الآية (7)

 ﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَعَلٰى سَمْعِهِمْ وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌۘ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ۟ ﴿7﴾﴾

مقدمة

اعلم أنه لزمنا أن نقف هنا حتى نستمع لما يتكلّم به المتكلمون؛ إذ تحت هذه الآية حربٌ عظيمة بين أهل الاعتزال وأهل الجبر وأهل السنة والجماعة. ومثل هذه الحرب تستوقف النُظّار. فناسَبَ أن نذكر أساساتٍ لتستفيد منها:

إنَّ مذهب أهل السنة والجماعة هو الصراطُ المستقيم، وما عداه إما إفراطٌ أو تفريط.

منها: أنه قد تحقق: «أنْ لا مُؤَثِّرَ فِي الْكَوْنِ إِلّا الله» فإذن لا تفويض.

ومنها: «أن الله حكيم» فلا يكون الثوابُ والعقاب عبَثين، فحينئذ لا اضطرارَ. فكما أن التوحيدَ يدفع في صدر الاعتزال؛ كذلك التنـزيهُ يضرب على فمِ الجبر.

ومنها: أن لكل شيء جهتين: جهة مِلْكية هي قد تكون حسنةً وقد تكون قبيحةً تتوارد عليها الأشكالُ كظهر المرآة. وجهةٌ مَلَكوتية تنظر إلى الخالق. وتلك شفافةٌ في كل شيء كوجهِ المرآة. فخَلقُ القبيح ليس قبيحاً؛ إذ الخَلق من جهة الملكوتية حَسنٌ، ولأن خلقَه لتكميل المحاسن فيحسُن بالغير. فلا تُصغِ إلى سفسطة الاعتزال!

ومنها: أن الحاصل بالمصدر أمرٌ قارٌ مخلوق جامد لا يُشتق منه الصفاتُ. وأما المصدر فمكسوبٌ نسبيّ اعتباريّ يُشتق منه الصفات. فلا يكون خالقُ القتل قاتلاً.. فَذَرْ أهل الاعتزالِ في خوضهم يَلْعَبُون!

ومنها: أن الفعل الظاهريّ في الأغلب نتيجةٌ لأفعال متسلسلةٍ منتهيةٍ إلى ميَلان النفسِ الذي يسمّى بـ«الجزء الاختياري». فتدور المنازعاتُ على هذا الأساس.

ومنها: أن الإرادة الكلية الإلهية ناظرةٌ بعادته تعالى إلى الإرادةِ الجزئية للعبد، فلا اضطرارَ.

ومنها: أن العلمَ تابعٌ للمعلوم، فلا يتبعُه المعلومُ حتى يدور. فلا يُتعلل في العمل بإحالة مقاييسه على القدَر.

ومنها: أن خلقَ الحاصل بالمصدر متوقفٌ على كسب المصدرِ بجريان عادة الله تعالى باشتراطه به. والنواةُ في كسب المصدر والعُقدة الحياتية فيه هي الميَلان، فبحَلّه تنحلّ عُقدة المسألة.

ومنها: أن الترجُّحَ بلا مُرجِّح محالٌ دون الترجيحِ بلا مرجِّحٍ، فلا يُعلّلُ أفعالُه تعالى بالأغراض؛ بل اختيارُه تعالى هو المرجِّح.

ومنها: أن الأمر الموجود لابد له من مؤثر وإلا لزَم الترجّح بلا مرجِّح وهو محال كما مرَّ. وأما الأمرُ الاعتباري فتخصُّصُه بلا مخصّصٍّ لا يلزم منه المحالُ.

ومنها: أن الموجود يجبُ أن يجبَ ثم يوجَدَ. وأما الأمر الاعتباري فالترجُّح بلا انتهاء إلى حدّ الوجوبِ كافٍ، فلا يلزمُ ممكنٌ بلا مؤثر.

ومنها: أن العلم بوجود شيءٍ لا يستلزم العلمَ بماهيتِه، وعدمَ العلم بالماهية لا يستلزم العدمَ. فعدمُ التعبير عن كُنهِ الاختيار لا يُنافي قطعيةَ وجودِه.

وإذا تفطنتَ لهذه الأساسات فاستمع لما يُتلى عليك:

فنحن معاشرَ أهل السنة والجماعة نقول: يا أهل الاعتزال! إن العبد ليس خالقاً للحاصل بالمصدر كالحاصلِ من المصدر، بل هو مصدرُ المصدرِ فقط؛ إذ «لا مؤثر في الكون إلا الله»، والتوحيد هكذا يقتضي. ثم نقول: يا أهل الجبر! ليس العبدُ مضطراً بل له جزءٌ اختياري لأن الله حكيم. وهكذا يقتضي التنـزيه.

 فإن قلتم: كلّما يُشرّح الجزءُ الاختياري بالتحليل لا يظهر منه إلا الجبرُ.

قيل لكم:

أولاً: إنَّ الوجدان والفطرة يشهدان أن بين الأمر الاختياري والاضطراري أمراً خفياً فارقاً، وجودُه قطعي. فلا علينا أن لا نعبِّر عنه.

وثانياً: نقول إن المَيَلان إن كان أمراً موجوداً -كما عليه الأشاعرة- فالتصرّفُ فيه أمر اعتباري بيد العبد؛ وإن كان المَيلان أمراً اعتبارياً -كما عليه الماتريدية- فذلك الأمر الاعتباري ثبوتُه وتخصصُه لا يستلزم العلةَ التامة الموجِبة فيجوز التخلّف. فتأمل!

والحاصل: أنَّ الحاصل بالمصدر موقوفٌ عادة على المصدر الذي أساسُه المَيَلانُ الذي هو -أو التصرف فيه- ليس موجوداً حتى يلزمَ مِن تخصّصِه مرةً هذا ومرةً ذاك ممكنٌ بلا مؤثر، أو ترجّحٌ بلا مُرجّح.. ولا معدوماً أيضاً حتى لا يصلُح أن يكون شرطاً لخَلق الحاصل بالمصدر أو سبباً للثواب والعقاب.

 إن قلت: العلمُ الأزلي والإرادةُ الأزلية ينحيان على الاختيار بالقَلع؟

قيل لك: إنَّ العلم بفعلٍ باختيارٍ لا ينافي الاختيارَ..

وأيضاً إن العلمَ الأزلي محيطٌ كالسماء، لا مبدأٌ للسلسلة، كرأسِ زمانِ الماضي حتى تسند إليه المسبّباتُ متغافلاً عن الأسباب موهماً خروجُها..

وأيضاً إن العلم تابعٌ للمعلوم، أي على أيّ كيفية يكون المعلومُ، كذلك يحيط به العلمُ، فلا يستند مقاييسُ المعلوم إلى أساساتِ القدَر..

وأيضاً إن الإرادةَ لا تتعلق بالمسبَّب فقط مرةً وبالسبب مرةً أخرى حتى لا تبقى فائدةٌ في الاختيار والسبب؛ بل تتعلق تعلقاً واحداً بالمسبَّب وبسَببه. وعلى هذا السرّ لو قتل شخصٌ شخصاً بالبندقة مثلاً، ثم فرضنا عدمَ السبب والرمي هل يموت ذلك الشخص في ذلك الآن أم لا؟ فأهلُ الجبر يقولون: لو لم يُقتَل لمات أيضاً لتعدد التعلّق، والانقطاع بين السبب والمسبَّب.. وأهلُ الاعتزال يقولون: لم يمت، لجواز تخلّف المرادِ عن الإرادة عندهم.. وأما أهل السنة والجماعة فيقولون: نتوقفُ ونسكتُ؛ إذ فرضُ عدم السبب يستلزم فرضَ عدم تعلّقِ الإرادة والعلمِ بالمسبَّب أيضاً، إذ التعلق واحد. فهذا الفرضُ المحال جازَ أن يستلزم محالاً. فتأمل!

* * *

مقدمة أخرى

اعلم أن الطبيعيين يقولون: إنَّ للأسباب تأثيراً حقيقياً.. والمجوس يقولون: إنَّ للشرّ خالقاً آخرَ.. والمعتزلة يدّعون: أن الحيوان خالقٌ لأفعاله الاختيارية. وأساسُ هذه الثلاثة مبنيٌ على وهمٍ باطلٍ، وخطأٍ محضٍ، وتجاوزٍ عن الحدِّ وقياسٍ مع الفارق، خدعَهم وشبطهم؛
إذ ذهبوا ظناً منهم إلى التنـزيه فوقعوا في شَرَك الشِرك. وإن شئت التفصيلَ فاستمع لمسائل تطرُد ذلك الوهمَ:

منها: أنه كما أن استماع الإنسان وتكلّمَه وملاحظتَه وتفكره جزئيةٌ تتعلق بشيءٍ فشيءٍ على سبيل التعاقُب؛ كذلك همتُه جزئيةٌ لا تشتغل بالأشياء إلَّا على سبيل التناوب.

ومنها: أن قيمةَ الإنسان بنسبة ماهيته.. وماهيتُه بدرجة همّته.. وهمتُه بمقدار أهمية المقصد الذي يشتغل به.

ومنها: أن الإنسان إلى أي شيء توجَّه يفنى فيه وينحبسُ عليه. ومن هذه النقطة ترى الناس -في عُرفهم- لا يُسندون شيئاً خسيساً وأمراً جزئياً إلى شخص عظيم وذاتٍ عال؛ بل إلى الوسائل ظناً منهم أن الاشتغالَ بالأمر الخسيس لا يناسب وقارَه، وهو لا يتنـزَّلُ له ولا يسعُ الأمرُ الحقير همّتَه العظيمة، ولا يوازَن الأمرُ الخفيفُ مع همّته العظيمة.

ومنها: أن من شأن الإنسان -إذا تفكّر في شيء لمحاكمةِ أحواله- أن يتحرّى مقاييسَه وروابطه وأساساتِه، أولاً في نفسه، ثم في أبناءِ جنسه.. وإن لم يجد ففي جوانبه من الممكنات. حتى إن واجبَ الوجود الذي لا يشبه الممكنات بوجهٍ من الوجوه إذا تفكّر فيه الإنسانُ تُلجِئُه القوةُ الواهمة لأن يجعل هذا الوهمَ السيء المذكورَ دستوراً، والقياسَ الخادعَ منظاراً له. مع أنّ الصانعَ جلّ جلالُه لا يُنظر إليه من هذه النقطة؛ إذ لا انحصار لقدرتِه.

ومنها: أن قدرتَه وعلمَه وإرادتَه جلّ جلالُه كضياء الشمس –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾– شاملةٌ لكل شيء، وعامةٌ لكلِّ أمر. فلا تقعُ في الانحصار ولا تجيءُ في الموازنة. فكما تتعلقُ بأعظم الأشياء كالعرش؛ تتعلق بأصغرِها كالجَوهر الفرد.. وكما خلَقَ الشمس والقمر؛ كذلك خلَق عينَي البرغوث والبعوضة.. وكما أودع نظاماً عالياً في الكائنات؛ كذلك أوقعَ نظاماً دقيقاً في أمعاء الحيوانات الخُرْدَبِينِيَّة.. وكما ربطَ الأجرامَ العلويةَ والنجومَ المعلَّقةَ بقانونِه المسمّى بالجاذب العمومي؛ كذلك نظّم الجواهرَ الفَردةَ بنظير ذلك القانون كأنه مثالٌ مصغّر لها. إذ بتداخل العَجز تتفاوتُ مراتبُ القُدرة. فمَن امتنعَ عليه العجزُ تتساوى في قدرته الأشياءُ، إذ العجزُ ضدُّ القدرةِ الذاتية. فتأمل!

ومنها: أن أول ما تتعلق به القدرةُ ملكوتيةُ الأشياء وهي شفّافةٌ حسنةٌ في الكلِّ كما مرَّ. فكما أنه جلّ جلالُه جعل وجهَ الشمس مجلىً ووجهَ القمر مستضيئاً؛ كذلك صيَّر ملكوتيةَ الليل والغيمِ حسنةً منيرةً.

ومنها: أن مقياسَ عظمته تعالى وميزانَ كمالاته وواسطةَ محاكمة أوصافه لا يسعُها ذهنُ البشر، ولا يمكن له إلّا بوجهٍ، بل إنما هو بما يتحصّل من جميع مصنوعاته.. وبما يتجلّى من مجموع آثاره.. وبما يتلخّص من كل أفعاله. نَعم، الذرةُ تكون مرآةً ولا تكون مقياساً.

وإذا تفطنتَ لهذه المسائل فاعلم أن الواجب تعالى لا يُقاس على الممكنات، إذ الفرقُ من الثرى إلى الثريا. ألا ترى أهلَ الطبيعة والاعتزال والمجوس -بناءً على تسلّط القوة الواهمة بهذا القياس على عقولهم- كيف التجَأوا إلى إسنادِ التأثير الحقيقي إلى الأسباب، وخلقِ الأفعال للحيوان، وخلقِ الشر لغيره تعالى؟ يظنون ويتوهمون أن الله تعالى بعظمته وكبريائه وتنـزُّهه كيف يتنـزَّلُ لهذه الأمور الخسيسةِ والأشياءِ القبيحة؟ فسحقاً لهم! كيف صيَّروا العقلَ أسيراً لهذا الوهم الواهي هذا؟.. يا هذا! هذا الوهمُ قد يتسلط على المؤمن أيضا من جهة الوَسوسة فتجنَّب!

* * *

﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَعَلٰى سَمْعِهِمْ وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌۘ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾

أما تحليل كلمات هذه الآية ونظمها:

فاعلم أن ربطَ ﴿خَتَمَ﴾ بـ ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ وتعقيبَه به نظيرُ ترتّب العقابِ على العمل. كأنه يقول لمّا أفسدوا الجزءَ الاختياري ولم يؤمنوا، عوقبوا بخَتم القلبِ وسَدِّه. ثم لفظ «الختم» يشير إلى استعارة مركبةٍ تومئُ إلى أسلوب تمثيلي يرمز إلى ضربِ مَثَلٍ يصوِّر ضلالَتهم؛ إذ المعنى فيه منعُ نفوذِ الحق إلى القلب. فالتعبيرُ بالختم يُصوِّر القلبَ بيتاً بناه الله تعالى ليكون خزينةَ الجواهر، ثم بسوء الاختيار فَسدَ وتعفَّن وصار ما فيه سُموماً فأُغلق وأُمهِرَ ليُجتَنب.

وأما ﴿اللّٰهُ﴾ فاعلم أن فيه التفاتاً من التكلم إلى الغَيبة. ومع نكتة الالتفاتِ ففي مناسبة لفظِ ﴿اللّٰهُ﴾ مع متعلِّق ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ في النية، أعني لفظَ «بالله»، إشارةٌ إلى لطافةٍ، هي أنه لمّا جاء نورُ معرفةِ الله إليهم فلم يفتحوا بابَ قلبِهم له، تولّى عنه مُغضباً وأغلق البابَ عليهم.

وأما ﴿عَلٰى﴾ فاعلم أن فيه -بناءً على كون الختم متعدّياً بنفسه- إشارةً إلى تضمين ﴿خَتَمَ﴾ «وَسَم»، كأنه يقول: جعل الله الختمَ وَسْماً وعلامةً على القلب يتوسّمُه الملائكةُ.. وفي ﴿عَلٰى﴾ أيضاً إيماءٌ إلى أن المسدودَ البابُ العلويُّ من القلب لا البابُ السفلي الناظرُ إلى الدنيا.

وأما ﴿قُلُوبِهِمْ﴾ قدَّمَه على السمع والبصر لأنه هو محلُّ الإيمان.. ولأن أولَ دلائل الصانع يتجلى من مشاورة القلبِ مع نفسه، ومراجعةِ الوجدان إلى فطرته، لأنه إذا راجع نفسَه يُحِسُّ بعَجزٍ شديد يُلجئه إلى نقطةِ استنادٍ، ويرى احتياجاً شديداً لتنمية آمالِه فيضطرّ إلى نقطةِ استمداد، ولا استنادَ ولا استمدادَ إلَّا بالإيمان.. ثم إن المرادَ بالقلب اللطيفةُ الربانيةُ التي مظهرُ حسيّاتِها الوجدانُ، ومَعكَس أفكارها الدماغُ، لا الجسمُ الصنوبريُّ. فإذاً في التعبير بالقلب رمزٌ إلى أن اللطيفةَ الربانيةَ لمعنويات الإنسان كالجسم الصنوبري لجسدِه. فكما أن ذلك الجسمَ ماكينةٌ حياتية تنشُر ماءَ الحياة لأقطار البدن، وإذا انسدّ وسكَنَ جمَد الجسدُ؛ كذلك تلك اللطيفةُ تنشُر نورَ الحياة الحقيقية لأقطار الهيئة المجسَّمة من معنوياته وأحواله وآماله. وإذا زال نورُ الإيمان -العياذ بالله- صارت ماهيتُه التي يصارع بها الكائنات كشَبَحٍ لا حراكَ به وأظلمَ عليه.

وأما ﴿وَعَلٰى سَمْعِهِمْ﴾ كرّر ﴿عَلٰى﴾ للإشارة إلى استقلال كلٍّ بنوعٍ من الدلائل. فالقلبُ بالدلائل العقلية والوجدانية. والسمعُ بالدلائل النقليةِ والخارجية، وللرمز إلى أن ختمَ السمعِ ليس من جنس ختمِ القلب.. ثم إن في إفراد السمع مع جمعِ جانبَيه إيجازاً ورموزاً إلى أن السمعَ مصدرٌ، لعدم الجَفن له.. وإلى أن المُسمِعَ فرد.. وأن المسموعَ للكلِّ فردٌ.. وأنه يُسمِعُ فرداً فرداً.. ولاشتراك الكلِّ كأن أسماعَهم بالاتصال صارت فرداً.. ولاتحاد الجماعة وتشخّصها يُتَخيّل لها سمعُ فردٍ.. وإلى إغناء سمعِ الفرد عن استماع الكلِّ فحقُّ السمع في البلاغة الإفرادُ.. لكن القلوبَ والأبصارَ مختلفةٌ متعلقاتُهما، ومتباينةٌ طرقُهُما، ومتفاوتةٌ دلائلهُما، ومعلِّمُهما على أنواع، وملقّنُهما على أقسام. فلهذا توسّط المُفرَدُ بين الجَمعَين. وعُقّب القلبُ بالسمع لأن السمعَ أبٌ لملَكاته، وأقربُ إليه، ونظيرُه في تساوي الجهات الست عنده.

وأما ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ فاعلم أن في تغيير الأسلوب باختيار الجملة الاسمية إشارةً إلى أن جِنانَ البصَر التي يُجتَنى منها دلائلُه ثابتةٌ دائمةٌ بخلاف حدائقِ السمع والقلب؛ فإنها متجدّدةٌ.. وفي إسناد الختم إلى الله تعالى دون الغشاوةِ إشارة إلى أن الختمَ جزاءُ كسبِهم، والغشاوة مكسوبةٌ لهم، ورمزٌ إلى أن في مبدأ السمع والقلب اختياراً، وفي مبدأ البصر اضطراراً، ومحل الاختيار غشاوةُ التعامي. وفي عنوان الغشاوة إشارةٌ إلى أن للعين جهةً واحدةً. وتنكيرُها للتنكير، أي التعامي حجابٌ غيرُ معروف حتى يُتَحفَّظ منه.. قدّم ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ﴾ ليوجّه العيونَ إلى عيونهم، إذ العين مرآةُ سرائر القلب.

وأما ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾ فاعلم أنه كما أشار بالكلمات السابقة إلى حنظلات تلك الشجرة الملعونة الكفرية في الدنيا؛ كذلك أشار بهذه إلى حنظلة جانبها الممتد إلى الآخرة وهي زقّومُ جهنّم..

