القسم التاسع: فتوحات رسائل النور خارج البلاد

القسم التاسع

فتوحات رسائل النور خارج البلاد

فتوحات رسائل النور خارج البلاد

تمتاز رسائل النور بأنها تسلك سبيل الإقناع من خلال مخاطبة العقل والقلب بأسلوبٍ رصينٍ يناسب معطيات العلم في العصر الحديث، ولهذا لم يقتصر انتشارها على تركيا وحدَها، بل نالت قبولًا واسعًا خارجها، وأبلغُ دليلٍ على هذا تداولُها وانتشارُها في عددٍ من بلاد العالَم الإسلامي قبل أن تُطبَع في تركيا نفسِها بالحرف اللاتيني، [بدأت أول طباعةٍ للرسائل بالحرف اللاتيني في العام 1950، هـ ت] فلقد عرفتْها مبكِّرًا بلادٌ إسلاميةٌ عدةٌ وفي مقدمتها العراق وباكستان، وتولَّتْ ترجمتَها وطباعتها بالعربية والأوردية والهندية والإنكليزية، وأقبلت عليها شريحةٌ واسِعةٌ من القراء.

وغنيٌّ عن القول إن بديع الزمان شخصيةٌ متميزةٌ نالت شهرةً واسعةً قبل قُرابة خمسين عامًا ولم تكن مقصورةً على محيطه القريب، فلقد كان لمكانته العلمية وقوةِ عارضته منذ أن كان فتًى دورٌ كبيرٌ في لفت الأنظار إليه سواءٌ في الداخل أو في الخارج، ولقد عرفه الأزهر -وهو مركزُ العلم في العالَم الإسلامي- عن طريق علمائه وشيوخه كالشيخ العلامة «بَخيت المطيعي» وغيره، بينما ذاعت شهرته بين الناس باعتباره عالِمًا واسع الاطلاع على العلوم الحديثة، وعرَّفتْ به مقالاتٌ نُشِرت في مصر ووَصَفَتْه حينَها بـ «بديع الزمان»؛ وسبق له قبل نحو خمسين عامًا أن ألقى خطبةً فريدةً في الجامع الأموي بدمشق حضرها جمعٌ غفيرٌ يبلغ العشرة آلاف وفيهم نحو مئةٍ من أهل العلم، وقد بيَّن

ذهاب الأستاذ إلى «بارلا»

ذهاب الأستاذ إلى «بارلا»

كان الأستاذ قد غادر «بارلا» قبل عشرين سنة ولم يعُد لزيارتها منذ ذلك الحين؛ والحق أن علاقة الأستاذ بـ«بارلا» أوثق من علاقته بمسقط رأسه «نُورْس»، ففي «بارلا» بدأت حياتُه المعنوية بتأليف رسائل النور، ومن «بارلا» انتشرت «الكلمات» و«المكتوبات» و«اللمعات» التي تُمثِّل أنوار هداية القرآن الحكيم، وبهذا الاعتبار تُعدُّ «بارلا» أول مركزٍ لمدارس رسائل النور.

وبالرغم من أن حياة الأستاذ بها كانت مريرةً قضاها في أجواء نفيٍ وعزلةٍ ومراقبةٍ وتشديد، إلا أنه يمكن اعتبارها في الوقت نفسه أجمل لحظات حياته وأمتعها، إذ هي المرحلة التي أُلِّفت فيها حقائق رسائل النور.

