺜﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﺃﻱ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺷﻤﻮﻝ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺑﻴﻦ ﺍلإﻟﻬﺎﻣﺎﺕ ﻭﺍﻟﻮﺳﺎﻭﺱ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﻟﺤﺎﺻﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﻓﻲ ﺁﻓﺎﻕ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ

    ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺫﻫﺎﺏ ﻣﻦ ﺍلأﺭﺽ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺎﻟﻨﺰﻭﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭَﺍﺭِﺩ ﺃﻳﻀﺎ، ﺑﻞ ﺍﻟﻠﻮﺍﺯﻡ ﻭﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻳﺎﺕ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﺗُﺮﺳﻞ ﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻄﻴﺒﺔ ﺗﻨﻄﻠﻖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﻦ ﺍلأﺭﺽ، ﻓـلاﺑﺪَّ ﺃﻥ ﺗﺘﺸﺒﺚ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﺨﺒﻴﺜﺔ ﻭﺗﺤﺎﻭﻝ ﺗﻘﻠﻴﺪ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻠﻄﺎﻓﺘﻬﺎ ﻭﺧﻔﺘﻬﺎ، ﻭلاﺑﺪ ﺃلا ﻳﻘﺒﻠﻬﺎ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﺑﻞ ﻳﻄﺮﺩﻭﻧﻬﺎ ﻟﻤﺎ ﻓﻲ ﻃﺒﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﺷﺆﻡ ﻭﺷﺮ.

ﺛﻢ لاﺑﺪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﻣﻠﺔ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، لأﻥ ﻋﻈﻤﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﺗﻀﻊ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻟﻐﻴﺒﻴﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ ﻭﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﻴﺒﺼﺮﻫﺎ ﺫﻭﻭ ﺍلإﺩﺭﺍﻙ ﻭﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﻣﻞ لأﺟﻞِّ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﺸﺎﻫﺪﺓ ﻭﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﻭﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﻭﺍلإﺷﺮﺍﻑ. ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﺳﺒُﺤﺎﻧﻪ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﺍﻟﻤﻄﺮ ﺇﺷﺎﺭﺓً ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ، ﻭﺟﻌﻞ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻋـلاﻣﺔً ﻋﻠﻰ ﺧﻮﺍﺭﻕ ﺻﻨﻌﺘﻪ، ﺟﺎﻋـلا ﺃﻫﻞ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﺷﺎﻫﺪﻳﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ ﻓـلا ﺭﻳﺐ ﺃﻧﻪ ﻳﺠﻠﺐ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﻫﻞ ﺍلأﺭﺽ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺸﻬﺪ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﺍﻟﻌﺠﻴﺐ، ﻓﻴﻈﻬﺮ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻛﺎﻟﻘﻠﻌﺔ ﺍﻟﺤﺼﻴﻨﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺯﻳﻨﺖ ﺑﺮﻭﺟﻬﺎ ﺑﺤﺮﺍﺱ ﻣﺼﻄﻔﻴﻦ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﺃﻭ ﻛﺎﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺸﻮِّﻕُ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻴﻬﺎ.

ﻓﻤﺎﺩﺍﻡ ﺇﻋـلاﻥُ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ ﺗﻘﺘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻓـلاﺑﺪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻋﻠﻴﻬﺎ. ﺑﻴﻨﻤﺎ لا ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺃﻳَّﺔ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ ﺍﻟﺠﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ ﺗـلاﺋﻢ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻋـلاﻥ ﻭﺗﻨﺎﺳﺒﻪ. ﻓﺈﻥ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎﻩ ﺇﺫﻥ ﻫﻮ ﺃﻧﺴﺐ ﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ، لأﻥ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ ﺍﻟﻨﺠﻤﻴﺔ، ﻣﻦ ﺭﻣﻲ ﺍﻟﺸﻬﺐ ﺍﻟﺸَّﺒِﻴﻪِ ﺑﺮﻣﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻧﻴﻖ، ﻭﺇﻃـلاﻕ ﻃﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘـلاﻉ ﺍﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻭﺑﺮﻭﺟﻬﺎ ﺍﻟﺤﺼﻴﻨﺔ، ﻣﻤﺎ ﻳﻔﻬﻢ ﺑﺪﺍﻫﺔً ﻣﺪﻯ ﻣﻨﺎﺳﺒﺘﻬﺎ ﻭﻣـلاﺀﻣﺘﻬﺎ ﺑﺮﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺑﺎﻟﺸﻬﺐ، ﻣﻊ ﺃﻧﻪ لا ﺗﻌﺮﻑ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ (ﺭﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ) ﻏﻴﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻭلا ﺗﻌﺮﻑ ﻟﻬﺎ ﻏﺎﻳﺔ ﺗﻨﺎﺳﺒﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺫﻛﺮﻧﺎﻫﺎ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺃﻥ ﺭﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﻣﺸﻬﻮﺭﺓ ﻣﻨﺬ ﺯﻣﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺁﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻭﻣﺸﻬﻮﺩﺓ ﻟﺪﻯ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﺧـلاﻑ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ ﺍلأﺧﺮﻯ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ

    ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﻦ ﻳﺤﻤـلاﻥ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ ﻟﻠﺸﺮ ﻭﺍﻟﺠﺤﻮﺩ، ﻓﻬﻤﺎ ﻗﺎﺩﺭﺍﻥ ﻋﻠﻰ ﺗﻤﺮﺩ ﻭﻃﻐﻴﺎﻥ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻬﻤﺎ، ﻟﺬﺍ ﻳﺰﺟﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﺒـلاﻏﺘﻪ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ، ﻭﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺐ ﺑﺎﻫﺮﺓ ﺳﺎﻣﻴﺔ ﻭﻳﻀﺮﺏ ﺍلأﻣﺜﺎﻝ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺍﻟﻘﻴﻤﺔ ﻭﻳﺬﻛﺮ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺩﻗﻴﻘﺔ، ﻳﺰﺟﺮ ﺑﻬﺎ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻐﻴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻌﺼﻴﺎﻥ ﺯﺟﺮﺍ ﻋﻨﻴﻔﺎ ﻳﻬﺰّ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻛﻠَّﻪ.

ﻓﻤﺜـلا ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ:  ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾ (ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ:33-35).

ﺗﺄﻣَّﻞْ ﺍﻟﻨﺬﻳﺮَ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﻤﺮﻳﻊ ﻭﺍﻟﺰﺟﺮ ﺍﻟﻌﻨﻴﻒ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ، ﻭﻛﻴﻒ ﺗﻜﺴﺮ ﺗﻤﺮﺩ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ ﺑﺒـلاﻏﺔ ﻣﻌﺠﺰﺓ، ﻣﻌﻠﻨﺔً ﻋﺠﺰﻫﻤﺎ، ﻣﺒﻴﻨﺔً ﻣﺪﻯ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺿﻌﻒ ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻈﻤﺔ ﺳﻠﻄﺎﻧﻪ ﻭﺳﻌﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺟﻞّ ﻭﻋـلا. ﻓﻜﺄﻥ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ، ﻭﻛﺬﺍ ﺍلآﻳﺔ ﺍلأﺧﺮﻯ ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ (ﺍﻟﻤﻠﻚ:٥) ﺗﺨﺎﻃﺒﺎﻥ ﻫﻜﺬﺍ:

ﺃﻳﻬﺎ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﺎﻥ، ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻤﻐﺮﻭﺭﻭﻥ ﺍﻟﻤﺘﻤﺮﺩﻭﻥ، ﺍﻟﻤﺘﻮﺣﻠﻮﻥ ﺑﻌﺠﺰﻫﻢ ﻭﺿﻌﻔﻬﻢ! ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﺪﻭﻥ ﺍﻟﺠﺎﻣﺤﻮﻥ ﺍﻟﻤﺘﻤﺮﻏﻮﻥ ﻓﻲ ﻓﻘﺮﻫﻢ ﻭﺿﻌﻔﻬﻢ ﺇﻧﻜﻢ ﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﻄﻴﻌﻮﺍ ﺃﻭﺍﻣﺮﻱ، ﻓﻬﻴّﺎ ﺍﺧﺮﺟﻮﺍ ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ ﻣﻠﻜﻲ ﻭﺳﻠﻄﺎﻧﻲ ﺇﻥ ﺍﺳﺘﻄﻌﺘﻢ! ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺘﺠﺮﺅﻭﻥ ﺇﺫَﻥ ﻋﻠﻰ ﻋﺼﻴﺎﻥ ﺃﻭﺍﻣﺮ ﺳﻠﻄﺎﻥ ﻋﻈﻴﻢ؛ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻭﺍلأﻗﻤﺎﺭ ﻭﺍﻟﺸﻤﻮﺱ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺘﻪ، ﺗﺄﺗﻤﺮ ﺑﺄﻭﺍﻣﺮﻩ، ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺟﻨﻮﺩ ﻣﺘﺄﻫﺒﻮﻥ.. ﻓﺄﻧﺘﻢ ﺑﻄﻐﻴﺎﻧﻜﻢ ﻫﺬﺍ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺒﺎﺭﺯﻭﻥ ﺣﺎﻛﻤﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﺟﻠﻴـلا ﻟﻪ ﺟﻨﻮﺩ ﻣﻄﻴﻌﻮﻥ ﻣﻬﻴﺒﻮﻥ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﺃﻥ ﻳﺮﺟﻤﻮﺍ ﺑﻘﺬﺍﺋﻒ ﻛﺎﻟﺠﺒﺎﻝ، ﺣﺘﻰ ﺷﻴﺎﻃﻴﻨﻜﻢ ﻟﻮ ﺗﺤﻤﻠﺖ.. ﻭﺃﻧﺘﻢ ﺑﻜﻔﺮﺍﻧﻜﻢ ﻫﺬﺍ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺘﻤﺮﺩﻭﻥ ﻓﻲ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺎﻟﻚ ﻋﻈﻴﻢ ﺟﻠﻴﻞ، ﻟﻪ ﺟﻨﻮﺩ ﻋﻈﺎﻡ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﺼﻔﻮﺍ ﺃﻋﺪﺍﺀً ﻛﻔﺮﺓً -ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﺿﺨﺎﻣﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺠﺒﺎﻝ- ﺑﻘﺬﺍﺋﻒ ﻣﻠﺘﻬﺒﺔ ﻭﺷﻈﺎﻳﺎ ﻣﻦ ﻟﻬﻴﺐ ﻛﺄﻣﺜﺎﻝ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺠﺒﺎﻝ، ﻓﻴﻤﺰﻗﻮﻧﻜﻢ  ﻭﻳﺸﺘﺘﻮﻧﻜﻢ!. ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺿﻌﻴﻔﺔ ﺃﻣﺜﺎﻟﻜﻢ؟.. ﻭﺃﻧﺘﻢ ﺗﺨﺎﻟﻔﻮﻥ ﻗﺎﻧﻮﻧﺎ ﺻﺎﺭﻣﺎ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻟﻪ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ -ﺑﺈﺫﻥ ﺍﻟﻠﻪ- ﺃﻥ ﻳﻤﻄﺮ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻗﺬﺍﺋﻒ ﻭﺭﺍﺟﻤﺎﺕٍ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ.

ﻧﻌﻢ ﺇﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺗﺤﺸﻴﺪﺍﺕٍ ﺫﺍﺕَ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ، ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻣﻦ ﻗﻮﺓ ﺍلأﻋﺪﺍﺀ، ﺑﻞ ﻣﻦ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺃﺧﺮﻯ ﻛﺈﻇﻬﺎﺭ ﻋﻈﻤﺔ ﺍلأﻟﻮﻫﻴﺔ ﻭﻓﻀﺢ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﻭﺷﻨﺎﻋﺘﻪ.

ﺛﻢ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﺗﺤﺸّﺪ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺃﻋﻈﻢ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﻭﺃﻗﻮﺍﻫﺎ لأﺻﻐﺮ ﺷﻲﺀ ﻭﺃﺿﻌﻔﻪ، ﻭﺗﻘﺮﻥ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺩﻭﻥ ﺗﺠﺎﻭﺯٍ ﻟﻠﻀﻌﻴﻒ، ﻭﺫﻟﻚ ﺇﻇﻬﺎﺭﺍ ﻟﻜﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻭﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﻗﻮﺓ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ. ﻓﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ (ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﻢ:٤) ﻳﺒﻴﻦ ﻣﺪﻯ ﺍلاﺣﺘﺮﺍﻡ ﺍﻟـلاﺋﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﻈﻲ ﺑﻪ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ  صلى الله عليه وسلم، ﻭﻣﺪﻯ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻤﻞ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﺰﻭﺟﺎﺕ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺸﻮﺩ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﻔﻴﺪ ﺇﻓﺎﺩﺓ ﺭﺣﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﻋﻈﻤﺔ ﺍﻟﻨﺒﻲ صلى الله عليه وسلم ﻭﻋﻠﻮ ﻣﻜﺎﻧﺘﻪ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺑﻴﺎﻥ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺷﻜﻮﻯ ﺯﻭﺟﺘﻴﻦ ﺿﻌﻴﻔﺘﻴﻦ ﻭﻣﺪﻯ ﺍﻟﺮﻋﺎﻳﺔ ﻟﺤﻘﻮﻗﻬﻤﺎ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻌﺔ

    ﺗﺘﺒﺎﻳﻦ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺗﺒﺎﻳﻨﺎ ﻛﺒﻴﺮﺍ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍلأﺳﻤﺎﻙ، ﻓﻤﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺼﻐﺮ ﻭﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮ، ﺣﺘﻰ ﺃﻃﻠﻖ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻠﻤﻊ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺑﺎﻟﻨﺠﻢ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺃﺟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻫﻮ ﻟﺘﺰﻳﻴﻦ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻠﻄﻴﻒ، ﻭﻛﺄﻥ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮَ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﻗﺪ ﺧﻠﻘﻬﺎ ﻛﺎﻟﺜﻤﺎﺭ ﺍﻟﻨﻴﺮﺓ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ، ﺃﻭ ﻛﺎلأﺳﻤﺎﻙ ﺍﻟﻤﺴﺒّﺤﺔ ﻟﻠﻪ ﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻮﺍﺳﻊ. ﻭﻛﺎلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺯﻝ ﻟﻤـلاﺋﻜﺘﻪ، ﻭﺧﻠﻖ ﺃﻳﻀﺎ ﻧﻮﻋﺎ ﺻﻐﻴﺮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﺃﺩﺍﺓً ﻟﺮﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ.

ﻓﺎﻟﺸﻬﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺮﺳﻞ ﻟﺮﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺗﺤﻤﻞ ﺛـلاﺛﺔ ﻣﻌﺎﻥٍ:

ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍلأﻭﻝ: ﺃﻧّﻪ ﺭﻣﺰ ﻭﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻰ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﻓﻲ ﺃﻭﺳﻊ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻣﻦ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ.

ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺃﻥّ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺣﺮﺍﺳﺎ ﻳﻘﻈﻴﻦ ﻭﺃﻫﻠﻴﻦ ﻣﻄﻴﻌﻴﻦ، ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺸﻬﺐ ﺇﺷﺎﺭﺓ  ﻭﺇﻋـلاﻥ ﻋﻦ ﺍﻣﺘﻌﺎﺽ ﺟﻨﻮﺩ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺍﺧﺘـلاﻁ ﺍلأﺭﺿﻴﻴﻦ ﺍﻟﺸﺮﻳﺮﻳﻦ ﺑﻬﻢ ﻭﺍﺳﺘﺮﺍﻕ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﺇﻟﻴﻬﻢ.

ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻬﺐ ﻭﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﺠﺎﻧﻴﻖ ﻭﻗﺬﺍﺋﻒ ﺗﻨﻮﻳﺮٍ ﻫﻲ لإﺭﻫﺎﺏ ﺟﻮﺍﺳﻴﺲِ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﺮﻗﻮﻥ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﻭﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺜﻠﻮﻥ ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺉ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﺃﺳﻮﺃ ﺗﻤﺜﻴﻞ، ﻭﻃﺮﺩﻫﻢ ﻣﻦ ﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺌَـلا ﻳﻠﻮﺛﻮﺍ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺳﻜﻨﻰ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮﻳﻦ، ﻭﻟﻴﺤﻮﻟﻮﺍ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﺎﻟﺘﺠﺴﺲ ﻟﺤﺴﺎﺏ ﺍﻟﻨﻔﻮﺱ ﺍﻟﺨﺒﻴﺜﺔ.

ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻔﻠﻜﻲ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﻋﻘﻠﻪ ﺍﻟﻘﺎﺻﺮ، ﺍﻟﺬﻱ لا ﻳﺘﺠﺎﻭﺯ ﻧﻮﺭُﻩ ﻧﻮﺭَ ﺍﻟﻴﺮﺍﻋﺔ  ﻭﻳﺎ ﻣﻦ ﻳُﻐﻤﺾُ ﻋﻴﻨَﻪ ﻋﻦ ﻧﻮﺭ ﺷﻤﺲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ! ﺗﺄﻣَّﻞْ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺴﺒﻊ، ﺗﺄﻣﻠﻬﺎ ﺩﻓﻌﺔً ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺃﺑْﺼِﺮْ، ﺩَﻉْ ﻋﻨﻚ ﺑﺼﻴﺺَ ﻋﻘﻠﻚ، ﻭﺷﺎﻫﺪْ ﻣﻌﻨﻰ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻓﻲ ﻧﻮﺭ ﺇﻋﺠﺎﺯﻫﺎ ﺍﻟﻮﺍﺿﺢ ﻭﺿﻮﺡَ ﺍﻟﻨﻬﺎﺭ، ﻭﺧُﺬْ ﻧﺠﻢَ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺳﻤﺎﺀ ﺗﻠﻚ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻭﺍﻗﺬﻑْ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﺍﻟﻘﺎﺑﻊَ ﻓﻲ ﺫﻫﻨﻚ ﻭﺍﺭﺟﻤﻪ ﺑﻬﺎ! ﻭﻧﺤﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻔﻌﻞ ﻫﺬﺍ. ﻭﻟﻨَﻘُﻞْ ﻣﻌﺎ: ﴿رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ (ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ:97).

