ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(ﻫﻮﺩ:١)

ﺳﻨﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻧﻈﺎﺋﺮ ﻗﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻟﻠﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ، ﻭﻟﻤﻔﺴّﺮﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺳُﻠّﻢٍ ﻟﻠﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ، ﻟﻜﻲ ﺗُﺴﻌِﻒ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻘﺼﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻭﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ. ﻭﻓﻲ ﺧﺎﺗﻤﺔ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺳﻴُﺒﻴَّﻦ ﺩﺭﺱ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ ﻭﺳﺮّ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ.

ﻭﻧﻜﺘﻔﻲ ﻫﻨﺎ ﺑﺬﻛﺮ ﻧﻤﺎﺫﺝَ ﻟﺨﻤﺲ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻓﺤﺴﺐ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﺋﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﺺ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻗﺪ ﺫُﻛﺮﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮﺓ ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻭلا ﺩﺍﻋﻲ ﻟﻠﺘﻜﺮﺍﺭ.

      ﺃﻭلاﻫﺎ: ﻣﺜﺎﻝ:ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:54)

ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻥّ ﺩﻧﻴﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻋﺎﻟﻢَ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ ﻳﻌﻴﺸﺎﻥ ﺳﺘﺔ ﺃﻳﺎﻡ ﻣﻦ ﺍلأﻳﺎﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺯﻣﻦ ﻣﺪﻳﺪ ﻭﻟﺮﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﺄﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﺃﻭ ﻛﺨﻤﺴﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﺳﻨﺔ. ﻓـلأﺟﻞ ﺍلإﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ ﻭﺍلاﻗﺘﻨﺎﻉ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻧﺒﻴﻦ ﻟـلأﻧﻈﺎﺭ ﻣﺎ ﻳﺨﻠﻘﻪ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻋﻮﺍﻟﻢ ﺳﻴّﺎﻟﺔ ﻭﻛﺎﺋﻨﺎﺕ ﺳﻴّﺎﺭﺓ ﻭﺩُﻧﻰً ﻋﺎﺑﺮﺓ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺳﻨﺔ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ، ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺑﺤﻜﻢ ﻳﻮﻡ ﻭﺍﺣﺪ.

ﺣﻘﺎ، ﻛﺄﻥّ ﺍﻟﺪُّﻧﻰ ﺿﻴﻮﻑ ﻋﺎﺑﺮﺓ ﺃﻳﻀﺎ ﻛﺎﻟﻨﺎﺱ. ﻓﻴﻤﺘﻠﺊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻛﻞَّ ﻣﻮﺳﻢ ﻭﻳُﺨﻠﻰ.

      ﺛﺎﻧﻴﺘﻬﺎ: ﻣﺜﺎﻝ: ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (ﺍلأﻧﻌﺎﻡ:59) ﴿ﻭَﻛُﻞَّ ﺷَﻲْﺀٍ ﺃﺣْﺼَﻴْﻨَﺎﻩُ ﻓِﻲ ﺇِﻣَﺎﻡٍ ﻣُﺒِﻴﻦٍ﴾ (ﻳﺲ:12) ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (ﺳﺒﺄ:3) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺟﻤﻴﻌَﻬﺎ ﻭﺑﺄﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﻛﻠِّﻬﺎ، ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ، ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﻭﺑﻌﺪ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻭﺑﻌﺪ ﺫﻫﺎﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ.

ﻧﺒﻴّﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﻟﻴﺼﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ: ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﺭﺉ ﺍﻟﻤﺼﻮﺭ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳُﺪﺭﺝ ﻓﻬﺎﺭﺱ ﻭﺟﻮﺩِ ﻣﺎ لا ﻳﺤﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﺴﻘﺔ ﻭﺗﻮﺍﺭﻳﺦ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﻭﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﺎ، ﻳُﺪﺭﺟﻬﺎ ﺩﺭﺟﺎ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﻣﺤﺎﻓﻈﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺑﺬﻭﺭ ﻭﻧﻮﻯً ﻭﺃﺻﻮﻝِ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﺒﺪﻳﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ، ﻋﻠﻰ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻛﺎﻓﺔ، ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ. ﻛﻤﺎ ﺃﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪُ ﻳﺪﺭﺟﻬﺎ ﺑﻘﻠﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻧﻔﺴِﻪ ﺩَﺭْﺟﺎ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﺑﻌﺪ ﺯﻭﺍﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻓﻲ ﺛﻤﺮﺍﺗﻬﺎ ﻭﻓﻲ ﺑُﺬﻳﺮﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﺪﻗﻴﻘﺔ، ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳﻜﺘﺐ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺭﻃﺐ ﻭﻳﺎﺑﺲ ﻣﻦ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﻲ ﺑﺬﻭﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩﺓ ﺍﻟﺼﻠﺒﺔ ﻛﺘﺎﺑﺔً ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ. ﺣﺘﻰ ﻟﻜﺄﻥّ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺯﻫﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻖ ﻭﺍلإﺑﺪﺍﻉ، ﺗﻀﻌﻬﺎ ﻳﺪُ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺎﻣﺔ ﺍلأﺭﺽ ﺛﻢ ﻳﻘﻄﻔﻬﺎ ﻣﻨﻬﺎ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﻫﺬﻩ؛ ﺃﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻀﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺃﻋﺠﺐَ ﺿـلاﻟﺔ، ﻭﻫﻲ ﺇﻃـلاﻗﻪ ﺇﺳﻢ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﻠﺔ ﺍﻟﻤﺴﻄّﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍلأﺭﺽ ﻛﺎﻓﺔً ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﻟﺘﺠﻞٍّ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﻣﺎ ﺳُﻄّﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻮﺡ ﺍﻟﻤﺤﻔﻮﻅ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﻗﻠﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺍلإﻟﻬﻲ  ﺃﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﺃﻧّﻬﺎ ﻣﺆﺛﺮﺓ ﻭﻣﺼﺪﺭ ﻓﺎﻋﻞ؟

  ﺃﻳﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﻈﻨﻪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ؟ ﺃﻳﻦ ﺍﻟﺜَّﺮﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﺮﻳﺎ؟ 

    ﺛﺎﻟﺜﺘﻬﺎ:

ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺨﺒﺮ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺻﻮّﺭ -ﻣﺜـلا- ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﺍﻟﻤﻮﻛَّﻠﻴﻦ ﺑﺤﻤﻞ ﺍﻟﻌﺮﺵ، ﻭﻛﺬﺍ ﺣﻤَﻠﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، ﺃﻭ ﻣـلاﺋﻜﺔ ﺁﺧﺮﻳﻦ، ﺑﺄﻥّ ﻟِﻠﻤَﻠَﻚ ﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒَ ﺭﺃﺱ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﺃﺱ ﺃﺭﺑﻌﻮﻥ ﺃﻟﻒَ ﻟﺴﺎﻥ، ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ ﻳﺴﺒّﺢ ﺑﺄﺭﺑﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﺎﺕ. ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻓﻲ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍلأﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻭﻛﻠﻴﺘﻬﺎ ﻭﺷﻤﻮﻟﻬﺎ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ، ﻓـلأﺟﻞ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻧﺒﻴّﻦُ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻭﻧﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺪﺑّﺮ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﻫﻲ:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (ﺍلإﺳﺮﺍﺀ:٤٤) ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ (ﺹ:18) ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ..﴾ (ﺍلأﺣﺰﺍﺏ:72) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺮّﺡ ﺃﻥّ لأﺿﺨﻢ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﺃﻛﺜَﺮﻫﺎ ﺳَﻌﺔً ﻭﺷﻤﻮلا ﺗﺴﺒﻴﺤﺎ ﺧﺎﺻﺎ ﻣﻨﺴﺠﻤﺎ ﻣﻊ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﻭﻛﻠﻴﺘﻪ، ﻭﺍلأﻣﺮ ﻭﺍﺿﺢ ﻭﻣﺸﺎﻫﺪ؛ ﺇﺫ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕُ ﺍﻟﺸﺎﺳﻌﺔ ﻣﺴﺒّﺤﺔ ﻟﻠﻪ، ﻭﻛﻠﻤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺸﻤﻮﺱ ﻭﺍلأﻗﻤﺎﺭ ﻭﺍﻟﻨﺠﻮﻡ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺓ ﻓﻲ ﺟﻮِّ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﺴﺒّﺤﺔ ﺣﺎﻣﺪﺓ ﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻟﻔﺎﻇُﻬﺎ ﺍﻟﺘﺤﻤﻴﺪﻳﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻭﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍلأﺷﺠﺎﺭ.

ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻟﻜﻞ ﺷﺠﺮﺓ ﻭﻟﻜﻞ ﻧﺠﻢ، ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻪ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻪ، ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺃﻥّ ﻟـلأﺭﺽ ﺑِﺮُﻣَّﺘﻬﺎ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﺎ. ﻓﻬﻲ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻠﻴﺔ ﺗﻀﻢ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻞِّ ﺟﺰﺀٍ ﻭﻗﻄﻌﺔٍ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻞ ﻛﻞِّ ﻭﺍﺩٍ ﻭﺟﺒﻞٍ ﻭﻛﻞ ﺑﺤﺮٍ ﻭﺑﺮٍ ﻓﻴﻬﺎ. ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﻟـلأﺭﺽ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗِﻬﺎ ﺑﺄﺟﺰﺍﺋﻬﺎ ﻭﻛﻠﻴﺘﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻠﺴﻤﺎﻭﺍﺕِ ﻭﺍلأﺑﺮﺍﺝِ ﻭﺍلأﻓـلاﻙِ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﺃﻟﻮﻑُ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ، ﻭﻣﺌﺎﺕُ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍلأﻟﺴﻨﺔ ﻟﻜﻞِّ ﺭﺃﺱ، لاﺷﻚ ﺃﻥّ ﻟﻬﺎ ﻣَﻠَﻜﺎ ﻣُﻮﻛـلا ﺑﻬﺎ ﻳﻨﺎﺳﺒﻬﺎ، ﻳﺘﺮﺟﻢ ﺃﺯﺍﻫﻴﺮَ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ ﻭﺛﻤﺮﺍﺕِ ﺗﺤﻤﻴﺪﺍﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒِ ﻧَﻤَﻂٍ ﻣﻦ ﺃﻧﻤﺎﻁ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﻭﺍﻟﺘﺤﻤﻴﺪ، ﻳﺘﺮﺟﻤﻬﺎ ﻭﻳﺒﻴّﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ، ﻭﻳﻤﺜﻠﻬﺎ ﻭﻳﻌﻠﻦ ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ. ﺇﺫ ﻟﻮ ﺩﺧﻠﺖ ﺃﺷﻴﺎﺀ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺃﻭ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ، ﻟﺘﺸﻜﻠﺖْ ﻟﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ، ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻣﺘﺰﺟﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻭﺍﺗﺤﺪﺕ، ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ، ﻭﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ، ﻭَﻣَﻠَﻚ ﻣُﻮﻛﻞ ﻳﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﻴﺔ.

ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻣﺜـلا  ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﻤﻨﺘﺼﺒﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﻏﺮﻓﺘﻨﺎ، ﻭﻫﻲ ﺷﺠﺮﺓ ﺍﻟﺪُّﻟﺐ ﺫﺍﺕ ﺍلأﻏﺼﺎﻥ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻳﻨﻄﻖ ﺑﻬﺎ ﻟﺴﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﻓﻢ (ﺑﺎﺭلا) ﺃلا ﺗَﺮﻯ ﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺃﻟﺴﻨﺔ ﺍلأﻏﺼﺎﻥ ﻟﻜﻞ ﺭﺃﺱ ﻣﻦ ﺭﺅﻭﺱ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ، ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺛﻤﺮﺍﺕ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺯﻭﻧﺔ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻤﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ؟ ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺣﺮﻭﻑ ﺍﻟﺒُﺬﻳﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺠﻨﺤﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺛﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ؟ ﺃلا ﻳﺴﺒّﺢ ﻛﻞّ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ ﻭﺍلأﻟﺴﻨﺔ ﻟﻤﺎﻟﻚ ﺍﻟﻤُﻠْﻚِ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻪ ﺃﻣﺮُ ﻛﻦ ﻓﻴﻜﻮﻥ؟ ﺃلّا ﻳﺴﺒِّﺢ ﺑﻜـلاﻡ ﻓﺼﻴﺢ، ﻭﺑﺜﻨﺎﺀ ﺑﻠﻴﻎ ﻭﺍﺿﺢ؛ ﺣﺘﻰ ﺇﻧّﻚ ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗِﻬﺎ ﻭﺗﺴﻤﻌﻬﺎ؟!

ﻓﺎﻟﻤَﻠَﻚ ﺍﻟﻤُﻮﻛﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺃﻳﻀﺎ ﻳﻤﺜﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺑﺄﻟﺴﻨﺔٍ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ.

ﺑﻞ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ!

      رﺍﺑﻌﺘﻬﺎ:

ﻣﺜـلا: ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (ﻳﺲ:82) ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ (ﺍﻟﻨﺤﻞ:٧٧)﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ﻕ:16) ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺝ:4)  ﻭﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﺍلآﺗﻴﺔ ﻭﻫﻲ: ﺃﻥّ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﺊ، ﻳﺨﻠﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺩُﻭﻥَ ﺃﻳﺔِ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﺃﻭ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﺣﺘﻰ ﺗﺒﺪﻭ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻛﺄﻧّﻬﺎ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍلأﻣﺮ.

ﺛﻢ ﺇﻥّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻗﺮﻳﺐ ﺟﺪﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻪ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﻌﺪ. ﺛﻢ ﺇﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﻊ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، لا ﻳﺪﻉ ﺃﺣﻘﺮ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭﺃﻛﺜَﺮﻫﺎ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻭﺧﺴّﺔً ﺧﺎﺭﺝَ ﺇﺗﻘﺎﻧﻪ

ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﻳﺸﻬﺪ ﻟﻬﺎ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍلأﻛﻤﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ. ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺍلآﺗﻲ ﺑﻴّﻦ ﺳﺮَّ ﺣﻜﻤﺘﻬﺎ: ﻓﻤﺜـلا (ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ) ﺇﻥّ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﻠّﺪﻫﺎ ﺍلأﻣﺮ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﺘﺴﺨﻴﺮَ ﺍلإﻟﻬﻲ ﻟﻠﺸﻤﺲ -ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺮﺁﺓً ﻛﺜﻴﻔﺔً لاﺳﻢ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻣﻦ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ- ﺗﻘﺮّﺏ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﻬﻢ. ﻭﺫﻟﻚ ﺃﻧّﻪ ﻣﻊ ﻋﻠّﻮ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺭﻓﻌﺘِﻬﺎ، ﻗﺮﻳﺒﺔ ﺟﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟـلاﻣﻌﺔ، ﺑﻞ ﺇﻧﻬﺎ ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻰ ﺫﻭﺍﺕ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﻧﻔﺴِﻬﺎ. ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻥّ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺗﺠﻌﻞ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺗﺘﺄﺛَّﺮُ ﺑﻬﺎ ﺑﺠﻠﻮﺍﺗﻬﺎ ﻭﺑﻀﻮﺋﻬﺎ ﻭﺑﺠﻬﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﺷﺒﻴﻬﺔٍ ﺑﺎﻟﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻬﺎ، ﺇلا ﺃﻥّ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ  ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺄﻟﻮﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ، ﻓـلا ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺗﺆﺛﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻗﻄﻌﺎ، ﺑﻞ لا ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺇﺩّﻋﺎﺀَ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﻣﻨﻬﺎ.

ﻭﻛﺬﺍ ﻳُﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﺭﺅﻳﺔ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺫﺭﺓ ﺷﻔﺎﻓﺔ ﺣﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ ﻭﻟﻮﻧﻬﺎ، ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺣﺎﺿﺮﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺫﺭﺓ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻧﺎﻇﺮﺓ ﺃﻳﻨَﻤﺎ ﺑﻠﻐﺖْ ﺃﺷﻌﺘﻬﺎ. ﻭﻛﺬﺍ ﻓﺈﻥّ ﻧﻔﻮﺫ ﺃﺷﻌﺔ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺷﻤﻮﻟَﻬﺎ ﻭﺇﺣﺎﻃَﺘﻬﺎ ﺗﺰﺩﺍﺩ ﺑﻌِﻈﻢ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺘﻬﺎ؛ ﻓﻌﻈﻤﺔُ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻀﻢ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺩﺍﺧﻞ ﺇﺣﺎﻃﺘﻬﺎ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﺣﺘﻰ لا ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺷﻲﺀ ﻣﻬﻤﺎ ﺻﻐﺮ ﺃﻥ ﻳﺨﺘﺒﺊَ ﻋﻨﻬﺎ ﺃﻭ ﻳﻬﺮﺏَ ﻣﻨﻬﺎ؛ ﺃﻱ ﺇﻥّ ﻋﻈﻤﺔ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻬﺎ لا ﺗﺮﻣﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﺣﺘﻰ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﺑﻞ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻫﻮ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ ﺃﻱ ﺃﻧَّﻬﺎ ﺗﻀﻢ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ -ﺑﺴﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ- ﺿﻤﻦ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺇﺣﺎﻃﺘﻬﺎ.

ﻓﻠﻮ ﻓﺮﺿﻨﺎ ﺍﻟﺸﻤﺲ -ﻓَﺮْﺿﺎ ﻣﺤﺎلا- ﺃﻧّﻬﺎ ﻓﺎﻋﻠﺔ ﻣﺨﺘﺎﺭﺓ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺎﻟﺖ ﻣﻦ ﻭﻇﺎﺋﻒ ﻭﺟﻠﻮﺍﺕ، ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﺘﺼﻮﺭ ﺃﻥّ ﺃﻓﻌﺎﻟﻬﺎ ﺗﺴﺮﻱ -ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ- ﻓﻲ ﻣُﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴُّﻬﻮﻟﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴّﺮﻋﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴَّﻌﺔ ﻭﺍﻟﺸﻤﻮﻝ، ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﺬﺭﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻄﺮﺍﺕ ﻭﺇﻟﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ؛ ﻓﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﺬﺭﺓ ﻭﺍﻟﻜﻮﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭ ﺳﻴّﺎﻥ ﺗﺠﺎﻩ ﺃﻣﺮﻫﺎ؛ ﺇﺫ ﺍﻟﻔﻴﺾ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺒﺜﻪ ﺇﻟﻰ ﺳﻄﺢ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎﻡ ﻛﺎﻣﻞ ﺃﻳﻀﺎ ﻟﻠﺬﺭﺓ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺣﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻘﺎﻋﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﻣﻀﻴﺌﺔ ﻟﻤّﺎﻋﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﻄﺢ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﻭﻫﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﺗﻌﻜﺲ ﺗَﺠﻠّﻲ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻟﻠﻘﺪﻳﺮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ.. ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺗﺒﻴّﻦ ﻧﻤﺎﺫﺝَ ﺍلأﺳﺲ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ. ﺇﺫ لاﺷﻚ ﺃﻥ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺣﺮﺍﺭﺗَﻬﺎ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﻛﺜﺎﻓﺔَ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻌﻠﻢ ﻭﻗﺪﺭﺓ ﻣَﻦ ﻫﻮ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻣﻨﻮِّﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻣﻘﺪِّﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ.

ﻓﺬﻟﻚ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺇﺫﻥ ﻗﺮﻳﺐ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻗُﺮﺑﺎ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﺑﻌﻠﻤﻪ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﻫﻮ ﺣﺎﺿﺮ ﻋﻨﺪﻩ ﻭﻧﺎﻇﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﻭﺇﻧﻪ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑـلا ﺗﻜﻠﻒ ﻭلا ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻭﻓﻲ ﺳﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻔﻬﻢ ﺃﻧﻪ ﻳﺄﻣﺮ -ﻣُﺠﺮّﺩَ ﺍلأﻣﺮِ- ﻭﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻴﺴﺮ ﻭﺳﺮﻋﺔ ﻣﻄﻠﻘﻴﻦ. ﻭﺇﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎﻙ ﺷﻲﺀ، ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺟﺰﺋﻴﺎ ﺃﻭ ﻛﻠﻴﺎ، ﺻﻐﻴﺮﺍ ﺃﻭ ﻛﺒﻴﺮﺍ ﺧﺎﺭﺝَ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﺑﻌﻴﺪﺍ ﻋﻦ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻪ ﺟﻞَّ ﺟـلاﻟﻪ.

