مقدمة د. محسن عبد الحميد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة([1])

الدكتور محسن عبد الحميد 

أستاذ التفسير والفكر الإسلامي

جامعة بغداد      

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مَن أُنزل عليه القرآن الحكيم محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والرسل، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛

فيكاد يجمع المنصفون من العلماء والدارسين المطلعين على تطور أوضاع المسلمين في العصور الأخيرة، أن الأستاذ الجليل «بديع الزمان سعيد النُّورْسي» كان شخصية إسلامية كبيرة، صادق الإيمان، عظيم الإخلاص، عزيز النفس، عارفاً بحقائق التوحيد، نابغة من نوابغ الزمان، غزير العلم، نافذ الفكر، داعية ثبتاً إلى الله تعالى على بصيرة، حَمل همومَ المسلمين منذ شبابه، وقضى حياته في الجهاد الدائب في سبيل توضيح عقيدة الإسلام وبيان عِلل أحكامه، ودحضِ الأفكار المنحرفة والفلسفات الجاحدة المناقضة له، والتخطيط العملي لأجل إنقاذ المسلمين من الغزو الفكري الجارف الذي تعرضوا له منذ أوائل القرن الرابع عشر الهجري، بل قبلَه.

ولقد لقيَ -رحمه الله تعالى- في سبيل ذلك ما لقي، مما ليس جزاؤه إلّا عند الله تعالى البصير بعباده الصالحين وأوليائه الصادقين وعلمائه المجاهدين، الذين صدقوا العهد مع الله تعالى، ولم يخشوا فيه سبحانه لومة لائم.

وهذا الكتاب الذي بين يديك -قارئي العزيز- جليلُ القدر، رصينُ السبك، قوي الحُجة، يمثل أجلى تمثيل القُدرة السَرَيانية الفائقة للأستاذ «النورسي»، وراءَ المعاني الدقيقة في كتاباته كلها، لاسيما العلمية المختصة منها. ولقد كانت تلك موهبة عبقرية، وهَبه الله تعالى إياها، لينظر في كتاب الله تعالى من خلالها ببصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد، يلتمس الكشفَ عن الحقيقة، ويبغي إيصال الإنسان إلى اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزاً، بحيث يجد العقلاء والفصحاء في أنفسهم ضرورةَ الإيمان والاعتراف بأنه الكتاب الحق الذي نزل من عند علام الغيوب على رسوله الأكرم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، كي يضع الإنسانية على طريق دعوة الحق، وينور بصيرتها بنور الإيمان، وإدراك اليقين للوصول إلى العبودية الخالصة لرب العالمين.

لقد استطاع الأستاذ النُّورسي أن يصقُل موهبته الفذة بدراسة العلوم الإسلامية والفلسفات القديمة والعلوم الإنسانية والصرفة المعاصرة، زيادةً على اطلاعه الواسع على الأدب والبلاغة العربية في كتب أمثال «الجاحظ» و«الزمخشري» و«السكاكي» لاسيما كتب النحوي البلاغي الكبير الإمام «عبد القاهر الجرجاني» حيث آمن بنظريته المشهورة في النظم وأعجب بها أيّما إعجاب في هذا الكتاب.

ولم تكن «نظرية النظم» جديدة اخترعها «الجرجاني» من غير مقدمات، وإنما لفتَ النظرَ إليها «الجاحظُ» في كتابه «نظم القرآن»، و«الواسطي» في كتابه «إعجاز القرآن في نظمه»، و«الباقلاني» في كتابه «إعجاز القرآن»، غير أن «الجرجاني» شرحها شرحاً نحوياً بيانياً وافياً مترابطاً، وصاغ منها نظرية متكاملة تقوم على أساس عدم الفصل بين اللفظ ومعناه وبين الشكل والمضمون، وقرر أن البلاغة في النظم لا في الكلمة المفردة ولا في مجرد المعاني دون تصوير الألفاظ لها. وبناءً على ذلك فإنه يعرّف النظم بأنه: «تعليق الكلمة بعضها على بعض، وجعل بعضها بسبب من بعض»، أي تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنها.

وكأني بالأستاذ النورسي درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ثم ظهر له أن المفسرين الذين سبقوه كـالزمخشري والرازي وأبي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والألفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظاً بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة، فأراد أن يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيراً يطبق فيه نظريةَ النظم تطبيقاً تفصيلياً شاملاً من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيّرت البلغاء وأخرست الفصحاء، ليحقّ عليهم التحدي المعجز إلى يوم القيامة.

ولم تتوجه جهود النورسي إلى بيان نظرية النظم، مقدمةً لإثبات إعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت كذلك إلى التغلغل في معاني الآيات، حيث أراد بناءها تفصيلاً على المرتكزات العقلية للوصول إلى إظهار العقائد الإسلامية وارتباطها بحقائق الوجود.

ومن الواضح جداً لمَن تأمل في الكتاب وترتيبه أنه كان يريد أن يؤلف تفسيراً كاملاً في هذا الاتجاه. ولو قُدِّر للأستاذ -رحمه الله تعالى- أن ينهي عمله العظيم هذا كاملاً، إذن لقدّم تفسيراً بلاغياً وعقلياً كاملاً شاملاً، كان جديراً بأن يأخذ منه عمره كله، حيث كان من المحقق أن يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام، لو أنه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرؤه في هذا الكتاب.

ولكن الله سبحانه وتعالى قدّر له الأفضل من ذلك؛ إذ وفّقه لعمل أجلّ من ذلك وأعظم، عملٍ استطاع فيه أن يضع مسلمِي بلدِه في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون إشغالهم بقضايا بلاغته وإعجازه اللغوي والتي لم تكن مشكلة عصره من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها إلا الخواصُّ جداً. وكان من المؤكد حينئذ أن يبقى الجمهورُ الأعظم من المسلمين في عصره بمعزل عن الاستفادة من مواهبه الفذة وحماسه الإيماني المنقطع النظير، وكذلك بمعزل عن الصراع الفكري الحضاري الرهيب غير المتكافئ مع الغزو الفكري المادي الجاحد، الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً إلى الحياة الإسلامية حتى تصدر السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والإعلام في كثير من بلاد الإسلام.

من أجل ذلك، وقف النورسي عند هذا المجلد من التفسير، ودفعته ظروفُ عصره وبلده إلى أتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بـ«سعيد الجديد» سمتُه الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المُحكم إلى عقول المسلمين وقلوبهم دون صراخ عاطفي أو تهريج مدمّر، أو صدامات فوقية، لم يكن الوضع الإسلامي يومئذ مهيَّأ لها ويقوى فيها على مجابهة الأعداء الأقوياء في الداخل والخارج.

لقد كان أسلوب «رسائل النور» في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي لأسلوب إثبات إعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي من خلال نظرية النظم، لأن ما أثاره الأعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن أو مناقشة ما يتعلق بإعجازه أو بتناسب سوَره وآيه وكلماته، وإنما كان يركز على شن هجوم عام شامل على أصول الإيمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الأخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم.

لقد وعى الأستاذ النورسي التغييرات الهائلة التي أحدثها الصراع الجديد فتوجّه إليها بحقائق القرآن التي قدّمها من خلال أصول المنطق العقلي الفطري وعلومِ ومعارفِ عصره.

إنه استطاع أن يُثبت من خلال جزء كامل من هذا الكتاب إعجازَ القرآن الكريم، وبرهن للدارسين وطلاب الحقيقة أنه من السهل أن يستمر في ضوء منهجه العلمي والعقلي والذوقي الرفيع إلى النهاية، إذن فليكن هذا كافياً، وليتوجه بكليته وبقية حياته العامرة إلى القضية الأساس، وهي إنقاذ إيمان المسلمين في عصر الصراع الإعلامي الرهيب، فأنتج في هذا المجال أيما إنتاج من خلال عشرات الكتب والرسائل التي وجهها إلى النشء الجديد، لإلحاق الهزيمة العقدية والفكرية بأعداء الإسلام من الملاحدة وأرباب التغريب.

على أنني أظلم هذا الكتاب إذا ادّعيت أنه خلا من منهج مواجهة الصراع الجديد، بل أزعم هنا -على قدر ما لي من علم بأفكار النورسي من خلال قراءتي لبعض رسائله في عهده الجديد- أنه ما من فكرة شرحها أو بسطها أو مثَّل عليها إلا وتجد لها بذوراً موجزة أو مفصلة في هذا الكتاب العلمي الرصين الذي بين يديك، لاسيما في عرض أصول العقائد الإسلامية بأسلوب عصري علمي. غير أنه اتجه في كتابه هذا إلى مخاطبةِ خاصةِ تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في رسائل النور.

ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور بأنها تفسير حقيقي للقرآن الكريم. والحق أن تفسير القرآن ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسي إلى آخر لحظة من لحظات حياته الحافلة بالمِحن والأحزان، والعلم والدعوة إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ.

إنَّ نشر هذا الكتاب بثوبه الجديد هذا سيضع نموذجاً تحليلياً بلاغياً رائعاً أمام المهتمين بالدراسات الإعجازية والبلاغية والنقدية المعاصرة. لاسيما في الأوساط العلمية. وسيجد المهتمون بدراسات العقائد الإسلامية من وجهة المنطق العقلاني زادهم فيه من خلال المباحث العقلية والعلمية العميقة التي قدمها الأستاذ تعليقاً على الآيات التي حللها من أوائل سورة البقرة.

لقد أحسن الأستاذ الفاضل «إحسان قاسم الصالحي» بتحقيقه هذا الكتاب من جديد، حيث أغناه بتدقيقاته المفيدة وشروحه القيمة في الحواشي. وهذا فضل يكمل به أفضاله السابقة على قراء العربية حين قضى سنوات عدة في ترجمة مجموعة متنوعة من رسائل النور التي دبجها يراع الإمام المُمتحن سعيد النورسي حجة الإسلام بحق في حياة تركيا الحديثة.

فجزى الله الأستاذ النورسي خير الجزاء ونفع المسلمين بعلمه وحججه الدامغة وكلماته النورانية الصادقة في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله الأكرم ﷺ.

وفي ختام هذه الكلمات أدعو الله تعالى أن يوفق المحقق الكريم إلى تقديم ترجمة كاملة لـرسائل النور إلى قراء العربية المجيدة.([2])

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د. محسن عبد الحميد  

كلية التربية – جامعة بغداد
2 شعبان 1407هـ   


[1] ثبتنا مقدمة الدكتور محسن عبد الحميد التي قدّمها مشكوراً للطبعة الأولى المطبوعة في العراق سنة 1409هـ-1989م. (المحقق).

[2] لقد استجاب المولى الكريم هذا الدعاء وأمثاله من الدعوات الخالصة لإخوة كرام بررة فوفقنا لترجمة كاملة لكليات رسائل النور وطبعها ونشرها، فالحمد لله أولاً وآخراً. (المحقق).

الدعاء

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «الشعاعات».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النُّورْسِيّ  

الشعاع الخامس عشر

الحجة الزهراء

عبارة عن مقامين

يبدو هذا الدرس ظاهرا رسالةً صغيرة، إلّا أنها في الحقيقة رسالةٌ عظيمة وقوية وواسعة جدا. وهي فاكهةٌ إيمانية وثمرة قرآنية فردوسية أينعت من حياتي التفكرية ومن اتحاد علم اليقين وعين اليقين في حياة النور المعنوية التحقيقية.

سعيد النُّورْسِيّ


المقام الأول

على ثلاثة أقسام

القسم الأول

من الدرس الذي أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة. وهو خلاصة الخلاصة للمكتوب العشرين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

فالذي قضى خمسا وثلاثين سنة معتزِلا الناسَ، وودّع الدنيا ونسيَها، ولاسيما في الليالي، حتى استوحش من الناس، لكثرة ما عانى من المراقبة المستديمة والترصّد الدائم لأعماله ترصدا ينطوي على حقد وضغينة وسوء طويّة، طوال ثلاثٍ وعشرين سنة، حتى أصبح يتضايق من أن يقضي ساعةً من وقته مع أحدٍ من الناس وفي مكان واحد، سوى مَن يشتاق إلى رسائل النور ومَن يقوم بمعاونته.. أقول: لقد نقلوا هذا الضعيف -أنا العاجز- إلى الزنـزانة الخامسة كرها، حيث الازدحام على أشده. ومنعوا إخوتي من التردد عليّ، بحجةِ رَفْعي دعوى إلى محكمة التمييز حول وضعي في السجن المنفرد أحد عشر شهرا.

فحينما كنت مضطربا وقلِقا على عدم تحمل العيش في هذا الازدحام الكثيف، إذا بالجو يبرد بردا شديدا -علامةً على الغضب- بحيث لو كنت في مكاني السابق لما تحملتُه قطعا. فانقلب لي العُسر يسرا، ونـزلت بي تلك الشدةُ رحمةً منه تعالى. فخطر للقلب:

على الرغم من قيام طلاب النور بأداء وظيفتهم -ونيابةً عنك- في تبليغ حقائق رسائل النور بجدّ وإخلاص، في كل ردهة من ردهات السجن، فإن هذه الردهة الخامسة الشبيهة بموضع انـزواء الزاهدين يتجدد دائما ويتبدل، فهي إذن أحوجُ ما تكون إلى دروس النور.

وكذا الشباب والشيوخ لاشك أنهم بأمسّ الحاجة إلى دروس يقينية وراسخة في إثبات وجوده تعالى وإثبات وحدانيته سبحانه. حيث يقرؤون ما تكتبه الصحفُ من هجوم الروس على الإيمان بهجمات الإلحاد الرهيبة، وإنكار الخالق العظيم.

فالذي ورد إلى القلب أثناء الأذكار عقب الصلاة هو هذا. وذكرتُ بدوري التهليلَ الذي أذكره منذ السابق عقب صلاة الفجر عشر مرات، وهو: «لا إلٰهَ إلّا الله وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ وهو حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الخَيْرُ وهو عَلى كل شَيءٍ قَدِيرٌ وإلَيْهِ المَصِيرُ».

هذا التهليل العظيم والتوحيد الجليل الذي يحمل الاسم الأعظم -حسب روايةٍ- قد فصّله «المكتوب العشرون» العظيمُ تفصيلا واضحا ساطعا كالشمس، وذلك في إحدى عشرة كلمة من كلماته في أحد عشر برهاناً من براهينِ وجوب وجوده تعالى ووحدانية ربوبيته، وأورد إحدى عشرة بشارة من البشارات السارة.

نعم، كنت أكرر هذه الجملة المقدسة بتدبر عميق مع التفكر في خلاصةٍ موجزة للمكتوب العشرين، فخطر للقلب فجأةً: ألقِ هذه الخلاصة الموجزة درسا للعالم الفاضل «نادر» ومن يقيم هنا من الشباب. وأنا بدوري قلت: بسم الله.. وبدأت بإلقاء الدرس:

إن في هذا الكلام التوحيدي إحدى عشرة بشارة، وإحدى عشرة حجة إيمانية. سأشير إلى الحجج وحدَها بإشارة قصيرة جدا مُحيلا إيضاحاتِها وبشاراتها إلى «المكتوب العشرين» وإلى أجزاء رسائل النور.

وعندما كتبتُ هذا الدرس، رأيتُ من الأنسب أيضا إدراجَ مالم أُفصح عنه للمسجونين من كلمات ونكات فيه.

وهكذا، فالكلمات الإحدى عشرة من ذلك الكلام التوحيدي هي الآتية:

الكلمة الأولى: «لا إله إلّا الله»

إن الحجة الإيمانية في هذه الكلمة هي رسالة «الآية الكبرى» تلك الرسالة الخارقة التي لا نظير لها.

فقد أدت إلى نيل طلاب النور بالبراءة من المحكمة، وظهورِهم في سجن «دنيزلي» وانتصارهم في كلٍ من محاكم «أنقرة ودنيزلي» وانتشارها بالخفاء انتشارا مؤثرا. مثلما أصبح طبعُها سرا سببا لاعتقال طلابها تسعة أشهر.

نعم، إن شعاع «الآية الكبرى» أظهر ثلاثةً وثلاثين إجماعا عظيما وحججا كلية في الكون كله، مع إشارته في كل حُجة كلية إلى براهينَ غير محدودة تُثبت وجودَ واجبِ الوجود، ووحدانيتَه إثباتا ساطعا واضحا وضوح النهار. فيستنطق السماوات بكلمات النجوم في المقدمة ثم الأرضَ بجُمَل الحيوانات والنباتات وهكذا حتى يستنطق الكونَ كله بكلمات حقائق الحدوث والإمكان والتغيّر..

فعلى الذين يطلبون إيمانا راسخا لا يتزعزع والباحثين عن سيف لا ينثلم تجاه الفوضى الملحدة أن يراجعوا رسالة «الآية الكبرى».

