الشعاع السادس

«عبارة عن نكتتين فقط»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 

سيُبيَّن باختصار في هذا «الشعاع السادس» نكتتان فقط من بين مئات النكات التي يتضمنها التشهد في الصلاة «التحيات المباركات، الصلوات، الطيبات لله..». وهما جوابان مختصران عن سؤالين يتعلقان بنقطتين في التشهد. أما سائر حقائقه فنعلّقه إلى وقت آخر بمشيئة الله.

السؤال الأول

ما حكمةُ قراءة كلمات التشهد المباركة في الصلاة، مع أنها محاورة جرت بين الرب الجليل ورسوله الكريم ﷺ في ليلة المعراج؟

الجواب: أن صلاةَ كلِّ مؤمن معراجُه، فالكلمات اللائقة لذلك المثول بين يدي الله سبحانه هي تلك الكلمات التي وردت في المعراج العظيم لسيدنا محمد ﷺ.

ويتذكر الإنسان تلك المحاورةَ السامية والصحبةَ المقدسة بذكر تلك الكلمات، وبذلك التذكّر تصعد معاني تلك الكلمات الطيبة إلى مراقي الكليات متحررةً من الجزئيات، وتُتصوّر -أو يمكن أن تُتصور- تلك المعاني الكلية المحيطة السامية. وبذلك التصوّر تتعالى قيمتُها ويتسامى نورُها ويتسع.

فمثلا: لقد قال الرسول الكريم ﷺ في تلك الليلة المباركة أمام الحضور الإلهي بدلا عن السلام: «التحيات لله». أي إن ما يُظهره جميعُ ذوي الحياة من تسبيحات حياتية، بحياتها.. وما يقدّمونه من هدايا فطرية إلى صانعهم الجليل.. يخصّك وحدَك يا ربي. وأنا بدوري أقدم جميعَها بتصوري لها وإيماني بها.

نعم، كما نوى الرسول الكريم ﷺ جميعَ العبادات الفطرية لذوي الحياة وقدّمها إلى ديوان الرب الجليل بكلمة: «التحيات»، كذلك يقول ﷺ بكلمة «المباركات» التي هي خلاصةُ التحيات يقولها بمعنى واسع يضم عباداتٍ وتبركات فطرية وبركاتِ جميع المخلوقات، التي هي مدار البركة والتبريك من قبل الناظرين إليها، والتي هي خلاصة الحياة وذوي الحياة. ولاسيما البذور والنوى والحبوب والبيوض.

وإنه ﷺ بكلمة «الصلوات» التي هي خلاصة «المباركات» يتصور العبادات المخصوصة لذوي الأرواح الذين هم خلاصة ذوي الحياة، ويعرضها إلى ديوان الحضرة الإلهية بمعناها الواسع المحيط.

وإنه ﷺ بكلمة «والطيبات» التي هي خلاصة «الصلوات» يقصد العبادات الرفيعة النورانية للناس الكاملين، وهم خلاصة ذوي الأرواح، والملائكة المقربين. فيقدمها خاصة إلى معبوده سبحانه.

ثم إن ما قاله الرب الجليل في تلك الليلة من: «السلام عليك أيها النبيُّ» يُشعر إشعارا يتسم بالأمر أن يقول كلُ إنسان من مئات الملايين من البشر في المستقبل: السلام عليك يا أيها النبي… يقوله كل يوم عشر مرات في الأقل. فيمنح ذلك السلامُ الإلهي تلك الكلمة نورا محيطا ومعنىً سامياً.

كما أن قول الرسول الأكرم ﷺ: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» ردا للسلام الإلهي يفيد ويذكّر أنه سأل خالقَه الكريم راجيا وداعيا أن تنال في المستقبل أمتُه المعظمة وصالحو أمته الإسلامَ الذي يمثل السلامَ الإلهي، وأن تتبادل الأمة كلهم فيما بينهم: السلام عليكم وعليكم السلام؛ ذلك الشعار الإسلامي العام.

وإن قول جبرائيل عليه السلام الذي له حظ من تلك الصحبة السامية في تلك الليلة بأمر إلهي: «أشهد أنْ لا إله إلّا الله وأشهد أنَّ محمدا رسول الله» يبشر بأن الأمة جميعَهم سيشهدون هذه الشهادة وسينطقون بها إلى يوم القيامة. وهكذا تسطع معاني الكلمات وتتوسع بتذكّر هذه المحاورة المقدسة السامية.

إن حالة روحية غريبة قد أعانتني على انكشاف هذه الحقيقة، وهي الآتية: لقد تراءى لخيالي حاضرُ هذا الكون العظيم فيما مضى من خلال غربة مظلمة قاتمة، وفي أثناء ليلة حالكة، ومن ثنايا غفلة دامسة، تراءى في صورة جنازة مخيفة، جامدا لا روح فيه ولا حياة، خاليا قفرا. وخُيّل الزمانُ الماضي الراحل مخيفا لا روح فيه ولا حياة وخاليا قفرا أيضا، واتخذ ذلك المكان الواسع غير المحدود، وذلك الزمان غير المحدود شكلا موحشا مخيفا. فالتجأتُ من روعي إلى الصلاة لأنجو من تلك الحالة الرهيبة وحينما قلت: «التحيات» في الصلاة، إذا بالكون كله تُبعث وتدبّ فيه الحياةُ ويتنور. وغدا مرآةً ساطعة لتجليات الحي القيوم. وعلمت بعلم اليقين بل بحق اليقين وشاهدتُ أن الكون مع جميع أجزائه الحيوية يقدِّم دائما إلى الحي القيوم تحياتٍ وهدايا حياته.

وحينما قلت: «السلام عليك يا أيها النبي»، انقلب ذلك الزمان المقفر الموحش غيرُ المحدود فجأةً إلى متنـزَّه مليء بذوي الأرواح، لطيف مؤنس برئاسة الرسول الأكرم ﷺ.

السؤال الثاني

إن التشبيه الموجود في ختام التشهد وهو «اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم…» هذا التشبيه لا يوافق قواعد التشبيه، لأن محمدا ﷺ هو أعظمُ من إبراهيم عليه السلام وأكثرُ حظوة منه للرحمة الإلهية. فما سر هذا التشبيه؟

وما حكمة تخصيص هذا النوع من الصلوات في التشهد؟

وما سر الحكمة في تكرار الدعاء نفسه في الصلوات منذ القدم، وفي كل وقت، ومن قبل ملايين المقبولي الدعاء، وسؤالهم بإلحاح مع أنه يكفي لدعاءٍ أن يُستجاب مرةٌ واحدة؛ ولاسيما إنه قد اقترن بوعد إلهي، حيث قد وعد سبحانه في قوله تعالى:

﴿عَسٰٓى اَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ (الإسراء:79)

وروي في الأذان والإقامة قوله ﷺ: «وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته» فالأمة جميعا يدعون لإنجاز ذلك الوعد. فما سر هذا؟

الجواب: يتضمن هذا السؤال ثلاثة أسئلة وثلاث جهات:

الجهة الأولى: على الرغم من أن سيدنا إبراهيم لا يبلغ سيدنا محمدا ﷺ، إلّا أن آل إبراهيم هم أنبياء، بينما آلُ محمد ﷺ هم أولياء. والأولياء لا يبلغون الأنبياءَ.

والدليل على قبول هذا الدعاء الذي يخص الآل قبولا واضحا هو: كون الأولياء الذين جاؤوا من نسل اثنين من آل محمد وهما الحسن والحسين رضي الله عنهما، هم بأكثريتهم المطلقة أئمةُ مسالكِ الحقيقة والطريقة ومرشديها من بين ثلاثمائة وخمسين مليونا من المسلمين ونالوا مرتبةً كمرتبة أنبياء بني إسرائيل كما ورد: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل». فكلٌ منهم أرشد القسم الأعظم من الأمة إلى طريق الحقيقة وسبيل حقائق الإسلام. فهؤلاء ثمرات استجابة الدعاء الذي يخص الآل، منهم -في المقدمة- جعفر الصادق والشيخ الكيلاني والشاه النقشبند رضي الله عنهم.

الجهة الثانية: أما حكمةُ تخصيص هذا النوع من الصلوات بالصلاة فهي تذكُّرُ المرء التحاقَه ورفاقته بذلك الركب الميمون والقافلة العظمى للأنبياء والأولياء الذين هم أنور أفاضل البشر وأكملُهم وأكثرهم استقامةً، وسلوكه الطريق الذي فتحوه ونهجوا ذلك الصراط المستقيم، وهم المؤيَّدون بقوة مئات الإجماع ومئات التواتر، تلك الجماعة المباركة الذين لا يزيغون أبدا. وبتذكّره هذا ينجو من شبهات الشيطان والأوهام الرديئة.

أما الدليل على أن هذه القافلة الميمونة هم أولياءُ رب العالمين المرضيين عنده، وأن معارضيهم هم أعداؤه المبغوضون من مخلوقاته هو: الإمداد الغيبي لذلك الركب الكريم دوما منذ زمن آدم عليه السلام، ونـزولُ المصائب والويلات السماوية بمخالفيهم.

نعم، إن جميع المعارضين من أمثال قوم نوح وثمود وعاد وفرعون ونمرود قد تلقَوا صفعات غيبية تُشعر بالغضب الإلهي وعذابــه؛ بينما نال الركبُ العظيم من أمثال نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام ومحمد ﷺ وأمثالهم من الأنبياء الكرام والأئمة السامين، المعجزاتِ العظيمة والآلاءَ الربانية بصورة خارقة.

ولما كانت صفعةٌ واحدة تدل على الغضب، والإكرامُ الواحد يدل على المحبة. فقد نزلت أُلوف الصفعات على المعارضين وأُلوف الإكرامات والإمدادات على أولئك الأبرار الميامين. مما يشهد بداهة وبوضوح النهار على أحقيةِ وصواب تلك القافلة المباركة وأنهم على هدى وعلى صراط مستقيم.

وأن ما جاء في ختام سورة الفاتحة ﴿صِرَاطَ الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ متوجه إلى أولئك الأبرار الذين أنعم الله عليهم. بينما «المغضوب عليهم والضالون» تبين معارضيهم. وهذه النكتة التي بيناها وُضِّحتْ بجلاء في ختام سورة الفاتحة.

الجهة الثالثة: إن سر الحكمة الكامن في السؤال الملحّ المكرَّر لشيء يُمنَح قطعا هو: أن الشيء المراد، كالمقام المحمود إنما هو طرفٌ وغصنٌ من حقيقة عظمى تضم ألوف الحقائق الجليلة كحقيقة المقام المحمود. وهو ثمرةٌ لأعظم نتيجة لخلق الكون.

أما طلبُ تلك الثمرة وذلك الغصن والطرف، فهو طلبُ تحقيق تلك الحقيقة العامة الشاملة العظمى وحصولها، وطلبُ مجيء العالم الباقي الذي هو أعظمُ غصن من شجرة الخلق، وطلب تحققه، وطلب تحقق القيامة والحشر الذي هو أعظم نتيجة للكون وطلب انفتاح دار السعادة.

فيتذكر المرء أنه أيضا -بهذا الطلب والسؤال- يشترك في العبودية البشرية والأدعية الإنسانية التي هي أهم سبب لوجود دار السعادة والجنة الخالدة. ومن هنا نجد أن هذه الأدعية غير المحدودة قليلة أيضا بالنسبة لهذا المقصد العظيم غير المحدود.