وفي هذه المرة ذهب الأستاذ إليها بمحض إرادته ورغبته غيرَ منفيٍّ ولا مسجون.. توجه إليها في يومٍ ربيعيٍّ جميل، واستقبله هناك عددٌ من خُلَّص طلابه فيها، وما إن أصبح على مقربةٍ من المدرسة النورية التي أقام بها ثماني سنوات حتى انهمر الدمع من عينيه ولم يتمالك نفسه، وبَدَت شجرة الدَّلب الضخمة وكأنها ترحب بمَقدَمه.. وعادت الذكرى إلى ما قبل سنين طويلةٍ خَلَتْ.. إلى لحظةِ ترحيله منها بعد إقامةٍ دامت ثماني سنوات.. يومها وقفت شجرة الدَّلب نفسُها حزينةً تودِّعه بأغصانها الممتدة كأذرعٍ في لحظةِ فِراق.. وها هي اليوم تستقبله فرحةً مسرورةً بعد طول غياب.. بدت هذه الشجرة المباركة وكأنها مستغرقةٌ في سجدة شكرٍ لخالقها.. اقترب الأستاذ منها وعانقها وهو لا يتمالك دموعه.. وطلب من التلاميذ والأهالي أن يتركوه وحدَه.. وبعد ذلك دخل إلى غرفته في المدرسة النورية، وبقي فيها قرابة الساعتين وصوتُ نشيجه يُسمَع من الخارج.

جوانب من مرحلة «إسبارطة»

جوانب من مرحلة «إسبارطة»

المحاكم والدعاوى:

قبل صدور قرار محكمة «أفيون» برفع الحظر عن رسائل النور، وقعت حادثة «ملاطية» المذكورة، فبدأت سلسلةٌ من التحرِّيات في عددٍ من الولايات والأقضية، ورُفِعَت الدعاوى ضد رسائل النور وطلابها في عدة أماكن كـ«مرسين» و«ريزه» و«ديار بكر»، كانت نتيجتها في نهاية المطاف: البراءة.

وفي هذه الأجواء المشحونة ضدَّ النوريين تَحرَّكَ مقام الادعاء العام بـ«إسبارطة»، وأعدَّ لائحة ادعاءٍ بحق ما يزيد على ثمانين طالبًا من طلاب النور، ورفعها إلى قاضي التحقيق.

ومن جهةٍ أخرى شرعتْ أجهزة الأمن تَبُثُّ عناصرها بين طلاب النور وتراقب تحركاتهم؛ كما جرت تحرِّياتٌ واستجواباتٌ في أماكن شتى كأنقرة واسطنبول و«أضا بازار» و«سافران بولو» و«قره بوك» و«دينار» و«إينه بولو» و«وان»، غير أن الجهات المعنية لم تعثر بعد كل هذا التحري والتقصِّي على أيِّ تصرُّفٍ منهم يضرُّ الوطن أو الشعب ولو بمقدار ذرَّة، بل تَبيَّن على العكس من ذلك أن طلاب النور مبعثُ فخرٍ واعتزازٍ لكل فردٍ من أبناء الوطن، فهم أناسٌ يؤدُّون خدماتٍ إيمانيةً وعلميةً ووطنيةً، ويقومون بفعالياتٍ وأنشطةٍ أخلاقيةٍ، ولا غاية لهم سوى قراءةِ رسائل النور وإقرائِها ونشرِها، وبناءً على هذا توصلت الجهات القضائية إلى قناعةٍ عامةٍ تقول: إننا لم نعثر على جرمٍ لدى طلاب النور، ولم يُلحَظ منهم أيُّ نشاطٍ أو تصرُّفٍ تترتب عليه مسؤوليةٌ ما.

والحقيقة أن هذه الموجة من التحقيقات كان لها أثرٌ إيجابيٌّ على رسائل النور، إذ كانت وسيلةً لإظهار حقَّانيتها على الملأ، وقد صدر القرار ببراءتها في نهاية المطاف.

إقامة الأستاذ النُّورْسِيّ في «إسبارطة»

إقامة الأستاذ النُّورْسِيّ في «إسبارطة»

في صيف العام 1953 م غادر الأستاذ النُّورْسِيّ «أميرداغ» ليحُلَّ نزيلًا على «إسبارطة» حيث الكثير من طلابه المخلصين، وهي المدينة التي سبق أن وصفها في مراسلاته بأنها مباركةٌ حتى بترابها وأحجارها، وأنها كانت أقوى ركيزةٍ لإدامة حياته المعنوية التي تحقَّقتْ بظهور رسائل النور وانتشارها.