الكلمة الثانية: «وحده»

والإشارة الوجيزة إلى الحجة التي فيها هي: أن في كل جهة من جهات هذا الكون وفي كل ناحية من نواحيه تُشاهَد وحدةٌ واضحة:

فمثلا: الكون كله أشبه ما يكون بمدينة عامرة، وقصر شامخ وكتاب بليغ مجسم، بحيث إن كلَ آية فيه، بل كل حرف من حروفه، بل كل نقطة من نقاطه في حُكم معجزةٍ وقرآنٍ مجسّد.

نعم، فكما يبين هذا وحدةً واضحة في الكون، فإن مصباحَ ذلك القصر مصباحٌ واحد، وقنديلَه الذي يبين الأوقات واحد أيضا، وطبّاخه المالك للنار.. واحد. وساقيه بالماء.. واحد، وهكذا واحد.. واحد.. واحد. حتى يبلغ الألف وواحد من الواحد والوحدة.

وبإظهار الكون هذه الوحدة في كل شيء، يثبت أن صاحبَ ذلك القصر وتلك المدينة وذلك الكتاب، ذلك القرآن الكبير المجسم، وكاتبَه ومصنّفَه، موجودٌ وواحدٌ أحدٌ.

الكلمة الثالثة: «لا شريك له»

والإشارة المختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: الآية الجليلة: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُٓ اٰلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ اِذًا لَابْتَغَوْا اِلٰى ذِي الْعَرْشِ سَبيلًا﴾ (الإسراء:42) التي هي منبعُ شعاع «الآية الكبرى» وأستاذه، وأساسه.

نعم، لو كان معه آلهةٌ ولها مُداخلة في الخلق والإيجاد والربوبية لَفَسد نظامُ الكون كله واختل. بينما يُشاهَد أكملُ نظام وأدقّه في كل شيء ابتداءً من جناح ذبابة صغيرة، ومن بؤبؤ عينها ومن حجيرتها الصغيرة وانتهاءً إلى الطائرات الجوية، تلك هي الطيور التي لا تعد ولا تحصى، وإلى المنظومة الشمسية.. ففي كل شيء في الوجود يُرى أكملُ نظام سواءً أكان جزئيا أم كليا، صغيرا أم كبيرا. مما يُثبت هذا النظامُ الأكمل إثباتا لا يحتمل الشك أنّ الشرك محالٌ وجودُه، وأنه معدومٌ أصلا، ويُثبت أيضا إثباتا واضحا وجودَ واجبِ الوجود ووحدته.

الكلمة الرابعة: «له الملك»

وإشارة قصيرة جدا إلى ما فيها من حجة طويلة هي: أننا نشاهد بأبصارنا أنّ وراء حجاب الغيب مَن هو متصرفٌ بالأمور مالكٌ لقدرة مطلقة لا يحدّها حدّ ويملك من العلم مالا يحدّه حدود، إذ جَعل وجه الأرض مزرعةً واسعة سعةَ الأرض كلها، ينثر فيها كل ربيع بذورا تزيد على مائة ألف نوع من النباتات، ينثرها جميعا معا ومختلِطا بعضها ببعض، ثم يجني محاصيلَها جنيا متمايزا دون اختلاط ولا التباس مع انتظام كامل، ويوزّع بيد الرحمة والحكمة على مائتي ألف نوع من الحيوانات ما يلائمُهم من رزق معيّن على حسب حاجتهم. وهكذا يُصرّف الأمور على سعة ملكه الواسع الفسيح، الغني المعطاء. ولاسيما مزرعة الأرض.

فالذي لا يؤمن بهذا المتصرف الحكيم والملك الرحيم يضطر إلى إنكار هذه الأرض مع محاصيلها ويكون كالسوفسطائيين الحمقى.

الكلمة الخامسة: وهي «وله الحمد»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة واسعة جدا هي:

أننا نشاهد بأبصارنا وندرك بعقولنا إدراكا لحد البداهة: أن رزاقا رحيما ومحسنا كريما يتصرف ويدبّر أمور مدينة الكون ويرعى شؤون حي الأرض، ويربّي معسكر الإنسان والحيوان، حتى إنه حوّل الأرض إلى سفينة تجارية، وإلى قطار لجلب الأرزاق، ليبعث على الشكر والحمد بما يغدُق من نِعَمه التي لا تعد ولا تحصى جاعلا من الربيع المبسوط على وجه الأرض ما هو بمثابة عربة القطار، المشحونة بمائة ألف نوع ونوع من أنواع الأطعمة، وملأ الأثداء الشبيهة بالمعلّبات باللبن السائغ لإمداد ذوى الحياة المعوزين الذين نفدت أرزاقُهم نهاية الشتاء. فمَن يملك ذرة من عقل يؤمن بلا شك أن هذا الأمر إنما هو من أفعالِ رزاقٍ رحيم. ومن لا يؤمن بهذا ويضل ضلالا بعيدا يضطر إلى إنكار جميع النعم المنضودة والأرزاق المعينة الباعثة على الحمد والشكر، وليس هو إلّا أحمقَ حيوانٍ مضر.

الكلمة السادسة: وهي «يحيي»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: ما أُثبِتَ في «الكلمة العاشرة» وفي أجزاء رسائل النور بالبراهين القوية أنه: يُبعث على سطح الأرض في كل ربيع جيشٌ سبحاني ضخم مؤلََّف من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع ذوى الحياة وبما لا يحد من الأفراد في أشكال متنوعة وأنماط مختلفة. فتُوهَب لها الحياةُ، وتُجهَّز بكل ما يلزم الحياةَ وبانتظام كامل، مما يبين لنا مائة ألف نموذج من نماذج الحشر الأعظم، بل من أماراته..

فالذي يحيي كل تلك المخلوقات المتنوعة غير المحدودة معا، وهي مختلطةٌ ومكتنفة ومتشابكة بعضُها في بعض، بلا سهو ولا خطأ ولا نقص، ومن دون تحيّر، ويميّزها برغم اختلاطها وامتزاجها، وبلا نسيان لأحد منها، ويهب لها الحياة بكمال الميزان والنظام ويبعثها من نُطَفها التي هي قطرات ماء متماثلة، ومن نواها المتشابهة، ومن حبيبات لا يتميز بعضُها عن بعض إلّا قليلا، ومن بويضات الحشرات التي هي عينُ الأخرى ومن نُطف الطيور، ومن بويضاتها التي هي عين بعضها أو بفروق طفيفة.. فالذي يحيي تلك المئات من الألوف من ذوى الحياة التي تضم أفرادا لا تعد ولا تحصى، المتباينةِ صورةً، وصنعة ومعيشةً، ويبعث تلك المئات من الألوف من الأحياء، ويكتب مائة ألف كتاب مختلفٍ بعضُها عن بعض على صحيفة الأرض والربيع، يكتبها معا ومتداخلا وبلا خطأ كتابةً في أتم إتقان، ويتصرف فيها بعناية لا حدّ لها ويعمل فيها بحكمة لا منتهى لها. نعم.. إن الذي يفعل هذا إنما هو الخلاق العليم وهو المحيي والحي القيوم.. فمَن لا يعتقد بهذا لاشك أنه مضطر إلى إنكار نفسه وإنكار جميع الأحياء المنتشرة على الأرض كافة والمعلقة على شريط الزمان في جميع مواسم الربيع الماضية والموجودة على وجوه الأرض الحية والفضاء الحي.. وما هو إلّا أحمقُ الأحياء وأشقاهم.

الكلمة السابعة: وهي «ويميت»

إن إشارة في منتهى الاختصار إلى حججها هي:

أننا نشاهد عندما تُسرَّح ثلاثمائة ألف نوع من الأحياء من وظائفها باسم الموت في الخريف، فإنّ كلَّ نوع وكلَ فرد يُودِع بذورَه إلى يد الحكمة للحفيظ الجليل، تلك البذور التي هي عُليباتُ صحائفِ أعماله، وفهارسُ أفعالهِ، وقوائم ما سيعمله في الربيع المقبل، وهي شبيهةٌ بروحه الباقية من جهة -كبُذيرات التين المتناهية في الصغر التي تحمل جميعَ قوانين الحياة لشجرتها، فهي بمثابة روح باقية لها- فيَكتب فيها الخلّاقُ الحكيم، الحي الذي لا يموت، بقلم القَدَر-كالكتابة في القوة الحافظة- تاريخَ حياة الشجرة وكأنها كتابٌ ضخم.. فمَن لا يؤمن بهذا الخلّاق الحكيم الحي الذي لا يموت، ليس هو إنساناً أحمق وحيواناً فاقد الشعور فقط، بل هو كذلك أشقى من شيطان تُضرم به نارُ جهنم ومحكوم عليه بالموت الأبدي.

نعم، إن هذه الأفعال المذكورة والتي تشير إلى حجج هذه الكلمات، وهي أفعال حكيمة كلية محيطة وفي منتهى الإعجاز وتضم ما لا يتناهى من المعجزات والخوارق.. هذه الأفعال لا يمكن أن تكون بلا فاعل قطعا، بل ذلك محال بمائة محال، وباطل إطلاقا، فإسنادُها إلى الأسباب العمياء الصماء العاجزة الفاقدةِ للشعور، الجامدةِ المختلطة المستولية غير المنتظمة، ممتنعٌ بألف مرة ومرة ولا أساس له قطعا.

فلو فُوّضت تلك الأفعالُ الحكيمة إلى غير الفاعل الحكيم لَلَزم وجودُ قدرة مطلقة وحكمة مطلقة وإتقانٍ بديع كلي تخص تَشَكُّل جميعِ الأعشاب والأزاهير في كل ذرة من ذرات التراب.. ويلزم وجودُ قابليةِ فهـمٍ وإفهامِ أقوال ومكالمات وكلماتِ جميعِ الهواتف والراديوات في كل ذرة من ذرات الهواء. كما ذُكر في نكتة توحيدية في لفظ «هو» في «مرشد الشباب».

وهذا المفهوم الغريب العجيب لا يسع أيَّ شيطان كان أن يقنع به أحدا قط، فالكفر والإنكار الذي هو خارجٌ عن نطاق العقل إلى هذا الحد وبعيدٌ كل البعد عن الحقيقة وهو إهانةٌ للكائنات كلها وتَعدّ على حقوقها.. لا جزاءَ له إلّا النار، وهو عينُ العدالة. فينبغي القول: «لتعش جهنم لمثل هؤلاء المنكرين».

الكلمة الثامنة: «وهو حي لا يموت»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: أن الشُميسات المشاهَدة مثلا أثناء النهار على حَباب وجه البحر وعلى سطح النهر الجاري، تختفي بذهاب تلك الحباب، فتَظهر الشُميسات التي تعقبها كسابقاتها، فتشير بهذا إلى الشمس التي في السماء وتشهد عليها. وتدل بزوالها ووفاتها على وجود شمس دائمية وعلى بقائها.

كذلك المخلوقات على وجه بحر الكون المتبدل دوما وفي فضائه المتجدد الذي لا يحد، وفي مزرعة ذراته، هذه المخلوقاتُ تسيل سراعا وباستمرار في نهر الزمان الذي يتموج محتضنا جميعَ الحوادث والموجودات الفانية، وتموت مع أسبابها الظاهرية. فيذوق كونٌ الموتَ كلَّ سنة، وكلَ يوم، ويحل آخرُ جديدٌ محله، وتموت دنىً سيارةٌ باستمرار وعوالمُ سيالةٌ في مزرعة الذرات بعد أخذ المحاصيل منها.

فكما تُبين الحبابُ والشُميساتُ بزوالها الشمسَ الدائمة، فإن وفاةَ تلك المخلوقات غير المحدودة وزوالَ تلك المحاصيل، وتسريحها مع أسبابها الظاهرية تسريحا بكمال الانتظام، تدل دلالة قاطعة كالنهار الأبلج والشمسِ في وضح النهار على وجوب وجود الحي الذي لا يموت، على الشمس السرمدية، على الخلاق الباقي، على الآمر الأقدس، وعلى وحدانيته جلّ وعلا وعلى وجوده، دلالة ظاهرة أظهرَ من وجود الكائنات نفسها بألف مرة.. والشاهد على هذا كل موجود بحدّ ذاته وكل الموجودات معا.

فلا شك أَنْ قد أدركتم مدى حماقةِ وصمم وجنايةِ مَن لا يسمع هذه الأصوات العالية التي تملأ فضاءَ الكون كله وهذه الشهاداتِ القاطعةَ الصادقة.

الكلمة التاسعة: وهي «بيده الخير»

إن إشارة في منتهى الاختصار إلى ما فيها من حجة هي: أننا نشاهد في كل دائرة من دوائر هذا الكون وفي كل نوع من أنواعه وفي كل طبقة من طبقاته حتى في كل فرد من أفراده، بل في كل عضو من أعضائه، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات جسمه، مَخزنا احتياطيا ومستودَعا لادّخار الرزق، ومزرعةً وخزينة تهيئ ما يلزمه ويَقيه، وتُسلّم -ما فيها- يدٌ غيبية إلى يد ذلك المخلوق في أنسب وقت ومن حيث لا يحتسب، بل بشكل خارجٍ عن طَوقه وإرادته، ضمن انتظام تام على وفق ميزان دقيق، ويتم ذلك كله في منتهى الحكمة وغاية العناية.. فالجبال مثلا تَدّخِر كلَّ ما يلزم الأحياء والإنسان من معادنَ وأدويةٍ وكلَّ ما يلزم متطلبات الحياة. فهي خزائن مُلئت في غاية الكمال بأمر الواحد الأحد وبتدبيره. مثلما الأرضُ مزرعةٌ وبَيدرٌ ومطبخٌ تُهيئ أرزاق جميع الأحياء وبكمال الانتظام والميزان، وذلك بقوة الرزاق الحكيم، بل إن في كل إنسان وفي كل عضو من أعضائه مخزنا ومستودعا للادّخار، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات الجسم أيضا مخزنٌ صغير يناسبه لخزن الاحتياطي من الأرزاق.. وهكذا في كل موجود مخزنٌ، حتى إن مخزنَ الآخرة هو دارُ الدنيا، ومزرعةُ الجنة ومستودَعُها هو عالمُ الإسلام وعالم الإنسانية الحقة، الذي تنبعث منه الحسناتُ والحُسنُ والأنوار. ومخزنٌ من مخازن جهنم هو المواد الفاسدة والطوائف الملوثة التي تُنتج حناظل الشرور والقبح والكفر، تلك الشرور الناتجة من العدم والملوِّثة لعوالم الوجود التي هي الخير. ومخزنُ حرارة النجوم وموردها جهنمُ، وخزينةُ أنوارها ومصدرها الجنةُ..

وهكذا فإن كلمةَ «بيده الخير» بإشارتها إلى جميع تلك الخزائن غيرِ المحدودة تبين حجة ساطعة جدا.

نعم، إن هذه الكلمة، وكذا عبارة: «بيده مقاليد كل شيء» حجتان للربوبية والوحدانية لا منتهى لسعتهما، وهما ذات خوارق ومعجزات لا حدود لها، تبيّنها هاتان الجملتان لمن لم يُطمَس على عينه. فانظر مثلا من تلك الخزائن والمقاليد غير المحدودة إلى هذه فحسب:

إن المدبّر الحكيم المالك لمفاتيح البذور والنوى، تلك المخازنُ الصغيرة التي يضم كلٌ منها أجهزةَ منهاجِ مقدَّراتِ شجرة ضخمة أو زهرة فوّاحة، كما يوقظ بوّابَ بذرةٍ بأمره «أَفِقْ» بمفتاح الإرادة، وبميزانِ نظام تام؛ كذلك يفتح خزينةَ الأرض الهائلة بمفتاح الغيث، فيفتح جميعَ المخازن الصغيرة أي الحبيبات التي هي نطف النباتات وجميعَ مبادئ الحيوانات، والقطرات التي هي نطف الطيور والحشرات المتشكلة من هواء وماء، يفتحها جميعا ومعا وبلا خطأ وذلك بتلقّيها أمرَ الانفتاح والانكشاف.. ويفتح سبحانه في الوقت نفسه جميعَ خزائن الكون الكلية والجزئية، المادية والمعنوية، بمفتاح خاص لكل منها بيد الحكمة والإرادة والرحمة والمشيئة.

فإن كنت تريد أن تعرف هذا وتراه فانظر إلى مخازنك الصغيرة وهي قلبُك ودماغُك وجسدك ومعدتك. وانظر إلى حديقتك وإلى الربيع الذي هو زهرةُ الأرض وإلى أزاهيره وثمراته، فإنه سبحانه يفتحها بيد غيبية بمفاتيح متباينة متنوعة آتية من مصنع ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾. يفتحها بكمال النظام والميزان والرحمة والحكمة، فيُخرج رطلا بل مائة رطل من المطعومات أحيانا من درهم من عُليبات صغيرة، يُخرجها بكمال الانتظام والميزان مقيما بها ضيافةً فاخرة لذوي الحياة.

