خاتمة

خاتمة

أعتقد أن البحث يظل ناقصًا إن لم أوجه بضع كلمات إلى مُواطنيّ وإخواني.

يا أبناء وطني وإخواني! يا أحفاد الجنود الأشاوس لجيوش آسيا البسلاء للقرون الماضية، كفاكم نومًا لخمسمائة سنة. تيقظوا فلقد أذن الصباح. وإلّا فستنهبكم الغفلة وأنتم تغطون في نوم عميق في صحراء الجهل القاحلة.

إن الحكمة الإلهية التي هي نظام العالم والمؤسِّسة للقانون الإلهي النوراني الساري في أرجاء العالم كله قد رَفعت إصبع القدر منذ الأزل تأمركم: حافِظوا على الموازنة العامة، بتوحيدِ ومزجِ حميتكم وقوتكم الضائعتين بالتفرقة -ضياعَ قطرات الماء المتناثرة- بالفكر الملي، أي الملة الإسلامية، مكوِّنين بذلك جاذبةً وطنية عظيمة من جاذبات الذرات الجزئية. فتنجذب هذه الكتلة العظيمة وتدور كالكوكب المنير في موكب الجماهير المتحدة الإسلامية الممثلة لشوكة شمس الإسلام العظيم.

ثـم إن الحرية الشرعية التي هي حقيقة اجتماعية قـد انتصبت على ذرى المسـتقبل شامخة شموخ جبل سـبحان و آرارات، هذه الحرية المسـتندة إلى الشـريعة تحذركم من الانصياع إلى النفس الأمارة بالسوء ومن التجاوز على الآخرين. وإنها لتهتف بكم وبأمثالكم من الغافلين المتفرقين في أودية الماضي السحيقة: أنْ اهجموا على الجهل والفقر بالعلم والصنعة.

ثم إن الحاجة التي هي أم المدنية وأم الاختراع والرقي قد رفعت يدها لتنزلها عليكم صفعة، فتأمركم: إما أن تعطوا حياة حريتكم في صحراء الجهل هذه إلى الناهبين أو عليكم أن تهرعوا إلى كعبة الكمالات بركوبكم منطاد العلم وقطار الصنعة في ميدان المدنية لاستقبال المستقبل الزاهر مستردين أموال الاتفاق التي اغتصبها الأجنبي.

ثم إن الملية الإسلامية التي نَصبت خيمتها في وديان الماضي وصحارى الحاضر وشـواهق المستقبل واستظل بها أجدادكم من أمثال صلاح الدين الأيوبي وجلال الدين خوارزم شاه والسـلطان سليم وخير الدين بارباروس ورستم زال وما شابههم من القواد الدهـاة الذيـن تشرف كلٌ بمنزلة الآخر فعاشـوا معًا كعائلة واحدة.. هذه الملية الإسلامية وهي مثال الحياة الرفيعة.. تأمركم أمرًا جازمًا:

بأنّ على كل واحد منكم أن يكون مرآة عاكسة للإسلام وحامي ذماره، ومثالًا مشخَّصًا للأمة الإسلامية، إذ الهمة تتعالى بعلو المقصد، والأخلاقُ تتسامى وتتكامل بغليان الحمية الإسلامية.

ثم إن المشروطية المشروعة التي هي سبب من أسباب سعادة البشر الدنيوية نجّت الإرادة الجزئية التي هي القوة الدافعة لماكنة الحياة، من تسلط الاستبداد بضمانها سيادة الأمة. هذه المشروطية التي اختمرت بخميرة الشورى الشرعية تدعوكم إلى الاختبار والامتحان، وتريد أن تراكم أنكم قد بلغتم سن الرشد فلا تحتاجون إلى وصاية، فهيئوا أنفسكم للامتحان. وأثبتوا وجودكم بالاتحاد، وبينوا لها أن فكركم ووجدانكم الشخصيَيْنِ هما كقلب الأمة وعقلها المشترك بالحمية الدينية الملية. وبخلافه ستلغي أمركم ولا تمنحكم شهادة الحرية.

نعم، إن الاضطرابات التي حدثت فيما بينكم في صحارى الماضي من جراء ما يحمله كل منكم من حب السيادة والأنانية والفكر الشخصي ستنقلب -بإذن الله- إلى فكر الإيجاد والسعي الدؤوب ومفهوم الحرية. بل أستطيع أن أقول: يا مواطني في الولايات الشرقية: إن مدارسكم الصاخبة أشبه ما تكون بالبرلمان العلمي لكثرة ما فيها من مناقشات بالنسبة للمدارس الهادئة الأخرى.

ثم أنتم شافعيون، فقراءتكم خلف الأمام، وفطرتكم وأصول مدرستكم تدفعكم إلى السعي والمحاولة الشخصية، كما قال تعالى: ﴿وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى (النجم:39).

ثم إن الجسارة وشرف الأمة الإسلامية وعزتها -وهي أساس كل كمال وحاميه- تأمركم قائلة: مثلما ترقيتم في مضمار الشجاعة المادية بتعلمكم العلوم والمعرفة من كتابات سيوفكم وفتحتم مجرىً من الدماغ إلى القلب مزجًا العقل بالقوة، فافتحوا الآن منفذًا من القلب إلى الفكر، وابعثوا القوة مددًا للعقل، وأرسلوا العواطف ظهيرًا للفكر، لئلا تنهب شرف الأمة الإسلامية في ميدان المدنية. اجعلوا سيوفكم من جواهر العلم والصنعة والتساند الذي يأمركم به القرآن الكريم.