والحقيقة أن «إسبارطة» قد أثبتت أنها جديرةٌ حقًّا بهذه المزايا التي أثنى بها الأستاذ عليها، وقد شهدت لها بهذا وقائعُ سنواتٍ طويلة، فأول مكانٍ أُلِّفَتْ فيه رسائل النور وأول مدرسةٍ أُقيمت لها إنما كان في «بارلا» التي هي إحدى نواحي «إسبارطة»، وفيها أُلِّفت أجزاء رسائل النور الأساسية.

وحين كانت أجواء الرهبة والخوف تَعُمُّ البلاد، كان طلاب النور بـ«إسبارطة» وما حولها يستنسخون وينشرون آلاف النسخ من رسائل النور كتابةً بأقلامهم، وحسبُنا مثالًا على هذا قرية «صاو»، فحين كان الأستاذ تحت الإقامة الجبرية بـ«قسطمونو» كان في هذه القرية وحدَها ألف قلمٍ لا يفتُر عن كتابة الرسائل ونسخها، وقد استمر هذا العمل سنين طويلة؛ وهكذا كانت الحال في سائر مراكز النور بـ«إسبارطة» وما حولها، فكانت كل قريةٍ وكلُّ ناحيةٍ تقوم بخدمة الرسائل ونشرها بما يضاهي عمل ولايةٍ بأكملها.

يضاف إلى ما سبق أن معظم أفراد الرعيل الأول من طلاب النور، وسواهم من الكبار الذين كان كل واحدٍ منهم بمثابة قطبٍ في الخدمة القرآنية، وكانوا مبعث فخرٍ لطلاب النور، إنما كانوا من أبناء هذه المدينة ونواحيها.

ثم إنه قد عُرِف رجال القضاء والشرطة فيها بمعاملتهم المنصفة إجمالًا مع الرسائل وطلابها، وكثيرًا ما دعا الأستاذ لجهات القضاء فيها، وضرب بها المثل لسائر الولايات بهذا الخصوص.

فلأجل هذه الاعتبارات وأمثالها قدِم الأستاذ إليها على أمل أن يقضيَ بها بقية حياته، ويَلقى أجلَه فيها بين إخوانه الصادقين المباركين، ويُدفَن في ثراها، سواءٌ في «إسبارطة» نفسها، أو في «صاو» أو في «بارلا».

استأجر الأستاذ منزلًا بـ«إسبارطة» وأقام فيه، وكان معه بضعةُ طلابٍ يلازمونه، وبهم أنشأ الأستاذ نظام المدرسة النورية المعهود.

***

الدفاع تلاه الأستاذ النُّورْسِيّ في محكمة اسطنبول وقرَّرت المحكمة براءته على إثر ذلك

هذا الدفاع تلاه الأستاذ النُّورْسِيّ في محكمة اسطنبول

وقرَّرت المحكمة براءته على إثر ذلك

لقد قام أعداؤنا العاملون في الخفاء بتحريض القضاء علينا من جديد في شهر رمضان المبارك هذا، وثمة منظمةٌ شيوعيةٌ سِريَّةٌ لها يدٌ في الأمر.

فأولًا وفي عملٍ يخالف القانون كليًّا أرسَلوا إليَّ مجموعةً مسلحةً مؤلَّفةً من رقيبٍ أول وثلاثة عناصر من الشرطة، وذلك حين كنتُ مُختلِيًا بنفسي بين الحقول والجبال، فأخذوني بالقوة إلى المخفر بدعوى أنني لا أرتدي القبعة الإفرنجية!!