ﻫﻜﺬﺍ ﻧَﻔﻬﻢ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻧﺆﻣﻦ ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﻳﻘﻴﻨﺎ ﻭﺑﺪﺭﺟﺔ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ، ﺑﻞ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺆﻣﻦ ﻫﻜﺬﺍ.

     ﺧﺎﻣﺴﺘﻬﺎ:

ﺇﻥ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﻛﺒﺮﻳﺎﺀﻩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﻴﻦ: ﻓﺎﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾(ﺍﻟﺰﻣﺮ:67)  ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (ﺍلأﻧﻔﺎﻝ:24)  ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (ﺍﻟﺰﻣﺮ:62) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻳَﻌْﻠَﻢُ ﻣَﺎ ﻳُﺴِﺮُّﻭﻥَ ﻭَﻣَﺎ ﻳُﻌْﻠِﻨُﻮﻥَ﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:٧٧) ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﺧَﻠَﻖَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:54) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﺧَﻠَﻘَﻜُﻢْ ﻭَﻣَﺎ ﺗَﻌْﻤَﻠُﻮﻥَ﴾ (ﺍﻟﺼﺎﻓﺎﺕ:96). ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻣَﺎ ﺷَﺎﺀَ ﺍﻟﻠﻪُ لَا ﻗُﻮَّﺓَ ﺇَِّﻻ ﺑِﺎﻟﻠﻪِ﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:39) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻭَﻣَﺎ ﺗَﺸَﺎﺀُﻭﻥَ ﺇَِّﻻ ﺃَﻥْ ﻳَﺸَﺎﺀَ ﺍﻟﻠﻪُ﴾ (ﺍلإﻧﺴﺎﻥ:30) ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﺣﺪﻭﺩ ﻋﻈﻤﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﻛﺒﺮﻳﺎﺀ ﺃﻟﻮﻫﻴﺘﻪ ﺑﻜﻞ ﺷﻲﺀ.. ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ، ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﺯﻝ ﻭﺍلأﺑﺪ ﻳﻬﺪﺩ ﺑﺸﺪﺓ ﻭﻳﻌﻨّﻒ ﻭﻳﺰﺟﺮ ﻭﻳﺘﻮﻋﺪ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻀﻌﻒ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻔﻘﺮ، ﻭﺍﻟﺬﻱ لا ﻳﻤﻠﻚ ﺇلّا ﺟﺰﺀﺍ ﺿﺌﻴـلا ﻣﻦ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻳﺔ ﻭﻛﺴﺒﺎ ﻓﻘﻂ، ﻓـلا ﻗﺪﺭﺓ ﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﺍلإﻳﺠﺎﺩ ﻗﻄﻌﺎ.

    ﻭﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻫﻮ: ﻣﺎ ﺃﺳﺎﺱ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻨﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺰﻭﺍﺟﺮ ﻭﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪﺍﺕ ﺍﻟﻤﺮﻋﺒﺔ ﻭﺍﻟﺸﻜﺎﻭﻯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺓ ﻣﻦ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺠﺎﻩ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒ، ﻭﻛﻴﻒ ﻳﺘﻢ ﺍلاﻧﺴﺠﺎﻡ ﻭﺍﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؟.

ﺃﻗﻮﻝ: لأﺟﻞ ﺍﻟﺒﻠﻮﻍ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ، ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﺟﺪﺍ ﻭﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺟﺪﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻴﻦ ﺍلآﺗﻴﻴﻦ:

   ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍلأﻭﻝ:

ﺑﺴﺘﺎﻥ ﻋﻈﻴﻢ ﺟﺪﺍ ﻳﺤﻮﻱ ﻣﺎ لا ﻳﻌﺪ ﻭلا ﻳﺤﺼﻰ ﻣﻦ ﺍلأﺛﻤﺎﺭ ﺍﻟﻴﺎﻧﻌﺔ ﻭﺍلأﺯﺍﻫﻴﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ، ﻋُﻴّﻦ ﻋﺪﺩ ﻛﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﻮﻇﻔﻴﻦ ﻟﻠﻘﻴﺎﻡ ﺑﺨﺪﻣﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺍﻟﺰﺍﻫﺮﺓ. ﺇلّا ﺃﻥّ ﺍﻟﻤﻜﻠّﻒ ﺑﻔﺘﺢ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺠﺮﻱ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻟﻠﺸﺮﺏ ﻭﺳﻘﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﺗﻜﺎﺳﻞ ﻋﻦ ﺃﺩﺍﺀ ﻣﻬﻤﺘﻪ ﻭﻟﻢ ﻳﻔﺘﺢ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬ، ﻓﻠﻢ ﻳﺠﺮ ﺍﻟﻤﺎﺀ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧّﻪ ﺃﺧَﻞَّ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﺃﻭ ﺳﺒّﺐ ﻓﻲ ﺟﻔﺎﻓﻪ!

ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﻓﺈﻥ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﺣﻖَّ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﻤﺘﻘﺎﻋﺲ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺷﻜﺎﻭﻯ ﻣﺎ ﺃﺑﺪﻋﻪ ﺍﻟﺮﺏ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺗﺤﺖ ﻧﻈﺮ ﺷﻬﻮﺩﻩ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﻟﻠﺘﺮﺍﺏ ﻭﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻭﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﺣﻖ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﻜﺴـلاﻥ، ﻟﻤﺎ ﺳﺒّﺐ ﻣﻦ ﺑَﻮﺍﺭ ﻣﻬﻤﺎﺗﻬﻢ ﻭﻋُﻘْﻢِ ﺧﺪﻣﺎﺗﻬﻢ ﺃﻭ ﺇﺧـلاﻝٍ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﺍلأﻗﻞ!

      ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ:

ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎﻥ. ﺇﻥ ﺗﺮﻙ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺎﻣﻞ ﺑﺴﻴﻂ ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﻓﺴﻴﺆﺩﻱ ﺗﺮﻛُﻪ ﻫﺬﺍ ﺇﻟﻰ ﺇﺧـلاﻝ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻭﺇﻫﺪﺍﺭﻫﺎ. لأﺟﻞ ﺫﻟﻚ ﻓﺎﻥ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﺳﻴﻬﺪﺩ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻘﺼّﺮ ﺗﻬﺪﻳﺪﺍ ﺷﺪﻳﺪﺍ ﺑﺈﺳﻢ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ. ﻓﻲ ﺣﻴﻦ لا ﻳﻘﺪﺭ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻘﺼّﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﻣَﻦ ﺃﻧﺎ ﺣﺘﻰ ﺍﺳﺘﺤﻖ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﻤﺮﻭّﻉ، ﻭﻣﺎ ﻋﻤﻠﻲ ﺇلّا ﺇﻫﻤﺎﻝ ﺗﺎﻓﻪ ﺟﺰﺋﻲ  ﺫﻟﻚ لأﻥ ﻋﺪﻣﺎ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ لّا ﻳﺘﻨﺎﻫﻰ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻌﺪﻡ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻳﺜﻤﺮ ﺛﻤﺮﺍﺕ ﺣﺴﺐ ﻧﻮﻋﻪ. لأﻥ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺸﻲﺀ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﻭﺍﻟﺸﺮﻭﻁ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻧﻌﺪﺍﻡ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻲﺀ ﻭﺍﻧﺘﻔﺎﺅﻩ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻧﺘﻔﺎﺀ ﺷﺮﻁ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻭﺑﺎﻧﻌﺪﺍﻡ ﺟﺰﺀ ﻣﻨﻪ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻏﺪﺍ (ﺍﻟﺘﺨﺮﻳﺐ ﺃﺳﻬﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﻤﻴﺮ) ﺩﺳﺘﻮﺭﺍ ﻣﺘﻌﺎﺭﻓﺎ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻨﺎﺱ. ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﺳﺲُ ﺍﻟﻜﻔﺮ ﻭﺍﻟﻀـلاﻝ ﻭﺍﻟﻄﻐﻴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻤﻌﺼﻴﺔ، ﺇﻧﻜﺎﺭﺍ ﻭﺭﻓﻀﺎ ﻭﺗﺮﻛﺎ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﻭﻋﺪﻡ ﻗﺒﻮﻝ، ﻓﺼﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﻣَﻬْﻤَﺎ ﺑﺪﺕْ ﺇﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻭﺫﺍﺕَ ﻭﺟﻮﺩ، ﺇلّا ﺃﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ﺍﻧﺘﻔﺎﺀ ﻭﻋﺪﻡ، ﻟﺬﺍ ﻓﻬﻲ ﺟﻨﺎﻳﺔ ﺳﺎﺭﻳﺔ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍلأﻣﻮﺭ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗُﺨِﻞُّ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻛﺎﻓﺔً، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗُﺴﺪﻝ ﺳﺘﺎﺭﺍ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ﻟـلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﻭﺗﺤﺠﺒﻬﺎ ﻋﻦ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺎﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻟﻬﺎ ﺣﻖُّ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺑـلا ﺣﺪﻭﺩ، ﻭﺃﻥّ ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻳﻬﺪّﺩ ﺑﺎﺳﻤﻬﺎ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻌﺎﺻﻲ ﻭﻳﺰﺟﺮﻩ ﺃﺷﺪَّ ﺍﻟﺰﺟﺮ. ﻭﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ؛ لأﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﺻﻲ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺑـلا ﺭﻳﺐ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ ﻛﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺃﻧﻮﺍﻋﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻋﻴﺪ ﺍﻟﻤﺮﻋﺐ.

 

   ﺧﺎﺗﻤﺔ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 ﴿ﻭَﻣَﺎ ﺍﻟْﺤَﻴَﺎﺓُ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ﺇِلّا ﻣَﺘَﺎﻉُ ﺍﻟْﻐُﺮُﻭﺭِ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:185)

    (ﺩﺭﺱ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ ﻭﺻﻔﻌﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ)

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ .. ﺃﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺩﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ! ﻳﺎ ﻣَﻦ ﺗَﺮﻳﻦَ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺣﻠﻮﺓ ﻟﺬﻳﺬﺓ ﻓﺘﻄﻠﺒﻴﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺗﻨﺴﻴﻦ ﺍلآ ﺧﺮﺓ.. ﻫﻞ ﺗﺪﺭﻳﻦَ ﺑﻢَ ﺗَﺸﺒﻬﻴﻦَ؟ ﺇﻧّﻚ ﻟﺘﺸﺒﻬﻴﻦ ﺍﻟﻨﻌﺎﻣﺔ.. ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﻯ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ ﻓـلا ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﻄﻴﺮﺍﻥ، ﺑﻞ ﺗُﻘﺤﻢ ﺭﺃﺳﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻣﺎﻝ ﺗﺎﺭﻛﺔً ﺟﺴﻤَﻬﺎ ﺍﻟﻀَّﺨﻢَ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻇَﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ لا ﻳﺮﺍﻫﺎ. ﺇلّا ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ ﻳﺮﻯ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻫﻲ ﻭﺣﺪﻫﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻃﺒﻘﺖْ ﺟﻔﻨﻴﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺮﻣﺎﻝ ﻓﻠﻢ ﺗَﻌُﺪْ ﺗﺮﻯ!

ﻓﻴﺎ ﻧﻔﺴﻲ! ﺍﻧﻈﺮﻱ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﻭﺗﺄﻣّﻠﻲ ﻓﻴﻪ، ﻛﻴﻒ ﺃﻥّ ﺣﺼﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻛﻠِّﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻳُﺤﻮّﻝ ﺍﻟﻠﺬﺓ ﺍﻟﺤﻠﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻟﻢ ﻣﺮﻳﺮ!.

ﻫَﺐْ ﺃﻧّﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ (ﺑﺎﺭلا) ﺭﺟـلاﻥ ﺍﺛﻨﺎﻥ: ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﺪ ﺭَﺣَﻞَ ﺗﺴﻌﺔ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﺃﺣﺒّﺘﻪ ﺇﻟﻰ ﺇﺳﻄﻨﺒﻮﻝ ﻭﻫﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻋِﻴﺸﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ، ﻭﻟﻢ ﻳﺒﻖَ ﻣﻨﻬﻢ ﻫﻨﺎ ﺳﻮﻯ ﺷﺨﺺ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻭﻫﻮ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻟﺘﺤﺎﻕ ﺑﻬﻢ، ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻣﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺇﺳﻄﻨﺒﻮﻝ ﺃﺷﺪَّ ﺍلاﺷﺘﻴﺎﻕ ﺑﻞ ﻳﻔﻜﺮ ﺑﻬﺎ، ﻭﻳﺮﻏﺐ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﻠﺘﻘﻲ ﺍلأﺣﺒﺎﺏَ ﺩﺍﺋﻤﺎ. ﻓﻠﻮ ﻗﻴﻞ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻭﻗﺖ ﻣﻦ ﺍلأﻭﻗﺎﺕ: (ﻫﻴَّﺎ ﺍﺫﻫﺐْ ﺇﻟﻰ ﻫﻨﺎﻙ) ﻓﺈﻧّﻪ ﺳﻴﺬﻫﺐُ ﻓﺮﺣﺎ ﺑﺎﺳﻤﺎ..

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻘﺪ ﺭَﺣَﻞَ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺘﻪ ﺗﺴﻌﺔ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ، ﻭﻳﻈﻦ ﺃﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓَﻨِﻲَ، ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣَﻦ ﺍﻧﺰﻭﻯ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻛﻦ لا ﺗُﺮﻯ. ﻓَﻬَﻠَﻜُﻮﺍ ﻭﺗﻔﺮَّﻗﻮﺍ ﺣَﺴْﺐَ ﻇﻨﻪ. ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﻤﺴﻜﻴﻦ ﺫﻭ ﺩﺍﺀ ﻋُﻀﺎﻝ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺃﻧﻴﺲ ﻭﻋﻦ ﺳُﻠﻮﺍﻥ ﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪ ﺳﺎﺋﺢ ﻭﺍﺣﺪ، ﺑﺪلا ﻣﻦ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺟﻤﻴﻌﺎ، ﻭﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳﻐﻄّﻲ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ.

ﻓﻴﺎ ﻧﻔﺴﻲ! ﺇﻥّ ﺃﺣﺒَّﺘﻚ ﻛﻠَّﻬﻢ، ﻭﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻬﻢ ﻭﻓﻲ ﻣﻘﺪﻣﺘﻬﻢ ﺣﺒﻴﺐُ ﺍﻟﻠﻪ  صلى الله عليه وسلم، ﻫﻢ ﺍلآﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ. ﻓﻠﻢ ﻳﺒﻖ ﻫﻨﺎ ﺇلّا ﻭﺍﺣﺪ ﺃﻭ ﺍﺛﻨﺎﻥ ﻭﻫﻢ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺘﺄﻫﺒﻮﻥ ﻟﻠﺮّﺣﻴﻞ. ﻓـلا ﺗُﺪﻳﺮﻥّ ﺭﺃﺳَﻚِ ﺟَﻔِﻠَﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺕ، ﺧﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ، ﺑﻞ ﺣَﺪِّﻗﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻭﺍﻧﻈﺮﻱ ﺇﻟﻰ ﺣﻔﺮﺗﻪ ﺑﺸﻬﺎﻣﺔ ﻭﺍﺳﺘﻤﻌﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻄﻠﺐ. ﻭﺍﺑﺘﺴﻤﻲ ﺑﻮﺟﻪ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﺑﺮﺟﻮﻟﺔ، ﻭﺍﻧﻈﺮﻱ ﻣﺎﺫﺍ ﻳﺮﻳﺪ؟ ﻭﺇﻳﺎﻙِ ﺃﻥ ﺗﻐﻔﻠﻲ ﻓﺘﻜﻮﻧﻲ ﺃﺷْﺒَﻪ ﺑﺎﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ!.

ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ! لا ﺗﻘﻮﻟﻲ ﺃﺑﺪﺍ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻗﺪ ﺗﻐﻴّﺮ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﻗﺪ ﺗﺒﺪّﻝ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻗﺪ ﺍﻧﻐﻤﺴﻮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﻓﺘﺘﻨﻮﺍ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﺎ، ﻓﻬﻢ ﺳُﻜﺎﺭﻯ ﺑﻬﻤﻮﻡ ﺍﻟﻌﻴﺶ.. ﺫﻟﻚ لأﻥّ ﺍﻟﻤﻮﺕ لا ﻳﺘﻐﻴﺮ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ لا ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﺎﺀ ﻓـلا ﻳﺘﻐﻴﺮ ﺃﻳﻀﺎ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻫﻤﺎ ﺃﻳﻀﺎ لا ﻳﺘﻐﻴﺮﺍﻥ ﺑﻞ ﻳﺰﺩﺍﺩﺍﻥ، ﻭﺃﻥّ ﺭﺣﻠﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ لا ﺗﻨﻘﻄﻊ، ﺑﻞ ﺗَﺤُﺚُّ ﺍﻟﺴﻴﺮ ﻭﺗﻤﻀﻲ. ﺛﻢ لا ﺗﻘﻮﻟﻲ ﻛﺬﻟﻚ: (ﺃﻧﺎ ﻣﺜﻞ ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ). ﺫﻟﻚ لأﻥّ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺃﺣﺪٍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻳﺼﺎﺣﺒﻚ ﺇلّا ﺇﻟﻰ ﻋﺘﺒﺔ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ.. لا ﻏﻴﺮ. ﻭﻟﻮ ﺫﻫﺒﺖِ ﺗﻨﺸﺪﻳﻦ ﺍﻟﺴُّﻠﻮﺍﻥ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﺎﻝ ﻋﻦ ﻣﺸﺎﺭﻛﺔ ﺍلآﺧﺮﻳﻦ ﻣﻌﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔ ﻭﻣﻌﻴﺘﻬﻢ ﻟﻚ، ﻓﺎﻥّ ﻫﺬﺍ ﺃﻳﻀﺎ لا ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻟﻪ ﻭلا ﺃﺳﺎﺱ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ!.

ﻭلا ﺗَﻈّﻨﻲ ﻧﻔﺴَﻚ ﺳﺎﺭﺣﺔً ﻣﻔﻠﺘﺔَ ﺍﻟﺰﻣﺎﻡ، ﺫﻟﻚ لأﻧّﻚِ ﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﻧﻈﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭ ﺿﻴﺎﻓﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻫﺬﻩِ ﻧَﻈﺮ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭّﻳﺔ.. ﻓﻠﻦ ﺗﺠﺪﻱ ﺷﻴﺌﺎ ﺑـلا ﻧﻈﺎﻡ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ، ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺒﻘﻴﻦ ﺇﺫﻥ ﻭﺣﺪَﻙ ﺑـلا ﻧﻈﺎﻡ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ؟  ﻓﺤﺘﻰ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﺔ ﺑﺎﻟﺰلاﺯﻝ ﻟﻴﺴﺖ ﺃﻟﻌﻮﺑﺔً ﺑﻴﺪ ﺍﻟﺼﺪﻓﺔ.

