المدافعة الأخيرة المقدَّمة إلى قاضي الجزاء

المدافعة الأخيرة المقدَّمة إلى قاضي الجزاء

باسمه سبحانه

مدافعتي ردًّا على القسم المتعلِّق بشخصي، والبالغ اثنتي عشرة صفحة في لائحة القرار الاتهامية المؤلَّفة من بضعٍ وستين صفحة

تحوي مدافعتي المحرَّرة في ضُبوط المحكمة الإجاباتِ القطعيَّة عن الموادِّ المذكورة ضدَّنا في لائحة القرار؛ وأُبرِزُ مدافعتي الأخيرة المؤلَّفة من تسعٍ وعشرين صفحة، ولائحةَ اعتراضي المؤلَّفةَ من تسعَ عشرة صفحة، ردًّا على لائحة الادعاء الموهومة التي لا أصل لها، والواردة فيما يسمى لائحة القرار هذه.

فهاتان المدافعتان تَرُدَّان وتُفنِّدان بصورةٍ قطعيةٍ جميعَ ما ورد في لائحةِ قرارِ قضاة التحقيق من نقاطِ مؤاخذةٍ وأسسِ اتهام، وتُظهِران بطلانها؛ على أني سأورِد هنا «خمس عُمَد» تُبيِّن مستند لائحة القرار هذه، ومن أين ضُلِّل الذين اتهموني، ومن أين اقتبسوا هذه المؤاخذة التي لا أصل لها.

الأولى: دعوى باطلةٌ لا أصل لها تتهمني وتتهم رسائلَ النور بمعارضة مبادئ الحكومة، ومناوئةِ النظام الحاكم، ومحاولةِ الإخلال بالأمن الداخلي، متذرِّعةً بخمس عشرةَ فقرةً وَرَدَتْ في جزأين أو ثلاثةٍ أو أربعةٍ من أجزاء رسائل النور المئة والعشرين.

لائحةُ اعتراضي على لائحة الادعاء

لائحةُ اعتراضي على لائحة الادعاء

أيتها الهيئة الحاكمة.. أيها المدعي العام..

إن كلَّ مادَّةٍ سيقَت لاتهامي في لائحة الادعاء، قد أُجيب عنها في مدافعاتي المحرَّرة في ضبوطكم بدائرة الاستجواب، وأخص بالذكر المدافعة المؤلَّفةَ من خمسٍ وثلاثين صفحة، والمسمّاة: «مدافعتي الأخيرة»، فأقدِّمها إليكم بدلًا من الاعتراض، وأقول لألفِت نظر العدالة والإنصاف إلى هذه النقطة:

أيُّ إنصافٍ وأيُّ ضميرٍ يسمحان باتهامي بمحاولةِ الإخلال بالأمن الداخلي، مع أنه لم تَبدُ مني أيَّةُ أمارةٍ أو بادرةٍ للإضرار بالاستقرار الداخلي والأمن العام، فضلًا عن أني أعيش مظلومًا تحت المضايقات في ولاية «إسبارطة» منذ عشر سنين؟!

ولو فُسِّرتْ المادَّة القانونيَّة (163) بمثل ما طُبِّقتْ بحقِّنا لَلزم أن تَشمَل جميعَ الأئمة والخطباء والوعاظ، وفي مقدمتهم رئاسة الشؤون الدينيَّة، لأننا وإياهم سواءٌ في تعليم الحياة الدينيَّة؛ فإنْ زُعِم سُخفًا أن تعليم الدين يُخِلُّ بالأمن الداخلي بالضرورة، لشَمِل هذا الجميع.

فقرةٌ كتبتُها لإخواني الأبرياء حين مُنِعتُ من التحدُّث إليهم

فقرةٌ كتبتُها لإخواني الأبرياء حين مُنِعتُ من التحدُّث إليهم، لتكون سُلوانًا من حالة اليأس التي أصابتْهم جرَّاء إهمال استغاثات قهرهم، أُضِيفتْ لمناسبتها هذا المقام

