بعضٌ من الرسائل المتبادلة بين الأستاذ وطلابه أثناء إقامته بأميرداغ

بعضٌ من الرسائل المتبادلة بين الأستاذ وطلابه
أثناء إقامته بأميرداغ

إخواني في «أميرداغ»..

قولوا لمن تساورهم الهواجس والظنون تجاهي: إن هذا الرجل الذي نقوم على خدمته قد حصلت الحكومة بعد تفتيشٍ دقيق على جميع كتبه وأسراره ومراسلاته الخاصة وغير الخاصة الممتدة على مدى عشرين عامًا، ودققتْ فيها الجهاتُ القضائيةُ في كلٍّ من «إسبارطة» و«دَنِزْلي» وأنقرة طَوالَ تسعة أشهرٍ، فلم تجد في كتبه وأوراقه التي ملأتْ خمسة صناديق مادةً واحدةً تستوجب عقوبتَه أو عقوبةَ أحدٍ من طلابه ولو بسجنِ يومٍ واحد، فصدر قرار براءته عن كلٍّ من محكمةِ «دَنِزْلي» ولجنةِ الخبراء بأنقرة.

ثم إن هذا الرجل الذي نتولى رعاية شؤونه الضرورية احترامًا لشيخوخته، قد ادعى أمام المحكمة وأشهَدَ على دعواه جميعَ مَن حضر المحكمة من أصحابه فصدَّقوه بأنه ما قرأ صحيفةً منذ عشرين سنةً، ولا طالع كتابًا سياسيًّا، ولا استفسر عن شيءٍ من ذلك ولا تحدَّث به؛ وأنه منذ عشر سنين لا يعرف أحدًا من رجال الدولة وكبار المسؤولين سوى رئيسَي حكومةٍ ووالي مدينةٍ ونائبٍ في البرلمان، وليس لديه فضولٌ لمعرفتهم.

وأنه لم يَسأل منذ ثلاث سنين عن الحرب العالمية الثانية، ولم يعلم عنها شيئًا، ولا اهتم بأمرها، ولا استمع إلى مذياع.

حديثُه مع زُواره

حديثُه مع زُواره

كان حديث الأستاذ مع زُواره يدور حول رسائل النور وخدمة الإيمان، وكان يبين لهم أن تقوية الإيمان هي مقصد رسائل النور الأوحد، وهي التي ستمنعُ خطر الشيوعية والإلحاد الذي يهدد الوطن والشعب؛ وأن ألزَم وظيفةٍ تقع على عاتق الفرد والمجتمع إنما هي العمل على إنقاذ الإيمان وتقويته؛ وأن أعظم قضيةٍ في هذا الزمان هي الاعتصام بالقرآن؛ وأن رسائل النور لم تُهاجَم إلا لكونها ركَّزت جهودَها وعملتْ بكل قوتها على هذه القضية بالتحديد، فلهذا هاجمها أعداء الوطنِ والشعبِ والملاحدة العاملون في الخفاء، وحرَّضوا عليها بشتى الحجج والذرائع؛ ثم يضيف قائلًا: لا سبيل أمامنا سوى العمل الإيجابي البَنَّاء، فما نحمله بأيدينا هو النور لا هراوة السياسة، وحتى لو كان لنا مئة يدٍ فإنها بالكاد تكفي للنور لا غير.

ويوضح لهم أنْ لهذا العمل الإيجابي البَنَّاء من الأثر ما يفوق أثر أقوى الأسلحة، وأنه هو الذي سيهزم أعداء الدين؛ ويبين كذلك أنه لا علاقة لرسائل النور بالسياسة، إذْ إن أهم أساسٍ في مسلكنا هو الإخلاص، فلا يُبتغى فيه مقصدٌ سوى مرضاة الله تعالى؛ وهذا هو مكمن قوة النور، فبالإخلاص والعمل الإيجابي البَنَّاء تَعُمُّ الرحمةُ والعنايةُ الإلهيةُ رسائلَ النور بالحفظ والحماية.