فهل من الممكن أن تتدخل قوةٌ عمياء وطبيعة صماء ومصادفة عشواء وأسبابٌ جامدة جاهلة عاجزة في فعلٍ لانهاية له يؤدّى إلى هذه الدرجة من الانتظام والعلم والبصيرة، وفي صنعةٍ دقيقةٍ ذات حكمة تامة لا تدنو منها المصادفةُ قطعا، وفي تصرّفٍ موزون لا خطأ فيه إطلاقا، وفي ربوبيةٍ جليلةٍ عادلةٍ عدالةً تامة لا ظلم فيها أصلا؟

وهل يمكن لمن لا يرى الأشياء كافة في آن واحد ولا يستطيع إدارتها كلها دفعةً واحدةً، ولا يجعل الذراتِ والنجومَ السيارة معا تحت أمره أن يتدخل في هذه الإدارة وتصريفِ الأمور التي جوانبُها كلها ذات حكمة ومعجزة وميزان؟

وهكذا فمن لا يؤمن بمثل هذا المتصرف للأمور، المدبّر الرحيم، والربّ الحكيم، والذي بيده الخير، وله مقاليد كل شيء، ويضل ضلالا بعيدا، ليس له إلّا النار التي تستعر وتغضب حتى ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (الملك:8) كما قال تعالى. فتقول جهنمُ بلسان حالها: إنه يستحق عذابي الخالد فليس هو أهلا للرحمة.

الكلمة العاشرة: وهي «وهو على كل شيء قدير»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: أن كل ذي شعور يأتي إلى هذه الدنيا المضيف، ويفتح عينه يرى: قدرةً تُمسك الكونَ كله في قبضتها، وتضم علما أزليا مطلقا لا يضلّ ولا ينسى وحكمةً سرمدية لا عبث فيها إطلاقا وتشمل عنايةً بالغة، بحيث تجعل كل فرد من أفراد جيش الذرات منجذبا جذبة مولوية، فتستخدمها في وظائف شتى، وتُجري في اللحظة نفسها الكرة الأرضية في دائرة واسعة تبلغ مسافتها أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة وتديرها كالعاشق المولوى المجذوب بالقانون نفسه.

وإذ هي تجلب محاصيل المواسم إلى الحيوانات والإنسان، تجعل بالقانون نفسه في اللحظة نفسها الشمسَ مكوكا ودولابا وتُديرها في مركزها دورانَ منجذبٍ عاشقٍ أيضا مسخِّرةً النجومَ السيارة التي هي أفرادُ جيش المنظومة الشمسية في خدمات ووظائف جليلة بكمال الميزان والانتظام.

وأن القدرة نفسها تكتب بقانون الحكمة نفسها في اللحظة نفسها مئاتِ الألوف من الأنواع على صحيفة الأرض كافة، والتي كل منها بمثابة مئات الألوف من الكتب، تكتبها معا ومتداخلة، وبلا التباس ولا سهو، مُظهرةً بها ألوفا من نماذج الحشر الأعظم.

وأن القدرة نفسها، في اللحظة نفسها تحوّل صحيفة الهواء إلى لوحةِ محوٍ وإثبات، جاعلةً من ذراتها كلها كأنها نهايات قلم ذلك الكتاب ونقاطِه، مستعمِلةً إياها في وظائف كثيرة ضمن ما يعيّنه الأمر والإرادة الإلهية، حتى إنها أعطت قابلية إلى كلٍ من تلك الذرات لتتلقى الكلمات والمكالمات كلها كأنها تعلَم بها وتنشرها بلا خطأ ولا حيرة كأنها أُذينات صغيرة ولُسينات دقيقة. مما يُثبت أن عنصر الهواء عرشٌ للأمر والإرادة الإلهية.

وهكذا فقياسا على هذه الإشارة المختصرة: فالذي جعل هذا الكون في حكم مدينة منسّقة، وقصر عامر، ومضيف فاخر، وكتاب معجز، وقرآن مبين، ويمسك في قبضة قدرته بميزان العلم ونظام الحكمة جميعَ طبقات المخلوقات ودوائرها وطوائفها ابتداءً من ذرة من ذراتها وانتهاءً إلى مجموع الكون كلِه، ويدبّر شؤونه ويتصرف فيه، ويُظهر ضمن تلك القدرة الجليلة حكمتَه البالغة ورحمتَه الواسعة، ويُعلِم ضمن ربوبيته المطلقة ويُعرّف بها وجودَه ووحدانيتَه تعريفا ظاهرا كالشمس في رابعة النهار. فيطلب إزاء تعريفه التعرّفَ إليه بالإيمان، وإزاءَ تودُّدِه ودَّه بالعبادة، وإزاء آلائِه شكرَه وحمدَه.

فالذين لا يعرفون هذا الرحمن الرحيم ولا يَسْعون بالعبودية لحبِّه، بل يَضلون إلى الإنكار فيُضمرون نوعا من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا إلّا شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر. ولاشك أنهم يستحقون عذابا خالدا لا نهاية له.

الكلمة الحادية عشرة: وهي «وإليه المصير»

أي إن المصير هو إلى دائرة حضوره، وإلى عالَمِه الباقي، وإلى دار آخرته، وإلى منـزل سعادته السرمدية، كما أنه مرجع جميع مخلوقات الكون فتستند إليه وترجع إلى قدرته جميعُ سلسلة الأسباب، علماً أن الأسباب ستائر وُضعتْ أمام تصرفات تلك القدرة، لأجل الحفاظ على هيبتها وعزتها المقدسة. فجميعُ الأسباب الظاهرية ستائرُ لا تأثير لها في الإيجاد قطعا. فلولا أمرُه جلّ وعلا وإرادتُه لا يقدر شيء -حتى الذرة- من الحركة.

نشير إشارة مختصرة إلى ما في هذه الكلمة من حجة فنقول:

أولا: إن حقيقة الحشر والآخرة والحياة الباقية التي تعبّر عنها هذه الكلمة المقدسة نحيل إثباتها والتصديق بها إلى «الكلمة العاشرة» وذيولِها وإلى «الكلمة التاسعة والعشرين» التي تُثبت تحققَها القاطع كتحقق الربيع المقبل، وإلى «المسألة السابعة من رسالة الثمرة»، وإلى شعاع «المناجاة»، وإلى الأجزاء الإيمانية لرسائل النور.

حقا إن تلك الرسائل قد أثبتت هذا الركن الإيماني بحجج لا منتهى لها، بأنّ تحقق الآخرة ثابتٌ بدرجةِ تَحقُّق وجود الدنيا بحيث تلجئ حتى أعتى المنكرين إلى التصديق به.

ثانيا: إن ثُلث القرآن المبين يبحث في الآخرة والحشر، ويبني كل الدعاوى على تلك الحقيقة. لهذا فكما أن جميعَ معجزات القرآن وحججه التي تثبت أحقيتَه تدل على وجود الآخرة، كذلك جميعُ معجزات الرسول ﷺ الشاهدة على صدق نبوته وجميعُ دلائل نبوته وجميعُ حجج صدقه تشهد على الآخرة والحشر؛ لأن أعظم ما دعا إليه ذلك النبي الكريم ﷺ طوال حياته كلها هو الآخرة، كما أن مائة وأربعة وعشرين ألفا من الأنبياء الكرام عليهم السلام قد دَعوا جميعُهم إلى الحياة الباقية والسعادة الأبدية وبشّروا البشرية بها وأثبتوا صدقَ دعواهم بما لا يحد من المعجزات والدلائل القاطعة. فلا شك أن جميع معجزاتهم وحججهم الدالة على نبوتهم وعلى صدقهم في دعواهم تشهد أيضا على الآخرة والحياة الباقية التي هي أعظمُ وأدوم دعواهم.

فقياسا على هذا فإن جميع الأدلة التي تثبت سائر الأركان الإيمانية تشهد بدورها على حدوث الآخرة وعلى انفتاح أبواب دار السعادة الخالدة.

ثالثا: إن خالق هذا الكون الذي خلقه بجميع ذراته وسياراته وأجزائه وطبقاته مقلِّدا كلا منها بوظيفة بل وظائفَ كثيرة بكمال الحكمة ومسخِرا لها باستمرار إظهارا لكماله وقدرته وربوبيته، والذي يُرسل طوائفَ المخلوقات قافلةً إثر قافلة بل يرسل دنىً متعاقبة متجدّدة سيالة إلى مَضيف هذا العالم وإلى ميدان امتحان هذه الحياة الدنيوية لِيُظهر تجليات غير محدودة لأسمائه الحسنى السرمدية وليلتقط صور تلك المخلوقات وأعمالها وأوضاعها بكامرات برزخية وسينمات أخروية منصوبة في عالم المثال. ومن بعد تسريحها يرسل طوائف أخرى قافلة إثر قافلة، بل يرسل نوعا من دنى سيارة وسيالة إلى ذلك الميدان، لأجل أن تتسنّم وظائف جليلة وتصبح مرايا لتجليات أسمائه الحسنى.

فهل من الممكن لهذا الخالق الجميل، الصانع الجليل، الله ذي الكمال، أن لا يجعل دار ثواب وجزاء؟ وأن لا يقيم الحشر والنشور لنوع الإنسان الذي يقابِل بالشعور والعقل في هذه الدنيا الفانية جميعَ مقاصد ذلك الخالق الكريم، والذي يحبّ ذلك الخالق ويحبّبه بجميع استعداداته، والذي يعرفه ويعرّفه، ويتوسل إليه بأدعية لا حد لها لبلوغ السعادة الأبدية والبقاء الأخروي، والذي يسأل الحياة الباقية التي هي اللذة بعينها يسألها بجميع فطرته وروحه واستعداده لما يتألم آلاما لا حد لها بالعقل الذي يحمله. فهل يمكن أن لا يكون لهذا الإنسان ثواب وعقاب؟ حاش لله وألف مرة كلّا..

إن تفاصيل وإيضاح هذه الإشارة المختصرة موجودة بأسطع صورها وأقوى حججها في رسائل النور؛ لذا نحيل إليها ونختصر هذه المسألة الطويلة جدا.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

* * *

الشعاع الرابع عشر

«الدفاعات»

تتمة قصيرة جدا لإفادتي

أُبيّن لمحكمة أفيون:

إن إفادتي التي قدمتُها لأنظاركم ولعدالة القانون، والتي تتضمن تحرّيَ منـزلي تحرّيا غيرَ قانوني بثلاث وجوه، وسَوقي للاستجواب ومن ثم توقيفي واعتقالي، كلُّ ذلك تعرّضٌ لكرامةِ ثلاث محاكم ومسٌّ لعدالتها واحترامها، بل استخفافٌ بها. لأن تلك المحاكم الثلاث وهيئاتِ الخبراء الثلاث، قد أتمّت تدقيق ما ألّفتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات، وما كتبتُه من مكاتيب، وأجمَعوا قرارهم على براءتنا. فأُعيدت إلينا كتبُنا ومكاتيبُنا.

وبعد البراءة، ومنذ سنوات ثلاث وأنا أعيش في انـزواء عن الناس، وتحت ترصّد شديد بحيث لا أكتب لبعض أصدقائي غير رسالة واحدة لا ضرر فيها. فعلاقتي بالدنيا شبه مقطوعة، بل لم أذهب إلى موطني رغم السماح.

والآن فإن تجديدَ المسألةِ نفسها بما ينمّ عن عدم الاكتراث بالقرار العادل للمحاكم الثلاث إنما هو استهانة بكرامة تلك المحاكم وحطٌّ من شرفها.

لذا لأجل الحفاظ على كرامة تلك المحاكم التي عَدلت في حقي، أرجو من محكمتكم أن تبحث عن سبب آخر ومسألةٍ أخرى لتتهموني بها غير المسائل التي هي: «رسائل النور، تشكيل جمعية، تأسيس طريقة صوفية، احتمال الإخلال بالأمن والنظام».

إن ذنوبي وتقصيراتي كثيرة، لذا قررت أن أُعِينَكم بقدر ما يتعلق الأمر بمسؤوليتي، فلقد تعذبتُ خارج السجن عذابا يفوق كثيرا عمّا في داخله. حتى غدا القبر أو السجن موضعَ راحتي الآن. ولقد سئمت الحياةَ حقا. كفى الإهانات والتعذيب والترصد المؤلم فيما يشبه السجن الانفرادي طوال عشرين سنة فلقد بلغ السيلُ الزبى، وأوشك أن يمسّ غيرةَ الله، وعندها يا لخسارة هذه البلاد. إني أذكّركم بهذا.

إن أعظم ملجأ لنا وأقواه:

 ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾

﴿حَسْبِيَ اللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ﴾


«ردّ على لائِحة الادعاء»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

«بعد صمت دام ثمانية عشر عاما، اضطررت إلى إعادة تقديم هذه الدعوى ردا على لائحة الادعاء، رغم تقديمها إلى المحكمة وتقديم صورة منها إلى المراجع العليا في أنقرة».

«أدناه خلاصة لدفاع قصير -هو الحقيقة عينها- قد قلته للمدعين العامين وضابطي الشرطة الذين أتوا لتحري منـزلي في «قسطموني» ثلاث مرات، وقلته أيضا لمدير الشرطة ولثلة من أفراد الشرطة -في المرة الثالثة- ولمحكمة دنيزلي وأفيون. فليكن معلوما لديكم أن ما قلته لهم هو: أنني أعيش معتكفا ومنـزوياً منذ عشرين سنة. فطوال ثماني سنوات في «قسطموني» بقيتُ مقابل مخفر الشرطة، وكذا الحال في بقية الأماكن؛ كنت طوال هذه الفترة تحت المراقبة والترصد الدائم. وقد تحرّوا منـزلي عدة مرات، ومع ذلك لم يعثروا على أية أمارة لها علاقة بالدنيا أو بالسياسة. فلو كان لي شيء من التدخل بها لكانت الشرطة والعدلية تعلم به، أو علمتْ به ولكن لم تُعر له بالا، بمعنى أنهم مسؤولون أكثر مني.

فما دام الأمر هكذا فلِمَ تتعرضون لي إلى هذا الحد دون داع إليه وبما يُلحق الضرر بالبلاد والعباد. علما أنه لا يُتعرض في الدنيا كلِّها للمنـزوين المعتكفين المنشغلين بآخرتهم.

نحن طلابَ النور آلينا على أنفسنا أن لا نجعل من رسائل النور أداة طيعة للتيارات السياسية، بل للكون كله. فضلا عن أن القرآن الكريم قد منعَنا بشدة من الاشتغال بالسياسة.

نعم، إن مهمة رسائل النور الأساس هي خدمة القرآن الكريم، والوقوف بصرامة وحزم في وجه الكفر المطلق الذي يُودِي بالحياة الأبدية ويجعل من الحياة الدنيا نفسها سما زعافا وجحيما لا يطاق. ومنهجها في ذلك هو إظهار الحقائق الإيمانية الناصعة المدعَمة بالأدلة والبراهين القاطعة التي تُلزم أشد الفلاسفة والمتزندقة تمردا، على التسليم بالإيمان. لذا فليس من حقنا أن نجعل رسائل النور أداة لأي شيء كان، وذلك لأسباب:

أولا: كي لا تُحوَّل الحقائق القرآنية التي تفوق الألماس نفاسة إلى قطع زجاج متكسر في نظر أهل الغفلة، حيث يتوهمونها كأنها دعاية سياسية تخدم أغراضا معينة، وكي لا نمتَهن تلك المعاني القرآنية القيمة.

 ثانيا: إن منهج رسائل النور الذي هو عبارة عن الشفقة والعدل والحق والحقيقة والضمير لَيمنعنا بشدة عن التدخل بالأمور السياسية أو بشؤون السلطة الحاكمة. لأنه إذا كان هناك بعض ممن ابتُلوا بالإلحاد واستحقوا بذلك العقاب فإن وراء كل واحد منهم عددا من الأطفال والمرضى والشيوخ الأبرياء. فإذا نزل بأحد أولئك المبتلَيْنَ المستحِقين للعقاب كارثةٌ أو مصيبة، فإن أولئك الأبرياء أيضا سيحترقون بنارهم دون ذنب جَنَوْه. وكذا لأن حصول النتيجة المرجوة أمر مشكوك فيه، لذا فقد مُنِعْنا بشدة من التدخل في الشؤون الإدارية بما يُخل بأمن البلاد ونظامها عن طريقِ وسائلَ سياسية.

ثالثا: في زمن عجيب كزماننا هذا، لا بد من تطبيق خمسةِ أسس ثابتة، حتى يمكنَ إنقاذ البلاد وإنقاذ الحياة الاجتماعية بأبنائها من الفوضى والانقسام. وهذه المبادئ هي:

1– الاحترام المتبادل

2– الشفقة والرحمة

3– الابتعاد عن الحرام

4– الحفاظ على الأمن

5– نبذ الفوضى والغوغائية، والدخولُ في الطاعة.