وكذا فإن إعطاء «المقام المحمود» لسيدنا الرسول ﷺ إشارة إلى شفاعته الكبرى لأمته عامة فهو إذن ذو علاقة مع سعادة جميع أمته.

ولهذا فإن طلبه أدعية الصلوات غير المحدودة والرحمة غير المحدودة من أمته هو عين الحكمة.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

الشعاع الخامس

أشراط الساعة

إن مسائل «سدّ ذي القرنين» و«يأجوج ومأجوج» وسائر «أشراط الساعة» الأخرى قد بحثناها في كتابنا المطبوع: المحاكمات» المؤلَّف قبل ثلاثين سنة (المقصود سنة 1911) وقد وضعنا عشرين مسألة تدور حول تلك المباحث لتكون تتمةً لهاكتب قسم من مسودتها قبل ثلاث عشرة سنةإلّا أنها بُيّضت نـزولا عند رغبة صديقٍ عزيز وصارت «الشعاع الخامس».

تنبيه: لتُقرأ أولا المسائل التي تلي المقدمة، كي يُفهم القصدُ من المقدمة.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

لقد كُتبت نكتةٌ لطيفة من نكات الآية الكريمة: ﴿فَقَدْ جَٓاءَ اَشْرَاطُهَا﴾ (محمد:18) في الوقت الحاضر وذلك حفاظا على عقيدة عوام المؤمنين، وصيانةً لها من ورود الشبهات.

وحيث إن قسما من الأحاديث النبوية التي تخبر عن حوادث ستقع في آخر الزمان تحمل معاني عميقة جدا، كـ«المتشابهات» القرآنية؛ فلا تفسّر كـ«المحكَمات»، ولا يتمكن كل واحد من معرفتها، بل ربما يؤوّلها العلماءُ بدلا من تفسيرها. وإن تأويلاتِها تُفهم بعد وقوع الحادثة، ويُعرف عندئذ المراد منها، بمضمون الآية الكريمة ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُٓ اِلَّا اللّٰهُۢ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾
(آل عمران:7) ويبين تلك الحقائق الراسخون في العلم ويقولون:  ﴿اٰمَنَّا بِه كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾.

إن لهذا «الشعاع الخامس» مقدمة وثلاثا وعشرين مسألة.

المقدمة

عبارة عن خمس نقاط

النقطة الأولى

إن الإيمان والتكليف امتحانٌ واختبار ومسابقة ضمن دائرة الاختيار، فلا تكون مسائلُه النظريةُ المبهَمة وغيرُ الصريحة والعميقة والتي هي بحاجة إلى الاختبار وإنعامِ النظر فيها واضحةً وضوحَ البديهة؛ بحيث يصدّقها كل أحد سواء أراد أم لم يرد… وذلك ليتميز إيمانُ أبي بكر عن كفر أبى جهل، فيسموَ المؤمنون إلى أعلى عليين ويتردى الكفار إلى أسفل سافلين، إذ لا تكليفَ بلا اختيار. ولأجل هذه الحكمة تأتى المعجزاتُ متفرقةً وبشكل نادر.

ثم إن في دار التكليف والامتحان تكون علاماتُ القيامة وأشراطُ الساعة التي يمكن مشاهدتُها بالعين مبهمةً وغيرَ صريحة ومحتملة التأويل -كبعض المتشابهات القرآنية- عدا «علامة طلوع الشمس من مغربها» فهي واضحة وضوحَ البديهة، حتى إنها تدفع الجميعَ إلى الإيمان من دون اختيار، ولذلك ينغلق بابُ التوبة عندئذ، فلا قيمةَ للإيمان ولا جدوى من التوبة. حيث يتساوى في التصديق من يملك إيمانا كأبي بكر مع أعتى الكفرة كأبي جهل. بل حتى إن نـزول عيسى عليه السلام، ومعرفةَ كونه هو عيسى عليه السلام لا غيرَه، إنما يُعرف بنور الإيمان النافذ، ولا يستطيع كل واحد معرفتَه. بل حتى «الدجال» و«السفياني» من الأشخاص المرعبين الذين سيظهرون مع أشراط الساعة، لا يَعرفان نفسيهما أنهما «الدجال» و«السفياني» بادئ الأمر.

النقطة الثانية

إن الأمور الغيبية التي عُلّمَها الرسولُ الكريم ﷺ ليست سواء؛ فقسم منها عُلّمَها تفصيلا، فلا تصرّف ولا تدخّل له قط في هذا القسم، كالقرآن الكريم ومُحكمات الأحاديث القدسية.. والقسم الآخر قد عُلّمَها إجمالا، وتُرك أمرُ تصويرها وتفصيلها إلى اجتهاده ﷺ كالأحاديث التي تدور حول الحوادث الكونية والأحداث المستقبلية التي هي ليست من أُسس الإيمان. فالرسول ﷺ هو الذي يصوّر ويفصل ببلاغته -بأساليب التشبيه والتمثيل- تلك الأمورَ بما يوافق حكمة التكليف.

فمثلا: سُمع دويّ في مجلس الرسول ﷺ فقال: إن هذا صوتُ حجر ظل يتدحرج إلى جهنم منذ سبعين سنة، الآن وصل إلى قعرها. وبعد مرور بضع دقائق على هذا الحدث المثير أتى أحدهم وأخبر رسول الله ﷺ: أن المنافق الفلاني وهو يناهز السبعين من عمره قد مات وولّى إلى جهنم وبئس المصير. فأظهر تأويلَ البلاغة الفائقة لكلام الرسول ﷺ.

تنبيه: لا يعير نظرُ النبوة اهتماما لحوادث المستقبل الجزئية التي لا تدخل ضمن الحقائق الإيمانية.

النقطة الثالثة: وهي عبارة عن نكتتين:

أولاهما: أن قسما من الأحاديث المروية على صورةِ تشبيهات وتمثيلات تَلَقّاه العوامُ بمرور الزمن حقائقَ ماديةً، لذا لا يبدو في نظرهم مطابقا لواقع الحال، على الرغم من أنه حقيقة ثابتة.

مثلا: إن المَلَكين اللذين هما من حَمَلة الأرض -كما للعرش حملتُه- اللذين على صورة «الثور» و«الحوت» وسُمّيا باسمهما قد تَصورَهما العوام ثورا ضخما حقيقيا وحوتا هائلا حقيقيا!

ثانيتهما: أن قسما من الأحاديث قد ورد من حيث كثرة المسلمين في تلك المنطقة، أو من حيث وجود الحكومة الإسلامية هناك، أو من حيث مركز الخلافة الإسلامية، لكنه ظُنَّ أنه شاملٌ لجميع المسلمين، ولجميع أنحاء العالم، وعلى الرغم أنه خاص من جهة، إلّا أنه تُلقِّي كليا وعاما.

فمثلا: ورد في الحديث الشريف: «لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله.. الله» أي ستُغلق أبوابُ أماكن الذكر، وسيُنادى بالأذان وبإقامة الصلاة بالتركية.

النقطة الرابعة

مثلما حُجبت أمورٌ غيبية كالأجل والموت لحِكَم ومصالحَ شتى، فإن القيامة -التي هي سكراتُ موتِ الدنيا وأجلُ البشرية وموت الحيوان- قد أُخفيت كذلك لمصالح كثيرة. إذ لو كان الأجل معينا وقتُه، لاختلّت الموازنةُ بين الخوف والرجاء، تلك الموازنة المبنية على مصالحَ وحكَمٍ؛ إذ كان نصفُ العمر يمضي في غفلة مطبقة، يعقبه خوفٌ رهيب كمن يُساق خطوة خطوة نحو المشنقة.

وأجل الدنيا وسكراتُها أي القيامة يشبه هذا تماما، إذ لو كان وقتُها معينا، لكانت القرون الأولى والوسطى غير متأثرة بفكرة الآخرة إلّا قليلا ولا تنفعل بها إلّا جزئيا، أما القرون الأخرى فكانت تعيش في رعب مستديم. وما كانت لتبقى -حينئذٍ- للحياة متعة وقيمة، ولا للعبادة -التي هي طاعة الفرد باختياره ضمن الخوف والرجاء- أهمية وحكمة.

ثم، لو كان وقت القيامة معينا، لدخل قسم من الحقائق الإيمانية ضمن البدهيات، أي يصدّق بها الجميع سواء أرادوا أم لم يريدوا، ولاختلّ عندئذ سرُّ التكليف وحكمةُ الإيمان المرتبطان بإرادة الإنسان واختياره.

وهكذا أُخفيت الأمور الغيبية لأجل مصالح كثيرة أمثالِ هذه، فصار الإنسان يتوقع مجيء أجَله كل دقيقة مثلما يتوقع بقاءه في الدنيا، ويفكر فيهما معا، ويسعى بجد للدنيا سعيَه للآخرة، ومثلما يَتوقع قيام الساعة في كل عصر يتوقع دوام الدنيا فيه أيضا. ومن هنا غدا الإنسان متمكنا من العمل للحياة الأبدية وهو ينظر إلى فناء الدنيا، ويعمل في الوقت نفسه لعمارة الدنيا، وكأنه يعيش أبدا.

ثم إنه لو كان وقت المصائب والبلايا معينا، لتجرع الإنسان أذىً وألما معنويين من جراء انتظاره وقوع المصيبة ونـزول البلاء أضعاف أضعاف ألم المصيبة نفسها. لذا سترت الحكمةُ الإلهية ورحمتُها الواسعة المصائبَ، فظلت مخفية عن الإنسان ومستورة عنه، فلا يتأذى بمثل ذلك الألم المعنوي.

وحيث إن أغلب الحوادث الكونية الغيبية تتضمن أمثال هذه الحكم، فقد مُنع الإخبار عن الغيب. وحتى الذين يخبرون عنه بإذنٍ ربانيّ، فقد أَخبروا عنه إخبارا على صورةِ إشارات فقط، مع شيء من الإبهام دون الصراحة المكشوفة، فيما عدا الحقائق الإيمانية وما هو مدار التكليف، وذلك لئلا يكون هناك قلةُ توقير وعدمُ امتثالٍ كامل للدستور الإلهي:
﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ الْغَيْبَ اِلَّا اللّٰهُ﴾ (النمل:65)

بل حتى البشارات التي وردت في حق رسولنا الكريم ﷺ في التوراة والإنجيل والزبور، قد جاءت بشيء من الإبهام وعدم التصريح، مما حدا بأناس من أهل تلك الكتب أن يؤوّلوا تلك الإشارات فلم ينعَموا بالإيمان بالرسول الكريم ﷺ.

أما المسائل التي هي ضمن العقائد الإيمانية فبمقتضى حكمة التكليف بحاجة إلى تبليغ أمين ووضوح تام وصراحة كاملة وتكرار، لذا فصَّل القرآن الكريم ومبلّغه الأمين ﷺ وبيّنا بيانا وافيا أمورَ الآخرة، في حين أنهما ذكرا الحوادث الدنيوية المستقبلية ذكرا مجملا.

النقطة الخامسة

لقد رُويت الأمور الخارقة -فوق المعتادة- التي تخص عصر «الدجالَين» -أي دجال المسلمين والدجال الأكبر- مقرونةً بذكرهما، فتُوهمت كأنها ستصدر من شخصَيهما بالذات وفُهمت هكذا. لذا أصبحت تلك الروايات من المتشابهات، لاحتجاب المعنى.

فمثلا: تجوّله بالطائرة والقطار..

ومثلا: قد اشتهر: أن الشيطان الذي يخدم دجال المسلمين سيصيح حين موته عند «ديكيلى طاش» في إستانبول صيحةً يسمعها الناس كلهم بـ«أنه مات»، أي سيُعلن عنه بالراديو، إعلانا عجيبا تتحير منه الشياطين أنفسُهم.