ثم إن سجية الأسلوب تقتضي «وعليهم عقاب شديد». ففي إبدال ﴿عَلٰى﴾ باللام و«العقاب» بالعذاب و«الشديد» بالعظيم، مع أن كلا منها يليق بالنعمة رمزٌ إلى نوعِ تهكّم توبيخيّ تعريضيّ؛ كأنه ينعي بهم: ما منفعتُهم، ولا لذتُهم، ولا نعمتُهم العظيمة إلَّا العقابُ؛ نظير «تَحِيَّةُ بَيْنِهمْ ضَرْبٌ وَجِيع». و ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ اَليمٍ﴾ (آل عمران:21).

إذ اللام لعاقبة العمل وفائدتِه. فكأنه يتلو عليهم: «خذوا أُجرة عملكم».

وفي لفظ الـ«عذاب» رمزٌ خفي إلى أن يذكّرَهم استعذابَهم واستلذاذَهم بالمعاصي في الدنيا فكأنه يقرأ عليهم «ذوقوا مرارةَ حلاوتكم».

وفي لفظ الـ«عظيم» إشارةٌ خفية إلى تذكيرهم حالَ صاحبِ النعمة العظيمة في الجنة فكأنه يلقّنهم: انظروا إلى ما ضيَّعتم على أنفسكم من النعمة العظيمة، وكيف وقعتُم في الألم الأليم. ثم إن ﴿عَظيمٌ﴾ تأكيد لتنوين ﴿عَذَابٌ﴾.

 إن قلت: إنَّ معصية الكفر كانت في زمانٍ قليل والجزاءُ أبديٌّ غيرُ متناهٍ، فكيف ينطبق هذا الجزاءُ على العدالة الإلهية؟ وإنْ سُلِّم، فكيف يوافق الحكمةَ الأزلية؟ وإن سُلِّم، فكيف تساعده المرحمةُ الربانية؟

قيل لك: مع تسليم عدم تناهي الجزاءِ، إن الكفر في زمان متناهٍ جنايةٌ غيرُ متناهية بستِّ جهات:

منها: أن من مات على الكفر لو بقي أبداً لكان كافراً أبداً لِفَساد جوهر روحِه، فهذا القلبُ الفاسد استعدَّ لجناية غير متناهية.

ومنها: أن الكفر وإن كان في زمانٍ متناهٍ لكنه جنايةٌ على غير المتناهي، وتكذيبٌ لغير المتناهي أعني عمومَ الكائنات التي تشهد على الوحدانية.

ومنها: أن الكفر كفرانٌ لنِعَمٍ غير متناهية.

ومنها: أن الكفر جناية في مقابلة الغير المتناهي وهو الذاتُ والصفاتُ الإلهية.

ومنها: أن وجدان البشر -بسرّ حديثِ: «لَا يَسَعُني أرْضِي وَلا سَمائي»- وإن كان في الظاهر والمُلك محصوراً ومتناهياً لكن ملكوتيتَه بالحقيقة نشرت ومدّت عروقها إلى الأبد. فهو من هذه الجهة كغير المتناهي وبالكفر تلوّث واضمحلّ.

ومنها: أن الضدَّ وإن كان معانِداً لضدِّه لكنه مماثلٌ له في أكثر الأحكام. فكما أن الإيمان يُثمر اللذائذَ الأبدية، كذلك من شأن الكفر أن يتولد منه الآلامُ الأبدية.

فمَن مزَج هذه الجهات الست يستنتج أنّ الجزاء الغير المتناهي إنما هو في مقابلة الجناية الغير المتناهية وما هو إلّا عينُ العدالة.

 إن قلت: طابقَ العدالة، لكن أين الحكمةُ الغنيةُ عن وجود الشرور المنتجة للعذاب؟

قيل لك: -كما قد سمعتَ مرة أخرى- إنه لا يُترك الخيرُ الكثيرُ لتخلّل الشرِّ القليل، لأنه شرٌّ كثيرٌ. إذ لمّا اقتضت الحكمةُ الإلهية تظاهُرَ ثبوتِ الحقائق النسبية -التي هي أزيدُ بدرجاتٍ من الحقائق الحقيقية- ولا يمكن هذا التظاهرُ إلا بوجود الشر؛ ولا يمكن توقيفُ الشرِّ على حدِّه ومنعُ طغيانه إلّا بالترهيب؛ ولا يمكن تأثيرُ الترهيب حقيقةً في الوجدان إلّا بتصديق الترهيب وتحقيقِه بوجود عذاب خارجي؛ إذ الوجدانُ لا يتأثر حق التأثر -كالعقل والوَهم- بالترهيب إلّا بعد أن يتحدّس بالحقيقة الخارجية الأبدية بتفاريق الأمارات.. فمِن عينِ الحكمة بعد التخويف من النار في الدنيا وجودُ النار في الآخرة.

 إن قلت: قد وافق الحكمةَ فما جهةُ المرحمة فيه؟

قلت: لا يُتصور في حقّهم إلاّ العدمُ أو الوجودُ في العذاب، والوجودُ -ولو في جهنم- مرحمةٌ وخيرٌ بالنسبة إلى العدم إنْ تأملتَ في وجدانك؛ إذ العدمُ شرٌّ محض، حتى إن العدمَ مرجعُ كلِّ المصائب والمعاصي إنْ تفكرتَ في تحليلها. وأما الوجودُ فخيرٌ محض فليكن في جهنم.. وكذا إن من شأن فطرةِ الروح -إذا عَلِم أن العذابَ جزاءٌ مزيلٌ لجنايته وعصيانه- أن يرضى به لتخفيف حمل خجالة الجناية، ويقولَ: «هو حقٌ، وأنا مستحق». بل حباً للعدالة قد يلتذُّ معنىً! وكم من صاحب ناموس في الدنيا يشتاق إلى إجراء الحدّ على نفسه ليزولَ عنه حجابُ خجالة الجناية. وكذا إن الدخول وإن كان إلى خلود دائم وجهنمُ بيتُهم أبداً، لكن بعد مرور جزاء العمل دون الاستحقاق يحصل لهم نوع ألفةٍ وتطبّع مع تخفيفات كثيرة مكافأةً لأعمالهم الخيرية. أشارت إليها الأحاديث. فهذا مرحمةٌ لهم مع عدم لياقتهم.

الآية (6)

 ﴿اِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا سَوَٓاءٌ عَلَيْهِمْ ءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴿6﴾﴾

وجه النظم:

اعلم أن للذات الأحديِّ في عالَم صفاته الأزلية تجلِّيَيْن جلاليٌّ وجماليّ. فبتجليهما في عالم صفات الأفعال يتظاهر اللطفُ والقهرُ والحُسن والهيبة. ثم بالانعطاف في عالَم الأفعال يتولد التحليةُ والتخلية والتزيينُ والتنـزيه. ثم بالانطباع في العالم الأُخروي من عالم الآثار يتجلى اللطفُ جَنَّةً ونوراً، والقهرُ جهنمَ وناراً. ثم بالانعكاس في عالم الذِكر ينقسم الذكرُ إلى الحمد والتسبيح. ثم بتمثّلهما في عالَم الكلام يتنوع الكلام إلى الأمر والنهي. ثم بالارتسام في عالم الإرشاد يقسمانه إلى الترغيب والترهيب والتبشير والإنذار. ثم بتجليهما على الوجدان يتولد الرجاءُ والخوف.. وهكذا. ثم إن من شأن الإرشاد إدامةَ الموازنة بين الرجاء والخوف، ليدعوَ الرجاءُ إلى أن يسعى بصرف القوى، والخوفُ إلى أن لا يتجاوز بالاسترسال فلا ييأسَ من الرحمة فيقعد ملوماً، ولا يأمَنَ العذابَ فيتعسفَ ولا يباليَ. فلهذه الحكمة المتسلسلةِ ما رغّب القرآنُ إلّا وقد رهَّبَ، وما مدحَ الأبرارَ إلّا وقرَنَه بذمّ الفجار.

إن قلت: فلِمَ لم يعطف هنا كما عطف في ﴿اِنَّ الْاَبْرَارَ لَفي نَعيمٍ * وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحيمٍ﴾ (الانفطار:13-14)؟

قيل لك: إنَّ حُسن العطف ينظر إلى حُسن المناسبة، وحُسن المناسبة يختلف باختلاف الغرض المَسوق له الكلامُ. ولما اختلف الغرضُ هنا وهنالك، لم يُستحسن العطفُ هنا؛ إذ مدحُ المؤمنين منجرّ ومقدمةٌ لمدح القرآن، ونتيجةٌ له، وسِيق له. وأما ذمُّ الكافرين فللترهيب لا يتصل بمدحِ القرآن.

ثم انظر إلى اللطائف المندمجة في نظم أجزاء هذه الآية:

فأولاً: استأنِس بـ ﴿اِنَّ﴾ و ﴿اَلَّذينَ﴾ فإنهما أجْوَلُ وأسْيَرُ ما يصادفك في منازل التنـزيل. ولأمرٍ مّا أكثر القرآنُ من ذكرهما؛ إذ معهما من جوهر البلاغة نكتتان عامّتان غيرُ ما تختصّ كلَّ موقع.

أما ﴿اِنَّ﴾ فإن من شأنها أن تثقب السطح نافذةً إلى الحقيقة، وتوصل الحُكم إليها؛ كأنها عِرق الدعوى اتصلت بالحق. مثلاً: إنَّ هذا كذا.. أي الحُكمُ وهذه الدعوى ليست خيالية ولا مبتدعة ولا اعتبارية ولا مستحدَثة؛ بل هي من الحقائق الجارية الثابتة. وما يُقال من أن ﴿اِنَّ﴾ للتحقيق فعنوانٌ لهذه الحقيقة والخاصيّة. والنكتةُ الخصوصية هنا هي أن ﴿اِنَّ﴾ الذي شأنُه ردُّ الشّك والإنكار مع عدمِهما في المخاطَب للإشارة إلى شدّة حرص النبي عليه السلام على إيمانهم.

وأما ﴿اَلَّذينَ﴾ فاعلم أن «الذي» من شأنه الإشارةُ إلى الحقيقة الجديدة التي أحسّ بها العقلُ قبل العين، وأخذت في الانعقاد ولم تشتدَّ، بل تتولد من امتزاج أشياءٍ وتَآخُذِ أسبابٍ مع نوع غَرابة. ولهذا ترى من بين وسائط الإشارة والتصوير في الانقلاب المجدِّد للحقائق لفظَ «الذي» أسْيَرَ على الألسنة وأكثرَ دوراناً. فلما أن تجلّى مؤسِّسُ الحقائق وهو القرآن، اضمحل أنواعٌ ونُقِضت فصولُها وتشكلت أنواعٌ أُخر وتولدت حقائق أُخرى. أمَا ترى زمانَ الجاهلية كيف تشكلت الأنواعُ على الروابط الملّية وتولدت الحقائقُ الاجتماعية على العصبيات القومية فلما أنْ جاء القرآنُ قطع تلك الروابط وخرَّب تلك الحقائق فأسس بدلاً عنها أنواعاً، فصولُها الروابط الدينية؟ فتأمل! فلما أشرق القرآنُ على نوع البشر تزاهرَ بضيائه وأثمَر بنوره قلوبٌ، فتحصلت حقيقةٌ نورانية هي فصلُ نوع المؤمنين. ثم لخُبث بعض النفوس تعفّنت في مقابلة الضياء تلك النفوسُ فتولّدت حقيقةٌ سمّيّة هي خاصةُ نوعِ مَن كفر..

وأيضاً بين ﴿اَلَّذينَ﴾ و ﴿اَلَّذينَ﴾ تناسب.

اعلم أن الموصول كالألف واللام يُستعمل في خمسة معانٍ أشهرُها العهدُ؛ فـ ﴿اَلَّذينَ﴾ هنا إشارة إلى صناديد الكفر أمثال أبي جهل وأبي لهب وأُمية بن خلف وقد ماتوا على الكفر. فعلى هذا في الآية إخبارٌ عن الغيب. وأمثال هذا لمعاتٌ يتولد منها نوعٌ من الإعجاز من الأنواع الأربعة للإعجاز المعنوي.

وأما لفظ ﴿كَفَرُوا﴾ فاعلم أن الكفر ظلمةٌ تحصل من إنكار شيءٍ مما عُلِمَ ضرورةً مجيء الرسول عليه السلام به.

 إن قلت: إنَّ القرآن من الضروريات وقد اختُلف في معانيه؟

قيل لك: إنَّ في كل كلام من القرآن ثلاث قضايا:

إحداها: «هذا كلامُ الله».

والثانية: «معناه المراد حق». وإنكار كلٍّ من هاتين كفرٌ.

والثالثة: «معناه المراد هذا»؛ فإنْ كان مُحْكَماً أو مفسّراً فالإيمان به واجب بعد الاطلاع، والإنكار كفر. وإن كان ظاهراً، أو نصاً يحتمل معنى آخر، فالإنكار بناءً على التأويل-دون التشهّي- ليس بكفر.

ومثل الآية الحديثُ المتواتر؛ إلَّا أن في إنكار القضية الأولى من الحديث تأملاً.

 إن قلت: الكفرُ جهلٌ وفي التنـزيل: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ اَبْنَٓاءَهُمْ﴾ (البقرة:146) فما التوفيق؟

قيل لك: إنَّ الكفر قسمان:

جهليّ، يُنكِر لأنه لا يعلم. والثاني: جحوديٌّ تمرّديّ، يَعرِفُ لكنْ لا يَقبل، يتيقّن لكن لا يعتقد، يصدِّق لكن لا يذعن وجدانُه. فتأمل!

 إن قلت: هل في قلب الشيطان معرفة؟

قيل لك: لا، إذ بحكم صنعته الفطرية يشتغل قلبُه دائماً بالإضلالِ، ويتصور عقلُه دائماً الكفرَ للتلقين فلا ينقطع هذا الشغلُ، ولا يزول ذلك التصوّر عن عقله حتى تتمكن فيه المعرفةُ.

 إن قلت: الكفر صفةُ القلب فكيف كان شدّ الزُنّار -وقد قيس عليه «الشَّوْقَة»- كفراً؟

قيل لك: إنَّ الشريعة تعتبر بالأمارات على الأمور الخفية حتى أقامت الأسباب الظاهرية مقام العِلل. ففي شدِّ الزُنَّار المانع بعضُ نوعِه عن إتمام الركوع، وإلباس «الشَوْقَة» المانعة عن تمام السجود علامة الاستغناء عن العبودية، والتشبّه بالكَفرة المومِئ باستحسانِ مسلكِهم وملّيتهم. فما دام لم يُقطَع بانتفاء الأمر الخفي يُحكَم بالأمر الظاهر.

 إن قلت: إذا لم يُجْدِ الإنذارُ فلِمَ التكليفُ؟

قيل لك: لإلزام الحُجةِ عليهم.

 إن قلت: الإخبار عن تمرّدهم يستلزم امتناع إيمانهم فيكون التكليفُ بالمحال؟

قيل لك: إن الإخبارَ وكذا العلمُ والإرادةُ لا تتعلق بكُفرهم مستقلاً مقطوعاً عن السبب، بل إنما تتعلق بكفرهم باختيارهم. كما يأتيك تفصيلُه. ومن هنا يُقال: «الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار».

 إن قلت: إيمانُهم بعدم إيمانهم محالٌ عقليّ يشبه «الجذرَ الأصمَّ الكلاميّ»؟

قيل لك: إنهم ليسوا مكلّفين بالتفصيل حتى يلزم المحالُ.

ثم في إيراد ﴿كَفَرُوا﴾ فعلاً ماضياً، إشارةٌ إلى أنهم اختاروا الكفر بعد تبيُّن الحقِّ فلذا لا يُفيدُ الإنذار.

وأما ﴿سَوَٓاءٌ﴾ فمجازٌ عن: «إنذارُك كعدم الإنذار في عدم الفائدة أو في صحة
الوقوع» أي لا موجبَ للإنذار ولا لعدمِه.

وأما ﴿عَلَيْهِمْ﴾ ففيه إيماءٌ إلى أنهم أخلدوا إلى الأرض فلا يرفعون رؤوسَهم ولا يصغون إلى كلام آمرهم.. وفيه أيضا رمزٌ إلى أنه ليس سواءً عليك، لأنَّ لك الخيرَ في التبليغ؛ إذ ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ اِلَّا الْبَلَاغُ﴾ (المائدة:99).

وأما ﴿ءَاَنْذَرْتَهُمْ اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ فالهمزةُ و«أمْ» هنا في حُكم «سواء حرفي»، تأكيد لـ ﴿سَوَٓاءٌ﴾ الأولِ. أو تأسيسٌ نظراً إلى اقتسامهما المعنيين المذكورين للمساواة.

 إن قلت: فلِمَ عبّر عن المساواة بصورة الاستفهام؟

قيل لك: إذا أردت أن تنبّه المخاطَب على عدم الفائدة في فعل نفسه بوجهٍ لطيف مُقنع، لابد أن تستفهم ليتوجّه ذهنُه إلى فعله فينتقل منه إلى النتيجة فيطمئن.. ثم العلاقة بين الاستفهام والمساواة تضمنه لها؛ إذ السائل يتساوى في علمه الوجودُ والعدم.. وأيضاً كثيراً ما يكون الجوابُ هذه المساواةَ الضمنية.

 إن قلت: لِمَ عبّر عن الإنذار في ﴿ءَاَنْذَرْتَهُمْ﴾ بصورة الماضي؟

قيل لك: لينادي «يا محمد قد جرَّبْتَ» فقِس!

 إن قلت: لِمَ ذكر ﴿اَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ مع أن عدم فائدة عدم الإنذار ظاهر؟

قيل لك: كما قد ينتج الإنذارُ إصراراً، كذلك قد يُجدي السكوتُ إنصافَ المخاطب.

 إن قلت: لِمَ أنذر بالترهيب فقط مع أنه بشير نذير؟

قيل لك: إذ الترهيبُ هو المناسبُ للكفر، ولأن دفعَ المضارّ أولى من جَلب المنافع وأشدُّ تأثيراً، ولأن الترهيبَ هنا يهزّ عِطْفَ الخيالَ ويوقظُه لأن يتلقى ويجتني بعد قوله ﴿لَا يُؤْمِنُون «أبشّرتَهم أم لم تبشرهم».

ثم اعلم كما أن لكل حُكمٍ معنى حرفياً ومقصداً خفياً؛ كذلك لهذا الكلامِ معانٍ طيارةٌ ومقصد سيق له، هو تخفيفُ الزحمة، وتهوينُ الشدة عن النبي عليه السلام، وتسليتُه بتأسّيه بالرسل السالفين. إذ خوطبَ أكثرُهم بمثل هذا الخطاب، حتى قال نوح بعده: ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْاَرْضِ مِنَ الْكَافِرينَ دَيَّارًا﴾ (نوح:26)..

ثم لأن آياتِ القرآن كالمرايا المتناظرة، وقصصَ الأنبياء كالهالة للقمر تنظر إلى حال النبي عليه السلام؛ كان كأن هذا الكلامَ يقول: هذا قانونٌ فطريٌّ إلهيّ يجب الانقياد له.

واعلم بعد هذا التحليل؛

أن مجموع هذه الآية إلى ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾ سيقت مشيرةً بعقودها إلى تقبيح الكفر وترذيله، والتنفيرِ منه والنهي الضمني عنه، وتذليلِ أهله، والتسجيل عليهم، والترهيب عنه، وتهديدهم.. مناديةً بكلماتها بأن في الكفر مصائبَ عظيمةً، وفواتَ نِعَمٍ جسيمةٍ، وتولّدَ آلامٍ شديدة، وزوالَ لذائذَ عالية.. مصرّحةً بجُمَلها بأن الكفرَ أخبثُ الأشياء وأضرُّها.

إذ أشار بلفظ ﴿كَفَرُوا﴾ بدلَ «لم يؤمنوا» إلى أنهم بعدم الإيمان وقعوا في ظُلمة الكفر الذي هو مصيبةٌ تفسد جوهرَ الروح وأيضاً هو معدِن الآلام.

وبلفظ ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ بدلَ «لا يتركون الكفر» إلى أنهم مع تلك الخسارة سقط من أيديهم الإيمان الذي هو منبعُ جميع السعادات.