والدليل على أن رسائل النور في نظرتها إلى الحياة الاجتماعية قد ظلت تُثبت وتُحكم هذه الأسس الخمسة وتحترمها احتراما جادا محافِظة بذلك على الحجر الأساس لأمن البلاد، هو أن رسائل النور قد استطاعت في مدى عشرين عاما أن تجعل أكثر من مائة ألف رجل أعضاء نافعين للبلاد والعباد دون أن يتأذى أو يتضرر بهم أحد من الناس. ولعل محافظتَي إسبارطة وقسطموني خير شاهد وأبرز دليل على صدق ما نقول.

فإذا كانت هذه هي الحقيقة، فلا شك أن أكثر أولئك الذين يتعرضون لأجزاء رسائل النور إنما يخونون الوطن والأمة والسيادة الإسلامية. ويعملون -سواءً بعلم أو بدون علم- لحساب الفوضوية والتطرف.

إن مائة وثلاثين رسالة من أجزاء رسائل النور التي مَنحت مائة وثلاثين حسنة وفائدة لهذه البلاد، لا تزيلها الأضرار الموهومة التي يتوهمها أهلُ الغفلة القاصرُو النظرِ الشكاكون، من نقص وقصور في رسالتين أو ثلاث. فالذي يهوّن من شأن تلك الرسائل بهذه الأوهام والشبهات ظَلومٌ مبين.

أما تقصيراتي وذنوبي التي تمس شخصي الذي لا أهمية له، فإني أضطر دون رغبة مني إلى القول بأن الذي قضى حياة الاغتراب التي هي أشبه ما تكون بالسجن الانفرادي طوال اثنتين وعشرين سنة، معتكِفا ومنـزويا عن أحوال الناس. والذي لم يخرج باختياره طوال هذه الفترة إلى مجمع الناس في السوق وفي الجوامع الكبيرة. والذي أُجري عليه أشدُّ أنواع الضيق والعنت وخالَف أمثالَه من المنفيين فلم يراجع الحكومةَ ولو لمرة واحدة. ولم يقرأ جريدة ولم يستمع إليها، بل لم يكترث بها طوال هذه الفترة.

وخير شاهد على هذا القريبون من أصدقائه وأحبّائه خلال سنتين في قسطموني وخلال سبع سنوات في أماكن أخرى. بل لم يَعرف أحداثَ الحرب العالمية ولا المنتصر من المغلوب، ولم يهتم بالمعاهدة والصلح، بل لم يعرف حتى من هم أطراف الحرب، ولم يتحرك فضوله لمعرفتهم، ولم يسأل عنهم ولم يستمع إلى الراديو القريب منه خلال ثلاث سنوات سوى ثلاث مرات. والذي يواجه الكفر المطلق برسائل النور، ذلك الكفر الذي يفني الحياة الأبدية ويزيد آلام الحياة الدنيا ويجعلها عذابا في عذاب. والشاهد الصادق لذلك مائة ألف ممن أنقذوا إيمانهم برسائل النور المترشحة من فيض نور القرآن العظيم والتي تجعل الموت بحق مائة ألف شخص تذكرة تسريح بدلا من الإعدام الأبدي.

تُرى أي قانون يسمح بالتعرض لهذا الرجل (يقصد نفسه) وجعْلِه في يأس من الحياة، ودفعه إلى البكاء والحزن، مما يدفع مائة ألف من إخوانه إلى البكاء؟ بل أية مصلحة في ذلك؟ أَلاَ يرتكبون باسم العدالة غدرا لا مثيل له ولا نظير؟ أفلا يكون باسم القانون خروجا عن القانون؟

أما إذا قلتم واحتججتم بتصرفكم هذا بما يحتج به فريق من الموظفين في هذه التحريات وادعيتم كما يدعون، بأنك وطائفة من رسائلك تخالفان نُظمنا ومبادءنا.

فالجواب:

أولا: ليس من حق نظمكم ومبادئكم المبتدَعة هذه أن تدخل معتكفاتِ المنـزوين إطلاقا.

ثانيا: إن ردّ أمر ما شيء وعدمَ قبوله قلبيا شيء آخر، وعدم العمل به شيء آخر تماما. وإن ولاة الأمور إنما ينظرون إلى اليد لا إلى القلب. وهناك في كل قُطر وفي كل مكان معارِضون شديدون للحكومة لا يتدخلون في شؤون الإدارة والأمن. حتى إنه في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه لم يمسّ النصارى بشيء مع أنهم كانوا ينكرون الإسلام وقوانين الشريعة.

وعلى هذا واستنادا إلى مبدأ حرية الفكر والوجدان، إذا كان بعض طلاب النور يرفضون نظمكم ومبادئكم، وينتقدونها على أساس علميّ نقدا بَنّاءً، أو إنْ صدرت منهم أعمال وتصرفات لا تتفق وتلك المبادئ، بما في ذلك إضمار العداء لأولى الأمر، فليس من حق القانون أن يحاسبهم على ذلك بشرط واحد وهو أن لا يتدخلوا في الشؤون الإدارية، وأن لا يخلّو بالأمن والنظام.

أما بالنسبة للرسائل، فقد أطلقنا على تلك الرسائل أنها سرية وخاصة، وحظرنا نشرها. حتى إن أحدهم قد أتى لي بنسخة واحدة من الرسالة التي سببت هذه الحادثة لمرة أو مرتين طوال ثماني سنوات في قسطموني، وضيعناها في اليوم نفسه. وأنتم الآن تشهرونها بالقوة والإكراه، وقد اشتهرت حقا.

ومن المعلوم أنه إذا وجد نقص يوجب الذنب في رسالة ما، فإن تلك الكلمات وحدها تُحذف ويُسمح بالبقية، ولقد وجدوا خمس عشرة كلمة فقط هي مدار النقد من بين مائة رسالة من رسائل النور بعد إجراء تدقيقات عليها دامت أربعة أشهر في محكمة «أسكي شهر». ووجدوا في صفحتين فقط من بين أربعمائة صفحة من مجموعة «ذوالفقار» موضعَ نقد بعدم تلاؤمها مع القانون المدني حيث فيهما تفسير الآيات الكريمة الخاصة بميراث المرأة وحجابها، ذلك التفسير الذي كتب قبل ثلاثين سنة.. كل ذلك يُثبت أن هدف رسائل النور ليست الدنيا، بل الناس كافة بحاجة إليها. فلا تصادَر تلك المجموعة (ذوالفقار) لأجل تلكما الصفحتين. ولترفعْ إذن الصفحتان وتُعَدْ لنا مجموعتنا. نعم، من حقنا أن نطالب بإعادتها لنا.

أما إذا خلتم الإلحاد ضربا من متطلبات السياسة وقلتم بزعمكم -كما يزعم البعض-: «إنك برسائلك هذه تفسد علينا مدنيتنا وتَحُول دون تمتعنا بمباهج الحياة وملذاتها»… فأنا أقول: «إنه لا يمكن لأي شعب أن يعيش بلا دين. وهذا دستور عام، معترف به في الدنيا كلها. ولا سيما إن كان هناك كفر مطلق فإنه يسبب لصاحبه عذابا أشد إيلاما من عذاب جهنم في الدنيا نفسها. كما أُثبتَ ذلك بأدلة وبراهين لا تقبل المناقشة في رسالة «مرشد الشباب»، تلك الرسالة المطبوعة رسميا، إذ لو ارتد مسلم -والعياذ بالله- فإنه يقع في الكفر المطلق، ولن يبقى في الكفر المشكوك فيه الذي يمهَل الحياة لصاحبه إلى حدٍ ما. ولا يكون كملاحدة الأجانب أيضا. بل من حيث التمتع بملذات الحياة التي قد يتصورها، لا يكون حظه من ذلك سوى الهبوط إلى مرتبة أدنى من مرتبة الحيوانات بمائة مرة التي لا معنى للماضي والمستقبل لديها. وذلك لأن موت الموجودات السابقة واللاحقة وفراقها الأبدي، يترك في نفسه آلاما مستمرة متعاقبة بسبب ضلاله.

أما إذا جاء الإيمان ولامس بشاشة القلب وتمكّن فيه، فإن أولئك الأصدقاء الذين لا يحصيهم العد سيحيَوْن فجأةً ويقولون بلسان حالهم: نحن لم نمت.. ولم نفنَ..! وحينئذٍ تنقلب تلك الحالة الجهنمية إلى لذائذ فيحاء وروضة غناء.

فما دامت الحقيقة هي هذه، فإنني أذكّركم بالآتي: لا تبارزوا رسائل النور المستنِدة إلى القرآن الكريم فإنها لا تُغلب، وإلّا فسيكون أمر هذه البلاد مؤسفا إذا ما حاول أحدٌ طمسَ نورها وسوف تذهب إلى مكان آخر، وتنور أيضا.

ألا فلتعلموا جيدا بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من الشعر، وفُصل كل يوم واحد منها عن جسدي، فلن أُحني هذا الرأسَ الذي نذرتُه للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، ولن أتخلى بحال من الأحوال عن هذه الخدمة الإيمانية النورية، ولا يسعني التخلي عنها.

لا شك أنه لا يُنظر إلى نقائصَ تقع في إفادةِ معتكِف منذ عشرين سنة، ولا يقال: إنه خرج عن الصدد، ذلك لأنه يدافع عن رسائل النور، إذ ما دامت محكمة «أسكي شهر» لم تجد غير مادة أو مادتين لرسالة أو رسالتين من بين مائة من الرسائل السِّرّية الخاصة والعلنية العامة، أثناء إجراء التدقيق عليها خلال أربعة أشهر، علما أن المادتين توجبان عقابا خفيفا، حتى إن المحكمة حكمت بالسجن لمدة ستة أشهر على خمسة عشر من المتهمين البالغ عددهم مائة وعشرين شخصا، ونحن بدورنا قضينا هذا العقاب..

وما دامت جميع أجزاء رسائل النور قد أصبحت في متناول المسؤولين -قبل سنوات- وأعيدت إلى أصحابها بعد إجراء التدقيق عليها خلال شهور عدة..

وما دامت لم تظهر أية أمارة تمس العدلية والأمن طوال ثماني سنوات في «قسطموني» رغم التحريات الدقيقة..

وما دام قد تحقق لدى هيئة التحريات الأخيرة في «قسطموني» -قبل سنوات- أن بعض الرسائل وُجدت تحت أكوام الحطب، مما يومئ إلى عدم نشرها بل فقدانها..

وما دام مدير الشرطة في قسطموني ومسؤول العدلية قد وعداني وعدا قاطعا بإعادة الكتب المخفية لي وقبل استلامي لها ساقوني في اليوم التالي بمجرد مجيء أمر التوقيف من إسبارطة..

ومادامت محكمتا «دنيزلي» و«أنقرة» قد برأتا ساحتنا أعادتا إلينا جميع الرسائل..

فلا بد وبناء على هذه الحقائق الست بمقتضى واجبِ محكمة «دنيزلي» ومدعيها العام كما هو من واجب عدلية «أفيون» ومدعيها العام أخذُ جميع حقوقي المهمة بنظر الاعتبار. فأنا على أملِ أن المدعي العام الذي يدافع عن الحقوق العامة سيدافع عن حقوقي الشخصية التي أصبحت بمثابة الحقوق العامة لمناسبة رسائل النور، بل أنتظر ذلك منه.

إن سعيدا الجديد الذي انسحب من ميدان الحياة الاجتماعية منذ اثنتين وعشرين سنة، ويجهل القوانين الحاضرة وأصول الدفاع الحالية، والذي قدّم مائة صحيفة من الدفاع المبرهن ببراهين لا تُجرح والذي قدّمها سابقا إلى محكمتَي «أسكي شهر ودنيزلي» وقاسى جزاء تقصيراته إلى ذلك الوقت. ومِن بعده في قسطموني وفي أميرداغ حيث قضى حياته فيما يشبه السجن المنفرد وتحت الرقابة الدائمة.. أقول: إن هذا السعيد الجديد -وأمره هذا- يؤثر جانب الصمت ويدع الكلام لسعيد القديم.

يقول سعيد القديم: لما كان سعيد الجديد قد أعرض عن الدنيا ولا يتكلم مع أهلها ولا يجد مبررا للدفاع إلّا إذا اضطر إلى ذلك. إلّا أن المسألة تمس الكثيرين من الأبرياء من الفلاحين و أصحاب الأعمال حيث يُعتقلون بمناسبة علاقتهم الواهية معنا، ويصيب أعمالَهم الكسادُ لعجزهم عن تدارك حاجات أهليهم وأطفالهم في موسم العمل هذا.. إن هذا الأمر قد مسّ وجداني مسا قويا وأبكاني من الأعماق.

لذا أقسم بالله العظيم أنه لو كان باستطاعتي أن آخذ على عاتقي جميع مشاق أولئك لأخذتها، فالذنب كله يعود لي -إن كان هناك ذنب- وهم أبرياء أصلا. فلأجل هذه الحالة المؤلمة، على الرغم من سكوت «سعيد الجديد» أقول:

لما كان «سعيد الجديد» يجيب عن مائة من الأسئلة التافهة للمدَّعين العامين -لولايات «إسبارطة» و«دنيزلي» و«أفيون»- فأنا كذلك من حقي أن أسأل ثلاثة أسئلة من وزير الداخلية التي يرأسها «شكري قايا»، وأسأل من وزارة العدل الحاضرة. والأسئلة هي:

السؤال الأول

بأي قانون يجري توقيفي وتوقيف مائة وعشرين شخصا معي، جراء مشادّة كلامية لم تفض إلى حادثة، جرت بين شخص اعتيادي من «أكريدر» وهو ليس من طلاب النور وبين عريفِ شرطة (جاويش) لمجرد أن وُجد بحوزته أحد مكاتيبي الاعتيادية، ومن ثم إجراء التحقيق عليه من قبل المحكمة في أربعة أشهر، ومن بعد ذلك إبراء ساحةِ الجميع سوى خمسة عشر شخصا من الضعفاء المساكين، مع إلحاق ضرر ماليّ لأكثر من مائة شخص بأكثر من ألف ليرة؟

تُرى بأي أصل من أصول القانون يمكن جعل الإمكانات والاحتمالات بدلا عن الوقوعات؟ وعلى وفق أيّ دستور يتم إضرار سبعين شخصا من «دنيزلي» ضررا ماليا يقدّر بألوف الليرات بعد أن كسبوا البراءة؟

السؤال الثاني

الدستور الإلهي هو: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى﴾ (الأنعام:164) وإن وجود رسالة صغيرة قد حظرنا نشرَها، ولم أحصل عليها خلال ثماني سنوات سوى مرةً أو مرتين، وقد كُتب أصلُها قبل خمس وعشرين سنة وهي التي تنقذ الإيمان من الشبهات في نقاط مهمة فيها، وتُنجي المرءَ من الوقوع في إنكار الأحاديث المتشابهة.. أقول: إن حصول هذه الرسالة الصغيرة لدى رجل لا نعرفه وفي مكان بعيد عنا، ومَنْحَها معنىً مغايرا لها، ووجدانَ مكتوب في «كوتاهية» و«بَالِيكَسِيرْ» ينمّ عن تعرض طفيف، ثم توقيفَنا جراء ذلك في شهر رمضان المبارك حينها وفي هذا الجو القارس حاليا، مع كثير من الفلاحين والكَسَبة الأبرياء، وتوقيفَ شخص لمجرد وجود مكتوب اعتيادي قديم لنا بحوزته، أو أخذني في جولة بسيارته، أو أبدى علاقةَ صداقةٍ معنا، أو لقراءته أحدَ كتبي، وإلحاقَ ضرر مادي ومعنوي بهم وبالوطن وبالأمة بقدر أُلوف الليرات استنادا إلى شبهات تافهة.. أتساءل: أيُّ قانون من قوانين العدالة يُجري كلَّ هذا؟ وحسبَ أيةِ مادةٍ قانونية تنفذ الأمور؟ إننا نطالِب بمعرفة تلك القوانين لئلا نخطئ في المسير!

نعم، إن حقيقةَ أحد الأسباب التي أدت إلى اعتقالنا في كل من «دنيزلي» و«أفيون» هي «الشعاعُ الخامس». علما أن هذه الرسالة كُتب أصلُها قبل فترةِ «دار الحكمة الإسلامية» بكثير، بِنِـيّة إنقاذ إيمان العوام تجاه المنكرين لطائفة من أحاديث نبوية شريفة لجهلهم بمراميها وتأويلاتها، حتى قالوا: لا يطيب لها العقلُ. ولنفرض فرضا محالا أن هذه الرسالة متوجهةٌ إلى الدنيا والسياسة، وكُتبت في الوقت الحاضر. ولكن لأنها رسالة سرية، ولم يُعثر عليها عندنا لدى إجراء التحريات، وإن ما أخبرتْ به من أمور مستقبلية هي صحيحةٌ، وأنها تزيل الشبهات الواردة على الإيمان، ولا تمسّ الأمن والنظام ولا تتعرض لأشخاص معينين، بل تُبيّن حقيقة علمية بيانا كليا.. أقول: لو فرضنا هذا فرضا محالا، فلا يشكِّل أيضا ذنبا. وذلك لأنها أخذت بالسرية التامة للحيلولة دون حدوث مناقشة حولها قبل أن تَنشُرها وتُعلن عنها المحاكم. ثم إنّّ ردَّ شيءٍ ما ورفضَه يخالف تماما عدمَ قبوله قبولا علميا ويباين كليا عدم العمل به. فتلك الرسالة لا تَقبل علميا النظامَ الذي سيأتي في المستقبل القريب، بل ترفضه، وهذا لا يشكّل ذنبا. ولا نجد احتمال وجود ذنب بمثل هذا في قوانين العدالة في العالم كله.