ثم إن الأحوال الرهيبة والإجراءات المدهشة التي تخص حُكم الدجال ونظامه ومنظماته وحكومته، قد رويت مقرونة مع شخصه، وكأنها ذات علاقة معه بالذات، لذا خَفِيَ المعنى واستتر.

فمثلا: هنالك رواية بهذا المعنى: أنه يملك من القوة والدوام ما لا يمكن أن يقتله إلّا سيدُنا عيسى عليه السلام وإلّا فلا سبيل لقتله. وهذا يعني: أن الذي يدمّر منهجَه ونظامه الشرس الرهيب ويقضي عليه قضاءً نهائيا ليس إلّا دينا سماويا رفيعا يظهر في العيسويين، فيقتدي بحقائق القرآن، ويتّحد معها، فهذا الدين العيسوي هو الذي يمحو بنـزول عيسى عليه السلام ذلك المنهجَ الإلحادي فيقضي عليه قضاءً تاما. وإلّا فإن شخص ذلك الدجال يمكن أن يُقتَل بجرثومة أو بمرض بسيط كالزكام.

ثم إن قسما من تفسير بعض الرواة وحُكمهم -النابع من اجتهاداتهم الشخصية التي تحتمل الخطأ- قد اختلط مع متن الحديث النبوي، فيُشتبه أنه منه، وعند ذاك يحتجب المعنى ويختفي، إذ لا تظهر مطابقةُ الحديث مع الواقع، فيدخل ضمن حكم المتشابه.

ثم إن الشخص المعنوي للجماعة وللمجتمع لم يكن واضحا في السابق كما هو في الوقت الحاضر، إذ كان الفكر الانفرادي والاهتمام بالفرد هو الغالب؛ لذا أُسندت الإجراءاتُ الضخمة للجماعة وصفاتُها العظيمة إلى الذين يترأسون تلك الجماعة، ومن هنا صُوّر أولئك الرؤساء تصويرا عجيبا بأنهم يملكون صفاتٍ كليةً خارقة، وأجساما ضخمة هائلة تفوق مائة ضعف عما هم عليه، وأنَّ لهم قوة وقدرة خارقتين، لكي تلائم تلك الإجراءاتِ المهولة. والحال أن هذا التصوير لا يطابق الواقع. لذا أصبحت تلك الرواية متشابهة.

ثم إنه على الرغم من التباين بين صفات «الدجالَين» واختلاف حالتيهما، يلتبس الأمر في تلك الروايات التي وردت بصورتها المطلقة، فيُظن هذا ذاك.

ثم إن أحوال «المهدي الكبير» لا تطابق أحوال المهديين السابقين له، في الروايات التي تشير إليهم، فتصبح تلك الروايات في حكم المتشابه.

إن الإمام عليا رضي الله عنه يذكر «دجال المسلمين» فقط.

انتهت المقدمة.. فنبدأ بالمسائل.

الشعاع الرابع

هذا الشعاع هو «اللمعة الخامسة» من حيث المعنى والرتبة، وهو «الشعاع الرابع» القيّم من حيث الصورة والمقام، للّمعة الحادية والثلاثين من المكتوب الحادي والثلاثين، وهو عبارة عن نكتة مهمة جليلة للآية الكريمة: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ (آل عمران:173).

تنبيه

إن رسائل النور تخالف الكتب الأخرى، إذ تستهل البحثَ بشيء من الإبهام الذي قد يخفى على القارئ ويغمض عليه، إلّا أنها تتوضّح تدريجيا، وتكشف عن معانيها رويدا رويدا، ولاسيما هذه الرسالة. فالمرتبة الأولى منها دقيقة وعميقة غامضة مع أنها حقيقة قيمة غالية. وقد برزت هذه المرتبة بصفة خاصة بي شفاءً لأدوائي المتنوعة الغائرة، برزت على صورة محاكمة شعورية في غاية الأهمية، ومعاملة إيمانية في غاية الحيوية، ومحاورة قلبية في غاية الخفاء. ومن هنا قد لا يتمكن أن يَتذوقَها تذوقا تاما ويَستشعرَ بها إلّا من كانت مشاعرُه متوافقة معي، متجانسة مع مشاعري.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ (آل عمران:173)

حينما جرّدني أربابُ الدنيا من كل شيء، وقعتُ في خمسة ألوان من الغربة، وانتابتني خمسة أنواع من الأمراض الناشئة من الآلام والعنت في زمن الشيخوخة. ولم ألتفتْ إلى ما في رسائل النور من أنوار مسلّية وإمدادات مشوّقة -جرّاء غفلة أورثها الضجرُ والضيق- وإنما نظرتُ مباشرة إلى قلبي وتحسست روحي، فرأيت أنه يسيطر عليّ عشقٌ في منتهى القوة للبقاء، وتهيمِن عليّ محبةٌ شديدة للوجود، ويتحكّم فيّ شوق عظيم للحياة، مع ما يكمن فيّ من عجز لا حدّ له وفقر لا نهاية له. غير أن فناءً مهولا يطفئ ذلك البقاء ويزيله، فقلت -في حالتي هذه- مثلما قال الشاعر المحترق الفؤاد:

حكمة الإله تقضي فناءَ الجسد، والقلب توّاق إلى الأبد،

لهفَ نفسي من بلاءٍ وكمد، حار لقمانُ في إيجاد الضمد..

فطأطأتُ رأسي يائسا، وإذا بالآية الكريمة ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ تغيثني قائلة:

اقرأني جيدا، بتدبر وإمعان.. فقرأتُها بدوري خمسمائة مرة في كل يوم. وكتبتُ تسعا فقط من أنوارها ومراتبها القيمة الغزيرة التي انكشفتْ لي بعين اليقين، أما تفاصيلها المعروفة بعلم اليقين، لا بعين اليقين، فأحيلها إلى رسائل النور.

المرتبة النورية الحسبية الأولى

إن ما فيّ من عشق البقاء ليس متوجها إلى بقائي أنا، بل إلى وجود ذلك الكامل المطلق وإلى كماله وبقائه. وذلك لوجودِ ظل لتجلٍّ من تجليات اسمٍ من أسماء الكامل المطلق -ذي الكمال والجمال- في ماهيتي، وهو المحبوب لذاته -أي دون داعٍ إلى سبب- إلّا أن هذه المحبة الفطرية ضلّت سبيلَها وتاهت بسبب الغفلة، فتشبثت بالظل وعشقتْ بقاء المرآة.

ولكن ما إن جاءت ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ حتى رفعت الستار، فأحسستُ وشاهدت، وتذوقتُ بحق اليقين: أن لذةَ البقاء وسعادتَه موجودة بنفسها، بل أفضلَ وأكملَ منها، في إيماني وإذعاني وإيقاني ببقاء الباقي ذي الكمال، وبأنه ربي وإلهي؛ لأنه ببقائه سبحانه يتحقق لي حقيقة باقية لا تموت، إذ يتقرر بشعور إيماني «أن ماهيتي تكون ظلا لاسم باقٍ، لاسمٍ سرمدي، فلا تموت».

وكذا تُشبَع بذلك الشعور الإيماني -الباعث على وجود الكمال المطلق وهو المحبوب المطلق- المحبةُ الذاتية، الفطرية الشديدة.

وكذا تُعرف بذلك الشعور الإيماني -الذي يخصّ بقاء الباقي السرمدي ووجوده سبحانه- كمالاتُ الكائنات ومزاياها، ومزايا نوع الإنسان بالذات وتُكشف عنها، ويُعلَم أن الافتتان الفطري بالكمال يُنقذ من آلام غير محدودة، فيتذوق ويتلذذ.

وكذا يتولد بذلك الشعور الإيماني انتساب إلى ذلك الباقي السرمدي، وتتولد وشائجُ مع مُلكه عامة بالإيمان بذلك الانتساب، فينظر المرء -بنور الإيمان- إلى مُلكٍ غير محدود كنظره إلى مُلكه، فيستفيد معنىً.

وكذا يتكون بذلك الشعور الإيماني وبذلك الانتساب والعلاقة ما يشبه الاتصال والارتباط بجميع الموجودات؛ وفي هذه الحالة يتولد وجودٌ غير محدود -غير وجوده الشخصي الذي يأتي بالدرجة الثانية- من جهة ذلك الشعور الإيماني والانتساب والارتباط والعلاقة والاتصال، حتى كأنه وجود كوجوده فيهدأ العشق الفطري تجاه الوجود.

وكذا تتولد بذلك الشعور الإيماني والانتساب والعلاقة والارتباط أخوةٌ مع جميع أهل الكمال والفضل؛ وعندها لا يضيع ولا يُمحى أولئك الذين لا يعدّون ولا يحصون من أهل الكمال والفضل، بفضل معرفة وجود الباقي السرمدي وبقائه، فيورث بقاءَ ما لا يعد من الأحبّة -الذين يرتبط بهم بحب وتقدير وإعجاب- ودوامَ كمالهم صاحبَ ذلك الشعور الإيماني ذوقا رفيعا ساميا.

وكذا رأيتُني قادرا على الإحساس بسعادة غير محدودة، ناشئةٍ من سعادة جميع أحبائي -الذين أضحّي بحياتي وببقائي بكل رضىً وسرور من أجل سعادتهم- وذلك بوساطة الشعور الإيماني والانتساب والارتباط والعلاقة والأخوّة؛ إذ الصديق الرؤوف يَسعد بسعادة صديقه الحميم ويتلذذ بها. ولهذا فإنه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده، ينجو جميعُ ساداتي وجميع أحبابي، وهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء والأصفياء وفي مقدمتهم الرسول الأكرم ﷺ وينجو آله وأصحابه الكرام، وينجو جميعُ أحبابي الذين لا يُحصَون، ينجون كلُّهم من الإعدام الأبدي وينالون سعادة سرمدية خالدة، فأحسست بهذا بذلك الشعور الإيماني فانعكس عليَّ شيءٌ من سعاداتهم وتذوقتُها ذوقا خالصا، فغمرتني سعادةٌ عظمى، بسبب تلك العلاقة والأخوة والارتباط والمحبة.

وكذا غمرَتني سعادة روحية لا منتهى لها بنجاتي من آلام غير محدودة، ناشئة من علاقتي بأبناء جنسي، وشفقتي على أقاربي، فقد أحسستُ بشعور إيماني أن جميع أقاربي نسلا ونسبا ومعنىً والذين أفديهم بحياتي وبقائي -بفخر واعتزاز فطري- لأجل خلاصهم من المهالك والمخاطر، وفي المقدمة آبائي وأمهاتي.. أحسست أنهم ينجون من الفناء والعدم والإعدام الأبدي ومن آلام غير محدودة، وينالون رحمة واسعة مطلقة ببقاء الباقي الحقيقي وبوجوده سبحانه؛ وأن رحمة واسعة مطلقة ترعاهم وتحميهم بدلا من شفقتي الجزئية القاصرة التي لا تأثير لها والتي هي مبعث ألمٍ وغمٍ. فكما تتلذذ الوالدةُ بلذّةِ ولدها وتذوق الراحةَ براحته، تلذذتُ أنا كذلك وسعدتُ بنجاة جميع أولئك الذين أشفقُ عليهم، بانضوائهم تحت حماية تلك الرحمة الواسعة، وبتنعمهم في ظلها، وانشرحتُ فرحا جذلا بهذا الشعور، فشكرت الله من الأعماق.