وبلفظ ﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ﴾ إلى أن القلبَ والوجدان -الذي حياتُه وفرحُه وسروره وكمالاته بتجلي الحقائق الإلهية بنور الإيمان- بعدما كفروا صار كالبناء المُوحِش الغير المعمور المشحون بالمضرات والحشرات، فأُقْفِلَ وأُمْهِرَ على بابه ليُجتَنبَ، وتُرك مفوّضاً للعقارب والأفاعي.

وبلفظ ﴿وَعَلٰى سَمْعِهِمْ﴾ إلى فوات نعمةٍ عظيمة سمعية بسبب الكفر؛ إذ السمعُ من شأنه -إذا استقر خلفَ صِماخه نورُ الإيمان واستندَ إليه- الاحتساسُ بنداءِ كل العالم وفَهْمُ أذكارِها، وسَمْعُ صياح الكائنات وتفهُّمُ تسبيحاتِها.. حتى إن السمعَ ليَسمعُ من ترنّمات هبوب الريح، ومن نَعَرات رعدِ الغَيم، ومن نغَمات أمواج البحر، ومن صرَخات دقدقةِ الحجَر، ومن هزَجات نزولِ المطر، ومن سجَعات غناءِ الطير كلاماً ربانياً، ويفهَم تسبيحاً عُلوياً، كأن الكائناتِ موسيقيةٌ عظيمة له، تُهيّجُ في قلبه حُزناً علوياً وعِشقاً روحانياً، فيحزَنُ بتذكّر الأحباب والأنيس، فيكون الحزنُ لذةً؛ لا بعدَم الأحباب فيكونَ غمّاً.. وإذا أظلمَ ذلك السمعُ بالكفر صار أصمَّ من تلك الأصوات اللذيذة، ولا يسمع من الكائنات إلّا نياحات المأتم ونعيات الموت، فلا يُلقي في القلب إلّا غمَّ اليُتمَة أي عدمِ الأحباب، ووحشةَ الغُربة أي عدمِ المالك والمتعهّد. فبناءً على هذا السر أحلّ الشرعُ بعضَ الأصوات وهو ما هيّج عشقاً علوياً وحُزناً عاشقياً، وحرّم بعضَها وهو ما أنتج اشتهاءً نفسياً وحزناً يُتمياً، وما لم يُرِكَ الشرعُ فمَيِّزْه بتأثيره في روحك ووجدانك.

وبكلمة ﴿وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾ إلى زوال نعمةٍ جسيمة بسبب الكفر؛ إذ البصرُ من شأنه -إذا استضاء نورُه واتصل بنور الإيمان الساكنِ خلفَ شُبيكتِه ممدّاً ومحرّكاً له- كان كلُّ الكائنات كجنة مزيَّنة بالزهر والحُور، ويصير نورُ العين نحلاً تطير عليها فتجتني من تلك الأزاهير عصارةَ العِبرة والفكرة والأُنسية والاستيناس والتحبّب والتهنئة، فتأخذ حَميلتَها فتتخذ في الوجدان شهدَ الكمالات.. وإذا أظلمَ -العياذ بالله- ذلك البصرُ بالكفر طُمِسَ، وصارت الدنيا في نظره سجناً، وتستّرت عنه الحقائق وتوحّشت عليه الكائناتُ وتُلقي إلى قلبه آلاماً تحيط بوجدانه من الرأس إلى القدم..

وبلفظ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ﴾ إلى ثمرةِ شجرة زقّوم الكفر في العالم الأخروي من عذاب جهنم ومن نَكالِ الغضَب الإلهي. هذا.

وأما ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ فتأكيدٌ لـ ﴿سَوَٓاءٌ﴾ ينص على جهة المساواة.

* * *

الآية (5)

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَاُولٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿5﴾﴾

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾

اعلم أن المظان التي تتلمّع فيها النُّكَتُ: هي نظمُها مع سابقها، ثم المحسوسيةُ في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾، ثم البُعْدية فيها، ثم العلوّ في ﴿عَلٰى﴾، ثم التنكير في ﴿هُدًى﴾، ثم لفظ ﴿مِنْ﴾، ثم التربية في ﴿رَبِّهِمْ﴾.

أما النظم، فاعلم أن هذه مرتبطةٌ بسابقها بخطوطِ مناسبات. منها الاستيناف، أي جوابٌ لثلاثة أسئلة مقدَّرة:

منها: السؤالُ عن المثال، كأن السامعَ بعدما سمِع أن القرآن من شأنه الهدايةُ لأشخاص من شأنهم -بسبب الهداية- الاتّصاف بأوصافٍ، أحبَّ أن يراهم وهم بالفعل تلبّسوا بتلك الأوصاف متكئين على أرائك الهداية. فأجاب مُريئاً للسامع بقوله:

﴿اُولٰٓئِكَ عَلٰى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾

ومنها: السؤال عن العلّة، كأن السائل يقول: ما بالُ هؤلاء استحقوا الهداية واختصّوا بها؟ فأجاب: بأن هؤلاء الذين امتزجت واجتمعت فيهم تلك الأوصافُ -إن تأملتَ- لجديرون بنور الهداية.

 فإن قلت: التفصيلُ السابق أجلى للعلّة من الإجمال في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾؟

قيل لك: قد يكون الإجمال أوضحَ من التفصيل لاسيما إذا كان المطلوبُ متولداً من المجموع؛ إذ بسبب جزئيةِ ذهن السامع، والتدرّجِ في أجزاء التفصيل، وتداخلِ النسيان بينها، وتجلِّي العلّةِ من مزج الأجزاء قد لا يُتفَطّن لتولد العلّةِ. فالإجمال في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ لأجل الامتزاج أجلى للعلّية.

ومنها: السؤالُ عن نتيجة الهداية وثمرتِها، والنعمةِ واللذة فيها؛ كأن السامع يقول: ما اللذةُ والنعمة؟ فأجاب بأن فيها سعادةَ الدارين. أي إنَّ نتيجة الهدايةِ نفسُها، وثمرتَها عينُها، إذ هي بذاتها نعمةٌ عظمى ولذةٌ وجدانية، بل جنةُ الروح؛ كما أن الضلالةَ جهنمُها. ثم بعد ذلك تثمر الفلاحَ في الآخرة.

وأما المحسوسية في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فإشارةٌ إلى أن ذكر الأوصاف الكثيرة سببٌ للتجسّم في الذهن، والحضور في العقل، والمحسوسيةِ للخيال. فمن العهد الذِكْريّ ينفتح بابٌ إلى العهد الخارجيّ، ومن العهد الخارجي ينتقل إلى امتيازهم، وينظر إلى تلألئهم في نوع البشر كأنه مَن رفعَ رأسَه وفتح عينيه لا يتراءى له إلَّا هؤلاء.

وأما البُعدية في ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ مع قُربيتهم في الجملة، فللإشارة إلى تعالِي رتبتِهم؛ إذ الناظر إلى البُعَداء لا يرى إلَّا أطولَهم قامةً، مع أن حقيقة البُعد الزماني والمكاني أقضى لحقّ البلاغة؛ إذ هذه الآية كما أن عصرَ السعادة لسانٌ ذاكر لها وهي تَنـزل، كذلك كلٌّ من الأعصار الاستقبالية كأنه لسانٌ ذاكرٌ لها، وهي شابةٌ طريةٌ كأنها إذ ذاك نزلَت لا أنها نزلت ثم حُكِيت. فأوائلُ الصفوف المشار إليهم بـ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ يتراءَون من بُعْدٍ. ولأجل الرؤيةِ مع بُعدهم يُعلَم عظمتُهم وعلوُّ رتبتهم.

وأما لفظ ﴿عَلٰى﴾ فاعلم أن سرّ المناسبة بين الأشياء صيَّر أكثرَ الأمور كالمرايا التي تتراءى في أنفسها؛ هذه في تلك، وتلك في هذه. فكما أن قطعةَ زجاجةٍ تريك صحراءَ واسعة؛ كذلك كثيراً ما تذكِّرك كلمةٌ فذة خيالاً طويلاً، وتمثِّل نُصبَ عينيك هيئةُ كلمةٍ حكايةً عجيبةً. ويجول بذهنك كلامٌ في عالم المثال المثالي. كما أن لفظ «بارَزَ» يفتح لك معركة الحرب، ولفظ «ثمرة» في الآية يفتح لك باب الجنة، وقِس! فعلى هذا لفظُ ﴿عَلٰى﴾ للذهن كالكُوَّة إلى أُسلوبٍ تمثيلي، هو أنَّ هدايةَ القرآن بُراقٌ إلهيّ أهداه للمؤمنين ليَسلكوا-وهم عليه- في الطريق المستقيم سائرين إلى عرش الكمالات.

وأما التنكير في ﴿هُـدًى﴾ فيشير إلى أنه غير ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ إذ المنكَّر المكرّر غيرُ الأول في الأغلب؛ فذاك مصدرٌ وهذا حاصلٌ بالمصدر.. وهو صفة محسوسة قارَّة كثمرة الأول.

وأما لفظ ﴿مِنْ﴾ فيشير إلى أن الخلق والتوفيق في اهتدائهم -المكسوبِ لهم- من الله.

وأما لفظ الـ«رب» فيشير إلى أن الهداية من شأن الربوبية؛ فكما يربّيهم بالرزق يغذّيهم بالهداية.

﴿وَاُولٰٓئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾

اعلم أن مظانّ تحري النُكت هي: عطفُ «الواو»، ثم تكرار ﴿اُولٰٓئِكَ﴾، ثم «ضمير الفصل»، ثم الألف واللام، ثم إطلاق «مفلحون» وعدمُ تعيين وجه الفلاح.

أما العطف فمبنيٌّ على المناسبة؛ إذ كما أن ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الأولَ إشارة إلى ثمرة الهداية من السعادة العاجلة؛ فهذا إشارةٌ إلى ثمرتها من السعادة الآجلة. ثم إنه مع أن كلاًّ منهما ثمرةٌ لكلِّ ما مرَّ، إلّا أن الأولى أنّ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الأول يرتبط عِرْقُه بـ ﴿اَلَّذينَ ﴾ الأولِ، الظاهر أنهم المؤمنون من الأميين، ويأخذ قوتَه من أركان الإسلامية، وينظر إلى ما قبل ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾. و ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الثاني ينظر برمز خفي إلى ﴿اَلَّذينَ ﴾ الثاني، الظاهر أنهم مؤمنو أهل الكتاب. ويكون مأخذُه أركان الإيمان واليقين بالآخرة. فتأمل!

وأما تكرار ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فإشارةٌ إلى استقلال كلٍّ من هاتين الثمرتين في العلّة الغائية للهداية والسببية لتميّزهم ومدحِهم، إلّا أن الأولى أن يكون ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ الثاني إشارةً إلى الأول مع حكمه كما تقول: ذلك عالمٌ وذلك مكرَّم.

وأما ضميرُ الفصل فمع أنه تأكيدُ الحصر الذي فيه تعريضٌ بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبيّ عليه السلام، فيه نكتةٌ لطيفة وهي: أن توسُّط ﴿هُم﴾ بين المبتدأ والخبر من شأنه أن يحوّل المبتدأ للخبر الواحد موضوعاً لأحكام كثيرةٍ يُذكَر البعضُ ويُحال الباقيةُ على الخيال؛ لأن ﴿هُم﴾ ينَبِّه الخيال على عدم التحديد ويشوّقه على تحرّي الأحكام المناسبة. فكما أنك تضع «زيداً» بين عيني السامع فتأخذ تغزل منه الأحكام قائلا: هو عالمٌ، هو عامل، هو كذا وكذا. ثم تقول قس! كذلك لما قال ﴿اُولٰٓئِكَثم جاء ﴿هُمهيّج الخيالَ لأن يجتني ويثني بواسطة الضمير أحكاماً مناسبة لصفاتهم،كـ: أولئك هم على هدى.. هم مفلحون.. هم فائزون من النار.. هم فائزون بالجنة.. هم ظافرون برؤية جمال الله تعالى…إلى آخره.

وأما الألف واللام فلتصوير الحقيقة. كأنه يقول: إن أحببتَ أن ترى حقيقةَ المفلحين، فانظر في مرآة ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ لتمثّل لك..أو لتمييز ذواتهم، كأنه يقول: الذين سمعتَ أنهم من أهل الفلاح إن أردتَ أن تعرفهم فعليك بـ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فهم هم.. أو لظهور الحُكم وبداهته نظير «والدُه العبدُ» إذ كون والدِه عبداً معلومٌ ظاهر..

وأما إطلاق «مفلحون» فللتعميم؛ إذ مخاطَب القرآن على طبقاتٍ، مطالِبُهم مختلفةٌ. فبعضُهم يطلب الفوزَ من النار.. وبعضٌ إنما يقصد الفوزَ بالجنة.. وبعضٌ إنما يتحرّى الرضاء الإلهي.. وبعضٌ ما يحبّ إلّا رؤيةَ جمالِه.. وهلمَّ جرّاً.. فأطلق هنا لتعمّ مائدةُ إحسانه فيجتني كلٌّ مشتهاه.

* * *

 

الآية (4)

﴿وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَٓا اُنْزِلَ اِلَيْكَ وَمَٓا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿4﴾﴾

اعلم أن القرآن أرسلَ النظمَ أي لم يعيّن بوضعِ أمارةٍ وجهاً من وجوه التراكيب في كثير من أمثال هذه الآية، لسرٍّ لطيف، هو منشأ الإيجاز الذي هو منشأ الإعجاز، وهو:

أنَّ البلاغة هي مطابقةُ مقتضى الحال. والحال أن المخاطَبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي أعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الأعصار، ليستفيد مخاطَبُ كلِ نوعٍ ما قُدِّرَ له من حصته، حَذَف القرآنُ في كثيرٍ للتعميم والتوزيع، وأطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وأرسَل النظمَ في كثيرٍ لتكثير الوجوه، وتضمينِ الاحتمالات المستحسَنة في نظر البلاغة والمقبولةِ عند العِلم العربي ليفيض على كلِّ ذهنٍ بمقدار ذوقه. فتأمل!

ثم إن وجه نظم هذه الآية بسابقتها التخصيصُ بعد التعميم. ليعلن على رؤوس الأشهاد شرفَ مَنْ آمن من أهل الكتاب، وليردّ يدَ استغناء أهله في أفواههم، وليأخذ يدَ أمثال «عبد الله بن سلام»، ويشوِّق غيرَه لأن يأتمّ به.. وأيضا التنصيصُ على قسْمَي المتقين للتصريح بشمول هداية القرآن لكافة الأُمم، والتلويحُ لعموم رسالة محمد عليه السلام لقاطبة المِلل.. وأيضا التفصيلُ بعد الإجمال لشرح أركان الإيمان المندمجة في صَدَفِ ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إذ دلَّ على الكتب والقيامة صراحة، وعلى الرسل والملائكة ضمناً.

ثم إن القرآن لم يوجز هنا بنحو «والمؤمنين بالقرآن» لترصيع هذا المعنى بلطائفَ وتزيين ذيوله بنكَت، فآثر ﴿وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَٓا اُنْزِلَ﴾.

إذ في ﴿اَلَّذينَ﴾ رمزٌ إلى أن وصفَ الإيمان هو مناطُ الحكم وأن الذات مع سائر الصفات تابعةٌ له ومغمورة تحتَه.

وفي ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بدلَ «المؤمنين» الدالِّ على الثبوت في زمان ما، تلويحٌ إلى تجدد الإيمان بتواتر النـزول وتكرّر الظهور مستمراً.

وفي «مَا» الإبهامِ، إيماء إلى أن الإيمان مجمَلاً قد يكفي، وإلى تشميل الإيمان للوحي الظاهر والباطن وهو الحديث.

وفي ﴿اُنْزِلَ﴾ باعتبار مادته إشارةٌ إلى أن الإيمان بالقرآن هو الإيمان بنـزوله من عند الله. كما أن الإيمان بالله هو الإيمان بوجوده، وباليوم الآخر هو الإيمان بمجيئه. وبالنظر إلى صيغته الماضَوية -مع أنه لم يتم النـزول إذ ذاك- إشارةٌ إلى تحقُّقِه المُنـزَّلِ بمنـزلة الواقع مع أن مضارعِيَّةَ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ تتلافى ما في ماضويته. بل لأجل هذا التنـزيل ترى في أساليب التنـزيل كثيراً ما يبتلع الزمانُ الماضي المستقبلَ ويتَزَيَّا المضارعُ بزيّ الماضي، إذ فيه بلاغة لطيفة. لأن مَن سمع الماضيَ فيما لم يمضِ بالنسبة إليه اهتزّ ذهنُه، وتيقّظ أنه ليس وحدَه، وتذكّر أن خلفَه غيرَه من الصفوف بمسافات. حتى كأن الأعصارَ مدارجُ والأجيالَ صفوفٌ قاعدون خلفَها، وتَنبَّهَ أن الخطابَ والنداءَ الموجّه إليه بدرجة من الشدة والعلوّ يسمعه كلُّ الأجيال. وهو خُطبةٌ إلهية أنصتَ لها كلُّ الصفوف في كل الأعصار. فالماضي حقيقةٌ في الكثير -في أكثر الأزمان- ومجازٌ في القليل -في أقلّها- ومراعاةُ الأكثر أوفَى لحق البلاغة.

وفي ﴿اِلَيْكَ﴾ بدلَ «عليك» رمز إلى أن الرسالة وظيفةٌ كُلِّف بها النبي عليه السلام وتحمَّلها بجزئه الاختياري.. وإيماءٌ إلى علوّه بخدمة جبرائيل بالتقديم إليه؛ إذ في «عَلى» شمُّ اضطرارٍ وعلوِّ واسطةِ النـزول.. وفي خطابِ ﴿اِلَيْكَ﴾ بدل «إلى نحو محمد» تلويحٌ إلى أن محمداً عليه السلام ما هو إلّا مخاطَب والكلامُ كلام الله.. وأيضا معنى الخطاب تأكيد وتصوير لمعنى النـزول؛ الذي هو الوحي، الذي هو القرآن، الذي هو خطابُ الله معه، الذي هو الخاصة النافذة في الكل. فكشف هذا الجزءُ الحجابَ عن حصته من تلك الخاصة. فظهر أن هذا الكلام بالنظر إلى اشتماله على هذه اللطائف المذكورة في نهاية الإيجاز.

﴿وَمَٓا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾

اعلم أن أمثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً، يتضمن أحكاماً إنشائية. كآمِنوا كذا وكذا.. ولا تفرقوا..

ثم إن في هذا النظم والربط أربعَ لطائف:

إحداها: عطفُ المدلول على الدليل. أي «ياأيها الناس إذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة أيضاً، إذ القرآن مصدِّقٌ لها وشاهد عليها» بدليل ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (البقرة:97).

والثانية: عطفُ الدليل على المدلول، أي «يا أهل الكتاب إذا آمنتم بالأنبياء السابقين والكتب السالفة لزم عليكم أن تؤمنوا بالقرآن وبمحمد عليه السلام، لأنهم قد بشّروا به. ولأن مدارَ صدقهم ونزولِها، ومناطَ نبوتهم يوجد بحقيقته وبروحه في القرآن بوجه أكمل وفي محمد عليه السلام بالوجه الأظهر. فيكون القرآنُ كلامَ الله بالقياس الأوْلَوِيّ، ومحمَّدٌ عليه الصلاة والسلام رسولَه بالطريق الأولى».

والثالثة: أنَّ فيه إشارة إلى أن مآل القرآن -أعني الإسلامية الناشئة في زمان السعادة- كشجرةٍ أصلُها ثابت في أعماق الماضي، منتشرةُ العروق، متشربةٌ عن منابع حياتها وقوّتها، وفرعُها في سماء الاستقبال ناشرةٌ، أغصانُها مثمرةٌ. أي أخذت الإسلامية بقَرنَي الماضي والاستقبال.