    ﻓﻤﺜـلا: ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﺎﻫﺪﻳﻦ ﻓﻴﻪ ﺑﺄﻥّ ﺍلأﺭﺽ ﻗﺪ ﺃﻟﺒﺴﺖ ﺣُﻠـلا ﻣﺰﺭﻛﺸﺔ ﺑﻌﻀُﻬﺎ ﻓﻮﻕ ﺑﻌﺾ ﻣﻜﺘﻨﻔﺔً ﺑﻌﻀُﻬﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻨﻘﺶ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، ﻭﺗﺮﻳﻨﻬﺎ ﻣﺠﻬّﺰﺓ ﻛﻠَّﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﻤﺔ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﺇﻟﻰ ﺃﺧﻤﺺ ﺍﻟﻘﺪﻡ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ، ﻭﻣﺰﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﻐﺎﻳﺎﺕ. ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺪﻭﺭ ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺟﺬﺑﺔَ ﺣﺐّ ﻭﺷﻮﻕ ﻣﻮﻟﻮﻳﺔ ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍﻟﺪﻗﺔ ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺿﻤﻦ ﻏﺎﻳﺎﺕ ﺳﺎﻣﻴﺔ.. ﻓﻔﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﻬﺪﻳﻦ ﻫﺬﺍ، ﻭﺗﻌﻠﻤﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺴﻮﻍ ﺇﺫﻥ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺰﻟﺰﻟﺔ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﺔ ﺑﻬﺰّ ﻋﻄﻒ ﻛﺮﺓ ﺍلأﺭﺽ (حاشية) ﻛﺘﺐ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺑﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﺰﻟﺰﺍﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﺪﺙ ﻓﻲ ﺇﺯﻣﻴﺮ. ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ. ﻣﻈﻬﺮﺓً ﺑﻬﺎ ﻋﺪﻡَ ﺭﺿﺎﻫﺎ ﻋﻦ ﺛُﻘﻞ  ﺍﻟﻀِّﻴﻖ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﺍﻟﻨﺎﺷﺊ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮ، ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﺃﻫﻞ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻣﻨﻬﻢ، ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﻤﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻤﻮﺕ، ﺑـلا ﻗﺼﺪ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻧﺸﺮﻩ ﻣﻠﺤﺪ ﻇﻨﺎ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮﺩُ ﻣﺼﺎﺩﻓﺔ، ﻣﺮﺗﻜﺒﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﺧﻄﺄ ﻓﺎﺣﺸﺎ ﻭﻣﻘﺘﺮﻓﺎ ﻇﻠﻤﺎ ﻗﺒﻴﺤﺎ؟ ﺇﺫ ﺻﻴَّﺮ ﺟﻤﻴﻊَ ﻣﺎ ﻓﻘﺪﻩ ﺍﻟﻤﺼﺎﺑﻮﻥ ﻣﻦ ﺃﻣﻮﺍﻝ ﻭﺃﺭﻭﺍﺡ ﻫﺒﺎﺀً ﻣﻨﺜﻮﺭﺍ ﻗﺎﺫﻓﺎ ﺑﻬﻢ ﻓﻲ ﻳﺄﺱ ﺃﻟﻴﻢ. ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻥّ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺗﺪّﺧﺮ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﺃﻣﻮﺍﻝ ﺃﻫﻞ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ، ﻣﺤﻮﻟﺔً ﺇﻳﺎﻫﺎ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ، ﺇﻟﻰ ﺻَﺪَﻗﺔٍ ﻟﻬﻢ. ﻭﻫﻲ ﻛﻔّﺎﺭﺓ ﻟﺬﻧﻮﺏ ﻧﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﻛﻔﺮﺍﻥ ﺍﻟﻨﻌﻢ.

ﻓﻠﺴﻮﻑ ﻳﺄﺗﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺠﺪ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻤﺴﺨﺮﺓ ﻭﺟْﻬَﻬَﺎ ﺩﻣﻴﻤﺎ ﻗﺒﻴﺤﺎ ﺑﻤﺎ ﻟَﻄَّﺦَ ﺯﻳﻨﺘَﻬﺎ ﺷﺮﻙُ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻟﻮّﺛﻬﺎ ﻛﻔﺮﺍﻧﻪ، ﻓﺘﻤﺴﺢ ﻋﻨﺪﺋﺬٍ ﻭﺟﻬﻬﺎ ﺑﺰﻟﺰﻟﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ، ﻭﺗﻄﻬّﺮﻩ ﻣﻔﺮﻏﺔً ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺟﻬﻨﻢ، ﻭﺩﺍﻋﻴﺔً ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﻜﺮ: (ﻫﻴﺎ ﺗﻔﻀﻠﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻨﺔ).

الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: 82)

﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

إذا أردتَ أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، وأردت أن تعرف ما يمكن أن يُستخلص من كل منهما من دروس العبرة والعظة، ورمتَ أن تلمس ما ينطويان عليه من علوم.. فأمعن النظر وتأمل فيما يأتي:

إن القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، إنما يمزّق غطاء الأُلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر الاّ أنها عادية مألوفة مع أنها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحًا كنزًا لا يفنى للعلوم أمام العقول.

أما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الأُلفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث. بل تتجاهلها دون مبالاة بها، فلا تعرض أمام أنظار ذوي الشعور إلا أفرادًا نادرة شذّت عن تناسق الخلقة، وتردّت عن كمال الفطرة السليمة مدّعية أنها نماذج حكمةٍ ذات عبرة.

فمثلًا: إن الإنسان السوي الذي هو في أحسن تقويم جامعٍ لمعجزات القدرة الإلهية، تنظر إليه حكمةُ الفلسفة نظرها إلى شئ عادي مألوف، بينما تلفت الأنظار إلى ذلك الإنسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة أرجل أو رأسين مثلًا، فتثير حوله نظر العبرة والاستغراب.

ومثلًا: إن إعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب إعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى وأعمّها في الوجود، تنظر إليها حكمة الفلسفة أمرًا مألوفًا عاديًا، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الأنظار إلى إعاشة حشرة شذت عن النظام ونأت عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدة في أعماق البحر، فبدأت تقتات على ورق نبات أخضر هناك حتى أنها لتثير أشجان الصيادين إلى ما يتجلى منها من لطف وكرم بل تدفعهم إلى البكاء والحزن (حاشية) لقد وقعت هذه الحادثة فعلًا في أمريكا. المؤلف.

فشاهد في ضوء هذه الأمثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمة سبب آخر لتنزه القرآن عن الشعر هو أن القرآن مع أنه في أتم نظام خارق وأكمل انتظام معجز ويفسّر -بأساليبه المنتظمة- تناسق الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. إذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كل آيةٍ حرةٍ -غير مقيدة بنظام الوزن- تملك عيونًا باصرة إلى أكثر الآيات، ووجوهًا متوجهة إليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافًا من القرائين حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآنًا منه. فسورة الإخلاص -مثلًا- تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستًا وثلاثين سورة إخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها الست ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

نعم! إن عدم الانتظام الظاهر في نجوم السماء، يجعل كل نجم منها غير مقيد وكأنها مركز لأكثر النجوم ضمن دائرة محيطها. فتمد خيوط العلاقات وخطوط الأواصر إلى كل منها إشارة إلى العلاقات الخفية فيما بين الموجودات قاطبة. وكأن كل نجمة -كنجوم الآيات الكريمة- تملك عيونًا باصرة إلى النجوم كافة ووجوهًا متوجهة إليها جميعًا .

فشاهد كمال الانتظام في عدم الانتظام. واعتبر! واعلم من هذا سرًا من أسرار الآية الكريمة ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

واعلم أيضًا حكمةً أخرى لـ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)مما يأتي:

إن شأن الشعر هو تجميل الحقائق الصغيرة الخامدة، وتزيينها بالخيال البراق، وجعلها مقبولة تجلب الإعجاب.. بينما حقائق القرآن من العظمة والسمو والجاذبية بحيث تبقى أعظم الخيالات وأسطعها قاصرة دونها، وخافته أمامها.

فمثلًا:قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104) ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ (الأعراف:54) ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ (يس:53). وأمثالها من الحقائق التي لا حدّ لها في القرآن الكريم شاهدات على ذلك.

إذا شئت أن تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ إعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد أسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في أذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم إن وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين،بصدى قوله تعالى ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ﴾ (الإسراء:44) إلى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الأرض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي إلى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري إلى ذلك العصر تتذوق دقائق الإعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! إنك إذا نظرت إلى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفًا، وإضاءته سائر العلوم الإسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي إذا نظرت إلى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فإنك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف إنها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه إعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

وإذا أردت مشاهدة أعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع إلى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد أُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طيَّ طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازنًا وتناسبًا وعلاقاتِ ارتباط بين أغصان الشجرة وثمراتها وأوراقها وأزاهيرها -كما هو موجود بين أعضاء جسم الإنسان- فكل جزء من أجزائها يأخذ شكلًا معينًا وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فإذا قام أحدٌ -من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد- ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من أعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطًا تمثل العلاقات بين أغصانها وثمراتها وأوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها -البعيدين عن بعضهما بما لايحد- بصورٍ وخطوط تمثل أشكال أعضائها تمامًا وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى أدنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علمًا، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين -كهذا المثال  أيضًا فإن بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود إلى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا إلى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش إلى العرش ومن الذرات إلى الشموس) قد حافظت -تلك البيانات الفرقانية- على الموازنة والتناسب وأعطت لكل عضو من الأعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون -لدى إجراء تحقيقاتهم وأبحاثهم- إلى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. إن الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك أيها القرآن الحكيم!

فلنمثل -ولله المثل الأعلى– الأسماء الإلهية وصفاتها الجليلة والشؤون الربانية وأفعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الأزل إلى الأبد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى إجراءاتها من حدود ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ (الأنعام:95) ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال:24) ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (آل عمران:6) إلى ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (هود:7) وإلى ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر:67) ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ فنرى أن القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بيانًا في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً أخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْمًا لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الأسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والأفعال الحكيمة بيانًا معجزًا بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع أولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين أمام جمال بيانه المعجز والإعجابُ يغمرهم: ((سبحان الله! ما أصوبَ هذا! وما أكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما أجمله وأليقه)).

فلو أخذنا مثلًا أركانَ الإيمان الستة التي تتوجه إلى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصنًا من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها وأغصانها وثمراتها وأزاهيرها مراعيًا في تصويره انسجامًا بديعًا بين ثمراتها وأزاهيرها معّرفًا طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الإنسان عاجزًا عن إدراك أبعاده ومبهوتًا أمام حسن جماله.

ثم إن الإسلام الذي هو فرع من غصن الإيمان، أبدع القرآن الكريم وأتى بالرائع المعجب في تصوير أدق فروع أركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على أبسط آدابها ومنتهى غاياتها وأعمق حِكَمها وأصغر فوائدها وثمراتها وأبهر دليل على ذلك هو كمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن إشاراته ورموزه..

فكمال انتظام هذه الشريعة الغراء وجمال توازنها الدقيق وحسن تناسب أحكامها ورصانتها كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابدًا على أحقية القرآن الكريم بمعنى أن البيانات القرآنية لا يمكن أن تستند إلى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان أميّ، بل لابد أن تستند إلى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الأشياء معًا..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالأزل والأبد معًا والشاهد بجميع الحقائق في آن واحد. ومما يشير إلى هذه الحقيقة الآية الكريمة:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ (الكهف:1)

 

اللهم يا منزِّل القرآن! بحق القرآن وبحقّ من أُنزل عليه القرآن نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الإيمان والقرآن آمين يا مستعان!!

الكلمة الثانية عشرة

 

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: 269)

هذه الكلمة تشير إلى موازنة إجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير أيضًا إلى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الإنسان في حياتيه الشخصية والاجتماعية فضلًا عن أنها تضم إشارة إلى جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي وسموه على الأقوال قاطبة. بمعنى أن هناك أربعة أسس في هذه الكلمة:

* الأساس الأول:

من خلال منظار هذه الحكاية التمثيلية أنظر إلى الفروق بين حكمة القرآن الكريم وحكمة العلوم:

أراد حاكم عظيم ذو تقوى وصلاح وذو مهارة وإبداع أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليلة وتناسب إعجازه البديع في كلماته، فأراد أن يُلبِس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.

فطفق بكتابة القرآن، وهو مصور مبدع، كتابة عجيبة جدًا مستعملًا جميع أنواع الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة ليشير بها إلى تنوع حقائقه العظيمة فكتب بعض حروفه المجسمة بالألماس والزمرد وقسمًا منها باللؤلؤ والمرجان وطائفة منها بالجوهر والعقيق ونوعًا منها بالذهب والفضة، حتى أضفى جمالًا رائعًا وحسنًا جالبًا للأنظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها. فالجميع يقفون أمام هذه الكتابة البديعة مبهوتين يغمرهم التبجيل والإعجاب، ولا سيما أهل الحقيقة الذين بدأوا ينظرون إليها نظرة إعجاب وتقدير أشد، لما يعلمون أن الجمال الباهر هذا يشف عما تحته من جمال المعاني وهو في منتهى السطوع واللمعان وغاية اللذة والذوق.

ثم عرض ذلك الحاكم العظيم، هذا القرآن البديع الكتابة، الرائع الجمال، على فيلسوف أجنبي وعلى عالم مسلم وأمرهما:

«ليكتب كل منكما كتابًا حول حكمة هذا القرآن! » ملمحًا إلى اختبارهما ليكافئهما.

كتب الفيلسوف كتابًا. وكتب العالم المسلم كتابًا. كان كتاب الفيلسوف يبحث عن نقوش الحروف وجمالها، وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منها، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها فحسب. ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك القرآن العظيم قط، إذ إنه جاهل باللغة العربية جهلًا مطبقًا، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وإنما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق. ومع هذا فهو مهندس بارع، ومصور فنان، وكيميائي حاذق، وصائغ ماهر، لذا فقد كتب كتابه هذا وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون.

أما العالم المسلم، فما أن نظر إلى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم. فلم يصرف اهتمامه إلى زينته الظاهرة، ولا أشغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وإنما توجه كليًا -وهو التواق للحق- إلى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الأجنبي بملايين الأضعاف، فبحث عما تحت تلك النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة وأسرار نيرة بديعة فكتب كتابه تفسيرًا قيمًا لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن.

قدّم كلٌ منهما ما كتبه إلى الحاكم العظيم. تناول الحاكم أولًا مؤلَّف الفيلسوف ونظر إليه مليًا. فرأى أن ذلك المعجب بنفسه والمقدس للطبيعة، لم يكتب حكمةً حقيقية قط، مع أنه بذل كل ما في طوقه، إذ لم يفهم معاني ذلك الكتاب، بل ربما زاغ واختلط عليه الأمر، وأظهر عدم توقير وإجلال لذلك القرآن، حيث أنه لم يكترث بمعانيه السامية، وظن أنه مجرد نقوش جميلة وحروف بديعة، فبخس حق القرآن وازدراه من حيث المعنى. لذا رد الحاكم الحكيم مؤلَّف ذلك الفيلسوف وضربه على وجهه وطرده من ديوانه.

ثم أخذ مؤلَّف العالم المسلم المحقق المدقق، فرأى أنه تفسير قيم جدًا، بالغ النفع. فبارك عمله، وقدر جهده، وهنّأه عليه وقال: هذه هي الحكمة حقًا، وإنما يطلق اسم العالم والحكيم حقًا على صاحب هذا المؤلَّف، وليس الآخر إلاَّ فنان صنَّاع قد أفرط وتجاوز حدّه. وعلى أثره كافأ ذلك العالم المسلم وأجزل ثوابه، آمرًا أن تمنح عشر ليرات ذهبية لكل حرف من حروف كتابه.

فإذا فهمت -يا أخي- أبعاد هذه الحكاية التمثيلية، فانظر إلى وجه الحقيقة:

فذلك القرآن الجميل الزاهي، هو هذا الكون البديع.. وذلك الحاكم المهيب هو سلطان الأزل والأبد سبحانه. والرجلان: الأول -أي ذلك الأجنبي- هو علم الفلسفة وحكماؤها. والآخر: هو القرآن الكريم وتلاميذه.

نعم، إن القرآن الكريم ((المقروء)) هو أعظم تفسير وأسماه، وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع، الذي هو قرآن آخر عظيم ((منظور)).

نعم! إن ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والإنس إلى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الأزمنة والعصور. وهو الذي ينظر إلى الموجودات -التي كل منها حرف ذو مغزى- بالمعنى الحرفي، أي ينظر إليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل. وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمالَ الحقيقي للكائنات.

أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلّت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة. فبينما كان عليها أن تنظر إلى كتاب الكون نظرتها إلى الحروف -الدالة على كاتبها- فقد نظرت إليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها على هذه الصورة فتقول: ما أجمل هذا! بدلًا من: ما أجمل خلق هذا، سالبة بهذا القول الجمال الحقيقي للشئ. فأهانت بإسنادها الجمال إلى الشئ نفسه جميع الموجودات حتى جعلت الكائنات شاكية عليها يوم القيامة..

نعم! إن الفلسفة الملحدة إنما هي سفسطة لا حقيقة لها وتحقير للكون وإهانة له.

* الأساس الثاني:

للوصول إلى مدى الفرق بين التربية الأخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة، نرى أن نضع تلميذيهما في الموازنة:

فالتلميذ المخلص للفلسفة ((فرعون)) ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس شئ لأجل منفعته، ويتخذ كل ما ينفعه ربًا له.

ثم أن ذلك التلميذ الجاحد ((متمرد وعنود)) ولكنه متمرد مسكين يرضى لنفسه منتهى الذل في سبيل الحصول على لذة، وهو عنود دنئ إذ يتذلل ويخنع لأشخاص هم كالشياطين، بل يقبّل أقدامهم!

ثم أن ذلك التلميذ الملحد ((مغرور، جبار)) ولكنه جبار عاجز لشعوره بمنتهى العجز في ذاته، حيث لا يجد في قلبه من يستند إليه.

ثم أن ذلك التلميذ ((نفعي ومصلحي)) لا يرى إلاّ ذاته. فغاية همته تلبية رغبات النفس والبطن والفرج، وهو ((دسّاس مكّار)) يتحرى عن مصالحه الشخصية ضمن مصالح الأمة.

بينما تلميذ القرآن المخلص هو ((عبد)) ولكنه عبد عزيز لا يستذل لشئ حتى لأعظم مخلوق، ولا يرضى حتى بالجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

ثم أنه تلميذ ((متواضع، ليّن هيّن)) ولكنه لا يتذلل بإرادته لغير فاطره الجليل ولغير أمره وإذنه.

ثم أنه ((فقير وضعيف)) موقن بفقره وضعفه، ولكنه مستغنٍ عن كل شئ بما ادخره له مالكُه الكريم من خزائن لا تنفد في الآخرة. وهو ((قوي)) لاستناده إلى قوة سيده المطلقة.

ثم أنه لا يعمل إلاّ لوجه الله، بل لا يسعى إلاّ ضمن رضاه بلوغًا إلى الفضائل ونشرها.

وهكذا تفهم التربية التي تربي بها الحكمتان، لدى المقارنة بين تلميذيهما.

* الأساس الثالث:

أما ما تعطيه حكمة الفلسفة وحكمة القرآن من تربية للمجتمع الإنساني فهي:

أن حكمة الفلسفة ترى ((القوة)) نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية. وتهدف إلى ((المنفعة)) في كل شئ. وتتخذ ((الصراع)) دستورًا للحياة. وتلتزم ((بالعنصرية والقومية السلبية)) رابطة للجماعات.

أما ثمراتها فهي إشباع رغبات الأهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس وإثارة الهوى.

ومن المعلوم أن شأن ((القوة)) هو ((الاعتداء)).. وشأن ((المنفعة)) هو ((التزاحم)) إذ لا تفي لتغطية حاجات الجميع وتلبية رغباتهم.. وشأن ((الصراع)) هو ((النزاع والجدال)).. وشأن ((العنصرية)) هو ((الاعتداء)) إذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الأخرى.

ومن هنا تلمس لِمَ سُلبت سعادةُ البشرية، من جراء اللهاث وراء هذه الحكمة.

أما حكمة القرآن الكريم، فهي تقبل ((الحق)) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية، بدلًا من ((القوة))..

وتجعل ((رضى الله سبحانه)) ونيل الفضائل هو الغاية، بدلًا من ((المنفعة))..

وتتخذ دستور ((التعاون)) أساسًا في الحياة، بدلًا من دستور ((الصراع)) ..

وتلتزم برابطة ((الدين)) والصنف والوطن لربط فئات الجماعات بدلًا من العنصرية والقومية السلبية..

وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور، وإشباع مشاعرها السامية لسوق الإنسان نحو الكمال والمثل الإنسانية.

إن شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن دستور (التعاون) هو (إغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الأخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس) وكبح جماحها وأطلاق الروح وحثها نحو الكمال هو (سعادة الدارين).

* الأساس الرابع:

إذا أردت أن تفهم كيف يسمو القرآن على سائر الكلمات الإلهية وتعرف مدى تفوّقه على جميع الكلام. فانظر وتأمل في هذين المثالين:

المثال الأول: أن للسطان نوعين من المكالمة، وطرازين من الخطاب والكلام:

الأول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام، في أمر جزئي يعود إلى حاجة خاصة به.

والآخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى، وبعنوان الخلافة الكبرى وبعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه أو مع أحد كبار موظيفه.. فهي مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع.

المثال الثاني: رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط -حسب سعتها- نورًا وضياء يحمل الألوان السبعة في الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه أن يستفيد منها فيما إذا وجهها إلى غرفته المظلمة، أو إلى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس وليست بمقدار عِظمَ الشمس.

بينما رجل آخر يترك المرآة، ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جدًا وينظر إلى شعشعة سلطانها الواسع المهيب ويقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع ويفتح من بيته الصغير ومن مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجدًا سبلًا إلى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حوارًا مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله ويحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر والامتنان فيقول: (إيه يا شمس! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء وزهراءها! يا من أضفيت على الأرض بهجة ونورًا، ومنحت الأزهار ابتسامة وسرورًا، فلقد منحت الدفء والنور معًا لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت للعالم أجمع الدفء والنور).