حادثة تسميمه

حادثة تسميمه

وقعت حادثة التسميم على يد كبيرِ العناصر المكلفين بمراقبة الأستاذ، وقد أغراه بالأمر أحدُ المسؤولين السياسيين بقوله: «لقد تلقينا أمرًا من الجهات العليا بتصفيةِ الرجل»؛ فصعد الرقيب في جنح الظلام إلى نافذةِ بيت الأستاذ بواسطة سلَّمٍ، ودَسَّ السُّم في طعامه؛ فما طلع الصباحُ إلا والأستاذ يتقلب ألمًا من أثر السُّم الذي سرى في جسده؛ وبالرغم من شدة السُّم إلا أن العناية الإلهية حفظته، وقد أخبر عن حاله قائلًا: «لقد حُفِظتُ من الموت بمددِ الأوراد القدسية كالجوشن الكبير، لكن المرض والألم شديدان».

بقي الأستاذ أسبوعًا كاملًا في حالٍ يُرثى لها، فلم يذق طعامًا ولا شرابًا إلا النزر اليسير، فلما كُتِب له الشفاء عاد من جديدٍ يشتغل بوظائف رسائل النور من مراجعةٍ وتصحيحٍ ونحو ذلك؛ ولم يكن ليترك شيئًا من صلاته حتى وهو في شدة المرض، غير أن تسميمه في المرة الثانية والثالثة كان شديدًا يفوق التحمُّل، [تعرض الأستاذ للتسميم مراتٍ كثيرة، وقد سُمِّم في «أميرداغ» وحدَها ثلاث مرات، وسَيَرِد في أواخر هذا القسم إخباره عن نفسِه بأنه سُمِّم إحدى عشرة مرة؛ هـ ت] فلم يقدر في حينها إلا على أداء الفرائض وهو طريح الفراش.

يحدثنا اثنان من طلابه تولَّيا العناية به ذات ليلة، وسَهِرا يحرسانه بعيونٍ دامعةٍ حتى الصباح في تلك الأيام التي شارف فيها على الموت، فيقولان: اعتدل في فراشه قُبيل الفجر.. جلس وهو مغمض العينين.. رفع يديه إلى السماء، وردَّدَ بصوتٍ خفيضٍ بضعَ كلماتٍ دعا فيها لرسائل النور بالظهور والانتشار، ولطلابها بالحفظ والسلامة.. ثم ما لبث أن انطرح في فراشه فاقدًا الوعي.

الإفراج عن بديع الزمان من سجن دَنِزْلي ونفيُه إلى أميرداغ

الإفراج عن سعيدٍ النُّورْسِيّ من سجن «دَنِزْلي»
ونفيُه إلى «أميرداغ»

إثر صدور قرار البراءة من محكمةِ جناياتِ «دَنِزْلي» في حزيران/يونيو 1944م، أُفرِج عن طلاب النور وعاد كلٌّ منهم إلى موطنه، بينما نُقِل الأستاذ النُّورْسِيّ للإقامة مؤقتًا في فندقٍ وسط مدينة «دَنِزْلي»بانتظار صدور الأوامر من أنقرة؛ وكان من نتائج اعتقال طلاب النور ثم محاكمتِهم إثارةُ اهتمام أهالي «دَنِزْلي» ودفعُهم للتعرف على رسائل النور، كما أعلن عددٌ من رجال القضاء عن وقوفهم إلى جانبها أثناء سير المحكمة، وعملوا على نشرها في «دَنِزْلي»؛ وفي نهاية المطاف صدر القرار العادل المنتظَر، وأصبح رئيسُ المحكمة -الذي بات يُعرَف في دائرة رسائل النور بالقاضي العادل- وأعضاءُ المحكمة وأصحابُ الهمم العالية الذين خدموا القضية بصمت مبعثَ سرورٍ لجميع أهل الإيمان، وتبوَّؤوا مقامًا معنويًّا مشرِقًا خالدًا.

***

بعد إقامة الأستاذ النُّورْسِيّ قرابة شهرين في «دَنِزْلي» صدر الأمر بإقامته الجبرية في «أميرداغ» التابعة لولاية «أفيون»، فنُفي إليها في شهر آب/أغسطس من العام نفسه؛ أقام أول الأمر في فندقٍ خمسةَ عشر يومًا، ثم استقرَّ ببيتٍ معَدٍّ للإيجار، وكان يدفع إيجاره من ماله؛ ويمكن إيجاز القول عن حياته بـ«أميرداغ» بأنها كانت حياةً تحت المراقبة الدائمة، فبالرغم من حصوله على البراءة قضائيًّا، وبالرغم من ردِّ مؤلَّفاته المصادَرة، إلا أنه لم يُترَك حرًّا طليقًا، بل على العكس من ذلك: أُحكِمت الرقابة عليه، وبات منزله تحت المراقبة والمتابعة أكثر من أيِّ وقتٍ سبق؛ وقد ذَكر في إحدى رسائله أن المضايقات التي كان يعانيها في يومٍ واحدٍ بـ«أميرداغ» تعدِل أحيانًا مضايقاتِ شهرٍ بأكمله في سجن