والرابعة: أنَّ فيه إشارةً إلى تشويق أهل الكتاب على الإيمان وتأنيسِهم، والتسهيلِ عليهم. كأنه يقول: «لا يَشقَّنَّ عليكم الدخولُ في هذا السلك، إذ لا تخرجون عن قشركم بالمرّة، بل إنما تكمّلون معتقداتكم، وتبنون على ما هو مؤسَّس لديكم»إذ القرآن معدِّلٌ ومكمِّلٌ في الأُصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة وأُصولِ الشرائع السالفة. إلّا أنه مؤسِّس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغيّر الزمان والمكان؛ فكما تتحول الأدويةُ والألبسةُ في الفصول الأربعة، وطرزُ التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي الحكمةُ والمصلحة تبدل الأحكام الفرعية في مراتبِ عمرِ نوعِ البشر. فكم من حُكمٍ فرعيٍّ كان مصلحةً في زمان، ودواءً في وقتِ طفوليةِ النوع، لا يبقى مصلحةً في آخَرَ، ودواءً عند شبابية النوع. ولهذا السرّ نَسخَ القرآنُ بعض الفروع. أي بيّن انقضاءَ أوقات تلك الفروع ودخولَ وقت آخر.

وفي ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ لطائف:

اعلم أنه ما من كلمة في التنـزيل يأبى عنها مكانُها، أو لم يرضَ بها، أو كان غيرُها أولى به. بل ما من كلمة من التنـزيل إلا وهي كدُرٍّ مُرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فإن شئتَ مثالاً تأمل في ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية تَوَضَّعتْ على هذه الكلمة الفذة.

فإن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ تشرّبتْ وتلوّنت -فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائف- المناسباتِ المنعكسة من المقاصد الخمسة المندمجة في مسألة النبوة المسوقةِ لها هذه الآيةَ.

أما المقاصد المندمجة فهي أن محمداً عليه السلام نبيٌّ، وأنه أكمل الأنبياء، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه مُرسل لكافة الأقوام، وأن شريعتَه ناسخةٌ لجميع الشرائع، وجامعةٌ لمحاسنها.

أما وجه انعكاس المقصد الأول في تلك الكلمة، فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ إنما يقال إذا اتّحد المسلك وكان الطريق واحداً. فكأن هذه الكلمة تترشح بأن الحججَ على نبوة مَن قبله وصِدقِ كُتبهم، حُجةٌ بمجموعها بتنقيح المناط وتحقيق المناط بالقياس الأوْلَوِي على نبوة محمد عليه السلام ونزولِ كتابه. فكأن جميعَ معجزاتهم معجزةٌ فذّة على صدق محمد عليه السلام.

وأما وجه انعكاس المقصد الثاني، وهو الأكملية فيها، فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ بناءً على ملاحظة عادةِ «أن السلطان يخرج في أُخريات الناس».. وعلى قاعدة التكمّل في نوع البشر المقتضية لأكملية المربِّي الثاني عن المربِّي الأول.. وعلى أغلبية مهارةِ وزيادةِ الخَلَف على السَّلَف، تلوّح بأن محمداً عليه السلام سلطانُ الأنبياء، أكملُ من كلّهم. كما أن القرآنَ أجمعُ وأجملُ من كُتبهم.

وأما وجه تشرّبها من المقصد الثالث وهو «الخاتمية» فهو أنَّ ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ بسر قاعدة: «إن الواحد إذا تكثَّر تسلْسَلَ لا يسكن، وإن الكثير إذا اتّحد استقرّ لا ينقطع»، وبإشمام المفهوم المخالف تُلمّح بأنه عليه السلام خاتم الأنبياء.

وأما وجه انصباغها من المقصد الرابع وهو «عموم الدعوة» فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ المفيدةَ «أنك خَلَفُهم وكلٌّ منهم سلَفُك» بسر قاعدة: «إنَّ الخلف يأخذ تمامَ وظيفة السلف ويقوم مقامَه» تشير بأنه إذا كان كلٌّ منهم سلفَك فأنت نائبُ الكل، ورسولُ
جميع الأُمم.

نعم، لا يكون إلّا كذلك! إذ الفطرةُ حاكمة له، والحكمةُ قاضية به؛ لأنه كانت أُمم العالَم الإنساني قبل زمان السعادة في غاية التباعد والاختلاف مادةً ومعنىً، واستعداداً وتربيةً؛ ما كفَت لهم التربيةُ الواحدة وما شملت الدعوةُ المفردة. ثم لمّا انتبه العالمُ الإنساني بزمان السعادة بعده، وتمايلَ إلى الاتحاد بمداولة الأفكار، ومبادلةِ الطبائع، واختلاطِ الأقوام، وتحرّى البعضُ عن حال البعض حتى تمخّض الزمانُ بكثرة طرق المخابرة والمناقلة؛ فصارت الكرةُ كمملكة، وهي كولاية، وهي كبلدة، واتصل الرحم بين أهل الدنيا؛ كَفَت الدعوةُ الواحدة والنبوةُ الفريدة للكافة.

وأما وجه إشمامها بالمقصد الخامس فهو أنَّ ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ المومية من «مِن» إلى «إلى»، ومن «إلى» إلى الإغناء، أي «انتهت الرسالة بقدومك إذ أغْنَتْ شريعتُك»، ترمز بأن شريعتَه عليه السلام ناسخةٌ بالانتهاء وجامعةٌ بالإغناء.

واعلم أن الأمارة لنظر البلاغة على تشرّب هذه الكلمة لهؤلاء اللطائف هي أن هذه المقاصد الخمسة كالأنهار الجارية تحت هذه الآيات، حتى يفورُ هذا بكماله في آية.. وينبع ذاك بتمامه في أُخرى.. ويتجلى ذلك بشَرَاشيره في آخرة. فأدنى ترشُّح على السطح يومي بتماسّ عروق الكلمة بها. وأيضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقةٍ لها.

﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

اعلم أن مآل هذه الآية هو المقصدُ الرابع من المقاصد الأربعة المشهورة وهو «مسألة الحشر».

ثم إنّا قد استفدنا من نظم القرآن عشرةَ براهين عليها، ذكرناها في كتاب آخر فناسبَ تلخيصُها هنا. وهي:

أنَّ الحشر حقٌّ؛ لأن في الكائنات نظاماً أكملَ قصديّاً..

وأنّ في الخلقة حكمةً تامة..

وأنْ لا عبثية في العالم..

وأنْ لا إسراف في الفطرة.. والمزكّي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كلٌّ منها شاهدُ صدق على نظامِ نوعِ موضوعِه..

وأيضا إن في كثير من الأنواع مثل اليوم والسنة وغيرهما قيامةً مكررةً نوعية..

وأيضا جوهرُ استعداد البشر يرمز إلى الحشر..

وأيضا عدمُ تناهي آمال البشر وميولِه يشير إليه..

وأيضا رحمةُ الصانع الحكيم تلوّح به..

وأيضا لسانُ الرسول الصادق عليه السلام يصرّح به..

وأيضا بيانُ القرآن المعجِز في أمثال: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَارًا﴾ (نوح:14) ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ (فصلت:46) يشهد له. تلك عشرةٌ كاملةٌ، مفاتيحُ للسعادة الأبدية وأبوابٌ لتلك الجنة.

أما بيان البرهان الأول: فهو أنه لو لم تنجرَّ الكائناتُ إلى السعادة الأبدية لصار ذلك النظام الذي أتقن فيه صانعُه إتقاناً حَيَّرَ فيه العقولَ صورةً ضعيفةً خادعة، وجميعُ المعنويات والروابط والنسب في النظام هباءً منثوراً. فليس نظامُ ذلك النظام إلّا اتصالَه بالسعادة، أي إن النكت والمعنويات في ذلك النظام إنما تتسنبل في عالم الآخرة. وإلّا لانطَفأ جميعُ المعنويات، وتقطّع مجموعُ الروابط، وتمزّقَ كل النسب، وتفتَتَ هذا النظام؛ مع أن القوة المندمجة في النظام تنادي بأعلى صوتها: أن ليس من شأنها الانقضاضُ والانحلال.

وأما البرهان الثاني: فهو أن تمثالَ العناية الأزلية الذي هو الحكمةُ التامة، التي هي رعايةُ المصالح والحِكَم في كل نوع، بل في كل جزئي -بشهادة كلِّ الفنون- يبشّر بقدوم السعادة الأبدية. وإلّا لَزِم إنكار هذه الحِكم والفوائد التي أجبرتنا البداهةُ على الإقرار بها؛ إذ حينئذ تكون الفائدةُ لا فائدة.. والحكمةُ غير حكمةٍ.. والمصلحةُ عدم مصلحة. وإن هذا إلّا سفسطة.

وأما البرهان الثالث المفسّر للثاني: فهو أن الفن يشهد أيضاً أن الصانع اختار في كل شيء الطريقَ الأقصر، والجهةَ الأقرب، والصورةَ الأخف والأحسن. فيدلّ على أن لا عبثية. فيدلّ على أنه جدّيّ حقيقي. وما هو إلا بمجيء السعادة الأبدية. وإلّا لتنـزل هذا الوجود منـزلةَ العدم الصرف. وتحول كلُّ شيء عبثاً محضاً.. سبحانك ماخلَقْتَ هذا عَبَثاً.

أما البرهان الرابع الموضِّح للثالث: فهو أن لا إسراف في الفطرة بشهادة الفنون. فإن تقاصر ذِهْنُك عن إدراك حِكَم الإنسان الأكبر وهو «العالم» فأمعِن النظر في العالم الأصغر وهو «الإنسان». فإن فن منافع الأعضاء قد شرح وأثبت أن في جسد الإنسان -تقريباً- ستمائة عظم كلٌّ لمنفعة.. وستةَ آلاف عصب هي مجارٍ للدم كلٌّ لفائدة.. ومائةَ وأربعة وعشرين ألفَ مسامةٍ وكوّة للحجيرات التي تعمل في كلٍّ منها خمسُ قوى من الجاذبة والدافعة والممسكة والمصوّرة والمولّدة كلٌّ منها لمصلحة. وإذا كان العالَمُ الأصغر كذا فكيف يكون الإنسان الأكبر أنقصَ منه؟ وإذا كان الجسد الذي لا أهمية له بالنسبة إلى لبِّه بتلك الدرجة من عدم الإسراف، فكيف يُتصوَّر إهمالُ جوهر الروح؟ وإسرافُ كلِّ آثاره من المعنويات والآمال والأفكار؟ إذ لولا السعادةُ الأبدية لتقلصت كلُّ المعنويات وصارت إسرافاً. فبالله عليك، أيُمكن في العقل أن يكون لك جوهرةٌ قيمتُها الدنيا، فتهتم بصدَفها وغلافها حتى لا تخلي أن يصل الغبار إليه، ثم تأخذ الجوهرةَ فتكسّرها شذراً مذراً وتمحو آثارَها؟ كلا ثم كلا! ما تهتم بالغلاف إلّا لأجل ما فيه.. وأيضاً إذا أفهمتْك قوةُ البِنية في شخص وصحةُ أعضائه واستعداده استمرارَ بقائه وتَكمُّله؛ أفلا تُفهّمك الحقيقةُ الثابتة الجارية في روح الكائنات، والقوةُ الكاملة المومية بالاستمرار في الانتظام، والكمالُ المنجرّ إلى التكمل في النظام مجيءَ السعادة الأبدية من باب الحشر الجسماني؟ إذ هي المخلّصةُ للانتظام عن الاختلال، والواسطةُ للتكمل وانكشاف تلك القوة المؤبَّدة.

وأما البرهان الخامس والحدسُ المُرمِز إلى المقصد: فهو أن وجودَ نوعِ قياماتٍ مكرّرةٍ نوعيةٍ في كثير من الأنواع يشير إلى القيامة العظمى. وإن شئتَ تمثُّلَ الرمزِ في مثالٍ، فانظر في ساعتك الأُسبوعية، فكما أن فيها دواليبَ مختلفةً دوّارة متحركة محركة للإبر والأمْيالِ العادّةِ واحدةٌ منها للثواني، وهي مقدمة ومخبِرة لحركة إبرة الدقائق، وهي مُعدّة ومُعلِنة لحركة مِيل الساعات، وهي محصّلة ومُؤْذنة لحركة الإبرة التي تَعُدّ أيام الأُسبوع. فإتمام دورة السابقة يشير بأن أُختَها اللاحقة تتم دورَها؛ كذلك إن لله تعالى ساعةً كبرى دواليبُها الأفلاكُ تعدّ أميالُها الأيامَ والسنين وعمرَ البشر وبقاءَ الدنيا، نظير الثواني والدقائق والساعات والأيام في ساعتك. فمجيءُ الصبح بعد كل ليلة، والربيعِ بعد كل شتاء -بناء على حركة تلك الساعة- يشير إشارةً خفية ويرمز رمزاً دقيقاً بتولّد صبحِ ربيع الحشر من تلك الساعة الكبرى.

 إن قلت: القيامةُ النوعية لا تُحشَر الأشخاصُ بأعيانهم فكيف ترمز بالقيامة الكبرى لِعَوْد الأشخاص هناك بأعيانهم؟

قيل لك: إنَّ شخصَ الإنسان كنوعِ غيره، إذ نورُ الفكر أعطَى لآمال البشر وروحه وُسْعةً وإنبساطاً بدرجة وسِعَت الأزمنةَ الثلاثة، لو ابتلع الماضيَ والمستقبل مع الحال لم تمتلئ آمالُه؛ لأن نور الفكر صيّر ماهيتَه عُلْوية، وقيمتَه عمومية، ونظرَه كلياً، وكمالَه غير محصور، ولذتَه دائمية، وألمَه مستمراً. أما فردُ النوع الآخر فماهيتُه جزئية، وقيمتُه شخصية، ونظرُه محدود، وكمالُه محصور، ولذتُه آنيّة، وألمُه دفعيّ، فوجودُ نوعِ قيامة في الأنواع، كيف لا يشير بالقيامة الشخصية العمومية للإنسان؟

وأما البرهان السادس الملوّح: فهو عدمُ تناهي استعدادات البشر؛ نعم، إن تصوراتِ البشر وأفكارَه التي لا تتناهى، المتولدةَ من آماله الغير المتناهية، الحاصلةِ من ميوله الغيرِ المضبوطةِ، الناشئةِ من قابلياته الغير المحدودة، المستترةِ في استعداداته الغير المحصورة، المزروعةِ في جوهر روحه الذي كرّمه الله تعالى؛ كلٌّ منها يشير في ما وراءَ الحشر الجسماني بإصبع الشهادةِ إلى السعادة الأبدية وتمد نظرَها اليه. فتأمل!

وأما البرهان السابع المبشر: فهو أن رحمةَ الرحمن الرحيم تبشّر بقدوم أعظم الرحمة، أعني السعادة الأبدية؛ إذ بها تصيرُ الرحمةُ رحمةً، والنعمةُ نعمةً. وبها تخلص الكائناتُ من النياحات المرتفعة من المأتم العموميّ المتولد من الفراق الأبديّ المصيّر للنِعم نِقماً. إذ لو لم يجئ روحُ النِعَم أعني السعادة الأبدية، لتحوّل جميعُ النعم نِقماً؛ ولَلزم المكابرةُ في إنكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة..

فيا أيها الحبيب الشفيق العاشق! انظُر إلى ألطفِ آثار رحمة الله، أعني المحبةَ والشفقة والعشق؛ ثم راجعْ وجدانَك، لكن بعد فرض تعقّب الفراقِ الأبدي والهجران اللايزالي عليها، كيف ترى الوجدانَ يستغيث.. والخيالَ يصرخ.. والروحَ يضجر من انقلاب تلك المحبة والشفقة -اللتين هما أحسنُ وألطفُ أنواع الرحمة والنعمة- أعظمَ مصيبةٍ عليك وأشدَّ بلاءٍ فيك؟ أفيمكن في العقل أن تساعد تلك الرحمةُ الضرورية لهجوم الفراق الأبدي والهجرانِ اللايزاليّ على المحبة والشفقة؟ لا! بل من شأن تلك الرحمة أن تسلِّط الفراقَ الأبدي على الهجران اللايزاليّ، والهجرانَ اللايزاليّ على الفراق الأبدي، والعدمَ عليهما.

وأما البرهان الثامن المصرّح: فهو لسانُ محمد عليه السلام الصادق المصدوق، ولقد فتح كلامُه أبوابَ السعادة الأبدية، على أن إجماع الأنبياء من آدمهم إلى خاتمهم عليهم السلام على هذه الحقيقة حُجةٌ حقيقيةٌ قطعية على هذا المدّعَى. ولِأمرٍ مّا اتفقوا.

وأما البرهان التاسع: فهو إخبار القرآن المعجِز؛ إذ التنـزيلُ المصدَّق إعجازُه بسبعة أوجه في ثلاثةَ عشرَ عصراً دعواه عينُ برهانها. فإخباره كشَّافٌ للحشر الجسماني ومفتاحٌ له.

وأما البرهان العاشر، المشتمل على ألوفٍ من البراهين التي تضمّنَها كثيرٌ من الآيات مثل ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَارًا﴾ المشيرِ إلى «قياس تمثيلي»، و﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ المشيرِ إلى «دليل عَدْليّ»، وغيرهما، فلقد فتح القرآن في أكثر الآيات كُوّاتٍ ناظرة إلى الحشر.

أما القياس التمثيلي المشار إليه بالآية الأُولى: فانظر في وجود الإنسان فإنه ينتقل من طَور إلى طور؛ من النطفة إلى العلَقة.. ومنها إلى المضغة.. ومنها إلى العظم واللحم.. ومنه إلى الخلق الجديد. ولكلٍّ من تلك الأطوار قوانينُ مخصوصة، ونظاماتٌ معيّنة، وحركاتٌ مطّردة يشفّ كلٌّ منها عن قصدٍ وإرادةٍ واختيارٍ.. ثم تأمل في بقائه فإن هذا الوجود يجدّد لباسَه في كل سنة، ومن شأنه التحللُ والتركّب، أي انقضاضُ الحجيرات وتعميرُها ببدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزّعة على نسبة مناسبة الأعضاء التي يُحضِرها صانعُها بقانون مخصوص. ثم تأمل في أطوار تلك المادةِ اللطيفة الحاملةِ لأرزاق الأجزاء. كيف تنتشر في أقطار البدَن انتشاراً تحيّر فيه العقولُ. وكيف تنقسم بقانون التقسيم المعيّن على مقدار حاجات الأعضاء؛ بعد أن تلخّصت تلك المادةُ بنظام ثابت، ودستور معين، وحركة عجيبة من أربع مصفاتات، وانطبخت في أربعة مطابخ بعد أربعةِ انقلابات عجيبة؛ المأخوذةِ تلك المادة من القُوتِ المحصَّل من المواليد المنتشرة في عالم العناصر بدستورٍ منتظم؛ ونظام مخصوص، وقانون معين. وكلٌّ من القوانين والنظامات في تلك الأطوار يشفّ عن سائقٍ وقصدٍ وحكمةٍ. كيف لا، ولو تأملتَ من قافلة تلك المادة اللطيفة في ذرةٍ مثلاً، مُستَّرةً في عنصر الهواء تصير بالآخرة جزءاً من سواد عين «الحبيب»، لعَلِمتَ أن تلك الذرةَ وهي في الهواء معيّنةٌ كأنها موظفةٌ مأمورة بالذهاب إلى مكانها الذي عُيّن لها؛ إذ لو نظرت إليها بنظرِ فنّيّ تيقنتَ أن ليست حركتُها «اتفاقية عمياء» «بتصادف أعمى»، بل تلك الذرةُ ما دخلت في مرتبةٍ إلَّا تبعَت نظاماتِها المخصوصة، وما تدرّجَتْ إلى طورٍ إلَّا عَمِلت بقوانينه المعيّنة، وما سافرت إلى طبقة إلَّا وهي تُساق بحركة عجيبة منتظمة، فتمرّ على تلك الأطوار حتى تصل إلى موضعها. مع أنها لا تنحرف قطعاً مقدار ذرة عن هدف مقصدها.