انظروا إلى حفظِ الحفيظ ذي الجلال وحمايته؛ فبرغمِ استجواب ما يربو على مئةٍ وعشرين طالبًا من طلاب رسائل النور -يتوافق عددهم بالمناسبة مع عدد رسائل النور-، وبرغم التدقيق في أوراقهم الخاصة، لم يُعثَر على أيَّة مادَّةٍ تثبِتُ صلةَ أحدٍ منهم بأيِّ تنظيمٍ من التنظيمات العديدة المنتشرة، المدعومة بمؤامرات الأجانب وحِيَل المنظَّمات المعارِضة، وليس هذا إلا حمايةً ربَّانيَّةً ظاهرةً ساطعة؛ وهو كذلك محافظةٌ إلهيَّة، وعنايةٌ رحمانيَّةٌ تؤيِّدُ بقوَّةٍ ما تحظى به رسائل النور من كراماتٍ غيبيَّةٍ للإمام عليٍّ رضي الله عنه والغوث الأعظم قُدِّس سرُّه.

وإنَّ أياديَ اثنين وأربعين من إخوتنا الأبرياء المظلومين المبسوطة بباب الحضرة الإلهيَّة قد صدَّتْ قذيفةً من عيارِ اثنين وأربعين، [تعبيرٌ مجازيٌّ شبَّه به الأستاذ النُّورْسِيّ حجمَ المكيدة التي دُبِّرت له ولطلاب النور بأكبر قذيفةٍ كانت تُستعمَل في ذلك الحين؛ هـ ت] وردَّتْها من حيثُ أتتْ، وفجَّرتْها معنًى فوق رؤوسِ مُطلِقيها، فلم تُصبْنا سوى جِراحٍ خفيفةٍ نُثاب عليها؛ وإن النجاةَ بأضرارٍ يسيرةٍ من قذيفةٍ كانت تُحشى منذ سنةٍ لَتُعدُّ من الخوارق، وحقُّ نعمةٍ عظيمةٍ كهذه أن تُقابَل بالشكر والفرح والسرور.

إن حياتنا بعد اليوم لا يمكن أن تكون مُلكًا لنا، فقد كان يُراد لها أن تُمحى نهائيًّا بحسَب مخطَّطات المفسدين، فينبغي إذًا أن نجعلها من الآن فصاعدًا وَقْفًا لا على أنفسنا بل على الحقِّ والحقيقة؛ ويلزمنا أن نَجِدَّ ونجتهد لا أن نشكو، كي نشاهد أثرَ الرحمة ووجهَها ولُبابَها، مما يدفعُنا إلى الشكر.

***

جزءٌ من دفاع بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ في محكمة «أسكي شَهِر»

جزءٌ من دفاع بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ

في محكمة «أسكي شَهِر» عام  1935م

تَبيَّنَ في محكمةِ «أسكي شَهِر» عدمُ اشتغالِ سعيد النُّورْسِيّ بالأمور السياسية، إلا أنه تقرر إنزال عقوبةٍ به لمجرَّد تأليفه رسالةً تفسِّر آيةً قرآنيَّةً كريمةً؛ ولا شكَّ أن هذه سابقةٌ قضائيَّةٌ خطيرة، إذْ لم تَشهَد أيُّ محكمةٍ في العالَم إنزال عقوبةٍ بمفسِّرٍ لتفسيره آيةً كريمة.

فقرة من الدفاع

هيئةَ المحكمة..

لقد اتهموني [المقصود بهؤلاء حيثما ورد ذكرهم في مدافعات الأستاذ النُّورْسِيّ: أعداء الدين العاملون في الخفاء، الذين لهم نفوذٌ فعال في مؤسسات الدولة؛ هـ ت] بأربع موادَّ أو خمس، فأوقفوني:

المادَّة الأولى: أُخبِر عني بأنني أنوي القيام بأعمالٍ يمكن أن تؤدِّي للإخلال بالأمن العام، من خلال اتخاذ الدين أداةً للفكر الرجعيّ.