حاصل الكلام: إن الكفر المطلق يبيد الحياةَ الأبدية ويحوّل الحياة الدنيوية إلى سمّ زعاف ويمحي لذتَها ومتعَها.. فرسائل النور منذ ثلاثين سنة تقطع دابرَ هذا الكفر. وقد حازت التوفيقَ في دحرها المفهومَ الكفري الرهيب الذي يحمله الماديون الطبيعيون، وتثبت ببراهين ساطعة دساتيرَ سعادة هذه الأمة في حياتَيها، وتستند إلى حقيقة القرآن السامية. فرسائل هذا شأنُها لو كانت لها ألف نقص ونقص -وليست مسألة أو مسألتين- تترجح حسناتُها التي تفوق الأُلوف على نقائصها بل تُذهبها. نحن ندّعي هذا ومستعدون للإثبات.

السؤال الثالث

من المعلوم أنه لو شوهدت خمسُ كلمات غير مستساغة قانونا في مكتوب يحمل عشرين كلمة فإن تلك الكلمات الخمس تُحذف ويُسمح للأُخريات. ولقد تُوُهِّم في خمس عشرة كلمة وَهْما ظاهريا على أنها تحمل ذنبا، وذلك في محكمة «أسكي شهر» بعد إجراء التدقيق عليها لمدة أربعة أشهر. ولم تجد هيئةُ الوكلاء في مجموعةِ «ذوالفقار» البالغةِ أربعمائة صفحة ما يخالف القانون الحالي سوى صفحتين فقط، لا تلائمان القوانين الحاضرة. علما أن الصفحتين لم تتعرضا إلّا لتفسيرِ آيتين كريمتين كُتب قبل ثلاثين سنة، وأن خبراء «دنيزلي» و«أنقرة» لم يجدوا إلّا خمسة عشر سهوا في رسائل النور التي أصبحت وسيلةً لإصلاح مئات الألوف من الناس إلى الآن، وحَققتْ للبلاد والأمة ألفا من المنافع.

ثم إنّ أخذ عائلة «جَالِشْقان» إلى التوقيف في موسم العمل هذا وفي عزّ الشتاء القارس مع أي مبدأ يتلاءم من مبادئ الجمهورية؟ وأيُّ قانون من قوانينها يجيزه؟ علما بأن كل ما قامت به هذه العائلةُ هي أنها قَدّمت خدمات بسيطة للرسائل واستنسخوها لإنقاذ إيمانهم وعاونوني في غربتي في «أميرداغ» إشفاقا على شيخوختي وابتغاءً لوجه الله.

وما دامت مبادئ الجمهورية لا تتعرض للمَلاحدة وفقا لمبدأ حرية الضمير والوجدان، فمن الأَولى والأحق أن لا تتعرض لأولئك الذين لا علاقة لهم بالدنيا، ولا يجادلون مع أهلها، ويعملون لآخرتهم وإيمانهم ووطنهم بشكل نافع. كما لا ينبغي ولا يحقّ لأرباب السياسة الذين بيدهم السلطة في آسيا التي تشرفت بالأنبياء أن يحملوا الشعب على التخلي عن الصلاح والتقوى اللذَين هما بمثابة الغذاء والعلاج من الحاجات الضرورية لهذه الأمة منذ ألف عام.

إنه من مقتضى الإنسانية الصفحُ عن تقصيراتٍ تَرِد ضمن أسئلةِ مَن قضى عشرين سنة من عمره معتكفا منـزويا عن الناس تلك التي يسألها بعقلِ «سعيد القديم» قبل عشرين سنة.

إنني أذكّركم بالآتي لمنفعة الأمة والأمن وكواجب من واجباتي الوطنية:

إن اعتقالَ أو محاولةَ الإساءة إلى أولئك الذين لهم علاقة واهية بنا و برسائل النور، قد يدفع بالكثيرين ممّن لهم منافعُ إيجابية للوطن والنظام أن يتحولوا إلى أناس مُعادين للإدارة، ويفسح المجالَ للفوضى والإرهاب.

نعم، إن عدد الذين أنقذوا إيمانَهم برسائل النور، واندفع بها خطرُهم عن المجتمع، بل أصبحوا أعضاء نافعين إيجابيين يزيد كثيرا على مائة ألف شخص. وهم يشغلون مناصب رفيعة في كل دائرة من دوائر الحكومة الجمهورية، ويمثلون مختلف طبقات الناس، وهم يعملون بتفانٍ وإخلاص كاملين وعلى أتمّ وجه من الصدق والنفع والاستقامة.. فالإنصاف يقتضي إذن حمايةَ هؤلاء ومساندتهم لا محاولةَ الإساءة إليهم.

إن فريقا من الموظفين الرسميين الذين ضربوا صفحا عن الإنصات إلى شكوانا ولم يسمحوا لنا بالكلام، ويتذرعون بمختلف الحجج والادعاءات الزائفة في مضايقتنا لَيحملوننا على الاعتقاد اعتقادا قويا، بأنهم بتصرفهم هذا إنما يفسحون المجال للفوضى في البلاد.

ثم إني أقول باسم مصلحة الحكومة: ما دامت محكمَتَا «دنيزلي» و«أنقرة» لم يتعرضا «للشعاع الخامس» بعد إجراء التدقيق عليه وأُعيد إلينا، فمن الضروري للإدارة أن لا تُقحمه في أمور رسمية ثانية فتجعلَ منه موضع نقاش.

فكما أننا قد أخفينا تلك الرسالة قبل أن تحصل عليها المحكمةُ وتُعلن عنها، فعلى محكمة «أفيون» أن لا تجعل منها مدار سؤال وجواب؛ لأن تلك الرسالة قويّة، لا تُردّ. وقد أخبرتْ عن حوادثَ قبل وقوعها، ووقعتْ كما أخبرتْ. فضلا عن أنها لا تستهدِف أمور الدنيا. وكل ما في الأمر أن أحدَ معانيها الكثيرةِ توافق رجلا مات وانتهى أمره. فلقد حملني وجداني أن أذكّركم لمصلحة البلاد والأمة ولأجل صيانة الأمن والنظام والإدارة بالآتي:

لا يدفعنّكم التعصب لذلك الرجل الميت إلى إقحام ذلك الخبر الغيبي والمعنى الوارد في تلك الرسالة في أمور رسمية فإنها تفسح المجالَ لزيادة الإعلان عنها.

الشعاع الثالث عشر

هذا الشعاع عبارة عن رسائل نيّرة في غاية الأهمية، بعث بها الأستاذ النُّورْسِيّ إلى طلابه (في السجن) وهي تبيّن بوضوح تام جهادَ رسائل النور الساطع.

باسمه سبحانه

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أهنئ ليلتكم المباركة التي مرت (ليلة القدر) مع العيد السعيد المقبل، أهنئكم بكل ما أملك، وأودعكم أمانةً إلى رحمة الرحمن الرحيم وإلى وحدانيته جلّ وعلا.

ومع أنني لا أراكم بحاجة للسلوان فمضمونُ «من آمَنَ بالقَدرِ أَمِنَ مِنَ الكَدَرِ» كافٍ ويغني، إلّا أنني أقول: لقد شاهدت شهودَ يقينٍ السلوانَ الكامل الذي يبعثه المعنى الإشاري للآية الكريمة: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَاِنَّكَ بِاَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ (الطور:48) وذلك:

بينما كنت أتأمل في قضائنا شهرَ رمضان المبارك براحة وطمأنينة مع نسيان هموم الدنيا، إذا بهذه الحادثة الرهيبة التي لا تطاق تحل بنا، والتي لم تخطر على بال، فأشهدُها شهودَ عيان أنها محض العناية الإلهية لي ولرسائل النور ولكم ولشهر رمضاننا ولأُخُوتنا.

وفيما يخصني من فوائدها الكثيرة أذكر بضع فوائد منها فقط:

أولاها: أنها دفعتني إلى السعي المتواصل في شهر رمضان بانفعال شديد وجدية صارمة والتجاء قوي وتضرع رقيق، متغلبا على المرض.

ثانيتها: أن الرغبة كانت شديدة في لقاء كل منكم والقرب منكم في هذه السنة أيضا، فقد كنت أرضى بهذه المعاناة والمشقات التي أتحملها إزاء لقاء واحد منكم والمجيء إلى «إسبارطة».

ثالثتها: أن جميع الحالات المؤلمة تتبدل فجأة ودفعة، سواء في «قسطموني» أو في الطريق أو هنا وبصورة غير معتادة وبخلاف رغبتي وتوقعي، بحيث تشاهَد أن يد عناية ربانية وراء الأحداث، حتى تجعلنا ننطق بـ: «الخيرُ فيما اختاره الله» وتستقرئ رسائل النور -التي أفكر فيها دوما- حتى الغارقين في الغفلة المتسنّمين وظائف دنيوية مرموقة فاتحة ميادين عمل جديدة في ساحات أخرى.

إنه إزاء آلام كلٍ منكم وحسراته، المتجمعة عليّ والتي تمسّ عطفي ورقتي إليكم كثيرا، فضلا عن آلامي، ووقوع هذه المصيبة في شهر رمضان المبارك الذي كل ساعة منه في حكم مائة ساعة، يجعل كل ساعة من تلك الأثوبة المائة بمثابة عشر ساعات من العبادة، حتى يبلغ الألف ساعة من العبادة.

ثم إن الذين درسوا رسائل النور من أمثالكم المخلصين وفهموها حق الفهم، وأدركوا أن الدنيا فانية عابرة، وأنها ليست إلّا متجرا موقتا، والذين ضحّوا بكل ما يملكون في سبيل إيمانهم وآخرتهم، واعتقدوا أن المشقات الزائلة التي يعانونها في هذه المدرسة اليوسفية لذائذ دائمة وفوائد خالدة، قد بدّلت -هذه الفوائد- التألم لحالكم والبكاء عليكم النابع من العطف الشديد، إلى حالة تهنئة وتقدير لثباتكم، فقلت بدوري: «الحمد لله على كل حال سوى الكفر والضلال».

فإلى جانب هذه الفوائد التي تخصني، هناك فوائد تخصكم، وتخص أُخُوتنا، وتخص رسائل النور، وشهرَنا المبارك، شهرَ رمضان، بحيث لو رفع الحجاب، لحملتْكم تلك الفوائدُ على القول: «يارب لك الحمد والشكر، حقا إن هذا البلاء النازل بنا عناية بحقنا». وأنا مطمئن من هذا ومقتنع به.

لا تعاتبوا -يا إخوتي- الذين أصبحوا السبب في وقوع الحادثة، إن هذه الخطة الرهيبة الواسعة قد حيكت منذ مدة مديدة، إلّا أنها جاءت مخففة معنىً وستزول بسرعة بإذن الله، فلا تتألموا بل استرشِدوا بالآية الكريمة:

﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (البقرة:216).

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي الأعزاء!

إنني محظوظ جدا لوجودي بقُربكم، وأخاطِب أحيانا خيالَكم فأجد السلوان. اعلموا أنه لو كان من المستطاع لتحمّلت جميعَ مشاقّكم وضيقكم، وبكل فخر وسرور.

فأنا أُحب لأجلكم «إسبارطة» وحواليها بترابها وحجرها، حتى إنني أقول، وسأقوله في المحافل الرسمية: لو عاقبني مسؤولو الدولة في «إسبارطة» وبرّأتني ولايةٌ أخرى لفضّلت هذه المدينة أيضا.

نعم، إنني من إسبارطة بثلاث جهات رغم أني لا أستطيع الإثبات تاريخيا، ولكن لي القناعة بأن أصلَ «سعيد» المولود في ناحية «إسباريت» قد رحل من هنا.

وكذا فإن ولاية إسبارطة قد وهبت لي من الإخوة الصادقين ما يجعلني لا أضحّي لأجل كل منهم بـ«عبد المجيد» وبـ«عبد الرحمن» بل أضحّى بسعيد وبكل امتنان ورضى.

إنني أعتقد أنه ليس هناك على الكرة الأرضية -حاليا- مَن يعاني من الضيق قلبا وروحا وفكرا أَقل من طلاب النور، لأن قلوبَهم وأرواحهم وعقولهم لا تعاني الضيق بفضل أنوار الإيمان التحقيقي. أما المصاعب المادية والمشقات الدنيوية فهم يقابلونها بصدور ملؤها الشكر والصبر لِما تعلّموه من رسائل النور أنها عابرة تافهة، حاملةٌ للثواب ووسيلةٌ لانفتاح مجال عملٍ لخدمة الإيمان وتوسعها.. فهم يُثبتون بأحوالهم أن الإيمان التحقيقي هو مبعث السعادة حتى في دار الدنيا.

نعم، إنهم يسعَون بجدٍ لتحويل هذه المشقات الفانية إلى رحمات باقية، قائلين:

«لنرَ المولى ماذا يفعل، إنما يفعله هو الأجمل».

نسأل الله الرحمن الرحيم أن يُكثر من أمثال أولئك ويجعلهم مدار شرف هذه البلاد واعتزازها وسعادتها ويرزقهم السعادة الأبدية في جنة الفردوس. آمين.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي الأعزاء الصادقين!

إن نـزول هذا القضاء الإلهي بنا -من زاوية عدالة القدر- ناشئٌ من ميلِ عددٍ من طلاب النور الجدد إلى كسب أمور دنيوية أيضا برسائل النور، مما لا ينسجم مع سر الإخلاص؛ لذا وجدوا أنفسهم أمامَ نفعيين دنيويين، منافسين لهم.

إن الحصول على رسالة كُتب أصلها قبل خمس وعشرين سنة (أي الشعاع الخامس) في مكان بعيد، والتي لم أحصل عليها إلّا مرة أو مرتين خلال ثماني سنوات، وضُيّعت في الوقت نفسه دفع أشباه العلماء إلى تقلّد طور المنافس، فبثوا الأوهام والشكوك في صفوف دوائر العدل.

وفي الوقت نفسه فقد انعكس خبر طبع رسالة «الآية الكبرى» بالحروف الجديدة -مع عدم موافقتي- بدلا من رسالة «مفتاح الإيمان» التي كنت أرغب في طبعها، ووصول نسخٍ منها إلى هنا، انعكس -هذا الخبر- على الدوائر الحكومية، فالتبست عليهم إحدى المسألتين بالأخرى. فكأن «الشعاع الخامس» قد طبع، خلافا للقوانين المدنية، مما استهول ذلك أرباب الأغراض الشخصية واستعظموه جاعلين من الحبة مائة قبة. حتى زجّونا ظلما وعدوانا في هذا المعتكف (السجن).

أما القدر الإلهي فقد ساقنا إلى هنا لنكسب به منافع. فلقد أكسبنا ثوابا عظيما أكثر مما كان يغنمه الزهادُ المنـزوون في معتكفاتهم الاختيارية. ودعانا القدرُ الإلهي إلى المدرسة اليوسفية مرة أخرى ليعلّمنا درسَ الإخلاص تعليما تاما، وليقوّم علاقاتِنا وأواصرنا مع الدنيا التي هي تافهة حقا.

إننا نقول إزاء شكوك أهل الدنيا وأوهامهم: إن «الشعاع السابع» (رسالة الآية الكبرى) من أوله إلى آخره بحث في الإيمان، فلقد التبس عليكم الأمر وانخدعتم. وإن الشعاع الخامس يختلف عنه كليا وهو رسالة خاصة وسرّيّة للغاية حتى لم يعثَر عليها عندنا رغم التحريات الدقيقة. وإن أصل هذه الرسالة قد كتب قبل عشرين سنة فنحن لا نرضى بطبعها وحدها بل ولا بإراءتها أيضا إلى أي أحد كان في الوقت الحاضر. فهي رسالة تخبر عن أحداث مستقبلية، وقد صدّقها الواقع هناك، وهي لا تتحدى أحدا.


باسمه سبحانه

مع تهنئتي لكم بعيدكم السعيد مرة أخرى، أقول: لا تتأسفوا على عدم اللقاء فيما بيننا لقاءً ظاهريا، فنحن في الحقيقة معا دائما. وستدوم هذه المعية في طريق الأبد بإذن الله. وإنني على قناعة من أن الأثوبة الأبدية التي تكسبونها في عملكم في سبيل الإيمان والفضائل والمزايا الروحية والمباهج القلبية التي تحصلون عليها تزيل الغموم والضجر الذي ينتابكم موقتا في الوقت الحاضر.