والحاصل: أن من تأمل في النشأة الأولى لم يبقَ له تردّدٌ في النشأة الأخرى، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عَجباً لمن يَرى النشأةَ الأُولَى كيفَ ينكر النشأة الأخرى».

نعم، كما أن جمعَ نفراتِ عسكرِ فرقةٍ أُذِنَ لهم بالاستراحة والانتشار إذا دُعوا بالآلة المعروفة -يتسللون عن كل طرَف ومكمَن، فيجتمعون متّحدين تحت لوائهم- يكون أسهلَ وأسهلَ من جلبهم أول الأمر إلى الانتظام تحت السلاح؛ كذلك إن جمعَ الذرات التي حصَلت بينها المؤانسةُ والمناسبة بالامتزاج في وجودٍ واحدٍ إذا نوديتْ بصُور إسرافيل فينساب الكلُّ من كل فجٍّ عميق مُلبِّيةً لأمر خالقها، يكون أسهلَ وأمكن في العقل من إنشائها وتركيبها أول المرة.

أما بالنسبة إلى القدرة فأعظمُ الأشياء كأصغرِها.

ثم الظاهر أن المُعاد يُعاد بأجزائه الأصلية والفضولية معاً. كما يشير إليه كبرُ أجسام أهل الحشر وكراهةُ قصّ الأظفار والأشعار ونحوها للجُنُب، وسُنِّـيَّةُ دفنِها. والتحقيق أن عَجب الذَّنَب يكفي أن يكون بذراً ومادةً لتشكّله.

وأما الدليل الذي لوّح به: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ : فاعلم أنّا كثيراً ما نرى الظالمَ الفاجر الغدّار في غاية التنعّم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة، ثم نرى المظلومَ الفقير المتديّن الحَسَنَ الخُلقِ ينقضي عمرُه في غاية الزحمة والذلّةِ والمظلومية، ثم يجيء الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواةُ بلا نهايةٍ تُرى ظُلماً. والعدالةُ والحكمة الإلهيتان اللتان شهِدت عليهما الكائناتُ منـزّهتان عن الظلم؛ فلابد من مجمَعٍ آخر ليرى الأولُ جزاءَه والثاني ثوابَه فيتجلى العدالةُ الإلهية.

وقِس على هاتين الآيتين نظائرهما. هذا..

أما وجهُ النظم في أجزاء ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ فاعلم أن مناط النكت: «الواو»، ثم تقديمُ ﴿بِالآخِرَةِ﴾ ثم الألف واللام فيها، ثم التعبير بهذا العنوان، ثم ذِكر ﴿هُمْ﴾، ثم ذِكر ﴿ يُوقِنُونَ﴾ بدلَ «يؤمنون».

أما «الواو» ففيها التخصيص بعد التعميم، للتنصيص على هذا الركن من الإيمان، إذ هو أحد القطبين اللذين تدور عليهما الكتبُ السماوية.

وأما تقديمُ ﴿بِالآخِرَةِ﴾ ففيه حصرٌ، وفي الحصر تعريضٌ بأن أهلَ الكتاب بناءً على قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ اِلَّٓا اَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ (البقرة:80) ونفيِهم اللذائذ الجسمانية، آخرتُهم آخرةٌ مجازية اسمية، ما هي بحقيقة الآخرة.

وأما الألف واللام فللعَهد، أي إشارةٌ إلى المعهود بالدوران على ألسنة كلِّ الكتب السماوية.. وفي العهد لمحٌ إلى أنها حقٌ وإشارة إلى الحقيقة المعهودة الحاضرة بين أهداب العقول بسبب الدلائل الفطرية المذكورة.. وفي العهد حينئذ رمزٌ إلى أنها حقيقة.. وأما التعبير بعنوان «الآخِرَةِ» الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن إلى النشأة الأولى، لينتقل إلى إمكان النشأة الأخرى.

وأما ﴿هُمْ﴾ ففيه حصرٌ، وفي الحصر تعريض بأن إيمان من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب ليس بيقين، بل إنما يظنونه يقيناً.

وأما ذكر ﴿ يُوقِنُونَ﴾ بدل «يؤمنون» مع أن الإيمان هو التصديقُ مع اليقين، فليضع الإصبع على مناط الغرض قصداً لإطارة الشكوكِ؛ إذ القيامةُ محشرُ الريوب.. وأيضا بالتنصيص ينسدّ طُرق التعلل بـ«إنا مؤمنون فليؤمن مَن لم يؤمن».

* * *

الآية (2)

﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّقينۙ﴿2

مقدمة

اعلم أن من أساس البلاغة الذي به يبرُق حُسن الكلام تجاوب الهيئات وتداعي القيود وتآخذها على المقصد الأصلي، وإمداد كلٍّ بقدْرِ الطاقة للمقصد، الذي هو كمجمَع الأودية أو الحوض المتشرب من الجوانب، بأن تكون مصداقاً وتمثالاً لما قيل:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ      وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

مثلاً: تأمَّل في آيةِ ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ المسوقةِ للتهويل، المستفادِ من التقليل بسرّ انعكاس الضدّ من الضد. أفلا ترى التشكيك في ﴿إنْ كيف يمدّ التقليل، والمسّ بدل الإصابة في «مسّت» كيف يشير إلى القلّة والتروّح فقط، والمرّتيّة والتحقير في جوهرِ وصيغةِ وتنوينِ  ﴿نَفْحَةٌ كيف تلوِّح بالقلّة، والبعضية في ﴿مِنْ كيف تومئ إليها، وتبديل النَكال بالـ﴿عَذَابِ كيف يرمز إليها، والشفقةُ المستفادة من الـ«ربّ» كيف تشير إليها، وقِس؟! فكلٌّ يُمد المقصدَ بجهته الخاصة. وقِس على هذه الآية أخواتِها. وبالخاصة ﴿الٓمٓۚ ﴿1﴾ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّقين لأنَّ هذه الآية ذُكرت لمَدح القرآن وإثبات الكمال له.

ولقد تجاوبَ وتآخذ على هذا المقصد: القَسَم بـ ﴿الٓمٓۚ  على وجه، وإشارة ﴿ذٰلِكَ ومحسوسيته وبُعديته، والألف واللام في  ﴿ الْكِتَابُ، وتوجيه إثباته بـ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهۚ.  فكلٌّ كما يُمد المقصدَ ويلقي إليه حصتَه يرمز ويشفّ من تحته عن ما يستند إليه من الدليل وإنْ دقّ.

فإن شئت تأمل في القَسَم بـ﴿الٓمٓۚ  إذ إنه كما يؤكّد، كذلك يُشعر بالتعظيم الموجّه للنظر الموجب لانكشاف ما تحته من اللطائف المذكورة ليبرهن على الدعوى المرموز إليها.

وانظر الإشارة في ﴿ذٰلِكَ المختصة بالرجوع إلى الذات مع الصفات لتعلَم أنها كما تفيد التعظيم -لأنها إما إشارة إلى المشار إليه بـ﴿الٓمٓۚ  أو المبشَّر به في التوراة والإنجيل – كذلك تلوّح بدليلها؛ إذ ما أعظم ما أُقسمَ به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة والإنجيل! ثم أمعِن النظر في الإشارة الحسية إلى الأمر المعقول لترى أنها كما تفيد التعظيم والأهمية؛ كذلك تشير إلى أن القرآن كالمغناطيس المنجذِب إليه الأذهان، والمتزاحم عليه الأنظارُ المجْبِر لخيالِ كلٍّ على الإشتغال به. فتظاهرَ بدرجة -تراه العيون من خلفها إذا راجعت الخيال- يرمز بلسان الحال إلى وثوقِه بصدقه وتبرّيه عن الضعف والحيلة الداعيَين إلى التستر.. ثم تفكّر في البُعدية المستفادة من ﴿ذٰلِكَ؛ إذ إنها كما تفيد علوّ الرتبة المفيد لكماله؛ كذلك تومئ إلى دليله بأنه بعيدٌ عن ما سلك عليه أمثالُه. فإما تحت كلٍّ وهو باطل بالاتفاق، فهو فوق الكلِّ.

ثم تدبّر في «الـ» ﴿الْكِتَابُ لأنها كما تفيد الحصرَ العرفي المفيد للكمال؛ تفتح بابَ الموازنة وتلمِّح بها إلى أن القرآن كما جمَع محاسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملُها..

ثم قف على التعبير بـ﴿الْكِتَابُ﴾ كيف يلوّح بأن الكتاب لا يكون من مصنوع الأمّيّ الذي ليس من أهل القراءة والكتابة.

أما ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهۚ  ففيه وجهان:

إرجاع الضميرِ إلى الحُكم، أو إلى الكتاب:

فعلى الأول -كما عليه المفتاح- يكون بمعنى يقيناً، وبلا شك، فيكون جهةً وتحقيقاً لإثبات كماله.

وعلى الثاني -كما عليه الكشاف- يكون تأكيداً لثبوت كماله.

وعلى الكل يناجي من تحت ﴿لَا رَيْبَۚ بـ ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه۪﴾ (البقرة:23) ويرمز إلى دليله الخاص..

والاستغراق في ﴿لَا  بسبب إعدام الريوب الموجودة ينشد:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً        وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ

ويشير إلى أن المحلّ ليس بقابلٍ لتولّد الشكوك؛ إذ أقام على الثغور أماراتٍ تتنادى من الجوانب وتطرد الريوب المتهاجمة عليه.

وفي ظرفيةِ ﴿فيهۚ والتعبيرِ بـ«فِي» بدلَ أخواتها إشارةٌ إلى إنفاذ النظر في الباطن. وإلى أن حقائقه تطرد وتطيّر الأوهامَ المتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.

فيا مَن آنس قيمةَ التركيب من جانب التحليل، وأدرَك فرقَ الكلِّ عن كلٍّ! انظُر نظرة واحدة إلى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌّ حصته إلى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب.

اعلم أنه لم يُربَط بين جُمَل ﴿الٓمٓۚ … ذٰلِكَ الْكِتَابُ… لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ… هُـدًى لِلْمُتَّقين بحلقات العطف لشدة الاتصال والتعانق بينها، وأخذِ كلٍّ بحَجز سابقتها وذيل لاحقتها. فإن كلَّ واحدة كما أنها دليلٌ لكلٍّ بجهة؛ كذلك نتيجةٌ لكلِّ واحدة بجهة أخرى. ولقد انتقش الإعجاز على هذه الآية بنسج اثني عشر من خطوط المناسبات المتشابكة المتداخلة..

إن شئت التفصيل تأمل في هذا:

﴿الٓمٓۚ فإنها تومئ بالمآل إلى: «هذا متحدًّى به، ومَن يبرز إلى الميدان؟» ثم تلوِّح بأنه معجز.

وتفكَّر في ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ فإنها تصرِّح بأنه ازداد على أخواته وطمَّ عليها، ثم تلمِّح بأنه مستثنى ممتاز لا يماثَل.

ثم تدبر في ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهِۚ فإنها كما تُفصح عن أنه ليس محلاً للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين.

ثم انظُر في ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين إذ إنها كما تهدي إليك أنه يُري الطريق المستقيم؛ تفيدك أنه قد تجسم من نور الهداية.

فكلٌّ منها باعتبار المعنى الأول برهانٌ لرفقائها وباعتبار المعنى الثاني نتيجةٌ لكل منها.

ونذكر على وجه المثال ثلاثاً من الروابط الثنتي عشرة لتقيس عليها البواقي:

فـ ﴿الٓمٓۚأي هذا يتحدّى كلَّ معارض، فهو أكملُ الكتب، فهو يقيني؛ إذ كمالُ الكتاب باليقين، فهو مجسَّم الهداية للبشر..

ثم ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ أي هو ازداد على أمثاله فهو معجز -أو- أي هو ممتاز ومستثنى؛ إذ لا شك فيه؛ إذ إنه يُري السبيل السويّ للمتقين..

ثم ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين أي يرشد إلى الطريق المستقيم، فهو يقيني، فهو ممتاز، فهو معجِز.. وعليك باستنباط البواقي.

أما ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين فاعلم أن منبع حُسن هذا الكلام من أربع نقط:

الأولى: حذفُ المبتدأ، إذ فيه إشارة إلى أن حُكمَ الاتحاد مسلَّمٌ. كأنَّ ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لا تغايرَ بينهما في الذهن أيضاً.

والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، إذ فيه رمز إلى أن نور الهداية تجسَّمَ فصار نفسَ جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحُمرة فيصير قرْمِزاً.

والثالثة: تنكير﴿هُـدًى إذ فيه إيماءٌ إلى نهاية دقة هداية القرآن حتى لايُكْتنه كُنْهها، وإلى غاية وسعتها حتى لا يُحاط بها علماً. إذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الإحاطة. ومن هنا قد يكون التنكيرُ للتحقير وقد يكون للتعظيم.

والرابعة: الإيجاز في ﴿لِلْمُتَّقين بدل «الناس الذين يصيرون متقين به» أوجز بالمجاز الأوْل إشارة إلى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزاً إلى البرهان «الإِنِّيّ» على وجود الهداية. فإن السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقُه.

 إن قلت: كيف تتولد البلاغة الخارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة المعدودة؟

قيل لك: إنَّ في التعاون والاجتماع سراً عجيباً. لأنه إذا اجتمع حُسنُ ثلاثة أشياء صار كخمسة، وخمسةٌ كعشرة، وعشرةٌ كأربعين بسر الانعكاس. إذ في كل شيء نوع من الانعكاس ودرجة من التمثل. كما إذا جمعتَ بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياءُ كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كلَّ صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلاً فطرياً إلى أن ينضمّ إلى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حُسناً إلى حُسنه. حتى إن الحَجر مع حَجَريته إذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدَّب يميل ويُخضع رأسَه ليُماسّ رأسَ أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالإنسانُ الذي لا يدرك سرّ التعاون لهو أجمد من الحجر؛ إذ من الحجر من يتقوس لمعاونة أخيه!

 إن قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الأذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في أمثال هذه الآية اختلفوا اختلافاً مشتتاً، وأظهروا احتمالات مختلفة، وبيّنوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟

قيل لك: قد يكون الكلُّ حقاً بالنسبة إلى سامعٍ فسامعٍ؛ إذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الإنسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍّ فيه حصةٌ ونصيب من الفهم. والحال أن فهمَ نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانباً جانباً.. واستحسانَه يتفرق وجهاً وجهاً.. ولذتَه تتنوع نوعاً نوعاً.. وطبيعتَه تتباين قسماً قسماً. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذُّها طبقةٌ ولا تتنـزل إليها طبقة. وقِس!

فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌّ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظّم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الأفهام المختلفة ليأخذ كلُّ فهمٍ حصته. وقس! فإذن يجوز أن يكون الوجوهُ بتمامها مرادةً بشرط أن لا تردّها علومُ العربية، وبشرط أن تستحسنها البلاغةُ، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.

فظهر من هذه النكتة أن من وجوه إعجاز القرآن نظمَه وسبكَه في أسلوب ينطبق على أفهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.

الآية (1)

 ﴿الٓمٓ﴾

اعلم أن ههنا مباحث أربعة:

المبحث الأول

إن الإعجاز قد تنفّس من أُفق ﴿الٓمٓ﴾ لأن الإعجاز نورٌ يتجلى من امتزاج لمعات لطائف البلاغة. وفي هذا المبحث لطائفُ، كلٌّ منها وإنْ دقَّ لكنّ الكلَّ فجرٌ صادق.

منها: أنَّ ﴿الٓمٓ﴾ مع سائر أخواتها في أوائل السور تُنصّف كلَّ الحروف الهجائية التي هي عناصر كلِّ الكلمات. فتأمل!

ومنها: أنَّ النصف المأخوذ أكثر استعمالاً من المتروك.

ومنها: أنَّ القرآن كرّر من المأخوذ ما هو أيْسَرُ على الألسنة كالألف واللام.

ومنها: أنه ذكر المقطّعات في رأس تسعٍ وعشرين سورة عدّة الحروف الهجائية.

ومنها: أن النصف المأخوذ ينصّف كلَّ أزواج أجناسِ طبائع الحروف، من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة والمستعلية والمنخفضة والمنفتحة وغيرها، وأما الأوتارُ فمن الثقيل القليل كالقلقلة؛ ومن الخفيف الكثير كالذلّاقة.

ومنها: أن النصفَ المأخوذ من طبائعها ألطفُ سجيةً.

ومنها: أن القرآن اختار طريقاً في المقطّعات من بين أربعة وخمسمائة احتمال، لا يمكن تنصيفُ طبائع الحروف إلا بتلك الطريق، لأن التقسيمات الكثيرة متداخلةٌ ومشتبكة ومتفاوتة. ففي تنصيف كلٍّ غرابةٌ عجيبة.

فمَن لم يجتَن نورَ الإعجاز من مزج تلك اللمعات فلا يلومنّ إلّا ذوقَه.

المبحث الثاني

اعلم أن ﴿الٓمٓ كقَرع العصا؛ يوقِظ السامعَ ويهزُّ عِطفَه بأنه -بغرابته- طليعةُ غريبٍ وعجيبٍ.

وفي هذا المبحث أيضاً لطائفُ:

منها: أن التهجّي وتقطيع الحروف في الاسم إشارةٌ إلى جنس ما يتولّد منه المسمّى.

ومنها: أن التقطيع إشارةٌ إلى أن المسمّى واحد اعتباريّ لا مركب مَزجي.

ومنها: أن التهجي بالتقطيع تلميحٌ إلى إراءة مادة الصنعة؛ كإلقاء القلم والقرطاس لمَن يعارضك في الكتابة. كأنّ القرآن يقول: «أيها المعاندون المدّعون أنكم أُمراءُ الكلام! هذه المادة التي بين أيديكم هي التي أصنع منها ما أصنع».

ومنها: أن التقطيع المُرمِز إلى الإهمال عن المعنى يشير إلى قطع حُجتهم بـ«أنّا لا نعرف الحقائق والقصص والأحكام حتى نقابلك». فكأنّ القرآن يقول: «لا أطلب منكم إلّا نظمَ البلاغة، فجيئوا به ولو مفتَريات».

ومنها: أن التعبير عن الحروف بأسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة، ومَن يسمعون منه الكلامَ أمّيٌّ مع محيطه، فنظراً إلى السجية -مع أن أول ما يتلقاهم خلافُ المنتظر- يرمز إلى: «أن هذا الكلام لا يتولد منه بل يُلقى إليه».

ومنها: أن التهجّي أساسُ القراءة ومبدؤها، فيومئ إلى أن القرآن مؤسسٌ لطريق خاص ومعلّم لأمّيين.

ومَن لم يرَ نقشاً عالياً من انتساج هذه الخيوط -وإن دقّ البعضُ- فهو دخيلٌ في صنعة البلاغة فليقلِّد فتاوى أهلِها.

المبحث الثالث

إنَّ  ﴿الٓمٓ إشارة إلى نهاية الإيجاز، الذي هو ثاني أساسَي الإعجاز.

وفيه لطائف:

منها: أن ﴿ الٓمٓ   يرمز ويشير ويومئ ويُلَوِّح ويلَمِّح بالقياس التمثيلي المتسلسل إلى: «أن هذا كلام الله الأزلي، نزلَ به جبريلُ على محمد عليهما الصلاة والسلام». لأنه كما أن الأحكامَ المفصّلة في مجموع القرآن قد ترتسم في سورةٍ طويلة إجمالاً؛ وقد تتمثل سورةٌ طويلة في قصيرة إشارةً؛ وقد تندرج سورةٌ قصيرة في آيةٍ رمزاً؛ وقد تندمج آيةٌ في كلام واحدٍ تلويحاً؛ وقد يتداخل كلامٌ في كلمة تلميحاً، وقد تتراءى تلك الكلمةُ الجامعةُ في حروف مقطّعة، كـ«سين، لام، ميم».. كالقرآنِ في البقرة، والبقرةِ في الفاتحة، والفاتحةِ في  ﴿بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيم و﴿بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحيم في البسملة المنحوتة؛ كذلك يجوز ذلك في ﴿الٓمٓ أيضاً.

