قِسمٌ من الأجوبة

قِسمٌ من الأجوبة

إنْ كان الأمر كذلك فإني أقول: إنَّكم تملكون بحقٍّ استعدادًا لشجاعةٍ خارقة، بدليلِ أن أحدكم تهون عليه حياتُه في سبيل أمورٍ صغيرةٍ كمنفعةٍ يسيرةٍ، أو جاهٍ جزئيٍّ، أو شرفٍ رمزيٍّ، أو لِيقال عنه إنه بطل، ويقدِّمُ روحَه فداءً في سبيل تعظيم مقامِ رئيسه؛ فماذا لو صحا هؤلاء يا تُرى؟! ألا تَهون عليهم حياتُهم -حتى وإن كانت لهم آلافُ الأرواح- في سبيل قوميَّةِ الإسلام التي لا تقدَّر بثمن، [إن قوميَّتنا جسدٌ، روحُه الإسلام، وعقلُه القرآن والإيمان؛ سعيد] إذْ تمنحهم أُخوَّةَ ثلاثمئةِ مليون مسلمٍ وعونَهم المعنوي؟!
إن مَن يبيع حياتَه لأجل عشر بارات، لا بدَّ أنه سيبيعها بكلِّ حماسٍ لأجل عشر ليرات. [تتألف الليرة العثمانية من مئة قرش، ويتألَّف القرش الواحد من أربعين بارة؛ هـ ت]
فواأسفاه!! مثلما خرجتْ محاسنُنا من أيدينا وأفضَت إلى غير المسلمين، سَرَق هؤلاء منا أخلاقَنا العالية؛ فكأنَّ بعضَ أخلاقنا الاجتماعية الرفيعة إذْ لم تلقَ رواجًا عندنا، نفرتْ منا ولجأتْ إليهم؛ وكأنَّ بعضَ رذائلهم إذْ لم تجدْ كثيرَ رواجٍ عندهم، جُلِبَتْ إلى سوق جهالتنا!
ألا تَعجَبون إذْ تَرَون أنَّ كلمةً بيضاء وخَصلةً حمراء مثل: «إنْ أنا مِتُّ فلتسلَم دولتي وأمتي وأحبَّتي»، التي هي أُسُّ أساسِ الرقيِّ والتقدم الحاضر، بل مقتضى الدِّين الحق، قد سرقها منا غيرُ المسلمين؟! فإنَّ الفدائيَّ والمُضَحِّيَ منهم يقول: «إنْ أمُتْ فلْتسلمْ أمَّتي؛ فإن حياتي المعنوية فيها»!! بينما تقودُنا وتكُفُّ يدَ هِمَّتِنا كلمةٌ حمقاءُ وسَجيَّةٌ

صدى الحقيقة

صدى الحقيقة

27 مارت 1909م

إن السبيل المحمدي مستغنٍ عن كل ما يومئ إلى الحيلة والشك لأنه منزّه عن الخداع والشبهة.

ثم إن حقيقة واسعة عظيمة محيطة إلى هذا الحد -ولا سيما تجاه أهل هذا الزمان- لا يمكن أن تخفى مطلقًا.

وهل يخفى البحر العظيم في كأس؟!

أقول مكررًا إن التوحيد الإلهي هو جهة الوحدة في الاتحاد المحمدي الذي هو حقيقةُ اتحاد الإسلام (الوحدة الإسلامية).

أما يمينه وبيعته فهو الإيمان.

ومقرّاته وأماكن تجمعاته: المساجد والمدارس الدينية والزوايا.

ومنتسبوه: جميع المؤمنين.

ونظامه الداخلي: السنن الأحمدية، والقوانين الشرعية بأوامرها ونواهيها. فهذا الاتحاد ليس نابعًا من العادة وإنما هو عبادة.

فالإخفاء والخوف من الرياء، والفرائض لا رياء فيها، وأوجبُ الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد الإسلام (الوحدة الإسلامية).

وهدف الاتحاد وقصده تحريك الرابطة النورانية التي تربط المعابد الإسلامية التي هي منتشرة ومتشعبة، وإيقاظ المرتبطين بها بهذا التحريك، ودفعهم إلى طريق الرقي بأمر وجداني.

مشرب هذا الاتحاد هو: المحبة. وعدوه: الجهل والفقر والنفاق.

وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه الصفات الثلاث ليس إلّا.

