الآية (23-24)

﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهۖ وَادْعُوا شُهَدَٓاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ ﴿23﴾ فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ ﴿24﴾﴾

مقدمة في تحقيق النبوة

اعلم أنه كما أثبتت الآيةُ السابقة أوّلَ المقاصد الأساسية القرآنية وهو التوحيد؛ كذلك تثبت هذه الآية ثانيَ المقاصد الأربعة وهو إثبات نبوّة محمّد عليه الصلاة والسلام بأكمل معجزاته الذي هو التحدّي بإعجاز القرآن. ولقد فصلنا دلائلَ نبوّته في كتاب آخر فلنلخِّص بعضها هنا في ستِّ مسائل:

المسألة الأولى

اعلم أن الاستقراء التام في أحوال الأنبياء مع الانتظام المطّرد المسمى بالقياس الخفيّ ينتج أن مدارَ نبوّة الأنبياء وأساسها وكيفية معاملاتهم مع أممهم -بشرط تجريد المسألة عن خصوصيات تأثير الزمان والمكان- يوجد بأكملِ وجهٍ في محمّد عليه الصلاة والسلام الذي هو أستاذُ البشر في سنِّ كمال البشر، فينتج بالطريق الأَوْلى وبالقياس الأَوْلَويّ أنه أيضاً رسولُ الله. فجميع الأنبياء بأَلسنة معجزاتهم كأنهم شاهدون على صدق محمّد عليه السلام الذي هو البرهانُ النَيِّر على وجود الصانع ووحدته فتأمل…

المسألة الثانية

اعلم أن كلَّ حال من أحواله وكلَّ حركة من حركاته عليه السلام -وإنْ لم يكن خارقاً- يلَوِّح بالمبدأ على صدقِه وبالمنتهى على حقانيته. ألا ترى أنه عليه السلام كيف كان حالُه في أمثال واقعة الغار التي انقطع -بحسب العادة- أملُ الخلاص، يقول بكمال الوثوق والاطمئنان والجدية: ﴿لَا تَحْزَنْ اِنَّ اللّٰهَ مَعَنَا﴾ (التوبة:40). فكما أن ابتداءه بالحركة -بلا مبالاةٍ لمعارض وبلا خوفٍ وتردّد مع كمال الاطمئنان- يدل على تمسكه بالصدق؛ كذلك تأسيسُه بانتهاء حركاته -لقواعدَ هي الأساس لسعادة الدارين- وإصابتُه للحق واتصاله بالحقيقة دليلٌ على حقانيته، فهذا فرداً فرداً. وأما إذا نظرتَ إلى مجموع حركاته وأحواله يتجلى لِعينك برهانُ نبوّته كالبرق اللامع. فتبصّر!

المسألة الثالثة

اعلم أن الزمان الماضيَ والحالَ (أي عصر السعادة) والاستقبالَ اتفقتْ على تصديق نبوّته كما أن ذاتَه دليل على نبوّته. ولنطالع هذه الصحُف الأربع:

فأولاً: نتبرك بمطالعة ذاته عليه السلام. ولابد أوّلاً من تصوّر أربع نكت:

إحداها: أنه «ليس الكَحَلُ كالتكحُّل» أي لا يصل الصنعيُّ والتصنعيُّ -ولو كانا على أكملِ الوجوه- مرتبةَ الطبيعيّ والفطريّ ولا يقوم مقامَه، بل فلتاتُ غلَطاتِ هيئةِ حركةِ الصنعي تومئ بمُزخرَفِيَّته.

والثانية: أن الأخلاق العالية إنما تتصل بأرض الحقيقة بالجدّية، وأن إدامة حياتها وانتظام مجموعها إنما هي بالصدق. ولو ارتفع الصدقُ من بينها صارت كهشيم تذروه الرياحُ.

والثالثة: هي أنه كما يوجد المَيل والجذب في الأمور المتناسبة، كذلك يوجد الدفعُ والتنافر في الأمور المتضادة.

والرابعة: هي «أن للكلِّ حُكماً ليس لكلٍّ» كقوّة الحبل مع ضعف خيوطه..

وإذا تفطنت لهذه النكت فاعلم أن آثار محمّد عليه الصلاة والسلام وسِيَره وتاريخ حياته تشهد -مع تسليم أعدائه- بأنه لعلى خُلق عظيم، وبأنه قد اجتمع فيه الخصائلُ العالية كافة. ومن شأن امتزاج تلك الأخلاقِ توليدُ عزةٍ للنفس وحيثيةٍ وشرفٍ ووقار لا تساعد التنـزّلُ للسفاسف. فكما أن علوّ الملائكة لا يساعد لاختلاط الشياطين بينهم؛ كذلك تلك الأخلاقُ العالية بجَمعها لا تساعد أصلاً لتداخُل الحيلةِ والكذب بينَها. ألا ترى أن الشخص المشتهر بالشجاعة فقط لا يتنـزّل للكذب إلّا بعُسر؟ فكيف بالمجموع؟ فثبتَ أن ذاتَه عليه السلام كالشمس دليلُ لنفسه..

وأيضاً إذا تأملتَ في حاله عليه السلام من الأربع إلى أربعين -مع أنّ من شأن الشبابية وتوقّدِ الحرارة الغريزية أن تُظهر ما يَخفى وتُلقي إلى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحِيَل- تراه عليه السلام قد تدرّج في سنينه وعاشرَ بكمال استقامةٍ ونهايةِ متانةٍ وغاية عفة واطّرادٍ وانتظامٍ. ما أومأ حالٌ من أحواله إلى حيلة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء. وبينما تراه عليه السلام كذلك إذ تنظر إليه وهو على رأس أربعين سنة -الذي من شأنه جعلُ الحالاتِ مَلَكةً والعاداتِ طبيعةً ثانية لا تخالَف- قد تكشّف عليه السلام عن شخصٍ خارق قد أوقعَ في العالم انقلاباً عظيماً عجيباً. فما هو إلّا من الله.

المسألة الرابعة

اعلم أن صحيفة الماضي المشتملةَ على قَصَص الأنبياء المذكورة على لسانه عليه السلام في القرآن برهانٌ على نبوّته بملاحظة أربع نكت.

إحداها: أنَّ من يأخذ أساساتِ فنٍ ويعرف العُقَد الحياتية فيه ويُحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدَّعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته في ذلك الفن.

النكتة الثانية: هي أنك إن كنت عارفاً بطبيعة البشر لا ترى أحداً يتجاسر وبلا تردد وبلا مبالاة بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو صغيراً.. في قوم ولو قليلين.. في دعوى ولو حقيرة.. بحيثيةٍ ولو ضعيفة. فكيف بمـَن له حيثيةٌ في غاية العظمة.. وفي دعوى في غاية الجلالة.. في قوم في غاية الكثرة.. في مقابلة عنادٍ في غاية الشدة مع أنه أميّ لم يقرأ.. يبحث عن أمور لا يستقلّ فيها العقلُ ويُظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد. أفلا يدلّ هذا على صدقه وأنه ليس منه بل من الله؟.

الثالثة: هي أن كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدَنيين -بِتعليم العادات والأحوال وتلقين الوقوعات والأفعال- مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فبناءً عليه لابد لمـَن يحاكِم ويتحرى حال البدويين -لا سيما في القرون الخالية- أن يفرض نفسَه في تلك البادية.

الرابعة: هي أنه لو ناظرَ أميّ علماءَ فنٍّ -ولو فنَّ الصرف- ثم بيّن رأيه في مسائله مصدِّقاً في مظان الاتفاق، ومصحِّحاً في مطارح الاختلاف؛ أفلا يدلّك ذلك على تفوّقه، وأن علمه وهبي؟.

إذا عرفت هذه النكت: فاعلم أن محمّداً العربيّ عليه السلام مع أميّته قصّ علينا بلسان القرآن قصَصَ الأولين والأنبياء قصةَ مَنْ حضرَ وشاهَد، وبيّن أحوالَهم وشرحَ أسرارَهم على رؤوس العالم في دعوى عظيمة تجلب إليها دقةَ الأذكياء. وقد قصّ بلا مبالاة، وأخذ العُقَد الحياتية فيها وأساساتها مقَدَّمة لمدّعاه، مصدِّقاً فيما اتفقت عليه الكتبُ السالفة، ومصحِّحاً فيما اختلفت فيه. كأنه بالروح الجوّالِ المَعكسِ للوحي الإلهي طيَّ الزمانَ والمكانَ، فتداخل في أعماق الماضي فبيّن كأنه مشاهِد. فثبت أن حاله هذه دليل نبّوته وإحدى معجزاته. فمجموعُ دلائل نبوّة الأنبياء في حُكمٍ دليلٍ معنويٍ له، وجميعُ معجزات الأنبياء في حُكم معجزة معنوية له.

المسألة الخامسة

في بيان صحيفة عصر السعادة لا سيما مسألة جزيرة العرب. فها هنا أيضاً أربع نكت:

إحداها: أنك إذا تأملتَ في العالم ترى أنه قد يتعسر ويستشكل رفعُ عادةٍ ولو حقيرةً في قوم ولو قليلين. أو خصلةٍ ولو ضعيفةً.. في طائفةٍ ولو ذليلين.. على مَلِك ولو عظيماً.. بهمّة ولو شديدة. في زمان مديد بزحمة كثيرة. فكيف أنت بمَن لم يكن حاكماً، تشبثَ في زمان قليل بهمّة جزئية -بالنسبة إلى المفعول- وَقَلَعَ عاداتٍ وَرَفَعَ أخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستُؤنس بها نهاية استيناس واستمرت غايةَ استمرار، فغرسَ فجأةً بَدَلَها عاداتٍ وأخلاقاً تكمّلت دفعةً عن قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب. أفلا تراه خارقاً للعادات؟..

النكتة الثانية: هي أن الدولة شخصٌ معنويّ. تشكُّلُها تدريجيّ كنمو الطفل، وغلَبتُها للدولة العتيقة -التي صارت أحكامُها كالطبيعة الثانية لملّتها- متمهلةٌ. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكُّلِ الدول تشكيلُ محمّد عليه السلام لحكومةٍ عظيمةٍ دفعةً، مهيَّئةً لنهاية الترقي، متضمنةً للأساسات العالية الأبدية مع غلبتها للدول العظيمة دفعةً مع إبقاء حاكميته لا على الظاهر فقط، بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً.

النكتة الثالثة: هي أنه يمكن بالقهر والجبر تحكّمٌ ظاهريّ، وتسلّط سطحيّ. لكن الغلبةَ على الأفكار، والتأثيرَ بإلقاء حلاوته في الأرواح، والتسلطَ على الطبائع مع محافظةِ حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون إلّا من خوارق العادات.. وليس إلّا الخاصةُ الممتازة للنبوّة.

النكتة الرابعة: هي أن تدوير أفكار العموم وإرشادَها بحِيَل الترهيب والترغيب والخوف والتكليف إنما يكون تأثيرُها جزئياً سطحياً موقتاً يسدّ طريقَ المحاكمة العقلية في زمان. أما مَن نفذ في أعماق القلوب بإرشاده، وهيَّج دقائقَ الحسيات، وكشف أكمامَ الاستعدادات، وأيقظ الأخلاق، وأظهر الخصائل المستورة، وجعل جوهر إنسانيتهم فوّاراً، وأبرزَ قيمةَ ناطقيتهم؛ فإنما هو مقتبِسٌ من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة. بينما ترى شخصاً في قساوة قلبِه يقبُرُ بنتَه حيةً ولا يتألم ولا يتأثر إذ تراه بعد يوم -وقد أسلم- يترحّم على نحو النمل، ويتألم بألَم حيوان. فبالله عليك أَ ينطبق هذا الانقلاب الحسي على قانون؟

فإذا عرفت هذه النكت تأمّل في نقطة أخرى وهي: أن تاريخ العالم يشهد: أن الداهيَ الفريدَ إنما هو الذي اقتدر على إنعاش استعداد عموميّ، وإيقاظِ خَصلة عمومية، والتسببِ لانكشاف حسّ عموميّ؛ إذ مَن لم يوقِظ هكذا حسّاً نائماً يكون سعيُه هباءً موقتاً ولو كان جليلاً في نفسه.. وأيضاً إن التاريخ يرينا أن أعظمَ الناس هو الموفَّق لإيقاظ واحد أو اثنين أو ثلاث من هذه الحسِّيات العمومية: كحسّ الحَميّة الملّية، وحس الأخوّة، وحس المحبة، وحس الحرية… الخ. أفلا يكون إذَن إيقاظُ ألوفٍ من الحسِّيات المستورة العالية، وجعلُها فوّارةً منكشفة في قوم بَدَوييّن منتشرين في جزيرة العرب تلك الصحراءِ الوسيعة، من الخوارق؟.. نعم! هو من ضياء شمس الحقيقة.

فيا هذا! مَن لم يُدخِل في عقله هذه النقطة نُدْخِل جزيرةَ العرب في عينه. فهذه «جزيرةُ..» بعد ثلاثة عشر عصراً وبعدَ ترقِي البشر في مدارج التمدّن! فانتخِب أيها المعانِد من أكملِ الفلاسفة مائةً، فليسعَوا مائةَ سنة فإن فعلوا جزءاً من مائة جزءٍ مما فعلَه محمّد العربي عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى زمانه… فإن لم تفعل -ولن تفعل- فاتّق عاقبةَ العناد! نعم، هذه الحالة خارقةٌ للعادة وإن هي إلّا معجزةٌ من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

واعلم أيضاً أن من أراد التوفيق يلزم عليه أن يكون له مصافاةٌ مع عادات الله، ومعارَفَةٌ مع قوانين الفطرة، ومناسبةٌ مع روابط الهيئة الاجتماعية. وإلّا أجابته الفطرةُ بعدم الموفَّقية جوابَ إسكات..

وأيضاً مَن تحرك بمسلك في الهيئة الاجتماعية يلزمه أن لا يخالفَ حركة الجريان العموميّ. وإلّا طيّرَه ذلك الدولابُ عن ظهره فيسقط في يده. فإذن مَن ساعده التوفيقُ في ذلك الجريان كمحمّد عليه السلام يثبت أنه متمسكٌ بالحق.

فإذا تفهمت هذا، تأمل في حقائق الشريعة مع تلك المصادمات العظيمة والانقلابات العجيبة، وفي هذه الأعصار المديدة تَرَها قد حافظتْ على موازنة قوانينِ الفطرة وروابطِ الاجتماعيات اللاتي بدقتها لا تتراءى للعقول مع كمال المناسبة والمصافاة معها. فكلما امتدّ الزمانُ تظاهرَ الاتصال بينها. ويتظاهر من هذه الحالة؛ أن الإسلامية هي الدين الفطريّ لنوع البشر وأنها حقٌ، لهذا لا ينقطع وإن رَقَّ. ألا ترى أن الترياق الشافي للسموم القاتلة في الهيئة الاجتماعية إنما هو أمثالُ: «حرمةِ الربا ووجوبِ الزكاة» اللتين هما مسألتان في أُلوف مسائل تلك الشريعة.

فإذا عرفت هذه النكت الأربع مع هذه النقط الثلاث، اعلم أن محمداً الهاشميّ عليه الصلاة والسلام مع أنه أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوّته الظاهرية وعدم حاكميةٍ له أو لسَلفه، وعدمِ ميلِ تحكّم وسلطنةٍ، قد تشبثَ بقلبه بوثوقٍ واطمئنان في موقع في غايةِ الخطر وفي مقام مهم، بأمر عظيم فغلَب على الأفكار، وتحبّب إلى الأرواح، وتسلّط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العاداتِ والأخلاقَ الوحشيةَ المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإِحكام والقوة -كأنها اختلطت بلَحمهم ودمهم- أخلاقاً عاليةً وعاداتٍ حسنة، وقد بدَّل قساوةَ قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة وأظهرَ جوهرَ إنسانيتهم. ثم أخرجهم من زاوية الوحشة وَرقّى بهم إلى أوج المَدَنية وصيّرهم معلِّمي عالَمهم، وأسَّس لهم دولةً ابتلعت الدول كـ«عصا موسى»، فلما ظهرت صارت كالشعلة الجوّالة والنور النوّار، فأحرقت روابط الظلم والفساد، وجعل سريرَ تلك الدولة الدفعية في زمان قليل الشرقَ والغربَ.

أفلا تدل هذه الحالة على أن مسلكَه حقيقة وأنه صادق في دعواه؟

الآية (21-22)

﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿21﴾ اَلَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءًۖ وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ اَنْدَادًا وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿22﴾﴾

مقدمة

اعلم أن العبادة هي التي ترسِّخ العقائد وتُصيِّرها حالاً ومَلَكة؛ إذ الأمور الوجدانية والعقلية إن لم تنمِّها وتربِّها العبادةُ -التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي- تكن آثارُها وتأثيراتها ضعيفة. وحال الإسلام الحاضرة شاهدة.

واعلم أيضاً أن العبادة سببٌ لسعادة الدارين، وسبب لتنظيم المعاش والمعاد، وسبب للكمال الشخصيّ والنوعيّ، وهي النسبة الشريفة العالية بين العبد وخالقه.

أما وجهُ سببيتها لسعادة الدنيا التي هي مزرعةُ الآخرة فمن وجوه:

منها: أن الإنسان خُلِق ممتازاً ومستثنى من جميع الحيوانات بمزاج لطيف عجيب، أنتج ذلك المزاجُ فيه ميلَ الانتخاب وميلَ الأحسن وميلَ الزينة، وميَلاناً فطرياً إلى أن يعيش ويحيى بمعيشة وكمال لائقين بالإنسانية.. ثم لأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه إلى تلطيفها وإتقانها بصنائع جمّة، لا يقتدر هو بانفراده على كلِّها. ولهذا احتاج إلى الامتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا، فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. لكن لمّا لم يحدد الصانعُ الحكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية بحدٍّ فطريّ لتأمين ترقّيهم بزَمْـبَـرَكِ الجزء الاختياريّ -لا كالحيوانات التي حُدّدت قواها- حصل انهماكٌ وتجاوز.. ثم لانهماك القوى وتجاوزها -بسر عدم التحديد- تحتاج الجماعةُ إلى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقلَ كل أحد لا يكفي في درْك العدالة احتاج النوع إلى عقل كلّي للعدالة يستفيد منه عقل العموم. وما ذلك العقل إلّا قانون كلّيّ، وما هو إلّا الشريعة.. ثم لمحافظة تأثير تلك الشريعة وجريانها لابد من مقنّنٍ وصاحب ومبلّغ ومرجِع، وما هو إلّا النبيّ عليه السلام.. ثم إن النبيّ لإدامة حاكميته في الظواهر والبواطن وفي العقول والطبائع يحتاج إلى امتياز وتفوّق مادةً ومعنى، سيرةً وصورة، خَلْقاً وخُلُقاً. ويحتاج أيضاً إلى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالكِ الملك صاحبِ العالَم، وما الدليل إلّا المعجزات.. ثم لتأسيس إطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج إلى إدامة تصوّر عظمةِ الصانع وصاحب المُلك في الأذهان وما هو إلا تجلي العقائد.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج إلى مذكِّر مكرَّرٍ وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرر إلا العبادة.

ومنها: أن العبادة لتوجيه الأفكار إلى الصانع الحكيم، والتوجّهُ لتأسيس الانقياد، والانقيادُ للإِيصال إلى الانتظام الأكمل والارتباط به، واتباعُ النظام لتحقيق سرّ الحكمة. والحكمةُ يشهد عليها إتقان الصُنع في الكائنات.

ومنها: أن الإنسان كالشجر الذي عُلّق على ذروته كثيرٌ من خطوط الآلة البرقية، قد التفّت على رأسه رؤوسُ نظامات الخِلقة، وامتدت مشرعةً إليه قوانينُ الفطرة، وانعكست متمركزة فيه أشعةُ النواميس الإلهية في الكائنات. فلابد للبشر أن يتمّمها ويربطها وينتسب إليها ويتشبث بأذيالها ليسري بالجريان العمومي حتى لا يُزلَق ولا يُطرَد ولا يُلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات. وما هي إلّا بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

ومنها: أن بامتثال الأوامر واجتناب النواهي يحصل للإنسان نِسَبٌ كثيرة إلى مراتب عديدة في الهيئة الاجتماعية، فيصير الشخصُ كنوعٍ؛ إذ كثيرٌ من الأوامر لاسيما التي لها تماسّ بالشعائر والمصالح العمومية كالخيط الذي نيط به حيثيات ونُظّم فيه حقوق، لولاه لتمزقت وتطايرت.