القسم الثالث: حياته في أسكي شهِر

القسم الثالث
أسكي شَهِر

[مدينةٌ تقع في شمال غربيِّ تركيا، وتبعد عن العاصمة أنقرة 240 كم غربًا، وتبعد عن منفى الأستاذ بـ«إسبارطة» قرابة 300 كم شَمالًا؛ هـ ت]

[نيسان/أبريل 1935 – نيسان/أبريل 1936]

حين رأى أعداءُ الدين العاملون في الخفاء أن رسائل النور آخذةٌ بالظهور، وأن الإسلام والإيمان قد أخذ يشتدُّ عودُهما، رفعوا في العام 1935م دعوى إلى محكمة الجنايات في «أسكي شَهِر» تقوم على اتهاماتٍ ملفَّقةٍ مضلِّلةٍ للحكومة، تقول: «إنَّ بديع الزمان يؤسِّس منظَّمةً سرِّيَّة، ويناوئ النظام الحاكم، ويعمل على تقويض أساساته» إلى غير ذلك من الاتهامات، وكان غرضهم من هذه الدعوى الكاذبة أن يستصدروا قرارًا يُدِينُه إدانةً قاطعة، ويُفضي إلى إعدامه.
وبناءً على هذا توجَّه إلى «إسبارطة» كلٌّ من وزير الداخلية وقائدِ الشرطة العسكرية يرافقهما حشدٌ من الدَّرَك كاملُ العتاد، ونَشروا على طول الطريق بينها وبين مدينة «أفيون» جنودًا خيَّالة، ووُضعتْ ولاية «إسبارطة» وما حولها تحت سيطرة الوحَدات العسكريَّة؛ إلى أن جِيءَ ذاتَ صباحٍ إلى المكان الذي يختلي فيه بديعُ الزمان، فأُخرِج منه هذا المظلومُ البريء، وسِيقَ مع طُلابه في الشاحنات مُكبَّلين إلى «أسكي شَهِر».
وفي الطريق تعاطَفَ قائد العناصر «روحي بك» مع بديع الزمان وطُلابه، فأمر بحلِّ قيودهم، فتابعوا الطريق مؤدِّين صلاتَهم على وقتها دون فوات، وأصبح «روحي بك»صديقًا لبديع الزمان وطُلابه بعد أن أدرك حقيقةَ أمرهم وعَرَف براءتَهم.

فقرةٌ للحافظ المُخلِص والأستاذ المُدقِّق ذي القلب النقي الحافظ «خالد» صاحب الخدمات الكثيرة السابقة في نسخ رسائل النور

فقرةٌ للحافظ المُخلِص والأستاذ المُدقِّق ذي القلب النقي الحافظ «خالد» صاحب الخدمات الكثيرة السابقة في نسخ رسائل النور

أُفصِح عن شعورٍ واحدٍ من آلاف المشاعر التي أُكِنُّها تجاه مؤلِّف رسائل النور، بديع الزمان ونادرة العصر وخادم القرآن سعيد النُّورْسِيّ، فأقول:

إنَّ أستاذي مَظْهَرٌ للاسم الجليل: «النُّور»، فهذا الاسمُ الشَّريف هو الاسم الأعظم في حقه؛ فاسم قريته: «نُورْس»، واسم أمه: «نُوْريَّة»، واسم أستاذه القادري: «نور الدين»، واسم أستاذه النقشبندي: «سيِّد نور محمَّد»، ومن أساتذته في القرآن: «الحافظ نوري»؛ وإمامه الخاصُّ في الخدمة القرآنيَّة «ذو النُّورين» رضي الله عنه، كما أن آية النور التي نوَّرتْ فكره وقلبه، والتَّمثيلات النُّوريَّةَ الرفيعةَ التي غدَتْ وسيلةً لبيان المسائل المعضِلة، وتسمية مجموع رسائله بـ«رسائل النور»، كلُّ هذا يؤيد أنَّ اسم «النور» هو الاسم الأعظم في حقه.

إنَّ مؤلفاته البديعة المسمَّاةَ «رسائلَ النور» مع قِسمها المؤلَّف بالعربية قد بلغت أجزاؤها حتى الآن مئةً وتسعة عشر جزءًا، [وقد بلغت الآن مئة وثلاثين جزءًا؛ المُعِدّون] كلُّ رسالةٍ منها فريدةٌ في موضوعها.

وإنَّ رسالة «الحشر» التي اشتهرت باسم «الكلمة العاشرة» رسالةٌ رائعةٌ جامعةٌ فضلًا عن سموِّها ورفعتها، ومع أن دلائل العلماء على الحشر والنشر دلائلُ نقليةٌ محضة، إلا أن هذه الرسالة قد أثبتتِ الحشرَ والنَّشرَ بدلائل عقليَّةٍ بغاية القوَّة والقطعيَّة، وأنقذتْ إيمان الكثيرين.