   .. ﻓﻠﻠّﻪ ﺍﻟﺤﺠﺔ ﺍﻟﺒﺎﻟﻐﺔ ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻘﺎﻃﻌﺔ.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

 (حاشية) ﻣـلاﺣﻈﺔ: ﺫﻳﻞ ﻫﺬﻩ (ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻋﺸﺮﺓ) ﻫﻮ (ﺣﺠﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﻭﺣﺰﺑﻪ) ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺒﺤﺚ ﺍلأﻭﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺏ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ. ﻓﻠﻴﺮﺍﺟﻊ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻌﻪ ﺭﺟﺎﺀً.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(ﻫﻮﺩ:١)

ﺳﻨﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻧﻈﺎﺋﺮ ﻗﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻟﻠﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ، ﻭﻟﻤﻔﺴّﺮﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺳُﻠّﻢٍ ﻟﻠﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ، ﻟﻜﻲ ﺗُﺴﻌِﻒ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻘﺼﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻭﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ. ﻭﻓﻲ ﺧﺎﺗﻤﺔ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺳﻴُﺒﻴَّﻦ ﺩﺭﺱ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ ﻭﺳﺮّ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ.

ﻭﻧﻜﺘﻔﻲ ﻫﻨﺎ ﺑﺬﻛﺮ ﻧﻤﺎﺫﺝَ ﻟﺨﻤﺲ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻓﺤﺴﺐ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﺋﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﺺ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻗﺪ ﺫُﻛﺮﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮﺓ ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻭلا ﺩﺍﻋﻲ ﻟﻠﺘﻜﺮﺍﺭ.

      ﺃﻭلاﻫﺎ: ﻣﺜﺎﻝ:ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:54)

ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻥّ ﺩﻧﻴﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻋﺎﻟﻢَ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ ﻳﻌﻴﺸﺎﻥ ﺳﺘﺔ ﺃﻳﺎﻡ ﻣﻦ ﺍلأﻳﺎﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺯﻣﻦ ﻣﺪﻳﺪ ﻭﻟﺮﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﺄﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﺃﻭ ﻛﺨﻤﺴﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﺳﻨﺔ. ﻓـلأﺟﻞ ﺍلإﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ ﻭﺍلاﻗﺘﻨﺎﻉ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻧﺒﻴﻦ ﻟـلأﻧﻈﺎﺭ ﻣﺎ ﻳﺨﻠﻘﻪ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻋﻮﺍﻟﻢ ﺳﻴّﺎﻟﺔ ﻭﻛﺎﺋﻨﺎﺕ ﺳﻴّﺎﺭﺓ ﻭﺩُﻧﻰً ﻋﺎﺑﺮﺓ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺳﻨﺔ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ، ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺑﺤﻜﻢ ﻳﻮﻡ ﻭﺍﺣﺪ.

ﺣﻘﺎ، ﻛﺄﻥّ ﺍﻟﺪُّﻧﻰ ﺿﻴﻮﻑ ﻋﺎﺑﺮﺓ ﺃﻳﻀﺎ ﻛﺎﻟﻨﺎﺱ. ﻓﻴﻤﺘﻠﺊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻛﻞَّ ﻣﻮﺳﻢ ﻭﻳُﺨﻠﻰ.

      ﺛﺎﻧﻴﺘﻬﺎ: ﻣﺜﺎﻝ: ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (ﺍلأﻧﻌﺎﻡ:59) ﴿ﻭَﻛُﻞَّ ﺷَﻲْﺀٍ ﺃﺣْﺼَﻴْﻨَﺎﻩُ ﻓِﻲ ﺇِﻣَﺎﻡٍ ﻣُﺒِﻴﻦٍ﴾ (ﻳﺲ:12) ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (ﺳﺒﺄ:3) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺟﻤﻴﻌَﻬﺎ ﻭﺑﺄﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﻛﻠِّﻬﺎ، ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ، ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﻭﺑﻌﺪ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻭﺑﻌﺪ ﺫﻫﺎﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ.

ﻧﺒﻴّﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﻟﻴﺼﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ: ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﺭﺉ ﺍﻟﻤﺼﻮﺭ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳُﺪﺭﺝ ﻓﻬﺎﺭﺱ ﻭﺟﻮﺩِ ﻣﺎ لا ﻳﺤﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﺴﻘﺔ ﻭﺗﻮﺍﺭﻳﺦ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﻭﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﺎ، ﻳُﺪﺭﺟﻬﺎ ﺩﺭﺟﺎ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﻣﺤﺎﻓﻈﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺑﺬﻭﺭ ﻭﻧﻮﻯً ﻭﺃﺻﻮﻝِ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﺒﺪﻳﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ، ﻋﻠﻰ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻛﺎﻓﺔ، ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ. ﻛﻤﺎ ﺃﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪُ ﻳﺪﺭﺟﻬﺎ ﺑﻘﻠﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻧﻔﺴِﻪ ﺩَﺭْﺟﺎ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﺑﻌﺪ ﺯﻭﺍﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻓﻲ ﺛﻤﺮﺍﺗﻬﺎ ﻭﻓﻲ ﺑُﺬﻳﺮﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﺪﻗﻴﻘﺔ، ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳﻜﺘﺐ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺭﻃﺐ ﻭﻳﺎﺑﺲ ﻣﻦ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﻲ ﺑﺬﻭﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩﺓ ﺍﻟﺼﻠﺒﺔ ﻛﺘﺎﺑﺔً ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ. ﺣﺘﻰ ﻟﻜﺄﻥّ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺯﻫﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻖ ﻭﺍلإﺑﺪﺍﻉ، ﺗﻀﻌﻬﺎ ﻳﺪُ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺎﻣﺔ ﺍلأﺭﺽ ﺛﻢ ﻳﻘﻄﻔﻬﺎ ﻣﻨﻬﺎ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﻫﺬﻩ؛ ﺃﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻀﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺃﻋﺠﺐَ ﺿـلاﻟﺔ، ﻭﻫﻲ ﺇﻃـلاﻗﻪ ﺇﺳﻢ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﻠﺔ ﺍﻟﻤﺴﻄّﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍلأﺭﺽ ﻛﺎﻓﺔً ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﻟﺘﺠﻞٍّ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﻣﺎ ﺳُﻄّﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻮﺡ ﺍﻟﻤﺤﻔﻮﻅ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﻗﻠﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺍلإﻟﻬﻲ  ﺃﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﺃﻧّﻬﺎ ﻣﺆﺛﺮﺓ ﻭﻣﺼﺪﺭ ﻓﺎﻋﻞ؟

  ﺃﻳﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﻈﻨﻪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ؟ ﺃﻳﻦ ﺍﻟﺜَّﺮﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﺮﻳﺎ؟ 

    ﺛﺎﻟﺜﺘﻬﺎ:

ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺨﺒﺮ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺻﻮّﺭ -ﻣﺜـلا- ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﺍﻟﻤﻮﻛَّﻠﻴﻦ ﺑﺤﻤﻞ ﺍﻟﻌﺮﺵ، ﻭﻛﺬﺍ ﺣﻤَﻠﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، ﺃﻭ ﻣـلاﺋﻜﺔ ﺁﺧﺮﻳﻦ، ﺑﺄﻥّ ﻟِﻠﻤَﻠَﻚ ﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒَ ﺭﺃﺱ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﺃﺱ ﺃﺭﺑﻌﻮﻥ ﺃﻟﻒَ ﻟﺴﺎﻥ، ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ ﻳﺴﺒّﺢ ﺑﺄﺭﺑﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﺎﺕ. ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻓﻲ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍلأﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻭﻛﻠﻴﺘﻬﺎ ﻭﺷﻤﻮﻟﻬﺎ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ، ﻓـلأﺟﻞ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻧﺒﻴّﻦُ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻭﻧﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺪﺑّﺮ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﻫﻲ:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (ﺍلإﺳﺮﺍﺀ:٤٤) ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ (ﺹ:18) ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ..﴾ (ﺍلأﺣﺰﺍﺏ:72) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺮّﺡ ﺃﻥّ لأﺿﺨﻢ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﺃﻛﺜَﺮﻫﺎ ﺳَﻌﺔً ﻭﺷﻤﻮلا ﺗﺴﺒﻴﺤﺎ ﺧﺎﺻﺎ ﻣﻨﺴﺠﻤﺎ ﻣﻊ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﻭﻛﻠﻴﺘﻪ، ﻭﺍلأﻣﺮ ﻭﺍﺿﺢ ﻭﻣﺸﺎﻫﺪ؛ ﺇﺫ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕُ ﺍﻟﺸﺎﺳﻌﺔ ﻣﺴﺒّﺤﺔ ﻟﻠﻪ، ﻭﻛﻠﻤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺸﻤﻮﺱ ﻭﺍلأﻗﻤﺎﺭ ﻭﺍﻟﻨﺠﻮﻡ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺓ ﻓﻲ ﺟﻮِّ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﺴﺒّﺤﺔ ﺣﺎﻣﺪﺓ ﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻟﻔﺎﻇُﻬﺎ ﺍﻟﺘﺤﻤﻴﺪﻳﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻭﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍلأﺷﺠﺎﺭ.

ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻟﻜﻞ ﺷﺠﺮﺓ ﻭﻟﻜﻞ ﻧﺠﻢ، ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻪ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻪ، ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺃﻥّ ﻟـلأﺭﺽ ﺑِﺮُﻣَّﺘﻬﺎ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﺎ. ﻓﻬﻲ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻠﻴﺔ ﺗﻀﻢ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻞِّ ﺟﺰﺀٍ ﻭﻗﻄﻌﺔٍ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻞ ﻛﻞِّ ﻭﺍﺩٍ ﻭﺟﺒﻞٍ ﻭﻛﻞ ﺑﺤﺮٍ ﻭﺑﺮٍ ﻓﻴﻬﺎ. ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﻟـلأﺭﺽ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗِﻬﺎ ﺑﺄﺟﺰﺍﺋﻬﺎ ﻭﻛﻠﻴﺘﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻠﺴﻤﺎﻭﺍﺕِ ﻭﺍلأﺑﺮﺍﺝِ ﻭﺍلأﻓـلاﻙِ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﺃﻟﻮﻑُ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ، ﻭﻣﺌﺎﺕُ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍلأﻟﺴﻨﺔ ﻟﻜﻞِّ ﺭﺃﺱ، لاﺷﻚ ﺃﻥّ ﻟﻬﺎ ﻣَﻠَﻜﺎ ﻣُﻮﻛـلا ﺑﻬﺎ ﻳﻨﺎﺳﺒﻬﺎ، ﻳﺘﺮﺟﻢ ﺃﺯﺍﻫﻴﺮَ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ ﻭﺛﻤﺮﺍﺕِ ﺗﺤﻤﻴﺪﺍﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒِ ﻧَﻤَﻂٍ ﻣﻦ ﺃﻧﻤﺎﻁ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﻭﺍﻟﺘﺤﻤﻴﺪ، ﻳﺘﺮﺟﻤﻬﺎ ﻭﻳﺒﻴّﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ، ﻭﻳﻤﺜﻠﻬﺎ ﻭﻳﻌﻠﻦ ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ. ﺇﺫ ﻟﻮ ﺩﺧﻠﺖ ﺃﺷﻴﺎﺀ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺃﻭ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ، ﻟﺘﺸﻜﻠﺖْ ﻟﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ، ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻣﺘﺰﺟﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻭﺍﺗﺤﺪﺕ، ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ، ﻭﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ، ﻭَﻣَﻠَﻚ ﻣُﻮﻛﻞ ﻳﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﻴﺔ.

ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻣﺜـلا  ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﻤﻨﺘﺼﺒﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﻏﺮﻓﺘﻨﺎ، ﻭﻫﻲ ﺷﺠﺮﺓ ﺍﻟﺪُّﻟﺐ ﺫﺍﺕ ﺍلأﻏﺼﺎﻥ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻳﻨﻄﻖ ﺑﻬﺎ ﻟﺴﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﻓﻢ (ﺑﺎﺭلا) ﺃلا ﺗَﺮﻯ ﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺃﻟﺴﻨﺔ ﺍلأﻏﺼﺎﻥ ﻟﻜﻞ ﺭﺃﺱ ﻣﻦ ﺭﺅﻭﺱ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ، ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺛﻤﺮﺍﺕ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺯﻭﻧﺔ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻤﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ؟ ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺣﺮﻭﻑ ﺍﻟﺒُﺬﻳﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺠﻨﺤﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺛﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ؟ ﺃلا ﻳﺴﺒّﺢ ﻛﻞّ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ ﻭﺍلأﻟﺴﻨﺔ ﻟﻤﺎﻟﻚ ﺍﻟﻤُﻠْﻚِ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻪ ﺃﻣﺮُ ﻛﻦ ﻓﻴﻜﻮﻥ؟ ﺃلّا ﻳﺴﺒِّﺢ ﺑﻜـلاﻡ ﻓﺼﻴﺢ، ﻭﺑﺜﻨﺎﺀ ﺑﻠﻴﻎ ﻭﺍﺿﺢ؛ ﺣﺘﻰ ﺇﻧّﻚ ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗِﻬﺎ ﻭﺗﺴﻤﻌﻬﺎ؟!

ﻓﺎﻟﻤَﻠَﻚ ﺍﻟﻤُﻮﻛﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺃﻳﻀﺎ ﻳﻤﺜﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺑﺄﻟﺴﻨﺔٍ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ.

ﺑﻞ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ!

      رﺍﺑﻌﺘﻬﺎ:

ﻣﺜـلا: ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (ﻳﺲ:82) ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ (ﺍﻟﻨﺤﻞ:٧٧)﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ﻕ:16) ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺝ:4)  ﻭﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﺍلآﺗﻴﺔ ﻭﻫﻲ: ﺃﻥّ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﺊ، ﻳﺨﻠﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺩُﻭﻥَ ﺃﻳﺔِ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﺃﻭ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﺣﺘﻰ ﺗﺒﺪﻭ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻛﺄﻧّﻬﺎ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍلأﻣﺮ.

ﺛﻢ ﺇﻥّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻗﺮﻳﺐ ﺟﺪﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻪ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﻌﺪ. ﺛﻢ ﺇﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﻊ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، لا ﻳﺪﻉ ﺃﺣﻘﺮ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭﺃﻛﺜَﺮﻫﺎ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻭﺧﺴّﺔً ﺧﺎﺭﺝَ ﺇﺗﻘﺎﻧﻪ

ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﻳﺸﻬﺪ ﻟﻬﺎ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍلأﻛﻤﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ. ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺍلآﺗﻲ ﺑﻴّﻦ ﺳﺮَّ ﺣﻜﻤﺘﻬﺎ: ﻓﻤﺜـلا (ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ) ﺇﻥّ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﻠّﺪﻫﺎ ﺍلأﻣﺮ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﺘﺴﺨﻴﺮَ ﺍلإﻟﻬﻲ ﻟﻠﺸﻤﺲ -ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺮﺁﺓً ﻛﺜﻴﻔﺔً لاﺳﻢ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻣﻦ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ- ﺗﻘﺮّﺏ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﻬﻢ. ﻭﺫﻟﻚ ﺃﻧّﻪ ﻣﻊ ﻋﻠّﻮ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺭﻓﻌﺘِﻬﺎ، ﻗﺮﻳﺒﺔ ﺟﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟـلاﻣﻌﺔ، ﺑﻞ ﺇﻧﻬﺎ ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻰ ﺫﻭﺍﺕ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﻧﻔﺴِﻬﺎ. ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻥّ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺗﺠﻌﻞ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺗﺘﺄﺛَّﺮُ ﺑﻬﺎ ﺑﺠﻠﻮﺍﺗﻬﺎ ﻭﺑﻀﻮﺋﻬﺎ ﻭﺑﺠﻬﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﺷﺒﻴﻬﺔٍ ﺑﺎﻟﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻬﺎ، ﺇلا ﺃﻥّ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ  ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺄﻟﻮﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ، ﻓـلا ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺗﺆﺛﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻗﻄﻌﺎ، ﺑﻞ لا ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺇﺩّﻋﺎﺀَ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﻣﻨﻬﺎ.

ﻭﻛﺬﺍ ﻳُﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﺭﺅﻳﺔ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺫﺭﺓ ﺷﻔﺎﻓﺔ ﺣﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ ﻭﻟﻮﻧﻬﺎ، ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺣﺎﺿﺮﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺫﺭﺓ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻧﺎﻇﺮﺓ ﺃﻳﻨَﻤﺎ ﺑﻠﻐﺖْ ﺃﺷﻌﺘﻬﺎ. ﻭﻛﺬﺍ ﻓﺈﻥّ ﻧﻔﻮﺫ ﺃﺷﻌﺔ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺷﻤﻮﻟَﻬﺎ ﻭﺇﺣﺎﻃَﺘﻬﺎ ﺗﺰﺩﺍﺩ ﺑﻌِﻈﻢ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺘﻬﺎ؛ ﻓﻌﻈﻤﺔُ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻀﻢ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺩﺍﺧﻞ ﺇﺣﺎﻃﺘﻬﺎ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﺣﺘﻰ لا ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺷﻲﺀ ﻣﻬﻤﺎ ﺻﻐﺮ ﺃﻥ ﻳﺨﺘﺒﺊَ ﻋﻨﻬﺎ ﺃﻭ ﻳﻬﺮﺏَ ﻣﻨﻬﺎ؛ ﺃﻱ ﺇﻥّ ﻋﻈﻤﺔ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻬﺎ لا ﺗﺮﻣﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﺣﺘﻰ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﺑﻞ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻫﻮ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ ﺃﻱ ﺃﻧَّﻬﺎ ﺗﻀﻢ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ -ﺑﺴﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ- ﺿﻤﻦ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺇﺣﺎﻃﺘﻬﺎ.

ﻓﻠﻮ ﻓﺮﺿﻨﺎ ﺍﻟﺸﻤﺲ -ﻓَﺮْﺿﺎ ﻣﺤﺎلا- ﺃﻧّﻬﺎ ﻓﺎﻋﻠﺔ ﻣﺨﺘﺎﺭﺓ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺎﻟﺖ ﻣﻦ ﻭﻇﺎﺋﻒ ﻭﺟﻠﻮﺍﺕ، ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﺘﺼﻮﺭ ﺃﻥّ ﺃﻓﻌﺎﻟﻬﺎ ﺗﺴﺮﻱ -ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ- ﻓﻲ ﻣُﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴُّﻬﻮﻟﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴّﺮﻋﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴَّﻌﺔ ﻭﺍﻟﺸﻤﻮﻝ، ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﺬﺭﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻄﺮﺍﺕ ﻭﺇﻟﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ؛ ﻓﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﺬﺭﺓ ﻭﺍﻟﻜﻮﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭ ﺳﻴّﺎﻥ ﺗﺠﺎﻩ ﺃﻣﺮﻫﺎ؛ ﺇﺫ ﺍﻟﻔﻴﺾ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺒﺜﻪ ﺇﻟﻰ ﺳﻄﺢ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎﻡ ﻛﺎﻣﻞ ﺃﻳﻀﺎ ﻟﻠﺬﺭﺓ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺣﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻘﺎﻋﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﻣﻀﻴﺌﺔ ﻟﻤّﺎﻋﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﻄﺢ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﻭﻫﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﺗﻌﻜﺲ ﺗَﺠﻠّﻲ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻟﻠﻘﺪﻳﺮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ.. ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺗﺒﻴّﻦ ﻧﻤﺎﺫﺝَ ﺍلأﺳﺲ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ. ﺇﺫ لاﺷﻚ ﺃﻥ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺣﺮﺍﺭﺗَﻬﺎ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﻛﺜﺎﻓﺔَ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻌﻠﻢ ﻭﻗﺪﺭﺓ ﻣَﻦ ﻫﻮ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻣﻨﻮِّﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻣﻘﺪِّﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ.

ﻓﺬﻟﻚ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺇﺫﻥ ﻗﺮﻳﺐ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻗُﺮﺑﺎ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﺑﻌﻠﻤﻪ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﻫﻮ ﺣﺎﺿﺮ ﻋﻨﺪﻩ ﻭﻧﺎﻇﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﻭﺇﻧﻪ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑـلا ﺗﻜﻠﻒ ﻭلا ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻭﻓﻲ ﺳﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻔﻬﻢ ﺃﻧﻪ ﻳﺄﻣﺮ -ﻣُﺠﺮّﺩَ ﺍلأﻣﺮِ- ﻭﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻴﺴﺮ ﻭﺳﺮﻋﺔ ﻣﻄﻠﻘﻴﻦ. ﻭﺇﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎﻙ ﺷﻲﺀ، ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺟﺰﺋﻴﺎ ﺃﻭ ﻛﻠﻴﺎ، ﺻﻐﻴﺮﺍ ﺃﻭ ﻛﺒﻴﺮﺍ ﺧﺎﺭﺝَ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﺑﻌﻴﺪﺍ ﻋﻦ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻪ ﺟﻞَّ ﺟـلاﻟﻪ.

ﻫﻜﺬﺍ ﻧَﻔﻬﻢ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻧﺆﻣﻦ ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﻳﻘﻴﻨﺎ ﻭﺑﺪﺭﺟﺔ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ، ﺑﻞ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺆﻣﻦ ﻫﻜﺬﺍ.

     ﺧﺎﻣﺴﺘﻬﺎ:

ﺇﻥ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﻛﺒﺮﻳﺎﺀﻩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﻴﻦ: ﻓﺎﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾(ﺍﻟﺰﻣﺮ:67)  ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (ﺍلأﻧﻔﺎﻝ:24)  ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (ﺍﻟﺰﻣﺮ:62) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻳَﻌْﻠَﻢُ ﻣَﺎ ﻳُﺴِﺮُّﻭﻥَ ﻭَﻣَﺎ ﻳُﻌْﻠِﻨُﻮﻥَ﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:٧٧) ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﺧَﻠَﻖَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:54) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﺧَﻠَﻘَﻜُﻢْ ﻭَﻣَﺎ ﺗَﻌْﻤَﻠُﻮﻥَ﴾ (ﺍﻟﺼﺎﻓﺎﺕ:96). ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻣَﺎ ﺷَﺎﺀَ ﺍﻟﻠﻪُ لَا ﻗُﻮَّﺓَ ﺇَِّﻻ ﺑِﺎﻟﻠﻪِ﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:39) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻭَﻣَﺎ ﺗَﺸَﺎﺀُﻭﻥَ ﺇَِّﻻ ﺃَﻥْ ﻳَﺸَﺎﺀَ ﺍﻟﻠﻪُ﴾ (ﺍلإﻧﺴﺎﻥ:30) ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﺣﺪﻭﺩ ﻋﻈﻤﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﻛﺒﺮﻳﺎﺀ ﺃﻟﻮﻫﻴﺘﻪ ﺑﻜﻞ ﺷﻲﺀ.. ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ، ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﺯﻝ ﻭﺍلأﺑﺪ ﻳﻬﺪﺩ ﺑﺸﺪﺓ ﻭﻳﻌﻨّﻒ ﻭﻳﺰﺟﺮ ﻭﻳﺘﻮﻋﺪ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻀﻌﻒ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻔﻘﺮ، ﻭﺍﻟﺬﻱ لا ﻳﻤﻠﻚ ﺇلّا ﺟﺰﺀﺍ ﺿﺌﻴـلا ﻣﻦ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻳﺔ ﻭﻛﺴﺒﺎ ﻓﻘﻂ، ﻓـلا ﻗﺪﺭﺓ ﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﺍلإﻳﺠﺎﺩ ﻗﻄﻌﺎ.

    ﻭﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻫﻮ: ﻣﺎ ﺃﺳﺎﺱ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻨﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺰﻭﺍﺟﺮ ﻭﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪﺍﺕ ﺍﻟﻤﺮﻋﺒﺔ ﻭﺍﻟﺸﻜﺎﻭﻯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺓ ﻣﻦ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺠﺎﻩ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒ، ﻭﻛﻴﻒ ﻳﺘﻢ ﺍلاﻧﺴﺠﺎﻡ ﻭﺍﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؟.

ﺃﻗﻮﻝ: لأﺟﻞ ﺍﻟﺒﻠﻮﻍ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ، ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﺟﺪﺍ ﻭﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺟﺪﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻴﻦ ﺍلآﺗﻴﻴﻦ:

   ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍلأﻭﻝ:

ﺑﺴﺘﺎﻥ ﻋﻈﻴﻢ ﺟﺪﺍ ﻳﺤﻮﻱ ﻣﺎ لا ﻳﻌﺪ ﻭلا ﻳﺤﺼﻰ ﻣﻦ ﺍلأﺛﻤﺎﺭ ﺍﻟﻴﺎﻧﻌﺔ ﻭﺍلأﺯﺍﻫﻴﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ، ﻋُﻴّﻦ ﻋﺪﺩ ﻛﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﻮﻇﻔﻴﻦ ﻟﻠﻘﻴﺎﻡ ﺑﺨﺪﻣﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺍﻟﺰﺍﻫﺮﺓ. ﺇلّا ﺃﻥّ ﺍﻟﻤﻜﻠّﻒ ﺑﻔﺘﺢ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺠﺮﻱ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻟﻠﺸﺮﺏ ﻭﺳﻘﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﺗﻜﺎﺳﻞ ﻋﻦ ﺃﺩﺍﺀ ﻣﻬﻤﺘﻪ ﻭﻟﻢ ﻳﻔﺘﺢ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬ، ﻓﻠﻢ ﻳﺠﺮ ﺍﻟﻤﺎﺀ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧّﻪ ﺃﺧَﻞَّ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﺃﻭ ﺳﺒّﺐ ﻓﻲ ﺟﻔﺎﻓﻪ!

ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﻓﺈﻥ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﺣﻖَّ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﻤﺘﻘﺎﻋﺲ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺷﻜﺎﻭﻯ ﻣﺎ ﺃﺑﺪﻋﻪ ﺍﻟﺮﺏ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺗﺤﺖ ﻧﻈﺮ ﺷﻬﻮﺩﻩ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﻟﻠﺘﺮﺍﺏ ﻭﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻭﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﺣﻖ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﻜﺴـلاﻥ، ﻟﻤﺎ ﺳﺒّﺐ ﻣﻦ ﺑَﻮﺍﺭ ﻣﻬﻤﺎﺗﻬﻢ ﻭﻋُﻘْﻢِ ﺧﺪﻣﺎﺗﻬﻢ ﺃﻭ ﺇﺧـلاﻝٍ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﺍلأﻗﻞ!

      ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ:

ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎﻥ. ﺇﻥ ﺗﺮﻙ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺎﻣﻞ ﺑﺴﻴﻂ ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﻓﺴﻴﺆﺩﻱ ﺗﺮﻛُﻪ ﻫﺬﺍ ﺇﻟﻰ ﺇﺧـلاﻝ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻭﺇﻫﺪﺍﺭﻫﺎ. لأﺟﻞ ﺫﻟﻚ ﻓﺎﻥ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﺳﻴﻬﺪﺩ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻘﺼّﺮ ﺗﻬﺪﻳﺪﺍ ﺷﺪﻳﺪﺍ ﺑﺈﺳﻢ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ. ﻓﻲ ﺣﻴﻦ لا ﻳﻘﺪﺭ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻘﺼّﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﻣَﻦ ﺃﻧﺎ ﺣﺘﻰ ﺍﺳﺘﺤﻖ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﻤﺮﻭّﻉ، ﻭﻣﺎ ﻋﻤﻠﻲ ﺇلّا ﺇﻫﻤﺎﻝ ﺗﺎﻓﻪ ﺟﺰﺋﻲ  ﺫﻟﻚ لأﻥ ﻋﺪﻣﺎ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ لّا ﻳﺘﻨﺎﻫﻰ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻌﺪﻡ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻳﺜﻤﺮ ﺛﻤﺮﺍﺕ ﺣﺴﺐ ﻧﻮﻋﻪ. لأﻥ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺸﻲﺀ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﻭﺍﻟﺸﺮﻭﻁ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻧﻌﺪﺍﻡ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻲﺀ ﻭﺍﻧﺘﻔﺎﺅﻩ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻧﺘﻔﺎﺀ ﺷﺮﻁ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻭﺑﺎﻧﻌﺪﺍﻡ ﺟﺰﺀ ﻣﻨﻪ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻏﺪﺍ (ﺍﻟﺘﺨﺮﻳﺐ ﺃﺳﻬﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﻤﻴﺮ) ﺩﺳﺘﻮﺭﺍ ﻣﺘﻌﺎﺭﻓﺎ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻨﺎﺱ. ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﺳﺲُ ﺍﻟﻜﻔﺮ ﻭﺍﻟﻀـلاﻝ ﻭﺍﻟﻄﻐﻴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻤﻌﺼﻴﺔ، ﺇﻧﻜﺎﺭﺍ ﻭﺭﻓﻀﺎ ﻭﺗﺮﻛﺎ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﻭﻋﺪﻡ ﻗﺒﻮﻝ، ﻓﺼﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﻣَﻬْﻤَﺎ ﺑﺪﺕْ ﺇﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻭﺫﺍﺕَ ﻭﺟﻮﺩ، ﺇلّا ﺃﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ﺍﻧﺘﻔﺎﺀ ﻭﻋﺪﻡ، ﻟﺬﺍ ﻓﻬﻲ ﺟﻨﺎﻳﺔ ﺳﺎﺭﻳﺔ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍلأﻣﻮﺭ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗُﺨِﻞُّ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻛﺎﻓﺔً، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗُﺴﺪﻝ ﺳﺘﺎﺭﺍ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ﻟـلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﻭﺗﺤﺠﺒﻬﺎ ﻋﻦ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺎﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻟﻬﺎ ﺣﻖُّ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺑـلا ﺣﺪﻭﺩ، ﻭﺃﻥّ ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻳﻬﺪّﺩ ﺑﺎﺳﻤﻬﺎ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻌﺎﺻﻲ ﻭﻳﺰﺟﺮﻩ ﺃﺷﺪَّ ﺍﻟﺰﺟﺮ. ﻭﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ؛ لأﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﺻﻲ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺑـلا ﺭﻳﺐ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ ﻛﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺃﻧﻮﺍﻋﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻋﻴﺪ ﺍﻟﻤﺮﻋﺐ.

 

   ﺧﺎﺗﻤﺔ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 ﴿ﻭَﻣَﺎ ﺍﻟْﺤَﻴَﺎﺓُ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ﺇِلّا ﻣَﺘَﺎﻉُ ﺍﻟْﻐُﺮُﻭﺭِ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:185)

    (ﺩﺭﺱ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ ﻭﺻﻔﻌﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ)

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ .. ﺃﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺩﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ! ﻳﺎ ﻣَﻦ ﺗَﺮﻳﻦَ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺣﻠﻮﺓ ﻟﺬﻳﺬﺓ ﻓﺘﻄﻠﺒﻴﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺗﻨﺴﻴﻦ ﺍلآ ﺧﺮﺓ.. ﻫﻞ ﺗﺪﺭﻳﻦَ ﺑﻢَ ﺗَﺸﺒﻬﻴﻦَ؟ ﺇﻧّﻚ ﻟﺘﺸﺒﻬﻴﻦ ﺍﻟﻨﻌﺎﻣﺔ.. ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﻯ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ ﻓـلا ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﻄﻴﺮﺍﻥ، ﺑﻞ ﺗُﻘﺤﻢ ﺭﺃﺳﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻣﺎﻝ ﺗﺎﺭﻛﺔً ﺟﺴﻤَﻬﺎ ﺍﻟﻀَّﺨﻢَ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻇَﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ لا ﻳﺮﺍﻫﺎ. ﺇلّا ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ ﻳﺮﻯ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻫﻲ ﻭﺣﺪﻫﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻃﺒﻘﺖْ ﺟﻔﻨﻴﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺮﻣﺎﻝ ﻓﻠﻢ ﺗَﻌُﺪْ ﺗﺮﻯ!

ﻓﻴﺎ ﻧﻔﺴﻲ! ﺍﻧﻈﺮﻱ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﻭﺗﺄﻣّﻠﻲ ﻓﻴﻪ، ﻛﻴﻒ ﺃﻥّ ﺣﺼﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻛﻠِّﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻳُﺤﻮّﻝ ﺍﻟﻠﺬﺓ ﺍﻟﺤﻠﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻟﻢ ﻣﺮﻳﺮ!.

ﻫَﺐْ ﺃﻧّﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ (ﺑﺎﺭلا) ﺭﺟـلاﻥ ﺍﺛﻨﺎﻥ: ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﺪ ﺭَﺣَﻞَ ﺗﺴﻌﺔ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﺃﺣﺒّﺘﻪ ﺇﻟﻰ ﺇﺳﻄﻨﺒﻮﻝ ﻭﻫﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻋِﻴﺸﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ، ﻭﻟﻢ ﻳﺒﻖَ ﻣﻨﻬﻢ ﻫﻨﺎ ﺳﻮﻯ ﺷﺨﺺ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻭﻫﻮ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻟﺘﺤﺎﻕ ﺑﻬﻢ، ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻣﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺇﺳﻄﻨﺒﻮﻝ ﺃﺷﺪَّ ﺍلاﺷﺘﻴﺎﻕ ﺑﻞ ﻳﻔﻜﺮ ﺑﻬﺎ، ﻭﻳﺮﻏﺐ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﻠﺘﻘﻲ ﺍلأﺣﺒﺎﺏَ ﺩﺍﺋﻤﺎ. ﻓﻠﻮ ﻗﻴﻞ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻭﻗﺖ ﻣﻦ ﺍلأﻭﻗﺎﺕ: (ﻫﻴَّﺎ ﺍﺫﻫﺐْ ﺇﻟﻰ ﻫﻨﺎﻙ) ﻓﺈﻧّﻪ ﺳﻴﺬﻫﺐُ ﻓﺮﺣﺎ ﺑﺎﺳﻤﺎ..