ومنها: أن الإنسان المسلم له مناسباتٌ ثابتة وارتباط قوي مع كل المسلمين. وهما سببان لأُخوةٍ راسخة ومحبةٍ حقيقية بسبب العقائد الإيمانية والمَلَكات الإسلامية. أما سبب ظهور تلك العقائد وتأثيرها وصيرورتِها مَلَكة راسخة فإنما هي العبادة.

وأما جهة الكمال النفسيّ، فاعلم أن الإنسان مع صِغَر جِرمه وضَعفه وعَجزه وكونه حيواناً من الحيوانات ينطوي على روح غالٍ ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطّن ميولا لا حصر لها، ويشتمل على آمالٍ لا نهاية لها، ويحوز أفكاراً غير محصورة، ويتضمن قوى غير محدودة، مع أن فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم.

فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجِلاء قيمتِه.. وأيضاً هي العلةُ لانكشاف استعداده ونموّه ليناسبَ السعادة الأبدية.. وكذا هي الذريعةُ لتهذيب ميوله ونزاهتها.. وهي الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مُثمرة ريانة.. وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضاً هي السببُ لتحديد قواه وإلجامها.. وأيضاً هي الصَيْقل لرَيْن الطبيعةِ على أعضائه المادية والمعنوية التي كلٌّ منها كأنه منفذٌ إلى عالم مخصوص ونوع إذا شفَّ.. وأيضاً هي المُوصل للبشر إلى شرفِه اللائق وكماله المقدَّر، إذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب.. وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبةُ الشريفة الغالية بين العبد والمعبود. وتلك النسبة هي نهايةُ مراتب كمال البشر.

ثم إن الإخلاص في العبادة هو: أن تفعل لأنه أُمر بها، وإن اشتمل كلُّ أمر على حِكَم كلٌ منها يكون علةً للامتثال، إلّا أن الإخلاص يقتضي أن تكون العلةُ هي الأمر، فإن كانت الحكمةُ علةً فالعبادة باطلة، وإن بقيت مرجِّحة فجائزة.

* * *

ثم إن المخاطبين لما سمعوا ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ استفسروا بلسان الحال: ما الحكمة؟ ولِمَ؟ وما المجبورية؟ ولأيّ شيء؟.

أما الحكمة فقد سمعتَ في المقدمة. وأما العلة فأجاب القرآنُ بإثبات الصانع وتوحيده بقوله: ﴿رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ…﴾ الخ. وإثبات النبوّة بقوله: ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا…﴾ الخ.

مقدمة في نكات هذه الآية

اعلم أن البرهان إما «لِمِّيٌّ» وهو الاستدلال بالمؤثِّر على الأثر. وإما «إنّيّ» وهو الاستدلال بالأثر على المؤثِّر، وهذا أسلمُ. وهو إما «إمكانيّ» بالاستدلال بتساوي الطرفين على المرجِّح، وإما «حدوثيّ» بالاستدلال بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكلٌّ منهما إما باعتبار ذوات الأشياء أو باعتبار صفاتها.. وكلٌّ منها إما بإعطاء الوجود أو بإدامة البقاء.. وكل منها إما «دليل اختراعيّ» أو «دليل عِنَايَتيّ». وهذه الآية إشارة إلى هذه الأنواع، فالملخَّص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر.

أما «دليل العناية» على إثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: «النظام المندمج في الكائنات»؛ إذ النظام خيطٌ نيط به المصالحُ والحِكم. فجميع الآيات القرآنية التي تَعُدّ منافع الأشياء وتذكُر حِكَمها إنما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهرُ لتجلِّي هذا البرهان؛ إذ النظام المرعي به المصالحُ والحِكم كما يُثبِت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البَيْن وهْمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.

يا هذا! إن لم يُحِط نظرُك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحِكَم، ولا تقتدرُ على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون -التي هي الحواسّ لنوعك- الحاصلةِ من تلاحق الأفكار -الذي هو في حُكم فكر النوع- لترى نظاماً يبهر العقولَ، وتعلمَ أن كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لا يُعقل أكملُ منهما؛ إذ كل نوع من الكائنات إما تَشكّلَ فيه فنٌ أو يقبل أن يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية. وكليةُ القاعدة تدلّ على حُسن النظام؛ إذ ما لا نظام له لا تجري فيه الكلية. ألَا ترى أن قولَنا: «كل عالِم فهو ذو عمامة بيضاء» إنما يصدُق كليّةً، إذا كان في ذلك النوع انتظام. فأنتج أن كل فن من الفنون الكونية، بسبب كليةِ قواعدِه ينتجُ بالاستقراء التام نظاماً كاملاً شاملاً.. وأن كل فن برهانٌ نيّر يشير إلى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقاتِ سلاسلِ الموجودات، ويلوِّح إلى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال. فتَرْفع الفنونُ أعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته، كأن كلَّ فن نجمٌ ثاقب في طرد شياطين الأوهام.

وإن شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو: أن الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورتُه الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية. فبالضرورة والبداهة أن تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وُجدت بنفسها بلا علة، لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها. والممكن متساوي الطرفين ككفتَي الميزان، ولو وجد الترجّح لكان في العدم. فباتفاق العقلاء لابد لها من علّة مرجِّحة.. ومن المحال أن تكون العلةُ أسباباً طبيعية؛ إذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهايةَ علمٍ وكمالَ شعورٍ لا يمكن تصورُهما في تلك الأسباب التي يخادعون أنفسهم بها. مع أنها أسبابٌ بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركُها، مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا أولَويةَ لبعضها. فكيف تجري في مجرى معيّن، وتتحرك على مَحْرَك محدود، وكيف يترجَّح بعضُ وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينةُ العجيبة المنتظمة التي حيَّرت العقولَ في دقائق حِكَمها، بل إنما تقنع نفسُك وتطمئن بتولّدها منها إن أَعطيت لكلِّ ذرّة شعورَ «أفلاطون» وحِكمةَ «جالينوس» واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرةً عمومية. وما هذه إلّا سفسطة يَخجل منها السوفسطائيُّ. مع أن أُس الأسباب المادية وجودُ القوة الجاذبة والقوة الدافعة معاً، في جزءٍ لا يتجزأ والجوهر الفرد، وإن هذا كاجتماع الضدين.

نعم، قانونُ الجاذبة والدافعة وأمثالهما أسماءٌ لقوانينِ عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولةٌ بشرط أن لا تنتقل من القاعدية إلى الطبيعية، وأن لا تخرج من الذهنية إلى الخارجية، وأن لا تتحول من الاعتبارية إلى الحقيقية، وأن لا تترقى من الآلَتِيَّة إلى المؤثِّرية.

فإذ تفهّمت ما في هذا المثال ورأيت عظمتَه مع صِغَره، ووسعتَه مع ضيقِه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات ترَ وضوحَ «دليل العناية» وظهورَه بمقدار درجة وُسعة الكائنات. فكلُّ الآيات القرآنية العادّة لنِعَم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل، فكلما أمرَ القرآنُ بالتفكر فإنما أشار مخاطِباً للعموم إلى طريق هذا الاستدلال ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ﴾ (الملك:3). ثم إنَّ الذي يومئ إلى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى: ﴿اَلَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءًۖ وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾.

وأما «الدليل الاختراعيّ» المشار إليه بقوله تعالى: ﴿الَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فهو: أن الله تعالى أعطى لكل فردٍ ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأُ آثاره المخصوصة، ومنبعُ كمالاته اللائقة؛ إذ لا نوعَ يتسلسل إلى الأزل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولأن هذا التغيّر في العالَم يثبت حدوث بعضٍ بالمشاهدة، وبعضٍ آخر بالضرورة العقلية. ثم إنه قد ثبت بعلم الحيوانات والنباتات تكثّر الأنواع إلى أزيدَ من مائتي ألفِ نوع، ولكل نوع آدم وأبٌ عال. فبسرّ الحدوث والإمكان يثبت بالضرورة صدورُ تلك الأوادم والآباء للأنواع عن يد القدرة الإلهية بلا واسطة. ولا يُتوهَّم فيها ما يُتوَهم في السلسلة. وتوهمُ انشقاق الأنواع بعضها عن بعض باطلٌ؛ لأن النوع المتوسط لا يتسلسل بالتناسل في الأكثر، فلا يكون رأسَ سلسلة. فإذا كان المبدأ والأصل هكذا، فأجزاءُ السلسلة كذلك بالطريق الأولى.

نعم، كيف يُتصوّر أن تكون الأسبابُ الطبيعية البسيطة الجامدة التي لا شعورَ لها ولا اختيار قابلةً لإِيجاد تلك السلاسل التي تحيّرت الأفهامُ فيها، ولاختراع أفرادها التي كلٌّ منها صنعةٌ عجيبة من معجزات القدرة. فكلُّ الأفراد مع سلاسلها تشهد بلسان حدوثها وإمكانها شهادةً قاطعة على وجوب وجود خالقها جلّ جلالُه.

 إن قلت: فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد الإنسانُ بأمثال ضلالاتِ أزليةِ المادة وحركتِها؟.

قيل لك: إن النظر التبعيّ قد يَرى المحالَ ممكناً، كالمستهلّ الذي رأى الشعرةَ البيضاء من أهدابه هلالَ العيد؛ لأن الإنسان بسبب جوهره العالي وماهيته المكرّمة إنما يدور خلفَ الحق والحقيقة. وإنما يقع الباطلُ والضلال في يده بلا اختيار ولا دعوة ولا تحرٍّ، بل بنظره السطحيّ التبعيّ فيقبله اضطراراً؛ لأنه لمّا تغافل عن النظام الذي هو خيطُ الحِكَم، وتعامى عن ضدية الحركة والمادة للأزلية، احتمل عند نظره التبعي إسنادُ هذا النقش البديع والصنعة العجيبة إلى التصادف الأعمى والاتفاق الأعور. كما قال «الجسريّ» في مَنْ دخل قصراً مزينا مشتملاً على آثار المدنية، من أنه حينما لا يرى صاحبَه فيعتقد عدمَه يضطر لإِسناد زينته وأساساته إلى الاتفاق والتصادف وناموس الانتخاب الطبيعيّ.

وأيضاً لما تعامى وتغافل عن شهادة كلِّ الحِكم والفوائد في نظام العالَم على اختيارٍ تام وعلم شامل وقدرةٍ كاملة، احتمل في نظره التبعي إثباتُ تأثيرٍ حقيقيٍ لهذه الأسباب الجامدة.

فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جلّ جلالُه تأمّلْ في أظهر الآثار التي تسمى «طبيعة» وهو الارتسام -بشرط أن تمزِّق حجابَ الألفة- كيف تُقنع نفسَك ويقبل عقلُك أن خاصيةَ وجهِ المرآة علّة مؤثّرةٌ مناسبة لكشطِ وجهِ السماء، وجَلْبِ صورةِ ارتفاعها ونقشها بنجومها في زُجَيْجَتها؟. وكيف يَقنع عقلُك بأن الأمر الوهميّ في الحقيقة المسمّى بالجاذب العموميّ علةٌ مؤثرة كخيط المنجنيق لإِمساك الأرض والنجوم وتحريكها وتدويرها بانتظام محكَم؟

الحاصل: أنَّ الإنسان إذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً إلى الأمر الباطل المُحال ولم يرَ العلة الحقيقية احتمل صحتُه عنده. إلّا أنه إذا نظر إليه قصداً وبالذات وتحرّاه مشترياً له لا يمكن أن يقبل شيئاً من تلك المسائل التي يطنطنون بها في الحكميات، إلّا أن يَتَبَلَّه بفرض عقلِ الحكماء وحِكمة السياسيّين في الذرّات.

 إن قلت: فما الطبيعة والنواميس والقُوَى التي يدَمدمون بها ويسلّون أنفسهم بها؟

قيل لك: إنَّ الطبيعة مِسْطرٌ لا مصدر.. ومطبعةٌ لا طابع.. وقوانين لا قوة. بل إنما هي شريعة فطرية إلهية أوقعت نظاماً بين أفعالِ أعضاءِ جسدِ عالَم الشهادة. كما أن الشريعة محصَّلُ وخلاصةُ قواعد الأفعال الاختيارية، ونظامُ الدولة مجموعُ الدساتير السياسية. فكما أن الشريعة والنظام أمران معقولان اعتباريان؛ كذلك الطبيعةُ أمرٌ اعتباريّ ملخَّصُ عادةِ الله الجارية في الخِلقة. وأما توهّم وجودها الخارجيّ فكتَوهّم الوحشي الذي يرى فرقةَ العسكر يتحركون بانتظام، وجودَ أمر خارجيّ ربط بينهم. فمن كان وجدانُه وحشياً يتخيل الطبيعة بسبب الاستمرار موجوداً خارجياً مؤثراً.

الحاصل: أنَّ الطبيعة صنعةُ الله تعالى وشريعتُه الفطرية. وأما نواميسُها فمسائلها. وأما قواها فأحكام تلك المسائل.

أما «دليل التوحيد» الذي أشار اليه ﴿اعْبُدُوا﴾ على تفسير ابن عباس أي «وحِّدوا»، فاعلم أن القرآن المعجزَ البيانِ ما ترك من دلائل التوحيد شيئاً. وما تضمنته آيةُ ﴿لَوْ كَانَ فيهِمَٓا اٰلِهَةٌ اِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء:22) من «برهان التمانع» دليلٌ كاف ومنار نيِّر على أن الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للألوهية، ثم في هذه الآية رمز إلى دليل لطيف على التوحيد، وهو: أنَّ تعاونَ الأرض والسماء ومناسبتهما في توليد الثمرات -لتُعَيِّش نوعَ البشر وجنسَ الحيوان- ومشابهةَ آثار العالم وتعانقَ أطرافه وأخذَ بعضٍ يد بعضٍ بتكميل بعضٍ انتظامَ بعضٍ، وتجاوبَ الجوانب وتلبيةَ بعضٍ لسؤال حاجة بعض، ونظرَ الكل إلى نقطةٍ واحدة، وحركةَ الكل بالانتظام على محور نظام واحد؛ تلوِّح بل تصرِّح بأن صانعَ هذه الماكينة الواحدة واحد وتتلو على كلٍ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ     تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ

ثم اعلم أن الصانع كما أنه واجب الوجود وواحد؛ كذلك أنه متصف بجميع الأوصاف الكمالية؛ لأن ما في المصنوع من فيض الكمال إنما هو مقتبسٌ من ظلِّ تجلي كمال صانعِه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحُسن ما هو أعلى بدرجات غير متناهية من عمومِ ما في عموم الكائنات من الحُسن والكمال والجمال؛ إذ الإحسان فرعٌ لثروة المُحسِن ودليل عليها، والإيجاد لوجودِ الموجِد، والإيجابُ لوجوب الموجب، والتحسين لحُسن المحسّن المناسب له.

وكذلك إن الصانع منـزَّه عن جميع النقائص، لأن النواقص إنما تنشأ عن عدم استعداد ماهيات الماديات، وهو تعالى مجرّد عن الماديات.

وكذلك إنه تعالى مقدّس عن لوازمَ وأوصافٍ نشأت من إمكانِ ماهيات الكائنات، وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شيء جلّ جلاله. ولقد أشار إلى هاتين الحقيقتين بقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ اَنْدَادًا﴾.

أما «الدليل الإمكانيّ» المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَاللّٰهُ الْغَنِيُّ وَاَنْتُمُ الْفُقَرَٓاءُ﴾ (محمد:38) فاعلم أنّ كل واحدة من ذَرات الكائنات باعتبار ذاتها، وباعتبار فردٍ فردٍ من صفاتها، وباعتبار واحدٍ واحدٍ من أحوالها، وباعتبار جهةٍ جهةٍ من وجوهها؛ بينما تراها تتردد بين الإمكانات الغير المتناهية في الذات والصفات والأحوال والوجود، إذا انتعشت وقامت وسلكَت طريقاً معيناً منها ولبِست صفة مخصوصة، وتكيّفت بحالة منتظمة، وركبت على قانون مسدَّد، وتوجّهت إلى مقصد معيّن، فأنتجت حكمةً ومصلحةً لا تَحصلان إلّا بذلك الطرز المعين.. أفلا تنادي بلسانها المخصوص، وتصرّح بقصد صانعها وحكمته؟ فكما أن كل ذرة بنفسها دليل على الانفراد؛ كذلك تتزايد دلالتُها باعتبار كونها جزءاً من مركبات متداخلةٍ متصاعدة؛ إذ لها في كل مركّبٍ مقامٌ.. وفي كل مقام لها نسبة.. وفي كل نسبة لها وظيفة.. وفي كل وظيفة تثمر مصالحَ.. وفي كل مرتبة تتلو بلسانها دلائل وجوبِ وجودِ صانعها.. مثلُها كمثل جنديّ في «طاقمه وطابوره وفرقته… الخ».

* * *

الآية (19-20)

﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ ﴿19﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ۟﴿20﴾﴾

اعلم أن مدار النظر في هذه الآية أيضاً من ثلاثة وجوه: نظمُها بسابقتها، والنظمُ بين جملها، ثم النظر بين هيئات جملةٍ جملةٍ. مثلُها في الارتباط كمثل الأميال العادّة للساعات والدقائق والثواني.

أما وجه النظم بينها وبين سابقتها فهو: أنه كرّر التمثيلَ وأطنب في التصوير، إشارة إلى احتياج تصوير حال المنافقين في دهشتهم وحيرتهم إلى نوعين منه، إذ:

خلاصة التمثيل الأول هي: أن المنافق يرى نفسَه في صحراء الوجود منفردةً عن الأصحاب، مطرودةً عن جمعية الكائنات، خارجةً عن حُكم شمس الحقيقة. يصير كلُّ شيء في نظره معدوماً ويرى المخلوقات أجنبية كلَّها، ساكنةً وساكتة، استولى عليها الوحشةُ والخمود. وأين هذا من حال المؤمن الذي يرى بنور الإيمان كلَّ الموجودات أحبّاءه ويستأنس بكل الكائنات؟.

وخلاصة التمثيل الثاني هي: أن المنافق يظن أن العالَم بأجزائه ينعى عليه بمصائبه ويهدده ببلاياه ويصيح عليه بحادثاته ويحيط به بنوازله، كأن الأنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافعُ ضاراً. وما هذه الحالة إلا لعدم نقطتي الاستمداد والاستناد كما مرَّ.

وأين هذا من حال المؤمن الذي يسمع بالإيمان تسبيحاتِ الكائنات وتبشيراتِها؟

وأيضاً تكرارُ التمثيل إيماء إلى انقسام المنافقين إلى الطبقة السفلية العامية المناسِبة للتمثيل الأول، وإلى الطبقة المتكبرة المغرورة الموافقة للتمثيل الثاني.

وأما مناسبة هذا التمثيل لمقامه بالنظر إلى السامع فهي أن الصف الأول من مخاطبي القرآن أبناءُ الفيافي يفترشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء. وما منهم إلّا وقد رأى بنفسه أو سمع من أبناء جنسه مثل هذه الحادثة حتى استأنس بها حسُّ العموم؛ بحيث تؤثّر فيه كضرب المثَل.

وأما مناسبته للتمثيل الأول فأظهرُ من أن يَخفى، إذ هو كالتكملة والتتمة له، مع الاتحاد في كثير من النقط.

وأما مناسبة التمثيل للممثَّل له فبخمسة وجوه:

منها: وقوعُهما كليهما في شدة الحيرة، بانسداد كلِّ طرق النجاة عليهم، وبأنْ ضلّ جميعُ أسباب الخلاص عنهم.

ومنها: وقوعهما في شدة الخوف، حتى يتخيلُ كلٌّ من المشبَّه والمشبَّه به، أن الموجودات اتفقت على عداوته، ولا يأمَن من بقائه في كل دقيقة.

ومنها: وقوعهما في شدة الدهشة المنتجة لاختبال العقل حتى إن كلاًّ منهما يتَبَلَّه. كمثل مَن يرى برق السيوف فيتحفظ بغَمضِ بصره أو يسمع تَقْتَقَة البنادق فيتجنّب عن الجرح بسد سمعه. أو كمثل مَن لا يحب غروبَ الشمس فيُمسك دولاب ساعته لئلا يدور جرخُ الفَلك الدَّوّار، فما أخبَلهم! إذ الصاعقةُ لا تنثني بسدّ الأسماع، والبرقُ المُحرق لا يترحم عليهم بغضِّ الأبصار. ومن هنا يُرى أنْ لم يبقَ لهم مَمسَك.