وإنني بسرِّ آية: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ [يونس:5] أستطيع القول: إنَّ رسائل النُّور قَمرُ معرفةٍ يستمدُّ أنواره من شمس الحقيقة: «القرآن المعجِز البيان»، حتى باتتْ مصداق القضيَّة الفلكيَّة المشهورة القائلة: «نورُ القمر مُستفادٌ من الشمس».

كما أستطيع أن أقول أيضًا: إنَّ أستاذي من حيثُ صِلتُه بالقرآن قد صار بمثابة قمرٍ له، يستمدُّ النورَ من شمسِ سماء الرسالة، أعني الرسول الأكرم (ص)، وقد تبدَّى هذا القمر في شكل «رسائل النور».

ويتجلى في أستاذي من الخصال الحميدة ما يندر أن يوجد في الآخرين، فإذا نظرتَ إلى ظاهر حاله حسِبْتَه كمَنْ لا يعرف حتى أحكام العبادات، لكن ربما تغير الأمر فجأةً فوجدتَه بحرًا من العلم؛ يقول ما يُفتَحُ له على قدر استفادته من الرسول الأكرم (ص)، وحين لا تَرِد تلك الاستفادة منه (ص)، يعلِن فناءه عن نفسه، فيَظهر كأنه المُحاق قائلًا: «لا نور لي ولا قيمة»، وهذه الخصلة منه تواضعٌ تامٌّ، وعملٌ تامٌّ بحديث: «مَنْ تَواضَعَ رَفَعَه الله». [أخرجه الترمذي برقم 2161، بلفظ: «ما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله»، وابن ماجه برقم 4316، بلفظ: «من يتواضع لله سبحانه درجة يرفعه الله به درجة»؛ هـ ت]

ومن آثار هذه الخصلة فيه أنه إذا وُجِدَتْ من طلبته -من أمثالنا- مخالفةٌ له في بعض المسائل العلميَّة، دقَّق فيما قالوا، فإنْ وجده حقًّا قَبِله وسلَّم به بكلِّ تواضعٍ وسرور قائلًا: «ما شاء الله، لقد عرفتم أفضلَ مني، فجزاكم الله خيرًا»؛ فيُرجِّح الحقَّ والحقيقة دائمًا على غرور النَّفس وأنانيَّتها؛ بل لقد كنْتُ أخالفه في بعض المسائل فيُسَرُّ من ذلك ويثني علي، فإن كنتُ مخطئًا نبَّهني بأسلوبٍ حسنٍ دون إحراج، وإن أحسنتُ سُرَّ كثيرًا.

رسالةٌ إلى طبيبٍ أورثتْه قراءةُ رسائلِ النور صحوةً ويقظةً فكان شديدَ الإقبال عليها والشَّغَفِ بها

رسالةٌ إلى طبيبٍ أورثتْه قراءةُ رسائلِ النور صحوةً ويقظةً فكان شديدَ الإقبال عليها والشَّغَفِ بها

مرحبًا بك أيها الصديق الوفيُّ العزيز، والطبيب الموفَّق الذي اهتدى إلى تشخيص مرضه.. إن الصحوة الروحية التي بيَّنْتَها بحماسٍ في رسالتك جديرةٌ بالتهنئة والتبريك.

اِعلم أن أغلى ما في الموجودات: الحياة؛ وأن أثمن ما في الوظائف: خدمة الحياة؛ وأن أجلَّ ما في خدمات الحياة: السعي لتحويل الحياة الفانية إلى حياةٍ باقية.

أما قيمةُ هذه الحياة وأهميتُها فليست إلا باعتبارها نواةً ومبدأً ومنشأً للحياة الباقية، وإلا فإنَّ حصْرَ النظر في هذه الحياة الفانية على نحوٍ يُفسِد الحياة الأبدية ويُسمِّمها ليس إلا حماقة؛ وهو أشبهُ بتفضيلِ لمعةِ برقٍ خاطفة على شمسٍ سرمديةٍ.

