الكلمة الرابعة

الكلمة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

«الصلاة عماد الدين»

إن كنت تريد أن تعرف أهمية الصلاة وقيمتها، وكم هو يسير نيلها وزهيد كسبها، وأن من لا يقيمها ولا يؤدي حقها أبله خاسر.. نعم! إن كنت تريد أن تعرف ذلك كله بيقين تام -كحاصل ضرب الإثنين في اثنين يساوي أربعًا- فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

يُرسل حاكمٌ عظيم -ذات يوم- إثنين من خَدَمه إلى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كلًا منهما أربعًا وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول إلى المزرعة التي هي على بُعد شهرين.. ويأمرهما: «أنفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، واقتنيا ما يلزمكما هناك من لوزام السكن والإقامة.. هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد، توجد فيها جميع أنواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار.. ولكلٍ ثمنه».

يخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر.. كان أحدهما سعيدًا محظوظًا، إذ صرف شيئًا يسيرًا مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيدُه، فارتفع رأس ماله من الواحد إلى الألف.

أما الخادم الآخر، فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثًا وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة..

خاطبه صاحبه:

-يا هذا.. اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيّعها كذلك، فسيدُنا كريمٌ رحيمٌ، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معًا محل إقامتنا في يوم واحد. فإن لم تفعل ما أقوله لك فستضطر إلى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشيًا على الأقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وأنت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة.

تُرى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلًا من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنزٍ له. ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقًا.. ألا يُدرك هذا أغبى إنسان؟

فيا من لا يؤدي الصلاة! ويا نفسي المتضايقة منها!

إن ذلك الحاكم هو ربُّنا وخالقنا جلّ وعلا..

أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتديّن الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل التارك للصلاة..

وأما تلك الليرات الذهبية الأربعة والعشرون فهي الأربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر..

وأما ذلك البستان الخاص فهو الجنة..

وأما تلك المحطة فهي القبر..

وأما تلك السياحة والسفر الطويل فهي رحلة البشر السائرة نحو القبر والماضية إلى الحشر والمنطلقة إلى دار الخلود. فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة، كلٌ حسب عمله ومدى تقواه، فقسم من المتقين يقطعون في يوم واحد مسافة ألف سنة كأنهم البرق، وقسم منهم يقطعون في يوم واحد مسافة خمسين ألف سنة كأنهم الخيال. وقد أشار القرآن العظيم إلى هذه الحقيقة في آيتين كريمتين..

أما تلك التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمسُ صلوات مع وضوئها أكثر من ساعة!

فيا خسارة مَن يصرف ثلاثًا وعشرين من ساعاته على هذه الحياة الدنيا القصيرة ولا يصرف ساعةً واحدة على تلك الحياة الأبدية المديدة!. ويا له من ظالم لنفسه مبين! ويا له من أحمق أبله!

لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمنًا لقمار اليانصيب -الذي يشترك فيه أكثر من ألف شخص- يعدّ أمرًا معقولًا، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحدٍ من اربعة وعشرين مما يملكه، في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، باحتمال تسع وتسعين من مائة.. ألا يُعدّ هذا العمل خلافًا للعقل، ومجانبًا للحكمة.. ألا يدرك ذلك كلُّ من يعدّ نفسه عاقلًا؟

إن الصلاة بذاتها راحة كبرى للروح والقلب والعقل معًا. فضلًا عن أنها ليست عملًا مرهقًا للجسم. وفوق ذلك فإن سائر أعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله، وذلك بالنية الصالحة.. فيستطيع إذن أن يحوّل المصلي جميع رأس مال عمره إلى الآخرة، فيكسب عمرًا خالدًا بعمره الفاني.

 

الكلمة الثالثة

الكلمة الثالثة 

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا..﴾ (البقرة: 21)

إن كنت تريد أن تفهم كيف أن العبادة تجارة عظمى وسعادة كبرى، وأن الفسق والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقق، فانظر إلى هـذه الحكاية التمثيليـة وانصت اليها:

تسلَّم جنديان اثنان -ذات يوم- أمرًا بالذهاب إلى مدينة بعيدة، فسافرا معًا، إلى أن وصلا مفرق طريقين، فوجدا هناك رجلًا يقول لهما:

«إن هذا الطريق الأيمن، مع عدم وجود الـضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسلكونه الراحة والاطمئنان والربح مضمونًا بنسبة تسعة من عشرة. أما الطريق الأيسر، فمع كونه عديم النفع يتضرر تسعة من عشرة من عابريه. علمًا أن كليهما في الطول سواء، مع فرق واحد فقط، هو أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيسر -غير المرتبط بنظامٍ وحكومة- يمضي بلا حقيبة متاع ولا سلاح، فيجد في نفسه خفَّة ظاهرة وراحة موهومة. غير أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيمن -المنتظم تحت شرف الجندية- مضطر لحمل حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع أوقيات وسلاحًا حكوميًا يزن اوقيتين يستطيع أن يغلب به كل عدو».

وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الأيمن، ومضى في دربه حاملًا على ظهره وكتفه رطلًا من الأثقال إلا أن قلبه وروحه قد تخلّصا من آلاف الأرطال من ثقل المنَّة والخوف.

بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الأرطال من المنَّ والأذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد. فمضى في سبيله مستجديًا كل شخص، وجلًا مرتعشًا من كل شئ، خائفًا من كل حادثة، إلى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه.

أما المسافر المتوجه نحو الطريق الأيمن -ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه- فقد سار منطلقًا مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت إلى منَّة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد.. إلى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابَه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى.

فيا أيتها النفس السادرة السارحة!

اعلمي أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للأهواء..

وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الأرواح ويمر من القبر المؤدي إلى عالم الآخرة..

وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهرًا إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لأن العابد يقول في صلاته: «لا إله إلا الله» أي لا خالق ولا رازق إلا هو، النفع والـضر بيده، وإنه حكيم لا يعمل عبثًا كما أنه رحيم واسع الرحمة والاحسان.

فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئٍ بابًا ينفتح إلى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء إليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستندًا إلى التوكل، فيمنحه إيمانه هذا الأمان التام والاطمئنان الكامل.

نعم! إن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الإيمان والعبودية، وأن منبع الجبُن ككل السيئات هو الضلالة والسفاهة.

فلو أصبحت الكرة الأرضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابدًا لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها بإعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفًا -ممن يُعدّ ذا عقل راجح- اذا رأى في الفضاء نجمًا مذنبًا يعتوره الخوف ويرتعش هلعًا ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الأوهام (لقد ارتعد الأمريكان يومًا من نجم مذنب ظهر في السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل).

نعم! رغم أن حاجات الإنسان تمتد إلى ما لا نهاية له من الأشياء، فرأس ماله في حُكم المعدوم. ورغم أنه معرَّض إلى ما لانهاية له من المصائب فاقتداره كذلك في حكم لا شئ، إذ إن مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل إليه يده، بينما دوائر آماله ورغائبه وآلامه وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال.

فما أحوج روح البشر العاجزة الـضعيفة الفقيرة إلى حقائق العبادة والتوكل، وإلى التوحيد والاستسلام! وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة! فمن لم يفقد بصره كليًا يرى ذلك ويدركه. إذ من المعلوم أن الطريق غير الـضار يُرجَّح على الطريق الـضار حتى لو كان النفع فيه احتمالًا واحدًا من عشرة احتمالات. علمًا أن مسألتنا هذه، طريق العبادة، فمع كونه عديم الـضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فإنه يعطينا كنزًا للسعادة الأبدية، بينما طريق الفسق والسفاهة – باعتراف الفاسق نفسه – فمع كونه عديم النفع فإنه سبب الشقاء والهلاك الأبديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة من عشرة… وهذا الأمر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (أهل الاختصاص والإثبات) بدرجة التواتر والاجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف.

نحصل من هذا: أن سعادة الدنيا أيضًا -كالآخرة- هي في العبادة وفي الجندية الخالصة لله.

فعلينا إذن أن نردد دائمًا: الحمد لله على الطاعة والتوفيق وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون.

 

الكلمة الثانية

الكلمة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

إن كنت تريد أن تعرف مدى ما في الإيمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع إلى هذه الحكاية القصيرة:

خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى أحدهما وكان أنانيًا شقيًا إلى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد إلى جهة ثانية.

فالأناني المغرور الذي كان متشائمًا لقي بلدًا في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءًا وفاقًا على تشاؤمه، حتى إنه كان يرى -أينما اتجه- عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمّرة. فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجًا لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدوًا يتربص به، واجنبيًا يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءًا يائسًا مريرًا.

أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.

فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سـرورًا، وفي كل زاويـة حبـورًا، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقًا صدوقًا وقريبًا حبيبًا له. ثم يرى أن المملكة كلها تعلن -في حفل التسريح العام- هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضًا أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون إلى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجل الأول المتشائم منشغلًا بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسرورًا مع سرور الناس كلهم فرحًا مع فرحهم. فضلًا عن أنه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.

ولدى عودته إلى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له:

ــ «يا هذا لقد جننتَ! فإن ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح وإجازة نهب وسلب. عُد إلى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وإن مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك… لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور».

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع إلى صوابه رويدًا رويدًا، ويفكر بعقله ويقول متندمًا:

ــ نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد انقذتني من جحيم الشقاء.

فيا نفسي!

اعلمي أن الرجل الأول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الأحيـاء أيتام يبكون تألمًا من ضــربات الزوال وصفعات الفراق..

أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته..

وأما الموجودات الضخام -كالجبال والبحار- فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة..

وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبها عذابًا معنويًا مريرًا.

أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الإنس والجان..

أما الوفيات كافة ـ من حيوان وإنسان – فهي اعفاء من الوظائف، وإنهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنويًا، حيث إنهم ينقلون إلى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعًا لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم..

أما المواليد كافة -من حيوان وإنسان- فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن إنما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع.. .

وأما الاصوات المنبعثة والاصداء المرتدة من أرجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل إيذانًا بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته..

فالموجودات كلها -في نظر هذا المؤمن- خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من إيمانه كثير جدًا من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق.

فالإيمان إذن يضم حقًا بذرة معنوية منشقة من طوبى الجنة..

أما الكفر فإنه يخفي بذرة معنوية قد نفثته زقوم جهنم.

فالسلامة والأمان إذن لا وجود لهما إلاّ في الإسلام والإيمان.

فعلينا أن نردد دائمًا:

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الإيمان..

 

الكلمة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الأخ!

لقد سألتني بعض النصائح، فها أنذا أسدي إليك بضع حقائق ضمن ثماني حكايات قصيرة، فاستمع إليها مع نفسي التي أراها أحوج ما تكون إلى النصيحة، وسأوردها لك بأمثلة عسكرية لكونك جنديًا، فلقد خاطبتُ بها نفسي يومًا خطابًا مسهبًا، في ثماني (كلمات) أفدتها من ثماني آيات كريمات، اذكرها الآن لنفسي ذكرًا مقتضبًا، وبلسان العوام، فمن يجد في نفسه الرغبة فليُلق السمع معنا.

الكلمة الأولى

«بسم الله» رأس كل خير وبدء كل أمر ذي بال، فنحن أيضًا نستهل بها.

فيا نفسي إعلمي! ان هذه الكلمة الطيبة المباركة كما أنها شعار الإسلام، فهي ذكر جميع الموجودات بألسنة أحوالها.

فإن كنت راغبة في إدراك مدى ما في ((بسم الله)) من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابدّ له أن ينتمي إلى رئيس قبيلة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتدارك حاجاته، وإلاّ فسيبقى وحده حائرًا مضطربًا أمام كثرة من الأعداء، ولا حد لها من الحاجات.

وهكذا.. فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان أحدهما متواضعًا، والآخر مغرورًا، فالمتواضع انتسب إلى رئيس، بينما المغرور رفض الانتساب. فتجولا في هذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له: ((إنني اتجول باسم ذلك الرئيس)).. فيتخلى عنه الشقي. أما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسوّل مستديم، فأذلّ نفسه وأهانها.

فيا نفسي المغرورة! اعلمي!.. إنك أنتِ ذلك السائح البدوي. وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وإن ((فقرك)) و ((عجزك)) لاحد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما. فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجي من ذُلّ التسول أمام الكائنات، ومهانة الخوف أمام الحادثات.

نعم! إن هذه الكلمة الطيبة ((بسم الله)) كنز عظيم لا يفنى أبدًا، إذ بها يرتبط((فقرك)) برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق ((عجزك)) بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات إلى المجرات، حتى انه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال.

ان الذي يتحرك ويسكن ويصبح ويمسي بهذه الكلمة ((بسم الله)) كمن انخرط في الجندية؛ يتصرف باسم الدولة ولا يخاف أحدًا، حيث انه يتكلم باسم القانون وباسم الدولة، فينجز الاعمال ويثبت امام كل شئ.