وبالنسبة إليهم فسبيلنا الإقناع؛ لأننا نعتقدهم مدنيين. وإننا مكلفون بأن نظهر الإسلام بمظهر الجمال والحسن المحبوب، لأننا نظن فيهم الإنصاف. ألَا فليعلم المُهمِلون غير المكترثين أنهم لا يحببون أنفسهم بالانسلاخ من الدين لأي أجنبي كان. وإنما يظهرون أنهم على غير هدى ليس إلّا. ومن كان على غير هدى في طريق الفوضوية لا يُحَبّ قطعًا، والذين انضموا إلى هذا الاتحاد بعد التدقيق العلمي والبحث والتحري لا يتركونه تقليدًا لأولئك حتمًا.

نحن نَعرِض أفكار اتحاد الإسلام الذي هو الاتحاد المحمدي ومسلكَه وحقيقته للناس أجمعين. ونحن مستعدون لسماع أي اعتراض كان.

جمله شيران جهان بستهء إين سلسله أند

روبه أزحيله جه سان بكُسلد إين سلسله را

أي:

هـل يقـطع الـثـعلب المـحتـال سلسلةً

قِـيدتْ بـهـا أسد الـدنـيـا بـأسـرهم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

«فقرة تركتُها من «فهرس المقاصد» المنشور»

إن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاريَ والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر، ينبغي أن يكون أحدُ مجاريه قسمًا من أهل الشريعة كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع، لأن الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يُحدِث فيها هذا الماءُ الآسن العفن خلافَ المقصود.

فلابد إذن من تصفيته بمصفاة الشريعة. وهذا الأمر تقع مسؤوليتُه على عاتق أهل المدرسة الشرعية.

والسلام على من اتبع الهدى

سعيد النُّورْسِيّ

حقيقة

حقيقة

26 شباط 1324رومي

الجريدة الدينية/70

7 مارت 1909م

نحن منذ الأزل داخلون في الجمعية المحمدية، فالتوحيد هو جهة الوحدة والاتحاد فيما بيننا، وقَسَمُنا وعهدنا هو الإيمان.

فما دمنا موحدين متحدين، فكل مؤمن مكلفٌ بإعلاء كلمة الله… وأعظمُ وسيلة لإعلاء كلمة الله في زماننا هذا هو الرقي المادي.

إذ الأجانب يسحقوننا تحت تحكمهم المعنوي بسلاح العلوم والصنائع، ونحن سنجاهد بسلاح العلم والتقنية الجهلَ والفقرَ والخلاف الذي هو ألد أعداء إعلاء كلمة الله.

أما الجهاد الخارجي فنحيله إلى السيوف الألماسية للبراهين القاطعة للشريعة الغراء. لأن الغلبة على المدنيين إنما هي بالإقناع وليس بالإكراه كما هو شأن الجهلاء الذين لا يفقهون شيئًا.

نحن فدائيو المحبة لا مكان بيننا للخصومة.

فالجمهورية([1]) عبارة عن العدالة والشورى وحصر القوة في القانون… أليس من الجناية على الإسلام أن تستجدى الأحكام من أوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلاثة عشر قرنًا؟ إن هذا الاستجداء شبيه بالتوجه إلى غير القبلة في الصلاة.

إن القوة لابد أن تكون في القانون وإلّا فسيتفشى الاستبداد في الكثيرين.

ولابد أن يكون المهيمن والأمر الوجداني قوله تعالى: ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ (الحج:74). وهذا يكون بالمعرفة التامة والمدنية الكاملة أو بتعبير آخر بالإسلام. وإلّا فسيكون الاستبداد هو المستولي دائمًا.

إن الاتفاق في الهدى وليس في الهوى والهوس.

نعم، إن الله خلق الناس أحرارًا وهم عبيد لله، فقد تحرر كل شيء، فنحن بامتثالنا الشريعة أحرار، وبتمسكنا بالمشروطية أحرار أيضًا، ولن نتنازل عن المسائل الشرعية ولن نعطيها أتاوة. إن قصور فردٍ عن شيء لا يكون عذرًا لقصور آخر.

اعلموا أن اليأس مانع كل كمال.

إن هدية الاستبداد وتذكاره هو: «ما لي أنا.. فليفكّر غيري».

أحيل الربط بين هذه الجمل إلى فِكر المُطالِع الكريم لعدم إتقاني اللغة التركية!!