وإن الأطباء الماديين الغافلين هم أشدُّ الناس مرضًا بمنظار الحقيقة؛ غير أنهم إذا تمكنوا أن يتناولوا ترياقَ العلاجِ الإيماني من صيدلية القرآن القدسية، داوَوا أمراضهم وداوَوا جراحات البشرية كذلك؛ ومثلما كانتْ صحوتُك هذه بلسمًا لجراحك، فإنها ستكون دواءً لأسقامِ الأطباء الآخرين كذلك إن شاء الله.

وأنت تَعلم أن إدخال سُلوانٍ معنوي على قلبِ مريضٍ يائسٍ قانطٍ قد يكون أنفع له من ألف دواء، إلا أن الطبيب الغارق في أوحال الطبيعة يزيد ذلك المريضَ المسكين ظُلمةً فوق يأسه المرير؛ فعسى أن تجعلَ منك صحوتُك هذه طبيبًا يُشِعُّ النور ويبعث السُّلوان والأمل لأمثال أولئك المساكين إن شاء الله.

تَعْلمُ أن العمر قصير، وأن الواجبات كثيرة؛ ولعلك إن فتَّشتَ المعلومات التي في ذهنك -كما فعلتُ أنا- وجدتَ فيها أمورًا كثيرةً شبيهةً بأكوام حطبٍ لا حاجة لها ولا أهمية، ولا فائدة ترجى منها؛ ولقد أجريتُ تفتيشًا كهذا فوجدتُ أمورًا كثيرةً لا لزوم لها؛ ولهذا لا بد من تحري وسيلة تجعلُ من تلك المعلومات العلمية والمعارف الفلسفية علومًا نافعةً منوَّرةً تنبض بالحياة؛ فاسألِ الله جلَّ شأنه أن يمُنَّ عليك بصحوةٍ توجِّه فكرَك في سبيل الحكيم ذي الجلال سبحانه، وتُضرِم النار في أكوام الحطب تلك فتُحيلُها نورًا، وتغدو تلك المعارف العلمية التي لا لزوم لها معارفَ إلهيَّةً نفيسة.

صديقي اللبيب..

إن القلب ليرغب أيَّما رغبةٍ في أن يَبرز أشخاصٌ من أهل العلوم الحديثة كالسيد «خلوصي»، يشعرون بالحاجة واللهفة إلى الأنوار الإيمانية والأسرار القرآنية؛ وبما أن بمقدور «الكلمات» أن تخاطب وجدانك فعُدَّ كلَّ رسالةٍ منها رسالةً واردةً إليك لا من شخصي بل من دلَّالٍ للقرآن، واعتبرها وصفةً من صيدلية القرآن القدسية؛ واجعلها وسيلة مجالسةٍ وحضورٍ في الغَيبة.

هذا ولك أن تراسلني متى شئت، لكن لا تتضايق إنْ لم أردَّ بجواب، فأنا منذ القديم قلَّما أكتب الرسائل، حتى إنني لم أكتب إلى شقيقي سوى جوابٍ واحدٍ منذ ثلاث سنوات برغم رسائله الكثيرة إلي.