القسم السادس: حياتُه في أميرداغ

القسم السادس

أميرداغ

حياتُه في أميرداغ

[«أميرداغ» مدينةٌ صغيرةٌ تقع غربيَّ الأناضول، وتتبع إداريًّا لولاية «أفيون»، وقد كانت في تلك الحقبة التي نحن بصددها مجرد بلدةٍ صغيرةٍ؛ هـ ت]

[آب/أغسطس 1944 – كانون الثاني/يناير 1948]

مقدمة:

إثرَ قرار البراءة الصادر من محكمةِ جناياتِ «دَنِزْلي» لَبِثَ الأستاذ مدة شهرين في مدينة «دَنِزْلي» نفسِها، ثم صدر قرارٌ بوضعه تحت الإقامة الجبرية بـ«أميرداغ»، وبالرغم من ذلك فقد شهدت رسائل النور فتوحاتٍ جديدة، إذِ اتسعت رقعة انتشارها لتعُمَّ معظم المدن والقرى والنواحي، وازداد عدد طلابها في زمنٍ يسير ليبلغ مئات الآلاف، وبُدِئَ بنشرها بواسطة آلات النسخ.

استمرت إقامة الأستاذ الجبرية بـ«أميرداغ» مدة ثلاث سنين، ثم اعتُقِل هو وعددٌ من طلابه وزُجَّ بهم في السجن للمرة الثالثة، حيث سُجِنوا بـ«أفيون» أواخر العام 1947م، واستمر السجن قرابة عامَين، ثم أُفرِج عنه وعاد إلى «أميرداغ» ثانيةً، فأقام بها ثلاث سنين أُخَر، ثم استقر به المقام في «إسبارطة»؛ على أنه ما يزال يتردد إلى «أميرداغ» بين الحين والآخر، متَّخذًا من مدرستها النُّورية مقرًّا لإقامته، إذ هو اليوم أحوج ما يكون للراحة وتغيير الأجواء بعد أن قارب التسعين من العمر. [كُتِب هذا الكلام في حوالي العام 1957م؛ هـ ت]

المسألة السابعة من رسالة الثمرة

المسألة السابعة من رسالة الثمرة

غَلَّةُ يومِ جمعةٍ في سجن دَنِزْلي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ [النحل:77]

﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان:28]

﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم:50]

كان السجناء الذين استطاعوا التواصل معي في سجن «دَنِزْلي»، قد قرؤوا الدرس الذي ألقيتُه بلغة العلوم المدرسية على طلاب الثانوية بـ«قسطمونو» يومَ أتوني قائلين: «عرِّفْ لنا خالقَنا» كما تقدَّم في المسألة السادسة، فتحصَّل لهم [أي للسجناء؛ هـ ت] من هذا الدرس الذي قرأوه قناعةٌ إيمانيةٌ تامة، وشعروا بشوقٍ نحو الآخرة، فقالوا لي: «أخبرْنا أيضًا عن آخرتنا خبرًا تامًّا لا تُغوينا بعده أنفسُنا ولا شياطينُ العصر، فنُزجَّ ثانيةً في مثل هذه السجون»؛ فلَزِم بيانُ خلاصةٍ عن ركن الإيمان بالآخرة إجابةً لطلبِ هؤلاء، وتلبيةً لرغبةِ تلاميذ رسائل النور في سجن «دَنِزْلي»، فقلتُ بخلاصةٍ موجزةٍ من رسائل النور:

المسألة السادسة من رسالة الثمرة

حين كان الأستاذ بديع الزمان في سجن «دَنِزْلي» ألَّفَ «رسالةَ الثمرة» في يومَي جُمُعة، وهي رسالةٌ قيِّمةٌ تتألف من تسع مسائل في غاية الأهمية، وتجمع حقائقَ رسائل النور بإيجازٍ؛ وكان طلاب النور قد عكفوا مدةَ سجنهم على كتابتها وقراءتها مراتٍ عديدة، وكانت في أول أمرها كُتِبَت ونُشِرت بين غُرَف السجن سِرًّا ضمن عُلب الكبريت، ثم صارت تُكتَب بحريَّةٍ بعد أن تبيَّن أنها رسالةٌ في غاية النفع والأهمية، وأنها مفيدةٌ لمن في السجون كأنها التِّرياق؛ كما أُرسِلتْ هذه الرسالة إلى محكمة «دَنِزْلي» ومحكمة التمييز والجهات الرسمية في أنقرة بوصفها وثيقةَ دفاعٍ حقيقيةً عن رسائل النور.