سعيد النُّورْسِيّ


[1] وضعت هذه الكلمة حديثًا بدلًا من المشروطية الموجودة سابقًا… (المؤلف).

نص الخطبة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نقدم أولًا ما يقدمه كلُّ ذي روح بلسان حال حياته من هدايا معنوية إلى خالقه، وما يقدمه كلٌّ منهم من الحمد والشكر بلسان حاله إلى ذلك الواجب الوجود الذي قال:
﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ (الزمر:53)، ونصلي ونسلّم صلاةً وسلامًا لا منتهى لهما على نبيّنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام، الذي قال: «إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق» أي: إنما بعثني الله إلى الناس لتتميم الخصال الحميدة وإنقاذ البشرية من الطباع الذميمة.

أما بعد!

فيا إخواني العرب الذين يستمعون إلى هذا الدرس في هذا الجامع الأموي؛ إنني ما صعدت هذا المنبر وإلى هذا المقام الذي هو فوق حدي لأرشدكم؛ فهذا أمرٌ فوق طوقي، إذ ربما فيكم ما يقارب المئة من العلماء الأفاضل، فمَثلي معكم كمثل صبي يذهب إلى المدرسة صباحًا ثم يعود في المساء ليعرض ما تَعلّمه على أبيه، ابتغاء تصحيح أخطائه والتلطّف في تصويبه وإرشاده.

فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار، فنحن تلامذة بالنسبة إليكم وأنتم أساتذة لنا ولسائر أمة الإسلام. وها أنذا أعرض بعض ما تعلمتُه على أساتذتي:

لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الاجتماعية البشرية، وعلمتُ في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة أمراض جعلتنا نقـف على أعتاب القرون الوسطى في الوقت الذي طار فيه الأجانب -وخاصة الأوربيين- نحو المستقبل.

وتلك الأمراض هي:

أولًا: حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه.

ثانيًا: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.

ثالثًا: حبّ العداوة.

رابعًا: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.

خامسًا: سريان الاستبداد سريانَ الأمراض المُعدية المتنوعة.

سادسًا: حصر الهمة في المنفعة الشخصية.

ولمعالجة هذه الأمراض الستة الفتّاكة، أبيّن ما اقتبستُه من فيض صيدلية القرآن الحكيم -الذي هو بمثابة كلية الطب في حياتنا الاجتماعية- أبيّنها بست كلمات، إذ لا أعرف أسلوبًا للمعالجة سواها.

الكلمة الأولى: «الأمل»

أي: شدة الاعتماد على الرحمة الإلهية والثقة بها.

نعم، إنه بناءً على ما تعلمته من دروس الحياة، يسرّني أن أزفّ إليكم البشرى يا معشر المسلمين، بأنه قد أَزِفَ بزوغُ أمارات الفجر الصادق ودنا شروقُ شمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين، ولاسيما سعادة العرب الذين يتوقّف تقدمُ العالم الإسلامي ورقيُّه على تيقظهم وانتباههم، فإنني أعلن بقوة وجزم، بحيث أُسمِعُ الدنيا كلها وأنفُ اليأس والقنوط راغم:([1])

أن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده، وأن الحكم لن يكون إلّا لحقائق القرآن والإيمان. لذا فعلينا الرضا بالقدر الإلهي وبما قسّمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماضٍ مشوش مختلط.

فهذه دعواي، لي عليها براهين عدة، سأذكر واحدًا ونصفًا فقط منها، بعد أن أمهّد لها ببعض المقدمات.

أما المقدمات فهي:

أن حقائق الإسلام تمتاز باستعدادها استعدادًا كاملًا لدفع أهلها إلى مراقي التقدم المادي والمعنوي معًا.

أما أنه مستعد للرقي المعنوي:

فاعلموا أن التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية، أَصدقُ شاهد على حقيقة الأحداث؛ فها هو التاريخ يرينا.. أن القائد الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة الآتية في صدد عظمة الإسلام وحقانيته: «إنه بنسبة قوة الحقائق الإسلامية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق، يزدادون رقيًا وتقدمًا، هكذا يرينا التاريخ. ويرينا أيضًا أنه بقدر ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف والاضمحلال والوقوع في ألوان من الهرج والمرج والاضطرابات، ويُغلَبون على أمرهم». أما سائر الأديان الأخرى فالأمر فيها على عكس الإسلام، أي: بقدر ضعف تمسّك أتباعها وضعف تعصبهم وصلابتهم في دينهم يزدادون رقيًا وتقدمًا، وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم بدينهم يتعرّضون للانحطاط والاضطرابات.