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻘﺪ ﺭَﺣَﻞَ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺘﻪ ﺗﺴﻌﺔ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ، ﻭﻳﻈﻦ ﺃﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓَﻨِﻲَ، ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣَﻦ ﺍﻧﺰﻭﻯ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻛﻦ لا ﺗُﺮﻯ. ﻓَﻬَﻠَﻜُﻮﺍ ﻭﺗﻔﺮَّﻗﻮﺍ ﺣَﺴْﺐَ ﻇﻨﻪ. ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﻤﺴﻜﻴﻦ ﺫﻭ ﺩﺍﺀ ﻋُﻀﺎﻝ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺃﻧﻴﺲ ﻭﻋﻦ ﺳُﻠﻮﺍﻥ ﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪ ﺳﺎﺋﺢ ﻭﺍﺣﺪ، ﺑﺪلا ﻣﻦ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺟﻤﻴﻌﺎ، ﻭﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳﻐﻄّﻲ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ.

ﻓﻴﺎ ﻧﻔﺴﻲ! ﺇﻥّ ﺃﺣﺒَّﺘﻚ ﻛﻠَّﻬﻢ، ﻭﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻬﻢ ﻭﻓﻲ ﻣﻘﺪﻣﺘﻬﻢ ﺣﺒﻴﺐُ ﺍﻟﻠﻪ  صلى الله عليه وسلم، ﻫﻢ ﺍلآﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ. ﻓﻠﻢ ﻳﺒﻖ ﻫﻨﺎ ﺇلّا ﻭﺍﺣﺪ ﺃﻭ ﺍﺛﻨﺎﻥ ﻭﻫﻢ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺘﺄﻫﺒﻮﻥ ﻟﻠﺮّﺣﻴﻞ. ﻓـلا ﺗُﺪﻳﺮﻥّ ﺭﺃﺳَﻚِ ﺟَﻔِﻠَﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺕ، ﺧﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ، ﺑﻞ ﺣَﺪِّﻗﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻭﺍﻧﻈﺮﻱ ﺇﻟﻰ ﺣﻔﺮﺗﻪ ﺑﺸﻬﺎﻣﺔ ﻭﺍﺳﺘﻤﻌﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻄﻠﺐ. ﻭﺍﺑﺘﺴﻤﻲ ﺑﻮﺟﻪ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﺑﺮﺟﻮﻟﺔ، ﻭﺍﻧﻈﺮﻱ ﻣﺎﺫﺍ ﻳﺮﻳﺪ؟ ﻭﺇﻳﺎﻙِ ﺃﻥ ﺗﻐﻔﻠﻲ ﻓﺘﻜﻮﻧﻲ ﺃﺷْﺒَﻪ ﺑﺎﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ!.

ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ! لا ﺗﻘﻮﻟﻲ ﺃﺑﺪﺍ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻗﺪ ﺗﻐﻴّﺮ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﻗﺪ ﺗﺒﺪّﻝ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻗﺪ ﺍﻧﻐﻤﺴﻮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﻓﺘﺘﻨﻮﺍ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﺎ، ﻓﻬﻢ ﺳُﻜﺎﺭﻯ ﺑﻬﻤﻮﻡ ﺍﻟﻌﻴﺶ.. ﺫﻟﻚ لأﻥّ ﺍﻟﻤﻮﺕ لا ﻳﺘﻐﻴﺮ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ لا ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﺎﺀ ﻓـلا ﻳﺘﻐﻴﺮ ﺃﻳﻀﺎ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻫﻤﺎ ﺃﻳﻀﺎ لا ﻳﺘﻐﻴﺮﺍﻥ ﺑﻞ ﻳﺰﺩﺍﺩﺍﻥ، ﻭﺃﻥّ ﺭﺣﻠﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ لا ﺗﻨﻘﻄﻊ، ﺑﻞ ﺗَﺤُﺚُّ ﺍﻟﺴﻴﺮ ﻭﺗﻤﻀﻲ. ﺛﻢ لا ﺗﻘﻮﻟﻲ ﻛﺬﻟﻚ: (ﺃﻧﺎ ﻣﺜﻞ ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ). ﺫﻟﻚ لأﻥّ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺃﺣﺪٍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻳﺼﺎﺣﺒﻚ ﺇلّا ﺇﻟﻰ ﻋﺘﺒﺔ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ.. لا ﻏﻴﺮ. ﻭﻟﻮ ﺫﻫﺒﺖِ ﺗﻨﺸﺪﻳﻦ ﺍﻟﺴُّﻠﻮﺍﻥ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﺎﻝ ﻋﻦ ﻣﺸﺎﺭﻛﺔ ﺍلآﺧﺮﻳﻦ ﻣﻌﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔ ﻭﻣﻌﻴﺘﻬﻢ ﻟﻚ، ﻓﺎﻥّ ﻫﺬﺍ ﺃﻳﻀﺎ لا ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻟﻪ ﻭلا ﺃﺳﺎﺱ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ!.

ﻭلا ﺗَﻈّﻨﻲ ﻧﻔﺴَﻚ ﺳﺎﺭﺣﺔً ﻣﻔﻠﺘﺔَ ﺍﻟﺰﻣﺎﻡ، ﺫﻟﻚ لأﻧّﻚِ ﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﻧﻈﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭ ﺿﻴﺎﻓﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻫﺬﻩِ ﻧَﻈﺮ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭّﻳﺔ.. ﻓﻠﻦ ﺗﺠﺪﻱ ﺷﻴﺌﺎ ﺑـلا ﻧﻈﺎﻡ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ، ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺒﻘﻴﻦ ﺇﺫﻥ ﻭﺣﺪَﻙ ﺑـلا ﻧﻈﺎﻡ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ؟  ﻓﺤﺘﻰ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﺔ ﺑﺎﻟﺰلاﺯﻝ ﻟﻴﺴﺖ ﺃﻟﻌﻮﺑﺔً ﺑﻴﺪ ﺍﻟﺼﺪﻓﺔ.

    ﻓﻤﺜـلا: ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﺎﻫﺪﻳﻦ ﻓﻴﻪ ﺑﺄﻥّ ﺍلأﺭﺽ ﻗﺪ ﺃﻟﺒﺴﺖ ﺣُﻠـلا ﻣﺰﺭﻛﺸﺔ ﺑﻌﻀُﻬﺎ ﻓﻮﻕ ﺑﻌﺾ ﻣﻜﺘﻨﻔﺔً ﺑﻌﻀُﻬﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻨﻘﺶ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، ﻭﺗﺮﻳﻨﻬﺎ ﻣﺠﻬّﺰﺓ ﻛﻠَّﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﻤﺔ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﺇﻟﻰ ﺃﺧﻤﺺ ﺍﻟﻘﺪﻡ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ، ﻭﻣﺰﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﻐﺎﻳﺎﺕ. ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺪﻭﺭ ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺟﺬﺑﺔَ ﺣﺐّ ﻭﺷﻮﻕ ﻣﻮﻟﻮﻳﺔ ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍﻟﺪﻗﺔ ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺿﻤﻦ ﻏﺎﻳﺎﺕ ﺳﺎﻣﻴﺔ.. ﻓﻔﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﻬﺪﻳﻦ ﻫﺬﺍ، ﻭﺗﻌﻠﻤﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺴﻮﻍ ﺇﺫﻥ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺰﻟﺰﻟﺔ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﺔ ﺑﻬﺰّ ﻋﻄﻒ ﻛﺮﺓ ﺍلأﺭﺽ (حاشية) ﻛﺘﺐ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺑﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﺰﻟﺰﺍﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﺪﺙ ﻓﻲ ﺇﺯﻣﻴﺮ. ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ. ﻣﻈﻬﺮﺓً ﺑﻬﺎ ﻋﺪﻡَ ﺭﺿﺎﻫﺎ ﻋﻦ ﺛُﻘﻞ  ﺍﻟﻀِّﻴﻖ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﺍﻟﻨﺎﺷﺊ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮ، ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﺃﻫﻞ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻣﻨﻬﻢ، ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﻤﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻤﻮﺕ، ﺑـلا ﻗﺼﺪ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻧﺸﺮﻩ ﻣﻠﺤﺪ ﻇﻨﺎ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮﺩُ ﻣﺼﺎﺩﻓﺔ، ﻣﺮﺗﻜﺒﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﺧﻄﺄ ﻓﺎﺣﺸﺎ ﻭﻣﻘﺘﺮﻓﺎ ﻇﻠﻤﺎ ﻗﺒﻴﺤﺎ؟ ﺇﺫ ﺻﻴَّﺮ ﺟﻤﻴﻊَ ﻣﺎ ﻓﻘﺪﻩ ﺍﻟﻤﺼﺎﺑﻮﻥ ﻣﻦ ﺃﻣﻮﺍﻝ ﻭﺃﺭﻭﺍﺡ ﻫﺒﺎﺀً ﻣﻨﺜﻮﺭﺍ ﻗﺎﺫﻓﺎ ﺑﻬﻢ ﻓﻲ ﻳﺄﺱ ﺃﻟﻴﻢ. ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻥّ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺗﺪّﺧﺮ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﺃﻣﻮﺍﻝ ﺃﻫﻞ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ، ﻣﺤﻮﻟﺔً ﺇﻳﺎﻫﺎ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ، ﺇﻟﻰ ﺻَﺪَﻗﺔٍ ﻟﻬﻢ. ﻭﻫﻲ ﻛﻔّﺎﺭﺓ ﻟﺬﻧﻮﺏ ﻧﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﻛﻔﺮﺍﻥ ﺍﻟﻨﻌﻢ.

ﻓﻠﺴﻮﻑ ﻳﺄﺗﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺠﺪ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻤﺴﺨﺮﺓ ﻭﺟْﻬَﻬَﺎ ﺩﻣﻴﻤﺎ ﻗﺒﻴﺤﺎ ﺑﻤﺎ ﻟَﻄَّﺦَ ﺯﻳﻨﺘَﻬﺎ ﺷﺮﻙُ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻟﻮّﺛﻬﺎ ﻛﻔﺮﺍﻧﻪ، ﻓﺘﻤﺴﺢ ﻋﻨﺪﺋﺬٍ ﻭﺟﻬﻬﺎ ﺑﺰﻟﺰﻟﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ، ﻭﺗﻄﻬّﺮﻩ ﻣﻔﺮﻏﺔً ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺟﻬﻨﻢ، ﻭﺩﺍﻋﻴﺔً ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﻜﺮ: (ﻫﻴﺎ ﺗﻔﻀﻠﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻨﺔ).

الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: 82)

﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

إذا أردتَ أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، وأردت أن تعرف ما يمكن أن يُستخلص من كل منهما من دروس العبرة والعظة، ورمتَ أن تلمس ما ينطويان عليه من علوم.. فأمعن النظر وتأمل فيما يأتي:

إن القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، إنما يمزّق غطاء الأُلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر الاّ أنها عادية مألوفة مع أنها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحًا كنزًا لا يفنى للعلوم أمام العقول.

أما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الأُلفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث. بل تتجاهلها دون مبالاة بها، فلا تعرض أمام أنظار ذوي الشعور إلا أفرادًا نادرة شذّت عن تناسق الخلقة، وتردّت عن كمال الفطرة السليمة مدّعية أنها نماذج حكمةٍ ذات عبرة.

فمثلًا: إن الإنسان السوي الذي هو في أحسن تقويم جامعٍ لمعجزات القدرة الإلهية، تنظر إليه حكمةُ الفلسفة نظرها إلى شئ عادي مألوف، بينما تلفت الأنظار إلى ذلك الإنسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة أرجل أو رأسين مثلًا، فتثير حوله نظر العبرة والاستغراب.

ومثلًا: إن إعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب إعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى وأعمّها في الوجود، تنظر إليها حكمة الفلسفة أمرًا مألوفًا عاديًا، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الأنظار إلى إعاشة حشرة شذت عن النظام ونأت عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدة في أعماق البحر، فبدأت تقتات على ورق نبات أخضر هناك حتى أنها لتثير أشجان الصيادين إلى ما يتجلى منها من لطف وكرم بل تدفعهم إلى البكاء والحزن (حاشية) لقد وقعت هذه الحادثة فعلًا في أمريكا. المؤلف.

فشاهد في ضوء هذه الأمثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمة سبب آخر لتنزه القرآن عن الشعر هو أن القرآن مع أنه في أتم نظام خارق وأكمل انتظام معجز ويفسّر -بأساليبه المنتظمة- تناسق الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. إذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كل آيةٍ حرةٍ -غير مقيدة بنظام الوزن- تملك عيونًا باصرة إلى أكثر الآيات، ووجوهًا متوجهة إليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافًا من القرائين حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآنًا منه. فسورة الإخلاص -مثلًا- تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستًا وثلاثين سورة إخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها الست ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

نعم! إن عدم الانتظام الظاهر في نجوم السماء، يجعل كل نجم منها غير مقيد وكأنها مركز لأكثر النجوم ضمن دائرة محيطها. فتمد خيوط العلاقات وخطوط الأواصر إلى كل منها إشارة إلى العلاقات الخفية فيما بين الموجودات قاطبة. وكأن كل نجمة -كنجوم الآيات الكريمة- تملك عيونًا باصرة إلى النجوم كافة ووجوهًا متوجهة إليها جميعًا .

فشاهد كمال الانتظام في عدم الانتظام. واعتبر! واعلم من هذا سرًا من أسرار الآية الكريمة ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

واعلم أيضًا حكمةً أخرى لـ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)مما يأتي:

إن شأن الشعر هو تجميل الحقائق الصغيرة الخامدة، وتزيينها بالخيال البراق، وجعلها مقبولة تجلب الإعجاب.. بينما حقائق القرآن من العظمة والسمو والجاذبية بحيث تبقى أعظم الخيالات وأسطعها قاصرة دونها، وخافته أمامها.

فمثلًا:قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104) ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ (الأعراف:54) ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ (يس:53). وأمثالها من الحقائق التي لا حدّ لها في القرآن الكريم شاهدات على ذلك.

إذا شئت أن تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ إعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد أسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في أذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم إن وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين،بصدى قوله تعالى ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ﴾ (الإسراء:44) إلى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الأرض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي إلى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري إلى ذلك العصر تتذوق دقائق الإعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! إنك إذا نظرت إلى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفًا، وإضاءته سائر العلوم الإسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي إذا نظرت إلى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فإنك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف إنها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه إعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

وإذا أردت مشاهدة أعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع إلى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد أُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طيَّ طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازنًا وتناسبًا وعلاقاتِ ارتباط بين أغصان الشجرة وثمراتها وأوراقها وأزاهيرها -كما هو موجود بين أعضاء جسم الإنسان- فكل جزء من أجزائها يأخذ شكلًا معينًا وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فإذا قام أحدٌ -من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد- ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من أعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطًا تمثل العلاقات بين أغصانها وثمراتها وأوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها -البعيدين عن بعضهما بما لايحد- بصورٍ وخطوط تمثل أشكال أعضائها تمامًا وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى أدنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علمًا، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين -كهذا المثال  أيضًا فإن بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود إلى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا إلى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش إلى العرش ومن الذرات إلى الشموس) قد حافظت -تلك البيانات الفرقانية- على الموازنة والتناسب وأعطت لكل عضو من الأعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون -لدى إجراء تحقيقاتهم وأبحاثهم- إلى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. إن الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك أيها القرآن الحكيم!

فلنمثل -ولله المثل الأعلى– الأسماء الإلهية وصفاتها الجليلة والشؤون الربانية وأفعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الأزل إلى الأبد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى إجراءاتها من حدود ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ (الأنعام:95) ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال:24) ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (آل عمران:6) إلى ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (هود:7) وإلى ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر:67) ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ فنرى أن القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بيانًا في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً أخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْمًا لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الأسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والأفعال الحكيمة بيانًا معجزًا بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع أولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين أمام جمال بيانه المعجز والإعجابُ يغمرهم: ((سبحان الله! ما أصوبَ هذا! وما أكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما أجمله وأليقه)).

فلو أخذنا مثلًا أركانَ الإيمان الستة التي تتوجه إلى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصنًا من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها وأغصانها وثمراتها وأزاهيرها مراعيًا في تصويره انسجامًا بديعًا بين ثمراتها وأزاهيرها معّرفًا طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الإنسان عاجزًا عن إدراك أبعاده ومبهوتًا أمام حسن جماله.

ثم إن الإسلام الذي هو فرع من غصن الإيمان، أبدع القرآن الكريم وأتى بالرائع المعجب في تصوير أدق فروع أركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على أبسط آدابها ومنتهى غاياتها وأعمق حِكَمها وأصغر فوائدها وثمراتها وأبهر دليل على ذلك هو كمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن إشاراته ورموزه..

فكمال انتظام هذه الشريعة الغراء وجمال توازنها الدقيق وحسن تناسب أحكامها ورصانتها كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابدًا على أحقية القرآن الكريم بمعنى أن البيانات القرآنية لا يمكن أن تستند إلى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان أميّ، بل لابد أن تستند إلى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الأشياء معًا..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالأزل والأبد معًا والشاهد بجميع الحقائق في آن واحد. ومما يشير إلى هذه الحقيقة الآية الكريمة:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ (الكهف:1)

 

اللهم يا منزِّل القرآن! بحق القرآن وبحقّ من أُنزل عليه القرآن نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الإيمان والقرآن آمين يا مستعان!!