فبالاستناد إلى هذا القياس التمثيلي المتسلسل، وبإشارة ﴿ذٰلِكَ الْكتاب يتجلى من ﴿الٓمٓ﴾ «هذا كلامُ الله الأزلي نزل به جبريلُ على محمد عليهما الصلاة والسلام».

ومنها: أنَّ الحروف المقطّعة كالشفرة الإلهية أبرَقَها إلى رسوله الذي عنده مفتاحُها. ولم يتطاول يدُ فكر البشر إليه بعدُ.

ومنها: أنَّ ﴿الٓمٓ﴾  إشارة إلى شدة ذَكاوة المُنـزَل عليه رمزاً إلى أن الرمز له كالتصريح.

ومنها: أنَّ التقطيع إشارة إلى أن قيمةَ الحروف ليست في معانيها فقط، بل بينها مناسباتٌ فطرية كمناسبة الأعداد، كشَفَها علمُ أسرار الحروف.

ومنها: أنَّ ﴿الٓمٓ﴾  خاصةً، إشارةٌ بالتقطيع إلى المخارج الثلاثة، من الحلق والوسط والشفة، وترمز تلك الإشارة إلى إجبار الذهن للدقّة، وشقّ حجاب الألفة؛ ليلجأ إلى مطالعة عجائب ألوان نقش خلقة الحروف.

فيا مَن صبغ يدَه بصنعة البلاغة! رَكِّبْ قطعاتِ هذه اللطائف وانظرْها واحدةً، واستمع، لتقرأ عليك: «هذا كَلَامُ الله».

المبحث الرابع

إنَّ ﴿الٓمٓۚ  مع أخواتها لمّا برزت بتلك الصورة كانت كأنها تنادى: «نحن الأئمة؛ لا نُقلِّد أحداً، وما اتَّبعنا إماماً، وأُسلوبنا بديعٌ، وطرزُنا غريب».

وفيه لطائف:

منها: أن مِن دَيدن الخطباء والفصحاء التأسّي بمثال والنسجَ على منوال والتمشي في طريق مسلوكة، مع أنها لم يطمثهن قبلَه إنس ولا جان.

ومنها: أن القرآن بفواتحه ومقاطعه بقيَ بعدُ كما كان قبلُ، لم يماثِل ولم يُقلَّد مع تآخذ أسباب التقليد والتأسِّي من شوق الأودَّاء وتحدي الأعداء. إنْ شئت شاهداً فهذه ملايينُ من الكتب العربية! هل ترى واحداً منها يوازيه، أو يقع قريباً منه؟ كلا! بل الجاهل العاميّ أيضاً إذا قاسَها معه وقابَله بها ناداه نظرُه بـ«أنَّ هذا ليس في مرتبتها». فإما هو تحت الكلِّ وهو محال بالضرورة، وإما هو فوق الكلِّ وهو المطلوب، فهو نصيبُه من دَرْك الإعجاز.

ومنها: أنَّ من شأن صنعة البشر أنها تظهر أول ما تظهر خشنة ناقصة من وجوه، يابسة من الطلاوة، ثم تتكمل وتحلو. مع أن أسلوب القرآن لمّا ظهرَ ظهرَ بطلاوة وطراوة وشبابية، وتحدّى مع الأفكار المعمّرين -بتلاحق الأفكار وسرقة البعضِ عن البعض- وغلَبَهم، فأعلن بالغلبة «أنه من صُنع خالق القُوى والقَدر».

فيا مَنْ استنشق نسيمَ البلاغة! أفلا يجتني نحلُ ذهنِك عن أزهار تلك المباحث الأربعة شَهْدَ: «أشْهَدُ أنَّ هذَا كَلَامُ الله»؟

*  *  *

الآية (3)

﴿اَلَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقيمُونَ الصَّلٰوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾

﴿اَلَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

اعلم أن وجه نظم المحصَّل مع المحصِّل انصبابُ مدحِ القرآن إلى مدح المؤمنين وانسجامه به؛ إذ إنه نتيجةٌ له، وبرهانٌ إنّيّ عليه، وثمرةُ هدايته، وشاهدٌ عليه. وبسبب تضمّن التشويق إشارةٌ إلى جهة حصّة هذه الآية من الهداية، وإلى أنها مثال لها.

أما وجه ﴿اَلَّذينَ ﴾ مع ﴿لِلْمُتَّقينَ﴾ فتشييعُ التخلية بالتحلية التي هي رفيقتُها أبداً؛ إذ التزيين بعد التنـزيه، ألا ترى أن التقوى هي التخلّي عن السيئات. وقد ذكرها القرآن بمراتبها الثلاث، وهي: ترك الشرك، ثم ترك المعاصي، ثم ترك ما سوى الله. والتحلية فعلُ الحسنات: إما بالقلب أو القالب أو المال. فشمس الأعمال القلبية: «الإيمان». والفهرستةُ الجامعة للأعمال القالبية: «الصلاة»، التي هي عماد الدين. وقطب الأعمال المالية: «الزكاة»، إذ هي قنطرة الإسلام.

اعلم أن ﴿اَلَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ مع أنه إذا نظرتَ إلى مقتضى الحال إيجاز، إلَّا أنه إذا وازنتَ بينه وبين مرادفه وهو «المؤمنون» تظنّه إطناباً؛ فأبدَل «ال» بـ ﴿اَلَّذينَ﴾ الذي من شأنه الإشارة إلى الذات بالصلة فقط، كأنه لا صفة له إلّا هي، للتشويق على الإيمان، والتعظيم له؛ والرمز إلى أن الإيمان هو المنار على الذات؛ قد تضاءلت تحته سائرُ الصفات.. وأبدلَ «مؤمنون» بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾؛ لتصوير وإظهارِ تلك الحالة المستحسَنة في نظر الخيال، وللإشارة إلى تجدُّده بالاستمرار وتجلّيه بترادف الدلائل الآفاقية والأنفسية، فكلما ازدادت ظهوراً ازدادوا إيماناً.

﴿بِالْغَيْبِ﴾ أي بالقلب، أي بالإخلاص بلا نفاق. ومع الغائِبِيَّة.. وبالغائب.. وبعالم الغيب.

واعلم أن الايمان هو النور الحاصل بالتصديق بجميع ما جاء به النبي عليه السلام تفصيلا في ضروريات الدين وإجمالاً في غيرها.

 إن قلت: لا يقتدر على التعبير عن حقائق الإيمان من العوام من المائة إلّا واحد؟

قيل لك: إن عدم التعبير ليس عَلَماً على عدم الوجود؛ فكما أن اللسان كثيراً ما يتقاصر عن أن يترجم عن دقائق ما في تصورات العقل؛ كذلك قد لا يتراءى بل يتغامض عن العقل سرائرُ ما في الوجدان، فكيف يترجم عن كلِّ ما فيه؟ ألا ترى ذكاءَ السكاكي ذلك الإمام الداهي قد تقاصر عن اجتناء دقائق ما أبرزته سجيّة امرئ القيس، أو بدويّ آخر؟ فبناءً على ذلك، الاستدلالُ على وجود الإيمان في العامي يثبت بالاستفسار والاستيضاح منه، بأن تستفسر من العاميّ بالسؤال المردّد بين النفي والإثبات هكذا: أيها العامي! أيمكن في عقلك أن يكون الصانع الذي كان العالمُ بجهاته الست في قبضة تصرفه أن يتمكّن في جهة من جهاته أو لا؟ فإن قال: «لا»، فنفي الجهة ثابتٌ في وجدانه، وذلك كافٍ. وقس على هذا..

ثم إن الإيمان -كما فسّره السعد- نورٌ يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده، أي بعد صرف الجزء الاختياري. فالإيمان نورٌ لوجدان البشر وشعاع من شمس الأزل يضيء دفعةً ملكوتيةَ الوجدان بتمامها. فينشر أُنسيةً له مع كل الكائنات.. ويؤسس مناسبةً بين الوجدان وبين كل شيء.. ويُلقي في القلب قوةً معنوية يقتدر بها الإنسانُ أن يصارع جميعَ الحوادث والمصيبات.. ويعطيه وُسْعةً يقتدر بها أنْ يبتلع الماضي والمستقبل. وكما أن الايمان شعاعٌ من شمس الأزل؛ كذلك لمعة من السعادة الأبدية أي الحشر. فينمو بضياء تلك اللمعة بذورُ كلِّ الآمال، ونواةُ كلِّ الاستعدادات المودَعة في الوجدان، فتنبت ممتدةً إلى الأبد، فتنقلب نواةُ الاستعداد كشجرة طوبى.

﴿وَيُقيمُونَ الصَّلٰوةَ﴾

اعلم أن وجه النظم أظهرُ من الشمس في رابعة النهار. وأن في تخصيص «الصلاة» من بين حسنات القالب إشارةً إلى أنها فهرستةُ كل الحسنات وأنموذجها ومَعْكسها. كالفاتحةِ للقرآن، والإنسانِ للعالم. لاشتمالها على نوع صومٍ وحج وزكاة وغيرها، ولاشتمالها على أنواع عبادات المخلوقات، الفطرية والاختيارية من الملائكة الراكعين الساجدين القائمين، ومن الحجر الساجد، والشجر القائم، والحيوان الراكع..

ثم إنه أقام ﴿يُقيمُونَ﴾ مقام «المقيمين» لإحضار تلك الحركة الحياتية الواسعة والإنتباه الروحاني الإلهي في العالم الإسلامي إلى نظر السامع. ووضع تلك الوضعية المستحسَنة والحالة المنتظمة من نواحي نوع البشر نصبَ عين الخيال، ليهيّج ويوقظ ميَلان السامع للتأسِّي؛ إذ مَنْ تأمل في تأثير النداء بالآلة المعروفة في نفرات العسكر المنتشرين المغمورين بين الناس وتحريك النداء لهم دفعة، وإلقاء انتباه فيهم، وإفراغهم في وضع مستحسن، وجمعهم تحت نظام مستملَح يرى في نفسه اشتياقاً لأن ينساب إليهم. فهكذا الأذان المحمَّدي بين الإنسان في صحراء العالم – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ -..

وإنما لم يقتصر في مسافة الإيجاز على «يصلّون» بل أتمّها بـ ﴿يُقيمُونَ الصَّلٰوةَ﴾ للإشارة إلى أهمية مراعاة معاني «الإقامة» في الصلاة من تعديلِ الأركان، والمداومةِ، والمحافظة، والجدِّ، وترويجها في سوق العالم. تأمل!

ثم إن الصلاة نسبةٌ عالية، ومناسبةٌ غالية، وخدمة نزيهة بين العبد وسلطان الأزل، فمن شأن تلك النسبة أن يعشقَها كلُّ روح.. وأركانُها متضمنةٌ للأسرار التي شرحها أمثال «الفتوحات المكية»، فمن شأن تلك الأسرار أن يحبَّها كلُّ وجدان.. وإنها دعوةُ صانع الأزل إلى سرادق حضوره خمسَ دعوات في اليوم والليلة لمناجاته التي هي في حُكم المعراج. فمن شأنها أن يشتاقَها كلُّ قلب.. وفيها إدامةُ تصوّرِ عظمةِ الصانع في القلوب وتوجيه العقول إليها لتأسيس إطاعة قانون العدالة الإلهية، وامتثالِ النظام الرباني. والإنسان يحتاج إلى تلك الإدامة من حيث هو إنسان لأنه مدنيّ بالطبع.. فيا ويلَ من تركها! ويا خسارةَ من تكاسل فيها! ويا جهالةَ مَن لم يعرف قيمتها! فسُحقاً وبُعداً وأُفّاً وتُفّاً لنفسِ مَن لم يستحسنها.

﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾

وجه النظم: أنه كما أن الصلاة عماد الدين وبها قوامُه؛ كذلك الزكاةُ قنطرة الإسلام، وبها التعاون بين أهله.

ثم إن من شروطِ أن تقع الصدقة موقعها اللائق: أن لا يُسرف المتصدق فيقعُد ملوماً.. وأن لا يأخذ من هذا ويعطيَ لذاك؛ بل من مال نفسه.. وأن لا يمنّ فيستكثر.. وأن لا يخاف من الفقر.. وأن لا يقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضاً.. وأن لا يصرف الآخذُ في السفاهة، بل في النفقة والحاجة الضرورية.

فلإِحسان هذه النُكت، وإحساس هذه الشروط تصدَّق القرآنُ على الأفهام بإيثارِ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ على «يتصدقون» أو «يزكّون» وغيرهما؛ إذ أشار بـ«من» التبعيض إلى ردِّ الإسراف.. وبتقديم ﴿مِمَّا﴾ إلى كونه من مال نفسه.. وبـ ﴿رَزَقْنَا﴾ إلى قطع المنّة. أي إن الله هو المعطي وأنت واسطة.. وبالإسناد إلى «نا» إلى: «لَاتَخَفْ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالاً».. وبالإطلاق إلى تعميم التصدق للعلم والفكر وغيرهما. وبمادة ﴿يُنْفِقُونَ﴾ إلى شرط صرف الآخذ في النفقة والحاجات الضرورية.

ثم إن في الحديث الصحيح: «الزَّكاةُ قَنْطَرَةُ الإسلام» أي الزكاة جسر يغيث المسلمُ أخاه المسلمَ بالعبور عليها؛ إذ هي الواسطةُ للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطةُ لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياقُ للسموم الواقعة في ترقيات البشر.

نعم، في «وجوب الزكاة» و«حُرمةِ الربا» حكمةٌ عظيمة، ومصلحة عالية، ورحمة واسعة؛ إذ لو أمعنتَ النظر في صحيفة العالم نظراً تاريخياً وتأملتَ في مساوي جمعية البشر لرأيت أُسَّ أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبعَ كلِّ الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:

إحداهـما: «إنْ شَبِعْتُ فلا عليَّ أن يموتَ غيرِي من الجُوعِ».

والثـانية: «اكْتَسِبْ أنْتَ لآكُلَ أنَا، واتْعَبْ أنتَ لأستريحَ أنَا».

فالكلمة الأولى الغدّارة النَهِمَة الشنعاء هي التي زلزلت العالم الإنسانيَّ فأشرف على الخراب. والقاطعُ لعِرق تلك الكلمة ليس إلّا «الزكاة».

والكلمة الثانية الظالمة الحريصة الشوهاء هي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج والمَرْج. والمستأصِلُ والدواءُ لتلك الكلمة ليس إلّا «حُرمة الربا». فتأمل!

اعلم أن شرط انتظام الهيئة الاجتماعية أن لا تتجافى طبقاتُ الإنسان، وأن لا تتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياءُ عن الفقراء بدرجةٍ ينقطع خيطُ الصلة بينهم. مع أن بإهمال وجوب الزكاة وحرمة الربا انفرجت المسافةُ بين الطبقات، وتباعدت طبقاتُ الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما. ولا يفور من الطبقة السفلى إلى العليا إلّا أصداء الاختلال، وصياحُ الحسد، وأنينُ الحقد والنفرة بدلاً عن الاحترام والإطاعة والتحبب. ولا يفيضُ من العليا على السفلى بدلَ المرحمة والإحسان والتلطيف إلّا نارُ الظلم والتحكم، ورعدُ التحقير. فأسفاً! لأجل هذا قد صارت «مزيةُ الخواص» التي هي سببُ التواضع والترحّم سبباً للتكبّر والغرور. وصار «عجزُ الفقراء» و«فقرُ العوام» اللذان هما سبباَ المرحمةِ عليهم والإحسان إليهم سبباً لأسارتهم وسَفالتهم.. وإن شئت شاهداً فعليك بفسادِ ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهدُ كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها إلّا جعل الزكاة -التي هي ركن من أركان الإسلامية- دستوراً عالياً واسعاً في تدوير الهيئة الاجتماعية.

* * *

السورة الأولى من الزَّهْرَاوَيْنِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

السورة الأولى من الزَّهْرَاوَيْنِ

 إن قلت: إنّ في القرآن الموجز المعجِز أشياءً مكررة تكراراً كثيراً في الظاهر كالبسملة و﴿فَبِاَيِّ اٰلَٓاءِ…﴾ الخ.. و﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ…﴾ الخ.. وقصة موسى وأمثالِها، مع أن التكرار يُمِلُّ وينافي البلاغة.

قيل لك: «مَا كُلُّ مَا يَتَلَأْلَأُ يُحْرِقُ» فإن التكرار قد يُمِلُّ، لا مطلقاً. بل قد يُستحسَن وقد يُسْئِم. فكما أن في غذاء الإنسان ما هو قُوتٌ كلما تكرّر حلا وكان آنَسَ، وما هو تفكّهٌ إن تكرر مَلَّ وإن تجدد اُستُلِذّ؛ كذلك في الكلام ما هو حقيقةٌ وقوتٌ وقوَّةٌ للأفكار وغذاءٌ للأرواح كلما استُعيد استُحسِن واستؤنس بمألوفه كضياء الشمس. وفيه ما هو من قبيل الزينة والتفكّه، لذّتُه في تجدّد صورتِه وتلوّن لباسه.

إذا عرفت هذا، فاعلم أنه: كما أن القرآن بمجموعه قوتٌ وقوّة للقلوب لا يُمَلُّ على التكرار، بل يُستحلى على الإكثار منه، كذلك في القرآن ما هو روحٌ لذلك القُوت كلما تكرّر تلألأ وفارت أشعةُ الحق والحقيقة من أطرافه، وفي ذلك البعضِ ما هو أُسّ الأساس والعُقدة الحياتية والنور المتجسّد بجسدٍ سرمدي كـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. فيا هذا، شاوِرْ مذاقَك إنْ كنت ذا مذاق!

هذا بناءً على تسليم التكرار، وإلّا فيجوز أن تكون قصةُ موسى -مثلاً- مذكورةً في كلِّ مقامٍ لوجهٍ مناسب من الوجوه المشتملة هي عليها. فإن قصة موسى أجدى من تفاريق العصا أخذَها القرآنُ بيده البيضاء فضةً فصاغها ذهباً، فخرّت سَحَرةُ البيان ساجدين لبلاغته.

وكذا في «البسملة» جهاتٌ: من الاستعانة، والتبرّك، والموضوعية، بل الغايَتِيَّة والفهرستية للنقط الأساسية في القرآن.

وأيضا فيها مقاماتٌ: كمقام التوحيد، ومقام التنـزيه، ومقام الثناء، ومقام الجلال والجمال، ومقام الإحسان وغيرها.

وأيضا فيها أحكام ضمنية: كالإشارة إلى التوحيد والنبوة والحشر والعدل. أعني المقاصد الأربعة المشهورة، مع أن في أكثر السور يكون المقصودُ بالذات واحداً منها، والباقي استطرادياً.

فلِمَ لا يجوز أن يكون لجهةٍ أو حُكمٍ أو مقام منها مناسبةٌ مخصوصةٌ لروح السورة وتكون موضوعاً للمقام بل فهرستة إجمالية باعتبار تلك الجهات والمقامات؟

* * *

 

تفسير سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اَلرَّحْمنُ * علم القران * خَلَقَ الْاِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾

فنحمده مصلين على نبيه محمد الذي أرسله رحمة للعالمين وجعل معجزته الكبرى الجامعة برموزها وإشاراتها لحقائق الكائنات باقية على مر الدهور إلى يوم الدين وعلى آله عامة وأصحابه كافة.

أما بعد؛ فاعلم:

أولاً: أنَّ مقصدنا من هذه «الإشارات» تفسيرُ جملةٍ من رموز نظْمِ القرآن؛ لأن الإعجازَ يتجلى من نظمه. وما الإعجازُ الزاهر إلّا نقشُ النظم.