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس ويحاورها بهذا الأسلوب، إذ إن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة وقيودها، وهي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة واستيعابها للضوء.

وبعد.. فانظر من خلال منظار هذين المثالين إلى القرآن الكريم لتشاهد إعجازه، وتدرك قدسيته وسموه.

أجل إن القرآن الكريم يقول:﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(لقمان:27).

وهكذا فإن منح القرآن الكريم أعلى مقام من بين الكلمات جميعًا، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مردّه أن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والأرض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.

ولأجل هذه الأسرار أُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به اسم (كلام الله).

أما سائر الكلمات الإلهية: فإن قسمًا منها كلام نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجل جزئي لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص والكلي، فأكثر الإلهامات من هذا القسم إلاّ أن درجاتها متفاوتة جدًا.

فمثلًا: إن أبسطها وأكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات، ثم إلهام عوام الناس، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الأولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.

ومن هذا السر نرى أن وليًا يقول: ((حدّثنى قلبي عن ربي)) أي: بهاتف قلبه. ومن دون وساطة مَلَك، فهو لا يقول: حدّثني رب العالمين. أو نراه يقول: إن قلبي عرشٌ ومرآة عاكسة لتجليات ربي. ولا يقول: عرش رب العالمين؛ لأنه يمكن أن ينال حظًا من الخطاب الرباني وفق استعداداته وحسب درجة قابلياته وبنسبة رفع ما يقارب سبعين ألف حجاب.

نعم! إنه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة وسموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، وبمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي والكتب السماوية.

فالكتب المقدسة والصحف السماوية تأتي بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو والسمو. كل له درجته وتفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للإنس والجن -الذي لم يترشح عن القرآن الكريم- فإنه لا يمكن أن يكون نظيرًا قط للقرآن الكريم ولا يمكن أن يدنو إلى أن يكون مثله.

وإذا كنت تريد أن تفهم شيئًا من أن القرآن الكريم قد نزل من الاسم الأعظم ومن المرتبة العظمى لكل اسم من الأسماء الحسنى فتدبّر في (آية الكرسي) وكذا الآيات الكريمة التالية وتأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:

﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ (الأنعام :59)

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ (آل عمران :26)

﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف:54)

﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ (هود:44)

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (الإسراء:44)

﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (لقمان:28)

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ (الأحزاب:72)

﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104)

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الزمر:67)

﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ.﴾ (الحشر:21)

وأمثالها من الآيات الجليلة، ثم دقق النظر في السور المبتدئة بـ ﴿ الحمد لله﴾ و﴿ تسبح..﴾ . لترى شعاع هذا السر العظيم ثم انظر إلى السور المستهلة بـ﴿ الم﴾ و﴿ ألر﴾ ، و﴿ حم﴾ لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.

وإذا فهمت السر اللطيف لهذا الأساس الرابع، تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل إلى الأنبياء إنما هو بوساطة ملك، أما الإلهام فبلا وساطة.

وتفهم السر في أن أعظم ولي من الأولياء لا يبلغ أي نبي كان من الأنبياء. وتفهم السر الكامن في عظمة القرآن وعزته القدسية وعلو إعجازه.. وتفهم سر لزوم المعراج وحكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا وإلى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى ومن ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ثم عودته بطرف العين إلى مكانه.

أجل! إن شق القمر كما أنه معجزة لإثبات الرسالة، أظهرت نبوته إلى الجن والإنس. كذلك المعراج هو معجزة عبوديته صلى الله عليه وسلم أظهرت محبوبيته إلى الأرواح والملائكة.

اللّهم صل وسلم عليه وعلى آله، كما يليق برحمتك وبحرمته

آمين

 

الكلمة الحادية عشرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا..﴾ (الشمس:1ـ7)

أيها الأخ ! إن شئت أن تفهم شيئًا من أسرار حكمة العالم وطلسمه، ولغز خلق الإنسان، ورموز حقيقة الصلاة، فتأمل معي في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة.

كان في زمان ما سلطان له ثروات طائلة وخزائن هائلة تحوي جميع أنواع الجواهر والألماس والزمرد، مع كنوز خفية أخرى عجيبة جدًا. وكان صاحب علمٍ واسع جدًا، وإحاطة تامة، واطلاع شامل على العلوم البديعة التي لاتحد، مع مهارات فائقة وبدائع الصنعة.

وحيث أن كل ذي جمال وكمالٍ يحب أن يشهَد ويُشاهِد جمالَه وكمالَه، كذلك هذا السلطان العظيم، أراد أن يفتح معرضًا هائلًا لعرض مصنوعاته الدقيقة كي يُلفت أنظار رعيته إلى أبهة سلطنته، وعظمة ثروته ويُظهِر لهم من خوارق صنعته الدقيقة وعجائب معرفته وغرائبها، ليشاهِد جمالَه وكمالَه المعنويين على وجهين:

الأول: أن يرى بالذات معروضاته بنظره البصير الثاقب الدقيق.

والثاني: أن يراها بنظر غيره.

ولأجل هذه الحكمة بدأ هذا السلطان بتشييد قصر فخم شامخ جدًا، وقسّمه بشكل بارع إلى منازل ودوائر مزيّنًا كلَّ قسمٍ بمرصعات خزائنه المتنوعة، وجمّله بما عملت يداه من ألطف آثار إبداعه وأجملها، ونظّمه ونسقه بأدق دقائق فنون علمه وحكمته، فجهزه وحسّنه بالآثار المعجزة لخوارق علمه.

وبعد أن أتمه وكمله، أقام في القصر موائد فاخرة بهيجة تضم جميع أنواع أطعمته اللذيذة، وأفضل نِعَمه الثمينة، مخصصًا لكل طائفة ما يليق بها ويوافقها من الموائد، فأعدّ بذلك ضيافة فاخرة عامة، مبينًا سخاءًا وإبداعا وكرمًا لم يشهد له مثيل، حتى كأن كل مائدة من تلك الموائد قد امتلأت بمئات من لطائف الصنعة الدقيقة وآثارها، بما مَدّ عليها من نِعمٍ غالية لا تحصى.

ثم دعا أهالي أقطار مملكته ورعاياه، للمشاهدة والتنزه والضيافة، وعلّم كبير رُسُل القصر المكرّمين ما في هذا القصر العظيم من حكمٍ رائعة، وما في جوانبه ومشتملاته من معان دقيقة، مخصصًا إياه معلمًا رائدًا وأستاذًا بارعًا على رعيته، ليعلّم الناس عظمة باني القصر وصانع ما فيه من نقوش بديعة موزونة ، ومعرّفًا لكل الداخلين رموزَه وما تعنيه هذه المرصعات المنتظمة والإشارات الدقيقة التي فيه، ومدى دلالتها على عظمة صاحب القصر وكماله الفائق ومهارته الدقيقة. مبينًا لهم أيضًا تعليمات مراسيم التشريفات بما في ذلك آداب الدخول والتجول، وأصول السير وفق ما يرضي السلطان الذي لا يُرى إلاّ من وراء حجاب.

وكان هذا المعلم الخبير يتوسط تلامذته في أوسع دائرة من دوائر القصر الضخم وكان مساعدوه منتشرين في كلٍ من الدوائر الأخرى للقصر.

بدأ المعلم هذا بالقاء توجيهاته إلى المشاهدين كافة قائلًا:

«أيها الناس إن سيدنا مليك هذا القصر الواسع البديع، يريد ببنائه هذا وبإظهار ما ترونه أمام أعينكم من مظاهر، أن يعرّف نفسه إليكم، فاعرفوه واسعوا لحسن معرفته.

وأنه يريد بهذه التزيينات الجمالية، أن يحبب نفسه إليكم، فحببوا أنفسكم إليه، باستحسانكم أعماله وتقديركم لصنعته.

وأنه يتودد إليكم ويريكم محبته بما يسبغه عليكم من آلائه ونعمه وأفضاله فأحبوه بحسن إصغائكم لأوامره وبطاعتكم إياه.

وأنه يظهر لكم شفقته ورحمته بهذا  الإكرام والإغداق من النعم فعظّموه أنتم بالشكر.

وأنه يريد أن يظهر لكم جماله المعنوي بآثار كماله في هذه المصنوعات الجميلة الكاملة فأظهروا أنتم شوقكم ولهفتكم للقائه ورؤيته، ونيل رضاه.

وأنه يريد منكم أن تعرفوا أنه السلطان المتفرد بالحاكمية والاستقلال، بما ترون من شعاره الخاص، وخاتمه المخصص، وطرته التي لاتقلد على جميع المصنوعات.. فكل شئٍ له، وخاص به، صدر من يد قدرته. فعليكم أن تدركوا جيدًا، أن لا سلطان ولا حاكم إلاّ هو. فهو السلطان الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا مثيل..».

كان هذا المعلم الكبير يخاطب الداخلين للقصر والمتفرجين، بأمثال هذا الكلام الذي يناسب مقام السلطان وعظمته وإحسانه.

ثم انقسم الداخلون إلى فريقين:

الفريق الأول: وهم ذوو العقول النيرة، والقلوب الصافية المطمئنة، المدركون قدر أنفسهم، فحيثما يتجولون -في آفاق هذا القصر العظيم- ويسرحون بنظرهم إلى عجائبه يقولون: لابد أن في هذا شأنًا عظيمًا !! ولابد أن وراءه غاية سامية!.. فعلِموا أن ليس هناك عبث، وليس هو بلعب، ولا بلهو صبياني.. ومن حيرتهم بدأوا يقولون:

«يا تُرى أين يكمن حل لغز القصر، وما الحكمة في ما شاهدناه ونشاهده»؟!

وبينما هم يتأملون ويتحاورون في الأمر، إذا بهم يسمعون صوت خطبة الأستاذ العارف وبياناته الرائعة، فعرفوا أن لديه مفاتيح جميع الأسرار وحلّ جميع الألغاز، فأقبلوا إليه مسرعين:

– السلام عليكم أيها الأستاذ.. إن مثل هذا القصر الباذخ ينبغي أن يكون له عرّيفًا صادقًا مدققًا أمينًا مثلك، فالرجاء أن تعلّمنا مما علّمك سيدُنا العظيم.

فذكَّرهم الأستاذ بخطبته المذكورة آنفًا، فاستمعوا إليه خاشعين، وتقبّلوا كلامه بكل رضى واطمئنان، فغنموا أيمّا غنيمة، إذ عملوا ضمن مرضاة سلطانهم، فرضي عنهم السلطان بما أبدوا من رضى وسرور لأوامره. فدعاهم إلى قصر أعظم وأرقى لايكاد يوصف، وأكرمهم بسعادة دائمة، بما يليق بالمالك الجواد الكريم، وتلائم هؤلاء الضيوف الكرام المتأدبين، وحريّ بهؤلاء المطيعين المنقادين للاوامر.

أما الفريق الآخر:  وهم الذين قد فسدت عقولهم، وانطفأت جذوة قلوبهم، فما أن دخلوا القصر، حتى غلبتْ عليهم شهواتُهم، فلم يعودوا يلتفتون إلا لما تشتهيه أنفسُهم من الأطعمة اللذيذة، صارفين أبصارهم عن جميع تلك المحاسن، سادّين آذانهم عن جميع تلك الإرشادات الصادرة من ذلك المعلم العظيم، وتوجيهات تلاميذه.. فأقبلوا على المأكولات بشراهة ونهم، كالحيوانات، فأطبقت عليهم الغفلة والنوم وغشيهم السُكرُ، حتى فقدوا أنفسهم لكثرة ما أفرطوا في شرب ما لم يؤذن لهم به فأزعجوا الضيوف الآخرين بجنونهم وعربدتهم. فأساءوا الأدب مع قوانين السلطان المعظم وأنظمته، لذا أخذهم جنوده وساقوهم إلى سجن رهيب لينالوا عقابهم الحق، جزاءً وفاقًا على ما عملوا من سوء الخُلق.

فيا من ينصت معي إلى هذه الحكاية؛ لابد أنك قد فهمت أن ذلك السلطان قد بنى هذا القصر الشامخ لأجل تلك المقاصد المذكورة، فحصول تلك المقاصد يتوقف على أمرين:

أحدهما:وجود ذلك المعلم الأستاذ الذي شاهدناه وسمعنا خطابه، إذ لولاه لذهبت تلك المقاصد هباءًا منثورًا، كالكتاب المبهم الذي لا يُفهم معناه، ولا يبينه أستاذ، فيظل مجرد أوراق لا معنى لها!..

ثانيهما:إصغاء الناس إلى كلام ذلك المعلم، وتقبّلهم له.

بمعنى أن وجود الأستاذ مدعاة لوجود القصر. واستماع الناس إليه سبب لبقاء القصر، لذا يصح القول: لم يكن السلطان العظيم ليبني هذا القصر لولا هذا الأستاذ. وكذا يصح القول: حينما يصبح الناس لا يصغون إليه ولا يلقون بالًا إلى كلامه، فسيغير السلطان هذا القصر ويبدله.

إلى هنا انتهت القصة يا صديقي. فإن كنت قد فهمت سر الحكاية، فانظر من خلالها إلى وجه الحقيقة:

إن ذلك القصر هو هذا العالم، المسقف بهذه السماء المتلألئة بالنجوم المتبسمة، والمفروش بهذه الأرض المزيّنة من الشرق إلى الغرب بالأزهار المتجددة كل يوم.

وذلك السلطان العظيم، هو الله تعالى سلطان الأزل والأبد الملك القدوس ذو الجلال والإكرام الذي ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ..﴾ حيث أن ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ (النور: 41) وهو القدير ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف: 54).

أما منازل ذلك القصر فهي ثمانية عشر ألفا من العوالم التي تزينت كل منها وانتظمت بما يلائمها من مخلوقات.. أما الصنائع الغريبة في ذلك القصر فهي معجزات القدرة الإلهية الظاهرة في عالمنا لكل ذي بصر وبصيرة.. وما تراه من الأطعمة اللذيذة التي فيه، هي علامات الرحمة الإلهية من الأثمار والفواكه البديعة التي تشاهد بكل وضوح في جميع مواسم السنة وخاصة في الصيف وبالأخص في بساتين (بارلا).

ومطبخ هذا القصر هو سطح الأرض وقلبها الذي يتّقد نارًا.

وما رأيته في الحكاية من الجواهر في تلك الكنوز الخفية، هي في الواقع أمثلة لتجليات الأسماء الحسنى المقدسة.

وما رأيناه من النقوش ورموزها، هي هذه المخلوقات المزينِّة للعالم وهي نقوش موزونة لقلم القدرة الإلهية الدالة على أسماء القدير ذي الجلال.

أما ذلك المعلم الأستاذ فهو سيدنا، وسيد الكونين محمد  صلى الله عليه وسلم ، ومساعدوه هم الأنبياء عليهم السلام. وتلاميذه هم الأولياء الصالحون، والعلماء الأصفياء.

أما خدّام السلطان العظيم فهم إشارة إلى الملائكة عليهم السلام في هذا العالم.

وأما جميع من دُعُوا إلى دار ضيافة الدنيا فهم إشارة إلى الإنس والجن وما يخدم الإنسان من حيوانات وإنعام.

أما الفريقان:

فالأول: هم أهل الإيمان الذين يتتلمذون على مائدة القرآن الكريم الذي يفسّر آيات كتاب الكون.

والآخر: هم أهل الكفر والطغيان الصمّ البكم الضالون الذين اتبعوا أهواءهم والشيطان، فما عرفوا من الحياة إلاّ ظاهرها، فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا.

أما الفريق الأول الذين هم الأبرار السعداء؛ فقد أنصتوا إلى المعلم العظيم والأستاذ الجليل ذي الحقيقتين؛ إذ هو عبد، وهو رسول؛ فمن حيث العبودية يعرِّف ربَّه ويوصفه بما يليق به من أوصاف الجلال، فهو إذًا في حكم ممثلٍ عن أمته لدى الحضرة الإلهية.. ومن حيث الرسالة يبلّغ أحكام ربّه إلى الجن والإنس كافة بالقرآن العظيم.

فهذه الجماعة السعيدة بعدما أصغوا إلى ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وانصاعوا لأوامر القرآن الحكيم، إذا بهم يرون أنفسهم قد قُلِّدوا مهمات لطيفة تترقى ضمن مقامات سامية كثيرة، تلك هي الصلاة، فهرس أنواع العبادات.

نعم! لقد شاهدوا بوضوح تفاصيل فريضة الصلاة وارتقوا في مقاماتها الرفيعة التي تشير إليها أذكارُها وحركاتُها المتنوعة، على النحو الآتي:

أولًا: بمشاهدتهم الآثار الربانية المبثوثة في الكون، وجدوا أنفسهم في مقام المشاهدين محاسن عظمة الربوبية، بمعاملة غيابية، فأدّوا وظيفة التكبير والتسبيح، قائلين: الله أكبر.

ثانيًا: وبظهورهم في مقام الدعاة والأدلاّء إلى بدائع صنائعه سبحانه وآثاره الساطعة، التي هي جلوات أسمائه الحسنى، أدّوا وظيفة التقديس والتحميد بقولهم: سبحان الله والحمد لله.

ثالثًا: وفي مقام إدراك النعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية وتذوقها بحواسَ ظاهرة وباطنة شرعوا بوظيفة الشكر والحمد.

رابعًا: وفي مقام معرفة جواهر كنوز الأسماء الحسنى وتقديرها حق قدرها بموازين الأجهزة المعنوية المودعة فيهم، بدأوا بوظيفة التنزيه والثناء.

خامسًا: وفي مقام مطالعة الرسائل الربانية المسطرّة بقلم قدرته تعالى على صحيفة القَدَر، باشروا بوظيفة التفكر والإعجاب والاستحسان.

سادسًا: وفي مقام التنزيه بإمتاع النظر إلى دقة اللطف في خلق الأشياء، ورقة الجمال في إتقانها، دخلوا وظيفة المحبة والشوق إلى جمال الفاطر الجليل والصانع الجميل.

وهكذا.. بعد أداء هذه الوظائف في المقامات السابقة، والقيام بالعبادة اللازمة بمعاملة غيابية، لدى مشاهدة المخلوقات، ارتقوا إلى درجة النظر إلى معاملة الصانع الحكيم وشهودها ومعاملة أفعاله معاملةً حضورية، وذلك أنهم:

قابلوا أولًا تعريفَ الخالق الجليل نفسَه لذوي الشعور بمعجزات صنعته، قابلوه بمعرفةٍ ملؤها العَجب والحيرة قائلين: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف بمعجزات جميع مخلوقاتك.

ثم استجابوا لتحبّب ذلك الرحمن بثمرات رحمته سبحانه، بمحبةٍ وهيام مرددين : إياك نعبد وإياك نستعين.

ثم لَبّوا ترحمّ ذلك المنعم الحقيقي بنِعَمه الطيبة وإظهار رأفته عليهم، بالشكر والحمد، وبقولهم: سبحانك ما شكرناك حق شكرك يا مشكورُ بألسنة أحوالٍ فصيحة تنطق بها جميع إحساناتك المبثوثة في الكون، وتعلن الحمدَ والثناء إعلاناتُ نِعَمِك المعدّة في سوق العالم والمنثورة على الأرض كافة. فجميع الثمرات المنضّدة لرحمتك الواسعة، وجميع الأغذية الموزونة لنعمك العميمة، توفي شكرها بشهادتها على جُودك وكرمك لدى أنظار المخلوقات.

ثم قابلوا إظهار كبرياء جماله وجلاله وكماله سبحانه في مرايا الموجودات المتبدلة على وجه الكون، بقولهم: الله أكبر، وركعوا في عجز مكلّل بالتعظيم، وهَوَوا إلى السجود في محبة مفعمة بالذل والفناء لله، وفي غمرة إعجاب وتعظيم وإجلال.

ثم أجابوا إظهار ذلك الغني المطلق سبحانه ثروتَه التي لا تنفد ورحمته التي وسعت كل شئ، بالدعاء الملح والسؤال الجاد، بإظهار فقرهم وحاجتهم قائلين: إياك نستعين.

ثم استقبلوا عرضَ ذلك الخالق الجليل للطائف صنائعه وروائع بدائعه ونشره لها في معارضَ أمام أنظار الأنام، بالإعجاب والتقدير اللازمين، قائلين: ما شاء الله، تبارك الله، ما أجمل خلقَ هذا.. شاهدين مستحسنين لها، هاتفين: هلموا لمشاهدة هذه البدائع، حيّ على الفلاح.. اشهدوها وكونوا شهداء عليها.