ومنها: أن الشمس والمطر والضياء والماء كما أنها منابعُ حياة الأزاهير وتربيةِ النباتات، وسبب تعفن الميتات ونَتن القاذورات؛ كذلك إن الرحمة والنعمة إذا لم تَصادفا موقعَهما المنتظَر لهما والعارف بقيمتهما، تنقلبان زحمةً ونِقمة.

ومنها: أنه كما يوجد التناسب بين المآلين الذي هو الأصل في انعقاد الاستعارة التمثيلية بلا نظر إلى تطبيق الأجزاء؛ كذلك يوجد مناسباتٌ هنا بين أجزائهما؛ إذ الصيِّب حياةُ النباتات كما أن الإسلاميةَ حياةُ الأرواح، والبرق والرعد يشيران إلى الوعد والوعيد، والظلماتُ تريك شبهاتِ الكفر وشكوكَ النفاق.

وأما وجه النظم بين الجمل:

فاعلم أن التنـزيل لمّا قال: ﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ مشيراً إلى أنهم كالذين اضطروا إلى السفر في صحراء موحشة في ليلة مظلمة تحت مطر شديد، كأن قطراتِه مصائبُ تصيب مَرماها بصَوبها وقد ملأت الجوّ بكثرتها؛ استيقظ ذهنُ السامع منتظراً لبيان السبب في أنْ صار الصيّبُ الذي هو في الأصل رحمةٌ مرغوبةٌ مصيبةً هائلةً، فقال مصوراً لدهشته: ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ مشيراً إلى أن المطر كما هو ظرفٌ لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك لأجل عمومِه وكثرته وإحاطته كأنه ظرفٌ للّيلة المُتَفَتِتَة قطراتٍ مسودةً بين قطراته.. ثم ما من سامع يسمع ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ إلَّا وينتظر لبيان. كأن المتكلم سمع صدى الرعد من ذهن السامع فقال: ﴿وَرَعْدٌ﴾ مشيراً إلى تهويل الحال وتشديدها بأن السماء -أميرَ الموجودات- عزمتْ على إهلاكهم، وتصيح عليهم برعدها؛ إذ المصابُ المدهوش يتخيل من الكائنات المتعاونة على إضراره حركةً مزعجة تحت سكونها، ونطقاً مهيباً تحت سكوتها. فإذ سمع الرعدَ توهَّم أنها تتكلم بما يهدده وتصيح عليه؛ إذ بالخوف يحسب كلَّ صيحةٍ عليه.. ثم إن السامع لا يسمع الرعدَ إلّا ويستهل فيبرق في ذهنه رفيقه الدائميّ، ولذلك قال: ﴿وَبَرْقٌ﴾ مشيراً بالتنكير إلى أنه غريبٌ عجيب. نعم، هو في نفسه عجيب؛ إذ بتولّده يموت عالَمٌ من الظلمات فتطوى وتلقى إلى العدم، وبموته فجأة يحيى ويحشر عالمٌ من الظلمات. كأنه نار حينما تنطفئ تورث مِلءَ الدنيا دخاناً. ومن شأن المصاب بها أن يمعن النظر ولا يمرّ بنظر سطحي بناءً على الألفة والمناسبة حتى يتكشف عن دقائق صُنع القدرة..

ثم بعد هذا التصوير كأن ذهنَ السامع يتحرك سائلاً: كيف يعملون؟ وبِمَ يتشبثون؟ فقال: ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مشيرا إلى أن لا مناص ولا ملجأ ولا منجى لهم حتى إنهم كالغريق يتمسكون بما لا يُتَمَسك به. فمن التدهّش يستعملون الأصابع موضع الأنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيُدخلون الأصابع من الوجع في الآذان، ومن التبلّه أنهم يسدّون الآذان لئلا تصيبهم الصواعق.. ثم بعد هذا يتحرى ذهنُ السامع سائلاً: أعَمَّت المصيبةُ أم خَصّت فيُرجى؟ فقال: ﴿وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ﴾ مشيراً إلى أن هذه المصيبة جزاءٌ لكفرانهم النعمة. يؤاخذهم الله تعالى به لشذوذهم عن القانون الإلهي المودَع في الجمهور. ثم لما سمع شدةَ الرعد يحدّث نفسه بـ«أَلَا يفيدُهم البرق بإراءة الطريق»؟ فقال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ ﴾ مشيراً إلى أنه كما أن الرعد يعاديهم فلا يستطيعون السمعَ؛ كذلك البرقُ يخاصمهم بإضاءته فيُظلم أبصارَهم.. ثم بعد سماع تجاوب الكائنات على عداوتهم ينادي ذهنُ السامع بـ«فما مصير حالهم وما يفعلون؟ وبمَ يشتغلون؟» فقال: ﴿كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوامشيراً إلى أنهم مشوشون مترددون متحيّرون مترقبون لأدنى فرصة ولأدنى رؤية للطريق. فكلما تراءت لهم يتحركون، لكن كحركة المذبوح لاضطراب أرواحهم، ويتخطّون خطى يسيرة مع علمهم بأن لا فائدة، وكلما غشيَتهم الظلمةُ فجأة ينجمدون في مقامهم.. ثم يستعد ذهنُ السامع للاستفسار بـ«لِمَ لا يموتون أو يعْمَون أو يَصَمُّون بالمرّة فيخلصون عن الاضطراب؟» فقال: ﴿وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ ﴾ أي ليسوا مستحقين للخلاص من الاضطراب، ولهذا لا تتعلق المشيئةُ بإماتتهم، ولو تعلقت لتعلقت بذَهاب سمعهم وبصرهم. ولكنّ بقاءَ السمع لاستماع العقاب ووجودَ البصر لرؤية العذاب أجدرُ بمن شذّ ونشَزَ عن قانونه تعالى..

ثم إنَّ هذه القصة لما احتوت على نقاط يتلوّح من معاطفها استطراداً: العظمةُ والقدرة الإلهية وتصرّفُه تعالى في الكائنات، ولاسيما يتذكّر السامع تبعاً في تلافيفها عجائب الرعد والبرق والسحاب، كان من حق السامع المتيقظِ وجدانُه أن يعلن ويقول: «سبحانه ما أعظمَ قدرةَ مَنْ هذه الكائنات تَجَلِّي هيبتِه، وهذه المصيباتُ تَجلِّي غضبه». فقال: ﴿اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾.

وأما نظم هيئات جملة جملة:

فاعلم أن ﴿اَوْ﴾ في ﴿اَوْ كَصَيِّبٍ﴾ إشارة إلى انقسام حال الممثّل إلى قسمين، ورمز إلى تحقيق المناسبة بين التمثيلين وبينهما وبين الممثَّل له، وإيماء إلى مسلَّمية المشابهة.. وأيضاً متضمنٌ لـ«بل» التَرْقِيَة؛ إذ التمثيل الثاني أشدُّ هَوْلاً.

وأن ﴿كَصَيِّبٍ﴾ لعدم مطابقته للمَمثّل يقتضي تقديرَ لازمٍ، والسكوتُ عن إظهار المقدَّر للإيجاز، والإيجاز في اللفظ لإطناب المعنى بإحالته على خيال السامع بالاستمداد من المقام. فبعدم المطابقةِ كأنه يقول: أو كالذين سافروا في صحراءَ خاليةٍ وليلةٍ مظلمة فأصابتهم مصائبُ بصيّبٍ.

وأن العدول عن لفظ المطر المأنوس المألوف إلى الصيّب رمز إلى أن قطرات ذلك المطر كمصائبَ تُرمى إليهم بقصدٍ فتصيبُهم مع فقد الساتر عليهم.

وأن ذكر ﴿مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ مع بداهةِ أن المطر لا يجيء إلّا من جهتها، إيماءٌ بالتخصيص إلى التعميم، وبالتقييد إلى الإطلاق نظيرَ التقييد في ﴿وَمَا مِنْ دَٓابَّةٍ فِي الْاَرْضِ وَلَا طَٓائِرٍ يَطيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ (الأنعام:38) أي مُطبِقٌ آخذٌ بآفاق السماء. وما استدل بعضُ المفسرين بلفظ ﴿مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ هنا وفي آيةِ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ (النور:43) على نزول
المطر من جِرم السماء حتى تَخيل «بعضٌ» وجودَ بحرٍ تحت السماء، فنظرُ البلاغة لا يرى عليه سكةَ الحقيقة. بل المعنى: من جهة السماء، والتقييدُ لمَا عرفت. وقد قيل: السماء ما علاك. فالسحاب كالهواء سماء.

وتحقيق المقام: هو أنك إن نظرتَ إلى القدرة، تتساوى الجهاتُ، أي يمكن النـزول من أية جهة كانت؛ وإن نظرت إلى الحكمة الإلهية المؤسِّسة للنظام الأحسن في الأشياء المستلزِم لمحافظة الموازنة العمومية المرجِّحة لأقرب الوسائل، فالمطر إنما هو من تكاثف البخار المائي المنتشر في كرة الهواء التي أحدُ أجزائها العشرة ذلك البخار المائيّ المنتشر في أعماقها.

وتوضيحه: أن ذراتِه إذا أمرَتها الإرادةُ الإلهية، يتمثل كلٌّ، ويتسللنَ من الأطراف، ومن كل فجٍ عميق. فيتحزَّبن سحاباً هامراً. ثم بإرادةِ آمرها يشتدّ تكاثفُ بعضٍ فتصير قطراتٍ تأخذها بأيديهم الملائكةُ الذين هم ممثلو القوانين ومَعكس النظامات، لئلا يزاحِمَ ويصادم بعضٌ بعضاً، فيضعونها على الأرض. ولأجل محافظة الموازنة في الجوّ لابد من بدلِ ما يتحلّل بالتقطر، فيُبخَّر البحرُ والأرضُ فيملأ منازلها. وأما تخيّل بعضٍ وجودَ بحر سماويّ فمَحْمِله أنه تَصور المجاز حقيقةً؛ إذ لإراءة خُضرةِ الجوّ لونَ البحر، ولاحتواءِ الجو على ماءٍ أكثرَ من البحر المحيط ما استُبعِد تشبيهُه بالبحر.

أما ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ فاعلم أن الجمود على الظاهر مع التوقّد في استعارتها جمود بارد وخمود ظاهر. إذ كما تَضمَّنَ: ﴿قَوَاريرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ (الإنسان:16) استعارةً بديعة؛ كذلك يحتوي ﴿مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ على استعارة بديعة عجيبة مستملحة. فكما أن ظروف الجنة لم تكن من الزجاجة ولا من الفضة بل في شفافية الزجاج وبياض الفضة، ومن حيث إن الزجاجة لا تكون من الفضة لتخالف النوعين أشار إلى الاستعارة بالإضافة بذكر ﴿مِنْ﴾، كذلك ﴿مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ متضمنة لاستعارتين مؤسستين على خيال شعريّ بالنظر إلى السامع. وذلك الخيال مبني على ملاحظة المشابهة والمماثلة بين تمثل العالم العلويّ وتشكل العالم السفليّ. وتلك الملاحظة مبنية على تصور المسابقة والرقابة بين الأرض والجوّ في لبس الصور من يد القدرة، كأن الأرض لما برزت بجبالها اللابسة للبيض من حُلل الثلج والبَرَد في الشتاء، والمتعممة بها في الربيع. ثم تزينت في الصيف ببساتينها المتلونة فأظهرت في نظر الحكمة بانقلاباتها معجزةَ القدرة الإلهية، قابلَها جوُّ السماء محاكياً لها مسابقاً معها لإظهار معجزة العظمة الإلهية فبرز متبرقعاً ومتقمصاً بالسحاب المتقطع جبالاً وأطواداً وأودية، والمتلون بألوان مختلفة مصوِّرة لبساتين الأرض، ملوحاً ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها.

فبناء على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخياليّ استَحسن أسلوبُ العرب تشبيهَ السحاب لاسيما الصيفيّ بالجبال والسفن والبساتين والأودية وقافلة الإبل كما تسمع من العرب في خطبهم. فيخيل إلى نظر البلاغة أن قطعات السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة في الجو، كأن الرعد راعيها وحاديها كلما هزّ عصا بَرقه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت، وتراءت جبالاً صادفت الحشر، أو سفناً يلعب بها يد العاصفة، أو بساتين ترججها من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قطاع الطريق، ومع ذلك يسيرون ويجرون بأمر خالقهم حتى كأن كل ذرة من ذرات ذلك البخار تكمَّنتْ في مكانها أوّلا ساكتة ساكنة منتظرة لأمر خالقها. ولما ناداها الرعدُ -كالآلة المعروفة في العسكر- بـ«حَيَّ على الاجتماع والاتحاد!» تسارعوا من منازلهم مهطعين إلى داعيهم فيحشرون سحاباً. ثم بعد إيفاء الوظيفة وأمرِهم بالاستراحة يطير كلٌ إلى وكره.. فبناءً على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال -إذ الجبل لجذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره ويلبس لباسه- وعلى تلون السحاب بنظير بياض الثلج والبَرد وتكيّفه برطوبتهما وبرودتهما، وعلى وجود الأخوّة بينهما ومبادلة الصورة واللباس لهما في كثير من مواضع القرآن ومصافحتهما في منازل التنـزيل كمحاورتهما ومعانقتهما في كثير من سطور صحيفة الأرض من كتاب العالم، فترى السحاب متوضعاً على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسىً لسفن السحاب تُرسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير اليه؛ استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة أن يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه. فإذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات فـ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ أيْ من جهة السماء. ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾ أي من سحاب كالجبال. ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ أي في لونه ورطوبته وبرودته.

فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي أتقن كل شيء صنعاً.

أما هيئات جملةِ ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ المسوقة للتهويل؛

فتقديم ﴿فيهِ﴾ إشارة إلى أن خيال المصاب المدهوش والسامعِ المستحضِر خيالُه لتلك الحال يتوهم أن ظلمات الليالي الكثيرة أفرغت بتمامها في تلك الليلة.

وأما الظرفية مع أن الصيِّب مظروف فرمز إلى أن المتدهش بتلك المصيبة يظن فضاء العالم حوضاً قد ملئ من المطر، فما الليل إلا مظروف مفتت بين أجزائه.

وأما جمع «الظلمات» فإيماء إلى تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه، ومن تقارب دفعات المطر وتكاثف قَطْره، ومن تضاعف ظلمة الليل.

وأما تنكير ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ فللاستنكار ولجهل المخاطب، فهو تأكيدُ ﴿ظُلُمَاتٌ﴾.

وأما جملةُ ﴿وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فاعلم أن المقصد تصوير حيرتهم ودهشتهم، وأن المصاب المتحير يجمع تمام دقته ونظره إلى أدنى حادث. فلإمعان النظر يتفطنون لما في الرعد والبرق من الانقلابات العجيبة والتحول الغريب. إذ بينما يرى المصابون ظلمة استولت على الكائنات وابتلعت الموجودات -نظير العدم- فتنقلب حيرتُهم بالغمِّ اليتميّ والسكوت الميتيّ؛ إذ يرون أظهر دلائل الوجود، وهو تكلُّم العلويات، ثم ظهورها بكشف الحجاب، فينقلب نظرهم إلى نظر المدهوش المتحير الخائف؛ إذ كما أنهم إذا رأوا ظلمات غير محصورة في فضاء غير متناهٍ، لا ضعفَ فيه بجانبٍ يُبقي لهم أملاً، ينظرون نظر اليأس؛ كذلك إذا فاجأهم بغتةً انعدامُ الظلمات بأن أفرغت من الفضاء، ومُلئ بدلها نوراً، ينقلب يأسهُم المطلق إلى رجاء.

اعلم أن الرعد والبرق آيتان ظاهرتان من جهة العالم الغيبيّ في أيدي الملائكة الموكلين على عالم السحاب لتنظيم قوانينه. ثم إن الحكمة الإلهية ربطت الأسباب بالمسَّببَات فإذا تشكل السحاب من بخار الماء المنتشر في الهواء؛ صار قسم حاملاً «للألكتريق» المنفي وقسم حاملاً «للألكتريق» المثبت؛ فحينما يتقاربان يتصادمان دفعة فيتولد البرق. ثم بالهجوم والانقلاع دفعة وامتلاءِ موضعه بآخرَ لعدم الخلو، يهتز وتتموج الطبقات فيتولد صدى الرعد. ولا تجري هذه الحالات إلا تحت نظام وقانون يتمثلهما مَلَكُ الرعد والبرق. وأما ظرفية الصيّب لهما مع أن الظرف هو السحاب فلأن المدهوش والسامع المتدهش بدهشته يرى الصيِّب محيطاً بكل شيء لإحاطته بنفسه.

وأما إفراد الرعد والبرق مع جمع الظلمات، فإشارة إلى أن منشأ الدهشة تخيُّلُ المُصابِ تكلمَ السماء وتهديدَها بالإرعاد، وكشْفَ الحجاب بالإبراق، وهما معنى مصدريّ، لا الكلام واليد البيضاء. وأيضاً كل منهما نوعٌ واحد وإن تعددت أفراده.

وأما تنوين ﴿رَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فبدل من الصفة، أي رعد قاصف وبرق خاطف، ودالة على عدم الأُلفة بهما بسبب التفطن بالدقة لما فيهما من العجائب.. وأيضاً فيها إيماء إلى أنهم لا يعرفون ذلك الرعد والبرق لسد السمع وغض البصر.

وأما هيئات جملة ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾

فاعلم أنها جواب لسؤال مقدَّر واستيناف حسن؛ إذ السامع لما توجه إلى هذه القصة الحسية التمثيلية حصل له مَيَلان شديد لكشف حال المصيبة. ثم بعد أن كمّل التصويرُ التصويرَ وقضى منه الوطر انثنى مجرى الميلان إلى كشف حال المصاب. فكأنه يقول السائل: كيف حال المُصاب حينئذ وبمَ يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله: ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ..﴾ الخ. أي لامناص لهم، إنما هم كالغرقى يتمسكون بغير متمسك فيريدون التحفظ من مجانيق السماويين بسد الأسماع. وكونه سبباً محالٌ، فلا سبب.

وأما لفظ ﴿يَجْعَلُونَ﴾ بدل «يُدخلون» فإيماء إلى أنهم تحروا الأسباب فما صادفوا إلَّا ما سببيته بجعلهم وظنهم فقط.. وصورة المضارع المستحضِرة للحال فرمز إلى أن السامع في مثل هذا المقام المهيج للحيرة يحضر بخياله زمان الواقعة ومكان الحادثة. ثم في المضارع استمرار تجددي. وفي استمراره إيماء إلى تواتر تَقْتَقَة السحاب.

وأما ﴿اَصَابِعَهُمْ﴾ بدل «أناملهم» فإشارة إلى شدة الحيرة باستعمال الأصابع موضع الأنامل.

وأما في ﴿اٰذَانِهِمْ﴾ فإيماء إلى شدة الخوف من صدى الرعد حتى يخيل إليهم أنه لو دخل الرعد في شبكة الآذان لطيّر الأرواحَ من أبواب الأفواه. وفيه رمز لطيف إلى أنهم لمّا لم يفتحوا آذانَهم لنداء الحق والنصيحة عوقبوا من تلك الجهة بنَعَرات الرعد، فسَدّوا هنا ما سدّوا هناك، كمن أخرج كلاماً شنيعاً مِن فيهِ يُضْرَب على فمه، فيُدخل يمينَ الندامة في فيهِ ويضع يسارَ الخجالة على عَينه.

وأما ﴿مِنَ الصَّوَاعِقِ ﴾ فإشارة إلى اتحاد الرعد والبرق على إضراره؛ إذ الصاعقة صوتٌ شديد معه نار مُحرقة تصرع مَن صادف.

وأما ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ فإشارة إلى أن البلاء جذَّ اللحمَ إلى العظم، وجاز الأحوالَ إلى الحياة، فما يعنيهم إلّا غمّ الموت وحفظ الحياة.

وأما هيئات جملة: ﴿وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ﴾.

فاعلم أن «الواو» تقتضي المناسبة، وما المناسبة إلّا بين هذه وبين التابع لمآل السابقة. فكأن هذه «الواو» تقرأ عليهم: «هم قومٌ فرّوا من العمارة ونفروا من الحضارة وعصَوا قانون كون الليل سباتاً ولم يُطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاةَ بالخروج إلى الصحراء فخابوا وأحاط بهم بلاءُ الله».