الكلمة الثانية عشرة

 

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: 269)

هذه الكلمة تشير إلى موازنة إجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير أيضًا إلى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الإنسان في حياتيه الشخصية والاجتماعية فضلًا عن أنها تضم إشارة إلى جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي وسموه على الأقوال قاطبة. بمعنى أن هناك أربعة أسس في هذه الكلمة:

* الأساس الأول:

من خلال منظار هذه الحكاية التمثيلية أنظر إلى الفروق بين حكمة القرآن الكريم وحكمة العلوم:

أراد حاكم عظيم ذو تقوى وصلاح وذو مهارة وإبداع أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليلة وتناسب إعجازه البديع في كلماته، فأراد أن يُلبِس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.

فطفق بكتابة القرآن، وهو مصور مبدع، كتابة عجيبة جدًا مستعملًا جميع أنواع الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة ليشير بها إلى تنوع حقائقه العظيمة فكتب بعض حروفه المجسمة بالألماس والزمرد وقسمًا منها باللؤلؤ والمرجان وطائفة منها بالجوهر والعقيق ونوعًا منها بالذهب والفضة، حتى أضفى جمالًا رائعًا وحسنًا جالبًا للأنظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها. فالجميع يقفون أمام هذه الكتابة البديعة مبهوتين يغمرهم التبجيل والإعجاب، ولا سيما أهل الحقيقة الذين بدأوا ينظرون إليها نظرة إعجاب وتقدير أشد، لما يعلمون أن الجمال الباهر هذا يشف عما تحته من جمال المعاني وهو في منتهى السطوع واللمعان وغاية اللذة والذوق.

ثم عرض ذلك الحاكم العظيم، هذا القرآن البديع الكتابة، الرائع الجمال، على فيلسوف أجنبي وعلى عالم مسلم وأمرهما:

«ليكتب كل منكما كتابًا حول حكمة هذا القرآن! » ملمحًا إلى اختبارهما ليكافئهما.

كتب الفيلسوف كتابًا. وكتب العالم المسلم كتابًا. كان كتاب الفيلسوف يبحث عن نقوش الحروف وجمالها، وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منها، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها فحسب. ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك القرآن العظيم قط، إذ إنه جاهل باللغة العربية جهلًا مطبقًا، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وإنما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق. ومع هذا فهو مهندس بارع، ومصور فنان، وكيميائي حاذق، وصائغ ماهر، لذا فقد كتب كتابه هذا وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون.

أما العالم المسلم، فما أن نظر إلى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم. فلم يصرف اهتمامه إلى زينته الظاهرة، ولا أشغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وإنما توجه كليًا -وهو التواق للحق- إلى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الأجنبي بملايين الأضعاف، فبحث عما تحت تلك النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة وأسرار نيرة بديعة فكتب كتابه تفسيرًا قيمًا لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن.

قدّم كلٌ منهما ما كتبه إلى الحاكم العظيم. تناول الحاكم أولًا مؤلَّف الفيلسوف ونظر إليه مليًا. فرأى أن ذلك المعجب بنفسه والمقدس للطبيعة، لم يكتب حكمةً حقيقية قط، مع أنه بذل كل ما في طوقه، إذ لم يفهم معاني ذلك الكتاب، بل ربما زاغ واختلط عليه الأمر، وأظهر عدم توقير وإجلال لذلك القرآن، حيث أنه لم يكترث بمعانيه السامية، وظن أنه مجرد نقوش جميلة وحروف بديعة، فبخس حق القرآن وازدراه من حيث المعنى. لذا رد الحاكم الحكيم مؤلَّف ذلك الفيلسوف وضربه على وجهه وطرده من ديوانه.

ثم أخذ مؤلَّف العالم المسلم المحقق المدقق، فرأى أنه تفسير قيم جدًا، بالغ النفع. فبارك عمله، وقدر جهده، وهنّأه عليه وقال: هذه هي الحكمة حقًا، وإنما يطلق اسم العالم والحكيم حقًا على صاحب هذا المؤلَّف، وليس الآخر إلاَّ فنان صنَّاع قد أفرط وتجاوز حدّه. وعلى أثره كافأ ذلك العالم المسلم وأجزل ثوابه، آمرًا أن تمنح عشر ليرات ذهبية لكل حرف من حروف كتابه.

فإذا فهمت -يا أخي- أبعاد هذه الحكاية التمثيلية، فانظر إلى وجه الحقيقة:

فذلك القرآن الجميل الزاهي، هو هذا الكون البديع.. وذلك الحاكم المهيب هو سلطان الأزل والأبد سبحانه. والرجلان: الأول -أي ذلك الأجنبي- هو علم الفلسفة وحكماؤها. والآخر: هو القرآن الكريم وتلاميذه.

نعم، إن القرآن الكريم ((المقروء)) هو أعظم تفسير وأسماه، وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع، الذي هو قرآن آخر عظيم ((منظور)).

نعم! إن ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والإنس إلى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الأزمنة والعصور. وهو الذي ينظر إلى الموجودات -التي كل منها حرف ذو مغزى- بالمعنى الحرفي، أي ينظر إليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل. وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمالَ الحقيقي للكائنات.

أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلّت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة. فبينما كان عليها أن تنظر إلى كتاب الكون نظرتها إلى الحروف -الدالة على كاتبها- فقد نظرت إليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها على هذه الصورة فتقول: ما أجمل هذا! بدلًا من: ما أجمل خلق هذا، سالبة بهذا القول الجمال الحقيقي للشئ. فأهانت بإسنادها الجمال إلى الشئ نفسه جميع الموجودات حتى جعلت الكائنات شاكية عليها يوم القيامة..

نعم! إن الفلسفة الملحدة إنما هي سفسطة لا حقيقة لها وتحقير للكون وإهانة له.

* الأساس الثاني:

للوصول إلى مدى الفرق بين التربية الأخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة، نرى أن نضع تلميذيهما في الموازنة:

فالتلميذ المخلص للفلسفة ((فرعون)) ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس شئ لأجل منفعته، ويتخذ كل ما ينفعه ربًا له.

ثم أن ذلك التلميذ الجاحد ((متمرد وعنود)) ولكنه متمرد مسكين يرضى لنفسه منتهى الذل في سبيل الحصول على لذة، وهو عنود دنئ إذ يتذلل ويخنع لأشخاص هم كالشياطين، بل يقبّل أقدامهم!

ثم أن ذلك التلميذ الملحد ((مغرور، جبار)) ولكنه جبار عاجز لشعوره بمنتهى العجز في ذاته، حيث لا يجد في قلبه من يستند إليه.

ثم أن ذلك التلميذ ((نفعي ومصلحي)) لا يرى إلاّ ذاته. فغاية همته تلبية رغبات النفس والبطن والفرج، وهو ((دسّاس مكّار)) يتحرى عن مصالحه الشخصية ضمن مصالح الأمة.

بينما تلميذ القرآن المخلص هو ((عبد)) ولكنه عبد عزيز لا يستذل لشئ حتى لأعظم مخلوق، ولا يرضى حتى بالجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

ثم أنه تلميذ ((متواضع، ليّن هيّن)) ولكنه لا يتذلل بإرادته لغير فاطره الجليل ولغير أمره وإذنه.

ثم أنه ((فقير وضعيف)) موقن بفقره وضعفه، ولكنه مستغنٍ عن كل شئ بما ادخره له مالكُه الكريم من خزائن لا تنفد في الآخرة. وهو ((قوي)) لاستناده إلى قوة سيده المطلقة.

ثم أنه لا يعمل إلاّ لوجه الله، بل لا يسعى إلاّ ضمن رضاه بلوغًا إلى الفضائل ونشرها.

وهكذا تفهم التربية التي تربي بها الحكمتان، لدى المقارنة بين تلميذيهما.

* الأساس الثالث:

أما ما تعطيه حكمة الفلسفة وحكمة القرآن من تربية للمجتمع الإنساني فهي:

أن حكمة الفلسفة ترى ((القوة)) نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية. وتهدف إلى ((المنفعة)) في كل شئ. وتتخذ ((الصراع)) دستورًا للحياة. وتلتزم ((بالعنصرية والقومية السلبية)) رابطة للجماعات.

أما ثمراتها فهي إشباع رغبات الأهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس وإثارة الهوى.

ومن المعلوم أن شأن ((القوة)) هو ((الاعتداء)).. وشأن ((المنفعة)) هو ((التزاحم)) إذ لا تفي لتغطية حاجات الجميع وتلبية رغباتهم.. وشأن ((الصراع)) هو ((النزاع والجدال)).. وشأن ((العنصرية)) هو ((الاعتداء)) إذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الأخرى.

ومن هنا تلمس لِمَ سُلبت سعادةُ البشرية، من جراء اللهاث وراء هذه الحكمة.

أما حكمة القرآن الكريم، فهي تقبل ((الحق)) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية، بدلًا من ((القوة))..

وتجعل ((رضى الله سبحانه)) ونيل الفضائل هو الغاية، بدلًا من ((المنفعة))..

وتتخذ دستور ((التعاون)) أساسًا في الحياة، بدلًا من دستور ((الصراع)) ..

وتلتزم برابطة ((الدين)) والصنف والوطن لربط فئات الجماعات بدلًا من العنصرية والقومية السلبية..

وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور، وإشباع مشاعرها السامية لسوق الإنسان نحو الكمال والمثل الإنسانية.

إن شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن دستور (التعاون) هو (إغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الأخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس) وكبح جماحها وأطلاق الروح وحثها نحو الكمال هو (سعادة الدارين).

* الأساس الرابع:

إذا أردت أن تفهم كيف يسمو القرآن على سائر الكلمات الإلهية وتعرف مدى تفوّقه على جميع الكلام. فانظر وتأمل في هذين المثالين:

المثال الأول: أن للسطان نوعين من المكالمة، وطرازين من الخطاب والكلام:

الأول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام، في أمر جزئي يعود إلى حاجة خاصة به.

والآخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى، وبعنوان الخلافة الكبرى وبعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه أو مع أحد كبار موظيفه.. فهي مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع.

المثال الثاني: رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط -حسب سعتها- نورًا وضياء يحمل الألوان السبعة في الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه أن يستفيد منها فيما إذا وجهها إلى غرفته المظلمة، أو إلى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس وليست بمقدار عِظمَ الشمس.

بينما رجل آخر يترك المرآة، ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جدًا وينظر إلى شعشعة سلطانها الواسع المهيب ويقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع ويفتح من بيته الصغير ومن مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجدًا سبلًا إلى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حوارًا مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله ويحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر والامتنان فيقول: (إيه يا شمس! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء وزهراءها! يا من أضفيت على الأرض بهجة ونورًا، ومنحت الأزهار ابتسامة وسرورًا، فلقد منحت الدفء والنور معًا لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت للعالم أجمع الدفء والنور).

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس ويحاورها بهذا الأسلوب، إذ إن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة وقيودها، وهي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة واستيعابها للضوء.

وبعد.. فانظر من خلال منظار هذين المثالين إلى القرآن الكريم لتشاهد إعجازه، وتدرك قدسيته وسموه.

أجل إن القرآن الكريم يقول:﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(لقمان:27).

وهكذا فإن منح القرآن الكريم أعلى مقام من بين الكلمات جميعًا، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مردّه أن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والأرض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.

ولأجل هذه الأسرار أُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به اسم (كلام الله).

أما سائر الكلمات الإلهية: فإن قسمًا منها كلام نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجل جزئي لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص والكلي، فأكثر الإلهامات من هذا القسم إلاّ أن درجاتها متفاوتة جدًا.

فمثلًا: إن أبسطها وأكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات، ثم إلهام عوام الناس، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الأولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.

ومن هذا السر نرى أن وليًا يقول: ((حدّثنى قلبي عن ربي)) أي: بهاتف قلبه. ومن دون وساطة مَلَك، فهو لا يقول: حدّثني رب العالمين. أو نراه يقول: إن قلبي عرشٌ ومرآة عاكسة لتجليات ربي. ولا يقول: عرش رب العالمين؛ لأنه يمكن أن ينال حظًا من الخطاب الرباني وفق استعداداته وحسب درجة قابلياته وبنسبة رفع ما يقارب سبعين ألف حجاب.

نعم! إنه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة وسموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، وبمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي والكتب السماوية.

فالكتب المقدسة والصحف السماوية تأتي بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو والسمو. كل له درجته وتفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للإنس والجن -الذي لم يترشح عن القرآن الكريم- فإنه لا يمكن أن يكون نظيرًا قط للقرآن الكريم ولا يمكن أن يدنو إلى أن يكون مثله.

وإذا كنت تريد أن تفهم شيئًا من أن القرآن الكريم قد نزل من الاسم الأعظم ومن المرتبة العظمى لكل اسم من الأسماء الحسنى فتدبّر في (آية الكرسي) وكذا الآيات الكريمة التالية وتأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:

﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ (الأنعام :59)

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ (آل عمران :26)

﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف:54)

﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ (هود:44)

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (الإسراء:44)

﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (لقمان:28)

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ (الأحزاب:72)

﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104)

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الزمر:67)

﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ.﴾ (الحشر:21)

وأمثالها من الآيات الجليلة، ثم دقق النظر في السور المبتدئة بـ ﴿ الحمد لله﴾ و﴿ تسبح..﴾ . لترى شعاع هذا السر العظيم ثم انظر إلى السور المستهلة بـ﴿ الم﴾ و﴿ ألر﴾ ، و﴿ حم﴾ لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.

وإذا فهمت السر اللطيف لهذا الأساس الرابع، تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل إلى الأنبياء إنما هو بوساطة ملك، أما الإلهام فبلا وساطة.

وتفهم السر في أن أعظم ولي من الأولياء لا يبلغ أي نبي كان من الأنبياء. وتفهم السر الكامن في عظمة القرآن وعزته القدسية وعلو إعجازه.. وتفهم سر لزوم المعراج وحكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا وإلى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى ومن ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ثم عودته بطرف العين إلى مكانه.

أجل! إن شق القمر كما أنه معجزة لإثبات الرسالة، أظهرت نبوته إلى الجن والإنس. كذلك المعراج هو معجزة عبوديته صلى الله عليه وسلم أظهرت محبوبيته إلى الأرواح والملائكة.

اللّهم صل وسلم عليه وعلى آله، كما يليق برحمتك وبحرمته

آمين

 

الكلمة العاشرة

الكلمة العاشرة

مبحث الحشر 

تنبيه

إن سبب إيرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني إلى الأذهان من ناحية، وإظهار مدى معقولية الحقائق الإسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية اخرى، فمغزى الحكايات إنما هو الحقائق التي تنتهي إليها، والتي تدل عليها كنايةً. فهي إذن ليست حكايات خيالية وإنما حقائق صادقة.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(الروم: 50)

يا أخي! إن رمتَ إيضاح أمر الحشر وبعضَ شؤون الآخرة على وجهٍ يُلائم فهمَ عامة الناس، فاستمع معي إلى هذه الحكاية القصيرة.

ذهب اثنان معًا إلى مملكة رائعة الجمال كالجنة (التشبيه هنا للدنيا) وإذا بهما يَريان أن أهلها قد تركوا أبواب بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها.. فالأموال والنقود في متناول الأيدي دون أن يحميها أحد. بدأ أحدهما -بما سوّلت له نفسه- يسرق حينًا ويغصب حينًا آخر مرتكبًا كل أنواع الظلم والسفاهة، والأهلون لا يبالون به كثيرًا.

فقال له صديقه:

– ويحك ماذا تفعل؟ إنك ستنال عقابك، وستلقيني في بلايا ومصائب. فهذه الأموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد اصبحوا – بعوائلهم وأطفالهم- جنود الدولة أو موظفيها، ويُستخدمون في هذه الوظائف ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يُبالوا بك كثيرًا. اعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان. أسرع يا صاحبي بالاعتذار وبادر إلى التوسل.

ولكن صاحبه الأبله عاند قائلًا:

– دعني يا صاحبي، فهذه الأموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة، لا مالك لها. يستطيع كل واحد أن يتصرف فيها كما يشاء. فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الأشياء الجميلة المنثورة أمامي. واعلم أني لا أصدّق بما لا تراه عيناي…

وبدأ يتفلسف ويتفوه بما هو من قبيل السفسطة. وهنا بدأت المناقشة الجادّة بينهما. وأخذ الحوار يشتد إذ سأل المغفل:

– وما السلطان؟ فأنا لا أعرفه. فردّ عليه صاحبه:

– إنك بلاشك تعلم أنه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة، بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب. فكيف يسوغ لك القول: إنه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطارًا مشحونًا بالأرزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب!(حاشية) إشارة الى فصول السنة حيث الربيع يشبه شاحنة قطار مملوءة بالأغذية و يأتي من عالم الغيب. المؤلف. أوَ لا ترى في أرجاء هذه المملكة إعلانات السلطان وبياناته، وأعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الأموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟.. يبدو أنك تعلمت شيئًا من لغة الإفرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الإسلامية ولا ترغب أن تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال إذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والأوامر الصادرة من السلطان.. فقاطعه ذلك المعاند قائلًا:

– لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن أن تضره وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي منها؟ ثم إني لا أرى هنا عقابًا من سجن أو ما يشبهه!