ثم أجابوا إعلان ذلك السلطان العظيم -سلطان الأزل والأبد- لربوبية سلطنته في الكون كله، وإظهاره وحدانيته للوجود كافة، بقولهم: سمعنا واطعنا.. فَسمعوا، وانقادوا وأطاعوا.

ثم استجابوا لإظهار رب العالمين أُلوهيته الجليلة، بخلاصة عبودية تنمّ عن ضعفهم الكامن في عجزهم، وفقرهم المندمج في حاجاتهم.. تلك هي الصلاة.

وهكذا بمثل هذه الوظائف المتنوعة للعبودية، أدّوا فريضة عمرهم ومهمة حياتهم في هذا المسجد الأكبر المسمى بدار الدنيا، حتى اتخذوا صورة أحسن تقويم، واعتلوا مرتبةً تفوق جميع المخلوقات قاطبة، إذ أصبحوا خلفاء أمناء في الأرض، بما أُودع فيهم من الإيمان والأمانة..

وبعد انتهاء مدة الامتحان والخروج من قبضة الاختبار يدعوهم ربهم الكريم إلى السعادة الأبدية والنعيم المقيم ثوابًا لإيمانهم، ويرزقهم الدخول إلى دار السلام جزاء إسلامهم، ويكرمهم -وقد أكرمهم- بنعمٍ لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر، إذ المشاهد المشتاق لجمال سرمدي والعاشق الذي يعكسه كالمرآة، لابد أن يظل باقيًا ويمضي إلى الأبد.

هذه هي عقبى تلاميذ القرآن.. اللّهمّ اجعلنا منهم!.

أما الفريق الآخر وهم الفجار والأشرار فما أن دخلوا بسن البلوغ قصر هذا العالم إلاّ وقابلوا بالكفر دلائل الوحدانية كلها، وبالكفران الآلاء التي تُسبغ عليهم، واتهموا الموجودات كلها بالتفاهة وحقّروها بالعبثية ورفضوا تجليات الأسماء الإلهية على الموجودات كلها، فارتكبوا جريمة كبرى في مدة قصيرة، مما استحقوا عذابًا خالدًا.

نعم، إن الإنسان لم يُوهَب له رأس مال العمر، ولم يودَع فيه أجهزة إنسانية راقية إلاّ ليؤهله ذلك على تأدية الوظائف الجليلة المذكورة.

فيا نفسي الحائرة ويا صديقي المغرم بالهوى!

أتحسبون أن ((مهمة حياتكم)) محصورة في تلبية متطلبات النفس الأمارة بالسوء ورعايتها بوسائل الحضارة إشباعًا لشهوة البطن والفرج؟ أم تظنون أن الغاية من درج ما أُودع فيكم من لطائف معنوية رقيقة، وآلات وأعضاء حساسة، وجوارح وأجهزة بديعة، ومشاعر وحواس متجسسة، إنما هي لمجرد استعمالها لإشباع حاجات سفلية لرغبات النفس الدنيئة في هذه الحياة الفانية؟ حاشَ وكلا!!

بل إن خلق تلك اللطائف والحواس والمشاعر في وجودكم وإدراجَها في فطرتكم إنما يستند إلى أساسين اثنين:

الأول: أن تجعلكم تستشعرون بالشكر تجاه كل نوع من أنواع النعم التي أسبغها عليكم المنعم سبحانه. أي عليكم الشعور بها والقيام بشكره تعالى وعبادته.

الثاني: أن تجعلكم تعرفون أقسام تجليات الأسماء الحسنى التي تعم الوجود كله، معرفتها وتذوقها فردًا فردًا.أي عليكم الإيمان بتلك الأسماء ومعرفتها معرفة ذوقية خالصة.

وعلى هذين الأساسين تنمو الكمالات الإنسانية، وبهما يغدو الإنسان إنسانًا حقًا.

فانظر الآن -من خلال هذا المثال- لتعرف أن الإنسان بخلاف الحيوان لم يزوّد بالأجهزة لكسب هذه الحياة الدنيا فقط:

أعطى سيدٌ خادمَه عشرين ليرة ليشتري بها بدلة لنفسه، من قماش معين. فراح الخادم واشتراها من أجود أنواع الأقمشة ولبسها. ثم أعطى السيد نفسه خادمًا آخر ألف ليرة ولكن وضع في جيبه ورقة تعليمات وأرسله للتجارة.

فكل مَن يملك مسكة من العقل يدرك يقينًا أن هذا المبلغ ليس لشراء بدلة، إذ قد اشتراها الخادم الأول بعشرين ليرة!

فلو لم يقرأ هذا الثاني ماكُتب له في الورقة، وأعطى كل ما لديه إلى صاحب حانوتٍ واشترى منه بدلة -تقليدًا لصديقه الآخر- ومن أردأ أنواع البدلات، ألا يكون قد ارتكب حماقة متناهية، ينبغي تأديبه بعنف وعقابه عقابًا رادعًا؟

فيا صديقي الحميم، ويا نفسي الأمارة بالسوء!

استجمعوا عقولكم، ولا تهدروا رأس مال عمركم، ولا تبددوا طاقات حياتكم واستعداداتها لهذه الدنيا الفانية الزائلة، وفي سبيل لذة مادية ومتاع حيواني.. فالعاقبة وخيمة، إذ تُردّون إلى دَرَكةٍ أدنى من أخس حيوان، علمًا أن رأس مالكم أثمن من أرقى حيوان!

فيا نفسي الغافلة!

إن كنت تريدين أن تفهمي شيئًا من: غاية حياتك، ماهية حياتك، صورة حياتك، سر حقيقة حياتك، كمال سعادة حياتك.. فانظري إلى مجمل ((غايات حياتك)) فإنها تسعة أمور:

أولها: القيام بالشكر الكلي، ووزن النِعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية بموازين الحواس المغروزة في جسمك.

ثانيها: فتح الكنوز المخفية للأسماء الإلهية الحسنى بمفاتيح الأجهزة المودعة في فطرتك، ومعرفة الله جل وعلا بتلك الأسماء الحسنى.

ثالثها: إعلان ما ركّبت فيك الأسماء الحسنى من لطائف تجلياتها وبدائع صنعتها، وإظهار تلك اللطائف البديعة أمام أنظار المخلوقات بعلمٍ وشعور، وبجوانب حياتك كافة في معرض الدنيا هذه.

رابعها: إظهار عبوديتك أمام عظمة ربوبية خالقك، بلسان الحال والمقال.

خامسها: التجمل بمزايا اللطائف الإنسانية التي وهبتْها لك تجليات الأسماء، وإبرازها أمام نظر الشاهد الأزلي جل وعلا.. مثلك في هذا كمثل الجندي الذي يتقلد الشارات المتنوعة التي منحها السلطان في مناسبات رسمية، ويعرضها أمام نظره ليُظهر آثار تكرّمه عليه وعنايته به.

سادسها: شهود مظاهر الحياة لذوي الحياة، شهود علمٍ وبصيرة، إذ هي تحياتُها ودلالاتها بحياتها على بارئها سبحانه.. ورؤية تسبيحاتها لخالقها، رؤيةً بتفكرٍ وعبرة، إذ هي رموز حياتها.. وعرض عبادتها إلى واهب الحياة سبحانه والشهادة عليها، إذ هي غايةُ حياتها ونتيجتها.

سابعها: معرفة الصفات المطلقة للخالق الجليل، وشؤونه الحكيمة، ووزنها بما وهب لحياتك من علم جزئي وقدرة جزئية وارادة جزئية، أي بجعلها نماذج مصغرة ووحدة قياسية لمعرفة تلك الصفات المطلقة الجليلة.

فمثلًا: كما أنك قد شيدت هذه الدار بنظام كامل، بقدرتك الجزئية وإرادتك الجزئية، وعلمك الجزئي، كذلك عليك أن تعلم -بنسبة عظمة بناء قصر العالم ونظامه المتقن- أن بنّاءه قدير، عليم، حكيم، مدبِّر.

ثامنها: فهم الأقوال الصادرة من كل موجود في العالم وإدراك كلماته المعنوية -كل حسب لسانه الخاص- فيما يخص وحدانية خالقه وربوبية مبدعه.

تاسعها: إدراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية المطلقتين، بموازين العجز والضعف والفقر والحاجة المنطوية في نفـسك، إذ كما تُدرك أنـواع الأطعمة ودرجاتها ولذاتها، بدرجات الجوع وبمقدار الاحتياج إليها، كذلك عليك فهم درجات القدرة الإلهية وثروتها المطلقتين بعجزك وفقرك غير المتناهيين.

فهذه الأمور التسعة وأمثالها هي مجمل ((غايات حياتك)).

أما ((ماهية حياتك الذاتية)) فمجملها هو:

إنها فهرس الغرائب التي تخص الأسماء الإلهية الحسنى..

ومقياس مصغر لمعرفة الشؤون الإلهية وصفاتها الجليلة..

وميزان للعوالم التي في الكون..

ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير..

وخريطة لهذا الكون الواسع ..

وفذلكة لكتاب الكون الكبير..

ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية..

وأحسن تقويمٍ للكمالات المبثوثة في الموجودات، والمنشورة على الأوقات والأزمان..

فهذه وأمثالها هي ((ماهية حياتك)).

وإليك الآن ((صورة حياتك)) وطرز وظيفتها، وهي:

إن حياتك كلمة حكيمة مكتوبة بقلم القدرة الإلهية ..

وهي مقالة بليغة تدل على الأسماء الحسنى المشهودة والمسموعة ..

فهذه وأمثالها هي صورة حياتك.

أما ((حقيقة حياتك)) وسرّها فهي:

إنها مرآة لتجلي الأحدية، وجلوة الصمدية، أي أن حياتك كالمرآة تنعكس عليها تجلي الذات الأحد الصمد تجليًا جامعًا، وكأن حياتك نقطةٌ مركزيةٌ لجمع أنواع تجليات الأسماء الإلهية المتجلية على العالم أجمع.

أما ((كمال سعادة حياتك)) فهو:

الشعور بما يتجلى من أنوار التجليات الإلهية في مرآة حياتك وحبها، وإظهار الشوق إليها، وأنت مالكٌ للشعور، ثم الفناء في محبتها، وترسيخ تلك الأنوار المنعكسة وتمكينها في بؤبؤ عين قلبك.

ولأجل هذا قيل بالفارسية هذا المعنى للحديث النبوي القدسي الذي رفعك إلى أعلى عليين:

من نكنجم درسموات وزمين

أز عجب كنجم بقلب مؤمنين

 (حاشية) هذا معنى الحديث «ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»

فيا نفسي!

إن حياتك التي تتوجه إلى مثل هذه الغايات المثلى، وهي الجامعة لمثل هذه الخزائن القيّمة.. هل يليق عقلًا وإنصافًا أن تُصرف في حظوظ تافهة، تلبية لرغبات النفس الأمارة، واستمتاعًا بلذائذ دنيوية فانية، فتهدر وتضيّع بعد ذلك.

فان كنت راغبة في عدم ضياعها سدىً، ففكّري وتدبّري في القَسَم وجواب القَسَم في سورة ((الشمس)) ثم اعملي مع تذكر الحكاية التمثيلية المذكورة في المقدمة، التي ترمز إلى تلك السورة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس:1ـ10)

اللهم صلّ وسلم على شمس سماء الرسالة وقمر برج النبوة، وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

آمين آمين آمين.

 

الكلمة العاشرة

الكلمة العاشرة

مبحث الحشر 

تنبيه

إن سبب إيرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني إلى الأذهان من ناحية، وإظهار مدى معقولية الحقائق الإسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية اخرى، فمغزى الحكايات إنما هو الحقائق التي تنتهي إليها، والتي تدل عليها كنايةً. فهي إذن ليست حكايات خيالية وإنما حقائق صادقة.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(الروم: 50)

يا أخي! إن رمتَ إيضاح أمر الحشر وبعضَ شؤون الآخرة على وجهٍ يُلائم فهمَ عامة الناس، فاستمع معي إلى هذه الحكاية القصيرة.

ذهب اثنان معًا إلى مملكة رائعة الجمال كالجنة (التشبيه هنا للدنيا) وإذا بهما يَريان أن أهلها قد تركوا أبواب بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها.. فالأموال والنقود في متناول الأيدي دون أن يحميها أحد. بدأ أحدهما -بما سوّلت له نفسه- يسرق حينًا ويغصب حينًا آخر مرتكبًا كل أنواع الظلم والسفاهة، والأهلون لا يبالون به كثيرًا.

فقال له صديقه:

– ويحك ماذا تفعل؟ إنك ستنال عقابك، وستلقيني في بلايا ومصائب. فهذه الأموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد اصبحوا – بعوائلهم وأطفالهم- جنود الدولة أو موظفيها، ويُستخدمون في هذه الوظائف ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يُبالوا بك كثيرًا. اعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان. أسرع يا صاحبي بالاعتذار وبادر إلى التوسل.

ولكن صاحبه الأبله عاند قائلًا:

– دعني يا صاحبي، فهذه الأموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة، لا مالك لها. يستطيع كل واحد أن يتصرف فيها كما يشاء. فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الأشياء الجميلة المنثورة أمامي. واعلم أني لا أصدّق بما لا تراه عيناي…

وبدأ يتفلسف ويتفوه بما هو من قبيل السفسطة. وهنا بدأت المناقشة الجادّة بينهما. وأخذ الحوار يشتد إذ سأل المغفل:

– وما السلطان؟ فأنا لا أعرفه. فردّ عليه صاحبه:

– إنك بلاشك تعلم أنه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة، بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب. فكيف يسوغ لك القول: إنه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطارًا مشحونًا بالأرزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب!(حاشية) إشارة الى فصول السنة حيث الربيع يشبه شاحنة قطار مملوءة بالأغذية و يأتي من عالم الغيب. المؤلف. أوَ لا ترى في أرجاء هذه المملكة إعلانات السلطان وبياناته، وأعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الأموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟.. يبدو أنك تعلمت شيئًا من لغة الإفرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الإسلامية ولا ترغب أن تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال إذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والأوامر الصادرة من السلطان.. فقاطعه ذلك المعاند قائلًا:

– لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن أن تضره وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي منها؟ ثم إني لا أرى هنا عقابًا من سجن أو ما يشبهه!

أجابه صاحبه:

– يا هذا، إن هذه المملكة التي نراها ما هي إلا ميدان امتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جدًا.. ألا ترى أن قافلة تأتي يوميًا وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، إنها تملأ وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائيًا وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل إليها الناس جميعًا فيثاب أو يُعاقب كلٌ حسب عمله.

ومرة اخرى تمرّد صديقه الخائن الحائر قائلًا:

– أنا لا أؤمن ولا أصدق! فهل يمكن أن تُباد هذه المملكة العامرة، ويرحل عنها أهلُها إلى مملكة اخرى؟ وعندها قال له صديقه الناصح الأمين:

– يا صاحبي ما دمتَ تعاند هكذا وتصرّ، فتعال أبين لك دلائل لا تعد ولا تحصى مجملةً في اثنتي عشرة صورة تؤكد لك أن هناك محكمة كبرى حقًا، ودارًا للثواب والإحسان، وأخرى للعقاب والسجن، وإنه كما تفرغ هذه المملكة من أهلها يومًا بعد يوم، فسيأتي يوم تفرغ فيه منهم نهائيًا وتباد كليًّا.

الكلمة التاسعة

الكلمة التاسعة 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ (الروم: 17 ـ 18)

أيها الأخ! تسألني عن حكمة تخصيص الصلاة في هذه الأوقات الخمسة المعينة، فسنشير إلى حكمة واحدة فقط من بين حِكمها الوفيرة.

نعم، كما أن وقت كل صلاة، بداية انقلابٍ زمني عظيم ومهم، فهو كذلك مرآة لتصرف إلهي عظيم، تعكس الآلاء الإلهية الكلية في ذلك الوقت. لهذا فقد أُمر في تلك الأوقات بالصلاة، أي الزيادة من التسبيح والتعظيم للقدير ذي الجلال، والإكثار من الحمد والشكر لنعمه التي لا تحصى والتي تجمعت بين الوقتين. ولأجل فهم بعضٍ من هذا المعنى العميق الدقيق، ينبغي الإصغاء -مع نفسي- إلى خمس نكات.

* النكتة الأولى:

إن معنى الصلاة هو التسبيح والتعظيم والشكر لله تعالى. أي تقديسُه جل وعلا تجاه جلاله قولًا وفعلًا بقول: سبحان الله.. وتعظيمه تجاه كماله لفظًا وعملًا بقول: الله اكبر.. وشكره تجاه جماله قلبًا ولسانًا وجسمًا بقول: الحمد لله.

أي أن التسبيح والتكبير والتحميد هو بمثابة نوى الصلاة وبذورها، فوُجِدت هذه الثلاثة في جميع حركات الصلاة وأذكارها. ولهذا أيضًا تُكرّر هذه الكلمات الطيبة الثلاث ثلاثًا وثلاثين مرة عقب الصلاة، وذلك للتأكيد على معنى الصلاة وترسيخه، إذ بهذه الكلمات الموجزة المجملة يؤكد معنى الصلاة ومغزاها.

* النكتة الثانية:

إن معنى العبادة هو سجودُ العبد بمحبة خالصة وبتقدير وإعجاب في الحضرة الإلهية وأمام كمال الربوبية والقدرة الصمدانية والرحمة الإلهية مشاهدًا في نفسه تقصيرَه وعجزَه وفقرَه.

نعم، كما أن سلطنة الربوبية تتطلب العبودية والطاعة، فإن قدسيتَها ونزاهتها تتطلب أيضًا أن يُعلن العبدُ -مع استغفاره برؤية تقصيره- أن ربّه منزّهٌ عن أي نقص، وأنه مُتعالٍ على جميع أفكار أهل الضلالة الباطلة، وأنه مقدّس من جميع تقصيرات الكائنات ونقائصها. أي يعلن ذلك كله بتسبيحه، بقوله: سبحان الله.

وكذا قدرة الربوبية الكاملة تطلب من العبد أيضًا أن يلتجىء إليها، ويتوكل عليها لرؤيته ضعفَ نفسه الشديد وعجزَ المخلوقات قائلًا: الله أكبر بإعجاب وتقدير واستحسان تجاه عظمة آثار القدرة الصمدانية، ماضيًا إلى الركوع بكل خضوع وخشوع.

وكذا رحمة الربوبية الواسعة تتطلب أيضًا أن يُظهر العبدُ حاجاته الخاصة وحاجات جميع المخلوقات وفقرها بلسان السؤال والدعاء، وأن يعلن إحسان ربه وآلاءه العميمة بالشكر والثناء والحمد بقوله: الحمد لله.

أي أن أفعال وأقوال الصلاة تتضمن هذه المعاني. ولأجل هذه المعاني فُرضت الصلاة من لدنه سبحانه وتعالى.

* النكتة الثالثة:

كما أن الإنسان هو مثالٌ مصغّر لهذا العالم الكبير، وأن سورة الفاتحة مثالٌ منوّر للقرآن العظيم، فالصلاة كذلك فهرس نوراني شامل لجميع العبادات، وخريطة سامية تشير إلى أنماط عبادات المخلوقات جميعًا.

* النكتة الرابعة:

إن عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والأيام، كلٌ منها يناظر الآخر، ويمثّل الآخر، ويأخذ كلٌ منها حكم الآخر.

كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعة إلهية كبرى، فإن دوران الليل والنهار الذي هو بحكم الثواني للساعة، والسنوات التي تعدّ الدقائق، وطبقات عمر الإنسان التي تعد الساعات، وأدوار عمر العالم التي تعد الأيام، كل منها يناظر الآخر، ويتشابه معه، ويماثله، ويذكّر كل منها الآخر، ويأخذ حكمه.

فمثلًا:

وقت الفجر إلى طلوع الشمس: يشبه ويذكّر ببداية الربيع وأوله، وبأوان سقوط الإنسان في رحم الأم، وباليوم الأول من الأيام الستة في خلق السموات والأرض، فينبّه الإنسان إلى ما في تلك الأوقات من الشؤون الإلهية العظيمة.

أما وقت الظهر: فهو يشبه ويشير إلى منتصف الصيف، وإلى عنفوان الشباب، وإلى فترة خلق الإنسان في عمر الدنيا، ويذكّر ما في ذلك كله من تجليات الرحمة وفيوضات النعمة.

أما وقت العصر: فهو يشبه موسم الخريف، وزمن الشيخوخة، وعصر السعادة الذي هو عصر خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، ويذكّر ما في ذلك كله من الشؤون الإلهية والآلاء الرحمانية.