وثانياً: أنَّ المقاصد الأساسية من القرآن وعناصرَه الأصلية أربعةٌ: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة؛

لأنه لمّا كان بنو آدم كرَكبٍ وقافلةٍ متسلسلةٍ راحلةٍ من أودية الماضي وبلاده، سافرةٍ في صحراء الوجود والحياة، ذاهبةٍ إلى شواهق الاستقبال، متوجهةٍ إلى جنّاته، فتهتز بهم المناسباتُ وتتوجه إليهم الكائناتُ. كأنه أرسلَتْ حكومةُ الخِلقة فَنَّ الحكمةِ مستنطقاً وسائلاً منهم بـ«يا بني آدم! مِن أين؟ إلى أين؟ ما تصنعون؟ مَنْ سلطانُكم؟ مَنْ خطيبُكم؟».

فبينما المحاورة، إذ قام من بين بني آدم -كأمثاله الأماثل من الرسل أولي العزائم- سيّدُ نوعِ البشر محمّد الهاشمي ﷺ وقال بلسان القرآن:

«أيها الحكمة! نحن معاشرَ الموجودات نجيء بارزين من ظلمات العدم بقدرةِ سلطان الأزل، إلى ضياءِ الوجود.. ونحن معاشر بني آدم بُعِثْنا بصفة المأمورية ممتازين من بين إخواننا «الموجودات» بحمل الأمانة.. ونحن على جناح السفر من طريق الحشر إلى السعادة الأبدية، ونشتغل الآن بتدارك تلك السعادة وتنمية الاستعدادات التي هي رأسُ مالِنا.. وأنا سيُّدُهم وخطيبهم. فها دونكم منشوري! وهو كلامُ ذلك السلطان الأزلي تتلألأ عليه سكّةُ الإعجاز. والمجيبُ عن هذه الأسئلة الجوابَ الصوابَ ليس إلا القرآنَ، ذلك الكتاب..

كان (حاشية) جواب لما.. هذه الأربعةُ عناصرَه الأساسية.

فكما تتراءى هذه المقاصدُ الأربعة في كله، كذلك قد تتجلى في سورةٍ سورةٍ، بل قد يُلْمَح بها في كلامٍ كلامٍ، بل قد يُرْمَز إليها في كلمةٍ كلمةٍ؛ لأن كلَّ جزءٍ فجزءٍ كالمرآةِ لكلٍّ فكلٍّ متصاعداً، كما أن الكلَّ يتراءى في جزءٍ فجزءٍ متسلسلاً.

ولهذه النكتة -أعني اشتراك الجزءِ مع الكلِّ-يُعرَّفُ القرآنُ المشخَّصُ كالكلّي ذي الجزئيات؟.

 إن قلت: أرني هذه المقاصدَ الأربعة في ﴿بِسْمِ اللهِ وفي ﴿اَلْحَمْدُ لله.

قلت: لما أُنزل ﴿بِسْمِ اللهِ لتعليم العباد كان «قُلْ» مقدَّراً فيه. وهو الأُمّ في تقدير الأقوال القرآنية. فعلى هذا يكون في «قُلْ» إشارةٌ إلى الرسالة.. وفي ﴿بِسْمِ اللهِ رمزٌ إلى الألوهية.. وفي تقديم الباء تلويحٌ إلى التوحيد.. وفي ﴿اَلرَّحْمن تلميحٌ إلى نظام العدالة والإحسان.. وفي ﴿الرَّحيمِ﴾ إيماء إلى الحشر.

وكذلك في ﴿اَلْحَمْدُ لله إشارةٌ إلى الألوهية.. وفي لام الاختصاص رمزٌ إلى التوحيد.. وفي ﴿رَبِّ الْعَالَمينَ﴾ إيماءٌ إلى العدالة والنبوة أيضا؛ لأن بالرسل تربيةَ نوعِ البشر.. وفي ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾ تصريح بالحشر.

حتى إن صَدَفَ ﴿اِنَّٓا اَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ يتضمنُ هذه الجواهر. هذا مثالاً فانسج على منواله.

﴿بِسْمِ اللهِ﴾ كالشمس يضيء نَفْسَه كغيرِه، فاستغنى. حتى إن باءَه متعلقةٌ بالفعل المفهوم من معناها أي أستعين به، أو المفهوم عُرفاً، أي أتَيمّن به، أو بما يستلزمه «قل» المقدَّر من «اقرأ» المؤخّر للإخلاص والتوحيد.

أما «الاسم» فاعلم أن لله أسماءً ذاتية، وأسماءً فعلية متنوعة كالغفار والرزاق والمحيي والمميت وأمثالِها. وتنوّعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة الأزلية إلى أنواع الكائنات. فكأن ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ استنـزالٌ لتأثير وتعلّق القدرةِ ليكون ذلك التعلّقُ روحاً مُمدّاً لكسب العبد.

﴿اللهِ﴾ لفظةُ الجلال نسخةٌ جامعة لجميع الصفات الكمالية لدلالتها التزاماً عليه؛ بسر استلزام ذاتِه تعالى لصفاته بخلاف سائر الأعلام، لعدم الاستلزام.

﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾

وجهُ النظم أنَّ لفظ الجلال كما يتجلى منه الجلالُ بسلسلته، كذلك يتراءى الجمالُ بسلسلته من ﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾، إذ الجلال والجمال أصلان تَسلسلَ منهما -بتجليهما في كل عالَم- فروعٌ كالأمر والنهي، والثواب والعذاب، والترغيب والترهيب، والتسبيح والتحميد، والخوف والرجاء إلى آخره..

وأيضا كما أن لفظَ الجلال إشارةٌ إلى الصفات العينية والتنـزيهية؛ كذلك ﴿الرَّحيمِ﴾ إيماءٌ إلى الصفات الغيرية الفعلية؛ و ﴿اَلرَّحْمن﴾ رمزٌ إلى الصفات السبع التي هي لا عينٌ ولاغيرٌ؛ إذ ﴿اَلرَّحْمن﴾ بمعنى الرزاق، وهو عبارة عن إعطاء البقاء. والبقاءُ تكرُّرُ الوجود. والوجودُ يستلزم صفةً مُمَيِّزةً وصفةً مُخَصِّصَةً وصفةً مُؤَثِّرَةً، وهي العلمُ والإرادةُ والقدرةُ. والبقاء الذي هو ثمرةُ إعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوتَ البصر والسمع والكلام؛ إذ لابدّ للرزّاق من البصر ليرى حاجةَ المرزوق إن لم يَطلب، ومن السمع ليستمع كلامَه إن طلب، ومن الكلام ليتكلم مع الواسطة إن كانت. وهذه الستُّ تستلزم السابعةَ التي هي الحياةُ.

 إن قلت: تذييل ﴿اَلرَّحْمن﴾ الدالّ على النِعَمِ العظيمة بـ ﴿الرَّحيمِ﴾ الدالِّ على النِعم الدقيقة يكون صنعةَ التدلّي، والبلاغةُ في صنعة الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى؟

قلت: تذييلٌ للتتميم كالأهداب للعين واللجام للفرس.. وأيضا لمّا توقفت العظيمةُ على الدقيقة، كانت الدقيقةُ أرقى كالمفتاح للقفل واللسان للروح.. وأيضا لما كان هذا المقامُ مقامَ التنبيه على مواقع النِعَمِ كان الأخفى أجدرَ بالتنبيه، فيكون صنعةُ التدلِّي في مقام الامتنانِ والتعدادِ صنعةَ الترقِّي في مقام التنبيه.

 إن قلت: ﴿اَلرَّحْمن﴾ و﴿الرَّحيمِ﴾ كأمثالهما بمبادئها محالٌ في حقه تعالى كرقَّةِ القلب، وإن أُريد منها النهايات فما حكمةُ المجاز؟

قلت: هي حكمةُ المتشابهات؛ وهي «التنـزّلات الإلهية إلى عقول البشر»، لتأنيس الأذهان وتفهيمِها، كمَن تكلّم مع صبيّ بما يألَفُه ويأنَس به. فإن الجمهور من الناس يجتنون معلوماتِهم عن محسوساتهم، ولا ينظرون إلى الحقائق المحضة إلّا في مرآة متخيّلاتهم ومن جانب مألوفاتهم.. وأيضا المقصود من الكلام إفادةُ المعنى، وهي لا تتم إلّا بالتأثير في القلب والحس، وهو لا يحصل إلّا بإلباس الحقيقةِ أسلوبَ مألوفِ المخاطَب، وبه يستعدّ القلبُ للقبول.

 ﴿اَلْحَمْدُ﴾

وجهُ النظم مع ما قبله، أن ﴿اَلرَّحْمن﴾ و﴿الرَّحيمِ﴾ لمّا دلّتا على النِعَم استوجَبتا تعقيبَ الحمد. ثم إن ﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ﴾ قد كُرِّرَت في أربع سُوَرٍ من القرآن، كلُّ واحدة منها ناظرةٌ إلى نعمةٍ من النِعم الأساسية التي هي: النشأةُ الأولى، والبقاءُ فيها، والنشأةُ الأخرى، والبقاءُ بعدَها.

ثم وجهُ نظمِه في هذا المقام (أي جعلُه فاتحةَ فاتحةِ القرآن) هو أنه كتصوّر العلّةِ الغائية المقَدَّم في الذهن؛ لأن الحمدَ صورةٌ إجمالية للعبادة، التي هي نتيجةٌ للخِلقة، والمعرفةِ التي هي حكمةٌ وغايةٌ للكائنات. فكأن ذكرَه تصوّرٌ للعلة الغائية.. وقد قال عز وجل ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْاِنْسَ اِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56).

ثم إنَّ المشهور من معاني الحمد إظهارُ الصفات الكمالية.

وتحقيقُه أنَّ الله سبحانه خلق الإنسان وجعلَه نسخةً جامعةً للكائنات، وفِهْرِسْتة لكتاب العالَم المشتمل على ثمانيةَ عشَر ألفَ عالَم، وأودع في جوهره أنموذجاً من كلِّ عالَم تجلّى فيه اسمٌ من أسمائه تعالى. فإذا صرفَ الإنسانُ كلَّ ما أُنعِمَ عليه إلى ما خُلِقَ لأجله إيفاءً للشكر العُرفي -الداخل تحت «الحمد»- وامتثالاً للشريعة التي هي جِلاءٌ لصدأ الطبيعة، يصيرُ كلُّ أُنموذج مشكاةً لعالَمِهِ ومرآةً له وللصفة المتجلية فيه والاسم المتظاهر منه. فيكون الإنسان بروحه وجسمِه خلاصةَ عالَمَي الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما.

فبالحمد يصيرُ الإنسان مَظهراً للصفات الكمالية الإلهية. يدلّ على هذا قول «محي الدين العربي» في بيان حديث «كُنْتُ كَنْزَاً مَخْفِيًّا فَخَلقت الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوني» أي فخلقتُ الخَلق ليكون مرآةً أُشاهِدُ فيها جمالي.

﴿لِلّٰهِ﴾ أي الحمد مُختص ومُستحَق للذات الأقدس المشخَّص الذي يُلاحَظ بمفهوم «الواجب الوجود» إذ قد يلاحَظ المشخّص بأمرٍ عام. وهذه اللام متعلقةٌ بمعنَى نفسِها، كأنها تشرّبَت معنى متعلَّقها. وفي اللام إشارةٌ إلى الإخلاص والتوحيد.

﴿رَبِّ﴾ أي الذي يربّي العالَم بجميع أجزائه، التي كلٌّ منها كالعالَم عالَمٌ؛ وذرَّاتُه كنجومه متفرِّقةٌ متحرِّكة بالانتظام.

واعلم أن الله عزّ وجلّ عيّن لكلِّ شيء نقطةَ كمالٍ وأودع فيه مَيلاً إليها، كأنه أمَرَه أمراً معنوياً أن يتحرك به إليها، وفي سفره يحتاج إلى ما يُمدُّه ودفعِ ما يَعوِّقهُ، وذلك بتربيته عزّ وجلّ. لو تأملتَ في الكائنات لرأيتَها كبني آدمَ طوائفَ وقبائلَ يشتغل كلٌّ منفرداً ومجتمعاً بوظيفته التي عيَّنَها له صانِعُه ساعياً مُجدّاً مطيعا لقانون خالقه. فما أعجبَ الإنسانَ كيف يشذّ!

﴿الْعَالَمينَ﴾ الياء والنون إما علامةُ للإعراب فقط كـ«عشرين وثلاثين».. أو للجمعية؛ لأن أجزاء العالَم عَوالمٌ.. أو العالَمُ ليس منحصراً في المنظومة الشمسية. قال الشاعر:

اَلْحَمْدُ للّٰهِ كَمْ للّٰهِ مِنْ فَلَكٍ   تَجرِي النُّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

وآثرَ جمعَ العقلاء مثل: ﴿رَاَيْتُهُمْ لي سَاجِدينَ﴾ (يوسف:4) إشارةً إلى أنّ نظرَ البلاغة يصوّر كلَّ جزء من أجزاء العالم بصورةِ حيّ عاقلٍ متكلِّمٍ بلسان الحال. إذ العالَم اسمُ ما يُعلَمُ به الصانعُ ويشهدُ عليه ويشير إليه. فالتربيةُ والإعلامُ يُومِيان -كالسجود- إلى أنها كالعقلاء.

﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾

وجهُ النظم أنهما إشارتـان إلى أساسَي التربـية؛ إذ ﴿اَلرَّحْمن﴾ لـكونه بمعنى الرزاق يلائم جلبَ المنافع؛ و﴿الرَّحيمِ﴾ لكونه بمعنى الغفار يناسب دفعَ المضار وهما الأساسان للتربية.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾ أي يوم الحشر والجزاء.

وجه النظم أنه كالنتيجة لسابقه؛ إذ الرحمةُ من أدلة القيامة والسعادة الأبدية؛ لأن الرحمةَ إنما تكون رحمةً، والنعمةَ نعمةً إذا جاءت القيامةُ وحصلت السعادةُ الأبدية. وإلّا فالعقلُ الذي هو من أعظم النِعَم يكون مصيبةً على الإنسان، والمحبةُ والشفقة اللتان هما من ألطفِ أنواع الرحمة تتحولان ألَماً شديداً بملاحظة الفراق الأبدي.

 إن قلت: إنَّ الله تعالى مالكٌ لكل شيء دائماً فما وجهُ الاختصاص؟

قلت: للإشارة إلى أن الأسباب الظاهرية التي وضَعَها الله تعالى في عالم الكون والفساد لإظهار عظمته (أي لئلا يُرى في ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة بالأمور الخسيسة في جهة مُلْك الأشياء) ترتفع في ذلك اليوم وتتجلّى ملكوتيةُ كلِّ شيء صافيةً شفّافةً، بحيث يَرى ويَعرف كلُّ شيء سيِّدَه وصانِعَه بلا واسطة. وفي التعبير بلفظ «اليوم» إشارة إلى أمارة حدسية من أمارات الحشر بناءً على التناسب البيّن بين اليوم والسنة، وعُمر البشر ودوران الدنيا. كالكائن بين أميال الساعة العادّة للثواني والدقائق والساعات والأيام. فكما أن مَن يرى مِيلاً أتمَّ دَوْرَه يَحدُس في نفسه أن من شأن الآخر أيضاً أن يتمّ دورَه وإن كان بمُهلة؛ كذلك إن من يرى القيامةَ النوعية المكررة في أمثال اليوم والسنة يتحدّس بتولّد ربيع السعادة الأبدية في صُبح يوم الحشر للإنسان الذي شخصُه كنوعٍ.

والمراد من ﴿الدّينِ﴾ إمّا الجزاءُ، أي يوم جزاءِ الأعمال الخيرية والشرّيّة، أو الحقائقُ الدينية، أي يوم طلوعها وظهورها وغلبةِ دائرة الاعتقاد على دائرة الأسباب؛ لأن الله عزّ وجلّ أودع بمشيئته في الكائنات نظاماً يربط الأسبابَ بالمسبّبات وألجأ الإنسانَ بطبيعته ووَهمِه وخيالِه إلى أن يراعي ذلك النظام ويرتبط به. وكذا وجَّه كلَّ شيء إليه وتَنَزَّه عن تأثير الأسباب في مُلكه. وكلّف الإنسانَ اعتقاداً وإيماناً بأن يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط بها. ففي الدنيا دائرةُ الأسباب غالبةٌ على دائرة الاعتقاد؛ وفي الأُخرى تتجلى حقائقُ العقائد غالبةً على دائرة الأسباب.

واعلم أن لكلٍّ من هاتين الدائرتين مقاماً معيناً وأحكاماً مخصوصة، فلابد أن يُعطَى كلٌّ حقَّه. فمَن نظر في مقام دائرة الأسباب، بطبيعته ووهمِه وخياله ومقاييس الأسباب، إلى دائرة الاعتقاد اضطر إلى الاعتزال. ومن نظر في مقام الاعتقاد ومقاييسه بروحه ووجدانه إلى دائرة الأسباب أنتج له توكلاً تَنْبَلِياً وتمرّداً في مقابلة المشيئة النَظّامة.

﴿اِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ في «الكاف» نكتتان:

إحداهما: تضمُّن الخطابِ بسر الالتفات للأوصاف الكمالية المذكورة، إذ ذكرُها شيئاً شيئاً يحرّك الذهن ويُعدِّه ويملؤهُ شوقاً ويهزّه للتوجه إلى الموصوف. فـ ﴿اِيَّاكَ﴾ أي يا مَن هو موصوف بهذه الصفات.

والأخرى: أنَّ الخطاب يشير إلى وجوب ملاحظة المعاني في مذهب البلاغة ليكون المقروء كالمُنْزَل، فينجرّ طبعاً وذوقاً إلى الخطاب. فـ ﴿اِيَّاكَ ﴾ يتضمن الامتثال بـ«اُعْبُدْ رَبَّكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».

والتكلمُ مع الغير في ﴿نَعْبُدُ﴾ لوجوه ثلاثة:

أي نعبدُ نحن معاشر أعضاءِ وذرّاتِ هذا العالم الصغير -وهو أنا- بالشكر العُرفي الذي هو إطاعةُ كلٍّ لما أُمر به.. ونحن معاشر الموحّدين نعبدك بإطاعة شريعتك.. ونحن معاشر الكائنات نعبد شريعتك الكبرى الفطرية ونسجد بالحيرة والمحبة تحت عرش عظمتك وقدرتك.

وجهُ النظم أنّ ﴿نَعْبُدُ﴾ بيانٌ وتفسير لـ﴿اَلْحَمْدُ﴾ ونتيجة ولازم لـ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾.

واعلم أن تقديم ﴿اِيَّاكَ﴾  للإخلاص الذي هو روحُ العبادة. وأن في خطاب الكاف رمزاً إلى علّة العبادة؛ لأن من اتصف بتلك الأوصاف الداعية إلى الخطاب استحق العبادة.

﴿وَاِيَّاكَ نَسْتَعينُ﴾ هذه كـ ﴿اِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ باعتبار الجماعات الثلاث:

أي نحن معاشرَ الأعضاء ومعاشر الموحِّدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيقَ والإعانةَ على كل الحاجات والمقاصد التي أهمُّها عبادتُك.

كرَّرَ ﴿اِيَّاكَ﴾ لتزييد لذةِ الخطاب والحضور.. ولأن مقام العيان أعلى وأجلُّ من مقام البرهان.. ولأن الحضورَ أدعَى إلى الصدق وبأن لا يكذب.. ولاستقلال كلٍّ من المقصدين.

واعلم أن نظم ﴿نَسْتَعينُ﴾ مع ﴿نَعْبُدُ﴾ كنظم الأجرة مع الخدمة؛ لأن العبادةَ حقُّ الله على العبد، والإعانةَ إحسانُه تعالى لعبده. وفي حصر ﴿اِيَّاكَ ﴾ إشارةٌ إلى أن بهذه النسبة الشريفة التي هي العبادةُ والخدمة له تعالى يترفَّعُ العبدُ عن التذلل للأسباب والوسائط، بل تصيرُ الوسائطُ خادمةً له وهو لا يعرف إلّا واحداً، فيتجلى حُكْمُ دائرةِ الاعتقاد والوجدانِ كما مرَّ. ومَن لم يكن خادماً له تعالى بحقٍّ يصير خادماً للأسباب ومتذللاً للوسائط.