أجابه صاحبه:

– يا هذا، إن هذه المملكة التي نراها ما هي إلا ميدان امتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جدًا.. ألا ترى أن قافلة تأتي يوميًا وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، إنها تملأ وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائيًا وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل إليها الناس جميعًا فيثاب أو يُعاقب كلٌ حسب عمله.

ومرة اخرى تمرّد صديقه الخائن الحائر قائلًا:

– أنا لا أؤمن ولا أصدق! فهل يمكن أن تُباد هذه المملكة العامرة، ويرحل عنها أهلُها إلى مملكة اخرى؟ وعندها قال له صديقه الناصح الأمين:

– يا صاحبي ما دمتَ تعاند هكذا وتصرّ، فتعال أبين لك دلائل لا تعد ولا تحصى مجملةً في اثنتي عشرة صورة تؤكد لك أن هناك محكمة كبرى حقًا، ودارًا للثواب والإحسان، وأخرى للعقاب والسجن، وإنه كما تفرغ هذه المملكة من أهلها يومًا بعد يوم، فسيأتي يوم تفرغ فيه منهم نهائيًا وتباد كليًّا.

الكلمة التاسعة

الكلمة التاسعة 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ (الروم: 17 ـ 18)

أيها الأخ! تسألني عن حكمة تخصيص الصلاة في هذه الأوقات الخمسة المعينة، فسنشير إلى حكمة واحدة فقط من بين حِكمها الوفيرة.

نعم، كما أن وقت كل صلاة، بداية انقلابٍ زمني عظيم ومهم، فهو كذلك مرآة لتصرف إلهي عظيم، تعكس الآلاء الإلهية الكلية في ذلك الوقت. لهذا فقد أُمر في تلك الأوقات بالصلاة، أي الزيادة من التسبيح والتعظيم للقدير ذي الجلال، والإكثار من الحمد والشكر لنعمه التي لا تحصى والتي تجمعت بين الوقتين. ولأجل فهم بعضٍ من هذا المعنى العميق الدقيق، ينبغي الإصغاء -مع نفسي- إلى خمس نكات.

* النكتة الأولى:

إن معنى الصلاة هو التسبيح والتعظيم والشكر لله تعالى. أي تقديسُه جل وعلا تجاه جلاله قولًا وفعلًا بقول: سبحان الله.. وتعظيمه تجاه كماله لفظًا وعملًا بقول: الله اكبر.. وشكره تجاه جماله قلبًا ولسانًا وجسمًا بقول: الحمد لله.

أي أن التسبيح والتكبير والتحميد هو بمثابة نوى الصلاة وبذورها، فوُجِدت هذه الثلاثة في جميع حركات الصلاة وأذكارها. ولهذا أيضًا تُكرّر هذه الكلمات الطيبة الثلاث ثلاثًا وثلاثين مرة عقب الصلاة، وذلك للتأكيد على معنى الصلاة وترسيخه، إذ بهذه الكلمات الموجزة المجملة يؤكد معنى الصلاة ومغزاها.

* النكتة الثانية:

إن معنى العبادة هو سجودُ العبد بمحبة خالصة وبتقدير وإعجاب في الحضرة الإلهية وأمام كمال الربوبية والقدرة الصمدانية والرحمة الإلهية مشاهدًا في نفسه تقصيرَه وعجزَه وفقرَه.

نعم، كما أن سلطنة الربوبية تتطلب العبودية والطاعة، فإن قدسيتَها ونزاهتها تتطلب أيضًا أن يُعلن العبدُ -مع استغفاره برؤية تقصيره- أن ربّه منزّهٌ عن أي نقص، وأنه مُتعالٍ على جميع أفكار أهل الضلالة الباطلة، وأنه مقدّس من جميع تقصيرات الكائنات ونقائصها. أي يعلن ذلك كله بتسبيحه، بقوله: سبحان الله.

وكذا قدرة الربوبية الكاملة تطلب من العبد أيضًا أن يلتجىء إليها، ويتوكل عليها لرؤيته ضعفَ نفسه الشديد وعجزَ المخلوقات قائلًا: الله أكبر بإعجاب وتقدير واستحسان تجاه عظمة آثار القدرة الصمدانية، ماضيًا إلى الركوع بكل خضوع وخشوع.

وكذا رحمة الربوبية الواسعة تتطلب أيضًا أن يُظهر العبدُ حاجاته الخاصة وحاجات جميع المخلوقات وفقرها بلسان السؤال والدعاء، وأن يعلن إحسان ربه وآلاءه العميمة بالشكر والثناء والحمد بقوله: الحمد لله.

أي أن أفعال وأقوال الصلاة تتضمن هذه المعاني. ولأجل هذه المعاني فُرضت الصلاة من لدنه سبحانه وتعالى.

* النكتة الثالثة:

كما أن الإنسان هو مثالٌ مصغّر لهذا العالم الكبير، وأن سورة الفاتحة مثالٌ منوّر للقرآن العظيم، فالصلاة كذلك فهرس نوراني شامل لجميع العبادات، وخريطة سامية تشير إلى أنماط عبادات المخلوقات جميعًا.

* النكتة الرابعة:

إن عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والأيام، كلٌ منها يناظر الآخر، ويمثّل الآخر، ويأخذ كلٌ منها حكم الآخر.

كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعة إلهية كبرى، فإن دوران الليل والنهار الذي هو بحكم الثواني للساعة، والسنوات التي تعدّ الدقائق، وطبقات عمر الإنسان التي تعد الساعات، وأدوار عمر العالم التي تعد الأيام، كل منها يناظر الآخر، ويتشابه معه، ويماثله، ويذكّر كل منها الآخر، ويأخذ حكمه.

فمثلًا:

وقت الفجر إلى طلوع الشمس: يشبه ويذكّر ببداية الربيع وأوله، وبأوان سقوط الإنسان في رحم الأم، وباليوم الأول من الأيام الستة في خلق السموات والأرض، فينبّه الإنسان إلى ما في تلك الأوقات من الشؤون الإلهية العظيمة.

أما وقت الظهر: فهو يشبه ويشير إلى منتصف الصيف، وإلى عنفوان الشباب، وإلى فترة خلق الإنسان في عمر الدنيا، ويذكّر ما في ذلك كله من تجليات الرحمة وفيوضات النعمة.

أما وقت العصر: فهو يشبه موسم الخريف، وزمن الشيخوخة، وعصر السعادة الذي هو عصر خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، ويذكّر ما في ذلك كله من الشؤون الإلهية والآلاء الرحمانية.

أما وقت المغرب: فإنه يذكّر بغروب أغلب المخلوقات وأُفولها نهاية الخريف، ويذكّر أيضًا بوفاة الإنسان، وبدمار الدنيا عند قيام الساعة، ومع ذلك فهو يعلّم التجليات الجلالية، ويوقظ الإنسان من نوم الغفلة وينبهه.

أما وقت العشاء: فيذكّر بغشيان عالم الظلام وستره آثار عالم النهار بكفنه الأسود، ويذكّر أيضًا بتغطية الكفن الأبيض للشتاء وجه الأرض الميتة، وبوفاة حتى آثار الإنسان المتوفى ودخولها تحت ستار النسيان، وبانسداد أبواب دار امتحان الدنيا نهائيًا، ويعلن في ذلك كله تصرفات جلالية للقهار ذي الجلال.

أما وقت الليل: فإنه يذكّر بالشتاء، وبالقبر، وبعالم البرزخ، فضلًا عن أنه يذكّر روح الإنسان بمدى حاجتها إلى رحمة الرحمن.

أما التهجد في الليل: فإنه يذكّر بضرورته ضياء لليل القبر، ولظلمات عالم البرزخ، وينبّه ويذكّر بنعم غير متناهية للمنعم الحقيقي عبر هذه الانقلابات، ويعلن أيضًا عن مدى أهلية المنعم الحقيقي للحمد والثناء.

أما الصباح الثاني: فإنه يذكّر بصباح الحشر. نعم، كما أن مجيء الصبح لهذا الليل، ومجيء الربيع لهذا الشتاء معقول وضروري وحتمي، فإن مجيء صباح الحشر وربيع البرزخ هما بالقطعية والثبوت نفسيهما.

فكل وقت إذن -من هذه الأوقات الخمسة- بداية انقلاب عظيم، ويذكّر بانقلابات أخرى عظيمة، فهو يذكّر أيضًا بمعجزات القدرة الصمدانية وهدايا الرحمة الإلهية سواء منها السنوية أو العصرية أو الدهرية، بإشارات تصرفاتها اليومية العظيمة.

أي أن الصلاة المفروضة التي هي وظيفة الفطرة وأساس العبودية والدَّين المفروض، لائقة جدًا ومناسبة جدًا في أن تكون في هذه الأوقات حقًا.

* النكتة الخامسة:

إن الإنسان بفطرته ضعيف جدًا، ومع ذلك فما أكثر المنغصات التي تورثه الحزن والألم، وهو في الوقت نفسه عاجز جدًا، مع أن أعداءه ومصائبه كثيرة جدًا، وهو فقير جدًا مع أن حاجاته كثيرة وشديدة، وهو كسول وبلا اقتدار مع أن تكاليف الحياة ثقيلة عليه، وإنسانيته جعلته يرتبط بالكون جميعًا مع أن فراقَ ما يحبه وزوال ما يستأنس به يؤلمانه، وعقله يريه مقاصد سامية وثمارًا باقية، مع أن يده قصيرة، وعمره قصير، وقدرته محدودة وصبره محدود.

فروح الإنسان في هذه الحالة (في وقت الفجر) أحوج ما تكون إلى أن تطرق -بالدعاء والصلاة- باب القدير ذي الجلال، وباب الرحيم ذي الجمال، عارضةً حالها أمامه، سائلة التوفيق والعون منه سبحانه، وما أشد افتقار تلك الروح إلى نقطة استناد كي تتحمل ما سيأتي أمامها من أعمال، وما ستحمل على كاهلها من وظائف في عالم النهار الذي يعقبه. ألا يُفهم ذلك بداهةً؟

وعند وقت الظهر: ذلك الوقت الذي هو ذروة كمال النهار وميلانه إلى الزوال، وهو أوان تكامل الأعمال اليومية، وفترة استراحة موقتة من عناء المشاغل، وهو وقت حاجة الروح إلى التنفس والاسترواح مما تعطيه هذه الدنيا الفانية والأشغال المرهقة الموقتة من غفلةٍ وحيرةٍ واضطراب فضلًا عن أنه أوان تظاهر الآلاء الإلهية.

فخلاصُ روح الإنسان من تلك المضايقات، وإنسلالها من تلك الغفلة والحيرة، وخروجها من تلك الأمور التافهة الزائلة، لا يكون إلاّ بالالتجاء إلى باب القيوم الباقي -وهو المنعم الحقيقي- بالتضرع والتوسل أمامه مكتوف اليدين شاكرًا حامدًا لمحصّلة نِعَمه المتجمعة، مستعينًا به وحده، مع إظهار العجز أمام جلاله وعظمته بالركوع، وإعلان الذل والخضوع -بإعجاب وتعظيم وهيام- بالسجود أمام كماله الذي لا يزول، وأمام جماله الذي لا يحول.. وهذا هو أداء صلاة الظهر، فما اجملها، وما ألذَّها، وما أجدرها، وما أعظم ضرورتها!. ومن ثم فلا يحسبنّ الإنسان نفسه إنسانًا إن كان لا يفهم هذا.

وعند وقت العصر: الذي يذكّر بالموسم الحزين للخريف، وبالحالة المحزنة للشيخوخة، وبالأيام الأليمة لآخر الزمان، وبوقت ظهور نتائج الأعمال اليومية. فهو فترة حصول المجموع الكلي الهائل للنعم الإلهية، أمثال التمتع بالصحة والتنعم بالعافية، والقيام بخدمات طيبة. وهو كذلك وقت الإعلان بأن الإنسان ضيف مأمور، وبأن كل شئ يزول وهو بلا ثبات ولا قرار، وذلك بما يشير اليه انحناء الشمس الضخمة إلى الأُفول.

نعم إن روح الإنسان التي تنشد الأبدية والخلود، وهي التي خُلقت للبقاء والأبد، وتعشق الإحسان، وتتألم من الفراق، تُنهض بهذا الإنسان ليقوم وقت العصر ويسبغ الوضوء لأداء صلاة العصر، ليناجي متضرعًا أمام باب الحضرة الصمدانية للقديم الباقي وللقيوم السرمدي، وليلتجئ إلى فضل رحمته الواسعة، وليقدم الشكر والحمد على نعمه التي لا تحصى، فيركع بكل ذلٍّ وخضوع أمام عزة ربوبيته سبحانه ويهوي إلى السجود بكل تواضع وفناء أمام سرمدية ألوهيته، ويجد السلوان الحقيقي والراحة التامة لروحه بوقوفه بعبودية تامة وباستعداد كامل أمام عظمة كبريائه جل وعلا. فما أسماها من وظيفةٍ تأديةُ صلاة العصر بهذا المعنى! وما أليقها من خدمة! بل ما أحقّه من وقتٍ لقضاء دَين الفطرة، وما أعظمه من فوزٍ للسعادة في منتهى اللذة! فمن كان إنسانًا حقًا فسيفهم هذا.

وعند وقت المغرب: الذي يذكّر بوقت غروب المخلوقات اللطيفة الجميلة لعالم الصيف والخريف في خزينة الودائع منذ ابتداء الشتاء، ويذكّر بوقت دخول الإنسان القبر عند وفاته وفراقه الأليم لجميع أحبته، وبوفاة الدنيا كلها بزلزلة سكراتها وانتقال ساكنيها جميعًا إلى عوالم أخرى. ويذكّر كذلك بإنطفاء مصباح دار الامتحان هذه. فهو وقت إيقاظٍ قوي وإنذارٍ شديد لأولئك الذين يعشقون لحد العبادة المحبوبات التي تغرب وراء أُفق الزوال. لذا فالإنسان الذي يملك روحًا صافية كالمرآة المجلوة المشتاقة فطرةً إلى تجليات الجمال الباقي، لأجل أداء صلاة المغرب في مثل هذا الوقت يولّي وجهه إلى عرش عظمة مَن هو قديم لم يزل، ومن هو باقٍ لا يزال، ومَن هو يدبر أمر هذه العوالم الجسيمة ويبدّلها، فيدّوي بصوته قائلًا: (الله أكبر) فوق رؤوس هذه المخلوقات الفانية، مُطلقًا يده منها، مكتوفًا في خدمة مولاه الحق منتصبًا قائمًا عند مَن هو دائمٌ باقٍ جل وعلا ليقول: (الحمد لله) أمام كماله الذي لا نقص فيه، وأمام جماله الذي لا مثيل له، واقفًا أمام مُثنيًا رحمته الواسعة ليقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . ليعرض عبوديته واستعانته تجاه ربوبية مولاه التي لا معين لها وتجاه الوهيته التي لا شريك لها، وتجاه سلطنته التي لا وزير لها. فيركع إظهارًا لعجزه وضعفه وفقره مع الكائنات جميعًا أمام كبريائه سبحانه التي لا منتهى لها، وأمام قدرته التي لا حدّ لها، وأمام عزته التي لا عجز فيها، مسبّحًا ربّه العظيم قائلًا: (سبحان ربي العظيم). ثم يهوي إلى السجود أمام جمال ذاته الذي لا يزول، وأمام صفاته المقدسة التي لا تتغير، وأمام كمال سرمديته الذي لا يتبدل، مُعلنًا بذلك حبَّه وعبوديته في إعجاب وفناء وذلٍ، تاركًا ما سواه سبحانه قائلًا: (سبحان ربي الأعلى) واجدًا جميلًا باقيًا ورحيمًا سرمديًا بدلًا من كل فانٍ. فيقدس ربَّه الأعلى المنزَّه عن الزوال المبرأ من التقصير ويجلس للتشهد، فيقدّم التحيات والصلوات الطيبات لجميع المخلوقات هديةً باسمه إلى ذلك الجميل الذي لم يزل وإلى ذلك الجليل الذي لا يزال، مجددًا بيعتَه مع رسوله الأكرم بالسلام عليه مُظهرًا بها طاعته لأوامره، فيرى الانتظام الحكيم لقصر الكائنات هذا، ويُشهِدُه على وحدانية الصانع ذي الجلال، فيجدّد إيمانه وينوّره، ثم يشهد على دلاّل الربوبية ومبلّغ مرضياتها وترجمان آيات كتاب الكون الكبير ألا وهو محمد العربي صلى الله عليه وسلم . فما ألطفَ وما أنزه أداء صلاة المغرب وما أجلّها من مهمة -بهذا المضمون- وما أعزّها وأحلاها من وظيفة، وما أجملها وألذّها من عبودية، وما أعظمها من حقيقة أصيلة! وهكذا نرى كيف أنها صُحبة كريمة وجلسة مباركة وسعادة خالدة في مثل هذه الضيافة الفانية.. أفيحسب مَن لم يفهم هذا نفسه إنسانًا؟.