أما وقت المغرب: فإنه يذكّر بغروب أغلب المخلوقات وأُفولها نهاية الخريف، ويذكّر أيضًا بوفاة الإنسان، وبدمار الدنيا عند قيام الساعة، ومع ذلك فهو يعلّم التجليات الجلالية، ويوقظ الإنسان من نوم الغفلة وينبهه.

أما وقت العشاء: فيذكّر بغشيان عالم الظلام وستره آثار عالم النهار بكفنه الأسود، ويذكّر أيضًا بتغطية الكفن الأبيض للشتاء وجه الأرض الميتة، وبوفاة حتى آثار الإنسان المتوفى ودخولها تحت ستار النسيان، وبانسداد أبواب دار امتحان الدنيا نهائيًا، ويعلن في ذلك كله تصرفات جلالية للقهار ذي الجلال.

أما وقت الليل: فإنه يذكّر بالشتاء، وبالقبر، وبعالم البرزخ، فضلًا عن أنه يذكّر روح الإنسان بمدى حاجتها إلى رحمة الرحمن.

أما التهجد في الليل: فإنه يذكّر بضرورته ضياء لليل القبر، ولظلمات عالم البرزخ، وينبّه ويذكّر بنعم غير متناهية للمنعم الحقيقي عبر هذه الانقلابات، ويعلن أيضًا عن مدى أهلية المنعم الحقيقي للحمد والثناء.

أما الصباح الثاني: فإنه يذكّر بصباح الحشر. نعم، كما أن مجيء الصبح لهذا الليل، ومجيء الربيع لهذا الشتاء معقول وضروري وحتمي، فإن مجيء صباح الحشر وربيع البرزخ هما بالقطعية والثبوت نفسيهما.

فكل وقت إذن -من هذه الأوقات الخمسة- بداية انقلاب عظيم، ويذكّر بانقلابات أخرى عظيمة، فهو يذكّر أيضًا بمعجزات القدرة الصمدانية وهدايا الرحمة الإلهية سواء منها السنوية أو العصرية أو الدهرية، بإشارات تصرفاتها اليومية العظيمة.

أي أن الصلاة المفروضة التي هي وظيفة الفطرة وأساس العبودية والدَّين المفروض، لائقة جدًا ومناسبة جدًا في أن تكون في هذه الأوقات حقًا.

* النكتة الخامسة:

إن الإنسان بفطرته ضعيف جدًا، ومع ذلك فما أكثر المنغصات التي تورثه الحزن والألم، وهو في الوقت نفسه عاجز جدًا، مع أن أعداءه ومصائبه كثيرة جدًا، وهو فقير جدًا مع أن حاجاته كثيرة وشديدة، وهو كسول وبلا اقتدار مع أن تكاليف الحياة ثقيلة عليه، وإنسانيته جعلته يرتبط بالكون جميعًا مع أن فراقَ ما يحبه وزوال ما يستأنس به يؤلمانه، وعقله يريه مقاصد سامية وثمارًا باقية، مع أن يده قصيرة، وعمره قصير، وقدرته محدودة وصبره محدود.

فروح الإنسان في هذه الحالة (في وقت الفجر) أحوج ما تكون إلى أن تطرق -بالدعاء والصلاة- باب القدير ذي الجلال، وباب الرحيم ذي الجمال، عارضةً حالها أمامه، سائلة التوفيق والعون منه سبحانه، وما أشد افتقار تلك الروح إلى نقطة استناد كي تتحمل ما سيأتي أمامها من أعمال، وما ستحمل على كاهلها من وظائف في عالم النهار الذي يعقبه. ألا يُفهم ذلك بداهةً؟

وعند وقت الظهر: ذلك الوقت الذي هو ذروة كمال النهار وميلانه إلى الزوال، وهو أوان تكامل الأعمال اليومية، وفترة استراحة موقتة من عناء المشاغل، وهو وقت حاجة الروح إلى التنفس والاسترواح مما تعطيه هذه الدنيا الفانية والأشغال المرهقة الموقتة من غفلةٍ وحيرةٍ واضطراب فضلًا عن أنه أوان تظاهر الآلاء الإلهية.

فخلاصُ روح الإنسان من تلك المضايقات، وإنسلالها من تلك الغفلة والحيرة، وخروجها من تلك الأمور التافهة الزائلة، لا يكون إلاّ بالالتجاء إلى باب القيوم الباقي -وهو المنعم الحقيقي- بالتضرع والتوسل أمامه مكتوف اليدين شاكرًا حامدًا لمحصّلة نِعَمه المتجمعة، مستعينًا به وحده، مع إظهار العجز أمام جلاله وعظمته بالركوع، وإعلان الذل والخضوع -بإعجاب وتعظيم وهيام- بالسجود أمام كماله الذي لا يزول، وأمام جماله الذي لا يحول.. وهذا هو أداء صلاة الظهر، فما اجملها، وما ألذَّها، وما أجدرها، وما أعظم ضرورتها!. ومن ثم فلا يحسبنّ الإنسان نفسه إنسانًا إن كان لا يفهم هذا.

وعند وقت العصر: الذي يذكّر بالموسم الحزين للخريف، وبالحالة المحزنة للشيخوخة، وبالأيام الأليمة لآخر الزمان، وبوقت ظهور نتائج الأعمال اليومية. فهو فترة حصول المجموع الكلي الهائل للنعم الإلهية، أمثال التمتع بالصحة والتنعم بالعافية، والقيام بخدمات طيبة. وهو كذلك وقت الإعلان بأن الإنسان ضيف مأمور، وبأن كل شئ يزول وهو بلا ثبات ولا قرار، وذلك بما يشير اليه انحناء الشمس الضخمة إلى الأُفول.

نعم إن روح الإنسان التي تنشد الأبدية والخلود، وهي التي خُلقت للبقاء والأبد، وتعشق الإحسان، وتتألم من الفراق، تُنهض بهذا الإنسان ليقوم وقت العصر ويسبغ الوضوء لأداء صلاة العصر، ليناجي متضرعًا أمام باب الحضرة الصمدانية للقديم الباقي وللقيوم السرمدي، وليلتجئ إلى فضل رحمته الواسعة، وليقدم الشكر والحمد على نعمه التي لا تحصى، فيركع بكل ذلٍّ وخضوع أمام عزة ربوبيته سبحانه ويهوي إلى السجود بكل تواضع وفناء أمام سرمدية ألوهيته، ويجد السلوان الحقيقي والراحة التامة لروحه بوقوفه بعبودية تامة وباستعداد كامل أمام عظمة كبريائه جل وعلا. فما أسماها من وظيفةٍ تأديةُ صلاة العصر بهذا المعنى! وما أليقها من خدمة! بل ما أحقّه من وقتٍ لقضاء دَين الفطرة، وما أعظمه من فوزٍ للسعادة في منتهى اللذة! فمن كان إنسانًا حقًا فسيفهم هذا.

وعند وقت المغرب: الذي يذكّر بوقت غروب المخلوقات اللطيفة الجميلة لعالم الصيف والخريف في خزينة الودائع منذ ابتداء الشتاء، ويذكّر بوقت دخول الإنسان القبر عند وفاته وفراقه الأليم لجميع أحبته، وبوفاة الدنيا كلها بزلزلة سكراتها وانتقال ساكنيها جميعًا إلى عوالم أخرى. ويذكّر كذلك بإنطفاء مصباح دار الامتحان هذه. فهو وقت إيقاظٍ قوي وإنذارٍ شديد لأولئك الذين يعشقون لحد العبادة المحبوبات التي تغرب وراء أُفق الزوال. لذا فالإنسان الذي يملك روحًا صافية كالمرآة المجلوة المشتاقة فطرةً إلى تجليات الجمال الباقي، لأجل أداء صلاة المغرب في مثل هذا الوقت يولّي وجهه إلى عرش عظمة مَن هو قديم لم يزل، ومن هو باقٍ لا يزال، ومَن هو يدبر أمر هذه العوالم الجسيمة ويبدّلها، فيدّوي بصوته قائلًا: (الله أكبر) فوق رؤوس هذه المخلوقات الفانية، مُطلقًا يده منها، مكتوفًا في خدمة مولاه الحق منتصبًا قائمًا عند مَن هو دائمٌ باقٍ جل وعلا ليقول: (الحمد لله) أمام كماله الذي لا نقص فيه، وأمام جماله الذي لا مثيل له، واقفًا أمام مُثنيًا رحمته الواسعة ليقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . ليعرض عبوديته واستعانته تجاه ربوبية مولاه التي لا معين لها وتجاه الوهيته التي لا شريك لها، وتجاه سلطنته التي لا وزير لها. فيركع إظهارًا لعجزه وضعفه وفقره مع الكائنات جميعًا أمام كبريائه سبحانه التي لا منتهى لها، وأمام قدرته التي لا حدّ لها، وأمام عزته التي لا عجز فيها، مسبّحًا ربّه العظيم قائلًا: (سبحان ربي العظيم). ثم يهوي إلى السجود أمام جمال ذاته الذي لا يزول، وأمام صفاته المقدسة التي لا تتغير، وأمام كمال سرمديته الذي لا يتبدل، مُعلنًا بذلك حبَّه وعبوديته في إعجاب وفناء وذلٍ، تاركًا ما سواه سبحانه قائلًا: (سبحان ربي الأعلى) واجدًا جميلًا باقيًا ورحيمًا سرمديًا بدلًا من كل فانٍ. فيقدس ربَّه الأعلى المنزَّه عن الزوال المبرأ من التقصير ويجلس للتشهد، فيقدّم التحيات والصلوات الطيبات لجميع المخلوقات هديةً باسمه إلى ذلك الجميل الذي لم يزل وإلى ذلك الجليل الذي لا يزال، مجددًا بيعتَه مع رسوله الأكرم بالسلام عليه مُظهرًا بها طاعته لأوامره، فيرى الانتظام الحكيم لقصر الكائنات هذا، ويُشهِدُه على وحدانية الصانع ذي الجلال، فيجدّد إيمانه وينوّره، ثم يشهد على دلاّل الربوبية ومبلّغ مرضياتها وترجمان آيات كتاب الكون الكبير ألا وهو محمد العربي صلى الله عليه وسلم . فما ألطفَ وما أنزه أداء صلاة المغرب وما أجلّها من مهمة -بهذا المضمون- وما أعزّها وأحلاها من وظيفة، وما أجملها وألذّها من عبودية، وما أعظمها من حقيقة أصيلة! وهكذا نرى كيف أنها صُحبة كريمة وجلسة مباركة وسعادة خالدة في مثل هذه الضيافة الفانية.. أفيحسب مَن لم يفهم هذا نفسه إنسانًا؟.

وعند وقت العشاء: ذلك الوقت الذي تغيب في الأفق حتى تلك البقية الباقية من آثار النهار، ويخيّم الليلُ فيه على العالم، فيذكّر بالتصرفات الربانية لـ(مقلب الليل والنهار) وهو القدير ذو الجلال في قلبه تلك الصحيفة البيضاء إلى هذه الصحيفة السوداء.. ويذكّر كذلك بالإجراءات الإلهية لـ(مسخر الشمس والقمر) وهو الحكيم ذو الكمال في قلبه الصحيفة الخضراء المزيِّنة للصيف إلى الصحيفة البيضاء الباردة للشتاء.. ويذكّر كذلك بالشؤون الإلهية لـ(خالق الموت والحياة) بانقطاع الآثار الباقية -بمرور الزمن- لأهل القبور من هذه الدنيا وانتقالها كليًا إلى عالم آخر. فهو وقت يذكّر بالتصرفات الجلالية، وبالتجليات الجمالية لخالق الأرض والسموات، وبانكشاف عالم الآخرة الواسع الفسيح الخالد العظيم، وبموت الدنيا الضيقة الفانية الحقيرة، ودمارها دمارًا تامًا بسكراتها الهائلة. إنها فترة -أو حالة- تُثبت أن المالك الحقيقي لهذا الكون بل المعبود الحقيقي والمحبوب الحقيقي فيه لا يمكن أن يكون إلاّ مَن يستطيع أن يقلّب الليل والنهار والشتاء والصيف والدنيا والآخرة بسهولة كسهولة تقليب صفحات الكتاب، فيكتب ويثبت ويمحو ويبدل، وليس هذا إلاّ شأن القدير المطلق النافذ حكمه على الجميع جلّ جلاله.

وهكذا فروح البشر التي هي في منتهى العجز وفي غاية الفقر والحاجة، والتي هي في حيرة من ظلمات المستقبل وفي وَجَل مما تخفيه الأيام والليالي.. تدفع الإنسان عند أدائه لصلاة العشاء -بهذا المضمون- أن لا يتردد في أن يردد على غرار سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ﴾ . فيلتجئ بالصلاة إلى باب مَن هو المعبود الذي لم يزل ومَن هو المحبوب الذي لا يزال، مناجيًا ذلك الباقي السرمدي في هذه الدنيا الفانية، وفي هذا العالم الفاني، وفي هذه الحياة المظلمة والمستقبل المظلم، لينشر على أرجاء دنياه النور من خلال صحبة خاطفةٍ ومناجاة موقتة، ولينّور مستقبله ويضمد جراح الزوال والفراق عما يحبّه من أشياء وموجودات ومن أشخاص وأصدقاء وأحباب، بمشاهدة توجّه رحمةِ الرحمن الرحيم، وطلب نور هدايته، فينسى -بدوره- تلك الدنيا التي أنسته، والتي اختفت وراء العشاء، فيسكب عبرات قلبه، ولوعة صدره، على عتبة باب تلك الرحمة، ليقوم بوظيفة عبوديته النهائية قبل الدخول فيما هو مجهول العاقبة، ولا يعرف ما يُفعل به بعده، من نوم شبيه بالموت، وليختم دفتر أعماله اليومية بحسن الخاتمة. ولأجل ذلك كله يقوم بأداء الصلاة، فيتشرف بالمثول أمام مَن هو المعبود المحبوب الباقي بدلًا من المحبوبات الفانية، وينتصب قائمًا أمام مَن هو القدير الكريم بدلًا من جميع العجزة المتسولين، وليسمو بالمثول في حضرة مَن هو الحفيظ الرحيم لينجو من شر من يرتعد منهم من المخلوقات الضارة. فيستهلّ الصلاة بالفاتحة، أي بالمدح والثناء لرب العالمين الكريم الرحيم الذي هو الكامل المطلق والغني المطلق، بدلًا من مدح مخلوقات لا طائل وراءها وغير جديرة بالمدح وهي ناقصة وفقيرة وبدلًا من البقاء تحت ذلّ المنّة والأذى، فيرقى إلى مقام الضيف الكريم في هذا الكون، وإلى مقام الموظف المرموق فيه رغم أنه ضئيل وصغير بل هو معدوم، وذلك بسموه إلى مرتبة خطاب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي انتسابه لمالك يوم الدين ولسلطان الأزل والأبد. فيقدّم بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُعبادات واستعانات الجماعة الكبرى والمجتمع الأعظم لجميع المخلوقات طالبًا الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو طريقه المنوّر الموصل إلى السعادة الأبدية عبر ظلمات المستقبل بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ويتفكر في كبريائه سبحانه وتعالى ويتأمل في أن هذه الشموس المستترة -التي هي كالنباتات والحيوانات النائمة الآن- وهذه النجوم المنتبهة، جنود مطيعة مسخّرة لأمره جل وعلا، وأن كل واحد منها ما هو إلا مصباح في دار ضيافته هذه، وكل واحد منها خادم عامل، فيكبّر قائلًا (الله أكبر) ليبلُغَ الركوع. ثم يتأمل بالسجدة الكبرى لجميع المخلوقات كيف أن أنواع الموجودات في كل سنة، وفي كل عصر – كالمخلوقات النائمة في هذا الليل- بل حتى الأرض نفسها وحتى العالم كلّه، إنما هي كالجيش المنظم، بل كالجندي المطيع، عندما تسرّح من وظيفتها الدنيوية بأمر: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي عندما تُرسل إلى عالم الغيب تسجد في منتهى النظام في الزوال على سجادة الغروب مكبّرة (الله أكبر). وهي تُبعث وتُحشر كذلك في الربيع بنفسها أو بمثلها، بصيحة إحياء وإيقاظٍ صادر من أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ فيتأهب الجميع في خضوع وخشوع لأمر مولاهم الحق. فهذا الإنسان الضعيف اقتداء بتلك المخلوقات، يهوي إلى السجود أمام ديوان الرحمن ذي الكمال والرحيم ذي الجمال قائلًا: (الله أكبر) في حبٍ غامرٍ بالإعجاب وفي فنائيةٍ مفعمة بالبقاء وفي ذلّ مكللٍ بالعز.

فلا شك يا أخي قد فهمت أن أداء صلاة العشاء سموٌ وصعودٌ فيما يشبه المعراج، وما أجملها من وظيفةٍ وما أحلاها من واجبٍ وما أسماها من خدمةٍ وما أعزّها وألذّها من عبودية وما أليقها من حقيقة أصيلة!

أي إن كل وقت من هذه الأوقات إشارات لانقلاب زمني عظيم، وأمارات لإجراءات ربانية جسيمة، وعلامات لإنعامات إلهية كلية، لذا فإن تخصيص صلاة الفرض -التي هي دَين الفطرة- في تلك الأوقات هو منتهى الحكمة.

 

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

اللّهم صل وسلم على مَن أرسلته معلّمًا لعبادك، ليعلّمهم كيفية معرفتك والعبودية لك، ومعرّفًا لكنوز أسمائك، وترجمانًا لآيات كتاب كائناتك، ومرآةً بعبوديته لجمال ربوبيتك، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات. آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

الكلمة الثامنة

 الكلمة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (البقرة:255)

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: 19)

إذا أردت أن تفهم ما الدنيا وما دور الروح الإنسانية فيها، وما قيمة الدين عند الإنسان وكيف أنه لولا الدين الحق لتحولت الدنيا إلى سجن رهيب، وأن الشخص الملحد هو أشقى المخلوقات، وأن الذي يحل طلسم العالم ولغزه المحير وينقذ الروح البشرية من الظلمات إن هو إلا «يا الله…»«لا إله إلا الله..» أجل إذا كنت تريد أن تفهم كل ذلك فانصت إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة وتفكر فيها مليًا:

كان شقيقان في قديم الزمان يذهبان معًا إلى سياحة طويلة، فواصلا سيرهما سوية إلى أن وصلا إلى مفرق طريقين، فرأيا هناك رجلًا وقورًا فسألاه: أيّ الطريقين أفضل؟.

فأجابهما: في الطريق اليمين التزام إجباري للقانون والنظام، إلاّ أن في ثنايا ذلك التكليف ثمة أمان وسعادة. أما طريق الشمال ففيه الحرية والتحرر إلا أن في ثنايا تلك الحرية تهلكة وشقاء. والآن لكم الخيار في سلوك أيهما.

وبعد الاستماع إلى هذا الكلام سلك الأخ ذو الطبع الطيب طريق اليمين قائلًا: توكلت على الله. وانطلق راضيًا عن طيب نفس باتباع النظام والانتظام. أما الأخ الآخر الغاوي، فقد رجّح طريق الشمال لمجرد هوى التحرر الذي فيه.

والآن فلنتابع خيالًا هذا الرجل السائر في طريق ظاهره السهولة والخفة وباطنه من قبله الثقل والعناء. فما أن عبر الوديان العميقة والمرتفعات العالية الوعرة حتى دخل وسط مفازة خالية وصحراء موحشة؛ فسمع صوتًا مخيفًا، ورأى أن أسدًا ضخمًا غضوبًا قد انطلق من الأحراش نحوه؛ ففر منه فرارًا وهو يرتعد خوفًا وهلعًا، فصادف بئرًا معطلة على عمق ستين ذراعًا فألقى نفسه فيها طلبًا للنجاة، وفي أثناء السقوط لقَيت يداه شجرةً فتشبث بها. وكان لهذه الشجرة جذران نبتا على جدار البئر وقد سلّط عليهما فأران، أبيض وأسود. وهما يقضمان ذينك الجذرين بأسنانهما الحادة. فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد واقفًا كالحارس على فوهة البئر، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعبانًا كبيرًا جدًا قد رفع رأسه يريد الاقتراب منه وهو على مسافة ثلاثين ذراعًا، وله فم واسع سعة البئر نفسها. ورأى ثمة حشرات مؤذية لاسعة تحيط به. نظر إلى أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، إلا أنها تثمر بصورة خارقة أنواعًا مختلفة وكثيرة من فواكه الأشجار ابتداء من الجوز وانتهاء إلى الرمان.