سعيد النُّورْسِيّ

***

جوابٌ عن سؤالٍ خاص

جوابٌ عن سؤالٍ خاص

هذا سرُّ عنايةٍ كان قد كُتِبَ للتداول الخاص منذ القديم، وأُلحِق بختامِ «الكلمةِ الرابعةَ عشرة»، غير أن أكثر النُّساخ قد نَسُوه بطريقةٍ ما فلم يكتبوه، وهذا يعني أن موضعَه اللائق والمناسب إنما كان هنا، ولأجل هذا خَفِيَ عليهم.
تسألني: لماذا يوجد في «الكلمات» التي ألَّفتَها مُستَقِيًا من القرآن قوةٌ وتأثيرٌ قلَّما يوجد في كلام المفسرين والعارفين؟ حتى لَيوجد في السطر أحيانًا من القوة ما يضاهي صفحة، ويوجد في الصفحة من التأثير ما يضاهي كتابًا.
فالجواب: بما أن الشرف في هذا يعود إلى إعجاز القرآن لا إليَّ، فإنني أقول بلا حرج: إن هذا هو حال معظم «الكلمات»؛ لأنها تصديقٌ لا تَصَوُّر؛ وإيمانٌ لا تسليم؛ وشهادةٌ وشهود لا معرفة؛ وتحقيقٌ لا تقليد؛ وإذعانٌ لا التزام؛ [والإذعان نابعٌ من القلب بخلاف الالتزام؛ هـ ت] وحقيقةٌ لا تصوُّف؛ وبرهانٌ ضمن الدعوى لا مجرَّد دعوى.
وحكمةُ هذا السر هي أن الأسس الإيمانية كانت محفوظةً مَصونةً في السابق، وكان التسليم قويًّا، وكانت معارف العارفين وبياناتُهم في الفرعيات مقبولةً كافيةً وإن كانتْ بلا دليل؛ لكن لما مدَّت الضلالة العلمية [يقصد بالعلم هنا العلوم الطبيعية، وقد تجتمع الضلالة والعلم مصداقًا لقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [الجاثية:23] إلى آخر الآية؛ وقوله سبحانه: ﴿فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [غافر:83]؛ هـ ت] في هذا الزمان يدَها إلى الأسس والأركان، فإن الحكيم الرحيم ذا الجلال -وهو المُحسِن المتفضِّل بالدواء الناجع لكلِّ داء- قد أحسَنَ إلى مؤلَّفاتي العائدةِ لخدمة القرآن، وتفضَّلَ عليها بشُعلةٍ من ضربِ الأمثال التي هي أسطعُ مظاهرِ إعجازه، رحمةً منه بعجزي وضعفي وفقري واحتياجي.
فأحمدُ الله أنه بمنظارِ ضربِ الأمثال قُرِّبَتْ أبعدُ الحقائق.
وبجهةِ الوحدة في ضربِ الأمثال جُمِعَتِ المسائلُ المتفرِّقة غايةَ التفرُّق.
وبسُلَّمِ ضربِ الأمثال يُسِّر الوصولُ إلى أعلى الحقائق.
وبنافذةِ ضربِ الأمثال حَصَل يقينٌ إيمانيٌّ بالحقائق الغيبية والأسس الإسلامية قريبٌ من الشهود.
فاضطر العقل للتسليم، وسَلَّم معه الخيالُ والوهم؛ بل حتى النفسُ والهوى، وألقى الشيطان سلاحَه راغمًا.
والحاصل أنه حيثما وُجِد في مؤلَّفاتي جمالٌ وتأثير فإنما هو من لمعاتِ التمثيلات القرآنية، وإنما نصيبي الطلبُ مع شدة احتياجي، وتضرُّعي مع غاية عجزي؛ فالداءُ دائي والدواءُ دواءُ القرآن.

***

المسألة السابعة من المكتوب الثامن والعشرين

المسألة السابعة من المكتوب الثامن والعشرين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس:58]

هذه المسألة سبعُ إشارات، لكننا نبين أولًا سبعةَ أسبابٍ تُظهِر بعضَ أسرار العناية الإلهية، تحدثًا بنعمة الله.
السبب الأول:
رأيتُ في واقعةٍ صادقةٍ قُبيل الحرب العالمية الأولى أو في أوَّلها، رأيتُني تحت جبل «أغري» المعروف بجبل «أرارات»، [جبلٌ يقع بأقصى شرقيِّ تركيا؛ هـ ت] وإذا به ينفجر انفجارًا يثير الهول والفزع، فتترامى أجزاؤه العظيمة كالجبال على أنحاء الدنيا، فنظرتُ وأنا في هذا الهول الذي غشيني، فإذا بأمي رحمها الله إلى جانبي، فقلت لها: لا تخافي يا أماه.. إنه أمرُ الله، وإنه حكيمٌ رحيم؛ وبينما أنا في هذه الحال إذا بشخصٍ جليلٍ مَهيبٍ يخاطبني آمِرًا: بيِّنْ إعجازَ القرآن.
فاستيقظتُ، وفهمتُ أن ثمة انفجارًا وتحوُّلًا عظيمًا سيقع، وستتهدم على إثره الأسوارُ من حول القرآن، فيدافع عن نفسه بنفسه، وستُشَنُّ عليه الهجمات، وسيكون إعجازُه درعَه الفولاذي؛ وفهمتُ أنَّ شخصًا مثلي سيكون مرشَّحًا بما يفوق حدَّه لإظهار نوعٍ من ذلك الإعجاز في هذا الزمان، وأنني أنا ذلك المرشَّح.
وما دام إعجازُ القرآن قد بُيِّنَ بدرجةٍ ما بـ «الكلمات»، وكانت خدمتُنا التي قدمناها لحساب الإعجاز، وكانت من بركاته ورشحاته، فلا ريب أن إظهارَ العنايات التي حفَّتْ بهذه الخدمة أمرٌ يؤيد هذا الإعجازَ ويسانده، فلا بد من إظهارها.