نعم، إنه لم يحصل لحد الآن نظير ما حصل لطلاب النور بمعاناتهم أقل مشاق في سبيل أعظم عمل مقدس. نعم، إن الجنة غالية ليست رخيصة، وإن إنقاذ الإيمان من قبضة الكفر المطلق الذي يمحو الحياتَينِ معا له أهميته البالغة في هذا الوقت، وحتى لو وقع شيء من المشاق فينبغي أن يجابَهَ بالشوق والشكر والصبر، إذ إن خالقنا الذي يستخدمنا في هذه الخدمة ويدفعنا إليها رحيم وحكيم. فعلينا إذن أن نستقبل كل مصيبة تنـزل بنا بالرضا والسرور والالتجاء إلى رحمته تعالى والاطمئنان إلى حكمته.

إن أحد إخواننا الأبطال قد تحمل المسؤولية الكاملة المترتبة على طبع رسالة «الآية الكبرى». أنه أظهر حقا أنه أهلٌ للفضيلة والشرف الأخروي الرفيع، باستنساخه للحزب القرآني والحزب النوري. لقد أبكتني حالتُه بكاءً ممزوجا بسرور عميق.

فلقد جلب الشعاع السابع (الآية الكبرى) الأنظار إليها، إذ المصادرة الحالية الموقتة تنطوي على حكمةِ تهيئة مجالاتٍ وفتوحات لائقة بها في المستقبل. فنحن نأمل من رحمته تعالى أن لا يُضيِّع خدماتِ ومصاريفَ أخينا المذكور ورفقائه بل يجعلها ساطعة منورة. إن الذي يُدخلكم جميعا ضمن أدعيته الواردة بصيغة المتكلم مع الغير، أمثال: «أجِرنا، وارحمنا، واحفظنا»، دون استثناء أحدٍ منكم، ويسعى على وفق دستورنا: «الاشتراك المعنوي» الذي هو بمثابةِ أجساد كثيرة وروح واحدة، ويتألم أكثر من آلامكم ومقاساتكم، وينتظر الهمة والعون والثبات والمتانة والشفاعة من شخصكم المعنوي هو:

أخوكم

 سعيد النُّورْسِيّ


أخي العزيز الصادق السيد رأفت!

إن أسئلتكم المتّسمة بالعلم، قد أصبحت مفاتيحَ لحقائق جليلة من مجموعة «المكتوبات» لكليات رسائل النور، لذا لا أقف غير مكترث بأسئلتكم. فالجواب المختصر لهذا السؤال هو:

لما كان القرآن الكريم خطبةً أزلية، يخاطب طبقات البشر كافة وطوائف أصحاب العبادة كافة، فلا بد أن يكون له من معانٍ متعددة على وفق مداركهم، وأن يتضمن معناه الكلي مراتبَ كثيرة. وقد يفضّل بعضُ المفسرين المعنى الأعم فحسب، أو المعنى الصريح وحدَه، أو الواجب فقط، أو المعنى الذي يفيد سُنَّة مؤكدة. فمثلا: يذكر أن قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبِّحْهُ﴾ (الطور:49) يبين ركعتي صلاة التهجد التي هي سنّة نبوية مهمة، واستخلص من قوله تعالى: ﴿وَاِدْبَارَ النُّجُومِ﴾ أنها سُنّة الفجر المؤكدة. والحال أن المعنى الأول له أفراد كثيرة جدا فضلا عن ذلك المعنى.

أخي! إن المحاورة معك لم تنقطع.


إخوتي الأعزاء الأوفياء:

أدّيتُ الآن صلاة الظهر، ووردتم بخاطري في أثناء الأذكار، بأن كلا منكم يحزن لتفكّره بنفسه وبأحوال أقاربه الساكنين معه. وفجأة ورد إلى القلب:

إن الذين آثروا آخرتَهم على دنياهم في السابق قد انـزووا في مغارات وصوامعَ إنقاذا لأنفسهم من آثام الحياة الاجتماعية. وذلك سعيا لكسب الآخرة سعيا خالصا، وقد قضوا حياتهم في المداومة على الرياضة الروحية.. أقول لو كان أولئك في هذا الزمان لكانوا طلابا لرسائل النور.

فلاشك أن هؤلاء -وهم تحت هذه الظروف الحالية- محتاجون أكثر من أولئك بعشر مرات، ويغنَمون من الفضائل والمزايا أكثر منهم بعشر مرات، و ينعمون بالاطمئنان أكثر منهم بعشر درجات.


إخوتي الأعزاء الميامين

سلام وافر كثير.. لقد كنا في مدينتنا سابقا نقرأ سورة «الإخلاص» ألف مرة يوم عرفة، ولكني الآن أستطيع قراءتها خمسمائة مرة قبل يوم عرفة بيوم وخمسمائة مرة يوم عرفة. فمن يستطع منكم أن يقرأها كلَها مرة واحدة فليفعل. وعلى الرغم من أنني لا ألتقيكم ولا بواحد منكم، ولكنني في أغلب الأوقات أستطيع رؤية كلا منكم وألتقيه لقاءً خاصا ضمن الدعاء وأحيانا باسمه.


إخوتي الأعزاء!

لقد تألمت في أذكار صلاة الفجر اليوم على حال «الحافظ توفيق»، إذ خطر لي أنه يعاني للمرة الثانية المشاق والعنت. ولكن خطر بالبال فجأة: هنّئه! إنه كان يرغب في أن يسحب نفسه قليلا عن المقام العظيم لرسائل النور ويتخلف عن كسب حظها العظيم لأجل حذرٍ لا نفع فيه. بيد أن قدسية عمله وعظمتَه وفّقته أيضا لاغتنام تلك الحصة العظيمة وذلك الثوابِ الجزيل. نعم، ينبغي عدم التخلف عن مثل هذا الشرف المعنوي الرفيع لأجل تعب قليل وضيق عابر.

نعم، يا إخوتي! لما كان كلُ شيء عابرا زائلا. إن كان لذةً ومتعة، تذهب دون جدوى وتخلّف حسرة وأسفا. بينما يَدَع فوائد جليلة دنيوية وأخروية إن كان تعبا وضيقا، من حيث زاوية نظر الخدمة المقدسة. حيث تنطوي على فوائد لذيذة حلوة تزيل تلك المشقات. فإني أطمئنكم بأنني راضٍ عن حالي وأتحلّى بالصبر الجميل والشكر الكامل على الرغم من أنني أكبركم سنا -سوى واحد منكم- وأكثركم معاناة ومشقات. وما الشكر على المصيبة إلّا لأجل الثواب الذي فيها، ولفوائدها الأخروية والدنيوية.

الشعاع الثاني عشر

دفاع محكمة دنيزلي

(حاشية) لقد أجرى أستاذنا بديع الزمان سعيد النورسي في دفاعه أمام محكمة «دنيزلى» بعضَ ما يلزم من الإضافة والحذف ورفعَهُ دفاعا في محكمة «أفيون» وذلك لوحدة القضية. وقد أدمج أيضا القسم الأعظم من هذا الدفاع مع دفاعه في محكمة «أفيون» وأطلق عليه اسم «الشعاع الرابع عشر» – طلاب النور.

باسمه سبحانه

أيها السادة! إنني أؤكد لكم أن الذوات الموجودين هنا إما لا تربطهم رابطة مع رسائل النور أو هناك مجرد رابطة بسيطة معها، مع أن لي العديد من الإخوة الحقيقيين بكل معاني الأخوّة التي تستطيعون تصورها. ولي على درب الحقيقة العديد من الأصدقاء الواصلين للحقيقة.

إننا أيها السادة على يقين تام لا يتزعزع بأن الموت بالنسبة لنا -بسر القرآن الكريم- ليس إعداماً أبدياً بل مذكرة تسريح.. بينما يعد هذا الموت بالنسبة لمعارضينا وبالنسبة للسائرين في درب الضلالة موتاً أكيداً وإعداماً أبدياً -إن لم يكن يؤمن بالآخرة إيماناً لا شبهة فيه-.. أو أن هذا الموت يعد بالنسبة إليه سجناً انفرادياً أبدياً ومظلماً -إن كان يؤمن بالآخرة ولكنه منغمس في حياة السفاهة والضلالة-.

إنني أسألكم: أتوجد في هذه الدنيا مسألة أكبر من مسألة الموت؟ أهناك مسألة إنسانية أهم وأكبر من هذه المسألة؟ فكيف إذن يمكن أن تستغل هذه المسألة من أجل شيء آخر؟ ومادام من المستحيل أن يكون هناك شيء آخر أهم من هذه المسألة، إذن فلِمَ أنتم منشغلون بنا هكذا؟

إننا لا ننظر إلى أشد عقوبتكم وأقصاها إلا أنها تسريح وتذكرة سفر إلى عالم النور، لذا فإننا ننتظرها بثبات كامل.. ولكننا نعلم علم اليقين أن الذين وقفوا ضدنا وأصدروا الأحكام ضدنا سيَلقون عن قريب عقابهم بالإعدام الأبدي وبالسجن الانفرادي، ذلك العقاب المرعب.. إننا نوقن ذلك وكأننا نشاهدهم في عذابهم هذا كما نشاهدكم أنتم في هذا المجلس.. إننا نشاهدهم هكذا ونتألم كثيراً من الناحية الإنسانية من أجلهم. وأنا على أتم استعداد لإثبات هذه الحقيقة المهمة والبرهنة عليها وإفحام أكبر المنكرين لها وإلزام أشد المتمردين عليها.. وأنا على أتم استعداد لقبول أي عقاب كان إن لم أقم بهذا الإثبات أوضح من الشمس في رابعة النهار وأمام أكبر علمائكم وفلاسفتكم وليس فقط أمام المختصين من هذه اللجنة الذين لا يملكون أي نصيب من العلم ومن الاختصاص، إنهم مشبعون بالحقد ولا علم لهم بالمعنويات ولا يهتمون بها.

والخلاصة: إن أمامكم طريقين: إما أن تطلقوا الحرية الكاملة لرسائل النور أو تحاولوا -إن استطعتم- أن تغلبوا الحقائق الواردة فيها وتقضوا عليها.

إنني لم أكن حتى الآن أفكر فيكم ولا في دنياكم، وما كان في نيتي أن أتفكر فيهما في المستقبل، ولكنكم اضطررتموني إلى هذا، وربما كان هذا ضرورياً لتنبيهكم وإيقاظكم، ولعل القدر الإلهي هو الذي ساقنا إلى هذا. أما نحن فإن مرشدنا هو الدستور القائل: «مَن آمن بالقدر أمِن من الكدر». لذا فقد عقدنا العزم على تحمل جميع صنوف مضايقاتكم بكل صبر..

الموقوف

سعيد النُّورْسِيّ


باسمه سبحانه

أيها السادة! إنني مقتنع تماما -نتيجة شواهد ودلائل عديدة- بأن الهجمات التي تُشن علينا ليس مبعثها الزعم القائل بأننا «نستغل الشعور الديني للإخلال بالأمن الداخلي».. كلا، ولكن ذلك الهجوم -الذي يتم تحت ذلك الغطاء الزائف- يتم في سبيل الكفر والزندقة ويستهدف إيماننا وإنهاء مساعينا وخدماتنا في سبيل هذا الإيمان ومن أجل إقرار الهدوء.. ونحن نملك أدلة وبراهين عديدة على هذا. ولنقدمْ هنا برهاناً واحداً فقط على ذلك:

لقد قرأ عشرون ألف فرد عشرين ألف نسخة من رسائل النور في غضون عشرين سنة، ورضوا بها وتقبلوها. ومع ذلك لم تقع حادثة واحدة مخلة بالأمن من قبل طلاب رسائل النور، ولم تسجِّل المراجع الرسمية أية حادثة من هذا القبيل، كما لم تستطع المحكمة السابقة ولا المحكمة الحالية العثور على مثل هذه الحادثة، علما بأن نتائج مثل هذه الدعاية القوية والمنتشرة بكثرة كان لا بد لها من الظهور في ظرف عشرين يوما بشكل حوادث ووقائع.

إذن فإن «القانون رقم 163» ليس إلّا غطاء كاذبا وزائفا يشهر ضد حرية الضمير وحرية الوجدان والعقيدة، وقانونا مطاطا يراد منه أن يشمل كل المتدينين وكل الناصحين والدعاة، ولا يريد أهل الإلحاد والزندقة إلا القيام باستغفال بعض المسؤولين الحكوميين لضربنا وتحطيمنا.

وما دامت هذه هي الحقيقة فإننا نصرخ بكل قوتنا:

أيها البائسون الذين سقطوا في درك الكفر المطلق.. يا من بعتم دينكم بدنياكم!.. اعملوا كل ما تستطيعون عمله، ولتكن دنياكم وبالاً عليكم.. وستكون.. أما نحن فقد وضعنا رؤوسنا فداءً للحقيقة القدسية التي يفتديها مئات الملايين من الأبطال برؤوسهم.. فنحن متهيئون وجاهزون لاستقبال كل أنواع عقوباتكم.. بل حتى إعدامكم.

إنّ وضْعَنا وحالنا خارج السجن -تحت هذه الظروف- أسوأ مائة مرة من حالنا داخله، ولا يبقى بعد هذا الاستبداد المطلق الموجه إلينا أيُّ نوع من أنواع الحرية.. لا الحرية العلمية ولا الحرية الوجدانية ولا الحرية الدينية.. أي لا يبقى أمام أهل الشهامة وأهل الديانة وأمام مناصري الحرية ومحبيها من سبيل إلا الموت أو الدخول إلى السجن.

أما نحن فلا يسعنا إلا أن نقول: ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾  ونعتصم بربنا ونلوذ به.

الموقوف

سعيد النُّورْسِيّ


باسمه سبحانه

السيد علي رضا رئيس المحكمة المحترم!

كي أستطيع الدفاع عن حقوقي فإنني أتقدم بطلب وبرجاء مهم:

إنني لا أعرف الحروف الجديدة، كما أن خطي في الحروف القديمة غير جيد، ثم إنهم منعوني من لقاء الآخرين ومواجهتهم، أي إنني أكاد أكون في عزلة كاملة أو في سجن انفرادي.. إلى درجةِ أنهم سحبوا مني ورقة اتهام الادعاء العام بعد ربع ساعة فقط من إعطائها لي. كما أنني لا أستطيع من الناحية المالية الاستعانة بمحام. وما قدمت لكم دفاعي إلا بعد مشقة كبيرة، ولم أستطع أن أحصل على نسخة من هذا الدفاع بالحروف الجديدة إلا بصورة سرية. وكنت قد أمليت كتابة «رسالة الثمرة» (التي هي بمثابة دفاع عن رسائل النور وبمثابة خلاصة مسلكها) لكي أقدمها إلى الادعاء العام وأرسل منها نسخة أو نسختين إلى الجهات الرسمية في «أنقرة». ولكنهم سحبوها منى ولم يعيدوها إليّ. بينما كانت الجهات العدلية في محكمة «أسكي شهر» قد قامت بإرسال آلة طابعة إليّ في السجن، فاستطعنا كتابة بضع نسخ من دفاعي بالحروف الجديدة، كما قامت المحكمة نفسها بالكتابة أيضا.

وهكذا فإن طلبي الذي أعدّه مهما، هو قيامكم بإرسال آلة طابعة، أو السماح لنا بجلب هذه الطابعة لكي يتسنى لنا القيام بطبع بضع نسخ بالحروف الجديدة من رسالة «الثمرة» التي تعد -كما قلت- بمثابة دفاع عني وعن رسائل النور، وذلك بغية إرسال نسخ منها إلى وزارة العدل وإلى مجلس الوزراء ومجلس النواب ومجلس الشورى للدولة، ذلك لأن التهم التي وجهها إليّ الادعاء العام تنحصر كلها حول رسائل النور، ولا شك أن أي دعوى حول رسائل النور وأي اعتراض عليها لا يُعدُّ شيئا هينا أو بسيطا، ولا يُعدّ مسألة شخصية غير ذات أهمية، بل هي مسألة عامة وحادثة ذات شأن كبير تهمّ هذا البلد وهذه الأمة وهذه الحكومة مما تجذب إليها باهتمام أنظار العالم الإسلامي بأسره.

إن الأصابع التي تحارب رسائل النور من خلف الأستار هي الأصابع الأجنبية التي تحاول تحطيم وكسر الود والمحبة والأخوة التي يكنها العالم الإسلامي نحو هذه الأمة في هذا الوطن. هذه المحبة والأخوة التي تعد أكبر قوة لهذه الأمة. لذا فلكي يتم تحطيم هذه المحبة وهذه الأخوة وتبديلها وتغييرها إلى بغض ونفور فإن هناك أصابع تحاول استغلال السياسة وجعلها آلة ووسيلة لتشجيع الإلحاد والكفر المطلق، وهي بذلك إنما تقوم بعملية خداع للحكومة. وقامت مرتين بعملية تضليل للعدالة عندما تقول لها: «إن طلاب رسائل النور يستغلون الدين من أجل السياسة وأن هناك احتمالا لأن يتضرر من ذلك أمن البلد».