سعيد النُّورْسِيّ

المقدمة

المحكمة العسكرية العرفية

أو

شهادة مدرستي المصيبة

«التي طبعت سنة (1908م)»


باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

المقدمة

حينما كانت «الحرية» قرينةَ الجنون، جَعَلَ الاستبدادُ الضعيف مستشفى المجاذيب مدرسةً لي.

وحينما كانت العدالة والاستقامة التبستا مع الرجعية، صيّر الاستبداد الشديد في المشروطية السجنَ مدرسةً لي.

فيا أيها المحترَمون الناظرون إليّ لشهادتي هذه! أرجو أن تبعثوا أرواحكم وخيالكم ضيوفًا إلى ذهنِ طالب بدوي عصبي المزاج وإلى جسده، وهو يكابد الاضطراب وقد انخرط حديثًا في المدنية، وذلك لئلا تقعوا في خطأِ تخطئةِ الآخرين.

لقد قلت في المحكمة العسكرية العرفية في أثناء حادثة (31) مارت:

إنني طالب شريعة، لذا أزن كل شيء بميزان الشريعة. فالإسلام وحده هو ملّتي، لذا أُقيّم كلَّ شيء وأنظر إليه بمنظار الإسلام.

وإنني إذ أقف على مشارفِ عالم البرزخ الذي تدعونه: «السجن» منتظِرًا في محطة الإعدام، القطارَ الذي يقلّني إلى الآخرة أشجب وأنقد ما يجري في المجتمع البشري من أحوال ظالمة غدارة. فخطابي ليس موجهًا إليكم وحدكم وإنما أُوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر. فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَٓائِرُ (الطارق:9)… فمن كان أجنبيًا غير محرَم فلا ينظر إليها. إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة، ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق. تصوروا مبلغ اشتياقي إليها بهذا المثال:

قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب إسطنبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق إليها؟

فأنا الآن مثل ذلك القروي، مشتاق إلى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.

لذا فإن إبعادي ونفيي إلى هناك لا يُعدّ عقابًا لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وإيقاعُ العقاب عليّ فعذِّبوني وجدانًا، فما دونه ليس عذابًا ولا عقابًا بل فخرًا وشرفًا.

لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد، إلّا أنها الآن تعادي الحياة بأكملها؛ فإن كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق، فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.

لقد كنت آمل أن يُهَيَّأَ لي موضعٌ لأبيّن فيه أفكاري، وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث منها أفكاري.

في الأيام الأولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري:

«وأنت أيضًا قد طالبت بالشريعة»!

قلت: لو كان لي ألف روح، لكنت مستعدًا لأن أضحي بها في سبيلِ حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، إذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. أقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون.

وقالوا كذلك: هل انضممت إلى «الاتحاد المحمدي؟

قلت: نعم، بكل فخر واعتزاز! أنا من أصغر أعضائه، ولكن بالوجه الذي أعرّفه. أروني أحدًا خارج ذلك الاتحاد من غير الملحدين.

وهكذا فأنا أنشر اليوم ذلك الخطاب لأنقذ المشروطية من التلوث، وأنجيَ أهل الشريعة من اليأس، وأخلّصَ أبناء العصر من وصم الجهل والجنون بهم في نظر التاريخ، وأنتشل الحقيقة من الأوهام والشبهات.

فها أنا أبدأ بخطابي.

أيها القادة! أيها الضباط!

إن خلاصة جناياتي التي اقتضت سجني هي:

[ إذا محاسني اللاتي أدلّ بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟ ].

وفي البداية أقول:

إن الشريف لا يتنازل لارتكاب جريمة، وإن اتُّهم بها لا يخاف من الجزاء والعقاب؛ فلئن أُعدمتُ ظلمًا فإني أغنم ثواب شهيدين معًا، وإن لبثت في السجن فهو بلا ريب أفضل مكان في ظل هذه الحكومة الظالمة التي ليس فيها من الحرية إلّا لفظها؛ فالموت مظلومًا هو خير من العيش ظالمًا.

وأقول كذلك: إن بعضًا ممن جعلوا السياسة أداة للإلحاد، يتهمون الآخرين بالرجعية أو باستغلال الدين لأجل السياسة ليستروا على سيئاتهم وجرائمهم.

إن عيون السلطة وجواسيسها أشد قساوة من سابقيهم، فكيف يوثق بهم ويعتمد عليهم، وكيف تبنى العدالة على أقوالهم؟

فضلًا عن أن الإنسان، إذ لا يسلَم من تقصير ونقص، بينما تراه يتحرى العدالة يقع في الظلم بالجبن والخب. ولكنّ جمعَ تقصيراتٍ متفرقة وقعت في مدة مديدة ومِن تصرفِ أشخاص كثيرين -والتي يمكن تفاديها بما يتخللها من محاسن- وتوهّمَ صدورها من شخص واحد في وقت واحد، يجعل ذلك الشخص مستحقًا لعقاب شديد. بينما هذا الأمر بحد ذاته ظلم عظيم.