وأنا أقول لكلِّ المحاكم التي تَنشُد العدالة:

لقد كان الواجب توجيه تهمة مخالفة القانون حقًّا لمن خرجوا على قوانين الإسلام من خمسة وجوه، ومارسوا الظلم باسم القانون من خمسة وجوه، وهم الذين ما فَتِئوا منذ سنتين يذيقونني العذاب النفسي متذرِّعين بحججٍ باطلة وتلاعباتٍ قانونيةٍ مُشينة!! ألا لا جَرَم أن لهم في محكمة الجزاء الكبرى عذابًا يَلقَونه.

أجل، كيف يوجَّه الاتهام لرجلٍ ظلَّ منزويًا خمسًا وثلاثين سنة، لم يخالط فيها الناس في الأسواق ولا المجتمعات، فيقال له:إنك لا ترتدي القبعة الإفرنجية؟! أيُّ قانونٍ في الدنيا يسمح بهذا؟!

لقد مضى على هذا الرجل ثمانٍ وعشرون سنةً قضاها في خمس ولاياتٍ، وأُحيل فيها على خمس محاكم، فما تدخلتْ إدارةٌ ولا شرطةٌ من هذه الولايات، ولا محكمةٌ من هذه المحاكم، بخصوص ما يضع على رأسه، وها هو اليوم ماثلٌ في محكمة اسطنبول العادلة، وأمام ما يزيد على مئة عنصرٍ من عناصر الشرطة فيها؛ وقد سبق أن أقام في

عودة الأستاذ إلى أميرداغ

عودة الأستاذ إلى أميرداغ

إثر إعلان محكمة اسطنبول قرار براءته عاد الأستاذ إلى «أميرداغ»؛ وبينما كان ذات يومٍ يتجوَّل كعادته بين الحقول في شهر رمضان، إذ لحِق به ثلاثة عناصر من الشرطة يرأسهم رقيبٌ أول، وطلبوا منه ارتداء القبعة الإفرنجية فرفض، فنقلوه إلى المخفر، وعلى إثر هذه الحادثة كتب الأستاذ عريضةَ شكوى بعث بها إلى كلٍّ من وزارتَي العدل والداخلية، كما بعث إلى أحد طلابه بأنقرة ليُعلِم نواب البرلمان المعنيِّين بالرسائل بما جرى، فأرسل الطالب نسخةً من عريضة الشكوى إلى صحيفة «الجهاد الأكبر» التي تصدر في مدينة «صامسون»، [مدينةٌ تقع في شمالي تركيا، وتتوسط الشريط الساحليَّ المُطلَّ على البحر الأسود؛ هـ ت] فنشرتها كمقالٍ تحت عنوان: «الدليل الأكبر»، وألحقت بها حاشية.

وبعد ذلك أرسل طلاب النور في جامعتَي أنقرة واسطنبول عدةَ مقالات إلى الصحيفة المذكورة فنشرتْها، وفي هذه الأثناء وقعت حادثة «ملاطية»، [مدينة تاريخية تقع في وسط الأناضول قريبًا من نهر الفرات، والحادثة المذكورة وقعت في العام 1952م، حيث أطلق شابٌّ من طلاب المدارس الثانوية النارَ على رئيس تحرير مجلة «الوطن» المشهور بمقالاته الحاقدة على الدين وأهله، وذلك في أثناء مؤتمرٍ صحفيٍّ، فاتخذت القوى العلمانية من هذه الحادثة وسيلة ضغطٍ على رئيس الحكومة لاتخاذ مواقف صارمة تجاه التيارات الدينية في البلاد؛ هـ ت] فشُنَّتْ حملةٌ ملأى بالكذب والافتراء والتشويه ضد المتديِّنين، وقد تأثر بها بعض المسؤولين فسعَوا لإيجاد نقاط اتهامٍ لدى الصحف الدينية، وأُوقف مدير الصحيفة وأحد طلاب النور بجامعة أنقرة، وقُدِّما إلى المحاكمة بسبب نشر مقالة «الدليل الأكبر» وغيرها من المقالات؛ وشرعت الصحف تنشر مقالاتٍ وبياناتٍ تهاجم رسائلَ النور وما تَحقَّق لدعوتها من تقدمٍ وازدهار، وانطلقت حملةُ بحثٍ وملاحقةٍ في خمسةٍ وعشرين موضعًا من أنحاء تركيا، واستهدفت إدانة قرابة ستمئة طالبٍ من طلاب النور، إلا أن العملية لم تسفر عن تحقيق شيءٍ من أهدافها، بل تَبيَّن في حصيلة الأمر أنه لا يوجد في رسائل النور ولا لدى طلابها ما يستوجب الاتهام أو الإدانة.