هذا هو حكم التاريخ.. وهكذا مَرَّ الزمانُ إلى الآن.

وما أرانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد إلى الآن أن مسلمًا قد ترك دينه مرجِّحًا عليه -بالمحاكمة العقلية والدليل اليقيني- دينًا آخر، على حين أن كثيرًا من أتباع الأديان الأخرى -حتى المتعصبين منهم، كالروس القدامى والإنكليز- قد رجّحوا بالمحاكمة والدليل العقلي دين الإسلام على أديانهم فدخلوا في الإسلام. ولا عبرة هنا بتقليد العوام الذي لا يستند إلى دليل، كما لا عبرة بالمروق عن الدين والخروج على حقائقه، فهذه مسألة أخرى. علمًا أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالإسلام -بالمحاكمة العقلية- جماعاتٍ وأفواجًا يزداد يومًا بعد يوم.([2])

ولو أننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم أخـلاق الإسلام وكمال حقائـق الإيمان، لدخل أتباع الأديان الأخرى في الإسلام جماعاتٍ وأفواجًا، بل لربما رضخت دول العالم وقاراته للإسلام.

إن البشرية التي أخذت تصحو وتتيقّظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة أدركت كنه الإنسانية وماهيتها، وتيقّنت أنه لا يمكنها أن تعيش هملًا بغير دين، بل حتى أشد الناس إلحادًا وتنكرًا للدين مضطر إلى أن يلجأ إلى الدين في آخر المطاف؛ لأن: «نقطة استناد» البشر عند مهاجمة المصائب والأعداء من الخارج والداخل، مع عجزه وقلّة حيلته، وكذا «نقطة استمداده» لآماله غير المحدودة الممتدة إلى الأبد مع فقره وفاقته، ليس إلّا «معرفةَ الصانع» والإيمان به والتصديق بالآخرة… فلا سبيل للبشرية المتيقّظة إلى الخلاص سوى الإقرار
بكل ذلك.

وما لم يوجد في صَدَفة القلب جوهر الدين الحق، فسوف تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر، وسيكون أشقى الحيوانات وأذلّها.

خلاصة الكلام: لقد تيقّظ الإنسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونُذُرِ الحروب والأحداث المذهلة، وَشَعَر بقيمة جوهر الإنسانية واستعدادها الجامع، وأدرك أن الإنسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يُخلق لقضاء هذه الحياة المتقلّبة القصيرة، بل خُلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة إلى الأبد، وأن كل إنسان بدأ يشعر -حسب استعداده- أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لا تسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة، حتى إذا قيل لقوّة الخيال التي تخدم الإنسانية: «لك أن تعمَّري مليون سنة مع سلطنة الدنيا، نظيرَ قبولك موتًا أبديًا لا حياة بعده إطلاقًا»، فلابد أن خيال ذلك الإنسان المتيقّظ الذي لم يفقد إنسانيته سيتأوه كَمَدًا وحزنًا -بدلًا من أن يفرح ويستبشر- لفقده السعادة الأبدية.

وهذا هو السر في ظهور ميل شديد إلى التحري عن الدين الحق في أعماق كل إنسان، فهو يبحث قبل كل شيء عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت الأبدي. ووضعُ العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة.

لقد بدأت قارات العالم ودوله -بعد مرور خمسة وأربعين عامًا وبظهور الإلحاد- تدرك إدراكَ كل فردٍ هذه الحاجة البشرية الشديدة.