ونظرًا للأثر البارز الذي تركتْه رسالة الثمرة في سجن «دَنِزْلي»، ولكونها أصبحت بوجهٍ ما سببًا للبراءة لما تحمله من حقائق إيمانية، رأينا من المناسب أن ندرِج هنا المسألتَين السادسة والسابعة منها.

المسألة السادسة من رسالة الثمرة

إشارةٌ مختصرةٌ إلى برهانٍ واحدٍ من آلاف البراهين الكُلِّية على ركن الإيمان بالله الذي سبق إيضاحُه وبيانُ حُجَجِه القطعية غير المحدودة في مواضع كثيرةٍ من رسائل النور.

جاءني فريقٌ من طلاب الثانوية في «قسطمونو» قائلين: عرِّفْ لنا خالقَنا، فإن مدرِّسينا لا يذكرون شيئًا عن الله.

فقلتُ لهم: إن كلَّ علمٍ من العلوم التي تدرسونها يتحدَّث عن الله بلسانٍ مخصوص، ويعرِّف بالخالق على الدوام، فأصغوا إلى تلك العلوم دون المدرِّسين.

جوابٌ مُحِقٌّ عن سؤالٍ مهم

جوابٌ مُحِقٌّ عن سؤالٍ مهم

سألني عددٌ من الشخصيات من كبار المسؤولين: لماذا لم تقبل عرضَ مصطفى كمال بتعيينك واعظًا عامًّا في «كردستان» والولايات الشرقية بدلًا من الشيخ السنوسي، مع منحِك راتبًا مقداره ثلاثمئة ليرة؟! فلو كنتَ قَبِلتَ العرضَ حينَها لكنتَ سببًا في إنقاذ مئاتِ آلافِ الأرواحِ ممن راحوا ضحية الثورة هناك!! [يقصِد ثورة «الشيخ سعيد بيران» عام 1925م؛ هـ ت]

فأجبتهم: إنني بدلًا من أن أُنقِذَ لهؤلاء حياةً دنيويةً مقدارُها عشرون أو ثلاثون سنة، قامتْ رسائل النور بعملٍ يعوِّض تلك الخسارات أضعافًا مضاعفةً آلاف المرات، إذْ صارتْ وسيلةً لإكسابِ مئات الآلاف من أبناء الوطن حياةً أخرويَّةً تمتد ملايين السنين؛ ولو أني قبلتُ ذلك العرض لما ظهرتْ رسائل النور التي تحمِل سرَّ الإخلاص، والتي لا يمكن أن تكون أداةً لشيءٍ ولا تابعةً لشيء.

حتى إني في معرِض الحديث عن أولئك الذين حكموا عليَّ بالإعدام من جراء الصفعات الشديدة التي تلقَّوها من رسائل النور، قلتُ لمن معي من إخواني الأعزاء في

فقراتٌ من دفاعِ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ في محكمة «دَنِزْلي»

فقراتٌ من دفاعِ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ

في محكمة «دَنِزْلي»

نعم، نحن تنظيم.. وإنه لَتنظيمٌ عظيمٌ فريدٌ له في كلِّ قرنٍ ثلاثمئةٍ وخمسون مليون فردٍ ينضوون تحت لوائه، ويُعلنون بصلواتهم الخمس كلَّ يومٍ عن ارتباطهم به وخدمتهم له مع كمال الاحترام لمبادئه، ويسارعون لمساعدة بعضهم بعضًا بالأدعية والمكاسب المعنوية عملًا بالبرنامج القدسي: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحُجُرات:10].