وكذا علمتُ بذلك الشعور الإيماني نجاة رسائل النور التي هي ثمرةُ حياتي ومبعثُ سعادتي ووظيفة فطرتي، نجاةً من الفناء والضياع والضمور ومن عدم الجدوى والنفع، وعلمتُ بذلك الانتساب الإيماني، بل شعرت ببقاء تلك الرسائل نضِرةً طرية، وأحسست بنمائها معنىً، بل ببقائها ودوامها وإثمارها ثمرات يانعة. فحصلتْ لي القناعةُ التامة أن في هذا لذةً معنوية تفوق كثيرا لذةَ بقائي، ولقد أحسست بتلك اللذة إحساسا حقا كاملا، لأنني آمنت أنه ببقاء الباقي ذي الكمال وبوجوده لا تُنقَش رسائل النور في ذاكرة الناس وقلوبِهم وحدَها بل تكون أيضا موضع مطالعة لمخلوقات غير محدودين من ذوي الشعور والروحانيين. فضلا عن أنها ترتسم في اللوح المحفوظ وفي الألواح المحفوظة -إن كانت موضعَ رضى الله سبحانه وتعالى- وتتزيّن بثمرات الأجر والثواب، ولاسيما أن وجودَها بآنٍ واحد، وحظوتَها بنظر رباني من حيث انتسابها إلى القرآن الكريم ونيلَها بالقبول النبوي والرضى الإلهي -إن شاء الله- أعظمُ وأجلُّ من إعجاب وتقدير أهل الدنيا كلهم لها.. وعلمتُ أن سعادتي هي في خدمة تلك الرسائل للقرآن الكريم. وأنني على استعداد كلَّ حين بالتضحية بحياتي وببقائي لإبقاء كلِ رسالة من تلك الرسائل -التي تثبت الحقائق الإيمانية وتدعمها- ولدوامِها ولإفادتها الآخرين ولمقبوليتها عند الله. وعندها فهمتُ -بذلك الانتساب الإيماني- أن تلك الرسائل تنال بالبقاء الإلهي تقديرا وإعجابا يفوقان تقديرَ الناس وإعجابَهم بها بمائة ضعف. لذا قلت بكل ما أملك من قوة: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾.

وكذا علمت بذلك الشعور الإيماني أن الإيمان ببقاء الباقي ذي الجلال وبوجوده الذي يمنح بقاءً أبديا وحياةً دائمة، وأن ثمرات الإيمان التي هي الأعمال الصالحة ثمراتٌ باقية لهذه الحياة الفانية، ووسائلُ لبقاء دائم. فأقنعتُ نفسي أن أكونَ كالبذرة التي تترك قشرتَها لتتحول إلى شجرة باسقة مثمرة، أي أقنَعتُها أن تترك بقائي الدنيوي الشبيه بالقشرة لتعطي ثمرات باقية. فقلت مع نفسي: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾. نعم، حسبنا بقاؤه سبحانه.

وكذا علمت بعلم اليقين، بذلك الشعور الإيماني والانتساب بالعبودية؛ أن وراء ستار التراب عالماً منوّراً، وأن الطبقة الترابية الثقيلة التي يرزح تحتها الموتى رُفعت عنهم، وأن النفق الذي يُدخل إليه من باب القبر لا يؤدي إلى ظلمات العدم كذلك. فقلت من الأعماق: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾.

وكذا أحسستُ إحساسا تاما، وعلمت بحق اليقين، بذلك الشعور الإيماني أنه في الوقت الذي يتوجه عشقُ البقاء الشديد جدا في فطرتي إلى بقاء الباقي ذي الكمال وإلى وجوده من جهتين، إلّا أنه قد ضلَّ عن محبوبه بسببِ ما أسدلَته الأنانيةُ من أستارٍ دونه، فتَشبَّثَ بالمرآة وافتتن بها، فصار حائرا غويا. إذ إنَّ ما يهيمن على ماهيتي من ظلِّ اسم للكمال المطلق، المحبوب لِذاته، والمحبوب فطرةً، والمعبود المعشوق، قد أورث عشقَ البقاء هذا، الذي هو عميق الغَور والراسخُ القوي. وبينما الكمال الذاتي الذي هو وحده كافٍ ووافٍ للعبادة والافتتان، حيث لا يَلزم لمحبّته سببٌ أو غرض ولا يقتضيه شيء دون ذاته، فإنه بإحسانه وإنعامه ثمراتٍ باقية -كالمذكورة آنفا- والتي تستحق كل منها أن يُضحَّى لأجلها بألوف من الحياة الدنيوية وبقائها لا بحياة واحدة وبقاء واحد، فقد أحسست أن ذلك الكمال الذاتي قد رسّخ بإحسانه هذا ذلك العشقَ الفطري وعمّقه أكثر، فلو تيسّر لي لقلت بجميع ذرات وجودي: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ بل قلتُه بتلك النية.

ولقد أورثني ذلك الشعور الإيماني الذي يتحرى عن بقائه فوجد البقاء الإلهي -كما أشرتُ إلى عدد من ثمراته بالفقرات المبتدئة بـ«كذا.. كذا..»- ومنحنى ذوقا وشوقا مَلَكَا عليّ كياني كله وأخَذَا بمجامع روحي، فقلت بكل ما أملك من قوة، ومن أعماق قلبي ومع نفسي: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾

المرتبة النورية الحسبية الثانية

إنه مع عجزي غير المتناهي الكامن في فطرتي، ومع الشيخوخة المستقرة في كياني، ومع تلك الغربة التي لفّتني، ومع عدم وجود المعين لي، وقد جُردت من كل شيء، هاجمني أربابُ الدنيا بجواسيسهم وبدسائسهم.. في هذا الوقت بالذات خاطبت قلبي قائلا: «إن جيوشا كثيفة عارمة تهاجم شخصا واحدا ضعيفا مريضا مكبَّلَ اليدين.. أَوَ ليس له -أي لي- من نقطة استناد؟».

فراجعتُ آية ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ فأعلَمتْني: أنك تستند بهوية الانتساب الإيماني إلى سلطان عظيم ذي قدرة مطلقة، بحيث يجهِّز بانتظام تام في كل موسمِ ربيع على سطح الأرض جميعَ جيوش النباتات والحيوانات المتشكِّلة من أربعمائة ألف نوع من الأمم والطوائف بالأعتدة والأجهزة اللازمة لها. فيجدِّد ملابس جيشَيه العظيمين وهما الأشجار والطيور ويُلبسهما ملابسَ جديدةً، مبدِّلا أنواطهما وشاراتهما، حتى إنه يبدل لباس الجبل ونقاب الصحراء مثلما يبدل فساتين الدجاج اللطيفةَ وأثواب الطيور الجميلةَ. ويوزع جميع أرزاق الجيش الهائل للأحياء -وفي مقدمتها الإنسان- لا بشكل ما اكتشفه الإنسان المعاصر في الآونة الأخيرة من مستخلصات اللحم والسكر وغيرهما، بل بصورة مستخلصاتٍ أكملَ وأفضل بكثير بل تفوقها مائة مرة، فهي مستخلصاتُ جميع أنواع الأطعمة، وهي مستخلصاتٌ رحمانية، تلك التي تسمى البذور والنوى. زد على ذلك فإنه يغلّف أيضا تلك المستخلصات بأغلفة قَدَرية تتناسب مع نضجها وانبساطها ونموها، ويحفظها في عُليبات وصنيديقات صغيرة وصغيرة جدا، وهذه الصنيديقات أيضا تُصنع في معمل «ك.ن» بسرعة متناهية جدا وبسهولة مطلقة للغاية وبوفرة هائلة، حتى إن القرآن الكريم يذكر ذلك بقوله تعالى: ﴿فَاِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (البقرة:117). وعلى الرغم من أن جميع تلك الخلاصات متشابهة ومتكونة من المواد نفسها وقد لا تفي بحاجة مدينةٍ واحدة، فإن الرزاق الكريم يُنضِج منها في موسم صيف واحد ما يمكن أن يملأ مدن الأرض كافة بأطعمة في غاية اللذة والتنوع.

فما دمتَ قد ظفرتَ بنقطة استناد مثل هذه بهوية الانتساب الإيماني، يمكنك إذن الاستنادُ والاعتماد على قوة عظيمة وقدرة مطلقة. وحقا لقد كنتُ أحسّ بقوة معنوية هائلة كلما كنت أتلقى ذلك الدرس من تلك الآية الكريمة، فكنت أشعر أنني أملك من الاقتدار الإيماني ما يمكّنني من أن أتحدّى بها جميعَ أعدائي في العالم وليس الماثلين أمامي وحدهم، لذا ردَّدتُ ومن أعماق روحي: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ .

وراجعت الآية الكريمة نفسها من حيث فقري واحتياجي غير المتناهيين كي أنال نقطة استمداد لهما. فقالت لي: إنك منتسب إلى مالك كريم بعبوديتك وبمملوكيتك، واسمُك مسجّل في دفتر إعاشة المخلوقات، وإنه يَفرش سُفرة نعمِه في كل ربيع وصيف ويرفعُها بل يبسطها ويطويها أكثر من مائة مرة مزيِّنا إياها بأطعمة متنوعة لذيذة يأتيها من عالَم الغيب ومن العدم ومن حيث لا يحتسب العبدُ ومن تراب جامد حتى كأن سني الزمان وأيامَ كل سنة صحونٌ متعاقبة مترادفة لثمرات إحسانه وأطعمة رحمته ومعرضٌ لمراتب آلاء رزاق رحيم، بمراتب كلية وجزئية. فأنت عبد لمثل هذا الغني المطلق. فإن كان لك شعور وإحساس بهذه العبودية له، فإن فقرَك الأليم يصبح مدار شهية لذيذة.

وأنا بدوري قد أخذت حظي من هذا المعنى من الآية الكريمة. فقلت مع نفسي: نعم.. نعم، إنه الصدق بعينه. وردّدت متوكلا على الله: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾.

الشعاع الثالث

المقدمة

 إنّ هذه الحجّة الإيمانية الثامنة؛ إذ تَشهدُ على وُجوبِ وجُودِهِ سُبحانه وعلى وحدانيته، فهي تَشهدُ على إحاطة ربوبيته، وعظمَة قُدرَته بدلائل قاطعة، وتثبِتُ أيضا إحاطة حاكميته، وتدلُ على شُمولِ رحمته، كما تثبتُ إحاطة حِكمَته، وشمولَ عِلمه جميعَ أجزاء الكون.

والخلاصة: أنَّ لكُلِّ مقدمةٍ من هذه الحُجَّةِ الإيمانية الثامنة ثمانيَ نتائج، وهي تُثبِتُ في كُلّ مقدّمةٍ من المقدّماتِ الثمانية، النتائجَ الثمانية بدلائلها؛ لذا أصبحت لهذه الحُجّةِ الإيمانية الثامنة مزايا راقية وخصائص سامية.

«إن رسالة «المناجاة» تثبت وجوبَ الوجود، والوحدةَ والأحديّة، وجلال الربوبية، وعظمة القُدرة، وسِعَة الرَّحمة، وعموميَّةَ الحاكميَّة، وإحاطة العلم، وشمول الحكمة.. وأمثالَها من الأُسُسِ الإيمانية، تُثبِتُها بأسلوب مُوجز خارقٍ وبقطعيَّةٍ فوق العادة وبخالصيةٍ ويقينيّةٍ.. وإن إشاراتها إلى الحشر قويَّةٌ جدا وبخاصَّة التي في ختامها».