وأما لفظ ﴿اللّٰهُ﴾ فرمز إلى قطع آخرِ رجائهم؛ إذ المصاب إنما يلتجئ ويتسلَّى أولاً وآخراً إلى رحمة الله، فحين استحقوا غضبَ الله تعالى انطفأ ذلك الرجاءُ.

وأما لفظ ﴿مُحيطٌ﴾ فإيماء إلى أن هذه المصائب المحيطة آثارُ غضبه تعالى، فكما أن السماء والسحاب والصيّب والليل تهجُم عليهم من الجهات الست؛ كذلك غضبُه تعالى وبليّاتُه محيطة بهم.. وأيضاً علمُه تعالى وقدرتُه محيطان بكل الكائنات، وأمرُه شامل لكل الذرات. فكأن ﴿مُحيطٌ﴾ يتلو عليهم: لا تنفذون من أقطار السماوات والأرض، ﴿فَاَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ (البقرة:115).

وأما تعلق «الباء» فرمز إلى أنهم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفاً للسهام.

وأما التعبير بـ ﴿الْكافِرِينَ﴾ فإشارة إلى إراءة تمثال الممثَّل -أعني المنافقين- في مرآة التمثيل، لئلا يتوغل فيه ذهنُ السامع فينسى المقصد.. ورمز إلى أن المشابهة وصلت إلى درجة، وتَضايَق المسافةُ بينهما إلى حدّ يتراءَيان معاً، فتمتزج الحقيقةُ بالخيال.. وأيضاً إيماء إلى ظلمةِ قلوبهم إذ وجدانُهم أيضاً يعذبهم لقصورهم وجنايتهم؛ إذ مَن رأى جزاءَ جنايته لا يستريح وجدانُه.

وأما هيئات جملة: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ ﴾ فاستينافُها يشير إلى أن السامع يقول: ألَا ينتفعون بالبرق المخفِّف لبلاء الظلمة عنهم؟ فأُجيبَ بأنهم يخافون من الضرر فضلاً عن الفائدة.

وأما ﴿يَكَادُ﴾  فيشير -باعتبار خاصّته المشهورة- إلى وجود سببِ زوال البصر، لكن لم يزل لوجود مانع.

وأما ﴿يَخْطَفُ﴾ باعتبار استعماله كـ«اختطفتهُ الغُول والعُقاب»، ففيه بلاغة لطيفة تبرُق للذهن، وتشير إلى أن البرق يسابق شعاعَ العين، من قبل أن يصل إلى الأشياء ليأخذ صوَرَها، يمرّ هو عليه فيقطعُه ويضرب على جفنه فيذهبُ بنورِه. كأن نور العين لمّا خرج من بيته مُسرعاً لاجتناء صوَر الأشياء يسارع البرقُ الذي هو شعاع عين الليل، فيأخذ من يد شعاع العين صورتَه قبل إيصاله إلى المخزن، أي يختلس البرقُ صورتَه من يده.

وأما ﴿اَبْصَارَهُمْ﴾ فرمز -بناءً على كونها مرآةً للقلوب- إلى عمل بصائر المنافقين المتعامية عن البراهين القاطعة القرآنية.

وأما هيئات جملة: ﴿كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾

فاستينافُها يشير إلى أن السامع حينما رأى اختلافَ المصيبة وتغيّرَها سأل عن شأنهم في الحالتين فأُجيب بذلك.

وأما ﴿كُلَّمَٓا﴾ في الإضاءة و ﴿إِذَا﴾ في الإظلام، فإشارة إلى شدة حرصهم على الضياء، ينتهزون أدنى الضياءِ فرصةً. وأيضا ﴿كُلَّمَٓا﴾ متضمن لقياس مستقيم استثنائي.

وأما ﴿اَضَٓاءَ لَهُمْ﴾ بلام الأجْلية والنّفع، فرمز إلى أن المُصاب المدهوش يستغرق في حاجة نفسه حتى يَظنُّ الضياءَ الذي تنشره يدُ القدرة في العالم لآلاف حِكمٍ كلية أنه المُراد به خاصة، ويدُ القدرة إنما أرسلتْه لأجله.

وأما ﴿مَشَوْا﴾ مع اقتضاء الفرصة السيرَ السريع، فإشارة إلى أن المصيبة أقعَدَتهم، فما سيرُهم السريع إلّا مشيٌ وحركة على مهل.

وأما ﴿فيهِ﴾ فإشارة إلى أن مسافة حركتهم الضياءُ، الذي هو لون الزمان، فكأنه يحدّد لهم المكان.

وأما ﴿وَاِذَٓا﴾ فـ«الواو» رمز إلى تجديد المصيبة لتشديد التأثير. وأما الإهمال والجزئية في ﴿إِذَا﴾ عَكْسَ ﴿كُلَّمَٓا﴾ فإشارة إلى شدة نفرتهم وتعاميهم، فتأخذُهم وهم منغمسون في آنِ الفرصة.

وأما ﴿اَظْلَمَ﴾ بالإسناد إلى البرق، فإشارة إلى أن الظلمة بعد الضياء أشدُّ. وإيماءٌ إلى أن خيال المصاب لمّا رأى البرقَ طردَ الظلمةَ ثم ذهب وامتلأ موضعُه بالظلمات، يتخيل أنه انطفأ وأورث دخاناً.

وأما ﴿عَلَيْهِمْ﴾ الملوِّح بالضرر فإشارة إلى أن الإظلام ليس تصادفيا، بل جزاءٌ لعملهم. ورمزٌ إلى أن المدهوش يتخيل الظلمةَ المالئة للفضاء كأنها تَقصِد -من بين الأشياء- ذلك الإنسانَ الصغير الذليل وتجعلُه خاصةً هدفَ هجومها وإضرارها.

وأما ﴿قَامُوا﴾ بدل «سكنوا» فإشارة إلى أنهم بالمصيبة وشدة التشبّث تقوّسوا كالراكعين، كما هو شأن المجدِّين في العمل.

وأما هيئات جملة ﴿وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ ﴾ فالـ«واو» -بسر الربط- تلوّح إلى أن يدَ القدرة تتصرف تحت حجاب الأسباب، وأن نظر الحكمة يراقبُ من فوقِ جميعِ العلل.

وأما ﴿لَوْ﴾ فمتضمنةٌ لقياس استثنائيّ غيرِ مستقيم. أي عدمُ المشيئة علةٌ لعدم ذهابهما؛ كما أن عدمَ الذهاب دليلٌ على العلم بعدم المشيئة بذهابهما. وأيضاً رمز إلى أن السبب بلغَ النهاية.

وأما ﴿شَٓاءَ﴾ فإشارة إلى أن الرابط بين السبب والمسبَّب إنما هي المشيئة والإرادة الإلهية. فالتأثيرُ للقدرة، وما الأسباب إلّا حجابُ العزة والعظمة؛ لئلا تباشرَ يدُ القدرة بالأمور الخسيسة في ظاهر نظرِ العقل.

وأما التصريحُ بلفظة ﴿اللّٰهُ﴾ فإشارة إلى زجر الناس عن الابتلاء بالأسباب والانغماس فيها. وأيضاً لدعوة الأذهان إلى رؤية يدِ القدرة خلفَ كل الأسباب.

وأما حذفُ مفعول ﴿شَٓاءَ﴾ وإن كان واجباً بالقاعدة المطّردة، فيجوز بقرينة إخوانه أن يكون إيماءً إلى عدم تأثّر المشيئة والإرادة الإلهية بأحوال الكائنات، وعدم تأثير الأشياء في الصفات الإلهية، كما تتأثر إرادةُ البشر بحُسن الأشياء وقبحها وعظمتِها وصِغَرها.

وأما ﴿لَذَهَبَ﴾ فإشارة إلى أن الأسبابَ ليست مسلطةً ومستولية على المسبّبات، حتى إذا رُفعت بقيت المسبباتُ في جوف العدم تلعب بها يدُ التصادف وتشتّتها بالاتفاق؛ بل يدُ القدرة حاضرةٌ خلف الأسباب. إذا أخرجت الأشياءَ تأخذها يدُ الحكمة الإلهية، بقانون الموازنة والانتظام، ترسلها إلى مواقعَ أُخر ولا تُهملها. كما أن الحرارة إذا خرّبت بُنية الماء، فبالنظام المندمج في الهواء يذهب البخارُ في مجرى معيّن ويسوقُه صانعُه إلى موقع معين. وكذا في ﴿ذَهَبَ﴾ رمز إلى أن الحواسَّ الخمس الظاهرة ليست متولدةً عن الطبيعة، ولا لازمةً لتجاويف السمع والبصر، بل إنما هي هداياه تعالى وعطاياه. وما التجاويفُ والأسباب إلّا شرائطُ عاديةٌ.

وأما التعديةُ بـ«الباء» بدلَ «الهمزة» فإيماء إلى أن يد القدرة لا تُطلق الأشياءَ عن حبل الأسباب، غَاربُها على عنقها بل تضع أزمّتها بيد نظام.

وأما إفراد «السمع» مع جمع «البصر» فإشارة إلى إفراد المسموع وتعدّد المُبصَر، إذ ألفُ رجل يسمعون شيئاً واحداً مع تخالف المبصَرات.

وأما هيئات جملة: ﴿اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ فاعلم أنها فذلكة لتحقيق الدهشة في التمثيل والممثَّل له، تشير إلى أنه كما لا تهمل دقائق أحوال المصابين المتمثلة لجزئيات أحوال المنافقين؛ كذلك يُرى في كل ذرة تصرّف القدرة الإلهية.

وأما ﴿اِنَّ﴾ فمع إشارتها إلى أن هذا الحكم من الحقائق الراسخة، رمزٌ إلى عظمة المسألة ووُسعَتها ودقّتها، وعجزِ البشر وضعفه وقصوره عنها، المولِّدة للأوهام المُنتجة للتردّد في اليقينيات.

وأما التصريحُ بلفظة ﴿اللّٰهَ﴾ فإيماء إلى دليل الحُكم، إذ القدرة التامة الشاملة لازمةٌ للألوهية.

وأما ﴿عَلٰى﴾ فإيماء إلى أن القدرة المُخرِجةَ للأشياء من العدم، لا تتركها سُدىً هَملاً، بل ترقُب عليها الحكمةُ وتربّيها.

وأما ﴿كُلِّ﴾ فإشارة إلى أن آثار الأسباب، والحاصلَ بالمصدر من الأفعال الاختيارية أيضاً بقدرته تعالى.

وأما لفظ ﴿شَيْءٍ﴾ بمعنى مَشيء، أي ما تعلقت به المشيئةُ، فإشارة إلى أن الموجودات بعد وجودها لا تستغني عن الصانع، بل تفتقر في كلِّ آنٍ لبقائها -الذي هو تكرّر الوجود- إلى تأثير الصانع.

وأما لفظ ﴿قَديرٌ﴾ بدل «قادر» فرمز إلى أن القدرة ليست على مقدار المقدورات فقط، وأنها ذاتية لا تغيّر فيها، ولازمةٌ لا تقبل الزيادة والنقصان، لعدم إمكانِ تخلّلِ ضدِّها حتى تترتب شدةً ونقصاناً.. وتلويحٌ إلى أن القدرة كالجنس وكميزان الصّرف، أعني: «فَعَلَ» لجميع الأوصاف الفعلية من الرزاق والغفار والمحيي والمميت وغيرها. تفكّر فيما سمعتَ حقَّ التفكر!

الآية (17-18)

﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّٓا اَضَٓاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ﴿17﴾ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿18﴾ اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ ﴿19﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ۟﴿20﴾﴾

 

اعلم أن أساس إعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه. وبلاغة النظم على قسمين:

قسم كالحِلية وقسم كالحُلّة:

فالأول:

كاللآلئ المنثورة والزينةِ المنشورة والنقش المرصّع. ومَعدِنُه الذي يتحصّل منه هو: توخّي المعاني النحوية الحرفية فيما بين الكَلِم، كإذابة الذهب بين أحجار فضة. وثمراتُ هذا النوع هي اللطائفُ التي تعهّد بيانَها فنُّ المعاني..

والقسم الثاني:

هو كلباسٍ عالٍ وحُلَّة فاخرة قُدّت من أسلوبٍ على مقدار قامات المعاني، وخيطَت من قِطَعات خيطاً منتظماً فيُلبَس على قامة المعنى أو القصة أو الغرض دفعةً. وصَنّاع هذا القسم والمتكفِّل به فنُّ البيان.. ومن أهم مسائل هذا القسم التمثيلُ. ولقد أكثرَ القرآن من التمثيلات إلى أن بلغت الألفَ؛ لأن في التمثيل سرّاً لطيفاً وحكمةً عالية؛ إذ به يصير الوهمُ مغلوباً للعقل، والخيالُ مجبوراً للانقياد للفكر، وبه يتحول الغائبُ حاضراً، والمعقولُ محسوساً، والمعنى مجسّماً، وبه يُجعَل المتفرق مجموعاً، والمختلطُ ممتزجاً، والمختلف متّحداً، والمنقطع متصلاً، والأعزل مسلّحاً. وإن شئت التفصيل فاستمع معي لما يترنّم به صاحبُ «دلائل الإعجاز» في أسرار بلاغته؛ حيث قال:

فصل في مواقع التمثيل وتأثيره

اعلم أنَّ مما اتفق العقلاءُ عليه، أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو بَرَزتْ هي باختصار في معرضه، ونُقِلَتْ عن صُوَرها الأصلية إلى صورته،كساها أُبَّهةً، وكَسَبها مَنْقَبةً، ورفع من أقدارها، وشَبَّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوبَ إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صَبابة وكلَفاً، وقَسَر الطِباع على أن تُعطيها محبة وشغفاً.

فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخمَ، وأنبلَ في النفوس وأعظمَ، وأهزَّ للعِطْف، وأسرعَ للإلف، وأجلبَ للفرح، وأغلبَ على الممتدح، وأوجَبَ شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرِّ المواهب والمنائح، وأسْيَرَ على الألسن وأذكرَ، وأولى بأن تعْلَقَه القلوبُ وأجدرَ.

وإن كان ذماً كان مَسُّه أوجعَ، ومِيسمُه ألذَع، ووقعُه أشدَّ، وحدُّه أحدَّ.

وإن كان حِجاجاً كان برهانُه أنورَ، وسلطانُه أقهرَ، وبيانه أبهَر.

وإن كان افتخاراً كان شأوه أبعدَ، وشرفه أجدَّ، ولسانه ألدَّ.

وإن كان اعتذاراً كان إلى القلوب أقربَ، وللقلوب أخلبَ، وللسخائم أسلّ، ولغرب الغَضَبْ أفلَّ، وفي عُقَد العقود أنفثَ، وعلى حُسن الرجوع أبعثَ.

وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغَ في التنبيه والزجر، وأجدرَ بأن يَجْلي الغياية، ويبصر الغاية، ويُبرئ العليل، ويشفي الغليل…

وهكذا الحُكم إذا استقريتَ فُنونَ القول وضروبَهُ، وتتبعت أبوابَه وشُعوبه. انتهى..

* * *

ثم إنَّ في الآيات الآتية دلائل إعجاز وأسرار بلاغة فذكرناها هنا لمناسبتها لمسائل المقدمة الآتية.

فمثال التمثيل في مقام المدح:

ما ذكره القرآن في وصف الصحابة مِن ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الْاِنْجيلِ۠ كَزَرْعٍ اَخْرَجَ شَطْـَٔهُ۫ فَاٰزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوٰى عَلٰى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ (الفتح:29). وقس نظائره..

وفي مقام الذم:

﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ اِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ اَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ (الأعراف:176)، و﴿مَثَلُ الَّذينَ حُمِّلُوا التَّوْرٰيةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ اَسْفَارًا﴾ (الجمعة:5)، و﴿اِنَّا جَعَلْنَا فٓي اَعْنَاقِهِمْ اَغْلَالًا فَهِيَ اِلَى الْاَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾ (يس:8)، وقس.

وفي مقام الاحتجاج والاستدلال:

﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ (البقرة:17) و﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ…﴾ إلى آخره (البقرة:19)، و﴿وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ اِلَّا دُعَٓاءً وَنِدَٓاءً﴾ (البقرة:171)، و﴿مَثَلُ الَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ اَوْلِيَٓاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتًا﴾ (العنكبوت:41)، و﴿اَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَسَالَتْ اَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَٓاءَ حِلْيَةٍ اَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ﴾ (الرعد:17)، و﴿ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلًا فيهِ شُرَكَٓاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ (الزمر:29). وقس عليه.

ونظير مثال الافتخار وإن لم يُسمَّ افتخاراً بيانُ عظمته تعالى وكمالاته الإلهية قولُه تعالى:

﴿وَمَا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهۗ وَالْاَرْضُ جَميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه سُبْحَانَهُ وَتَعَالٰى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الزمر:67) وقس عليه.

ومثال التمثيل في مقام الاعتذار لا يوجد إلَّا حكايات أهل الأعذار الباطلة للاحتجاج عليهم كقوله: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾ (البقرة:88). ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فٓي اَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَٓا اِلَيْهِ وَفٓي اٰذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ (فصلت:5)، وقس…

ومن الشعر:

لا تَحْسَبُوا أَنَّ رَقْصِي بيْنَكُمْ طَرَبٌ   فَالطّيْرُ يَرْقُصُ مَذبُوحاً مِنَ الألمِ

ومثاله من الوعظ في وصف نعيم الدنيا:

ما ذكره القرآن مِن: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ اَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهيجُ فَتَرٰيهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ (الحديد:20)، و﴿اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللّٰهَ اَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَسَلَكَهُ يَنَابيعَ فِي الْاَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِه زَرْعًا مُخْتَلِفًا اَلْوَانُهُ﴾ (الزمر:21)، و﴿اِنَّا عَرَضْنَا الْاَمَانَةَ عَلَى السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَالْجِبَالِ فَاَبَيْنَ اَنْ يَحْمِلْنَهَا وَاَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْاِنْسَانُ اِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ (الأحزاب:72)، و﴿لَوْ اَنْزَلْنَا هٰذَا الْقُرْاٰنَ عَلٰى جَبَلٍ لَرَاَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْاَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الحشر:21)، و﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضينَ ﴿49﴾ كَاَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ﴿50﴾ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ (المدثر:49-51)، و﴿مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ اَمْوَالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ اَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ (البقرة:261) و﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ اَصَابَهَا وَابِلٌ فَاٰتَتْ اُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَاِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ..﴾ (البقرة:265).

وفي إحباط العمل الصالح بالإيذاء والرياء:

﴿اَيَوَدُّ اَحَدُكُمْ اَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخيلٍ وَاَعْنَابٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ لَهُ فيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَاَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَٓاءُۖ فَاَصَابَهَٓا اِعْصَارٌ فيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾ (البقرة:266) ﴿مَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ اَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍۨ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلٰى شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعيدُ﴾ (إبراهيم:18).

ومثاله من طبقات الكلام في مقام الوصف:

﴿ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْاَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا اَوْ كَرْهًا قَالَتَٓا اَتَيْنَا طَٓائِعينَ﴾ (فصلت:11)، و﴿وَقيلَ يَٓا اَرْضُ ابْلَعي مَٓاءَكِ وَيَا سَمَٓاءُ اَقْلِعي وَغيضَ الْمَٓاءُ وَقُضِيَ الْاَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمينَ﴾ (هود:44)، و﴿اَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ اَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَٓاءِ ﴿24﴾ تُؤْتٓي اُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِاِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم:24-25)، و﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍۨ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْاَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ (إبراهيم:26)…

ومن الشعر:

والليلُ تَجري الدَّراري في مَجَرَّتِه   كالروضِ تطفو على نهرِ أزاهيره

اعلم أن في كل آية من هذه الآيات التمثيلية طبقاتٍ ومراتبَ وصوراً وأساليبَ متنوعة. كلٌّ منها -في كلٍّ منها- كفيلٌ وضامن لطائفة من الحقائق. وكما أنك إذا أخذتَ قواريرَ من فضةٍ وزيَّنتها بذَوب الذهب، ثم نقشتَها بجواهرَ، ثم صيّرتَها ذوات نور بإدراج «الألكتريق» ترى فيها طبقاتِ حُسنٍ وأنواعَ زينةٍ؛ كذلك في كلٍّ من تلك الآيات من المقصد الأصليّ إلى الأسلوب التمثيليّ قد شُرِعَت إشاراتٌ ومُدّت رموزٌ إلى مقامات كأن أصلَ المقصد تدحرجَ على المراتب وأخذ من كلٍّ لوناً وحصةً حتى صارت تلك الكلماتُ من جوامع الكلماتِ بل من جَمعِ الجوامع.