لم يكن هذا الرجل ليفهم -لسوء ادراكه وحماقته- بأن هذا الأمر ليس اعتياديًا، ولا يمكن أن تأتي كل هذه الأشياء مصادفةً ومن دون قصد. ولم يكن يفهم أن في هذه الشؤون العجيبة أسرارًا غريبة، وأن هناك وراء كل ذلك من يدبّر هذه الأمور ويسيّرها.

فبينما يبكي قلب هذا الرجل وتصرخ روحه ويحار عقله من اوضاعه الأليمة إذا بنفسه الأمارة بالسوء أخذت تلتهم فواكه تلك الشجرة متجاهلة عما حولها وكأن شيئًا لم يحدث؛ سادّة أذنيها عن صرخات القلب وهواتف الروح، خادعة نفسها بنفسها رغم أن قسمًا من تلك الفواكه كانت مسمومة ومضرة.

وهكذا نرى أن هذا الرجل الشقي قد عومل بمثل ما جاء في الحديث القدسي ((أنا عند ظن عبدي بي)) أي: أنا أعامل عبدي مثلما يعرفني هو. فلقد عومل هكذا، وسيعامل مثلها أيضًا، بل لابد أن يرى مثل هذه المعاملة جزاء تلقيه كل ما يشاهده أمرًا عاديًا بلا قصد ولا حكمة وكأنه الحق بعينه، وذلك لسوء ظنه وبلاهته الخرقاء؛ فصار يتقلب في نار العذاب ولا يستطيع أن يموت لينجو ولا يقدر على العيش الكريم.

ونحن بدورنا سنرجع تاركين وراءنا ذلك المشؤوم يتلوى في عذابه؛ لنعرف ما جرى للأخ الآخر من أحوال.

فهذا الرجل المبارك ذو العقل الرشيد ما يزال يقطع الطريق دون أن يعاني الضيق كأخيه، ذلك لأنه لا يفكر إلا في الأشياء الجميلة -لما له من جمال الخُلق- ولا يأخذ بعنان الخيال إلا بما هو جميل ولطيف، لذا كان يستأنس بنفسه ولا يلاقي الصعوبة والمشقة كأخيه. ذلك لأنه يعرف النظام، ويعمل بمقتضى الولاء والاتباع. فيرى الأمور تسهل له، ويمضي حرًا منطلقًا مستظلًا بالأمان والاستقرار. وهكذا مضى حتى وجد بستانًا فيه أزهار جميلة وفواكه لطيفة مع ثمة جثث حيوانات وأشياء منتنة مبعثرة هنا وهناك بسبب اهمال النظافة. كان أخوه الشقي قد دخل -من قبل- في مثل هذا البستان أيضًا غير أنه انشغل بمشاهدة الجيف الميتة وإنعام النظر فيها مما أشعره بالغثيان والدوار. فغادره دون أن يأخذ قسطًا من الراحة لمواصلة السير. أما هذا الأخ فعملًا بقاعدة ((انظر إلى الأحسن من كل شي)) فقد أهمل الجيف ولم يلتفت إليها مطلقًا، بل استفاد مما في البستان من الأشياء والفواكه. وبعدما استراح فيه الراحة التامة مضى إلى سبيله.

ودخل – هو أيضًا كأخيه – في صحراء عظيمة ومفازة واسعة. وفجأة سمع صوت أسد يهجم عليه فخاف إلا أنه دون خوف أخيه، حيث فكّر بحُسن ظنه وجمال تفكيره قائلًا: لابد أن لهذه الصحراء حاكمًا، فهذا الأسد إذن يحتمل أن يكون خادمًا أمينًا تحت أمرته.. فوجد في ذلك اطمئنانًا، غير أنه فرّ كذلك حتى وصل وجهًا لوجه إلى بئر معطلة بعمق ستين ذراعًا فألقى نفسه فيها وأمسك -كصاحبه- بشجرة في منتصف الطريق من البئر.. وبقي معلقًا بها، فرأى حيوانين اثنين يقطعان جذري تلك الشجرة رويدًا رويدًا.. فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعبانًا ضخمًا، ونظر إلى نفسه فوجدها -كأخيه تمامًا- في وضع عجيب غريب. فدهش من الأمر هو كذلك إلا أنه دون دهشة أخيه بألف مرة، لما منحه الله من حُسن الخلق وحُسن التفكير والفكر الجميل الذي لا يريه إلا الجهة الجميلة من الأشياء. ولهذا السبب فقد فكّر هكذا: أن هذه الأمور العجيبة ذات علاقات مترابطة بعضها ببعض، وأنها لتظهر كأن آمرًا واحدًا يحركها؛ فلابد إذن أن يكون في هذه الأعمال المحيرة سرّ مغلق وطلسم غير مكشوف.

أجل! إن كل هذا يرجع إلى أوامر حاكم خفي، فأنا إذن لست وحيدًا، بل إن ذلك الحاكم الخفي ينظر إلي ويرعاني ويختبرني، ولحكمة مقصودة يسوقني إلى مكان، ويدعونني إليه. فنشأ لديه من هذا التفكير الجميل والخوف اللذيذ شوقٌ أثار هذا السؤال: مَن يكون يا ترى هذا الذي يجرّبني ويريد أن يعرّفني نفسه؟ ومَن هذا الذي يسوقني في هذا الطريق العجيب إلى غاية هادفة؟ ثم نشأ من الشوق إلى التعرف محبة صاحب الطلسم، ونمت من تلك المحبة رغبة حل الطلسم، ومن تلك الرغبة انبثقت رغبة اتخاذ وضع جميل وحالة مقبولة لدى صاحب الطلسم حسب ما يحبه ويرضاه.

ثم نظر أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، غير أن في نهاية أغصانها آلاف الأنواع من الأثمار والفواكه، وعندها ذهب خوفه وزال نهائيًا، لأنه علم علمًا قاطعًا بأن شجرة التين هذه إنما هي فهرس ومعرض، حيث قلد الحاكم الخفي نماذخ ما في بستانه وجناته بشكل معجز عليها وزيّنها بها، اشارةً لما أعدّه من أطعمة ولذائذ لضيوفه.. وإلا فإن شجرة واحدة لن تعطي أثمار آلاف الأشجار. فلم يرَ أمامه إلا الدعاء والتضرع، فألح متوسلًا بانكسار إلى أن اُلهم مفتاح الطلسم فهتف قائلًا:

((يا حاكم هذه الديار والآفاق! التجئ إليك وأتوسل وأتضرع، فأنا لك خادم، أريد رضاك وأنا أطلبك وأبحث عنك))..

فانشق جدار البئر فجأة بعد هذا الدعاء، عن باب يفتح إلى بستان فاخر طاهر جميل، وربما انقلب فم ذلك الثعبان إلى ذلك الباب واتخذ كل من الأسد والثعبان صورة الخادم وهيأته.. فأخذا يدعوانه إلى البستان حتى أن ذلك الأسد تقمص شكل حصان مسخّر بين يديه.

فيا نفسي الكسلى! ويا صاحبي في الخيال..

تعالا لنوازن بين أوضاع هذين الأخوين كي نعلم كيف أن الحسنة تجلب الحسنة وأن السيئة تأتي بالسيئة.

إن المسافر الشقي إلى جهة الشمال معرّض في كل آن أن يلج في فم الثعبان فهو يرتجف خوفًا وهلعًا. بينما هذا السعيد يُدعى إلى بستان أنيق بهيج مثمر بفواكه شتى.. وإن قلب ذلك الشقي يتمزق في خوف عظيم ورعب أليم بينما هذا السعيد يرى غرائب الأشياء وينظر إليها بعبرة حلوة وخوف لذيذ ومعرفة محبوبة.. وإن ذلك الشقي المسكين ليعاني من الوحشة واليأس واليتم عذابًا وأي عذاب! بينما هذا السعيد يتلذذ في الأنس ويترفل في الأمل والشوق.. ثم إن ذلك المنكود يرى نفسه محكومًا عليه  كالسجين – بهجمات الحشرات المؤذية، بينما هذا السعيد المحظوظ يتمتع متعة ضيف عزيز. وكيف لا وهو ضيف عند مضيّف كريم، فيستأنس مع عجائب خدمه. ثم أن ذلك السئ الحظ ليعجّل عذابه في النار بأكله مأكولات لذيذة الطعم ظاهرًا ومسمومة حقيقةً ومعنىً، إذ إن تلك الفواكه ما هي إلا نماذج، قد اُذن للتذوق منها فحسب ليكون طالبًا لحقائقها وأُصولها ويكون شاريها الأصيل وإلاّ فلاسماح للشراهة منها كالحيوان. أما هذا السعيد المحمود فإنه يتذوق منها إذ يعي الأمر، مؤخِّرًا أكلها وملتذًا بالانتظار.. ثم إن ذلك الشقي يكون قد ظلم نفسه بنفسه؛ جارًا عليها وضعًا مظلمًا وأوهامًا ذات ظلمات حتى كأنه في جحيم، بانعدام بصيرته عن حقائق ساطعة كالنهار وأوضاع جميلة باهرة، فلا هو مستحق للشفقة ولا له حق الشكوى، مَثَله في هذا مثل رجل وسط أحبائه في موسم الصيف وفي حديقة جميلة بهيجة في وليمة طيبة للأفراح، فلعدم قناعته بها راح يرتشف كؤوس الخمر -أم الخبائث- حتى أصبح سكيرًا ثملًا؛ فشرع بالصراخ والعويل، وبدأ بالبكاء، ظانًا نفسه أنه في قلب الشتاء القارس، ومتصورًا أنه جائع وعار وسط وحوش مفترسة. فمثلما أن هذا الرجل لا يستحق الشفقة والرأفة، إذ ظلم نفسه بنفسه متوهمًا أصدقاءه وحوشًا، محتقرًا لهم.. فكذلك هذا المشؤوم.

ولكنما ذلك السعيد يبصر الحقيقة، والحقيقة بذاتها جميلة، ومع ادراك جمال الحقيقة فإنه يحترم كمال صاحب الحقيقة ويوقّره فيستحق رحمته.

فاعلم إذن سرًا من أسرار: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ (النساء:79)

فلو وازنت سائر هذه الفروق وأمثالها لعلمت أن النفس الأمارة للأول قد أحضرت له جهنم معنوية، بينما الآخر قد نال بحسن نيته وحسن ظنه وحسن خصلته وحسن فكره- الفيض والسعادة والإحسان العميم.

فيا نفسي. ويا أيها الرجل المنصت معي إلى هذه الحكاية!

إذا كنت تريد أن لا تكون مثل ذلك الأخ المشؤوم وترغب في أن تكون كالأخ السعيد فاستمع إلى القرآن الكريم وأرضخ لحكمه واعتصم به واعمل بأحكامه.

وإذا كنت قد وعيت ما في هذه الأقصوصة التمثيلية من حقائق؛ فإنك تستطيع أن تطبق عليها الحقيقة الدينية والدنيوية والإنسانية والإيمانية كلها. وسأقول لك الأسس، واستخرج بنفسك الدقائق!

فالإخوان الاثنان: أحدهما روح المؤمن وقلب الصالح، والآخر روح الكافر وقلب الفاسق.. أما اليمين من تلكما الطريقين فهو طريق القرآن وطريق الإيمان وأما الشمال فطريق العصيان والكفران.. وأما ذلك البستان في الطريق فهو الحياة الاجتماعية المؤقتة للمجمتع البشري والحضارة الإنسانية التي يوجد فيها الخير والشر والطيب والخبيث والطاهر والقذر معًا. فالعاقل هو مَن يعمل على قاعدة: ((خذ ما صفا.. دع ما كدر)) فيسير مع سلامة القلب واطمئنان الوجدان.

وأما تلك الصحراء فهي هذه الدنيا وهذه الأرض.. وأما ذلك الأسد فهو الأجل والموت.. وأما تلك البئر فهي جسد الإنسان وزمان الحياة. وأما ذلك العمق البالغ ستين ذراعًا فهو اشارة إلى العمر الغالب، وهو معدل العمر ستون سنة.. وأما تلك الشجرة فهي مدة العمر ومادة الحياة.. وأما الحيوانان الإثنان، الأسود والأبيض فهما الليل والنهار.. وأما ذلك الثعبان فهو فم القبر المفتوح إلى طريق البرزخ ورواق الآخرة، إلا أن ذلك الفم هو للمؤمن باب يفتح من السجن إلى البستان.. وأما تلك الحشرات المضرة فهي المصائب الدنيوية، إلا أنها للمؤمن في حكم الإيقاظات الإلهية الحلوة والالتفاتات الرحمانية لئلا يغفل.. وأما مطعومات تلك الشجرة فهي النعم الدنيوية التي صنعها ربّ العزة الكريم لكي تكون فهرسًا للنعم الأخروية ومذكِّرة بها، بمشابهتها لها، وقد خلقها البارئ الحكيم على هيئة نماذج لدعوة الزبائن إلى فواكه الجنة، وإن اعطاء تلك الشجرة على وحدتها الفواكه المختلفة المتباينة اشارة إلى آية الصمدانية وختم الربوبية الآلهية وطغراء سلطنة الألوهية. ذلك لأن ((صنع كل شئ من شئ واحد)) أي صنع جميع النباتات وأثمارها من تراب واحد، وخلق جميع الحيوانات من ماء واحد، وابداع جميع الأجهزة الحيوانية من طعام بسيط. وكذا ((صنع الشئ الواحد من كل شئ)) كبناء لحم معين وجلد بسيط لذي حياة من مطعومات مختلفة الأجناس.. إنما هي الآية الخاصة للذات الأحدية الصمدية والختم المخصوص للسلطان الأزلي الأبدي وطغراؤه التي لا يمكن تقليدها أبدًا.

نعم إن خلق شئ من كل شئ وخلق كل شئ من شئ، إنما هو خاصية تعود إلى خالق كل شئ.. وعلامة مخصوصة للقادر على كل شئ. وأما ذلك الطلسم فهو سر حكمة الخلق الذي يُفتح بسر الإيمان.

وأما ذلك المفتاح فهو ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾  و ((يا الله)) و ﴿لاإله إلا الله.. ﴾

وأما انقلاب فم ذلك الثعبان إلى باب البستان فهو رمز إلى أن القبر هو سجن الوحشة والنسيان والإهمال والضيق، فهو كبطن الثعبان لأهل الضلالة والطغيان. ولكنه لأهل الإيمان والقرآن باب مفتوح على مصراعيه من سجن الدنيا إلى بستان البقاء، ومن ميدان الامتحان إلى روضة الجنان، ومن زحمة الحياة إلى رحمة الرحمن.. وأما انقلاب ذلك الأسد المفترس إلى حصان مسخر وإلى خادم مؤنس فهو اشارة إلى أن الموت لأهل الضلال فراق أبدي أليم من جميع الأحبة، وخروج من جنة دنيوية كاذبة إلى وحشة سجن انفرادي للقبر، وضياع في تيه سحيق، بينما هو لأهل الهداية وأهل القرآن رحلة إلى العالم الآخر، ووسيلة إلى ملاقاة الأحبة والأصدقاء القدامى، وواسطة إلى دخول الوطن الحقيقي ومنازل السعادة الأبدية، ودعوة كريمة من سجن الدنيا إلى بساتين الجنان، وانتظار لأخذ الأجرة للخدمات تفضلًا من الرحمن الرحيم، وتسريح من تكاليف الحياة واجازة من وظيفتها، واعلان الانتهاء من واجبات العبودية وامتحانات التعليم والتعليمات.

نحصل من هذا كله:

أن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقةً ومعنىً، حتى لو كان يتقلب ظاهرًا في بحبوحة النعيم.

وإن كل من كان متوجهًا إلى الحياة الباقية ويسعى لها بجد وإخلاص فهو فائز بسعادة الدارين وأهل لهما معًا حتى لو كانت دنياه سيئة وضيقة، إلا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها وهو يخوض غمار الصبر.

اللهم اجعلنا من أهل السعادة والسلامة والقرآن والإيمان .. آمين.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعدد جميع الحروفات المتشكلة في جميع الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول إلى آخر الزمان.

وارحمنا ووالدينا وارحم المؤمنين والمؤمنات بعددها برحمتك يا أرحم الراحمين آمين .. والحمد لله رب العالمين.

 

الكلمة السابعة

الكلمة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

آمنت بالله وباليوم الآخر

إن كنت ترغب أن تفهم كيف أن الإيمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان أمامها باب السعادة والهناء.. وكيف أن توكّل الإنسان على خالقه صابرًا، والرجاء من رزّاقه شاكرًا، أنفع علاجين ناجعين.. وأن الإنصات إلى القرآن الكريم، والانقياد لحكمه، وأداء الصلوات وترك الكبائر، أغلى زاد للآخرة، وأسطع نور للقبر، وأيسر تذكرة مرور في رحلة الخلود.. أجل! إن كنت تريد أن تفهم هذه الأمور كلها فأنصت معي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وقع جندي -في الحرب العالمية- في مأزق عصيب ووضع محيّر، إذ أصبح جريحًا بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله. وخلفه أسد هصور يوشك أن ينقضّ عليه. وأمامه مشنقة تبيد جميع أحبته وتنتظره أيضًا، زد على ذلك كانت أمامه رحلة نفي شاقة طويلة رغم وضعه الفظيع المؤلم!.. وبينما كان هذا المسكين المبتلى مستغرقًا في تفكير يائس من واقعه المفجع هذا، إذا برجل خيّرٍ كأنه الخضر عليه السلام يتلألأ وجهه نورًا يظهر عن يمينه ويخاطبه:

– لا تيأس ولا تقنط. سأعلمك طلسمين اثنين، إن أحسنتَ استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرسًا أمينًا مسخرًا لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة أرجوحة مريحة لطيفة تأنس بها.. وسأناولك دواءين اثنين، إن احسنت استعمالهما يصيّران جرحيك المنتنين زهرتين شذّيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها أن تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد كأنك تطير!! وإن لم تصدّق بما أقول فجرّبه مرة، وتيقنّ من صحته وصدقه… فجرَّب الجندي شيئًا منه، فرآه صدقًا وصوابًا.

نعم، وأنا كذلك -هذا المسكين سعيد- أصدّقه، لأنني جربته قليلًا، فرأيته صدقًا وحقًا خالصًا.

ثم، على حين غرة رأى رجلًا لعوبًا دساسًا -كأنه الشيطان- يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة، وصور جذابة، ومُسْكرات مغرية، ووقف قبالته يدعوه:

– إليّ اإليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهُ معًا ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الأغاني ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة.. ولكن يا هذا! ما هذه التمتمة التي ترددها؟!

– إنه طلسم ولغز!

– دع عنك هذا الشئ الغامض، فلا تعكّر صفو لذتنا، وأُنسَ نشوتنا الحاضرة.. يا هذا… وما ذلك بيدك؟

– إنه دواء!

– إرمه بعيدًا، إنك سالم صحيح ما بك شئ، ونحن في ساعة طرب وأُنس ومتعة. وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟

– إنها تذكرة سفر، وأمر إداري للتوظيف!

– مزّقها، فلسنا بحاجة إلى سفر في هذا الربيع الزاهي!

وهكذا حاول بكل مكر وخديعة أن يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئًا قليلًا إلى كلامه.

نعم، إن الإنسان ينخدع، ولقد خُدعت أنا كذلك لمثل هذا الماكر!

وفجأة دوّى صوت كالرعد عن يمينه يحذّره:

– إياك أن تنخدع.. قل لذلك الماكر الخبيث:

إن كنت تستطيع قتل الأسد الرابض خلفي، وأن ترفع أعواد المشنقة من أمامي، وأن تبرأني من جرحيّ الغائرين في يميني وشمالي، وأن تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة.. نعم إن كنت تقدر على إيجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك أن تدعوني إلى اللهو والطرب، وإلاّ فاسكت أيها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي -الشبيه بالخضر- ليقول ما يروم.