فنحن من أفراد هذا التنظيم القدسي العظيم، ووظيفتُنا الخاصةُ فيه أن نبلِّغ أهلَ الإيمان حقائقَ القرآن الإيمانيةَ بصورةٍ تحقيقية، فننقذَهم وننقذَ أنفسَنا من الإعدام الأبدي، ومن السجن البرزخي المؤبَّد الانفرادي؛ وليس لنا أيَّةُ علاقةٍ أو صلةٍ مع التنظيمات السريَّة الباطلة التي تتهموننا بها، ولا بغيرها من الجمعيات والمنظَّمات السياسية الدنيوية التي تحيك المؤامرات والمكائد، بل لا نتنزَّل لهذا أصلًا.

…….

ولو كانت لنا رغبةٌ في التدخُّل في أمور الدُّنيا، لكان لهذا وَقْعٌ كهدير المدافع لا كطنين الذُّباب؛ وإن مَن يقصِد إلى رجلٍ دافع عن نفسِه دفاعًا شديدًا لاذعًا في المحكمة العسكرية، وواجه حِدَّةَ مصطفى كمال في مكتبه الرئاسي مواجهةً حادةً، فيتهمُه بأنه يدير مؤامراتٍ ومكائدَ منذ ثماني عشرة سنة دون أن يُشعِرَ أحدًا، لا بد أن يكون حاقدًا مُغرِضًا.. ألا إنه ما ينبغي أن تُهاجَم رسائل النور لخطأٍ صَدَرَ مني أو من بعضِ إخواني، فإنها مرتبطةٌ بالقرآن مباشرةً، والقرآن مرتبطٌ بالعرش الأعظم، فمَن له أن يمدَّ يده إلى تلك العروة الوثقى فيفصِمَها؟!

القسم الخامس: حياته في دَنِزْلي

القسم الخامس

دَنِــزْلي

 

حياته في دَنِزْلي

[أيلول/سبتمبر 1943م – تموز/يوليو 1944م]

كانت دائرة انتشار رسائل النور تتسع وتتوالى فتوحاتها باطِّراد، ويزداد قُرَّاؤها المتعطشون يومًا بعد يوم؛ وحين شاهد أعداء الإسلام العاملون في الخفاء نتائجَ ما تنطوي عليه هذه الرسائل من قوةٍ عجيبةٍ وتأثيرٍ نَفَّاذٍ شرعوا بالتآمر عليها وعلى مؤلِّفها من جديد، فوُجِّهتْ ضدَّه مجموعةٌ من الاتهامات الملفَّقة، ونُسِب إليه القيام بعددٍ من المخطَّطات المُغرِضة، منها: أن بديع الزمان يؤسِّس منظمةً سِرِّيَّة، ويحرِّض الناس على الحكومة، ويُقوِّض منجزات الثورة من أساسها، [المقصود بمنجزات الثورة هنا الإجراءات التي فُرِضَتْ إثر إلغاء الخلافة وإعلان الجمهورية، وكانت في مضمونها طمسًا لشعائر الإسلام وشرائعه؛ هـ ت] ويقول عن مصطفى كمال: إنه دجَّالٌ سفيانيٌّ هدَّامٌ للدين، ويُثبِتُ ذلك بنصوصٍ من الأحاديث.

وبناءً على هذا اعتُقِل الأستاذ من مقرِّ إقامته في «قسطمونو»، كما اعتُقِل مئةٌ وستةٌ وعشرون من طلابه من ولاياتٍ شتى كـ«قسطمونو» و«إسبارطة» و«دَنِزْلي» و«أنقرة» وغيرها، ونُقِلوا جميعًا إلى محكمةِ جناياتِ «دَنِزْلي»، وكان ذلك في العام 1943م. [لم يكن من سببٍ للزَّجِّ في سجن «دَنِزْلي» سوى انتشار رسائل النور في سائر المحافظات انطلاقًا من مركَزَيها في «إسبارطة» و«قسطمونو»، وما تَرتَّبَ على هذا الانتشار من إقبالٍ على الدين متزايدٍ بشكلٍ مطَّرد؛ حتى إن رسالة الآية الكبرى -وهي الشعاع السابع- كانت قد طُبِعتْ قُبَيل حادثة «دَنِزْلي» بقليل، فأثارت مخاوفَ الملاحدة بما أثبتتْه وأوضحتْه من حقائق الإيمان بأسلوبٍ رائع، فقُدِّمتْ كأحد الأسباب الموجِبة للحكم بالسجن؛ المُعِدّون]