وعلى الرغم من أن محكمة «صامسون» أصدرت في السابق قرارًا يُدين رسائل النور ومؤلِّفَها، إلا أن محكمة التمييز نقضتْه من أساسه وأردفتْ باطِّلاعها على مضمون الرسائل وسلامتها من التهمة، مما اضطر محكمةَ «صامسون» لعقد جلسةٍ جديدةٍ برَّأت فيها الرسائلَ ومؤلِّفَها لعدم وجود عناصر اتهامٍ في المقالات المنشورة.

ومن جهةٍ أخرى رُفِعَت دعوى ضدَّ الأستاذ في محكمة «صامسون» بسبب مقالة «الدليل الأكبر»، وأصرَّت المحكمة على مثوله لديها، وأصدرت بحقه مذكرةَ إحضارٍ متجاهلةً التقرير الطبي الذي أفاد تعذُّر مجيئه لكبر سنه وتردي حالته الصحية؛ فقرر الأستاذ مضطرًّا حضورَ المحكمة، وغادر «أميرداغ» متوجهًا إلى اسطنبول ليُكمل منها الرحلة إلى «صامسون»، إلا أنه لم يستطع إكمال الطريق لشدة اعتلاله وضعف تحمله، فحصل على تقريرٍ طبيٍّ يفيد بأنه بعد المعاينة الطبية لسعيدٍ النُّورْسِيّ تَبيَّن أن حالته الصحية لا تسمح له بالسفر إلى «صامسون» برًّا ولا بحرًا ولا جوًّا، وأُرسِل التقرير إلى محكمة «صامسون» التي كان مُدَّعيها العامُّ مُصِرًّا على مثول الأستاذ شخصيًّا، فقررت هيئة المحكمة استنابةَ إحدى محاكم اسطنبول في أخذ إفادات بديع الزمان، وتم الأمر على هذا النحو، وفي نهاية المطاف قضَتْ محكمة «صامسون» ببراءة سعيدٍ النُّورْسِيّ لعدم وجود مقصِدٍ يوجب إدانته في المقال الذي كتبه.

***

رسالةٌ كتبها أحد طلاب النور الجامعيين إلى أحد زملائه بمناسبة قدوم الأستاذ إلى اسطنبول

رسالةٌ كتبها أحد طلاب النور الجامعيين إلى أحد زملائه
بمناسبة قدوم الأستاذ إلى اسطنبول

أشكركم على تهنئتكم التي بعثتم بها إلينا وإلى اسطنبول بمناسبة قدوم أستاذنا الحبيب إليها.. لقد ازدانت هذه المدينة العظيمة بمَقدمه وخرجَتْ لاستقباله في هذا الحدث الفريد المهيب كأنها في عيد.. لقد سارع أهلُها، عالِـمُهم وجاهلُهم، غنيُّهم وفقيرُهم، شيوخُهم وشبابُهم.. سارعوا إلى المحكمة وإلى الفندق لرؤيته والاستماع إليه.

لقد عمَّنا السرور والفرح.. حتى أحلامُنا ازدهرت وتلألأت.. أما أعداؤنا فاسودَّتْ وجوهُهم واربَدَّتْ.. وتبيَّن لهم أن نفاقهم الذي سوَّدوا به صفحات أعمالهم لم يُغنِ عنهم شيئًا، ولن يُجديَ لهم نفعًا.