فصل ومقدمة

اعلم أن المتكلم كما يفيد المعنى ثم يُقْنِـع العقلَ بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي إلى الوجدان حسِّياتٍ بواسطة صوَر التمثيل، فيحرّك في القلب المَيلَ أو النَّفرةَ ويهيئُه للقبول. فالكلام البليغ، ما استفاد منه العقلُ والوجدانُ معاً، فكما يتداخل إلى العقل يتقطّر إلى الوجدان أيضاً. والمتكفِّل لهذين الوجهَين التمثيلُ؛ إذ هو يتضمن قياساً وينعكس به في مرآة الممثَّلِ القانونُ المندمج في الممثّل به. فكأنه دعوى مدلَّل. كما تقول في رئيس يكابد البلايا لراحة رعيته: «الجبل العالي يتحمّل مشاقّ الثلج والبَرَد، وتخضرّ من تحته الأوديةُ».

ثم إن أساس التمثيل هو التشبيه. ومن شأن التشبيه تحريكُ حسّ النَّفرة أو الرَّغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف إلى آخره… فبصورةِ الأسلوب يُوقَظ الوجدانُ وينبَّه الحسُّ بميلٍ أو نَفرة.

ثم إن مما يُحوِج إلى التمثيل عمقَ المعنى ودقّتَه ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرُّقَ المقصد وانتشارَه ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن؛ إذ هي عند أهل التحقيق نوعٌ من التمثيلات العالية وأساليبُ لحقائق محضة ومعقولاتٍ صرفة؛ ولأن العوام لا يتلقَّون الحقائقَ في الأغلب إلّا بصورة متخيّلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة إلّا بأساليب تمثيلية، لم يكن بدٌّ من المتشابهات كـ ﴿اسْتَوٰى عَلَى الْعَرْشِ﴾ (الأعراف:54) لتأنيس أذهانهم ومراعاة أفهامهم.

ثم إني استخرجتُ -فيما مضى من الزمان- من أُسِّ أساس البلاغة مقدِّمةً لبيان إعجاز القرآن ثنتَي عشرة مسألة. كلٌّ منها خيطٌ لحقائق ولما ذُكرت هذه الآيات التمثيلية هنا -دفعةً- ناسبَ تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:

المسألة الأولى

إنَّ منشأ نقوش البلاغة إنما هو نظمُ المعاني دون نظم اللفظ، كما جرى عليه اللفظيون المتصلّفون، وصار حبُّ اللفظ فيهم مرضاً مزمناً إلى أن ردَّ عليهم عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثرَ من مائة صحيفة.

ونظمُ المعاني: عبارة عن توخّي المعاني النحوية فيما بين الكلمات أي إذابة المعاني الحَرفية بين الكَلِم لتحصيل النقوش الغريبة. وإن أمعنتَ النظر لرأيت أن المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات إنما هو نظمُ المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيَّد بقوانين المنطق.. وأسلوبُ المنطق هو الذي يتسلسل به الفكرُ إلى الحقائق.. والفكر الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفُذُ في دقائق الماهيات ونِسَبها.. ونِسَب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَفُ للحُسن المجرد الذي هو منبعُ كلِّ حُسن.. والحسنُ المجرّد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائفَ ومزايا.. وتلك الجنة المُزهرة هي التي يجولُ ويتنـزّه فيها البلابلُ المسمّاة بالبلغاء وعشّاقِ الفطرة.. وأولئك البلابلُ نغماتُهم الحلوة اللطيفة إنما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.

والحاصل: أنَّ الكائنات في غاية البلاغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة، فكلُّ صورة وكل نوع منها -بالنظام المندمج فيه- معجزةٌ من معجزات القدرة. فالكلام إذا حذا حذوَ الواقع، وطابق نظمُه نظامَه حازَ الجزالةَ بحذافيرها. وإلّا فإنْ توجَّه إلى نظم اللفظ وقعَ في التصنّع والرياء، كأنه يقع في أرض يابسة وسراب خادع.

والسرّ في الانحراف عن طبيعة البلاغة أنه: لما انجذب واستعرب العجمُ بجاذبة سلطنة العرب صارت صنعةُ اللفظ عندهم أهمَّ، وفسد بالاختلاط مَلَكةُ الكلام المُضَريّ التي هي أساسُ بلاغة القرآن، وتلوَّن مَعكِسُ أساليب القرآن؛ وإنما معدنها من حسّيات قوم «مُضَر» ومزاجهم. فاستهوى حبُّ اللفظ كثيراً من المتأخرين.

تذييل: تزيينُ اللفظ إنما يكون زينةً إذا اقتضته طبيعةُ المعاني. وشعشعةُ صورة المعنى إنما تكون حشمةً له إذا أذِن به المآلُ. وتنويرُ الأسلوب إنما يكون جزالةً إذا ساعده استعدادُ المقصود. ولطافةُ التشبيه إنما تكون بلاغةً إذا تأسّست على مناسبة المقصود وارتضى به المطلوبُ. وعظمةُ الخيال وجولانُه إنما تكون من البلاغة إذا لم تؤلِم الحقيقةَ ولم تثقُل عليها، ويكون الخيال مثالاً للحقيقة متَسَنْبِلاً عليها. وإن شئت الأمثلة الجامعة لتلك الشرائط فعليك بتلك الآيات التمثيلية المذكورة قبل المقدمة.

المسألة الثانية

إنَّ السحر البياني إذا تجلّى في الكلام صيّرَ الأعراض جواهرَ، والمعانيَ أجساماً، والجماداتِ ذواتِ أرواحٍ والنباتاتِ عقلاءَ، فيوقِع بينها محاورةً قد تنجرّ إلى المخاصمة، وقد تُوصل إلى المطايبة فترقُص الجماداتُ في نظر الخيال.

وإن شئت مثالاً فادخُل في هذا البيت:

يُنَاجِينيَ الإِخْلَافُ مِنْ تَحْتِ مَطْلِهِ   فَتَخْتَصِمُ الآمَالُ وَالْيَأْسُ في صَدْرِي

أو استمع معاشقةَ الأرض مع المطر في:

تَشَكَّى الأَرضُ غَيْبَتَهُ إلَيْهِ     وَ تَرْشُفُ مَاءَهُ رَشْفَ الرُضابِ

فهذه الصورة إنما تسنبلت على تصوّت الأرضِ اليابسة بنـزول المطر بعد تأخّرٍ. ولابد في كل خيال من نواةٍ من الحقيقة نظيرَ هذا المثال، ولابد في زجاجةِ كلِّ مجازٍ من سراج الحقيقة، وإلّا كانت بلاغتُه الخيالية خرافةً بلا عِرقٍ لا تفيد إلّا حيرةً.

المسألة الثالثة

اعلم أن كمال الكلام وجمالَه وحُلَّتَه البيانية بأسلوبه. وأسلوبُه صورةُ الحقائق وقالبُ المعاني المتّخذ من قطعَات الاستعارة التمثيلية. وكأن تلك القطعاتِ «سيِمُوطُوغْرَاف» خياليّ؛ كإراءة لفظِ «الثمرة» جنتَها وحديقتَها، ولفظِ «بارَزَ» معركةَ الحرب.

ثم إن التمثيلات مؤسسةٌ على سرّ المناسبات بين الأشياء، والانعكاسات في نظام الكائنات، وإخطارِ أمور أموراً؛ كإخطار رؤيةِ الهلال في الثريا في ذهن أبناء النخلة غصنَها الأبيض بالقدم المتقوس بتدلي العنقود. وفي التنزيل:

﴿حَتّٰى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديمِ﴾ (يس:39)

ثم إنَّ فائدة أسلوبِ التمثيل كما في الآيات المذكورة هي أنّ المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يُظهر العروقَ العميقة، ويُوصل المعاني المتفرقة. وإذا وضع بيد السامع طرفاً أمكنَ له أن يجرّ الباقي إلى نفسه، وينتقل إليه بواسطة الاتّصال. فبرؤية بعضٍ يتدرج شيئاً فشيئاً -ولو مع ظُلمة- إلى تمامه. فمن سمِع من الجوهريِّ ما قال في وصف الكلام البليغ: «الكلام البليغ ما ثقبَته الفكرةُ».. ومن الخمّار ما قال فيه: «ما طُبخَ في مراجل العلم».. ومن الجمَّال ما قال فيه: «ما أخذتَ بخطامِه وأنَخْتَهُ في مَبْرك المعنى» ينتقل إلى تمام المقصد بملاحظة الصنعة.

ثم إنَّ الحكمة في تشكل الأسلوب هي أن المتكلم بإرادته ينادي ويوقِظ المعانيَ الساكنة في زوايا القلب كأنها حفاةٌ عراةٌ. فيخرجون ويدخلون الخيالَ، فيلبَسون ما يجدون من الصور الحاضرة بسبب الصنعةِ أو التوغل أو الألفة أو الاحتياج، ولا أقل من لفِّ منديلٍ من تلك الصنعة برأسه، أو الانصباغ بلونٍ ما. وما تجدُه في ديباجة الكتب من براعةِ الاستهلال مِنْ أظهرِ أمثلة هذه المسألة.

ثم إن أسلوب الكلام قد يكون باعتبار خيالِ المخاطَب كما في أساليب القرآن فلا تنسَ.

ثم إن مراتب الأسلوب متفاوتةٌ، فبعضها أرقُّ من النسيم إذا سرى يُرمَز اليه بهيئات الكلام، وبعضها أخفى من دسائس الحرب لا يشمّه إلّا ذو دهاء في الحرب؛ كاستشمام الزمخشري مِن ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ﴾ (يس:78) أسلوبَ «مَن يبرزُ إلى الميدان».

وإن شئت فتأمّل في الآيات المذكورة ترَ فيها مصداقَ هذه المسائل بألطف وجهٍ.

وإن شئت زُرِ الإمامَ البوصيريَّ وانظر كيف كتب «رَجَتَتَهُ» بأسلوب الحكيم في قوله:

وَاسْتَفْرغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأتْ   مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ

ورَمز إلى الأسلوب بلفظ الحِمية. أو استمع هدهدَ سليمان كيف أومأ إلى هندسته بقوله: ﴿اَلَّا يَسْجُدُوا لِلّٰهِ الَّذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ (النمل:25).

المسألة الرابعة

اعلم أن الكلام إنما يكون ذا قوّةٍ وقدرة إذا كان أجزاؤه مصداقاً لمَا قيل:

عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ   وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشيرُ

بأن تتجاوبَ قيوداتُ الكلام ونظمُه وهيئته، ويأخذ كلٌّ بيَد الآخر ويظاهِرَه، ويمدّ كلٌّ بقَدَرِه الغرضَ الكلّيِّ مع ثمراته الخصوصية. كأن الغرضَ المشترك حوضٌ يتشرّب من جوانبه الرّطبةَ، فيتولد من هذه المجاوبةِ المعاونةُ، ومنها الانتظامُ، ومنه التناسبُ، ومنه الحُسنُ والجمال الذاتي. وهذا السر من البلاغة يتلألأ من مجموع القرآن لا سيما في: ﴿الٓمٓ ﴿1﴾ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيهِ هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ كما سمعتَه مع التنظير بقوله: ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾ (الأنبياء:46).

المسألة الخامسة

اعلم أن غِناء الكلام وثروتَه ووسعتَه هو أنه كما أن أصل الكلام يُفيد أصلَ المقصد؛ كذلك كيفياتُه وهيئاته ومستتبعاتُه تشير وترمز وتلوّح إلى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنما تتراءى طبقةً بعد طبقة ومقاماً خلفَ مقام. وإن شئت مثالاً تأمل في ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْاَرْضِ﴾ إلى آخره، و﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ إلى آخره، على
الوجه المفسَّر سابقاً.

المسألة السادسة

اعلم أن المعاني المُجتناة من خريطة الكلام المأخوذةِ المنقوشة بـ«فُوطُغْراف» التلفّظ على أنواع مختلفةٍ ومراتبَ متفاوتة. فبعضُها كالهواء يُحسُّ به ولا يُرى.. وبعضها كالبخار يُرى ولا يُؤخذ.. وبعضها كالماء يُؤخذ ولا ينضبط.. وبعضها كالسبيكة ينضبط ولا يتعيّن.. وبعضها كالدُّرِّ المنتظم والذهب المضروب يتشخّص، ثم بتأثير الغرض والمقام قد يتصلّب الهوائي. وقد تعتَور على المعنى الواحدِ الحالاتُ الثلاثُ. ألا ترى أنه إذا أثَّر أمرٌ خارجي في وجدانك يتهيّج قلبُك؟ فيثير الحسياتِ فيتطايرُ معانٍ هوائية فيتولد ميولٌ، ثم يتحصّل بعضُها، ثم يتشكل من ذلك البعض قسمٌ، ثم ينعقد من ذلك القسم بعضٌ. ففي كلٍّ من هذه الطبقات يتوضّع وينعقد البعضُ، ويبقى البعض الآخر معلّقاً كمعلّقية بعضِ الصوت عند تشكّل الحروف، والتِّبنِ عند انعقاد الحبوب. فمن شأن البليغ أن يفيدَ بصريح الكلام ما تعلّق به الغرضُ واقتضاه المقامُ وطلبَه المخاطَبُ. ثم يُحيل الطبقاتِ الأُخَر -بمقدار نسبة درجة القُرب من الغرض- على دلالة القيود، وإشارةِ الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستَتبعات التراكيب، وتلميحِ الأساليب، وإيماءِ أطوار المتكلم. ثم إن من تلك المعاني المعلّقة معانيَ حرفية هوائية ليس لها ألفاظٌ مخصوصة، ولا لها وطنٌ معيّن بل كالسَيَّاح السيَّار؛ قد يستتر في كلمة وقد يتشرّبه كلامٌ وقد يتداخل في قصة، فإن عصرتَ تقطَّر؛ كالتحسّر في: ﴿اِنّي وَضَعْتُهَٓا اُنْثٰى﴾ (آل عمران:36) والتأسف في «لَيْتَ الشَّبَابَ.. الخ». والاشتياق والتمدح والخطاب والإشارة والتألّم والتحيّر والتعجب والتفاخر وغيرِ ذلك. ثم إن شرط حُسن المعاشرة بين تلك المعاني المتزاحمة تقسيمُ العناية والاهتمام على نسبة خدمتها للغرض الأساسيّ. وإن شئت مثالاً لهذه المسألة فمن رأس السورة إلى هنا مثالٌ بيّنٌ على الوجه المشروح سابقاً.

الآية (16)

﴿اُولٰٓئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدٰىۖ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدينَ ﴿16﴾﴾

اعلم أن وجه نظمها بسابقتها هو أن هذه الآية فذلكةٌ وإجمال للتفاصيل السابقة، وتصويرٌ لها بصورة عالية مؤثرة. وتخصيصُ أسلوب التجارة للتمثيل، لأجل أن المخاطَبين في الصف الأول قد ذاقوا حلوَ التجارة ومرَّها برحلتَي الصيف والشتاء.

ووجهُ المناسبة، هو أن نوع البشر أُرسل إلى الدنيا لا للتوطّن فيها، بل ليتَّجروا في رأس مالِهم من الاستعدادات والقابليات ليَزرعوا ثم يتصرفوا في غَلّاتها.

ثم إن وجه النظم بين جمل هذه الآية هو أنها ترتبت ترتبا فطريّاً سلِساً على نسق أسلوب التمثيل وهو هذا:

إن تاجراً مغبونا مخذولاً أُعطي له رأسُ مالٍ غالٍ، فاشترى به السّموم وما يضرّه، فتصرّف فيه، فلم يربح ولم يفِد؛ بل ألقاه في خسارة على خسارة، فأضاع رأسَ ماله، ثم أضلّ الطريق؛ بحيث لا يستطيع أن يرجع.

أما نظم هيئات جملة جملة:

فلفظُ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ موضوعٌ لإحضار المحسوس البعيد: أما الإحضار فإشارةٌ إلى أن من شأن كلِّ سامع إذا سمعَ تلك الجنايات المذكورة أن يحصُل شيئاً فشيئاً في قلبه نفرةٌ وغيظ يتشدد تدريجاً بحيث يريد أن يراهم ليتشفّى الغيظ منهم، ويقابلهم بالنفرة والتحقير.. وأما المحسوسية فرمزٌ إلى أن الاتّصاف بهذه الأوصاف العجيبة يجسّمُهم في الذهن حتى صاروا محسوسين نصبَ الخيال. ومن المحسوسية رمز إلى علّة الحُكم بسرّ انجرار المعصية إلى المعصية.. وأما البُعدية فإشارةٌ إلى شدّة بُعدهم عن الطريق الحق، ذهبوا إلى حيث لا يرجعون، فالذهابُ في أيديهم دون الإياب.

ولفظ ﴿اَلَّذينَ﴾ إشارة إلى أن هذا نوعٌ من التجارة عجيبٌ خبيث تحدَّثَ وطَفِقَ أن يصير أساساً ومسلكا يمرّ عليه ناس؛ إذ قد مرّ أن الموصول إشارةٌ إلى الحقائق الجديدة التي أخذت في الانعقاد.

ولفظ ﴿اشْتَرَوُا﴾ إشارة إلى ردّ اعتذارهم بـ«أن فطرتنا هكذا». فكأن القرآن يقول لهم: لا! ولقد أعطاكم الله أنفاسَ العمر رأسَ مالٍ، وأودع في روحكم استعدادَ الكمال، وغرسَ في وجدانكم نواةَ الحقيقة وهي الهدايةُ الفطرية لتشتروا السعادةَ فاشتريتم بدلَها -بل بتركها- اللذائذَ العاجلة والمنافع الدنيوية فاخترتُم بسوء اختياركم مسلكَ الضلالة على منهج الهداية، فأفسدتُم الهداية الفطرية، وضيّعتم رأسَ مالكم.

ولفظُ ﴿الضَّلَالَةَ بِالْهُدٰى﴾ فيه إشارة إلى أنهم خسِروا خسارةً على خسارة. إذ كما خسروا بالضلالة؛ كذلك خسروا بترك النعمة العظيمة التي هي الهداية.

أما جملة ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ فاعلم أن في تخصيصِ نفي الربح -مع أنهم كما قد خسروا فقد أضاعوا رأسَ المال أيضاً- إشارة إلى أن من شأن العاقل أن لا يُقْدِم على تجارة لا ربح فيها، فضلاً عما فيها خسارةٌ وإضاعةُ رأس المال.. ثم في إسناد الفعل إلى التجارة، مع أن الأصل «فما ربحوا في تجارتهم» إشارةٌ إلى أن تجارتَهم هذه بجميع أجزائها وكلِّ أحوالها وقاطبةِ وسائطها لا فائدةَ فيها، لا جزئياً ولا كليا؛ لا كبعض التجارات التي لا يكون في محصّلها وفذلكتها ربحٌ، ولكن في أجزائها فوائدُ، ولوسائط خدمتها استفاداتٌ.. أما هذه فشرٌّ محض وضررٌ بحت. ونظير هذا الإسناد «نامَ لَيْلُهُ» بدل «نام في الليل»؛ إذ الأول يفيد أن ليلَه أيضا ساكن وساكت كالنائم لا يحرِّك ليلتَه شيءٌ ولا يموِّجه طارقٌ.

وأما جملة ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدينَ﴾ -أي كما خسروا وأضاعوا المال؛ كذلك قد أضلوا الطريق- فترشيحٌ وتزيين كسابقتها لأسلوب ﴿اشْتَرَوُا﴾.. وأيضاً فيها رمز خفيٌّ إلى ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ في رأس السورة. كأنه يقول: أعطى القرآنُ الهداية فما قَبِل هؤلاء.

* * *

 

الآية (14-15)

﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا قَالُٓوا اٰمَنَّا وَاِذَا خَلَوْا اِلٰى شَيَاطينِهِمْ قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ ﴿14﴾ اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴿15﴾﴾

اعلم أن وجه نظم مآل هذه الآية بمآل سابقتها: عطفُ الجناية الرابعة، أعني الاستهزاء والاستخفاف على الجنايات السابقة من التسفيه والإفساد والفساد.