سعيد النُّورْسِيّ


المناجاة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اِنَّ في خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتي تَجْري فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَٓا اَنْزَلَ اللّٰهُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ مَٓاءٍ فَاَحْيَا بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فيهَا مِنْ كُلِّ دَٓابَّةٍ وَتَصْريفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَٓاءِ وَالْاَرْضِ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة:164).

هذه الرسالة «المناجاة» التي هي «الشعاع الثالث» نوعٌ من تفسير للآية الكريمة المذكورة أعلاه.

يا إلهي ويا ربّي!

إنّي أرى ببصيرة الإيمان وبتعليم القرآن ونوره وبدرس الرَّسُول الأكرم ﷺ وبما يريه اسم الله «الحكيم» أنه:

ليس في السَماواتِ من دورانٍ وحركةٍ إلّا ويُشير إلى وجودك ويدل عليه؛ بانتظامه البديع هذا.. وما من جِرم من الأجرام السَّماوية إلّا ويشهد شهادة على ربوبيَتِكَ ويشير إشارة إلى وحدتِكَ؛ بسكونها في أداءِ وظيفتها بلا ضوضاءٍ، وببقائِها بلا عمدٍ.. وما من نجم إلّا ويشهد على عظمة أُلوهيتِكَ ويشير إلى وحدانيتِكَ؛ بخلقته الموزونة وبوضعهِ المُنتظم وبتبسُّمِه النُّورانيّ وبِمُمَاثلتهِ ومشابهته للنجُوم كافة.. وما من كوكبٍ سيَّار من الكواكب الاثني عشر إلّا ويشهد على وجُوبِ وجودِك ويُشيرُ إلى سلطنة أُلوهيتِك؛ بحركته الحكيمة وتذلّلـه المُطيع ووظيفته المنتظمة وتوابعه المُهمة.

نعم، مثلما تشهد السماواتُ مع ساكنيها، وكلُ سماءٍ بحدِّ ذاتِها، فإن جَميعها معا تشهد بالبداهة شهادةً ظاهرةً جليَّةً على وجوبِ وجودِك يا خالق السماواتِ والأرض، وتشهَدُ شهادةً قويّةً صادقةً على وحدتك وفرديّتِك، يا من تدير الذراتِ بمركباتِها المُنظمة وتدبِّرها ويا من تُجري الكواكبَ السيارة مع توابعها المنظمة وتسخّرُها لطاعتك.. شهادة ظاهرةً قويةً تُصدّقها براهينُ نورانيَّة، ودلائلُ باهِرة، عدد النجوم التي في وجه السماء.

فهذه السّماوات الصَّافية الطاهرة الجميلة تدل دلالة ظاهرة على هيبة ربوبيَتِك وعظمةِ قدرتك المُبدعة.. وتشيرُ إشارة قويةً إلى سعة حاكميَتِك المحيطة بالسماوات الشاسعة، وإلى رحمتك الواسعة المحتضنة لكل ذي حياة.. وتشهد بلا ريب على شمول حكمتك لكل فعلٍ وعلى إحاطة علمك بكل شيء، المنظِّمان في قبضتهما جميعَ شؤون جميع المخلوقات السّماوية وكيفياتها؛ بأجرامِها التي هي في غاية الضخامة وفي غاية السُرعة، وبإظهارها أوضاعَ جيش منظّمٍ ومهرجانٍ مَهيبٍ مُزيَّن بمصابيحَ وضَّاءةٍ.. فتلكما الشَّهادة والدلالة ظاهرتان جليتان كأن النجومَ كلماتُ شهادة للسماوات الشاهدة ودلائلُها المتجسّمة النورانية.. أما النجوم السابحة في بحر السماواتِ وفي فضائها، فإنها تُظهر شعشعةَ سلطانِ أُلوهيتك؛ بأوضاعها المُماثلة لجنودٍ منصاعين وسفنٍ منتظمةٍ وطائراتٍ خارقةٍ ومصابيح عجيبةٍ. ورفيقات شمسنا التي هي نجمةٌ من ذلك الجيش ترنو إلى عوالم الآخرة، وليست معطّلة، بدلالة وظائف الشمس في سياراتها وفي أرضنا، ولربما هي شموس عوالم باقية.

يا واجب الوجود، يا واحدُ، يا أحدُ!

إن هذه النُجُوم الخارقة وهذه الشمُوس الضَّخمة والأقمار العجيبة قد سُخِّرَت ونُظّمت ووُظِّفت في مُلكِكَ أنتَ، وفي سماواتِكَ أنت، بأمركَ أنت، وبقُوتِكَ وبقُدرتكَ أنت، وبإدارتكَ وتدبيركَ أنت. فجميعُ تلك الأجرام العُلويّة تسبّحُ وتُكبّرُ للخالقِ الواحد الذي خلقَها ويجريها ويديرها، وتقول بلسان الحال: سُبحَان الله.. الله أكبر. وأنا معها أُقدّسُك بجميع تَسبِيحاتها.

يا من اختفى بشدَّة الظُهور! يا من احتجبَ بعَظمة الكِبرياء! يا قديرُ يا ذا الجلال! يا قادر القُدرة المُطلقة!

لقد أدركتُ بِدَرس قُرآنك الحكيم وبتعليم الرسول الأكرم ﷺ أنه: مثلما تَشهدُ السماواتُ والنجُوم على وجودك وعلى وحدَتك، يَشهدُ جوُّ السـماء كذلك على وجوب وجودك ووحدتك بسحابه وبروقه ورعوده وريــاحــه وأمطاره.

نعم، إن إرسال السحاب الجامد بلا شعور المطرَ الباعثَ للحياة، إغاثةً للمضطرّين من الأحياء، ليس إلّا برحمتك وحكمتك أنت، فلا دخلَ فيه للمصادفة العشواء قط.

وكذا البرقُ الذي هو طاقة كهربائية عظمى، يشوِّقُ بسَنَاه إلى فوائده النورانية، وينوِّر قدرتَك الفاعلة في الفضاء على أفضل وجه.

وكذا الرعد المبشِّر بقُدوم المطر، والذي يُنطِق الفضاءَ الواسع بتسبيحاته، فيُدوي في أرجاء السماواتِ، يُسبّحُك ويقدّسُك ويشهد بلسان المقال على ربوبيتك.

وكذا الرّياح المسَخَّرة بوظائفَ عدّة -كحمل أكثر الأرزاق ضرورةً لمعيشة الأحياء وأسهَلِها تناولا وفائدة، ومنح الأنفاس وترويح الأنفس وغيرُها كثير- تُشير إلى فعالية قدرتك أنت، وتشهد شهادة على وجودِك؛ بتبديلها الجوَّ -لحكمةٍ- كأنه «لوح المحو والإثبات» فتكتب ما يفيد وتمحو ما أفاد. كما أنَّ «الرحمة» المستدرّة برحمتك من السَّحاب والمرسَلة إلى الأحياء تشهد هي أيضا على سعة رحمتك، ووُسعةِ رأفتك؛ بكلمات قطراتها العذبة اللطيفة الموزونة المنتظمة.

يا مصرّفُ يا فعَّال! يا فيَّاضُ يا مُتعَال!

مثلما شهد السحَابُ والبرقُ والرعدُ والرياح والمطر -كلٌ على حِدة- على وجوب وجودِك، فإن جميعَها معا تُشير إشارة قويَّة جدا إلى وحدتك، وإلى فرديَّتِكَ؛ بخاصية الاتّفاق والمعيَّة والتداخُل وشَدِّ بعضها أزر البعض، رغم البُعدِ في النوعيَّة والاختلاف في الماهيَّة.

ومثلما تشهد تلك العناصر الجوية على جلال ربُوبيتك الجاعلة من الفضاء الفسيح محشرا للعجائب؛ بملئه وإفراغه مرَّاتٍ عدَّة وربَّما في اليوم الواحد، فإنها تشهد على عظمة قدرتك المصرِّفة وشمولها كلَ شيء، والتي تكتب ذلك الجوَّ الواسع وتبدِّله كأنهُ «لوحة كتابة» وتعصر المعصرات لتسقي روضةَ الأرض ماءً غدقا.. فضلا عن دلالتها على السِعة المطلقة لرحمتك ولحاكميَّتِكَ ونفوذهما في كل شيء، وتدويرهما كرةَ الأرض كافة والمخلوقات كافة تحت غطاء الجو.

وكذا الهواء المنبث في الفضاء يُستخدم في وظائف عدّةٍ استخداما حكيما.. والغيومُ والأمطار تُستعملان في فوائد جمّة استعمالا عليما.. بحيث لولا علمٌ محيط بكلِّ شيء وحكمةٌ شاملة كُلَّ شيء، لما أمكن أن يكون ذلك الاستعمال ولا ذلك الاستخدام.

يا فعَّالاً لما يُريدُ!

إن إظهار نموذج الحشر والقيامة كُلَّ وقتٍ بفعاليَّتِكَ في جوِّ الفضاء، وتبديلَ الصيف إلى شتاء والشتاء إلى صيف خلال سَاعة، وإتيان عالَم وإرسالَ آخر إلى الغيب وأمثالَها من شُؤونِ قُدرتك المتجلّية.. تشِير إلى تبديلها الدنيا إلى آخرة، وستظهر شؤونا سرمديَّة في الآخرة.

يا قديرُ يا ذا الجلال!

إن الهواء والرِياح والسحاب والمطر والبرق والرَّعد في جوِّ السماء لَمسخَّرةٌ كلها وموظّفةٌ في ملكك أنت، وبأمرك وحَولك أنت، وبقوَّتِكَ وقدرتك أنت.. فمخلوقاتُ هذا الفضاء رغم البعد في ماهيَّاتها تُسبّحُ بحمد آمرها وتُثني على حاكمها الذي يُخضعها لأوامر آنيَّة في مُنتهى السُّرعة، ولآمرين مُسرعين فوريين.

يا خالق الأرض والسماوات! يا ذا الجَلال!

لقد آمنت وعلمتُ بتعليم قرآنك الحكيم وبدرس الرَّسُولِ الأكرم ﷺ أنه: مثلما السماواتُ بنجومِها، وجوُّ الفضاء بما فيه، تشهد على وجوبِ وجودِك ووحدانيتك.. كذلك الأرضُ بجميع مخلوقاتها، وبأحوالها، تَشهد شهادات وتشير إشارات، عددَ موجوداتها، على وجودِك وعلى وحدتك.

نعم، فما من تحوُّلٍ في الأرض، ولا من تبدُّل فيها -كتبديل الأشجار والحيوانات ملابسَها سنويا- كليا كان أم جزئيا، إلّا ويشير بانتظامه وتناسُقه، إلى وجودِك ووحدَتِكَ.

وما من حيوان إلّا ويشهد شهادة على وجودكَ ووحدَتك؛ بالرّزق الذي يساقُ إليه برحمة، وبأجهزته الضرورية لحياته والمودعة فيه بحكمة، كلٌ حسب ضَعفه واحتياجهِ.

وما من نباتٍ أو حيوان يتم إيجادُه أمام ناظرينا في كل ربيع، إلّا ويعرِّفك؛ بصنعته العجيبة وبزينته اللطيفة وبتميزه التام وبانتظامه وبموزونيته.. فخلقُ ما يملأ وجه الأرض من معجزات قدرتك المسماة بالنباتات والحيوانات، من بيوض وبويضات وقطرات ونُطف وحبوب وحبيبات، رغم أن مادتها محدودة وواحدة ومتشابهة، خلقا كاملا سويا ومزيّنا بزينةٍ، ومتميّزا بعلاماتٍ فارقة.. شَهادةٌ أقوى من شهادة الضياء على الشَّمسِ وأسطع منها على وجود صانعها الحكيم، وعلى وحدته وحكمته وقدرته المطلقة.