ثم إن أوائل أكثر الآيات القرآنية وخواتمها، تحيل الإنسان إلى العقل قائلة: راجعْ عقلَك وفكرك أيها الإنسان وشاورهما، حتى يتبينَ لك صدق هذه الحقيقة؛ فانظروا مثلًا إلى قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُٓوا.. ﴿فَاعْلَمْ.. ﴿اَفَلَا يَعْقِلُونَ.. ﴿اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا .. ﴿اَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ.. ﴿اَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ.. ﴿فَاعْتَبِرُوا يَٓا اُو۬لِي الْاَبْصَارِ .وأمثالِها من الآيات التي تخاطب العقل البشري، فهي تسأل: لِمَ تتركون العلم وتختارون طريق الجهل؟ لِمَ تعصُبون عيونَكم وتتعامَوْن عن رؤية الحق؟ ما الذي حملكم على الجنون وأنتم عقلاء؟ أي شيء منعكم من التفكر والتدبّر في أحداث الحياة، فلا تعتبرون ولا تهتدون إلى الطريق المستقيم؟ لماذا لا تتأملون ولا تحكّمون عقولكم لئلا تضلوا؟.

ثم تقول: أيها الناس انتبهوا واعتبروا! أنقذوا أنفسكم من بلايا معنوية تنزل بكم، باتعاظكم من القرون الخوالي.

يا إخواني الذين يضمّهم هذا الجامع الأموي، ويا إخواني في جامع العالم الإسلامي! اعتبروا أنتم أيضًا! وقيّموا الأمور في ضوء الأحداث الجسام التي مرت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية، كونوا راشدين، يا من يعدّون أنفسهم من أولي الفكر والعلم.

نحصل مما سبق: نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نتّبع البرهان، ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الإيمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليدًا للرهبان كما هو دأب أتباع سائر الأديان!

وعلى هذا فإن المستقبل الذي لا حكمَ فيه إلّا للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامُه إلى العقل والمنطق والبرهان.

وها قد أَخَذَت الحجبُ التي كانت تكسف شمس الإسلام تنزاح وتنقشع، وأخذت تلك الموانع بالانكماش والانسحاب، ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس وأربعين سنة، وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف أو هو على وشك البزوغ، وحتى إن كان هذا الفجر فجرًا كاذبًا فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلاثين أو أربعين عامًا إن شاء الله.

نعم، فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلاء حقائق الإسلام على الزمان الماضي استيلاءً تامًا وهي:

المانع الأول والثاني والثالث:

جهل الأجانب،

وتأخرهم عن عصرهم (أي بُعدهم عن الحضارة)،

وتعصبهم لدينهم…

فهذه الموانع الثلاثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي ومحاسن المدنية.

المانع الرابع والخامس:

تحكّم القسيسين وسيطرةُ الزعماء الروحانيين على أفكار الناس وأذهانهم،

وتقليد الأجانب لأولئك القسيسين تقليدًا أعمى.

فهذان المانعان أيضًا يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية الفكر وميل النوع البشري إلى البحث عن الحقائق.

المانع السادس والسابع:

تفشي روح الاستبداد فينا،

وانتشار الأخلاق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة ومخالفتها.

فإن زوال قوة استبداد الفرد الآن يشير إلى زوال استبداد الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلاثين أو أربعين سنة. ثم إن فوران الحمية الإسلامية والوقوف على النتائج الوخيمة للأخلاق الذميمة كفيلان برفع هذين المانعين بل هما على وشك أن يُرفعا، وسيزولان زوالًا تامًا إن شاء الله.


[1] لقد أخبر «سعيد القديم» بإحساس مسبق منذ خمسة وأربعين عامًا بأن العالم الإسلامي -وفي مقدمته الدول العربية- سينجو من سيطرة الأجانب وتحكّمهم، وسيشكلون دولًا إسلامية سنة1371. ولم يفكر آنذاك في الحربين العالميتين ولا في الاستبداد المطلق الذي دام ما يقارب أربعين عامًا، فبشّر بما كان سنة 1371 وكأنه 1327 دون أن يأخذ سبب التأخير بنظر الاعتبار. (المؤلف).

[2] والدليل على هذه الدعوى هو أنه مع قيام حربين عالميتين رهيبتين، وظهورِ استبداد مطلق قاسٍ نجد أنه بعد خمس وأربعين سنة:

  1. قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا تدريس القرآن في مدارسها، ليكون سدًا منيعًا أمام الشيوعية والإلحاد.
  2. قبول عدد من الخطباء الإنكليز المشهورين بإقناع الإنكليز وحملهم على قبول القرآن.
  3. موالاة أكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر-وهي أمريكا- لحقائق الدين بكل قواها، واعترافها بأن آسيا وإفريقيا ستجدان السعادة والأمن والسلام في ظل الإسلام. فضلًا عن تعاطفها مع دول إسلامية حديثة الولادة ومحاولتها الاتفاق معها.. كل ذلك يُثبت صدق هذه الدعوى التي قيلت قبل خمس وأربعين سنة، وشاهد قوي عليها.(المؤلف).