وعند وقت العشاء: ذلك الوقت الذي تغيب في الأفق حتى تلك البقية الباقية من آثار النهار، ويخيّم الليلُ فيه على العالم، فيذكّر بالتصرفات الربانية لـ(مقلب الليل والنهار) وهو القدير ذو الجلال في قلبه تلك الصحيفة البيضاء إلى هذه الصحيفة السوداء.. ويذكّر كذلك بالإجراءات الإلهية لـ(مسخر الشمس والقمر) وهو الحكيم ذو الكمال في قلبه الصحيفة الخضراء المزيِّنة للصيف إلى الصحيفة البيضاء الباردة للشتاء.. ويذكّر كذلك بالشؤون الإلهية لـ(خالق الموت والحياة) بانقطاع الآثار الباقية -بمرور الزمن- لأهل القبور من هذه الدنيا وانتقالها كليًا إلى عالم آخر. فهو وقت يذكّر بالتصرفات الجلالية، وبالتجليات الجمالية لخالق الأرض والسموات، وبانكشاف عالم الآخرة الواسع الفسيح الخالد العظيم، وبموت الدنيا الضيقة الفانية الحقيرة، ودمارها دمارًا تامًا بسكراتها الهائلة. إنها فترة -أو حالة- تُثبت أن المالك الحقيقي لهذا الكون بل المعبود الحقيقي والمحبوب الحقيقي فيه لا يمكن أن يكون إلاّ مَن يستطيع أن يقلّب الليل والنهار والشتاء والصيف والدنيا والآخرة بسهولة كسهولة تقليب صفحات الكتاب، فيكتب ويثبت ويمحو ويبدل، وليس هذا إلاّ شأن القدير المطلق النافذ حكمه على الجميع جلّ جلاله.

وهكذا فروح البشر التي هي في منتهى العجز وفي غاية الفقر والحاجة، والتي هي في حيرة من ظلمات المستقبل وفي وَجَل مما تخفيه الأيام والليالي.. تدفع الإنسان عند أدائه لصلاة العشاء -بهذا المضمون- أن لا يتردد في أن يردد على غرار سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ﴾ . فيلتجئ بالصلاة إلى باب مَن هو المعبود الذي لم يزل ومَن هو المحبوب الذي لا يزال، مناجيًا ذلك الباقي السرمدي في هذه الدنيا الفانية، وفي هذا العالم الفاني، وفي هذه الحياة المظلمة والمستقبل المظلم، لينشر على أرجاء دنياه النور من خلال صحبة خاطفةٍ ومناجاة موقتة، ولينّور مستقبله ويضمد جراح الزوال والفراق عما يحبّه من أشياء وموجودات ومن أشخاص وأصدقاء وأحباب، بمشاهدة توجّه رحمةِ الرحمن الرحيم، وطلب نور هدايته، فينسى -بدوره- تلك الدنيا التي أنسته، والتي اختفت وراء العشاء، فيسكب عبرات قلبه، ولوعة صدره، على عتبة باب تلك الرحمة، ليقوم بوظيفة عبوديته النهائية قبل الدخول فيما هو مجهول العاقبة، ولا يعرف ما يُفعل به بعده، من نوم شبيه بالموت، وليختم دفتر أعماله اليومية بحسن الخاتمة. ولأجل ذلك كله يقوم بأداء الصلاة، فيتشرف بالمثول أمام مَن هو المعبود المحبوب الباقي بدلًا من المحبوبات الفانية، وينتصب قائمًا أمام مَن هو القدير الكريم بدلًا من جميع العجزة المتسولين، وليسمو بالمثول في حضرة مَن هو الحفيظ الرحيم لينجو من شر من يرتعد منهم من المخلوقات الضارة. فيستهلّ الصلاة بالفاتحة، أي بالمدح والثناء لرب العالمين الكريم الرحيم الذي هو الكامل المطلق والغني المطلق، بدلًا من مدح مخلوقات لا طائل وراءها وغير جديرة بالمدح وهي ناقصة وفقيرة وبدلًا من البقاء تحت ذلّ المنّة والأذى، فيرقى إلى مقام الضيف الكريم في هذا الكون، وإلى مقام الموظف المرموق فيه رغم أنه ضئيل وصغير بل هو معدوم، وذلك بسموه إلى مرتبة خطاب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي انتسابه لمالك يوم الدين ولسلطان الأزل والأبد. فيقدّم بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُعبادات واستعانات الجماعة الكبرى والمجتمع الأعظم لجميع المخلوقات طالبًا الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو طريقه المنوّر الموصل إلى السعادة الأبدية عبر ظلمات المستقبل بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ويتفكر في كبريائه سبحانه وتعالى ويتأمل في أن هذه الشموس المستترة -التي هي كالنباتات والحيوانات النائمة الآن- وهذه النجوم المنتبهة، جنود مطيعة مسخّرة لأمره جل وعلا، وأن كل واحد منها ما هو إلا مصباح في دار ضيافته هذه، وكل واحد منها خادم عامل، فيكبّر قائلًا (الله أكبر) ليبلُغَ الركوع. ثم يتأمل بالسجدة الكبرى لجميع المخلوقات كيف أن أنواع الموجودات في كل سنة، وفي كل عصر – كالمخلوقات النائمة في هذا الليل- بل حتى الأرض نفسها وحتى العالم كلّه، إنما هي كالجيش المنظم، بل كالجندي المطيع، عندما تسرّح من وظيفتها الدنيوية بأمر: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي عندما تُرسل إلى عالم الغيب تسجد في منتهى النظام في الزوال على سجادة الغروب مكبّرة (الله أكبر). وهي تُبعث وتُحشر كذلك في الربيع بنفسها أو بمثلها، بصيحة إحياء وإيقاظٍ صادر من أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ فيتأهب الجميع في خضوع وخشوع لأمر مولاهم الحق. فهذا الإنسان الضعيف اقتداء بتلك المخلوقات، يهوي إلى السجود أمام ديوان الرحمن ذي الكمال والرحيم ذي الجمال قائلًا: (الله أكبر) في حبٍ غامرٍ بالإعجاب وفي فنائيةٍ مفعمة بالبقاء وفي ذلّ مكللٍ بالعز.

فلا شك يا أخي قد فهمت أن أداء صلاة العشاء سموٌ وصعودٌ فيما يشبه المعراج، وما أجملها من وظيفةٍ وما أحلاها من واجبٍ وما أسماها من خدمةٍ وما أعزّها وألذّها من عبودية وما أليقها من حقيقة أصيلة!

أي إن كل وقت من هذه الأوقات إشارات لانقلاب زمني عظيم، وأمارات لإجراءات ربانية جسيمة، وعلامات لإنعامات إلهية كلية، لذا فإن تخصيص صلاة الفرض -التي هي دَين الفطرة- في تلك الأوقات هو منتهى الحكمة.

 

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

اللّهم صل وسلم على مَن أرسلته معلّمًا لعبادك، ليعلّمهم كيفية معرفتك والعبودية لك، ومعرّفًا لكنوز أسمائك، وترجمانًا لآيات كتاب كائناتك، ومرآةً بعبوديته لجمال ربوبيتك، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات. آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

الكلمة الثامنة

 الكلمة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (البقرة:255)

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: 19)

إذا أردت أن تفهم ما الدنيا وما دور الروح الإنسانية فيها، وما قيمة الدين عند الإنسان وكيف أنه لولا الدين الحق لتحولت الدنيا إلى سجن رهيب، وأن الشخص الملحد هو أشقى المخلوقات، وأن الذي يحل طلسم العالم ولغزه المحير وينقذ الروح البشرية من الظلمات إن هو إلا «يا الله…»«لا إله إلا الله..» أجل إذا كنت تريد أن تفهم كل ذلك فانصت إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة وتفكر فيها مليًا:

كان شقيقان في قديم الزمان يذهبان معًا إلى سياحة طويلة، فواصلا سيرهما سوية إلى أن وصلا إلى مفرق طريقين، فرأيا هناك رجلًا وقورًا فسألاه: أيّ الطريقين أفضل؟.

فأجابهما: في الطريق اليمين التزام إجباري للقانون والنظام، إلاّ أن في ثنايا ذلك التكليف ثمة أمان وسعادة. أما طريق الشمال ففيه الحرية والتحرر إلا أن في ثنايا تلك الحرية تهلكة وشقاء. والآن لكم الخيار في سلوك أيهما.

وبعد الاستماع إلى هذا الكلام سلك الأخ ذو الطبع الطيب طريق اليمين قائلًا: توكلت على الله. وانطلق راضيًا عن طيب نفس باتباع النظام والانتظام. أما الأخ الآخر الغاوي، فقد رجّح طريق الشمال لمجرد هوى التحرر الذي فيه.

والآن فلنتابع خيالًا هذا الرجل السائر في طريق ظاهره السهولة والخفة وباطنه من قبله الثقل والعناء. فما أن عبر الوديان العميقة والمرتفعات العالية الوعرة حتى دخل وسط مفازة خالية وصحراء موحشة؛ فسمع صوتًا مخيفًا، ورأى أن أسدًا ضخمًا غضوبًا قد انطلق من الأحراش نحوه؛ ففر منه فرارًا وهو يرتعد خوفًا وهلعًا، فصادف بئرًا معطلة على عمق ستين ذراعًا فألقى نفسه فيها طلبًا للنجاة، وفي أثناء السقوط لقَيت يداه شجرةً فتشبث بها. وكان لهذه الشجرة جذران نبتا على جدار البئر وقد سلّط عليهما فأران، أبيض وأسود. وهما يقضمان ذينك الجذرين بأسنانهما الحادة. فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد واقفًا كالحارس على فوهة البئر، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعبانًا كبيرًا جدًا قد رفع رأسه يريد الاقتراب منه وهو على مسافة ثلاثين ذراعًا، وله فم واسع سعة البئر نفسها. ورأى ثمة حشرات مؤذية لاسعة تحيط به. نظر إلى أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، إلا أنها تثمر بصورة خارقة أنواعًا مختلفة وكثيرة من فواكه الأشجار ابتداء من الجوز وانتهاء إلى الرمان.

لم يكن هذا الرجل ليفهم -لسوء ادراكه وحماقته- بأن هذا الأمر ليس اعتياديًا، ولا يمكن أن تأتي كل هذه الأشياء مصادفةً ومن دون قصد. ولم يكن يفهم أن في هذه الشؤون العجيبة أسرارًا غريبة، وأن هناك وراء كل ذلك من يدبّر هذه الأمور ويسيّرها.

فبينما يبكي قلب هذا الرجل وتصرخ روحه ويحار عقله من اوضاعه الأليمة إذا بنفسه الأمارة بالسوء أخذت تلتهم فواكه تلك الشجرة متجاهلة عما حولها وكأن شيئًا لم يحدث؛ سادّة أذنيها عن صرخات القلب وهواتف الروح، خادعة نفسها بنفسها رغم أن قسمًا من تلك الفواكه كانت مسمومة ومضرة.

وهكذا نرى أن هذا الرجل الشقي قد عومل بمثل ما جاء في الحديث القدسي ((أنا عند ظن عبدي بي)) أي: أنا أعامل عبدي مثلما يعرفني هو. فلقد عومل هكذا، وسيعامل مثلها أيضًا، بل لابد أن يرى مثل هذه المعاملة جزاء تلقيه كل ما يشاهده أمرًا عاديًا بلا قصد ولا حكمة وكأنه الحق بعينه، وذلك لسوء ظنه وبلاهته الخرقاء؛ فصار يتقلب في نار العذاب ولا يستطيع أن يموت لينجو ولا يقدر على العيش الكريم.

ونحن بدورنا سنرجع تاركين وراءنا ذلك المشؤوم يتلوى في عذابه؛ لنعرف ما جرى للأخ الآخر من أحوال.

فهذا الرجل المبارك ذو العقل الرشيد ما يزال يقطع الطريق دون أن يعاني الضيق كأخيه، ذلك لأنه لا يفكر إلا في الأشياء الجميلة -لما له من جمال الخُلق- ولا يأخذ بعنان الخيال إلا بما هو جميل ولطيف، لذا كان يستأنس بنفسه ولا يلاقي الصعوبة والمشقة كأخيه. ذلك لأنه يعرف النظام، ويعمل بمقتضى الولاء والاتباع. فيرى الأمور تسهل له، ويمضي حرًا منطلقًا مستظلًا بالأمان والاستقرار. وهكذا مضى حتى وجد بستانًا فيه أزهار جميلة وفواكه لطيفة مع ثمة جثث حيوانات وأشياء منتنة مبعثرة هنا وهناك بسبب اهمال النظافة. كان أخوه الشقي قد دخل -من قبل- في مثل هذا البستان أيضًا غير أنه انشغل بمشاهدة الجيف الميتة وإنعام النظر فيها مما أشعره بالغثيان والدوار. فغادره دون أن يأخذ قسطًا من الراحة لمواصلة السير. أما هذا الأخ فعملًا بقاعدة ((انظر إلى الأحسن من كل شي)) فقد أهمل الجيف ولم يلتفت إليها مطلقًا، بل استفاد مما في البستان من الأشياء والفواكه. وبعدما استراح فيه الراحة التامة مضى إلى سبيله.

ودخل – هو أيضًا كأخيه – في صحراء عظيمة ومفازة واسعة. وفجأة سمع صوت أسد يهجم عليه فخاف إلا أنه دون خوف أخيه، حيث فكّر بحُسن ظنه وجمال تفكيره قائلًا: لابد أن لهذه الصحراء حاكمًا، فهذا الأسد إذن يحتمل أن يكون خادمًا أمينًا تحت أمرته.. فوجد في ذلك اطمئنانًا، غير أنه فرّ كذلك حتى وصل وجهًا لوجه إلى بئر معطلة بعمق ستين ذراعًا فألقى نفسه فيها وأمسك -كصاحبه- بشجرة في منتصف الطريق من البئر.. وبقي معلقًا بها، فرأى حيوانين اثنين يقطعان جذري تلك الشجرة رويدًا رويدًا.. فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعبانًا ضخمًا، ونظر إلى نفسه فوجدها -كأخيه تمامًا- في وضع عجيب غريب. فدهش من الأمر هو كذلك إلا أنه دون دهشة أخيه بألف مرة، لما منحه الله من حُسن الخلق وحُسن التفكير والفكر الجميل الذي لا يريه إلا الجهة الجميلة من الأشياء. ولهذا السبب فقد فكّر هكذا: أن هذه الأمور العجيبة ذات علاقات مترابطة بعضها ببعض، وأنها لتظهر كأن آمرًا واحدًا يحركها؛ فلابد إذن أن يكون في هذه الأعمال المحيرة سرّ مغلق وطلسم غير مكشوف.

أجل! إن كل هذا يرجع إلى أوامر حاكم خفي، فأنا إذن لست وحيدًا، بل إن ذلك الحاكم الخفي ينظر إلي ويرعاني ويختبرني، ولحكمة مقصودة يسوقني إلى مكان، ويدعونني إليه. فنشأ لديه من هذا التفكير الجميل والخوف اللذيذ شوقٌ أثار هذا السؤال: مَن يكون يا ترى هذا الذي يجرّبني ويريد أن يعرّفني نفسه؟ ومَن هذا الذي يسوقني في هذا الطريق العجيب إلى غاية هادفة؟ ثم نشأ من الشوق إلى التعرف محبة صاحب الطلسم، ونمت من تلك المحبة رغبة حل الطلسم، ومن تلك الرغبة انبثقت رغبة اتخاذ وضع جميل وحالة مقبولة لدى صاحب الطلسم حسب ما يحبه ويرضاه.

ثم نظر أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، غير أن في نهاية أغصانها آلاف الأنواع من الأثمار والفواكه، وعندها ذهب خوفه وزال نهائيًا، لأنه علم علمًا قاطعًا بأن شجرة التين هذه إنما هي فهرس ومعرض، حيث قلد الحاكم الخفي نماذخ ما في بستانه وجناته بشكل معجز عليها وزيّنها بها، اشارةً لما أعدّه من أطعمة ولذائذ لضيوفه.. وإلا فإن شجرة واحدة لن تعطي أثمار آلاف الأشجار. فلم يرَ أمامه إلا الدعاء والتضرع، فألح متوسلًا بانكسار إلى أن اُلهم مفتاح الطلسم فهتف قائلًا:

((يا حاكم هذه الديار والآفاق! التجئ إليك وأتوسل وأتضرع، فأنا لك خادم، أريد رضاك وأنا أطلبك وأبحث عنك))..

فانشق جدار البئر فجأة بعد هذا الدعاء، عن باب يفتح إلى بستان فاخر طاهر جميل، وربما انقلب فم ذلك الثعبان إلى ذلك الباب واتخذ كل من الأسد والثعبان صورة الخادم وهيأته.. فأخذا يدعوانه إلى البستان حتى أن ذلك الأسد تقمص شكل حصان مسخّر بين يديه.

فيا نفسي الكسلى! ويا صاحبي في الخيال..

تعالا لنوازن بين أوضاع هذين الأخوين كي نعلم كيف أن الحسنة تجلب الحسنة وأن السيئة تأتي بالسيئة.