وما من عنصر كالهواء والماء والنور والنار والتراب إلّا ويملك شَهادة على وحدتكَ وعلى وجودك؛ بأدائها لوظائفَ مكمّلةٍ بشعور بالغ، رغم خلوّها من الشعور، وبجلبها لأثمارٍ ومحاصيلَ متنوِعة في غاية الانتظام من خزينة الغيب، رغم بساطتها وتجاوز بعضها للبعض الآخر وعدم انتظامها وتشتتِها في كل مكان.

يا فاطرُ يا قديرُ يا فتاح يا علام يا فعّالُ يا خلاق!

كما أن الأرض تشهد بجميع ساكنيها على كون خالقها واجبا للوجود، فهي تشهد كذلك على وحدتك وعلى أحديتك -يا واحد يا أحد يا حنان يا منان يا وهاب يا رزاق- بسكَّتِها التي على وجهها، وبالسكك التي على وجوه ساكنيها، وبجهة الوحدة والاتفاق والتداخل والتعاون فيما بينها، ووحدة أسماء الربوبية وأفعالها الناظرة إليها جميعا.. فتشهد شهادات -بدرجة البداهة بل بعدد الموجودات- على وحدتك وعلى أحديتك.

وكذا فكما تدل الأرضُ؛ بوضعها المشابه لمعسكرٍ ومعرض وميدانِ تدريب، وبمنح أجهزة مختلفة متنوّعة بانتظام إلى أربعمائة ألفٍ من الأمم المختلفة التي تضمُّها فرقة النباتات والحيوانات، على جلال ربوبيتك، وعلى نفاذ قُدرتك في كل شيء.. كذلك الأرزاقُ المتنوّعة لأحياء غير محدودة والنَّاشئة من تراب يابس بسيط، وإرسالُها بكلِّ كرم ورحمة إلى كل حيّ فردا فردا في أوانها وانقياد تلك الأفراد غير المحدودة وإطاعتها إطاعةً تامة للأوامر الربانية ودينونتِها التامة لها، تُظهر شمولَ رحمتك كل شيء وإحاطة حاكميتك بكل شيء.

وكذا فإن إدارة قوافل المخلوقات المعرَّضة دوما للتغير والتبدل في الأرض، وسَوقها ومناوبتها بالموت والحياة.. وإدارةَ وتدبيرَ الحيوانات والنباتات التي لا يمكن أن تتم إلا بعلم يتعلق بكل شيء، وبحكمة غير متناهية تتحكم في كل شيء.. تدل على إحاطة علمك وحكمتك.

وكذا فإن هذه الأهمية العظمى، وهذا البذل والصرف غير المحدود، وهذه التجليات الربانية المطلقة، وهذه الخطابات السبحانية غير المحدودة، وهذه الإحسانات الإلهية غير المتناهية لهذا الإنسان الذي يتصرف في موجودات الأرض وهو المكلف بوظائف غير محدودة في فترة قصيرة والمزوَّد باستعدادات وأجهزة معنوية تهيؤه لمعيشة مديدة في زمن غير محدود.. لا محالة أنها لا تنحصر في مدرسة الدنيا هذه، وفي ثكنة الأرض المؤقتة هذه، وفي معرض العالم المؤقت هذا، ولا تنحصر في هذا العمر القصير الحزين المكدّر، ولا في هذه الحياة العكرة المنغّصة، ولا في هذا العالم الفاني المليء بالبلايا والنوائب. بل كل ذلك يشير بلا شك إلى عمرٍ آخر أبدي وسعادةٍ باقية خالدة ويشير إلى إحسانات أخروية في عالم البقاء، بل يشهَد عليها.

الشعاع الثاني

الثمرة الأخيرة لسجن «أسكي شــهر»

الشعاع الثاني للمعة الحادية والثلاثين

لقد شاب هذا الشعاعَ شيءٌ من عدم التناسق وسوءِ الانتظام حيث أُلّف بقلمي القاصر في منتهى السرعة، وفي وضع كنت أُكابد فيه الضيقَ والعنت والإزعاج، بعدما بتّ وحيدا فريدا في سجن «أسكي شهر» عقب الإفراج عن أصدقائي.

وفي هذه الأيام (أي بعد ستة عشر عاما) شرعتُ بتصحيحه، ووجدتُه في غاية الأهمية والقوة والقيمة من زاوية الإيمان والتوحيد.

سعيد النُّورْسِيّ


النكتة السابعة العظمى الخاصة بالاسم الأعظم «الله أحد».

وهي السابعة للنكات الست للاسم الأعظم.

تنبيه

هذه الرسالة في غاية الأهمية في نظري، حيث تنكشف فيها أسرارٌ إيمانية جليلة ومعانٍ إيمانيةٌ دقيقة. فمن يقرأها بتدبر وإمعان ينقذ إيمانَه بإذن الله. وحيث لا ألتقي أحدا مع الأسف في هذا السجن لم تبيَّض ولم تُكتب ثانية ولم أتمكن من أن أكلف أحدا للقيام بتبييضها.

فإن شئتَ أن تلمس مدى قيمة هذه الرسالة وعلو مزيّتها فاقرأ أولا الثمرةَ الثانية والثالثة الموجودتين في بداية الرسالة، ثم اقرأ الخاتمة والمسألة التي قبلها بدقة، ثم طالع الرسالة كاملة مطالعة متأنية.

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

لقد أحسستُ بهذه النكتة إحساسا لطيفا غايةَ اللطف وجميلا غاية الجمال وحلوا لذيذا غاية الحلاوة واللذة، وذلك بفيض أنوار نكتةٍ باهرةٍ مُفاضةٍ من الآية الكريمة: ﴿فَاعْلَمْ اَنَّهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ﴾ (محمد:9) وبإلهام وإشارة من قَسَم نبوي معروف.

هذه النكتة تضم ثلاثَ ثمرات للتوحيد، وثلاثةً من مقتضياته، وثلاثا من حججه.

نعم، لقد كان الرسول الأكرم ﷺ أكثر ما يكرره في قَسَمِهِ: «والذي نفسُ محمدٍ بيده..» فهذا القَسَم النبوي الجليل يبين أن أوسعَ دائرة من دوائر شجرة الكون، وأقصى نهاية لها وأبعدَ فرع من فروعها هي أيضا ضمن قدرة الواحد الأحد سبحانه وتحت إرادته جلّ وعلا، إذ لو كان أفضلُ مخلوق وأكرمُهم وهو محمد ﷺ غيرَ مالك لنفسه وغيرَ حرّ طليقٍ في أفعاله، بل أفعالُه وحركاته وسكناته مقيدةٌ بإرادة غير إرادته واختياره، فلا شيءَ إذن في الوجود، ولا شأنَ ولا حال ولا كيفيةَ مهما كانت جزئيةً أم كلية، خارجَ دائرة تلك القدرة العظيمة المحيطة بكل شيء، ولا خارجَ تلك الإرادة الشاملة كلَ شيء. فهذا القَسَم النبوي البليغ ذو المغزى العميق إنما يعبّر عن توحيدِ ربوبية جليلة في منتهى العظمة والإحاطة.

ولقد بينا في رسائل النور التي هي سراج النور، مائةً من البراهين الباهرة، بل ألفا منها حول إثبات هذا التوحيد، لذا نحيل تفاصيلَ هذه الحقيقة السامية وإثباتَها إلى تلك المجموعة. إلّا أننا نوضح هنا في هذا «الشعاع الثاني» توضيحا مختصرا تلك الحقيقةَ الإيمانية الجليلة في ثلاثة مقامات:

ففي المقام الأول:  نبين ثلاثَ ثمرات من الثمرات الوفيرة، لتلك الحقيقة التوحيدية التي لها ثمرات كلية في غاية اللطف واللذة والأهمية والنور. نبينها باختصار شديد، مع الإشارة إلى أذواقي ومشاعري التي ساقتني إلى تناول تلك الثمرات.

وفي المقام الثاني:  تُوضَّح مقتضياتٌ ثلاثةٌ لهذه الحقيقة السامية، والأسبابُ الموجبة لها، فهي مقتضيات ثلاثة إلّا أنها بقوة ثلاثة آلاف مقتضىً وسبب.

وفي المقام الثالث:  يُذكر ثلاثُ علامات لتلك الحقيقة التوحيدية الباهرة، فهي علاماتٌ ثلاث إلّا أنها بقوة ثلاثمائة علامة وأمارة ودليل.

*  *  *

 

المقام الأول

الثمرة الأولى

إن الجمال الإلهي والكمال الرباني يَظهران في التوحيد وفي الوحدانية، ولولا التوحيد لظل ذلك الكنـز الأزلي مخفيا.

نعم، إن الجمال الإلهي وكمالَه الذي لا يحد، والحسنَ الرباني ومحاسنه التي لا نهاية لها، والبهاءَ الرحماني وآلاءه التي لا تُعد ولا تحصى، والكمالَ الصمداني وجماله الذي لا منتهى له، لا يشاهَد إلّا في مرآة التوحيد؛ بوساطة التوحيد ونور تجليات الأسماء الإلهية المتمركزة في ملامح الجزئيات الموجودة في أقصى نهايات شجرة الكائنات.

فمثلا: إن إرسالَ اللبن الخالص السائغ إلى رضيعٍ صغير لا يملك حولا ولا قوة- ومن حيث لا يحتسب- من بين فرث ودم، فعلٌ جزئي. هذا الفعل الجزئي ما إن يُنظَر إليه بنظر التوحيد حتى يظهر الجمال السرمدي لرحمة الرحمن بأبهى كماله وبأجلى سطوعه في إعاشة جميع الصغار في العالم إعاشةً خارقة، وفي إحاطتهم بمنتهى الشفقة والحنان، بتسخيرِ والداتهم لهم. ولكن هذا الفعل، فعلَ إرسال اللبن إن لم يُنظر إليه بنظر التوحيد، لاختفى ذلك الجمالُ الباهر كليا ولما ظهر قطعا، إذ تُحال تلك الإعاشة الجزئية كذلك إلى الأسباب والمصادفة والطبيعة، فتفقد قيمتَها كليا بل تفقد ماهيتها.

ومثلا: ما إن يُنظر إلى الشفاء من مرض عضال، بنظر التوحيد حتى يتجلى جمالُ شفقة الرحيم تجليا باهرا كاملا على وجه إحسانِ الشفاء إلى جميع المرضى الراقدين في المستشفى الكبير المسمى بالأرض وإسعافِهم بأدوية ناجعة وإغاثتهم بعلاجاتٍ شافية تؤخذ من الصيدلية العظمى المسماة بالعالم. ولكن هذا الفعل الجزئي -منحة الشفاء- المتّسم بالعلم والبصيرة والشعور إن لم يُنظر إليه بنظر التوحيد، فإن الشفاء يُسند إلى خاصيات الأدوية الجامدة وإلى القوة العمياء والطبيعة الصماء. فتفقد تلك المنحةُ الرحمانية ماهيتَها وحكمتَها وقيمتها كليا.

ولمناسبة هذا المقام وردت إلى الخاطر نكتةٌ لطيفة من نكات الصلوات على الرسول الكريم ﷺ أُبيّنها هنا:

إن الصلوات الآتية مشهورة ومذكورة كثيرا لدى الشافعية، فهم يقرؤونها عقب أذكار الصلاة: «اللهم صلّ على سيدنا محمدٍ وعلى آل سيدنا محمدٍ بعدد كل داء ودواء وبارِكْ وسلِّم عليه وعليهم كثيرا كثيرا».