مقدمة المؤلف

مقدّمة الخطبة الشامية للمؤلف

باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدًا دائمًا.

إخواني الأعزاء الأوفياء!

هذه الرسالة العربية قد أُلقيتْ درسًا في الجامع الأموي بدمشق قبل أربعين عامًا، وذلك بناءً على إصرار العلماء هناك، واستمَعَ إليها ما يَقرب من عشرة آلاف شخص، بينهم ما لا يقل عن مائة من كبار علماء الشام.

إن الحقائق الواردة فيها، قد أحسَّ بها «سعيد القديم» بإحساس مسبَق، فزفّها بشائر عظيمة بيقين جازم، ظنًا منه أن تلك الحقائق وشيكة التحقق، بيد أن الحربين العُظميين، والاستبدادَ المطلق الذي استمر ربع قرن من الزمان،([1]) قد أدّيا إلى تأخر تحقق تلك الحقائق أربعين أو خمسين عامًا.

والآن قد بدأت تباشير تحقق ما أخبر عنه تلوحُ في أفق العالم الإسلامي، بمعنى أن هذا الدرس المهم ليس مجرد خطبة قديمة، قد عفا عليها الزمن، بل هو درس اجتماعي إسلامي، يحتفظ بكامل جدّته وطراوته وحقيقته طوال هذه الفترة… وكلُّ الذي حدث هو أن عام 1327هـ قد أصبح عام 1371هـ وأن الجامع الأموي قد حل محلّه جامع العالم الإسلامي الذي يضم ثلاث مائة وسبعين مليون نسمة.([2])

إن درسًا كهذا جدير الآن بالترجمة على ما أعتقد.

سعيد النُّورْسِيّ


 

[1] أي منذ انتهاء الخلافة العثمانية سنة 1923م إلى سنة 1950 م.

[2] تعداد المسلمين آنذاك.

مقدمة المترجم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بين يدي هذه الرسالة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه،

وبعد؛

فقد ألقى الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ، وهو في شرخ الشباب هذه الخطبة باللغة العربية في الجامع الأموي بدمشق، برجاءٍ من علماء الشام وإلحاحهم، وحضرها جمهور غفير من الناس يَربون على عشرة آلاف شخص، فاستمعوا إليها بلهفة وشوق، حتى إن الخطبة لما طُبعت لأول مرة نفدتْ نسخها في غضون أيام قليلة فأُعيد طبعها خلال أسبوع واحد.

كان ذلك في شتاء سنة 1911م، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. ثم توالت أيام الحرب الدامية، وانتهت بأُفول نجم الدولة العثمانية، وبدأت بعدها أيامُ محَنٍ توالت على الأستاذ النُّورْسِيّ بسلسلة اعتقالاته ونفيه ومحاكماته التي دامت حتى سنة 1950م.

فطوال هذه السنين العجاف لم يتسنَّ له مراجعة هذه الخطبة، بل حتى إنه لم يرها، إلى أن أَرسل إليه في سنة 1951م أحد أصدقائه من مدينة «وان» نسخة مطبوعةً منها.

كان الأستاذ النُّورْسِيّ عند ذاك في منفاه في «أميرداغ» فأعاد النظر في خطبته التي ألقاها قبل أربعين سنة، وبدأ بترجمتها إلى التركية، أو بالأحرى بتنقيحها وصياغتها مجددًا، إذ ضمَّ إليها فقرات مهمة وهوامش قيّمة([1]) وحذف منها ما يحدد شموليتها، وأحال بعض مسائلها إلى أجزاء رسائل النور، ثم درّسها لقسمٍ من طلابه.

قام الملا عبد المجيد «شقيق الأستاذ النُّورْسِيّ» بترجمة هذا النص التركي إلى العربية -بتوصية من المؤلف نفسه- حسب أسلوبه، ونُشرتْ بالاستنساخ اليدوي في أوساط ضيقة، إذ كانت الطباعة محظورة بالحروف العربية آنذاك.