إن المسافر الشقي إلى جهة الشمال معرّض في كل آن أن يلج في فم الثعبان فهو يرتجف خوفًا وهلعًا. بينما هذا السعيد يُدعى إلى بستان أنيق بهيج مثمر بفواكه شتى.. وإن قلب ذلك الشقي يتمزق في خوف عظيم ورعب أليم بينما هذا السعيد يرى غرائب الأشياء وينظر إليها بعبرة حلوة وخوف لذيذ ومعرفة محبوبة.. وإن ذلك الشقي المسكين ليعاني من الوحشة واليأس واليتم عذابًا وأي عذاب! بينما هذا السعيد يتلذذ في الأنس ويترفل في الأمل والشوق.. ثم إن ذلك المنكود يرى نفسه محكومًا عليه  كالسجين – بهجمات الحشرات المؤذية، بينما هذا السعيد المحظوظ يتمتع متعة ضيف عزيز. وكيف لا وهو ضيف عند مضيّف كريم، فيستأنس مع عجائب خدمه. ثم أن ذلك السئ الحظ ليعجّل عذابه في النار بأكله مأكولات لذيذة الطعم ظاهرًا ومسمومة حقيقةً ومعنىً، إذ إن تلك الفواكه ما هي إلا نماذج، قد اُذن للتذوق منها فحسب ليكون طالبًا لحقائقها وأُصولها ويكون شاريها الأصيل وإلاّ فلاسماح للشراهة منها كالحيوان. أما هذا السعيد المحمود فإنه يتذوق منها إذ يعي الأمر، مؤخِّرًا أكلها وملتذًا بالانتظار.. ثم إن ذلك الشقي يكون قد ظلم نفسه بنفسه؛ جارًا عليها وضعًا مظلمًا وأوهامًا ذات ظلمات حتى كأنه في جحيم، بانعدام بصيرته عن حقائق ساطعة كالنهار وأوضاع جميلة باهرة، فلا هو مستحق للشفقة ولا له حق الشكوى، مَثَله في هذا مثل رجل وسط أحبائه في موسم الصيف وفي حديقة جميلة بهيجة في وليمة طيبة للأفراح، فلعدم قناعته بها راح يرتشف كؤوس الخمر -أم الخبائث- حتى أصبح سكيرًا ثملًا؛ فشرع بالصراخ والعويل، وبدأ بالبكاء، ظانًا نفسه أنه في قلب الشتاء القارس، ومتصورًا أنه جائع وعار وسط وحوش مفترسة. فمثلما أن هذا الرجل لا يستحق الشفقة والرأفة، إذ ظلم نفسه بنفسه متوهمًا أصدقاءه وحوشًا، محتقرًا لهم.. فكذلك هذا المشؤوم.

ولكنما ذلك السعيد يبصر الحقيقة، والحقيقة بذاتها جميلة، ومع ادراك جمال الحقيقة فإنه يحترم كمال صاحب الحقيقة ويوقّره فيستحق رحمته.

فاعلم إذن سرًا من أسرار: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ (النساء:79)

فلو وازنت سائر هذه الفروق وأمثالها لعلمت أن النفس الأمارة للأول قد أحضرت له جهنم معنوية، بينما الآخر قد نال بحسن نيته وحسن ظنه وحسن خصلته وحسن فكره- الفيض والسعادة والإحسان العميم.

فيا نفسي. ويا أيها الرجل المنصت معي إلى هذه الحكاية!

إذا كنت تريد أن لا تكون مثل ذلك الأخ المشؤوم وترغب في أن تكون كالأخ السعيد فاستمع إلى القرآن الكريم وأرضخ لحكمه واعتصم به واعمل بأحكامه.

وإذا كنت قد وعيت ما في هذه الأقصوصة التمثيلية من حقائق؛ فإنك تستطيع أن تطبق عليها الحقيقة الدينية والدنيوية والإنسانية والإيمانية كلها. وسأقول لك الأسس، واستخرج بنفسك الدقائق!

فالإخوان الاثنان: أحدهما روح المؤمن وقلب الصالح، والآخر روح الكافر وقلب الفاسق.. أما اليمين من تلكما الطريقين فهو طريق القرآن وطريق الإيمان وأما الشمال فطريق العصيان والكفران.. وأما ذلك البستان في الطريق فهو الحياة الاجتماعية المؤقتة للمجمتع البشري والحضارة الإنسانية التي يوجد فيها الخير والشر والطيب والخبيث والطاهر والقذر معًا. فالعاقل هو مَن يعمل على قاعدة: ((خذ ما صفا.. دع ما كدر)) فيسير مع سلامة القلب واطمئنان الوجدان.

وأما تلك الصحراء فهي هذه الدنيا وهذه الأرض.. وأما ذلك الأسد فهو الأجل والموت.. وأما تلك البئر فهي جسد الإنسان وزمان الحياة. وأما ذلك العمق البالغ ستين ذراعًا فهو اشارة إلى العمر الغالب، وهو معدل العمر ستون سنة.. وأما تلك الشجرة فهي مدة العمر ومادة الحياة.. وأما الحيوانان الإثنان، الأسود والأبيض فهما الليل والنهار.. وأما ذلك الثعبان فهو فم القبر المفتوح إلى طريق البرزخ ورواق الآخرة، إلا أن ذلك الفم هو للمؤمن باب يفتح من السجن إلى البستان.. وأما تلك الحشرات المضرة فهي المصائب الدنيوية، إلا أنها للمؤمن في حكم الإيقاظات الإلهية الحلوة والالتفاتات الرحمانية لئلا يغفل.. وأما مطعومات تلك الشجرة فهي النعم الدنيوية التي صنعها ربّ العزة الكريم لكي تكون فهرسًا للنعم الأخروية ومذكِّرة بها، بمشابهتها لها، وقد خلقها البارئ الحكيم على هيئة نماذج لدعوة الزبائن إلى فواكه الجنة، وإن اعطاء تلك الشجرة على وحدتها الفواكه المختلفة المتباينة اشارة إلى آية الصمدانية وختم الربوبية الآلهية وطغراء سلطنة الألوهية. ذلك لأن ((صنع كل شئ من شئ واحد)) أي صنع جميع النباتات وأثمارها من تراب واحد، وخلق جميع الحيوانات من ماء واحد، وابداع جميع الأجهزة الحيوانية من طعام بسيط. وكذا ((صنع الشئ الواحد من كل شئ)) كبناء لحم معين وجلد بسيط لذي حياة من مطعومات مختلفة الأجناس.. إنما هي الآية الخاصة للذات الأحدية الصمدية والختم المخصوص للسلطان الأزلي الأبدي وطغراؤه التي لا يمكن تقليدها أبدًا.

نعم إن خلق شئ من كل شئ وخلق كل شئ من شئ، إنما هو خاصية تعود إلى خالق كل شئ.. وعلامة مخصوصة للقادر على كل شئ. وأما ذلك الطلسم فهو سر حكمة الخلق الذي يُفتح بسر الإيمان.

وأما ذلك المفتاح فهو ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾  و ((يا الله)) و ﴿لاإله إلا الله.. ﴾

وأما انقلاب فم ذلك الثعبان إلى باب البستان فهو رمز إلى أن القبر هو سجن الوحشة والنسيان والإهمال والضيق، فهو كبطن الثعبان لأهل الضلالة والطغيان. ولكنه لأهل الإيمان والقرآن باب مفتوح على مصراعيه من سجن الدنيا إلى بستان البقاء، ومن ميدان الامتحان إلى روضة الجنان، ومن زحمة الحياة إلى رحمة الرحمن.. وأما انقلاب ذلك الأسد المفترس إلى حصان مسخر وإلى خادم مؤنس فهو اشارة إلى أن الموت لأهل الضلال فراق أبدي أليم من جميع الأحبة، وخروج من جنة دنيوية كاذبة إلى وحشة سجن انفرادي للقبر، وضياع في تيه سحيق، بينما هو لأهل الهداية وأهل القرآن رحلة إلى العالم الآخر، ووسيلة إلى ملاقاة الأحبة والأصدقاء القدامى، وواسطة إلى دخول الوطن الحقيقي ومنازل السعادة الأبدية، ودعوة كريمة من سجن الدنيا إلى بساتين الجنان، وانتظار لأخذ الأجرة للخدمات تفضلًا من الرحمن الرحيم، وتسريح من تكاليف الحياة واجازة من وظيفتها، واعلان الانتهاء من واجبات العبودية وامتحانات التعليم والتعليمات.

نحصل من هذا كله:

أن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقةً ومعنىً، حتى لو كان يتقلب ظاهرًا في بحبوحة النعيم.

وإن كل من كان متوجهًا إلى الحياة الباقية ويسعى لها بجد وإخلاص فهو فائز بسعادة الدارين وأهل لهما معًا حتى لو كانت دنياه سيئة وضيقة، إلا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها وهو يخوض غمار الصبر.

اللهم اجعلنا من أهل السعادة والسلامة والقرآن والإيمان .. آمين.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعدد جميع الحروفات المتشكلة في جميع الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول إلى آخر الزمان.

وارحمنا ووالدينا وارحم المؤمنين والمؤمنات بعددها برحمتك يا أرحم الراحمين آمين .. والحمد لله رب العالمين.

 

الكلمة السابعة

الكلمة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

آمنت بالله وباليوم الآخر

إن كنت ترغب أن تفهم كيف أن الإيمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان أمامها باب السعادة والهناء.. وكيف أن توكّل الإنسان على خالقه صابرًا، والرجاء من رزّاقه شاكرًا، أنفع علاجين ناجعين.. وأن الإنصات إلى القرآن الكريم، والانقياد لحكمه، وأداء الصلوات وترك الكبائر، أغلى زاد للآخرة، وأسطع نور للقبر، وأيسر تذكرة مرور في رحلة الخلود.. أجل! إن كنت تريد أن تفهم هذه الأمور كلها فأنصت معي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وقع جندي -في الحرب العالمية- في مأزق عصيب ووضع محيّر، إذ أصبح جريحًا بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله. وخلفه أسد هصور يوشك أن ينقضّ عليه. وأمامه مشنقة تبيد جميع أحبته وتنتظره أيضًا، زد على ذلك كانت أمامه رحلة نفي شاقة طويلة رغم وضعه الفظيع المؤلم!.. وبينما كان هذا المسكين المبتلى مستغرقًا في تفكير يائس من واقعه المفجع هذا، إذا برجل خيّرٍ كأنه الخضر عليه السلام يتلألأ وجهه نورًا يظهر عن يمينه ويخاطبه:

– لا تيأس ولا تقنط. سأعلمك طلسمين اثنين، إن أحسنتَ استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرسًا أمينًا مسخرًا لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة أرجوحة مريحة لطيفة تأنس بها.. وسأناولك دواءين اثنين، إن احسنت استعمالهما يصيّران جرحيك المنتنين زهرتين شذّيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها أن تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد كأنك تطير!! وإن لم تصدّق بما أقول فجرّبه مرة، وتيقنّ من صحته وصدقه… فجرَّب الجندي شيئًا منه، فرآه صدقًا وصوابًا.

نعم، وأنا كذلك -هذا المسكين سعيد- أصدّقه، لأنني جربته قليلًا، فرأيته صدقًا وحقًا خالصًا.

ثم، على حين غرة رأى رجلًا لعوبًا دساسًا -كأنه الشيطان- يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة، وصور جذابة، ومُسْكرات مغرية، ووقف قبالته يدعوه:

– إليّ اإليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهُ معًا ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الأغاني ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة.. ولكن يا هذا! ما هذه التمتمة التي ترددها؟!

– إنه طلسم ولغز!

– دع عنك هذا الشئ الغامض، فلا تعكّر صفو لذتنا، وأُنسَ نشوتنا الحاضرة.. يا هذا… وما ذلك بيدك؟

– إنه دواء!

– إرمه بعيدًا، إنك سالم صحيح ما بك شئ، ونحن في ساعة طرب وأُنس ومتعة. وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟

– إنها تذكرة سفر، وأمر إداري للتوظيف!

– مزّقها، فلسنا بحاجة إلى سفر في هذا الربيع الزاهي!

وهكذا حاول بكل مكر وخديعة أن يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئًا قليلًا إلى كلامه.

نعم، إن الإنسان ينخدع، ولقد خُدعت أنا كذلك لمثل هذا الماكر!

وفجأة دوّى صوت كالرعد عن يمينه يحذّره:

– إياك أن تنخدع.. قل لذلك الماكر الخبيث:

إن كنت تستطيع قتل الأسد الرابض خلفي، وأن ترفع أعواد المشنقة من أمامي، وأن تبرأني من جرحيّ الغائرين في يميني وشمالي، وأن تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة.. نعم إن كنت تقدر على إيجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك أن تدعوني إلى اللهو والطرب، وإلاّ فاسكت أيها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي -الشبيه بالخضر- ليقول ما يروم.

فيا نفسي الباكية على ما ضحكتْ أيام شبابها. اعلمي! إن ذلك الجندي المسكين المتورط هو أنتِ، وهو الإنسان.. وأن ذلك الأسد هو الأجل.. وأن أعواد المشنقة تلك هي الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس.. ألا تَرَين كيف يفارقنا كل حبيب إثر حبيب ويودعنا ليل نهار.. أما الجرحان العميقان، فأحدهما: العجز البشري المزعج الذي لا حدّ له. والآخر: هو الفقر الإنساني المؤلم الذي لا نهاية له.. أما ذلك النفي والسفر المديد فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الإنسان، التي تنطلق من عالم الأرواح مارةً من رحم الأم ومن الطفولة والصِبا ثم من الشيخوخة ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ ومن الحشر والصراط.. وأما الطلسمان فهما الإيمان بالله وباليوم الآخر. نعم إن الموت بهذا الطلسم القدسي يلبس صورة فرس مسخّر بدلًا عن الأسد، بل يتخذ صورة بُراق يُخرج الإنسان المؤمن من سجن الدنيا إلى روضة الجنان، إلى روضة الرحمن ذي الجلال. ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبّون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته. ثم إن سير الزمان ومروره على كل شيء ونفوذ الزوال والفراق والموت والوفاة فيه يتخذ بهذا الطلسم الإيماني صورةً وضّاءة حيث تحفِز الإنسان إلى رؤية الجِدَّة بتجدد كل شئ، بل يكون مبعث التأمل في ألوان مختلفة متنوعة وأنواع متباينة لمعجزات إبداع الخالق ذي الجلال وخوارق قدرته، وتجليات رحمته سبحانه ومشاهدتها باستمتاع وبهجة كاملين. بمثل ما يضفي تبدل المرايا العاكسة لألوان نور الشمس، وتغيّر الصور في شاشة السينما من جمال وروعة إلى تكون المناظر الجذابة وتشكلها.

أما ذانك العلاجان.

فأحدهما: التوكل على الله والتحلي بالصبر، أي الاستناد إلى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته سبحانه.

– أهو كذلك؟

نعم، إن من يعتمد بهوية «عجزه» على سلطان الكون الذي بيده أمر ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ كيف يجزع ويضطرب؟ بل يثبت أمام أشد المصائب، واثقًا بالله ربه، مطمئن البال مرتاح القلب وهو يردد: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

نعم، إن العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقًا إن في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما أطيب حالاتك وألذها؟ فربما يكون جوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علمًا أن رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي إلاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة.

ومن هنا وجد الذين كَمُل إيمانُهم لذة تفوق أية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى إنهم تبرأوا إلى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم إليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل.

أما العلاج الآخر فهو: الدعاء والسؤال ثم القناعة بالعطاء، والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الرحيم.

– أهو هكذا؟

نعم! إن من كان ضيفًا لدى الذي فَرَش له وجه الأرض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة أنيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، إن مَن كان ضيفًا عند هذا الجواد الكريم جلَّ وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلمًا وثقيلًا؟. بل يتخذ فقره وفاقته إليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم. فيسعى إلى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر إلى الله تعالى.. «واياك أن تظن خلاف ما نقصد بالفقر؛ إنه استشعار الإنسان بالفقر إليه سبحانه والتضرع إليه وحده والسؤال منه، وليس المقصود إظهار الفقر إلى الناس والتذلل لهم والسؤال منهم بالتسول والاستجداء!».

أما ذلك المستند أو الأمر الإداري أو البطاقة فهو أداء الفرائض وفي مقدمتها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر.

– أهو هكذا؟

نعم! إن جميع أهل الاختصاص والشهود وجميع أهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والأولياء الصالحين متفقون على أن زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه،وإلاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئًا في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الأضواء عند باب القبر.

فيا نفسي الكسول! ما أخفّ أداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها أمام عِظَم فوائدها وثمراتها وضرورتها! إن كنتِ فطنة تفهمين ذلك. ألا قولي لمن يدعوكِ إلى الفسق واللهو والسفاهة، وإلى ذلك الشيطان الخبيث الماكر:

لو كانت لديك وسيلة لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر إلى الأبد، فهاتها إذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فإن القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت إليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطبًا بذكره وتلاوته.

نعم! إن الكلام كلامه. فهو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة.

اللّهم نوِّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن. اللهم أغنِنا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، تبرأنا إليك مِن حولنا وقوتنا والتجأنا إلى حولك وقوتك فاجعلنا من المتوكلين عليك ولا تكِلْنا إلى أنفسنا واحفظنا بحفظك وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

وصلِّ وسلم على سيّدنا محمد عبدك ونبيك وصفيك وخليلك وجمال ملكك ومليك صنعك وعين عنايتك وشمس هدايتك ولسان محبتك ومثال رحمتك ونور خلقك وشرف موجوداتك وسراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك وكاشف طلسم كائناتك ودلاّل سلطنة ربوبيتك ومبلّغ مرضياتك ومعرّف كنوز أسمائك ومعلم عبادك وترجمان آياتك ومرآة جمال ربوبيتك ومدار شهودك وإشهادك وحبيبك ورسولك الذي أرسلته رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ملائكتك المقربين وعلى عبادك الصالحين… آمين .