هذه الصلوات المباركة تَحوز أهميةً عظيمة؛ لأن حكمةَ خلق الإنسان وسرَّ جامعية استعداده هو الالتجاءُ إلى خالقه الكريم والتضرعُ إليه والقيامُ بحمده والشكر له، في كل وقت وحين، بل في كل دقيقة وآن، لذا فإن أقوى دافع مؤثر وسائق فعّال يحث الإنسانَ إلى الالتجاء إلى الحضرة الإلهية ويسوقه إليها هو الأمراضُ والأسقام، مثلما أن أنواع الشفاء وأجناسَ الأدوية وألوانَ العافية والمعافاة هي في مقدمة النعم اللذيذة والآلاء الطيبة التي تَبعث في الإنسان الشكرَ لله بشوق كامل وتدفعُه إلى الحمد والامتنان له بكامل معانيهما. ولأجل كل ذلك غدت هذه الصلواتُ الشريفة على الرسول الكريم ﷺ ذاتَ قيمة رفيعة ومغزى عميق.

حتى إنني كلما قلت: «بعدد كلِ داء ودواء» شعرت بجلاء تام بوجود الشافي الحقيقي وبشفقته الكاملة ورأفته التامة وبرحيميته السامية الواسعة في إحسانه الأدويةَ والعلاجات على جميع الأمراض المادية والأسقام المعنوية في أرجاء الأرض كافة التي أتصورها مستشفىً واسعا كبيرا.

ومثلا:  إن إنزال سكينة الإيمان في قلب مَن يعاني آلاما معنوية رهيبة للضلالة إذا ما نُظر إليه بنظر التوحيد، يجعل ذلك الشخصَ الفرد العاجز الفاني عبدا مخاطبا لمعبوده العظيم، سلطانِ الكون ورب العالمين، ويمنح له بذلك الإيمانِ سعادةً أبدية ومُلكا خالدا جميلا في منتهى السعة والجمال ودارا باقية خالدة، بل يجعل جميع المؤمنين -كل حسب درجته- ينالون من ذلك اللطف العميم والكرم الدائم.. وهكذا يشاهَد في وجه هذا الإحسان الأعظم بل يُطالَع في سيماه جمالُ الكريم المطلق والمحسن المطلق، ذلك الجمالُ الأزلي الأبدي الذي لا يدنو منه الزوالُ والفناء، بل تجعل لمعةٌ من لمعاته الباهرة المؤمنينَ كافة في ولاءٍ لله وفي طاعة لأوامره، بل تجعل قسما منهم منجذبين إليه عُشاقا مولّهين. بينما إنْ لم يُنظَر إلى هذا الإحسان -إحسانِ الهداية لذلك الشخص- بنظر التوحيد، فإن ذلك الإيمان الجزئي لذلك الفرد يُحال إلى الإنسان نفسه -كما يدّعيه المعتزلة المتعسفون- أو إلى بعض الأسباب، فتنقلب تلك الجوهرةُ الرحمانية الغالية -التي لا تُثمَّن قيمتُها إلّا بالجنة الخالدة- إلى قطعة زجاج خسيسة تافهة بعد أن كانت تؤدي وظيفةَ مرآة تعكس لمعةَ جمال مقدس.

وهكذا قياسا على هذه الأمثلة الثلاثة.. فإن الألوفَ من أنواع الجمال الإلهي ومئاتِ الألوف من أضراب الكمال الرباني، تَظهر، وتُفهم، ويثبُت تحققُها من زاوية نظر التوحيد، وذلك بتمركز تلك الأنماط من الجمال الإلهي والكمال الرباني في تلك الأحوال الجزئية لأصغر الجزئيات التي هي في منتهى أقاصي دائرة الكثرة من الموجودات. فظهور هذا الجمال الإلهي وكمالُه للقلوب بالتوحيد، والاستشعارُ بهما روحا، هو الذي دفع جميعَ الأولياء والأصفياء أن يتلمسوا أحلى أذواقهم وألذَّ أرزاقهم المعنوية في ذكرِ وتكرار كلمة التوحيد، وهي: «لا إله إلّا الله».

وحيث إن عظمةَ الكبرياء الإلهي والجلالَ السبحاني وهيبةَ الربوبية الصمدانية تتحقق في كلمة التوحيد فقد قال النبي ﷺ: «أفضلُ ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلّا الله».

نعم، إن ثمرةً واحدة، وزهرة واحدة، وضياءً واحدا، كلٌ منها يعكس كالمرآة الصغيرة رزقا بسيطا، ونعمة جزئية وإحسانا بسيطا. ولكن بسر التوحيد تتكاتف تلك المرايا الصغيرة مع مثيلاتها مباشرة، ويتصل بعضُها بالبعض الآخر، حتى يصبح ذلك النوعُ مرآةً واسعة كبيرة جدا تعكس ضرباً من جمالٍ إلهيّ يتجلى تجليا خاصا بذلك النوع. فيُظهِر سرُّ التوحيد حسنا سرمديا باقيا من خلال ذلك الجمال الفاني الموقت، بمعنى أن ذلك الشيء الجزئي يتحول بسر التوحيد إلى مرآة الجمال الإلهي، كما قال «مولانا جلال الدين الرومي»:

آن خيالاتي كه دام أولياست     عكس مهرويان بوستان خداست

(حاشية) يعني: «إن الخيالات التي هي شراك الأولياء إنما هي مرآة عاكسة تعكس الوجوه النيرة في بستان الله». المترجم

 بينما إنْ لم يُنظَر إلى ذلك الجمال بنظر التوحيد، أي لولا سرُّ التوحيد، لظلت تلك الثمرةُ الجزئية سائبةً، وحيدة فريدة معزولة عن مثيلاتها، فلا يظهر ذلك الجمالُ المقدس ولا يَبِين ذلك الكمال الرفيع، بل تنكسف حتى تلك اللمعةُ الجزئية المتلمعة منها، وتَضيع وتنتكس منقلبةً على عقبيها من نفاسة الألماس الثمين إلى خساسة قِطَع الزجاج المتكسر.

وكذا يظهر بسر التوحيد في ذوي الحياة تلك الثمار المتدلية من شجرة الخلقة، شخصيةٌ إلهية، وأحديةٌ ربانية، وسيماءٌ معنوي رحماني -باعتبار الصفات السبع- وتمركزٌ أسمائيّ، وجلوةُ تعيّنٍ وتشخصٍ لمن هو المخاطَب بـ﴿اِيَّاكَ نَعْبُدُ وَاِيَّاكَ نَسْتَعينُ﴾ (الفاتحة:5). وبخلافه (أي دون سر التوحيد) فإن جلوةَ تلك الشخصية والأحدية والسيماء والتعيّن تتوسع وتتوسع منبسطة حتى تتسع سعة الكون برمته، فتتلاشى وتختفي، ولا تظهر إلّا للقلوب البصيرة والبصائر الواسعة جدا والمحيطة جدا؛ لأن العظمةَ والكبرياء تسدل ستارا دونه فلا يراه قلبُ كل فرد.

وكذا يُفهم بوضوح تام بسر التوحيد في تلك الأحياء الجزئية؛ أن صانعَها يراها ويعلم بحالها ويسمع نداءها ويصوّرها كيف يشاء. فيَظهر لبصيرة الإيمان وراء مصنوعية الكائن الحي، تشخصٌ معنوي وتعينٌ معنوي لمقتدر مختار سميع عليم بصير. وبخاصة وراء مخلوقية الإنسان -من بين ذوي الحياة- يُشاهَد بالإيمان وبسر التوحيد وبوضوح تام ذلك التشخصُ المعنوي والتعين السامي. لأن في الإنسان نماذجَ أُسسِ ذلك التشخص، تشخصِ الأحدية، وهي العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وأمثالُها من المعاني، فتشير تلك النماذجُ إلى تلك الأسس، إذ الذي شقَّ البصر -مثلا- يرى البصرَ ويرى كذلك ما يراه البصرُ -وهو معنىً دقيق- ثم يمنح البصرَ. نعم، إن صاحب النظارات الذي يصنع لعينك نظارةً يرى ملاءَمةَ النظارة لعينك ثم يصنعها لك. وكذا الذي شقَّ السمعَ لا شك أنه يسمع ما تسمعه الأذن ثم يخلقها ويمنحها الإنسانَ. وهكذا قِس بقية الصفات على هذه.

وكذا في الإنسان نقوشُ الأسماء الحسنى وتجلياتها، فهو بهذه النقوش والجلوات يشهد على تلك المعاني المقدسة.

وكذا الإنسان بضعفه وعجزه وفقره وجهله يؤدي وظيفةَ المرآة -بشكل آخر- إذ يشهد بها على صفاتِ مَن يرحم ضعفَه وفقرَه، ومَـن يمدّ عجزَه. أي يشهد على قدرته جلَّ وعلا وعلى علمه وعلى إرادته، وهكذا على سائر صفاته الجليلة.

فبسر التوحيد إذن يتمركز ألفُ اسم واسم من الأسماء الحسنى في منتهى دائرة الكثرة وفي أكثر جزئياتها تشتتا، تتمركز في الرسائل الصغيرة المسماة بذوي الحياة، وتُقرأ بسر التوحيد بوضوح وجلاء، لذا فإن ذلك الصانع الحكيم يُكثر من نُسخ ذوي الحياة بكثرة كاثرة، ولاسيما طوائف صغارها يُكثرها بأشكالٍ شتى وينشرها إلى الأرجاء كافة.

إن الذي ساقني إلى حقيقة هذه الثمرة الأولى وأوصلني إليها هو استشعارٌ ذوقي يخصني، وهو على النحو الآتي:

لقد كنتُ أتألم لحال ذوي الحياة، ولاسيما لذوي الشعور منها، وبالأخص لحال الإنسان، وبخاصة المظلومين والمبتلِين بالمصائب منهم، لِما أحملُ من عطفٍ متزايد وشفقة مفرطة، فكانت أحوالُهم تمسّ عطفي وتثير شفقتي وتُوجع قلبي وتعصره.

فكنت أقول من أعماق قلبي: «إن القوانين المطّردة الساريةَ في العالم لا تسمع ما يعانيه هؤلاء البائسون الضعفاء العاجزون، وإن تلك العناصر والحوادث الصماء المستولية لا تسمع أنينَهم، أليس من أحدٍ يتدخل في شؤونهم الخاصة رحمةً بهم ورأفةً بأحوالهم التي يُرثى لها؟» فكانت روحي تصرخ من الأعماق. وكذا، «أليس من مالكٍ حقيقي ومولى كريم يرعى ويتولى أولئك العبيد الرائعين في الحسن وتلك الأموال القيمة الثمينة جدا، وهؤلاء الأحباب الأودّاء المشتاقين الممتنّين كثيرا؟» نعم، كان قلبي يصرخ بهذا بكل ما أوتى من قوة.

أما الجواب الكافي الوافي الذي يبعث الاطمئنان والسكينةَ والقناعة التامة ويهدئ استغاثة روحي وصراخَ قلبي فهو: أن أولئك العبيد المحبوبين الذين يئنّون تحت ضغوط القوانين العامة للرحمن الرحيم ذي الجلال، ويستغيثون تحت ضربات الحادثات وهجومها، يمنحهم سبحانه بسرّ التوحيد ما هو فوق تلك القوانين من إحسانات خصوصية وإمدادات خاصة وربوبية مخصوصة مباشرة لكل شيء، ويدبّر سبحانه أمورَ كل شيء بذاته الجليلة. ويستمع إلى شكاوى كلِ ذي مصيبة، وهو المالك الحقيقي لكل شيء ومولاه الحق.