أيها البائسون! إن رسائل النور لا علاقة لها بالسياسة، بل تقوم بتحطيم الكفر المطلق -الذي أسفلُه الفوضى وأعلاه الاستبداد المطلق- وتفتيتِه وردّه على أعقابه. وأكبرُ برهان على ذلك هو رسالة «الثمرة» التي هي بمثابة دليل واحد من بين مائة حجة ودليل على أن رسائل النور تسعى لتأسيس الأمن والنظام والحرية والعدالة في هذا البلد، لذا أَطلب تكليف هيئة علمية واجتماعية عالية لتدقيق هذه الرسالة، فإن لم تقتنع هذه الهيئة بما أقول فإنني أرضى بكل عقاب وبأي نوع من أنواع الإعدام.

الموقوف

سعيد النُّورْسِيّ


باسمه سبحانه

السيد الرئيس!

لقد تم اتخاذ ثلاثة أسس في قرار المحكمة:

المادة الأولى: الجمعية. إنني أُشهد جميع طلاب النور الموجودين هنا وجميع من قابلوني وتحدثوا إليّ وجميع من قرؤوا أو استنسخوا رسائل النور، وتستطيعون أن تسألوهم إن قلت لأيّ منهم: إننا سنشكل جمعية سياسية أو طريقة نقشبندية، بل كنت أقول دائما: إننا نحاول إنقاذ إيماننا، ولم يجرِ بيننا حديث خارج عموم أهل الإيمان وخارج الجماعة الإسلامية المقدسة التي يربو عدد أفرادها على ثلاثمائة مليون مسلم، ولم نجد لأنفسنا مكانا خارجَ ما أَطلق القرآن الكريم عليه اسم «حزب الله» الذي يَجمع تحت ظل أخوّة الإيمان جميعَ أهل الإيمان. ولأننا حصرنا جهدنا في خدمة القرآن فلا شك أننا من «حزب القرآن» ومن «حزب الله» فإن كان قرار الاتهام يشير إلى هذا فإننا نقر بذلك بكل خلجة من خلجات أرواحنا وبكل فخر واعتزاز. أما إن كان يشير إلى معانيَ أخرى فإننا لا نعلم عنها شيئا.

المادة الثانية: إن قرار الاتهام يعترف -استنادا إلى تقرير وشهادة شرطة «قسطموني»- بأن «رسالة الحجاب» و«رسالة الهجمات الست وذيلها» وجدت داخل صناديق مغلقة ومسمّرة وتحت أكوام الحطب والفحم. أي لم تكن معدة للنشر أبدا. وقد مرت من تدقيقِ ونقد محكمة «أسكي شهر» وأدّت إلى إصدار عقوبة خفيفة لي. ولكن الادعاء العام الذي أخذ بعض الجمل من هذه الرسائل وأعطى لها مفهوما ومعاني غير صحيحة، يريد أن يرجع بنا تسع سنوات إلى الوراء وأن يحمّلنا مسؤولية جديدة حول تهمةٍ سبق وأن عوقبنا من أجلها.

المادة الثالثة: ورد في قرار الاتهام وفي مواضع عدة عباراتٌ أمثال: «يمكن أن يخل بأمن الدولة». أي تم وضع الاحتمالات والإمكانات محل الوقائع الثابتة. وأنا أقول: إن من الممكن ومن المحتمل أن يقوم كل شخص باقتراف جريمة القتل، فهل يمكن إدانة كل شخص وتجريمه على أساس الاحتمال؟

الموقوف

سعيد النُّورْسِيّ


باسمه سبحانه

السيد رئيس المحكمة!

أرفق لكم طيا صورة من دفاعي الذي قدمته كعريضة إلى المراجع الرسمية في «أنقرة» وإلى رئيس الجمهورية، وكذلك الرسالة الجوابية التي أرسلَتها رئاسة الوزارة، مما يظهر مدى قبولها واهتمامها بعريضتي. وقد أدرجت في دفاعي هذا الأجوبةَ القاطعة التي ردَّت على بيان الادعاء العام المملوء بالتُّهم التي لا أساس لها من الصحة وبالأوهام التي لا مبرر لها. كما يوجد في هذا الادعاء كثير من الأقوال المبنية على مضابط الشرطة المغرضة والسطحية والتي عارضها تقرير الخبراء، وقد سبق وأن قدمت اعتراضاتي عليها والتي يمكن تلخيصها بالآتي:

كما ذكرت لكم سابقا فإنه عندما أرادت محكمة «أسكي شهر» تجريمي حسب المادة رقم 163 قلت لها:»لقد وافق 163 نائبا من نواب البرلمان للحكومة الجمهورية البالغ عددهم مائتي نائب (أي بنفس عدد المادة 163) على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لإنشاء «دار الفنون» (الجامعة) في مدينة «وان». وأن موافقتهم هذه والاهتمام الذي أبدته حكومة الجمهورية نحوي يعني إسقاط التهمة الموجهة إليّ حسب «المادة 163».

عندما قلت هذا للمحكمة قامت اللجنة الاستشارية لتلك المحكمة بتحريف ما قلته وادّعت أن 163 نائبا أجروا تحقيقا حول «سعيد» وطالبوا بمحاكمته!

وهكذا، واستنادا إلى أمثال هذه التهم الباطلة لتلك اللجنة الاستشارية يحاول الادعاء العام جعلنا مسؤولين أمام هذه التهم، بينما جاء بالإجماع قرار الهيئة المختصة ذات المستوى الرفيع من العلم، التي تشكلت بقرار من المجلس النيابي وحوّل إليها تدقيق رسائل النور ما يأتي:

«لا توجد فيما كتبه «سعيد» أو طلاب النور أية دلائل أو أمارات صريحة حول استغلال الدين أو المقدسات وجَعْلها أداة ووسيلة للإخلال بأمن الدولة أو التحريض على ذلك ولا على محاولة القيام بتشكيل جمعية ولا أية نيات أو مقاصد سيئة، ولم نجد في وسائل تخاطب طلاب النور وخطاباتهم أيةَ نيات سيئة ضد الحكومة ولا أية مقاصد لتشكيل جمعية أو طريقة صوفية. وقد تبين أنهم لا ينطلقون في حركتهم من هذا المنطلق».

كما قررت هذه الهيئة المختصة وبالإجماع كذلك على ما يأتي:

«إن تسعين بالمائة من رسائل النور لم تبتعد قيد أنملة عن مبادئ الدين وأسسه ولا عن مبادئ العلم والحقيقة، وقد كُتبت بإخلاص وبتجرد. ومن الواضح تماما أن هذه الرسائل لا تنوي استغلال الدين ولا القيام بتشكيل جمعية ولا محاولة الإخلال بأمن الدولة، كما أن الرسائل المتبادلة بين طلاب النور، أو بين طلاب النور وبين سعيد النُّورْسِيّ تحمل هذا الطابع أيضا. وباستثناء بعض الرسائل السرية (لا يتجاوز عددها عشر رسائل) التي لم تتطرق إلى مواضيع علمية. بل تحمل طابع الشكوى والألم، فقد كُتبت جميع رسائل النور إما لشرح آية أو لتوضيح معنى حديث شريف وبيانه. كما أن معظم رسائل النور كتبت لتوضيح الحقائق الدينية والإيمانية، وحول عقائد الإيمان بالله وبرسوله واليوم الآخر. ولكي تتوضح هذه الحقائق بشكل أفضل انتهجت رسائل النور أسلوب ضرب الأمثال وإيراد القصص، وقدمت رأيها العلمي وإرشاداتها ونصائحها الأخلاقية ضمن مناقب حميدة وتجارب في الحياة وقصص ذات عبر، ولا تحتوي هذه الرسائل على أي شيء يمكن أن يمس الحكومة أو المراجع الرسمية».

لذا فإننا في الحقيقة متأثرون جدا من قيام الادعاء العام بإهمال تقرير هذه الهيئة العلمية المتخصصة ذات المستوى المرموق وتركِه جانبا، والتوجه إلى التقرير القديم الناقص والمشوش والمضطرب، ثم بناء اتهاماته الغريبة استنادا إليه. لذا فإن من الطبيعي أن نرى هذا غير لائق بعدالة هذه المحكمة التي نسلم بعدالتها وإنصافها. وهذا يشبه -ولا مشاحة في الأمثال- ما جرى مع «البكطاشي» الذي قيل له: «لماذا لا تصلي؟» فأجاب: «لأنه ورد في القرآن: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلٰوةَ﴾ (النساء:43)» فقيل له: «ولكن لماذا لا تكمل قراءة الآية وهي تقول: ﴿وَاَنْتُمْ سُكَارٰى﴾ « فأجاب: «إنني لستُ حافظا للقرآن». وعلى هذا المثال تؤخذ جملة معينة من رسائل النور وتُبنى عليها الاتهامات ضدنا دون أن تُقرأ وتدقق الجمل التالية والموضِحة لها، وسترون أمثلة عديدة -حوالي أربعين مثالا- على هذا في مذكرة دفاعي التي سأقدمها لكم. وكأنموذج لهذا أقدم هذه الحادثة الطريفة:

وردت سهوا عبارة «إن رسائل النور تفسد الشعب» في مذكرة الادعاء العام في محكمة «أسكي شهر» عندما كان يشرح أثر الدروس الإيمانية لرسائل النور، ومع أن المحكمة شطبت فيما بعد هذه الجملةَ، إلّا أن أحد طلاب النور -واسمه عبد الرزاق- قال بعد مضي سنة على تلك المحكمة:

أيها الشقي! كيف يستطيع أحد أن يقول عن «إرشاد» رسائل النور «إفسادا»؟ أيقال بحق رسائل النور التي ظهرت وتأكدت قيمتُها الدينية ولم تبدر منها خلال عشرين سنة أية إساءة أو ضرر نحو الإدارة الحكومية ولا نحو أي شخص، بل قامت بإرشاد الآلاف من الشباب وتقوية إيمانهم وتقويم أخلاقهم؟ إذن فكيف تستطيع أن تصف «إرشاد» رسائل النور بأنه «إفساد»؟ ألا تخشى الله؟.. قطع الله لسانك!

إننا نحيل ما قاله مقام الادعاء العام -الذي اطلع على الأقوال المحقة لطالب النور هذا- من أن «سعيدا ينشر الفساد من حواليه».. نحيله إلى ضمائركم وإلى شعور الإنصاف في وجدانكم.ولكي يجد مقام الادعاء فرصة لغمز الدروس الاجتماعية لرسائل النور قال: «إن الوجدان هو مقامُ الدين ومكانه، فالدين لا يرتبط بالحكم ولا بالقانون، إذ عندما ارتبط بهما في السابق ظهرت الفوضى الاجتماعية».

وأنا أقول: إن الدين ليس عبارة عن الإيمان فقط، بل العمل الصالح أيضا هو الجزء الثاني من الدين، فهل يكفي الخوف من السجن أو من شرطة الحكومة لكي يبتعد مقترفو الكبائر عن الجرائم التي تسمم الحياة الاجتماعية كالقتل والزنا والسرقة والقمار ويمتنعوا عنها؟ إذن يستلزم أن نخصص لكل شخص شرطيا مراقبا لكي ترتدع النفوس اللاهية عن غيها وتبتعد عن هذه القذارات. ورسائل النور تضع مع كل شخص في كل وقت رقيبا معنويا من جهة العمل الصالح ومن جهة الإيمان، وعندما يتذكر الإنسان سجن جهنم والغضب الإلهي فإنه يستطيع تجنب السوء والمعصية بسهولة..

وقد بيّن الادعاء العام أمارة لا معنى لها عندما أَبرز أسماء الموقعين على التوافقات الظاهرة في إحدى الرسائل، وقال: إنهم أفراد جمعية! فيا ترى هل يمكن إعطاء اسم الجمعية على أصحاب التواقيع الموجودة في سجلات أصحاب المحلات والدكاكين؟. ولقد حدث وهمٌ شبيه بهذا في محكمة «أسكي شهر» وأجبت عنه أيضا.. فلو كانت هناك جمعية دنيوية فيما بيننا، لكان المتضررون بسببي ينفرون مني نفورا شديدا ويهربون. ولكن مثلما لي ولنا ارتباط لا ينفصم مع «الإمام الغزالي»، حيث إنها رابطة أخروية لا دنيوية، كذلك هؤلاء الأبرياء المتدينون لهم رابطة قوية بهذا الضعيف لأجل ما تلقوا من دروس إيمانية. ومن هنا نشأ ذلك الوهم «جمعية سياسية».كلمتي الأخيرة:

 ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾

 الموقوف في السجن الانفرادي

سعيد النُّورْسِيّ

الشعاع الحادي عشر

ثمرة من ثمار سجن دنيزلي

هذه الرسالة: دفاع الإيمان ترفعه رسائل النور لصدّ الزندقة والكفر المطلق، فليس لنا دفاعٌ حقيقي عن قضيتنا -في سجننا هذا- إلّا هذا الدفاع، فنحن لا نسعى إلّا للإيمان.

وهي خاطرةُ ثمرة أثمرها سجنُ «دنيزلي» في يومين من أيام الجُمَع المباركة.

سعيد النُّورْسِيّ


رسالة الثمرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنينَ﴾ (يوسف:42)

نفهم من أسرار هذه الآية الكريمة أن يوسف عليه السلام هو قدوة المسجونين ورائدُهم. فيصبح السجن إذن نوعا من «مدرسة يوسفية». وحيث إن عددا غفيرا من طلاب النور قد دخلوا هذه المدرسة مرتين، لذا ينبغي لهم أن يتدارسوا ويدرّسوا قسما من خلاصة المسائل الإيمانية التي أثبتتها رسائل النور ولها مساس بالسجن، للاسترشاد بها ولتقويم الأخلاق والسلوك في هذه المدرسة المفتوحة لتلقي التربية.وها نحن أُولاء نبيّن بضعا من تلك الخلاصات.

سعيد النُّورْسِيّ


 المسألة الأولى

يمكن تلخيص هذه المسألة التي تم إيضاحُها في «الكلمة الرابعة» كما يأتي:

إن رأس مال حياتنا هو هذه الساعات الأربع والعشرون التي يحملها إلينا اليومُ نعمةً خالصة من نِعَم خالقنا الكريم جل جلاله، لنكسب بكل ساعة من هذه الساعات ما يلزمنا، وما هو ضروري في حياتَينا كلتيهما الدنيوية والأخروية.

وما لم نصرِف ساعةً واحدة -وهي كافية لأداء الصلوات المفروضة- لحياتنا الأخروية الخالدة، بينما نصرف ثلاثا وعشرين ساعة في سبيل هذه الحياة الدنيا القصيرة، نكون قد ارتكبنا خطأً جسيما لا يستصوبُه عقلٌ سليم. فلا جرم أننا نعاني نتيجةَ هذا الخطأ الفادح غلظةَ القلب وقسوته، وانقباضَ الروح وظلمتها، المؤدية بمجموعها إلى تعكير صفو الأخلاق، وتلّوث نقاوة الروح.. وفوق هذا تمضي حياتُنا رتيبة مملّة يائسة خاوية المعنى. فيصيبنا الضجَرُ، فلا نكاد نفيد من دروس هذه المدرسة اليوسفية، ومن محنة الامتحان والابتلاء ما يربينا ويرقى بنا، فنخسر بهذا خسرانا مبينا.

أما إذا صرفنا ساعةً واحدة في أداء الصلوات الخمس، فكل ساعة من ساعات الابتلاء وأوقات المحن تتحول إلى يوم من العبادة، فكأن الساعات الفانية قد اكتسبت -ببركة هذه الساعة- صفةَ الخلود، وأصبحت في حكم ساعات أبدية باقية.. فتنـزاح عن القلب سحُبُ اليأس ويتبدد عن الروح ظلامُ القنوط.. وتصبح هذه الساعة من العبادة كفّارةً لبعض ما ارتُكب من أخطاء وذنوب، ربما كانت السببَ في الدخول إلى السجن.. وبذلك نكتشف حكمةَ ابتلائنا بالسجن ويغدو السجنُ مدرسةً نتلقى فيها الدروس النافعة.. ونجد فيه مع إخوتنا في المصيبة والبلاء العزاءَ والسلوان.