بضعُ مكاتباتٍ لبديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ

بضعُ مكاتباتٍ لبديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ

وفقراتٌ عن بعض نُسَّاخ رسائل النور زمانَ تأليفها

 

رسالةٌ صغيرةٌ خاصةٌ تصلُح أن تكون تتمةَ المسألة الثالثة من المكتوب الثامن والعشرين

أَخَوَيَّ في الآخرة وطالِبَيَّ المُجِدَّيْن «خسرو أفندي» و«رأفت بك».. كنا نشعر بثلاثِ كراماتٍ قرآنيةٍ في الأنوار القرآنية المسماة «الكلمات»، وإنكما بهمَّتِكما وحماسِكما قد زدتماها كرامةً رابعةً أخرى.

فأما الكرامات الثلاث التي نعرفها، فأُولاها: السهولة والسرعة غيرُ العادية في تأليفها، حتى إن «المكتوب التاسع عشر» المكوَّن من خمسةِ أقسام قد أُلِّف بين الجبال والبساتين دون الرجوع إلى كتاب، واستغرق تأليفه اثنتي عشرة ساعة، على مدى ثلاثة أيام.

وأُلِّفت «الكلمة الثلاثون» في غضون خمسِ أو ستِّ ساعاتٍ وقتَ المرض؛ وأُلِّف مبحثُ الجنة، وهو «الكلمة الثامنة والعشرون»، خلال ساعةٍ أو ساعتين في بستان سليمان بالوادي، حتى لقد عَجِبنا -أنا وتوفيق وسليمان- لهذه السرعة؛ وهكذا كان في تأليفها مثلُ هذه الكرامة القرآنية.

ثانيتُها: أنه ليس في كتابتها سآمةٌ ولا مللٌ، بل فيها سهولةٌ وحماسٌ لا مثيل لهما؛ فمع وجود أسبابٍ كثيرةٍ في هذا الزمان تورثُ الأرواحَ والعقولَ سآمةً ومللًا، إلا أنه ما إن تُؤَلَّف إحدى «الكلمات» حتى يُشرَع بنَسخِها في أماكن كثيرةٍ بحماسٍ شديد، وتحظى بالأولوية والتقديم رغم المشاغل المهمة؛ وهكذا.

الكرامة القرآنية الثالثة: أن قراءتها لا تُمَلُّ أيضًا، لا سيما إذا استُشعِرت الحاجة، فكلما قُرئت أَورثتْ لذةً من غير إملال.

وها أنتما قد أثبتما كرامةً قرآنيةً رابعة؛ ذلك أن أخانا «خسرو» الذي يصف نفسه بالكسول، والذي تقاعس عن كتابة «الكلمات»، ولم يشرع بنسخها رغم أنه سمع بها منذ خمس سنين، كتب في شهرٍ واحدٍ أربعةَ عشر كتابًا بخطٍّ جميلٍ متقَن، فلا شك أن عملَه هذا يُعَدُّ كرامةً رابعةً للأسرار القرآنية؛ خصوصًا النوافذَ الثلاث والثلاثين، وهي «المكتوب الثالث والثلاثون»، [رسالة النوافذ هي «المكتوب الثالث والثلاثون»، وهي كذلك «الكلمة الثالثة والثلاثون»، وقد نُشِرتْ ضمن «الكلمات»؛ هـ ت] فإنه قدَّره حقَّ التقدير فكتبه بخطٍّ في غاية الجمال والإتقان.

نعم، فتلك الرسالة هي أقوى الرسائل وأسطعُها إذ تبحث في معرفة الله والإيمان به، ومع أن النوافذ التي في مستهلها مجملةٌ مختصرة، إلا أنها تنجلي شيئًا فشيئًا ويزداد سطوعها؛ بل أكثرُ «الكلمات» تبدأ مجملةً، ثم تنبسط وتنير شيئًا فشيئًا، بخلاف المؤلفات الأخرى.

***