لكن يلزم على العبد وهو في دائرة الأسباب أنْ لا يهمل الأسبابَ بالمرة، لئلا يكون متمرداً في مقابلة النظام المودَع بحكمته ومشيئته تعالى، لأن التوكل في تلك الدائرة عطالةٌ كما مرَّ.

وكنظم المقدِّمة مع المقصود لأن الإعانةَ والتوفيق مقدمةُ العبادة.

﴿إهْدِنَا﴾

وجه النظم أنه جوابُ العبد عن سؤاله تعالى، كأنه يسأل: أيُّ مقاصدِكَ أعلَقُ بقلبك؟ فيقول العبد: ﴿إهْدِنَا﴾.

واعلم أن ﴿إهْدِنَا﴾ بسبب تعدُّد مراتبِ معانيه -بناءً على تنوّع مفعولِه إلى الهادين والمُستهدين والمستزيدين وغيرهم- كأنه مـشتـقٌّ من المصادر الأربعة لفِعل الهداية. فـ﴿إهْدِنَا﴾ باعتبار معشرٍ: «ثبّتنا»، وبالنظر إلى جماعةٍ: «زدنا»، وبالقياس إلى طائفةٍ: «وفّقنا»، وإلى فرقة: «أعْطنا».. وأيضا إن الله تعالى بحُكم ﴿اَعْطٰى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدٰى﴾ (طه:50) هدانا بإعطاء الحواس الظاهرة والباطنة، ثم هدانا بنَصب الدلائل الآفاقية والأنفسية، ثم هدانا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم هدانا أعظمَ الهداية بكشف الحجاب عن الحقِّ فظهرَ الحقُّ حقاً والباطل باطلاً.

اللّهمَّ أرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَأرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.

﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ﴾

اعلم أن الصراط المستقيم هو العدلُ الذي هو ملخّص الحكمة والعفّة والشجاعة اللاتي هي أوساطٌ للمراتب الثلاث للقوى الثلاث.

توضيحه: أنَّ الله عزّ وجلّ لما أسكن الروحَ في البدن المتحوِّل، المحتاج، المعروض للمهالك، أودعَ لإدامتها فيه قوىً ثلاثاً.

إحداها: القوةُ الشهوية البهيمية الجاذبة للمنافع.

وثانيتها: القوةُ الغضبية السَبُعية الدافعة للمضرّات والمخرِّبات.

وثالثتها: القوةُ العقلية المَلَكية المميِّزة بين النفع والضر.

لكنه تعالى -بحكمته المُقتضية لتَكمُّل البشر بسرِّ المسابقة- لم يُحدِّد بالفطرة تلك القوى كما حدّد قوى سائرِ الحيوانات، وإنْ حدَّدَها بالشريعة؛ لأنها تنهى عن الإفراط والتفريط وتأمر بالوَسط، يصدع عن هذا ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَٓا اُمِرْتَ﴾ (هود:112). وبعدمِ التحديدِ
الفطري يحصل مراتبُ ثلاثٌ: مرتبةُ النقصان وهي التفريط، والزيادةِ وهي الإفراط، والوسطِ وهي العدل.

فتفريطُ القوةِ العقلية الغباوةُ والبلادة، وإفراطُها الجربزةُ الخادعة والتدقيقُ في سفاسف الأمور، ووسطُها الحكمة، ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُو۫تِيَ خَيْرًا كَثيرًا﴾ (البقرة:269).

اعلم أنه كما تنوعَ أصلُ هذه القوة إلى تلك المراتب، كذلك كلُّ فرع من فروعها يتنوعُ إلى هذه الثلاث؛ مثلاً: في مسألة خَلق الأفعال: مذهبُ أهل السنة وسطُ الجبر والاعتزال، وفي الاعتقاد: مذهبُ التوحيد وسطُ التعطيل والتشبيه.. وعلى هذه القياسُ.

وتفريطُ القوة الشهَوية الخمودةُ وعدمُ الاشتياق إلى شيء، وإفراطُها الفجورُ بأن يشتهي ما صادف، حَلَّ أو حَرُمَ، ووسطُها العفةُ بأن يرغب في الحلال ويهرب عن الحرام. وقس على الأصل كلَّ فرع من فروعاته من الأكل والشرب واللبس وأمثالِها.

وتفريط القوة الغضبية الجبانةُ أي الخوفُ مما لا يُخاف منه والتوهمُ، وإفراطهُا التهوّرُ الذي هو والدُ الاستبداد والتحكّم والظلم، ووسطُها الشجاعةُ أي بذلُ الروح بعشقٍ وشوقٍ لحماية ناموس الإسلامية وإعلاءِ كلمةِ التوحيد. وقس عليها فروعها..

فالأطراف الستة ظلمٌ والأوساط الثلاثة هي العدلُ الذي هو الصراط المستقيم، أي العملُ بـ ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَٓا اُمِرْتَ﴾ (هود:112). ومَن مرَّ على هذا الصراط يمرّ على الصراط الممتدِّ على النار.

﴿صِرَاطَ الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾

اعلم أن نظم دُرَر القرآن ليس بخيط واحد بل النظمُ -في كثيرٍ- نقوشٌ تحصل من نسج خطوطِ نِسَبٍ متفاوتةٍ قُرباً وبُعداً، ظهوراً وخفاء. لأن أساس الإعجاز بعد الإيجاز هذا النقشُ.

مثلاً: ﴿صِرَاطَ الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يناسب ﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ﴾ لأن النعمة قرينة الحمد.. و ﴿رَبِّ الْعَالَمينَ﴾ لأن كمال التربية بترادف النِعَم.. و ﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾ لأن المُنعَم عليهم -أعني الأنبياء والشهداء والصالحين- رحمةٌ للعالمين ومثال ظاهر للرحمة.. و
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾ لأن الدين هو النعمة الكاملة.. و ﴿نَعْبُدُ﴾ لأنهم الأئمة.. و﴿نَسْتَعينُ﴾ لأنهم الموفّقون.. و ﴿إهْدِنَا﴾ لأنهم الأسوة بسر ﴿فَبِهُدٰيهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام:90). و ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ﴾ لظهور انحصار الطريق المستقيم في مسلكهم. هذا مثالٌ لك فقس عليه..

وفي لفظ ﴿الصِّرَاطَ﴾ إشارة إلى أن طريقَهم مسلوكةٌ محدودةُ الأطراف، مَن سلكها لا يخرج عنها.

وفي لفظ ﴿الَّذينَ﴾ -بناءً على أنه موصولٌ، ومن شأن الموصول أن يكون معهوداً نُصْبَ العين للسامع- إشارةٌ إلى علوِّ شأنهم وتلألئهم في ظلمات البشر، كأنهم معهودون نصبَ العين لكلِّ سامع وإنْ لم يتحرَّ ولم يطلب.. وفي جمعيته رمزٌ إلى إمكان الاقتداء بهم وحقانية مسلكِهم بسرِّ التواتر إذ «يَدُ الله مَعَ الْجَمَاعَةِ»..

وفي صيغة ﴿اَنْعَمْتَ﴾ إشارةٌ إلى وسيلةِ طلبِ النعمة.. وفي نسبتها شافعٌ له كأنه يقول: يا إلهي! مِن شأنك الإنعامُ وقد أنعمْتَ بفضلك، فأنْعِمْ عليّ وإن لم أستحق..

وفي ﴿عَلَيْهِمْ﴾ إشارةٌ إلى شدة أعباء الرسالة وحَملِ التكليف، وإيماءٌ إلى أنهم كالجبال العالية تتلقى شدائدَ المطر لإفاضة الصحارى. وما أُجمِلَ في ﴿الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يفسرُه ﴿فَاُولٰٓئِكَ مَعَ الَّذينَ اَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِينَ وَالصِّدّيقينَ وَالشُّهَدَٓاءِ وَالصَّالِحينَ﴾ (النساء:69) إذ القرآن يفسر بعضُه بعضاً.

* إن قلت: مسالك الأنبياء متفاوتةٌ وعباداتُهم مختلفة؟

قيل لك: إنَّ التبعية في أصول العقائد والأحكام؛ لأنها مستمرة ثابتة دون الفروعات التي من شأنها التغير بتبدل الزمان. فكما أن الفصولَ الأربعة ومراتبَ عمر الإنسان تؤثر في تفاوت الأدوية والتلبّس، فكم من دواءٍ في وقت يكون داءً في آخر؛ كذلك مراتبُ عمر نوع البشر تؤثر في اختلاف فروعات الأحكام التي هي دواءُ الأرواح وغذاءُ القلوب.

﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾.

وجه النظم: اعلم أن هذا المقامَ لكونه مقامَ الخوف والتخلية يناسب المقامات السابقة؛ فيُنظَر بنَظر الحيرة والدهشة إلى مقام توصيف الربوبية بالجلال والجمال، وبنَظر الالتجاء إلى مقام العبودية في ﴿نَعْبُدُ﴾، وبنظر العَجز إلى مقام التوكل في ﴿نَسْتَعينُ﴾، وبنظر التسلّي إلى رفيقه الدائمي أعني مقام الرجاء والتحلية، إذ أوّل ما يتولد في قلب مَن يرى أمراً هائلاً حِسُّ الحيرةِ، ثم ميلُ الفرار، ثم التوكّلُ عند العجز، ثم التسلّي بعد ذلك الأمر.

* إن قلت: إنَّ الله عزّ وجلّ حكيمٌ غنيٌ، فما الحكمة في خلق الشرّ والقبح والضلالة في العالم؟

قيل لك: اعلم أن الكمال والخير والحُسن في الكائنات هي المقصودةُ بالذات وهي الكليات؛ وأن الشر والقبح والنقصان جزئياتٌ بالنسبة إليها قليلةٌ تبَعيةٌ مغمورة في الخلقة، خلَقَها خالقُها منتشرةً بين الحسن والكمال، لا لذاتها، بل لتكونَ مقدمةً، وواحداً قياسياً، لظهور -بل لوجودِ- الحقائق النسبية للخير والكمال.

* إن قلت: فما قيمةُ الحقائق النسبية حتى استُحسِن لأجلها الشرُّ الجزئي؟

قيل لك: إن الحقائق النسبية هي الروابطُ بين الكائنات.. وهي الخطوط المنسوجُ منها نظامُها.. وهي الأشعة المنعكس منها وجودٌ واحدٌ لأنواعها. وإن الحقائق النسبية أزْيَدُ بألوفٍ من الحقائق الحقيقية؛ إذ الصفات الحقيقية لذاتٍ لو كانت سبعةً كانت الحقائقُ النسبية سبعمائة. فالشرُّ القليل يُغْتَفَر بل يُسْتَحْسَن لأجل الخير الكثير؛ لأن في ترك الخير الكثيرِ -لأن فيه شراً قليلاً- شراً كثيراً. وفي نظر الحكمة: «إذا قابل الشرُّ القليلُ شراً كثيراً صار الشرُّ القليل حسناً بالغير»، كما تقرر في الأصول في الزكاة والجهاد.

وما اشتهر من «أنَّ الأشياء إنما تُعْرَف بأضدادها» معناه: أن وجود الضدِّ سببٌ لظهور ووجود الحقائق النسبية للشيء. مثلاً: لو لم يوجد القبحُ ولم يتخلل بين الحُسن لَما تَظَاهَر وجودُ الحُسن بمراتبه الغيرِ المتناهيةِ.

* إن قلت: ما وجهُ تفاوتِ هذه الكلمات الثلاث: فعلاً، واسم مفعولٍ، واسمَ فاعلٍ، في ﴿اَنْعَمْتَ﴾ و﴿الْمَغْضُوبِ﴾ و﴿الضَّٓالّينَ﴾ ؟ وأيضاً ما وجهُ التفاوت في ذكر صفةِ الفرقة الثالثة، وعاقبةِ الصفة في الفرقة الثانية، وعنوانِ صفة الفرقة الأولى باعتبار المآل؟

قيل لك: اختار عنوانَ النعمة؛ لأن النعمة لذةٌ تميل النفسُ إليها.. وفعلاً ماضياً للإشارة إلى أن الكريمَ المطلق شأنُه أن لا يَسترِدَّ ما يُعطي.. وأيضاً رمزٌ إلى وسيلة المطلوب بإظهار عادةِ المُنعم، كأنه يقول: لأن من شأنك الإنعامُ وقد أنعَمْتَ فأنْعِم عليّ.

أما ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ﴾ فالمراد منه الذين تجاوزوا بتجاوز القوةِ الغضبية فظلموا، وفَسقوا بترك الأحكام كتمرّد اليهود. ولما كان في نفس الفسق والظلم لذةٌ منحوسة وعزةٌ خبيثة لا تتنفّر منه النفسُ، ذَكَرَ القرآنُ عاقبتَه التي تُنَفِّر كلَّ نفْسٍ وهي نُزُولُ غضبِه تعالى.. واختار الاسم الذي من شأنه الاستمرار، إشارةً إلى أن العصيان والشر إنما يكون سمةً إذا لم ينقطع بالتوبة والعفو.

أمّا ﴿وَلَا الضَّٓالّينَ﴾ فالمراد منه الذين ضلّوا عن الطريق بسبب غلبة الوَهم والهوى على العقل والوجدان، ووقعوا في النفاق بالاعتقاد الباطل كسَفسطة النصارى. اختار القرآنُ نفسَ صفتهم، لأن نفسَ الضلالة ألَمٌ يُنَفّر النفسَ، ويجتنب منه الروحُ وإن لم يرَ النتيجةَ.. واسماً لأن الضلالة إنما تكون ضلالة إذا لم تنقطع.

واعلم أن كلَّ الألم في الضلالة، وكلَّ اللذة في الإيمان.

فإن شئت تأمل في حال شخصٍ: بينما أخرجَتْه يدُ القدرة من ظلمات العدم وألقَتْهُ في الدنيا -تلك الصحراءِ الهائلة- إذ يفتح عَينَيه مستعطفاً، فيرى البليّاتِ والعلل كالأعداء تتهاجمُ عليه، فينظر مسترحِماً إلى العناصر والطبائع فيراها غليظةَ القلب بلا رحمة قد كَشَرت عليه الأسنانَ؛ فيرفع رأسَه -مستمداً- إلى الأجرام العلوية فيراها مهيبةً ومدهشة تهدّده كأنها مَرامِي نارية من أفواه هائلة تمرّ حواليه؛ فيتحيّر ويخفضُ رأسَه متستراً ويطالع نفسَه؛ فيسمع أُلوفَ صيحاتِ حاجاته وأنين فاقاته، فيتوحّش، فينظر إلى وجدانه ملتجئا؛ فيرى فيه أُلوفاً من آمال متهيجةٍ ممتدةٍ لا تُشبعها الدنيا.

فبالله عليك، كيف حالُ هذا الشخص إنْ لم يعتقد بالمبدأ والمعاد والصانع والحشر؟ أتظنّ جهنمَ أشدَّ عليه من حاله وأحرقَ لروحه؟ فإنّ له حالةً تركّبت من الخوف والهيبة والعَجز والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ لأنه إذا راجع قدرتَه يراها عاجزةً ضعيفة؛ وإذا توجّه إلى تسكين حاجاته يراها لا تسكت؛ واذا صاح واستغاث لا يُسْمَع ولا يُغاث. فيَظن كلَّ شيء عدواً، ويتخيل كلَّ شيء غريباً فلا يستأنس بشيء، ولا ينظر إلى دوران الأجرام إلّا بنظر الخوف والدهشة والتوحش المزعجة للوجدان.

ثم تأمل في حال ذلك الشخص إذا كان على الصراط المستقيم واستضاء وجدانُهُ وروحُه بنور الإيمان؛ كيف ترى أنه إذا وَضع قدمَه في الدنيا وفتح عينَيه فرأى تَهاجُم العاديات الخارجية يرى إذن «نقطة استناد» يستند إليها في مقابلة تلك العاديات، وهي معرفةُ الصانع فيستريح. ثم إذا فتّش عن استعداداته وآمالِه الممتدة إلى الأبد، يرى «نقطة استمداد» يستمد منها آمالُه وتتشرب منها ماءَ الحياة وهي معرفةُ السعادة الأبدية. وإذ يرفع رأسه وينظر في الكائنات يستأنس بكلِّ شيء، وتجتني عيناه من كلِّ زهرة أُنسيةً وتحبّباً، ويرى في حركات الأجرام حكمةَ خالقِها، ويتنـزّه بسيرها، وينظر نظَرَ العبرة والتفكر، كأنّ الشمس تناديه: «أيها الأخ! لا تتوحش مني، فمرحباً بقدومك! نحن كلانا خادمان لذاتٍ واحد، مطيعان لأمره». والقمرَ والنجومَ والبحرَ وأخواتها يناجيه كلٌّ منها بلسانه الخاص وترمز إليه: بـ«أهلاً وسهلاً، أمَا تعرفنا؟ كلّنا مشغولون بخدمة مالكك، فلا تَضجر ولا تتوحش ولا تخف من تهديد البلايا بنَعَراتها، فإن لجام كلٍّ بيد خالقك».

فذلك الشخص في الحالة الأولى يحسّ في أعماق وجدانه ألَماً شديداً فيضطر للتخلص منه وتهوينه وإبطال حسِّهِ بالتسلّي، بالتغافل، بالاشتغال بسفاسف الأمور، ليُخادِع وجدانَه وينامَ روحُه؛ وإلَّا أحسّ بألَمٍ عميق يُحرق أعماق وجدانه. فبنسبة البُعْدِ عن الطريق الحق يتظاهر تأثيرُ ذلك الألم.

وأما في الحالة الثانية، فهو يحس في قعر روحِه لذةً عاليةً وسعادة عاجلة كلما أيقظ قلبَه وحرَّك وجدانَه وأحسّ روحَه استزاد سعادةً واستبشر بفتح أبواب جناتٍ روحانيةٍ له.

اللّهمَّ بِحُرْمَةِ هذِهِ السُّورَةِ اجْعَلْنَا مِنْ أهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

* * *

لمعة من تعريف القرآن

لمعة من تعريف القرآن

فإن قلتَ: القرآن ما هو؟

قيل لك: هو الترجمةُ الأزليةُ لهذه الكائنات، والترجمانُ الأبديُّ لأَلسنتها التاليات للآيات التكوينية، ومفسّرُ كتابِ العالَم.. وكذا هو كشافٌ لمَخفيات كنوز الأسماء المُستترة في صحائف السماوات والأرض.. وكذا هو مفتاحٌ لحقائق الشؤون المُضْمَرة في سطور الحادثات.. وكذا هو لسانُ الغيب في عالَم الشهادة.. وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية.. وكذا هو أساسٌ وهندسةٌ وشمسٌ لهذا العالم المعنوي الإسلامي.. وكذا هو خريطةٌ للعالَم الأُخروي.. وكذا هو القولُ الشارحُ والتفسيرُ الواضح والبرهانُ القاطع والترجمانُ الساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه.. وكذا هو مربٍّ للعالَم الإنساني، وكالماء وكالضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلامية.. وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر، وهو المرشدُ المهدي إلى ما خُلِقَ البشرُ له.. وكذا هو للإنسان كما أنه كتابُ شريعةٍ كذلك هو كتابُ حكمةٍ، وكما أنه كتابُ دعاء وعبودية كذلك هو كتابُ أمرٍ ودعوة، وكما أنه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فِكر، وكما أنه كتابٌ واحد لكن فيه كتبٌ كثيرةٌ في مقابلة جميع حاجات الإنسان المعنوية، كذلك هو كمَنـزلٍ مقدّسٍ مشحونٍ بالكتب والرسائل. حتى إنه قد أبرز لمشْرَب كلِّ واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلَك كلِّ واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصدّيقين، ومن العُرفاء والمحققين رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرب وتنويره، ولمساق ذلك المسلك وتصويره حتى كأنه مجموعةُ الرسائل.

سعيد النُّورْسِيّ