وقد ذكرنا في البداية: ان جميع الموجودات تذكر بلسان حالها اسم الله، اي انها تقول: ((بسم الله)).. أهو كذلك؟

نعم! فكما لو رأيت ان أحدًا يسوق الناس إلى صعيد واحد، ويرغمهم على القيام بأعمال مختلفة، فانك تتيقن ان هذا الشخص لا يمثل نفسه ولا يسوق الناس باسمه وبقوته، وانما هو جندي يتصرف باسم الدولة، ويستند إلى قوة سلطان.

فالموجودات أيضًا تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغرتحمل فوق رؤوسها باسم الله اشجارًا ضخمة واثقالًا هائلة. أي ان كل شجرة تقول: ((بسم الله)) وتملأ ايديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها إلينا.. وكل بستان يقول: ((بسم الله)) فيغدو مطبخًا للقدرة الإلهية تنضج فيه انواع من الاطعمة اللذيذة.. وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع ـ كالابل والمعزى والبقر ـ يقول: ((بسم الله)) فيصبح ينبوعًا دفاقًا للّبن السائغ، فيقدم إلينا باسم الرزاق ألطف مغذّ وانظفه.. وجذور كل نبات وعشب تقول ((بسم الله)) وتشق الصخور الصلدة باسم الله وتثقبها بشعيراتها الحريرية الرقيقة فيُسخَّر أمامها باسم الله وباسم الرحمن كل أمر صعب وكل شئ صلد!.

نعم، ان انتشار الاغصان في الهواء وحملها للأثمار، وتشعب الجذور في الصخور الصماء، وخزنها للغذاء في ظلمات التراب.. وكذا تحمّل الاوراق الخضراء شدة الحرارة ولفحاتها، وبقاءها طرية ندية.. كل ذلك وغيره صفعة قوية على افواه الماديين عَبَدة الاسباب، وصرخة مدوية في وجوههم، تقول لهم: ان ما تتباهون به من صلابة وحرارة أيضًا لا تعملان بنفسيهما، بل تـؤديان وظائفـهما بأمر آمر واحد، بحيث يجعل تلك العروق الدقيقة الرقيقة كــأنها عصا موســى تشق الصخـور وتمتثـل أمر ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ (البقرة:60) ويجعل تلك الاوراق الطرية الندية كأنها اعضاء ابراهيم عليه السلام تقرأ تجاه لفحة الحرارة: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا….﴾  (الانبياء:69).

فما دام كل شئ في الوجود يقول معنىً ((بسم الله)) ويجلب نِعَم الله باسم الله ويقدمّها إلينا، فعلينا أن نقول أيضًا ((بسم الله)) ونعطي باسم الله ونأخذ باسم الله. وعلينا أيضًا ان نردّ أيدي الغافلين الذين لم يعطوا باسم الله.

سؤال: إننا نبدي احترامًا وتوقيرًا لمن يكون سببًا لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منا ربنُّا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟

الجواب: إن ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة أمور ثمنًا لتلك النعم الغالية:

الأول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر..

فـ ((بسم الله)) بدءًا هي ذكرٌ، و((الحمد لله)) ختامًا هي شكرٌ، وما يتوسطهما هو ((فكر)) أي التأمل في هذه النعم البديعة، والإدراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصمد وهدايا رحمته الواسعة… فهذا التأمل هو الفكر.

ولكن أليس الذي يقبّل أقدام الجندي الخادم الذي يقدّم هدية السلطان يرتكب حماقة فظيعة وبلاهة مشينة؟ إذن فما بال مَن يُثني على الأسباب المادية الجالبة للنعم، ويخصصها بالحب والود، دون المنعم الحقيقي! ألا يكون مقترفًا بلاهة أشد منها ألف مرة؟

فيا نفس!! إن كنت تأبين أن تكوني مثل الأحمق الأبله،

فاعطي باسم الله..

وخذي باسم الله..

وابدأي باسم الله..

واعملي باسم الله..

والسـلام.

(حاشية) وضع الأستاذ المؤلف ((المقام الثاني من اللمعة الرابعة عشرة)) عقب هذه الكلمة الأولى، لمناسبة المقام حبث يضم ستة من اسرار ((بسم الله الرحمن الرحيم)). وسيجده القارئ الكريم في موضعه من كتاب ((اللمعات)) فليراجع . ـ المترجم .