وأن وجه النظم بين جملها هو أنه: كما أن للإيمان الذي هو نقطةُ استنادٍ عن الآلام ونقطةُ استمداد للآمال ثلاثَ خواص حقيقية:

إحداها: عزةُ النفس الناشئة من «نقطة الاستناد»، ومن شأن عزة النفس عدمُ التنزّل للتذلّل.

والثانية: الشفقةُ التي من شأنها عدم التذليل والتحقير.

والثالثة: احترامُ الحقائق ومعرفةُ قيمتها، لأن صاحبَ غالي القيمة ذو حقيقةٍ، وعنده الجوهر الفريد. وعدمُ الاستخفاف بالحقيقة لأنه أيضاً رزين… كذلك لضد الإيمان، أعني النفاقَ أضدادُ خواصِّه الثلاث، فخواصّ النفاق الناشئة منه: ذلةُ النفس، وميل الإِفساد، والغرور بتحقير الغير.

إذا عرفت هذا، فاعلم أن النفاق يولِّد ذلةَ النفس وهي تنتج التذللَ، وهو الرياءَ، وهو المداهنةَ، وهي الكذبَ. فأشار اليه بقوله: ﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا قَالُٓوا اٰمَنَّا…﴾.

ثم لما كان النفاقُ مفسداً للقلب وفسادُه ينتج يُتْمَ الروحِ، أي عدمَ الصاحب والحامي والمالك، فيتولد الخوفُ، وهو يُلجِئه إلى التستر. أشار إليه بلفظ ﴿وَاِذَا خَلَوْا…﴾.

ثم لما كان النفاق قاطعا للرحم وقطعُه يزيل الشفقةَ، وزوالُها ينتج الإفسادَ، وهو الفتنةَ وهي الخيانةَ، وهي الضعفَ، وهو يضطره إلى الالتجاء إلى ظهيرٍ ومستنَد، أشار إليه بلفظ إلى ﴿شَيَاطينِهِمْ﴾..

ثم لمّا كان النفاق جهلاً تردّدياً أنتج تذبذبَ الطبيعةِ، وهو عدمَ الثبات وهو عدم المسلك وهو عدم الأَمنية بهم، وهو يُجبرهم على تجديد عهدهم، أشار إلى هذه السلسلة بلفظ ﴿قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ﴾.

ثم لمّا احتاجوا إلى الاعتذار استخفّوا بالحقيقة لخفّتهم، ورخّصوا غاليَ القيمةَ لعدم قيمتِهم، وأهانوا بالعالي لهَون نفسِهم وضعفِها الذي ينشأ منه الغرورُ، فقال: ﴿قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾..

ثم بينما كان السامع منتظراً من انصباب الكلام مقابلةَ المؤمنين لهم، رأى أن الله قابلَهم بدلاً عن المؤمنين إشارةً إلى تشريفهم، ورمزاً إلى أن استهزاءهم في مقابلة جزاءِ الله تعالى كالعدم، وإيماءً إلى حُمقهم وزجرهم وردّهم؛ إذ كيف يُستَهْزأُ بمَن كان الله حاميَه؟ فقال تعالى: ﴿اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ أي يعاقبُهم على استهزائهم أشدَّ جزاءٍ بصورةِ استخفافٍ وتهكُّمٍ بهم في الدنيا والآخرة مع الاستمرار التجدديّ.. وجملة ﴿وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾
كشفٌ وتفصيل وتصويرٌ لجزاء استهزائهم بطرز الاستهزاء.

أما وجه نظم هيئات كل جملة جملة:

فاعلم أن جملة ﴿وَاِذَا لَقُوا الَّذينَ اٰمَنُوا قَالُٓوا اٰمَنَّا﴾ التي سيقت في مُداهنتهم؛

قطعيةُ ﴿اِذَا﴾ فيها إيماء إلى الجزم والتعمّد والقصد، أي عزموا بعَمدٍ وقصد ملاقاتَهم..

ولفظ ﴿لَقُوا﴾ إيماء إلى أنهم تعمّدوا مصادفتَهم في الطرق بين ظهراني الناس..

ولفظُ ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ بدل «المؤمنين» إشارة إلى مباشرتهم معهم وتماسّهم بهم، وإلى أن ارتباطهم معهم بصفة الإيمان، وإلى أن مدارَ النظر بين أوصاف المؤمنين صفةُ الإيمان فقط.

ولفظ ﴿قَالُٓوا﴾ تلويح إلى أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وأن قولهم للتصنّع والرياء والمداهنة ودفعِ التهمة والحرص على جلب منافع المؤمنين والاطلاع على أسرارهم.

ولفظ ﴿اٰمَنَّا﴾ بلا تأكيد مع اقتضاء المقام إياه، وبإيراده جملة فعلية، إشارةٌ إلى أنْ ليس في قلوبهم مشوّق وعشق محركٌ ليتشددوا ويتجلدوا في كلامهم.. وأيضاً إن في ترك التأكيد إيماءً إلى تشددهم في دفع التهمة عنهم، كأنهم يقولون: «إنكارُكم ليس في موقعه بل في منـزلة العدم، إذ لسنا أهلاً للتهمة..» وأيضاً فيه رمز إلى أن التأكيد لا يروّج عنهم.. وأيضاً فيه لمحٌ إلى أن هذا الحجاب الرقيق الضعيف على الكذب إذا شُدّد تمزّق.. وأيضاً في فعليته إشارة إلى أنه لا يمكن لهم أن يدعوا الثبات والدوام، وإنما غرضُهم من هذا التصنع الاشتراكُ في منافع المؤمنين والاطلاعُ على أسرارهم بادّعاء حدوث الإيمان.

وأما جملة ﴿وَاِذَا خَلَوْا اِلٰى شَيَاطينِهِمْ قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ﴾

فـ«الواو» الجامعة في ﴿وَاِذَا﴾ إيماءٌ إلى أن هذا الكلام سيق لبيان أن لا مسلَك لهم، ولبيان تذبذبهم المفصّل بهاتين الشرطيتين.

والجزمية في ﴿اِذَا﴾ رمز إلى أنهم بحكم الفساد والإفساد يرون الالتجاء وظيفةً ضرورية.

ولفظ ﴿خَلَوْا﴾ إشارة إلى أنهم بحُكم الخيانة يتخوفون، وبحكم الخوف يتسترون..

ولفظ ﴿اِلٰى﴾ بدلَ «مع» المناسب لِـ ﴿خَلَوْا﴾ إشارة إلى أنهم بحكم العَجز
والضعف يلتجئون، وبحكم الفتنة والإفساد يوصلون أسرار المؤمنين إلى الكافرين.. ولفظ «الشياطين» إشارة إلى أن رؤساءهم كالشياطين متسترون موَسوسون، وإلى أنهم كالشياطين يضرّون، وإلى أنهم على مذهب الشياطين لا يتصورون إلّا الشر.

وأما جملة ﴿قَالُٓوا اِنَّا مَعَكُمْ﴾ المَسوقة لتبرئة ذمّتهم وتجديد عهدهم وثباتهم في مسلكهم، فاعلم أنه أكّد مع غير المنكِر هنا، وترك التأكيد مع المنكِر هناك إشارةً ودلالةً على عدم الشوق المحرك في قلب المتكلم هناك ووجودِه هنا. أما اسميةُ هذا وفعلية ذاك، فلأن المقصود إثباتُ الثبوتِ والدوامِ في ذا، والحدوثِ في ذلك.

أما ﴿اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾ فاعلم أنه لم يَعطف، إذ الوصلُ إنما هو بالتوسط بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع. مع أن هذه الجملة بدلٌ بجهةٍ وتأكيدٌ بجهة، وهما من كمال الاتصال، وجوابُ سؤالٍ مقدَّر بجهة أخرى، وهو من كمال الانقطاع لخبَرية الجواب وإنشائية السؤال في الأغلب.. أمّا وجهُ التأكيد -ويقربُ منه البدل- فهو أن مآلها إهانةُ الحق وأهله فيكون تعظيماً للباطل وأهلِه، وهو مآل ﴿اِنَّا مَعَكُمْ﴾.. وأما وجهُ الجوابية للسؤال المقدّر فكأن شياطينَهم يقولون لهم: «إن كنتم معنا وفي مسلكنا فما بالكم توافقون المؤمنين؟ فإما أنتم في مذهبهم أو لا مذهبَ لكم» فاعتذَروا مجيبين بـ ﴿اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَفصرّحوا بأنهم ليسوا من الإسلام في شيء، وأشاروا بحصر ﴿اِنَّمَا﴾ إلى أنهم ليسوا مذبذبين بلا مذهب معلوم، وباسمية ﴿مُسْتَهْزِؤُ۫نَإلى أن الاستهزاء شأنُهم وصفتُهم. ففعلُهم هذا ليس بالجِدّ.

وأما جملة ﴿اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ فاعلم أنها لم توصَل بسوابقها بل فُصِلت فصلاً؛ لأنها لو عُطفت فإما على ﴿اِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه أيضاً تأكيداً لـ
﴿اِنَّا مَعَكُمْ﴾.. وإما على ﴿قَالُٓوا﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه أيضاً مقولاً لهم.. وإما على ﴿قَالُٓوا﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه أيضاً مقيدةً بوقت الخلوة، مع أن استهزاءَ الله بالدوام.. وإما على ﴿وَاِذَا خَلَوْا﴾ وهو يقتضي أن تكون هذه من تتمة صفة تذبذبهم.. وإما على
﴿إِذَا لَقُوا﴾ وهو يستلزم أن يكون الغرضُ منهما واحداً. مع أن الأول لبيان العمل، والثاني للجزاء، واللوازم باطلة، فالوصل لا يصحّ. فلَم يبقَ إلّا أن تكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدَّر. ثم إن في هذا الاستيناف إيماءً ورمزاً إلى أن شناعتَهم وخباثتهم بلغت درجةً تُجبر روحَ كلِّ سامعٍ و راءٍ أن يسأل بـ«كيف جزاءُ مَن هذا عملُه؟».

ثم إن الافتتاح بلفظة ﴿اَللّٰهُ﴾ مع أن ذهن السامع كان منتظراً لتلقي مقابلة المؤمنين معهم، إشارةٌ إلى تشريف المؤمنين وترحّمه عليهم، إذ قد قابل بدلاً عنهم.. وأيضاً رمزٌ إلى زَجرهم؛ إذ لا يُستهزأ بمَن استناده بعلّام الغيوب.. وأيضاً إيماء بالاقتطاع وعدم النظر إلى تقرر استهزائهم، إلى أن استهزاءهم كالعدم بالنظر إلى جزائه.. ثم إن التعبير عن نكايات الله تعالى معهم بالاستهزاء -الذي لا يليق بشأنه تعالى- للمشاكلة في الصحبة، وللرمز إلى أن النكاية جزاءٌ للاستهزاء ونتيجة ولازمةٌ له، مع أن المراد لازمُ الاستهزاء، أعني التحقيرَ.. وأيضاً إيماء إلى أن استهزاءهم الذي لا يفيد، بل يضر عينُ استهزاء الله تعالى معهم؛ كمن يظن أنه يستهزئ مع أنك تراه كالمجنون، تريد أن يتكلم ولو بشتمك، لتضحك منه، فاستهزاؤه بعضُ استهزائك.

ثم في ﴿يَسْتَهْزِئُ﴾ مضارعاً مع أن السابق ﴿مُسْتَهْزِؤُ۫نَ﴾ اسم فاعل، إشارة إلى أن نكايات الله تعالى وتحقيراته تتجدد عليهم ليحسّوا بالألم ويتأثروا به؛ إذ ما استمر على نسق يقلّ تأثيرُه بل قد يعدم. ولذا قيل: شرط الإحساس الاختلاف.

أما ﴿وَيَمُدُّهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ أي توسّلوا بأسباب الضلالة وطلبوها فأعطاهم الله تعالى.. ففي لفظ «يَمُدُّ» رمز إلى ردّ الاعتزال، وفي تضمّن «يَمُدُّ» للاستمداد إيماءٌ إلى ردّ الجبر، أي اختاروا بسوء اختيارهم واستمدوا، فأمدّهم الله تعالى وأرخى عنانَهم.. وفي إضافة الطغيان إلى «هُمْ» (أي إن لهم فيه اختياراً) رمزٌ إلى ردّ عذرهم بالمجبورية.. وفي الطغيان إشارة إلى أن ضرَرهم متعدٍّ استغرق المحاسنَ كالسيل وهَدَم أساس الكمالات، فلم يبقَ إلّا غُثاءً أحوى.

و﴿يَعْمَهُونَ﴾ أي يتحيرون ويترددون. وفيه إشارة إلى أنه لا مسلك لهم وليس لهم مقصود معين.

* * *

الآية (13)

﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ اٰمِنُوا كَمَٓا اٰمَنَ النَّاسُ قَالُٓوا اَنُؤْمِنُ كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَٓاءُ وَلٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿13﴾﴾

اعلم أن وجه نظم هذا النوع بالنوع الأول: من حيث إنهما نصيحةٌ وإرشاد؛ عطف الأمر بالمعروف والتحلية والترغيب على النهي عن المنكر والتخلية والترهيب..

ومن حيث إنهما من الجناية؛ عطف تسفيههم للمؤمنين وغرورهم على إفسادهم، كما ربط إفسادهم بفسادهم اللاتي كلٌّ منها غصن من شجرة زقّوم النفاق.

وأما وجه النظم بين جمل هذه الآية فاعلم أنه لمّا قيل: ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ اٰمِنُوا كَمَٓا اٰمَنَ النَّاسُ﴾ وأُشير بهيئاتها إلى وجوب النصيحة على سبيل الكفاية بإيمان خالص اتّباعاً للجمهور الذين هم الناسُ الكُمّل ليأمرهم الوجدانُ دائماً بهذا الأمر، حكى وقال: ﴿قَالُٓوا اَنُؤْمِنُ كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ إشارةً إلى تمردهم وغرورهم ودعواهم أنهم على الحق كما هو شأنُ كلِّ مُبطل يرى باطلَه حقاً ويعلم جهلَه علماً؛ إذ بالنفاق تفسَّد قلبُهم، وبالفساد نشأ غرورٌ وميلُ إفساد، وبحكم التفسّد تمرّدوا، وبحكم الإفساد يقول بعضهم لبعض متناجياً بالإضلال، وبحكم الغرور يرَون شدة الديانة وكمالَ الإيمان المقتضيين للاستغناء والقناعة سفالةً وسفاهة وفقراً. ثم بحكم النفاق ينافقون في كلامهم هذا أيضاً؛ إذ ظاهرُه: كيف نكون كالسفهاء ولسنا مجانين ونحن أخيار كما تطلبون؟ وباطنُه: كيف نكون كالمؤمنين الذين أكثرهم فقراء، وهم في نظرنا سفهاء تحزّبوا من أوْباش الأقوام؟ وإليك التطبيق بين دقائق الجزئين من الشرطية.

ثم ألقَمهم الحجرَ بقوله: ﴿اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَٓاءُ﴾؛ إذ مَن كان متمرداً بهذه الدرجة وجاهلاً بجهله فحقُّهم الإعلان بين الخلق وتشهيرهم بانحصار السفاهة وأنه من الحقائق الثابتة، وأن تسفيهَهم لسفاهة نفسهم..

ثم قال: ﴿وَلٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ إشارة إلى أنهم جاهلون بجَهلهم فيكون جهلاً مركباً فلا يُجديهم النصيحةُ، فلابد أن يُعرَض عنهم صفحاً؛ إذ لا يَفهم النصيحةَ إلَّا مَنْ يعلم جهلَه.

وأما وجه النظم في هيئات كل جملة جملة:

ففي جملة: ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ اٰمِنُوا كَمَٓا اٰمَنَ النَّاسُ﴾ لفظ ﴿اِذَا﴾ بجزميته رمز إلى لزوم الإرشاد بالأمر بالمعروف.. وبناء المفعول في ﴿قيلَ﴾ إيماء إلى أن وجوبَ النصيحة على سبيل الكفاية كما مرَّ.

ولفظ ﴿اٰمِنُوا﴾ بدل «أخلِصوا في إيمانكم» إشارة إلى أن الإيمان بلا إخلاص ليس بإيمان.

ولفظ ﴿كَمَٓا اٰمَنَ﴾ تلويح بالأسوة الحسنة وحُسن المثال ليخلصوا على منواله.

وفي لفظ ﴿النَّاسُ﴾ نكتتان: وهما السبب في جعل الوجدان آمراً بالمعروف دائماً؛ إذ
﴿كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ يترشح بـ«فاتّبِعوا جمهور الناس» إذ مخالفةُ الجمهور خطأ من شأن القلب أن لا يُقدِم عليه، وأيضاً يلوّح بأنهم هم الناس فقط، كأن مَن عداهم ليسوا بإنسان إلّا صورةً، إما بترقي هؤلاء في الكمالات وانحصار حقيقةِ الإنسانية عليهم، وإما بتدني أُولئك عن مرتبة الإنسانية.

أما جملة : ﴿قَالُٓوا اَنُؤْمِنُ كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ التي مآلُها: «لا نقبل النصيحة، كيف نكون كهؤلاء الأذلّاء؛ إذ هم في نظرنا سفهاء ولا نُقاسُ نحن معاشر أهل الجاه عليهم».. ففي لفظ ﴿قَالُٓوا﴾ رمز إلى تبرئة النفس وترويج المسلك والاستغناء عن النصيحة والغرور والدعوى.. وفي لفظ ﴿اَنُؤْمِنُ﴾ بالاستفهام الإنكاريّ إشارة إلى شدة تمرّدهم في جهلهم المركب، كأنهم بصورة الاستفهام يقولون: «أيها الناصح راجعْ وجدانَك هل ترى إنصافَك يقبل ردّنا؟»

ثم إن في متعلق ﴿قَالُٓوا﴾ وجوهاً ثلاثة مترتبة؛ أي قالوا لأنفسهم، ثم لأبناء جنسهم، ثم لمرشدهم، كما هو شأن كل متنصّحٍ إذا نصحه الناصح، فأول الأمر يشاور مع نفسه، ثم يحاور مع أبناء جنسه، ثم يراجعك بنتيجة محاكمَتهم. فعلى هذا لمّا قيل لهم ما قيل راجَعوا قلوبَهم المتفسدة ووجدانَهم المتفسخ فأشارت عليهم بالإنكار، فقالوا مترجمين عما في ضميرهم، ثم راجَعوا بنظر الإفساد إلى إخوانهم، فأشاروا عليهم أيضاً بالإنكار فأخذوا بنجواهم ومحاورتهم، ثم رجعوا بطريق الاعتذار والسفسطة إلى الناصح فشاغَبوا وقالوا: «بيننا فرق لا نُقاس عليهم إذ هم فقراء مضطرون مجبورون فشدَّتُهم في الديانة وتصوّفُهم بالاضطرار. أما نحن فأهلُ عزة وجاه». فبحكم الغرور يحيلون الناصح على إنصافه. وبحكم الخداع والحيلة يتكلمون بكلام ذي لسانين، أي أيها المرشد! لا تظننا سفهاء، ولا نكون كالسفهاء في نظركم، بل نفعل كما يفعل المؤمنون الخلّص. مع أن مرادَهم باطناً: لا نكون كهؤلاء المؤمنين الفقراء؛ إذ لا اعتداد بهم في نظرنا. ففي هذا اللفظ رمز خفيّ إلى فسادهم وإفسادهم وغرورهم ونفاقهم..

﴿كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾ أي الذين تظنونَهم الناسَ الكاملين هم في نظرنا أذلاءُ فقراء مجبورون مع كثرتهم، كلٌّ منهم سفيهُ قومٍ. ففي دعواهم الفرقَ في القياس إشارة إلى أن الإسلامية كهفُ المساكين وملجأ الفقراء وحاميةُ الحق وحافظة الحقيقة ومانعة الغرور وقامعةُ التكبّر، وما مقياس الكمال والمجد إلّا هي.. وأيضاً في الفرق إشارةٌ إلى أن سبب النفاق في الأغلب هو الغرضُ والغرور والتكبر كما يفسره: ﴿وَمَا نَرٰيكَ اتَّبَعَكَ اِلَّا الَّذينَ هُمْ اَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ (هود:27). وأيضاً في الفرق إشارةٌ خفية إلى أن الإسلامية لا تصير وسيلةَ التحكم والتغلب في أيدي أهل الدنيا والجاه؛ بل إنما هي واسطة لإِحقاق الحق في أيادي أهل الفقر والضرورة خلافَ سائر الأديان. ويشهد على هذه الحقيقة التاريخُ.