وفي بداية الستينات تناول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ترجمة الملا عبدالمجيد هذه، وصاغها بأسلوبه العذب. ونُشرتْ منها طبعات كثيرة في حينه.([2])

ولكن لما كانت الترجمة العربية هي في الأصل غير كاملة وغير مستوعبة للموضوع، فقد جاءت تلك الصياغة الجميلة -مع الأسف- ينقصها الكثير من الفقرات المهمة والمسائل الجليلة التي تمس الأحداث، فضلًا عن أن الصياغة اقتصرت على الخطبة وحدها دون ذيولها ولواحقها.

ثم تناول الأستاذ عاصم الحسيني (رحمه الله رحمة واسعة) النصَّ التركي بالترجمة إلى العربية، فأجاد أسلوبًا وأداءً للمعنى، وقام طلاب النور بطبعها في المطبعة البولسية ببيروت سنة 1974م.

ما قمت به في هذه الرسالة:

قابلتُ ترجمة الأخ عاصم بالنص التركي فتوصلت إلى الآتي:

1- إنها ترجمة قيّمة لا ترقى إليها ترجمة أخرى، سواء في الأداء أو السبك الرصين للجمل، وهي تكاد تكون مطابقة لمتن الخطبة بالنص التركي، إلّا في بعض الجمل أو أجزاءٍ من فقرات.

2- بيد أن الأخ الكريم لم تتح له الفرصة -كما يبدو- لإكمال ترجمته، فلم يترجِم ذيول الخطبة كاملة، إذ المقالات التي كتبها الأستاذ النُّورْسِيّ في الصحف المحلية في عهد الاتحاديين وألحقها بالنص التركي، ذاتُ أهمية في إعطاء الصورة الكاملة والواضحة للأحوال السياسية والاجتماعية وكذا التيارات الفكرية التي كان يموج بها المجتمع وقتئذٍ.

3- ولأجل هذا كله، رأيت لزامًا عليّ القيام بترجمة النص التركي للخطبة مجددًا، مع ذيولها ولواحقها كاملة، ليلمس القارئ الكريم بنفسه أبعاد المسائل التي يطرقها الأستاذ النُّورْسِيّ، ويطّلعَ عليها من جميع جوانبها.

ولقد انتهجت أثناء الترجمة والمقابلة على النص التركي والعربي، الخطوات الآتية:

1- اعتبار النص التركي الذي صاغه الأستاذ النُّورْسِيّ بنفسه هو الأساس، مع ذيوله ولواحقه. وهو النص نفسه الـذي وضـعـه الأستاذ ضمـن مبـاحث كتاب (Tarihçe-i Hayat) أي «تاريخ الحياة» الذي قام بتأليفه طلابُه المقرّبون وأقرّه بنفسه وطُبع في حياته. والنسخة التي اعتمدتُ عليها من الخطبة هي من منشورات «دار سوزلر» في إسطنبول سنة 1979م.

2- مقابلة كل فقرة في النص التركي بالنسخة العربية لنص الخطبة المطبوعة في إسطنبول -لأول مرة- سنة 1922م في مطبعة الأوقاف الإسلامية. علمًا أن هذا النص الأول العربي لم تبق له إلّا أهميته التاريخية حيث نقّحه المؤلف بنفسه كما ذكرنا.

3- الاكتفاء بترجمة الأخ عاصم الموافِقة للنص التركي مع إجراء ما يلزم من تغييرات في الفقرات والجمل ليقرّبها أكثر إلى معنى النص التركي وليفي بمراد المؤلف، مع إكمال الجمل أو الفقرات الناقصة فيها.

4- ترجمة الذيول بكاملها والمقالات الملحقة بها.

5- وضع هوامش ضرورية للقارئ الكريم لإيضاح ما يستغلق عليه من مصطلحات سياسية وتاريخية كانت معروفة ومتداولة في حينها.

6- استخراج الآيات الكريمة من القرآن الكريم ووضع اسم السورة ورقم الآية.

7- تخريج الأحاديث الشريفة اعتمادًا على الكتب الموثوقة.

والله نسأل أن يوفقنا لحسن القصد، وصحة الفهم، وصواب القول وسداد العمل…

وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إحسان قاسم الصالحي

المحرم الحرام 1409


[1] ذُيلت هوامش المؤلف بـ«المؤلف»، وحصرت العبارات العربية التي وردت في النص التركي بين قوسين مركنين [ ].

[2] طبعت الطبعة الأولى منها في مطبعة بركات بدمشق.