فمذ عرفتُ هذا السر من القرآن ونور الإيمان شعرتُ بسرور يملأ كياني كلَه، وولّى عني ذلك اليأسُ القاتم. وقد اكتسب في نظري كلُ كائن حي -من حيث انتسابه إلى المالك الجليل وعبديته له- ألوفَ الدرجات الراقية من الأهمية والقيمة، لأن كلَ أحد يفتخر ويزهو بشرف سيدِه وبمقامِ من ينتسب إليه ويعتزّ بشهرته وصِيته، مما يولِّد عزةً وفخرا لديه. فلا شك أن نورَ الإيمان الذي بسط ذلك الانتساب والعبدية هو الذي يجعل النمل يغلب فرعونا بقوة ذلك الانتساب، بل له أن يفتخر بذلك الانتساب فخرا يفوق ألفَ مرة فخرَ فرعون السادرِ في الغفلة الظانِّ نفسَه حرا سائبا، يفتخر بأجداده الفراعنة وبمُلك مصر، ذلك الفخر الذي ينكسف لدى باب القبر. وكذا البعوض يستطيع -بإراءة شرف انتسابه- إزالةَ فخرَ نمرود الذي انقلب في سكراته إلى خجل وعذاب.

وهكذا تُعلِّمنا الآيةُ الكريمة: ﴿اِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ﴾ (لقمان:13) أنَّ الشرك يحمل ظلما فاضحا، لأنه جريمةٌ عظيمة نكراء لتعدّيه على حقوق كل مخلوق وإهانته لشرفه وكرامته. ولا يطهّر هذه الجريمة -جريمةَ الشرك- إلّا نارُ جهنم.

الدعاء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «اللمعات».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النُّورْسِيّ  

اللمعة الثالثة والثلاثون

اللمعة الثالثة والثلاثون

هي الحقائق التي ظهرت على قلب «سعيد الجديد» بدرجة الشهود، وسطرها باللغة العربية في رسائل موسومة بـ(«قطرة من بحر التوحيد»، «حبة من جنان القرآن»، «شمة من نسيم هداية القرآن»، «ذرة من شعاعات هداية القرآن»، «حباب من عمان القرآن»، «زهرة من رياض القرآن»،«شعلة من أنوار القرآن») مع ذيول هذه الرسائل وقد ضمت كلّها تحت عنوان «المثنوي العربي النوري» سينشر في مجلد مستقل إن شاء الله.

اللمعة الثانية والثلاثون

اللمعة الثانية والثلاثون

وهي «اللوامع» التي هي آخر ما ألّفه «سعيد القديم» في غضون عشرين يوماً من شهر رمضان وجاءت منظومة نظماً عفوياً. نشرت ملحقةً بمجموعة «الكلمات».

اللمعة الثلاثون

من المكتوب الحادي والثلاثين، وثمرة من ثمار سجن «أسكي شهر». وهي عبارة عن ست نكات.

 هذا الدرس القيّم ثمرةٌ من ثمار «سجن أسكي شهر» وحصيلةُ مدرستها اليوسفية، مثلما كانت «رسالة الثمرة» ثمرةً أينعَها «سجنُ دنيزلي» وكما كانت «رسالة الحجة الزهراء» درساً بليغاً أزهر في سجن آفيون.

تضم هذه الرسالة -وهي اللمعة الثلاثون- نكاتٍ دقيقة لستةٍ من الأسماء الحسنى.

في القسم الذي يخص اسم الله «الحي» و«القيوم» من الاسم الأعظم مسائل عميقة وواسعة جداً قد لا يستطيع كلُّ أحد أن يستوعبها كلَّها ويتذوقها جميعاً، إلّا أنه لا يبقى أحدٌ دون نصيب منها وفائدة يغنمها.


النكتة الأولى

تخص إحدى نكات اسم الله القدوس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْاَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ (الذاريات:48)

لقد تجلت لي نكتةٌ من نكات هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله «القدوس» وهو الاسم الأعظم أو أحدُ أنوراه الستة، وأنا نزيل سجن «أسكي شهر» أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: الوجودَ الإلهي بوضوح تام، وكشف لي: الوحدانيةَ الربانية بجلاء، كما يأتي:

لقد تراءى لي هذا الكونُ وهذه الكرةُ الأرضية كمعمل عظيم دائبِ الحركة، وشبيهةٍ بفندق واسع، أو دارِ ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع، علماً أن دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والأنقاض، ويصاب كل شيء بالتلوث، وتضيق فيها أسبابُ الحياة. فإن لم تعمل يدُ التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً أدّت تلك الأوساخ إلى اختناق الإنسان واستحالة عيشه.

بيد أننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الأرضية هذه أثراً للنفايات، كما انه لا توجد في أية زاوية من زواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو أُلقِيَتْ عبثاً، حتى إن ظهرت مادةٌ كهذه فسرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها إلى مادة نظيفة.

فهذا الأمرُ الدائب يدلنا على: أن الذي يراقب هذا المعمل إنما يراقبه بكل عناية وإتقان، وأن مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه -رغم ضخامته- أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسِبةً مع كبر المعمل وضخامته. فالمراعاةُ بالتطهير إذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعمل وسعته، لأنَّ الإنسان الفرد إن لم يستَحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!

إذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو إلّا نابعٌ من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم.. فلولا هذه المراقبةُ المستديمة للنظافة، والعنايةُ المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الأرض -بأجوائها الموبوءة- مئاتُ الآلاف من الأحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبةُ الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرَّضة للموت والاندثار، لكانت أنقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطّم رؤوسَنا ورؤوس الأحياء الأخرى، بل رأسَ الدنيا! ولكانت تُمطِر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمُنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي -نتيجة الاندثار- سوى بضعةِ نيازك، ولم تُصب أحداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر! ولولا التنظيفُ الدائب والتطهير الدائم في سطح الأرض، لكانت الأنقاض والأوساخ والأشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الألوف من أمم الأحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارةُ تصل إلى حد ينفر كلُّ من له شعور أن ينظر إلى وجه الأرض الدميم، بل كان يسوقه إلى الفرار منها إلى الموت والعدم ناهيك عن حبِّه وعشقه.

نعم، مثلما ينظّف الطيرُ أجنحته بسهولة تامة أو يطهِّر الكاتبُ صحائف كتابه بيُسر كامل، فإن أجنحة هذه الأرض الطائرة -مع الطيور السماوية في الفضاء- وصحائف هذا الكتاب العظيم -أعني الكون- ينظَّفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل إن تطهير سطح الأرض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الإتقان بحيث يجعل الذين لا يرون -بإيمانهم- جمالَ الآخرة يعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!

إذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظِي بتجلٍ من تجليات اسم الله القدوس عليه، حتى إنه عندما تصدر الأوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها أيضاً أنواعُ الديدان والنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الأوامر التنظيفية حتى الكرياتُ الحمر والبيض الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الأجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف أجنحته دائماً..

ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الأوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها أيضاً الرياحُ الهوج والسحب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الأرض من النفايات، والأخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملةً أدواتها ليعود الجمالُ الساطع إلى وجه السماء صافياً متلألئاً.

ومثلما تستمع لتلك الأوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجومُ، والعناصر، والمعادن، والنباتات بأشكالها وأنواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى إنها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للألباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل إن تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة إلى أخذ أطهر الأوضاع وأنظفِها وأسطعها وأصفاها، وأخذِ أجمل الصور وأنقاها وألطفها.

وهكذا فإن فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبّر عن حقيقةٍ واحدة هو تجلٍّ أعظم من تجليات اسم «القدوس» الأعظم، يُرى ذلك التجلي الأعظم حتى في أعظم دوائر الكون وأوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع أسمائه الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيونُ النافذة النظر.

وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب أجزاء «رسائل النور»: أن فعلَ التنظيم والنظام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الحَكَم والحكيم»، وأن فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «العدل والعادل»، وأن فعل التزيين والإحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الجميل والكريم»، وأن فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الرب والرحيم».. كلُّ فعل من هذه الأفعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله، فكلٌّ منها يشير إلى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء. كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم «القدوس» يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار.. وكما أن الأفعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وأمثالِها من الأفعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في أوسع الآفاق الكونية، كذلك أكثر الأسماء الحسنى، بل كل اسم من ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في أوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الأحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.

نعم، إن الحكمةَ العامة التي تُخضع كل شيء لقانونها ونظامها، والعنايةَ الشاملة التي تجمّل كل شيء وتزيّنه، والرحمةَ الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شيء وتجعله في حمدٍ دائم، والرزقَ العام الذي يعتاش عليه كلُّ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياةَ والإحياء التي تربط كل شيء بالأشياء الأخرى، وتجعل الشيء ينتفع من كل شيء كأنه مالكٌ للأشياء.. هذه الحقائق وأمثالُها، المشهودة بالبداهة، والمتّسمة بالوحدة، والجاعلةُ وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهلّ بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: «الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي»، كما يدل الضوءُ على الشمس. ولله المثل الأعلى. فكلُّ فعل من هذه الأفعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد إلى «الواحد الأحد» سبحانه لنتجت إذن مئاتُ المحالات بمئاتٍ من الأوجه.

فمثلاً: إنه ليست الأفعالُ كلُّها كالحكمة والعناية والرحمة والإعاشة والإحياء والإماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعلُ التطهير لو لم يُسند إلى رب العالمين للزم -في طريق الكفر والضلالة- أن يكون كلُّ شيء له علاقةٌ بالتنظيف ابتداء من الذرات، إلى الحشرات، إلى العناصر، إلى النجوم، على علمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينهِ وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الأمور وفقها، ويقدِر على التحرك.. أو يلزم أن يتصف كلٌّ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!. أو يلزم أن يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وأن يشكِّل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!..

وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر إلى مئاتٍ من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهَر التزيينُ المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الأرجاء كافة. أي لا ينشأ محالٌ واحد بل مئات الألوف من المحالات.

نعم، إن لم يُسند ضوءُ النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شيء على سطح الأرض، إلى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على أنها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجودُ شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوءُ الذي يعم الوجود!!

وهكذا؛ فالحكمةُ ضياءٌ، والرحمةُ الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌّ منها ضياء شامل محيط وشعاعٌ من أشعة ذلك النور الأزلي سبحانه.

فانظر الآن بنور هذا الإيمان لترى كيف يسقط أهلُ الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقةِ أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً: «الحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيمان».

نعم، إنَّ هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصرَ العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍّ من تجليات اسم «القدوس» ومقتضىً من مقتضياته. وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعِها إلى اسم «القدوس» وترنو إليه، كذلك يستدعي اسمُ «القدوس» نظافةَ تلك المخلوقات وطهارتها (حاشية) يجب ألّا ننسى أن الخصال القبيحة، والاعتقادات الباطلة، والذنوب والآثام، والبدع، كلها من الأوساخ المعنوية. حتى عدّ الحديث الشريف: «النظافة من الإيمان» الطهورَ نوراً من أنواره لارتباطه القدسي هذا، وأظهرت الآية الكريمة أن الطُهر مدعاةٌ إلى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى: ﴿اِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ (البقرة:222).