لقد أعاد أستاذُنا الحياةَ لكلِّ مَعْلمٍ من معالم اسطنبول المجيدة، فتَغير مشهدها في عيون إخواننا.. تغيَّر كلُّ شيءٍ بلمحةٍ واحدة.. أشرق وجه «أيا صوفيا».. صدحت المآذن بالأذان المحمدي من جديدٍ.. وانبعثت من المساجد أصواتُ القُرّاء حَمَلَةِ القرآن تتلو آيات الذكر الحكيم بأصواتها العذبة.. وكأني بالسلطان محمدٍ الفاتح يقوم من مثواه كلَّ يوم، ويرحِّب بمن حلَّ على مدينته ضيفًا عزيزًا مباركًا.. وأصبحنا كأننا نرى من الآن طوفان النور المنبعث من شُرُفات مسجد «يَني جامع» يبلغ أقاصي حي «بَي أوغلو» ويَنفُذُ إلى أشدِّ زواياه ظلمةً وقتامةً.. لقد أماط بمَقْدَمِه المباركِ الحجابَ الذي رانَ على وجه اسطنبول المسلمة ومساجدِها البهية.. مسجدِ أيا صوفيا والفاتح والسلطان أحمد وأيوب والسليمانية.. فأصبحتْ تتراءى لنا أشدَّ بهاءً ورونقًا وحميميةً.. لقد بات أستاذُنا شمسَ هذه المدينة.. فإنْ هو غادرها لَحِقتْ به شمسُ الأفق وخيَّم على أرجاء هذه المدينة الهائلة الظلام.. وليس لنا من سُلوانٍ سوى الأملِ بأن تستنير مدينة الفاتح وتَسطَع برسائل النور.

محكمة اسطنبول

محكمة اسطنبول

كان بعض الشباب من طلاب الجامعة قد طبعوا رسالة «مرشد الشباب» في اسطنبول، بهدف تقديم خدمةٍ لجيل الشباب على صعيد الإيمان والأخلاق، إلا أنه بناءً على هذا الأمر أُحيل الأستاذ النُّورْسِيّ إلى محكمة الجنايات الأولى باسطنبول من قِبَل المدعي العام استنادًا إلى المادة (163) من القانون التركي، وذلك بدعوى أن هذا الكتاب ضد العلمانية، وأنه يثير دعايةً تهدُف إلى جعل دستور الدولة منسجمًا مع الأسس الدينية.

وفي اليوم المقرر للمحاكمة، الموافق للثاني والعشرين من كانون الثاني / يناير 1952 م، وصل الأستاذ إلى اسطنبول قادمًا من «إسبارطة»، وحضر إلى المحكمة التي غصَّتْ قاعتُها وامتلأت ردهاتُها بحشدٍ كبيرٍ من طلاب الأستاذ من الشباب الجامعيين.

تُلِيَتْ في البداية لائحة الادعاء ثم تقرير لجنة الخبراء، ثم استُجوِب الأستاذ؛ وكان تقرير لجنة الخبراء مفصَّلًا بإسهاب، وكان مما جاء فيه أن المؤلِّف عمل في هذا

انتقال الأستاذ إلى «أميرداغ»

انتقال الأستاذ إلى «أميرداغ»

بعد الإفراج عن الأستاذ سعيدٍ النُّورْسِيّ من سجن «أفيون» انتقل هو ومجموعةٌ من طلابه المقربين إلى «أميرداغ»، فأقام بها سنتين، وفي شهر محرم من العام 1371 هـ، الموافق لشهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 1951م، قدِمَ إلى «أسكي شَهِر»، فأقام بها قرابة شهرٍ ونصفٍ في فندق «يلدز».