فيا نفسي الباكية على ما ضحكتْ أيام شبابها. اعلمي! إن ذلك الجندي المسكين المتورط هو أنتِ، وهو الإنسان.. وأن ذلك الأسد هو الأجل.. وأن أعواد المشنقة تلك هي الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس.. ألا تَرَين كيف يفارقنا كل حبيب إثر حبيب ويودعنا ليل نهار.. أما الجرحان العميقان، فأحدهما: العجز البشري المزعج الذي لا حدّ له. والآخر: هو الفقر الإنساني المؤلم الذي لا نهاية له.. أما ذلك النفي والسفر المديد فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الإنسان، التي تنطلق من عالم الأرواح مارةً من رحم الأم ومن الطفولة والصِبا ثم من الشيخوخة ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ ومن الحشر والصراط.. وأما الطلسمان فهما الإيمان بالله وباليوم الآخر. نعم إن الموت بهذا الطلسم القدسي يلبس صورة فرس مسخّر بدلًا عن الأسد، بل يتخذ صورة بُراق يُخرج الإنسان المؤمن من سجن الدنيا إلى روضة الجنان، إلى روضة الرحمن ذي الجلال. ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبّون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته. ثم إن سير الزمان ومروره على كل شيء ونفوذ الزوال والفراق والموت والوفاة فيه يتخذ بهذا الطلسم الإيماني صورةً وضّاءة حيث تحفِز الإنسان إلى رؤية الجِدَّة بتجدد كل شئ، بل يكون مبعث التأمل في ألوان مختلفة متنوعة وأنواع متباينة لمعجزات إبداع الخالق ذي الجلال وخوارق قدرته، وتجليات رحمته سبحانه ومشاهدتها باستمتاع وبهجة كاملين. بمثل ما يضفي تبدل المرايا العاكسة لألوان نور الشمس، وتغيّر الصور في شاشة السينما من جمال وروعة إلى تكون المناظر الجذابة وتشكلها.

أما ذانك العلاجان.

فأحدهما: التوكل على الله والتحلي بالصبر، أي الاستناد إلى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته سبحانه.

– أهو كذلك؟

نعم، إن من يعتمد بهوية «عجزه» على سلطان الكون الذي بيده أمر ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ كيف يجزع ويضطرب؟ بل يثبت أمام أشد المصائب، واثقًا بالله ربه، مطمئن البال مرتاح القلب وهو يردد: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

نعم، إن العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقًا إن في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما أطيب حالاتك وألذها؟ فربما يكون جوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علمًا أن رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي إلاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة.

ومن هنا وجد الذين كَمُل إيمانُهم لذة تفوق أية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى إنهم تبرأوا إلى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم إليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل.

أما العلاج الآخر فهو: الدعاء والسؤال ثم القناعة بالعطاء، والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الرحيم.

– أهو هكذا؟

نعم! إن من كان ضيفًا لدى الذي فَرَش له وجه الأرض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة أنيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، إن مَن كان ضيفًا عند هذا الجواد الكريم جلَّ وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلمًا وثقيلًا؟. بل يتخذ فقره وفاقته إليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم. فيسعى إلى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر إلى الله تعالى.. «واياك أن تظن خلاف ما نقصد بالفقر؛ إنه استشعار الإنسان بالفقر إليه سبحانه والتضرع إليه وحده والسؤال منه، وليس المقصود إظهار الفقر إلى الناس والتذلل لهم والسؤال منهم بالتسول والاستجداء!».

أما ذلك المستند أو الأمر الإداري أو البطاقة فهو أداء الفرائض وفي مقدمتها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر.

– أهو هكذا؟

نعم! إن جميع أهل الاختصاص والشهود وجميع أهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والأولياء الصالحين متفقون على أن زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه،وإلاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئًا في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الأضواء عند باب القبر.

فيا نفسي الكسول! ما أخفّ أداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها أمام عِظَم فوائدها وثمراتها وضرورتها! إن كنتِ فطنة تفهمين ذلك. ألا قولي لمن يدعوكِ إلى الفسق واللهو والسفاهة، وإلى ذلك الشيطان الخبيث الماكر:

لو كانت لديك وسيلة لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر إلى الأبد، فهاتها إذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فإن القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت إليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطبًا بذكره وتلاوته.

نعم! إن الكلام كلامه. فهو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة.

اللّهم نوِّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن. اللهم أغنِنا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، تبرأنا إليك مِن حولنا وقوتنا والتجأنا إلى حولك وقوتك فاجعلنا من المتوكلين عليك ولا تكِلْنا إلى أنفسنا واحفظنا بحفظك وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

وصلِّ وسلم على سيّدنا محمد عبدك ونبيك وصفيك وخليلك وجمال ملكك ومليك صنعك وعين عنايتك وشمس هدايتك ولسان محبتك ومثال رحمتك ونور خلقك وشرف موجوداتك وسراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك وكاشف طلسم كائناتك ودلاّل سلطنة ربوبيتك ومبلّغ مرضياتك ومعرّف كنوز أسمائك ومعلم عبادك وترجمان آياتك ومرآة جمال ربوبيتك ومدار شهودك وإشهادك وحبيبك ورسولك الذي أرسلته رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ملائكتك المقربين وعلى عبادك الصالحين… آمين .

 

الكلمة السادسة

الكلمة السادسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ(التوبة: 111)

إذا أردت أن تعلم أن بيع النفس والمال إلى الله تعالى، والعبودية له، والجندية في سبيله أربح تجارة واشرفها! فأنصت إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وضع سلطان -ذات يوم- لدى اثنين من رعاياه وديعةً وأمانةً، لكل منهما مزرعة واسعة، فيها كل ما تتطلبه من مكائن وآلات وأسلحة وحيوانات وغيرها.. وتوافق أن كان الوقت آنذاك وقت حرب طاحنة، لا يقرّ قرار لشئ؛ فإما أن تبدّله الحرب وتغيّره أو تجعله أثرًا بعد عين. فأرسل السلطان رحمةً منه وفضلًا أحدَ رجاله المقربين مصحوبًا بأمره الكريم ليقول لهما:

«بيعوا لي ما لديكم من أمانتي لأحفظها لكم، فلا تذهب هباء في هذا الوقت العصيب، وسأردّها لكم حالما تضع الحرب أوزارها.. وسأوفي ثمنها لكم غاليًا، كأن تلك الأمانة ملككم.. وستُشغّل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وبأسمي وعهدتي.. وسترتفع اثمانها من الواحد إلى الألف، فضلًا عن أن جميع الأرباح ستعود إليكم أيضًا.. وسأتعهد عنكم بجميع تكاليفها ومصاريفها، حيث أنكم عاجزون فقراء لا تتحملون مصاريف تلك المكائن.. وسأرد لكم جميع وارداتها ومنافعها، علمًا أني سأبقيها عندكم لتستفيدوا منها وتتمتعوا بها إلى أن يحين وقت أخذها.

فلكم خمس مراتب من الأرباح في صفقة واحدة.

وإن لم تبيعوها لي فسيزول حتمًا كل ما لديكم، حيث ترون أن أحدًا لا يستطيع أن يمسك بما عنده.. وستحرمون من تلك الأثمان الغالية.. وستهمل تلك الآلات الدقيقة النفيسة والموازين الحساسة والمعادن الثمينة، وتفقد قيمتها كليًا، وذلك لعدم استعمالها في أعمال راقية.. وستتحملون وحدكم إدارتها وتكاليفها وسترون جزاء خيانتكم للأمانة.. فتلك خمس خسائر في صفقة واحدة. وفوق هذا كله إن هذا البيع يعني أن البائع يصبح جنديًا حرًا أبيًا خاصًا بي، يتصرف باسمي ولا يبقى أسيرًا عاديًا وشخصًا سائبًا..».

أنصت الرجلان مليًا إلى هذا الكلام الجميل والأمر السلطاني الكريم. فقال العاقل الرزين منهما:

سمعًا وطاعة لأمر السلطان، رضيت بالبيع بكل فخر وشكر.

أما الآخر المغرور المتفرعن الغافل فقد ظن أن مزرعته لا تبيد أبدًا، ولا تصيبها تقلبات الدهر واضطرابات الدنيا، فقال:

«لا!.. ومَن السلطان؟ لا ابيع ملكي ولا أفسد نشوتي!».

ودارت الأيام.. فأصبح الرجل الأول في مقام يغبطه الناس جميعًا، إذ اضحى يعيش في بحبوحة قصر السلطان، يتنعم بألطافه ويتقلب على أرائك أفضاله. أما الآخر فقد ابتلي شرّ بلاء حتى رثى لحاله الناس كلهم، رغم إنهم قالوا: إنه يستحقها! إذ هو الذي ورّط نفسه في مرارة العذاب جزاء ما ارتكب من خطأ، فلا دامت له نشوته ولا دام له ملكه.

فيا نفسي المغرورة!

انظري من خلال منظار هذه الحكاية إلى وجه الحقيقة الناصعة. فالسلطان هو سلطان الأزل والأبد وهو ربك وخالقك. وتلك المزرعة والمكائن والآلات والموازين هي ما تملكينه في الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب، وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، أي جميع الحواس الظاهرة والباطنة. وأما الرسول الكريم فهو سيدنا محمد صلىى الله عليه وسلم. وأما الأمر السلطاني المحكم فهو القرآن الكريم الذي يعلن هذا البيع والتجارة الرابحة في هذه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: 111) وأما الميدان المضطرب والحرب المدمّرة فهي أحوال هذه الدنيا، إذ لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الإنسان بهذا السؤال:

«إن جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في أيدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن أن يحل البقاء بهذا الفناء؟!».

وبينما الإنسان غارق في هذا التفكير، إذا به يسمع صدى القرآن السماوي يدوّي في الآفاق ويقول له بتلك الآية الكريمة: نعم! إن هناك علاجًا لهذا الداء، بل هو علاج لطيف فيه ربح عظيم في خمس مراتب.

سؤال: وما العلاج؟

الجواب: بيعُ الأمانة إلى مالكها الحقيقي، في هذا البيع خمس درجات من الربح في صفقة واحدة.

الربح الأول: المال الفاني يجد البقاء، لأن العمر الزائل الذي يوهب للحي القيوم الباقي، ويبذل في سبيله سبحانه، ينقلب عمرًا أبديًا باقيًا. عندئذٍ تثمر دقائق العمر ثمارًا يانعة وأزاهير سعادة وضاءة في عالم البقاء مثلما تفنى البذور ظاهرًا وتنشق عنها الأزهار والسنابل.

الربح الثاني: الثمن هو الجنة.

الربح الثالث: يرتفع ثمن كل عضو وحاسة ويغلو من الواحدة إلى الألف.

فمثلًا: العقل عضو وآلة، إن لم تبعه -يا أخي- لله ولم تستعمله في سبيله، بل جعلته في سبيل الهوى والنفس، فإنه يتحول إلى عضو مشؤوم مزعج وعاجز، إذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ إلى درك آلة ضارة مشؤومة، ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر إنقاذًا لنفسه من إزعاجات عقله؟ ولكن إذا بيع العقل إلى الله، واُستُعمل في سبيله ولأجله، فإنه يكون مفتاحًا رائعًا بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية فأينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شئ، وكل موجود، وكل حادثة. ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة مرشدٍ رباني يهئ صاحبه للسعادة الخالدة.

ومثلًا: العين حاسة، تطل الروح منها على هذا العالم، فإن لم تستعملها في سبيل الله، واستعملتها لأجل النفس والهوى، فإنها بمشاهدتها بعض المناظر الجميلة المؤقتة الزائلة تصبح في درك الخادمة والسمسارة الدنيئة لإثارة شهوات النفس والهوى. ولكن إن بعتها إلى خالقها البصير واستعملتها فيما يرضيه، عندئذٍ تكون العين مطالِعة لكتاب الكون الكبير هذا وقارئة له، ومشاهِدة لمعجزات الصنعة الربانية في الوجود، وكأنها نحلة بين أزاهير الرحمة الإلهية في بستان الأرض، فتقطّر من شَهْد العبرة والمعرفة والمحبة نور الشهادة إلى القلب المؤمن.

ومثلًا: إن لم تبع حاسة الذوق -التي في اللسان- إلى فاطرها الحكيم، واستعملتها لأجل المعدة والنفس، فحينئذٍ تهوي إلى درك بوّاب معمل المعدة واصطبلها، فتهبط قيمتها. ولكن إن بعتَها إلى الرزاق الكريم، فإنها ترقى إلى درجة ناظر ماهر لخزائن الرحمة الإلهية، ومفتش شاكر لمطابخ القدرة الصمدانية.

فيا أيها العقل! أفق، أين الآلة المشؤومة من مفتاح كنوز الكائنات؟

ويا أيتها العين! أبصري جيدًا، أين السمسرة الدنيئة من الإمعان في المكتبة الإلهية؟

-ويا أيها اللسان! ذق بحلاوة أين بواب المعمل والإصطبل من ناظر خزينة الرحمة الإلهية؟.

فإن شئت -يا أخي- فقس بقية الأعضاء والحواس على هذا، وعندها تفهم أن المؤمن يكسب حقًا خاصية تليق بالجنة، كما أن الكافر يكتسب ماهية توافق جهنم. فما جوزي كل منهما بهذا الجزاء العادل إلاّ لأن المؤمن يستعمل بإيمانه أمانة خالقه سبحانه بأسمه وضمن دائرة مرضاته، وأن الكافر يخون الأمانة فيستعملها لهواه ولنفسه الأمارة بالسوء.

الربح الرابع: إن الإنسان ضعيف بينما مصائبه كثيرة، وهو فقير ولكن حاجته في ازدياد، وعاجز إلاّ أن تكاليف عيشه مرهقة، فإن لم يتوكل هذا الإنسان على العلي القدير ولم يستند إليه، وإن لم يسلّم الأمر إليه ولم يطمئن به، فسيظل يقاسي في وجدانه آلامًا دائمة، وتخنقه حسراته وكدحه العقيم، فإما يحوله إلى مجرم قذر أو سكير عابث.

الربح الخامس: إنه من المتفق عليه إجماعًا بين أهل الاختصاص والشهود والذوق والكشف أن العبادات والأذكار والتسبيحات التي تقوم بها الأعضاء عندما تعمل ضمن مرضاته سبحانه تتحول إلى ثمار طيبة لذيذة من ثمار الجنة، وتقدّم إليك في وقت أنت في أمس الحاجة إليها.

وهكذا.. ففي هذه التجارة ربح عظيم فيه خمس مراتب من الأرباح، فإن لم تقم بها فستحرم من أرباحها جميعها، فضلًا عن خسرانك خمس خسارات اخرى هي:

الخسارة الأولى: إن ما تحبه من مال وأولاد، وما تعشقه من هوى النفس وما تعجب به من حياة وشباب، سيضيع كله ويزول، مخلفًا آثامه وآلامه مثقل بها ظهرك.

الخسارة الثانية: ستنال عقاب من يخون الأمانة. لأنك باستعمالك أثمن الآلات والأعضاء في أخس الأعمال قد ظلمت نفسك.

الخسارة الثالثة: لقد افتريت وجنيت على الحكمة الإلهية، إذ اسقطت جميع تلك الأجهزة الإنسانية الراقية إلى دركات الأنعام بل أضل.

الخسارة الرابعة: ستدعو بالويل والثبور دائمًا، وستئن من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي أرهقت بها كاهلك الـضعيف مع أن فقرك قائم وعجزك دائم.

الخسارة الخامسة: إن هدايا الرحمن الجميلة -كالعقل والقلب والعين وما شابهها- ما وُهبت لك إلاّ لتهيئك لفتح أبواب السعادة الأبدية، فما أعظمها خسارة أن تتحول تلك الهدايا إلى صورة مؤلمة تفتح لك أبواب جهنم!.

والآن.. سننظر إلى البيع نفسه. أهو ثقيل متعب حقًا بحيث يهرب منه الكثيرون؟.

– كلا، ثم كلا.. فلا تعب فيه ولا ثقل أبدًا. لأن دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام.

أما ما افترضهَّ الله علينا فهو كذلك خفيف وضئيل، وأن العبودية لله بحد ذاتها شرف عظيم إذ هي جندية في سبيله سبحانه وفيها من اللذة وراحة الوجدان ما لا يوصف.

أما الواجب فهو أن تكون ذلك الجندي، فتبدأ باسم الله، وتعمل باسم الله، وتأخذ وتعطي في سبيله ولأجله، وتتحرك وتسكن ضمن دائرة مرضاته وأوامره، وإن كان هناك تقصير فدونك باب الاستغفار، فتضرع إليه وقل:

اللّهم اغفر لنا خطايانا، واقبلنا في عبادك، واجعلنا أمناء على ما أمّنته عندنا إلى يوم لقائك … آمـين.

 

الكلمة الخامسة

الكلمة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(النحل:128)

إذا أردت أن ترى أن إقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالإنسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته.. فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة واستمع إليها:

كان في الحرب العالمية الأولى، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه. والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه. كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله بأوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث أنه أدرك يقينًا أن إعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد بل حتى مداواته إذا تمرض بل حتى وضع اللقمة -إذا احتاج الأمر- في فمه، إنما هو من واجب الدولة. وأما واجبه الأساس فهو التدّرب على أمور الجهاد ليس إلاّ، مع علمه أن هذا لا يمنع من أن يقوم بشؤون التجهيز وبعض أعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الأثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما أقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعًا، ولا يجيب: إنني أسعى لأجل كسب لوازم العيش.

أما الجندي الآخر، الجاهل بواجباته فلم يكن ليبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب. فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بأمور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يَدَع الفوج ليزاول البيع والشراء في الأسواق.

قال له صديقه المجدّ ذات يوم:

– يا أخي!! إن مهمتك الأصلية هي التدرّب والاستعداد للحرب، وقد جئ بك إلى هنا من أجل ذلك؛ فاعتمد على السلطان واطمئن إليه في أمر معاشك، فلن يَدَعَك جائعًا، فذلك واجبُه ووظيفته. ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدير أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدّونك عاصيًا لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة.

نعم؛ إن وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا:

أحداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه باعاشتنا. ونحن قد نُستخدم مجانًا في إنجاز تلك الوظيفة.

وأُخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي: التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدّم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة.

فيا أخي تأمل لو لم يُعِر الجندي المهمِل سمعًا لكلام ذلك المجاهد المدرَّب كم يكون خاسرًا ومتعرضًا للأخطار والتهلكة؟!

فيا نفسي الكسول!!

إن تلك الساحة التي تمور مورًا بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة.. وأمّا ذلك الجيش المقسم إلى الأفواج فهو الأجيال البشرية.. وأمّا ذلك الفوج نفسه فهو المجتمع المسلم المعاصر.. وأمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والإنس، إنقاذًا لقلبه وروحه معًا من الهلاك الأبدي والخسران المبين.

وأما تانك الوظيفتان الإثنتان؛ فأحداهما منح الحياة ورعايتها. والأخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه والتوكل عليه والاطمئنان إليه.

أجل! إن الذي وهب الحياة؛ وأنشأها صنعةً صمدانية معجزة تتلمع، وجعلها حكمةً ربانية خارقة تتألق، هو الذي يربيها، وهو وحده الذي يرعاها ويديمها بالرزق.

أوَ تريد الدليل؟!

إن أضعف حيوان وأبلده ليُرزَق بأفضل رزق وأجوده (كالأسماك وديدان الفواكه). وإن أعجز مخلوق وأرقه ليأكل أحسن رزق وأطيبه (كالأطفال والصغار).

ولكي تفهم أن وسيلة الرزق الحلال ليست الاقتدار والاختيار، بل هي العجز والـضعف، يكفيك أن تعقد مقارنه بين الأسماك البليدة والثعالب، وبين الصغار الذين لا قوة لهم والوحوش الكاسرة، وبين الأشجار المنتصبة والحيوانات اللاهثة.

فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسوّل متسكعًا في الأسواق. بينما الذي يقيم الصلاة دون أن ينسى نصيبه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضًا.

ثم إن فطرة الإنسان وما أودع الله فيه من أجهزة معنوية تدلاّن على أنه مخلوق للعبادة؛ لأن ما أودع فيه من قدرات وما يؤديه من عمل لحياته الدنيا لا تبلغه مرتبة أدنى عصفور -الذي يتمتع بالحياة أكثر منه وأفضل- بينما يكون الإنسان سلطان الكائنات وسيد المخلوقات من حيث حياته المعنوية والأخروية بما أودع الله فيه من علم به وافتقار إليه وقيام بعبادته.

فيا نفسي!

إن كنت تجعلين الحياة الدنيا غاية المقصد وافرغت في سبيلها جهدك فسوف تكونين في حكم أصغر عصفور.

اما إن كنت تجعلين الحياة الأخرى غاية المنى وتتخذين هذه الحياة الدنيا وسيلة لها ومزرعة، وسعيتِ لها سعيها.. فسوف تكونين في حكم سيد الأحياء والعبد العزيز لدى خالقه الكريم وستصبحين الـضيف المكرم الفاضل في هذه الدنيا.

فدونك طريقان اثنان، فاختاري أيّما تشائين.

واسألي الرب الرحيم الهداية و التوفيق.