أما جملة ﴿اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَٓاءُ﴾ فاعلم أن القرآن إنما أكثرَ من التشديد والتشنيع على النفاق لأجل أن أكثر بليات العالم الإسلامي من أنواع النفاق.. ثم إن لفظ ﴿اَلَٓا﴾ للتنبيه وتشهير سفاهتهم على رؤوس الأشهاد، ولاستشهاد فكر العموم على سفاهتهم. وأصلُ معنى ﴿اَلَٓا﴾ ألا تعلمون أنهم سفهاء؟ أي فاعلموا.. ثم إن «إنَّ» مرآةُ الحقيقة ووسيلةٌ إليها، كأنه يقول: راجعوا الحقيقة لتعلموا أن سفسطتهم الظاهرية لا أصل لها. ثم لفظ «هُم» للحصر لردّ تبرئة أنفسهم، ودفع تسفيههم للمؤمنين الذي أشاروا إليه بـ ﴿كَمَٓا اٰمَنَ السُّفَهَٓاءُ﴾. أي إن السفيه مَن ترك الآخرة بالغرور والغرض واللذة الفانية دون مَن اشترى الباقي بترك الهوسات الفانية. ثم إن الألف واللام في ﴿السُّفَهَٓاءُ﴾ لتعريف الحُكم أي معلومٌ أنهم سفهاء. وللكمال أي كمال السفاهة فيهم.

أمّا: ﴿وَلٰكِنْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ففيه إشارات ثلاث:

إحداها: أنَّ تمييز الحق عن الباطل وتفريقَ مسلك المؤمنين عن مسلكهم محتاجٌ إلى نظر وعلم، بخلاف إفسادهم وفتنتهم، فإنه ظاهر يُحِسُّ به مَن له أدنى شعور. ولهذا ذيّل الآية الأولى بـ ﴿وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.

والثانية: أنّ ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ وأمثالَها من فواصل الآيات، مِن ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ و(لَا يَتَفَكَّرُونَ) و(لَا يَتَذَكَّرُونَ) وغيرها تشير إلى أن الإسلامية مؤسسةٌ على العقل والحكمة والعلم. فمن شأنها أن يقبلَها كلُّ عقل سليم لا كسائر الأديان المبنية على التقليد والتعصب. ففي هذه الإشارة بشارة كما ذُكرت في موضع آخر.

والثالثة: الإعراض عنهم وعدم الاهتمام بهم، إذ النصيحة لا تجديهم، إذ لا يعلمون جهلَهم حتى يتحرّوا زوالَه.

* * *

الآية (11-12)

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿11﴾ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿12﴾﴾

اعلم أن وجه نظم هذه الآية بما قبلها هو أنَّ الله تعالى لمّا ذكر الأُولى من الجنايات الناشئة عن نفاقهم وهي ظلمُهم أنفسَهم وتجاوزُهم على حقوق الله تعالى بنتائجها المتسلسلة المذكورة، عقّبها بثانيةِ الجنايات؛ وهي تجاوزُهم على حقوق العباد وإيقاعُهم الفساد بينهم مع تفرعاتها..

ثم إن ﴿اِذَا قيلَ﴾ كما أنه مربوط باعتبار القصة بـ ﴿يَقُولُ﴾ في ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ وباعتبار المآل بـ ﴿يُخَادِعُونَ﴾؛ كذلك يرتبط باعتبار نفسه بـ ﴿يَكْذِبُونَ﴾.
وتغير الأسلوب من الحَمْلية إلى الشرطية أمارة ورمزٌ خفي إلى مُقدَّر بينهما، كأنه يقول: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾؛ إذ إذا كذبوا فتنوا، وإذا فتنوا أفسدوا، وإذا نوصحوا لم يقبلوا، ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا…﴾ الخ.

وأما وجه النظم بين الجمل الصريحة والضمنية في هذه الآية فهو عينُ النظم والربط في ما أمثّل لك وهو أنك إذا رأيت أحداً يسلك في طريق تنجرّ إلى هلاكه، فأولاً تنصحه قائلا له: «مذهبُك هذا ينهار بك في البوار فتجنَّب». وإن لم ينتهِ بنُهاه، تعُود عليه بالزّجر والنهي والنعي وتؤيّد نهيَك وتديمُه في ذهنه إما بتخويفه بنفرةِ العموم، وإما بترقيق قلبه بالشفقة الجنسية كما سيأتيك بيانُهما. فإن كان ذلك الشخص متعنتاً لَجوجاً مُصرّاً ألدَّ راكباً متنَ الجهل المركّب فهو لا يسكت، بل يدافع عن نفسه، كما هو شأنُ كل مفسد يرى فسادَه صلاحاً؛ إذ الإنسانيةُ لا تُخلّى أن يرتكب الفسادَ من حيث هو فساد. ثم يستدِل ويدّعي بـ«أن طريقي هذا حق، ومعلوم أنه كذلك؛ فلا حقّ لك في النصيحة فلا احتياج إلى نصيحتك، بل أنت محتاج إلى التعلّم، فما السبيل السويّ إلّا سبيلُنا، فلا تعرّض بوجود طريقٍ أصوبَ». وإن كان ذلك الشخص اللجوج ذا الوجهين يكون كلامُه ذا اللسانين؛ يداري الناصحَ لإلزامه بوجهٍ، ويتحفظ على مسلكه بآخر، فيقول: أنا مصلحٌ أي ظاهراً كما تطلُب، وباطناً كما أعتقد.. ثم من شأنه تأييد وتأكيد دعواه بأن الصلاح من صفتي المستمرة، لا أني كنتُ صالحاً الآن بعد فسادي قبلُ.. ثم إذا كان ذلك الشخصُ متمردا ومُتَنَمِّراً ومصرّاً في نشر مذهبه، وترويجِ مسلكه، وتزييفِ ناصحه وتعريضِ أهل الحق بهذه الدرجة، ظهر أنه لا يجدي له دواءٌ، ولم يبقَ إلا آخرُ الدواء، أعني المعالجةَ لعدم السراية. وما هذه المعالجة إلّا تنبيهُ الناس وإعلامُهم بأنه مفسدٌ لا صلاحَ فيه؛ إذ لا يستعمِل عقلَه ولا يستخدم شعورَه حتى يحس بهذا الشيء الظاهر المحسوس.

فإذا تفهّمتَ الحلقات المُسرَّدة في هذا المثال تفطنتَ ما بين الجمل المنصوصة والمرموزة إليها بالقيود، في ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ﴾ إلى آخره. فإن فيما بينها نظماً فطرياً بإيجاز يحمرّ من تحته الإعجاز.

وأما نظم هيئات كل جملةٍ جملةٍ:

فاعلم أن جملة ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْاَرْضِ﴾

القطعيةُ في ﴿اِذَا﴾ إشارةٌ إلى لزوم النهي عن المنكر ووجوبه..

وبناء المفعول في ﴿قيلَ﴾ رمز إلى أن النهي فرضُ كفاية على العموم..

وفي لام ﴿لَهُمْ﴾ إيماء إلى أن النهي لابد أن يكون على وجه النصيحة دون التحكم، والنصيحة على وجه اللطف دون التقريع..

و ﴿لَا تُفْسِدُوا﴾ فذلكةٌ وخلاصة لصورة قياس استثنائي أي لا تفعلوا هكذا، وإلّا نشأ منه الهَرْج والمَرْج، فينقطع خيطُ الإطاعة، فيتشوش نظام العدالة، فتنحلّ رابطة الاتفاق، فيتولد منه الفسادُ، فلا تفعلوا لئلا تفسدوا..

ولفظ ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ تأييدٌ وتأكيد للنهي وإدامةٌ للزجر، إذ نهيُ الناصح موقتٌ لابد من إدامته في ذهن المنصوح بتوكيل وجدانه ليزجرَه دائما من تحته. وهو إما بتحريك عِرق الشفقة الجنسية، وإما بتهييج عرق التنفُّر من نفرة العموم.. و﴿فِي الْاَرْضِ﴾ هو الذي يوقظ العِرقَين وينعشهما؛ إذ لفظ ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ يناجيهم بأن فسادكم هذا يسري إلى نوع البشر فأيُّ حقدٍ وغيظ لكم على جميع الناس الذين فيهم المعصومون والفقراء والذين لا تعرفونهم، أفلا تتوجعون لهم ولِمَ لا تترحّمون بهم؟ هب أن ليست لكم تلك الشفقة الجنسية، فلا أقلَّ من أن تلاحظوا أن حركتكم هذه تجلب عليكم معنى نَفرة العموم.

 فإن قلت: أيّ غرض لهم بالعموم وكيف ينجرّ فسادُهم إلى الكل؟

قيل لك: كما أن من نظر بمرآة البصرِ السوداءِ رأى كلَّ شيء أسودَ قبيحاً. كذلك من احتجبت بصيرتُه بالنفاق وفسَد قلبُه بالكفر رأى كل شيء قبيحاً مبغوضاً، (و) يحصل في قلبه عنادٌ وحقد مع كل البشر بل كل الكائنات.. ثم كما أن انكسار سنٍّ من جَرْخٍ من دولابٍ من ساعة يتأثر به الكلُّ كلياً أو جزئياً؛ كذلك بنفاق الشخص يتأثر نظامُ هيئة البشر التي انتظمت بالعدالة والإسلامية والإطاعة. فأسفاً قد تظاهرت سمومُهم المتسلسلة حتى أنتجت هذه السفالة.

وأما جملة: ﴿قَالُٓوا اِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ففي ﴿قَالُٓوا﴾ بدلَ «لا يقبلون النصيحة» الظاهرِ من السياق إشارة إلى أنهم يدّعون ويَدْعون إلى مسلكهم.

وفي ﴿اِنَّمَا﴾ خاصيتان:

الأولى: أن مدخوله لابد أن يكون معلوماً حقيقةً أو ادّعاءً. ففيها رمز إلى تزييف الناصح وإظهار ثباتهم على جهلهم المركب.

والثانية: الحصر، ففيها إشارة إلى أن صلاحهم لا يشوبُه فسادٌ فليسوا كغيرهم؛ ففي الإشارة رمز إلى التعريض بالمؤمنين.

وفي اسميّة ﴿مُصْلِحُونَ﴾ بدلَ «نصلح» إشارة إلى أن الصلاحَ صفتُنا الثابتة المستمرة. فحالنا هذه عين الإصلاح بالاستصحاب.. ثم إنهم ينافقون في هذا الكلام أيضاً، إذ يَتَبَطَّنون خلاف ما يُظهرون، فباطناً يدعون فسادهم صلاحاً وظاهراً يُرَاؤُونَ أن عملَهم لصلاح المؤمنين ومنفعتهم.

وأما جملة ﴿اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فاعلم أنهم لمّا أدرجوا في معاطف الجملة السابقة معاني: من ترويج مسلكهم ودعوى ثبوت الصلاح لهم، وأن الصلاح صفتُهم المستمرة.. وأنهم منحصرون عليه.. وأن الفساد لا يشوب صلاحَهم.. وأن هذا الحكم ظاهر معلوم.. ومن تعريضهم بالمؤمنين ومن تجهيلهم للناصح؛ أجابَهم القرآنُ بهذه الجملة المتضمنة لأحكامٍ من إثبات الفساد لهم، وأنهم متحدون مع حقيقة المفسدين.. وأن الفساد منحصر عليهم.. وأن هذا الحكم حقيقة ثابتة.. ومن تنبيه الناس على شناعتهم.. ومن تجهيلهم بنفي الحس عنهم كأنهم جمادات.

وإن شئت فانظر إلى ﴿اَلَٓا﴾ التي للتنبيه كيف تزيِّف بتنبيهها ترويجَهم الناشئ من دعواهم المترشحَ من ﴿قَالُٓوا﴾.. وإلى ﴿اِنَّا﴾ التي للتحقيق كيف تردّ دعواهم المعلومية بـ ﴿اِنَّمَا﴾، كأن ﴿اِنَّا﴾ تقول: حالُهم في الحقيقة والباطن فسادٌ، فلا يجديهم الصلاحُ ظاهراً.. وإلى الحصر في ﴿هُم﴾ كيف يقابل تعريضَهم الضمنيّ في ﴿اِنَّمَا﴾ و﴿نَحْنُ﴾.. وإلى تعريف ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ -الذي معناه حقيقة المفسدين تُرى في ذاتهم فهُم هي- كيف يدافع حصرَهم المستفاد من ﴿اِنَّمَا﴾ أيضاً.. وإلى ﴿وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ كيف يدافع تزييفهم الناصح وأنهم ليسوا مستحقين للنصيحة بدعوى المعلومية. فتأمل!

* * *

الآية (9-10)

﴿يُخَادِعُونَ اللّٰهَ وَالَّذينَ اٰمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ اِلَّٓا اَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴿10﴾﴾

اعلم أن وجهَ النظم: إشاراتُ جُمَلها: إلى التوبيخ على النفاق.. ثم تشنيعُه.. ثم تقبيحُهم.. ثم التهديدُ عليه.. ثم ترهيبُهم.. ثم التعجُّب منهم.. ثم بيانُ مقصدهم من قولهم المذكور.. ثم بيانُ علّة قولهم.. ثم بيانُ أولِ الجنايات الأربع الناشئةِ من النفاق وهي الخداعُ، والإفساد، وتسفيهُ المؤمنين، والاستهزاءُ بهم.. ثم تمثيلُ جناياتِهم وحيَلهم بأسلوبِ استعارةٍ تمثيلية هكذا: بأن صوّر معاملتَهم مع أحكامِ الله تعالى ومع النبي عليه السلام والمؤمنين -بإظهارهِم الإيمانَ لأغراضٍ دنيوية مع تبطّن الكفر- ومعاملةَ الله والنبي والمؤمنين معهم -بإجراء أحكام المؤمنين عليهم استدراجاً، مع أنهم أخبثُ الكفَرة عند الله- بصورة خداعِ شخصين، أو الصياد مع الصيد الذي يُحِسّ الصياد بالخروج عن القاصعاء ثم يفرّ من النافقاء.

أما نظمُ جُمل الجناية الأولى من ﴿يَخْدَعُونَ﴾ إلى ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ فانظر إلى ما تضمنت من النتائج المتسلسلة المترتبة في الجُمل السبع، وهي: تحميقُهم بطلب المُحال.. ثم تسفيهُهم بإضرار أنفسهم بنيّة المنفعة.. ثم تجهيلُهم بعدم التمييز بين الضرّ والنفع.. ثم ترذيلُهم بخبث الطينة ومرضِ معدن الصحة وموتِ منبع الحياة.. ثم تذليلُهم بتزييد المرض في طلب الشفاء.. ثم تهديدُهم بألمٍ محض يولّد ألماً صرفاً.. ثم تشهيرُهم بين الناس بأقبح العلامات، أعني الكذب.

وأما اتّساقُ وانتظام تلك الجمل السبع وانصباب الحُكم فيما بينها فهو أنك كما إذا أردتَ زجْرَ واحد عن شيءٍ ونُصحَه، تقول له أولاً: يا هذا! إنْ كان لك عقلٌ فهذا محال.. ثم إن كنت تحب نفسَك فهذا يضرّها.. ثم إن كان لك حسٌّ فلِمَ لا تميّز بين الضر والنفع؟. ثم إن لم يكن لك اختيارٌ فلا أقل من أن تعرف فسادَ سجيتك، وفيها مرضٌ يحرِّف الحقيقة، ويريك الحُلوَ مُراً.. ثم إن تطلب الشفاء فهذا يزيد مرضَك ولا يشفي، مثلُك كمثل مَن ابتُلى بداء السهَر فاجتهد في النوم فانتج له قلقا طيّر نعاسَه أيضاً، أو كمن أُصيب قلبُه بداء «المَرَق»

فاغتمّ لوجود المصيبة حتى صيَّر المصيبة مصيبتين.. ثم إن تتحرَّ اللذةَ فهذا فيه ألمٌ شديد ينتج ألماً أشدَّ، ليس كأمثاله التي فيها لذةٌ مزخرفة.. ثم إنْ لم تنتبه ولم تنـزجر لا يبقى إلّا أن يُوسمَ على خرطومِك بوَسمٍ قبيح، وتُعلَن بين الناس لِمنع سرايةِ فسادِك إلى الناس.

كذلك إن الله تعالى قال لزجر المنافقين: ﴿يُخَادِعُونَ اللّٰهَ﴾ بدل «يخادعون النبيّ» لتحميقهم، أي كيف يخادعون النبيّ عليه السلام والنبيُّ مبلِّغٌ عن الله تعالى، فحيلتُهم راجعة إلى الله، والاحتيال مع الله تعالى محالٌ، وطلبُ المحال حُمقٌ. ومِثل هذا الحُمق مما يُتعجَّب منه.

ثم أتبعه ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ اِلَّٓا اَنْفُسَهُمْ﴾ لتسفيههم، أي ليس في فعلكم نفعٌ بل فيه ضرر، وضررُه يعود على أنفسكم، فكأنكم تخادعون أنفسكم.. ثم عقّبه ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ لتجهيلهم أي أيّها الجهلاء! قد صرتم أضلَّ من الحيوان، كالأحجار الجامدة لا تحسّون بالفرق بين الضر والنفع.

ثم أردفه ﴿في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ لترذيلهم بانفساد الجوهر، أي إنْ لم يكن لكم اختيارٌ فلا أقلَّ من أن تعرفوا المرض مرضاً، وأن سجيتكم فسدَت. وأن النفاق والحسد مرضٌ في الروح، من شأنه تحريفُ الحقيقة وتغييرُها حتى تظنون الحلو مراً والمرَّ حلواً والسوداء بيضاء والأبيض أسودَ فلا تتبعوه.

ثم زاد ﴿فَزَادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضًا﴾ لتذليلهم، أي إن كنتم تطلبون بهذا الدواءَ والتشفّيَ من غيظكم وحسَدكم فهذا داءٌ لا يزيدُكم إلَّا مرضاً على مرض. فأنتم كمَن كَسرَ أحدٌ يدَه فأراد الانتقام فضرَبَه بتلك اليد المكسورة فازداد كسراً على كسرٍ.

ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ﴾ لتهديدهم، أي إن تتحرَّوا اللذةَ فما نفاقُكم هذا إلَّا فيه ألمٌ شديد عاجل يُنتج ألماً أشدَّ آجلاً، ليس كسائر المعاصي التي فيها نوعٌ من اللذة السفلية العاجلة.

ثم أتمَّه بقول: ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ لِتَوسيمهم بأشنع الوَسْم، أي إن لم تنتبهوا ولم تنتهوا لم يبقَ إلّا أن تُشَهَّروا بين الناس بالكذب المانع للاعتماد لئلّا يتعدى مرضُكم.

أما وجهُ النظم بين أجزاء كلِّ جملة:

ففي الأولى: أعني جملة ﴿يُخَادِعُونَ اللّٰهَ وَالَّذينَ اٰمَنُوا﴾ هو أنَّ في التعبير عن عملهم بالخداع مع المُضارِعيّة، لاسيما من باب المشاركة، خصوصاً مع إقامة لفظة ﴿اللّٰهَ﴾ مقام النبيّ وإقامة ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ مقام «المؤمنين» تنصيصاً وتصريحاً بمُحاليّة غرضهم من حيلتِهم، وجعل المُحالية نصبَ العين بصورة تتنفّر عنها النفوسُ وترتعدُ، إذ فيما في الخداع من الاستعارة التمثيلية ما يوقظ النفرةَ.. وفيما في المضارعية من التصوير مع الاستمرار ما يَشْمَئِزُّ منه القلب.. وفيما في المشاركة من المشاكلة نظِير: ﴿وَجَزٰٓؤُا سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ (الشورى:40) ما ينتج عدم إنتاج حيلتهم؛ إذ في باب المشاركة فعلُ الفاعل سببٌ لفعل المفعول، وهنا فعلُ المفعول صار سبباً لعُقم خداع الفاعل وعدمِ تأثيره، بل جُعل الخداعُ صورةً واهية كانعكاس المقصد؛ فيما إذا استَهزيتَ بأحدٍ لجهلِه، مع أنه مستبطنٌ علماً ومستَخفٍ استهزاءً بك.. وفيما في التصريح بلفظة ﴿اللّٰهَ﴾ من التنصيص على مُحالية الغرض -إذ خداع النبي عليه السلام ينجر إليه تعالى- ما يشبط العقلَ عن الحيلةِ.. وما في ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ من جعل الصلة مداراً، إشارة إلى أن المنافقين يتحببون إليهم بصفة الإيمان ويهيِّجون عِرق إيمانهم للتحبب والتداخل فيهم.. وفيه إيماء أيضاً إلى أن جماعة المؤمنين المنوَّرين عقولُهم بنور الإيمان لا تتستر عنهم الحيلةُ فينتج أيضاً عُقمَ حيلتهم..