كان مجيء الأستاذ إلى «أسكي شَهِر» ذا مغزًى مهم، إذْ كان حتى العام 1950م رهين الأماكن التي نُفِيَ إليها فلم يخرج منها قط، بل لم يكن يُسمَح له بذلك أصلًا، وقد مضى عليه زمانٌ طويلٌ لم يكن بمقدوره أن يذهب إلى أقرب قريةٍ من مكان نفيه.

وفي «أسكي شَهِر» التقى الأستاذ بطلابه المشتاقين، وتواصل مع طلابِ النور الشبابِ، وهم الثمراتُ الغضَّةُ الطَّريةُ لرسائل النور، وبات على صلةٍ نوعًا ما بالحياة الاجتماعية.

لم يقتصر انتشار الرسائل في «أسكي شَهِر» على فئةٍ بعينها، بل كان لها طلابٌ كثيرون في شتى طبقات المجتمع، وكان لها انتشارٌ واسع في صفوف الجيش لا سيما بين رجال القوات الجوية، [توجد في «أسكي شَهِر» قاعدةٌ جويةٌ مهمةٌ للجيش التركي، وتتمركز فيها قيادة القوات الجوية؛ هـ ت] حيث حظيَتْ رسائل النور بطلابٍ كُثْرٍ بين هؤلاء، كلُّ واحدٍ منهم يتحلى بإيمانٍ سامٍ وأخلاقٍ رفيعة، ويَشمخ رأسُه بشجاعةٍ وطنيةٍ وإسلاميةٍ، ويفيض قلبُه بمحبةٍ نبويةٍ خالصةٍ، مع تفانٍ في خدمة الدين والوطن.

***

غادر الأستاذُ «أسكي شَهِر» بعد مدةٍ متوجهًا إلى «إسبارطة» ليقيم بها قرابة سبعين يومًا، وفي هذه الأثناء قام طلاب النور باسطنبول من ذوي الهمة والنشاط بطبع رسالة «مرشد الشباب»، ونتيجةً لذلك رُفِعَتْ دعوى ضد الأستاذ واستُدعي للمحكمة باسطنبول.

وخلال مدة وجود الأستاذ في كلٍّ من «إسبارطة» واسطنبول كَتَبَ مباحث تتعلق بالتوحيد وبعث بها إلى طلابه، وقد نُشِرت هذه المباحث فيما بعد بعنوان «مفتاحٌ لعالَم النور»، ومثَّل كلُّ واحدٍ منها كنزًا توحيديًّا نفيسًا.

***

رسالةٌ من عالِمٍ فاضلٍ من أهل القلوب أنعم الله عليه بنشر الأنوار في أنقرة

رسالةٌ من عالِمٍ فاضلٍ من أهل القلوب
أنعم الله عليه بنشر الأنوار في أنقرة

إلى حضرة صاحب الإخلاص والنور والكمال والإرشاد، المجاهد الكبير بديع الزمان..

أشهد لكم شهادةً لله باقيةً أبدَ الدهر، ويشهد لكم بها أهل الإسلام، والإنس والجن، والأرض والسماوات، والأملاك والأفلاك، والعرش والكرسي واللوح والقلم، أنكم منذ أن دخلتم ميدان الابتلاء والامتحان وخضتموه في الله ولله دافعتم عن حقوق الله وحقوق العباد وصُنتموها، وسعيتم في هذا المضمار ليلَ نهارَ بكل همةٍ وعزيمةٍ في أشدِّ الظروف والأحوال، وبذلتم في سبيل نصرةِ الحقِ وهدايةِ الخلقِ كلَّ ما حباكم الله إياه من مؤهِّلات العلم والكمال والنور والإرشاد.

بديعَ زماننا يا صاحب النور..

إن أخاكم العبد الفقير الذي يكتب إليكم هذه السطور هو صديقٌ قديمٌ لكم، وهذه الصداقة ليست من قبيل الصداقات العابرة المحكومة بالزوال، بل هي صداقةٌ