وفي الثانية: أعني جملة ﴿وَمَا يَخْدَعُونَ اِلَّٓا اَنْفُسَهُمْ﴾ هو أنَّ في هذا الحصر إشارةً إلى كمال سفاهتهم بعكس العمل في معاملتهم كمَن رمى حجراً إلى جدار فانثنى لكسرِ رأسه؛ إذ رشوا النبالَ لضرر المؤمنين فأُصيبَت أنفسُهم، فكأنهم يخادعون بالذات ذواتِهم..

وفي تبديل «يضرون» بـ ﴿يَخْدَعُونَ﴾ إشارة إلى نهاية سفاهتهم، إذ يوجد في أهل العقل مَن يضرّ نفسه قصداً ولا يوجد من يخادع نفسه عمداً إلَّا أن يكون حماراً في صورة إنسان.

وفي عنوان ﴿اَنْفُسَهُمْ﴾ رمزٌ خفي إلى أن نفاقَهم وحيلتهم لمّا كان لحظٍّ نفسانيّ وغرض نفسيّ أنتج نقيض مطلوبهم لنفسهم.

 إن قلت: هذا الحصر يومئ إلى أن خداعهم ما ضرّ الإسلام والمسلمين، مع أن الإسلام ما رأى من شيءٍ ضرراً مثل ما رأى من أنواع النفاق وشُعُباته المنتشرة كالسُّم في عناصر العالم الإسلاميّ؟

قيل لك: وما تراه من الضرر المتعدي والسمّ الساري إنما هو من طبيعتهم المتفسدة وفطرتِهم المتفسخة ووجدانِهم المتعفن نظيرَ سرايةِ المرض؛ وليس نتيجةَ حيلتهم وخداعهم باختيارهم إذ يريدون خداع الله والنبيّ وجماعة المؤمنين، والله عالمٌ بكل شيء والنبي عليه السلام يوحى اليه، وجماعة المؤمنين لا تستطيع الحيلةُ أن تتستر عنهم مدة مديدة فهم لا ينخدعون. فثبت أنهم لا يخدعون إلّا أنفسهم فقط.

وفي الثالثة: أعني جملة ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أي لا يحسون، هو أن في هذه الفذلكة تجهيلا أيَّ تجهيل لهم، لأنها تُشعر بأنهم إن كانوا عقلاء فهذا ليس من شأن العقل، وإن كانوا حيوانات يتحركون بمَيل نفسانيّ فشأنهم أن يحسوا ويشعروا بمثل هذا الضرر المحسوس. فثبت أنهم صاروا مثل جمادات لا اختيار لها.

وفي الرابعة: أعني جملة ﴿في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ هو أنَّ سَوقها يفيد أنهم لمّا لَم يعملوا بمقتضى المحاكمة العقلية والشعورِ الحسيّ ظهر أن في روحهم مرضاً فلا أقلَّ من أن يعرفوا أنه مرضٌ ليجتنبوا عن القضايا ولا يحكموا عليها؛ إذ من شأن المرض تغييرُ الحقيقةِ وتشويهُ المزيّن وتحليةُ المُرِّ كما مر..

وفي لفظ ﴿في﴾ رمز إلى أن حسدَهم وحقدهم مرض في ملكوت القلب وهي اللطيفةُ التي مرّ ذكرها..

وفي عنوان «القلب» إشارة إلى أنه كما أن جسمَ القلب إذا مرض اختلَّ جميعُ أفعال البدن؛ كذلك إذا مرض معنى القلب بالخداع والنفاق انحرف كلُّ أفعالِ الروح عن منهج الاستقامة إذ هو منبع الحياة ومَاكِنَتُها..

وفي تقديم ﴿في قُلُوبِهِمْ﴾ على ﴿مَرَضٌ﴾ إيماءٌ إلى الحصر بجهتين، ومن الإيماء إشارةٌ بطريق التعريض إلى أن الإيمان نور، شأنه أن يعطي لجميع أفعال الإنسان وآثاره صحةً واستقامةً.. وأيضاً في إيماء الحصر رمز إلى أن الفساد في الأساس فلا يجدي تعميرُ الفروعات.

وفي لفظ «المرض» رمز إلى قطع عذرهم وإلقامهم الحجر بأنّ الفطرةَ مهيأةٌ للحقيقة. وما الفساد والخراب إلّا مرض عارض..

وفي تنوين التنكير إشارة إلى أنه في مكمن عميق لا يُرى حتى يُداوى.

وفي الخامسة: أعني جملة ﴿فَزَادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضًا﴾ هو أنهم حينما لم يعرفوا أنه مرض حتى يتجنبوا منه بل طلبوه مستحسنين له زادَهم الله تعالى؛ إذ «مَن طلب وَجَدَ»..

وفي «الفاء» التي هي للتعقيب السببي -مع أن وجود المرض ليس سببا لزيادته- رمزٌ إلى أنهم لمّا لم يشخّصوا المرض فلم يتحرَّوا وسائلَ الشفاء بل توسلوا بأسباب الزيادة كمن يضارب خصماً غالباً بيده العليلة، صاروا كأنهم طلبوا الزيادة فزادهم الله مرضاً بقلبِ أمَلِهم يأساً مزعجاً، بسبب ظفر المؤمنين، وقلبِ خصومَتهم حقداً مُحرقاً للقلب بسبب غلبةِ المؤمنين، فتولّد من مرضَي اليأس والحقد داءُ الخوف وعلّة الضعف ومرضُ الذلة، فاستولت على القلب.

ثم إن الله تعالى لم يقل: «فزاد الله مرضهم» بل جعل المفعولَ تمييزاً للإشارة إلى أن المرض الباطنيّ القلبيّ سرى إلى الظاهر أيضاً وتعدى إلى جميع الأفعال، فكأن هذا الداءَ الخبيث استولى على وجودهم فكأن وجودَهم نفسُ الداء، فزيادةُ جراحاتِ المرض ونفطاتِه زيادةٌ لنفس ذواتهم؛ إذ «اشْتَعَلَ الْبَيْتُ ناراً» يفيد أن النار سرت إلى تمام البيت حتى كأن تمام البَيت نارٌ تلتهب، بخلاف «اشتعلتْ نَارُ الْبَيْتِ» فإنه يصدق بتلهُّب النار من أيّ جانب كان.

وفي السادسة: أعني جملة ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ﴾ هو أن «اللام» التي هي للنفع إشارة إلى أنه لو كان لهم منفعةٌ لكانت البتةَ ألماً معذِّباً دنيوياً، أو عذاباً أُخروياً مؤلماً، وكونُه منفعةً من المحال، فمحالٌ لهم المنفعة.. وفي وصف العذاب بالأليم أي المتألِم، مع أن الأليم هو الشخص رمزٌ إلى أن العذاب استولى على وجودهم وأحاط بذواتهم ونفذ في بواطنهم بحيث تحولوا بنفس العذاب، وصار العذابُ عينَ ذواتهم، كانقلاب الفحم جمرةَ نار بنفوذ النار. فإذا نظر الخيال إلى صورة العذاب واستمع من جوانبه أنيناً وتألماً وعويلاً تتولد من الحياة المتجددة تحت العذاب، يتخيل أن العذاب هو الذي يئنّ ويتألّم. فما أشدَّ التهديد لمَن تأمل!

وفي السابعة: أعني جملة ﴿بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ هو أن في تعليق العذاب من بين جناياتهم المذكورة بالكذب فقط، إشارةً إلى شدة شناعة الكذب وقبحِه وسماجتِه. وهذه الإشارة شاهدُ صدق على شدة تأثير سمّ الكذب؛ إذ الكذبُ أساس الكفر، بل الكفرُ كذبٌ ورأس الكذب، وهو الأُولى من علامات النفاق. وما الكذب إلا افتراء على القدرة الإلهية، وضدٌّ للحكمة الربانية.. وهو الذي خرّب الأخلاق العالية.. وهو الذي صيّر التشبثات العظيمة كالشبحات المُنتنة.. وبه انتشر السمُّ في الإسلام.. وبه اختلت أحوالُ نوع البشر.. وهو الذي قيّد العالم الإنساني عن كمالاته، وأوقفه عن ترقياته.. وبه وقع أمثال «مسيلمة الكذاب» في أسفل سافلي الخسةِ.. وهو الحمل الثقيل على ظهر الإنسان فيعوِّقُه عن مقصوده.. وهو الأب للرياء والأم للتصنع.. فلهذه الأسباب اختص بالتلعين والتهديد والنعي النازل من فوق العرش..

فيا أيّها الناس! لاسيما أيّها المسلمون! إن هذه الآية تدعوكم إلى الدّقّة!

 فإن قلتم: إن الكذب للمصلحة عفوٌ؟

قيل لكم: إذا كانت المصلحةُ ضروريةً قطعية، مع أنه عذر باطل؛ إذ تقرر في أصول الشريعة: «إن الأمر الغير المضبوط (أي الذي لا يتحصّل) -بسبب كونه قابلاً لسوء الاستعمال- لا يصير علةً ومداراً للحكم»، كما أن المشقة لعدم انضباطها ما صارت علةً للقَصر، بل العلةُ السفرُ. ولئن سلّمنا فغلبةُ الضرر على منفعة شيء تفتي بنَسخه وتكون المصلحةُ في عدمه. وما ترى من الهَرْج والمَرْج في حال العالَم شاهدٌ على غلبة ضرر عذر المصلحة. إلّا أن التعريض والكناية ليسا من الكذب. فالسبيل مَثْنَى: إما السكوت؛ إذ «لا يلزم من لزومِ صدقِ كلِّ قولٍ قولُ كلِّ صدق». وإما الصدق؛ إذ الصدق هو أساس الإسلامية، وهو خاصة الإيمان، بل الإيمان صدقٌ ورأسه.. وهو الرابط لكل الكمالات.. وهو الحياة للأخلاق العالية.. وهو العِرق الرابط للأشياء بالحقيقة.. وهو تجلّي الحق في اللسان.. وهو محور ترقي الإنسان.. وهو نظام العالم الإسلامي.. وهو الذي يُسرِع بنوع البشر في طريق الترقي -كالبرق- إلى كعبة الكمالات.. وهو الذي يصيّر أخمدَ الناس وأفقرَه أعزّ من السلاطين.. وبه تَفوَّق أصحابُ النبيّ عليه الصلاة والسلام على جميع الناس.. وبه ارتفع «سَيّدُنا محمد الهاشميّ» عليه الصلاة والسلام إلى أعلى عليي مراتبِ البشر.

* * *

الآية (8)

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ اٰمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْاٰخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَۢ ﴿8﴾﴾

وجه النظم:  أنه كما يُعطَف المفردُ على المفردِ للاشتراك في الحُكم، والجملةُ على الجملةِ للاتحاد في المقصِد؛ كذلك قد تُعطَف القصةُ على القصة للتناسب في الغَرَض. ومن الأخير عطفُ قصةِ المنافقين على الكافرين. أي عطفُ ملخّص اثنتي عشرة آية على مآل آيتين؛ إذ لما افتتح التنـزيلُ بثناء ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ﴾ فاستتبع ثمراتِ ثنائه من مدح المؤمنين، فاستردف ذمَّ أضدادهم بسرّ «إنما تُعرف الأشياءُ بأضدادها»، ولِتَتم حكمةُ الإرشاد… ناسَبَ تعقيبُ المنافقين تكميلاً للأقسام.

 إن قلت: لِمَ أوجزَ في حق الكافرين كفراً محضاً بآيتين وأطنب في النفاق باثنتي عشرة آية؟

قيل لك: لنكاتٍ؛

منها: أنَّ العدُوّ إذا لم يُعْرَف كان أضرَّ. وإذا كان مُخَنّساً كان أخبثَ. وإذا كان كذاباً كان أشدَّ فساداً. وإذا كان داخلياً كان أعظمَ ضرراً؛ إذ الداخليُّ يفتّت الصلابةَ ويشتِّت القوةَ بخلاف الخارجي فإنه يتسبب لتشدّد الصلابة العصبية. فأسفاً! إن جنايةَ النفاق على الإسلام عظيمةٌ جداً. وما هذه المُشَوَّشِيَّة إلّا منه. ولهذا أكثَر القرآنُ من التشنيع عليهم.

ومنها: أن المنافق لاختلاطه بالمؤمنين يَستأنس شيئاً فشيئاً، ويألَف بالإيمان قليلاً قليلاً، ويستعدّ لأن يتنفّر عن حال نفسِه بسبب تقبيح أعماله وتشنيع حركاته؛ فتتقطرُ كلمةُ التوحيد من لسانه إلى قلبه.

ومنها: أن المنافق يزيد على الكفر جناياتٍ أُخَر كالاستهزاءِ والخداع والتدليس والحيلة والكذب والرياء.

ومنها: أن المنافق في الأغلب يكون من أهل الكتابِ ومن أهل الجَرْبَزَة الوهمية فيكون حَيّالاً دسّاساً ذا ذكاء شيطانيّ، فالإطنابُ في حقّه أعرقُ في البلاغة.

أما تحليل كلمات هذه الآية، فاعلم أن ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ خبرٌ مقدَّم لـ ﴿مَنْ﴾ على وجهٍ.

 إن قلت: كون المنافق إنساناً بديهيٌّ…؟

قيل لك: إذا كان الحُكم بديهياً يكون الغرضُ واحداً من لوازمه، وهنا هو التّعجيب. كأنه يقول: كونُ المنافق الرذيل إنساناً عجيبٌ؛ إذ الإنسان مكرّم، ليس من شأنه أن يتنـزّل إلى هذه الدَرَكة من الخِسّة.

 إن قلت: فَلِمَ قدَّم؟

قيل لك: من شأن إنشاء التعجّبِ الصدارةُ، وليتمركز النظرُ على صفة المبتدأ التي هي مناطُ الغرض وإلّا لانتظرَ ومرَّ إلى الخبر.

ثم إن عنوان ﴿النَّاسِ﴾ يترشح منه لطائف:

منها: أنه لم يفضَحهم بالتعيين، بل ستَرَهم تحت عنوان ﴿النَّاسِ﴾ إيماءً إلى أن سَترَهم وعدمَ كشف الحجاب عن وجوههم القبيحة أنسبُ بسياسة النبيّ عليه السلام؛ إذ لو فضَحَهم بالتشخيص لتوَسوَس المؤمنون؛ إذ لا يُؤْمَن من دسائس النفس. والوسوسةُ تنجرُّ إلى الخوف، والخوفُ إلى الرياء، والرياء إلى النفاق.. ولأنه لو شنّعَهم بالتعيين لقيل: إن النبي عليه السلام متردّدٌ لا يثقُ بأتباعِه.. ولأن بعضاً من الفساد لو بقيَ تحت الحجاب لانطفأ شيئاً فشيئاً واجتَهد صاحبُه في إخفائه ولو رُفع الحجاب -فبناءً على ما قيل «إِذا لمْ تسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ»- لَيقولُ: فليكن ما كان، ويأخذ في النشر ولا يبالي.

ومنها: أن التعبير بـ ﴿النَّاسِ﴾ يشير إلى أنه مع قطع النظر عن سائر الصفات المنافية للنفاق فأعَمُّ الصفات، -أعني «الإنسانية»- أيضاً منافيةٌ له؛ إذ الإنسانُ مكرَّم ليس من شأنه هذه الرَذالة.

ومنها: أنه رمزٌ إلى أن النفاق لا يختصُّ بطائفةٍ ولا طبقة، بل يوجد في نوع الإنسان أيةَ طائفةٍ كانت.

ومنها: أنه يُلَوِّح بأن النفاق يُخِلّ بحيثية كلِّ مَن كان إنساناً فلابد أن يتحرك غضبُ الكل عليه، ويتوجّه الكلُّ إلى تحديده، لئلا ينتشر ذلك السُّمُّ؛ كما يُخِلُّ بناموس طائفةٍ ويهيِّج غضبَهم شناعةُ فرد منهم.

وأما ﴿مَنْ يَقُولُ اٰمَنَّا﴾

 فإن قلت: لِمَ أفردَ ﴿يَقُولُ﴾ وجمع ﴿اٰمَنَّا﴾ مع أن المرجِع واحد؟

قيل لك: فيه إشارة إلى لطافةٍ ظريفة هي: إظهارُ أن المتكلمَ مع الغير متكلمٌ وحدَه فـ ﴿يَقُولُ﴾: للتلفظ وحدَه و﴿اٰمَنَّا﴾ لأنه مع الغير في الحُكم.. ثم إن هذا حكايةٌ عن دعواهم ففي صورة الحكاية إشارةٌ إلى ردّ المَحكيّ بوجهين، كما أن في المَحكيّ إشارةً إلى قوته بجهتين؛ إذ ﴿يَقُولُ﴾ يرمز بمادَّته إلى أن قولَهم ليس عن اعتقادٍ وفعلٍ، بل يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.. وبصيغته يومئ إلى أن سببَ استمرار مُدافعَتهم وادعائهم مُراءاة الناس لا مُحرّك وجداني.. وفي الدعوى إيماءٌ منهم بصيغة الماضي إلى: «إنّا معاشرَ أهل الكتاب قد آمنا قبلُ فكيف لا نؤمن الآن».. وفي لفظ ﴿نَا﴾ رمزٌ منهم إلى: «إنّا جماعة متحزّبون لسنا كفردٍ يَكذِب أو يُكذَّب».

وأما ﴿بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْاٰخِرِ﴾ فاعلم أن للتنـزيل أنْ يأخذ المَحكيَّ بعينه، أو يتصرفَ فيه بأخذ مآله، أو تلخيص عبارته:

فعلى الأولِ: ذكروا الأولَ والآخرَ من أركان الإيمان إظهاراً للقوي، ولِما هو أقربُ لأن يُقبَل منهم، وأشاروا إلى سلسلة الأركان بتكرار الباء مع القُرب.

وعلى الثاني: بأن يكون كلامَه تعالى؛ ففي ذكر القُطبين فقط إشارةٌ إلى أن أقوى ما يدَّعونه أيضاً ليس بإيمان؛ إذ ليس إيمانُهم بهما على وجههما. وكرّر الباء للتفاوت؛ إذ الإيمان بالله إيمانٌ بوجوده ووَحدته، وباليوم الآخر بحقيّته ومجيئه كما مرّ.

وأما ﴿وَمَا هُمْ بمؤمِنينَ﴾

 فإن قلت: لِمَ لم يقل «وما آمنوا» الأشبهِ بـ ﴿اٰمَنَّا﴾ ؟

قيل لك: لئلا يُتوهمَ التناقضُ صورةً، ولئلّا يَرجِع التكذيبُ إلى نفس ﴿اٰمَنَّا﴾، الظاهر إنشائيتُه المانعةُ من التكذيب. بل ليرجِع النفيُ والتكذيبُ إلى الجملة الضمنية المستفادَة من ﴿اٰمَنَّا﴾، وهي «فنحن مؤمنون».. وأيضاً ليدلّ باسميّة الجملة على دوام نفي الإيمانِ عنهم.

 إن قلت: لِمَ لا يدل على نفي الدوام مع أن «ما» مقدَّم؟.

قيل لك: إنَّ النفي معنى الحرف الكثيف، والدوامَ معنى الهيئة الخفيفة، فالنفيُ أغمسُ وأقربُ إلى الحُكم.

 إن قلت: ما نكتةُ[1] الباء على خبر «ما»؟

قيل لك: ليَدلّ على أنهم ليسوا ذواتاً أهلاً للإيمان وإن آمنوا صورةً، إذ فرقٌ بين «ما زيدٌ سخياً» و«ما زيدٌ بسخي»؛ إذ الأول -لهوائية الذات- معناه: زيدٌ لا يسخو بالفعل وإن كان أهلاً ومن نوع الكرماء. وأما الثاني: فمعناه زيدٌ ليس بذاتٍ قابل للسماحة وليس من نوع الأسخياء وإن أحسنَ بالفعل.

* * *


[1] نكتة في غاية الدقة (المؤلف).