وقد ذُكر في «الكلمة الرابعة» أيضا مثالٌ يبين فداحةَ الخسارة التي تصيب مَن يلهث وراء حظه من الدنيا ويعزف عن الآخرة وهو:

هناك من يدفع خمسا أو عشرا من أربع وعشرين ليرة يملكها في شراء بطاقة قمار اليانصيب -ربما يكون احتمال الفوز بها واحدا من ألف لوجود ألف من المشتركين معه- بينما لا يصرف واحدا من أربع وعشرين ساعة يملكها في شراء بطاقة تربّحه كنـزا خالدا أخرويا. علما أنَّ احتمال الفوز بها -للمؤمنين الذين خُتمت أعمالُهم بالحسنى- هو بيقينِ تسعٍ وتسعين وتسعمائة من ألف. كما أكد ذلك جميعُ الأنبياء والرسل الكرام عليهم السلام، وصدّقهم -كشفاً وتحقيقا- الأولياءُ والأصفياء الذين لا يحصرهم العد.

فهذا الدرس البليغ من رسائل النور ينبغي أن يرتاح إليه مسؤولو السجن وكلُّ مَن يعنيه أمر البلاد وشؤونها. لأنه قد ثبت بالتجربة: أن إدارة ألفٍ من المؤمنين المشفقين من عذابِ سجنِ جهنم والمستجيرين بالله منها، هي أسهل بكثير من إدارة عشرة من تاركي الصلاة، ومن فاسدي العقيدة والأخلاق، الذين لا يرتدعون إلّا بعقاب الدنيا وسجنها ولا يميزون الحلال عن الحرام.


خلاصة المسألة الثانية

مثلما بينَت رسالةُ «مرشد الشباب» ووضّحتْها إيضاحا جميلا من أن الموت لا مفرّ منه أبدا، بل إن مجيئه أيقنُ من مجيء الليل لهذا النهار، ومن تعاقب الشتاء لهذا الخريف. وكما أن هذا السجن مضيفٌ مؤقت لا يكاد يفرغ حتى يُملأ من جديد، فالدنيا كذلك كالفندق، وكمنـزل حِلٍّ وترحال مُقام على طريق القوافل المسرعة.

فالموت الذي يفرغ كلَ مدينة من سكانها مائةَ مرة، ويدفع بهم إلى المقابر لابد أنه يطلب شيئا أكثرَ من هذه الحياة الفانية وأعظمَ رفعة منها.

ولقد حلّت رسائل النور لغز هذه الحقيقة المدهشة، وكشفَتها، وخلاصتها هي:

مادام الموت لا يُقتل، وبابُ القبر لا يُغلق، فإن أعظم ما سيشغل بال الإنسان ويشكّل أكبرَ معضلة له هو النجاة من يد جلاد الموت هذا والخلاص من سجن القبر المنفرد.

ولقد أثبتت رسائل النور إثباتا جازما -بفيض من نور القرآن الكريم- أنَّ لهذه المعضلة علاجا، وخلاصته هي: أن الموت إما هو إعدام أبدي، وفناءٌ تام يصيب المرءَ وأحبته، وذوي قرباه جميعا؛ أو هو تسريح من العمل للذهاب إلى عالم آخر أفضل، وجواز سفر للدخول إلى قصور السعادة بشهادة الإيمان ووثيقته.. أما القبر فهو إما سجن انفرادي مُظلم وبئر سحيقة، أو هو باب إلى روضات خالدة ومَضيف منوّر بعد السراح من سجن الدنيا.

وقد أثبتت رسالة «مرشد الشباب» هذه الحقيقةَ بمثال وهو: أنه نُصبت في فناء هذا السجن أعوادُ مشانقَ تستند على جدار، خلفه دائرةٌ عظيمة تمنح جوائز سخية يشترك فيها الناس كلُهم. ونحن المساجين الخمسمائة ننتظر دورَنا، لنُدعى إلى ذلك الميدان، فسنُدعى إليه فردا فردا شئنا أم أبينا، فلا نجاة! فإما إنه سيُقال لكل منّا: «تعال تسلّم أمر اعدامك واصعد المشنقة». أو: «تسلّم أمر السجن الانفرادي الأبدي وادخله من هذا الباب المفتوح». أو يُقال: «بشراك! فقد فزت ببطاقة تربّحك ملايين الليرات الذهبية، هيا خذها».

فها نحن أولاء نشاهد إعلانات هذه الدعوة منتشرة هنا وهناك ونرى أناسا يصعدون المشانق بالتعاقب ومنهم مَن يتدلى، ومنهم مَن يتخذها دَرَجا وسلّما للبلوغ إلى دائرة الجوائز الواقعة خلفَها، وقد أصبحنا على يقين جازم بما يدور في تلك الدائرة -كأننا نراه رأيَ العين- استنادا إلى ما يرويه كبارُ موظفي تلك الدائرة من روايات صادقة لا تقبل الشك.

دخلتْ سجنَنا -في هذه الأثناء- طائفتان، تحمل إحداهما آلات الطرب وقناني الخمر مع حلويات، ظاهرها العسل وباطنها السموم، دسّتها شياطينُ الإنس، وهم يقدمونها إلينا ويرغّبوننا في تناولها. أما الجماعة الثانية ففي أيديهم كتب تربوية ومنشورات أخلاقية مع مأكولات طيبة ومشروبات مباركة، يقدمونها هدايا لنا، ويذكرون لنا بالاتفاق والاطمئنان الكامل واليقين التام:

أنَّ ما تقدمه الطائفةُ الأولى لكم من مأكولات ما هي إلّا للامتحان والاختبار، فإذا ما قبلتموها ورضيتم بها فسيكون مصيرُكم كما هو ماثل أمامكم في المشانق. أما إذا رضيتم بهدايانا -التي نقدّمها إليكم باسم حاكم هذه البلاد وبأمره- وتلوتُم ما في تلك الكتب من تعليمات وأذكار فستنجون من الإعدام وتستلمون بطاقة الجائزة من تلك الدائرة، لتفوزوا بالربح العظيم، هدية من السلطان وكرما منه وفضلا. صدِّقوا بما نقوله لكم واعتقِدوا به اعتقادا راسخا كأنكم ترونه في وضح النهار.. ولكن حذار من تلك الحلوى المعسّلة -المحرّمة أو المُريبة- فلو أكلتم منها تلوّت بطونُكم بمغصٍ شديدٍ من أثر السموم، فتقاسون منها الآلام لحين صعودكم المشانق.

وهكذا على غرار هذا المثال، سيَهب القدرُ الإلهي للمؤمنين الذين قضوا حياتهم بالطاعة، وختمت أعمالُهم بالحسنى خزائنَ أبدية لا تنضُب بعد أن ينتهي أجلُهم في الدنيا. أما أولئك المتمادون في الضلالة والفسق من دون أن يثوبوا إلى ربهم فسيُعدَمون إعداما نهائيا (لمن لا يؤمن بالآخرة) أو يزجّون في سجن انفرادي مظلم أبدي (لمن يتمادى في غيّه وسفهه مع إيمانه ببقاء الروح). فهؤلاء يتسلمون قرار شقائهم الأبدي بيقين يبلغ تسعا وتسعين بالمائة. نعم، يخبر بهذا الخبر الصادق مائةٌ وأربعة وعشرون ألفا من الأنبياء عليهم السلام، وبين أيديهم معجزات تصدقهم، ويخبر أكثر من مائة وأربعة وعشرين مليونا من الأولياء قدس الله أسرارهم المقتفين آثار الأنبياء والمصدّقين بما أُخبروا به كشفا وذوقا، ويُخبر به كذلك مَن لا يحصيهم العدّ من العلماء المحققين (حاشية) إن أحد أولئك العلماء المحققين هو: رسائل النور التي ألجمت أعتى الفلاسفة الماديين، وأفحمت أشد الزنادقة تمردا، طوال العشرين سنة التي خلت، وما تزال قائمة على قدم وساق في ميدان التحدي والمبارزة، وهي في متناول الجميع، فبوسع أي واحد قراءتها دون تفنيدها. والمجتهدين والصديقين الذين أثبتوا دعواهم وتصديقهم عقلا وفكرا بالبراهين الدامغة والحجج القاطعة، فأخبروا يقينا ما أخبر به أولئك الأفذاذُ من تلكما الطائفتين. فهؤلاء الطوائف الثلاث العظيمة والجماعات الغفيرة من أهل الحق والحقيقة -وهم روّاد الإنسانية وشموسُ البشرية وأقمارها- يخبرون جميعا بتلك الحقيقة إجماعا وتواترا.. فيا خسارة من لا يهتم بأوامرهم، ولا يسلك الصراط السوي المؤدي إلى السعادة الأبدية بإرشاداتهم، ولا يكترث بمصيره المؤلم -وهو بيقين يبلغ تسعا وتسعين بالمائة- في حين أنه لا يسلك طريقا فيه احتمال واحد من الخطورة واستنادا على قول مخبر واحد، بل يستبدل به طريقا آخر ولو كان أطول.

فهؤلاء أشبه بسكِّيرٍ أو معتوهٍ شقي يلتهي بلَسع الذباب عن انقضاض وحوش كاسرة عليه، إذ قد فَقَد عقلَه وأضاع قلبه وأفسد روحه ودمّر إنسانيته؛ لأنه رغم التبليغات الصادقة الصادرة من أولئك المخبرين الذين لا يحصرهم العدّ فقد ترك الطريق الأقصر والأسهل المؤدي إلى الفوز المحقق بالجنة والسعادة الأبدية، واختار طريقا أطول منه وأوعر وأضيق، والذي يؤدي به إلى سجنِ جهنم والشقاء الأبدي حتما.

بينما الإنسان -كما قلنا- لا يلِج طريقا قصيرا في الدنيا فيه احتمال واحد بالمائة من الخطورة، أو فيه سجن شهر واحد وبناءً على كلام مُخبر واحد، وقد يكون كاذبا. بل يفضِّل عليه طريقا آخر ولو كان طويلا، أو من دون نفع، وذلك لمجرد خلوه من الضرر.

فما دامت حقيقة الأمر هذه، فينبغي لنا نحن معاشر المبتلين بالسجن أن نَقبل بكل رضى وسرور هدايا الطائفة الثانية لنثأر لأنفسنا من مصيبة السجن؛ إذ كما أن لذةَ دقيقة في الانتقام، ومتعةَ بضع دقائق أو ساعات في السفاهة قد زَجّت بنا إلى السجن، فيقضي فيه بعضُنا خمس عشرة سنة، والبعض الآخر عشر سنوات، وآخرون خمس سنوات، أو سنة أو سنتين أو ثلاثا من الأحكام.. فعلينا إذن -وأنفُ السجن راغم- أن نحوّل بقبولنا هدايا القافلة الثانية، هذه الساعاتِ القليلةَ إلى أيام من العبادة مثلها، ونحوّل سنتين أو ثلاثا من عقابنا إلى عشرين وثلاثين سنة من العمر الخالد. ونبدل بعشرين سنة أو ثلاثين سنة من مكوثنا في السجن ملايين السنوات الخالدة. فتكون الأحكام الصادرة علينا وسيلةَ نجاة من سجن جهنم. وحينها تبتسم حياتنا الأخرى وتُسَرّ إزاء بكاء دنيانا وحزنها. ونكون بذلك قد ثأرنا لأنفسنا من تلك المحنة وأظهرنا حقا أن السجن مدرسة تربوية لتقويم الأخلاق.

فليشاهد مسؤولو السجن ومن يتولون أمره، أن من ظنّوهم مجرمين قتلَة، وحسبوهم سفهاء مخلّين بالنظام، قد أصبحوا طلابَ مدرسة تربوية مباركة يتعلمون فيها الأدب الجميل والخلق القويم، وغدوا أعضاء نافعين للبلاد والعباد.. فليشكروا ربهم أجزل شكر.

الشعاع العاشر

الشعاع العاشر

 

عبارة عن رسالة «الفهرس» اعتبارا من «اللمعة الخامسة عشرة». نظّمه طلاب النور الأوائل، وأُدرج كلٌ في موضعه من المجموعات.

الشعاع التاسع

القطعة الأولى من لاحقة «الكلمة العاشرة» وذيلها المهم

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 ﴿فَسُبْحَانَ اللّٰهِ حينَ تُمْسُونَ وَحينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَعَشِيًّا وَحينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِهٓ اَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ اِذَٓا اَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِهٓ اَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ اَنْفُسِكُمْ اَزْوَاجًا لِتَسْكُنُٓوا اِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِه خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِلْعَالِمينَ * وَمِنْ اٰيَاتِه مَنَامُكُمْ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَٓاؤُ۬كُمْ مِنْ فَضْلِه اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ اٰيَاتِه يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَيُحْي بِهِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ في ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾(الروم:17-27).

سنُبيّن في هذا «الشعاع التاسع» برهانا قويا، وحجةً كبرى، لما تبينه هذه الآيات الكريمة من محور الإيمان وقطبه، وهو الحشر، ومن البراهين السامية المقدسة الدالة عليه.

وإنه لعناية ربانية لطيفة أَنْ كَتَبَ «سعيد القديم» قبل ثلاثين سنة في ختام مؤلَّفه «محاكمات» الذي كتبه مقدمة لتفسير «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» ما يأتي:

المقصد الثاني:  سوف يفسر آيتين تبيّنان الحشر وتشيران إليه.

ولكنه ابتدأ بـ: «نخو بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم». وتوقف، ولم تتح له الكتابة.

فألف شكر وشكر للخالق الكريم وبعدد دلائل الحشر وأماراته أن وفّقني لبيان ذلك التفسير بعد ثلاثين سنة. فأنعمَ سبحانه وتعالى عليّ بتفسير الآية الأولى:

﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰى وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ (الروم:50) وذلك قبل نحو عشر سنوات، فأصبحت «الكلمة العاشرة» و«الكلمة التاسعة والعشرين» وهما حجتان ساطعتان قويتان أخرستا المنكرين الجاحدين..

وبعد حوالي عشر سنوات من بيان ذلك الحصن الحصين للحشر، أفاض عليَّ سبحانه وتعالى وأنعم بتفسير الآيات المتصدرة لهذا الشعاع، فكان هذه الرسالة.

فهذا «الشعاع التاسع» عبارة عن تسعة مقامات سامية مما أشارت إليها الآيات الكريمة مع مقدمة مهمة.


المقدمة

هذه المقدمة نقطتان: سنذكر أولا وباختصار نتيجةً واحدة جامعة من بين النتائج الحياتية والفوائد الروحية لعقيدة الحشر، مبينين مدى ضرورة هذه العقيدة للحياة الإنسانية ولاسيما الاجتماعية.ونورد كذلك حجة كلية واحدة -من بين الحجج العديدة لعقيدة الإيمان بالحشر- مبينين أيضا مدى بداهتها ووضوحها حيث لا يداخلها ريب ولا شبهة.

النقطة الأولى

سنشير إلى أربعة أدلة على سبيل المثال وكنموذج قياسي من بين مئات الأدلة على أن عقيدة الآخرة هي أس الأساس لحياة الإنسان الاجتماعية والفردية، وأساس جميع كمالاته ومُثله وسعادته.

الدليل الأول: إن الأطفال الذين يمثلون نصف البشرية، لا يمكنهم أن يتحمّلوا تلك الحالات التي تبدو مؤلمةً ومفجعة أمامَهم من حالات الموت والوفاة إلّا بما يجدونه في أنفسهم وكيانهم الرقيق اللطيف من القوة المعنوية الناشئة من «الإيمان بالجنة»، ذلك الإيمان الذي يفتح باب الأمل المشرق أمام طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكي لأدنى سبب. فيتمكنون به من العيش بهناء وفرح وسرور. فيحاور الطفلُ المؤمنُ بالجنة نفسَه: «أنَّ أخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي، أصبح الآن طيرا من طيور الجنة، فهو إذن يسرح من الجنة حيث يشاء، ويعيش أفضل وأهنأ منّا». وإلّا فلولا هذا الإيمان بالجنة لهدم الموتُ الذي يصيب أطفالا أمثاله -وكذلك الكبار- تلك القوة المعنوية لهؤلاء الذين لا حيلة لهم ولا قوة، ولحطّم نفسياتهم، ولدمّر حياتهم ونغَصها فتبكي عندئذٍ جميع جوارحهم ولطائفهم من روح وقلب وعقل مع بكاء عيونهم. فإما أن تموت أحاسيسهم وتغلُظ مشاعرهم أو يصبحوا كالحيوانات الضالة التعسة.

الدليل الثاني: إن الشيوخ الذين هم نصف البشرية، إنما يتحملون ويصبرون وهم على شفير القبر بـ«الإيمان بالآخرة». ولا يجدون الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم، ولا من انغلاق باب دنياهم الحلوة الجميلة في وجوههم إلّا في ذلك الإيمان. فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالأطفال وأصبحوا مرهفي الحس في أرواحهم وطبائعهم، إنما يقابِلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشيء من الموت والزوال، ويصبرون عليه بالأمل في الحياة الآخرة. وإلّا فلولا هذا الإيمان بالآخرة لشعر هؤلاء الآباء والأمهات -الذين هم أجدر بالشفقة والرأفة والذين هم في أشد الحاجة إلى الاطمئنان والسكينة والحياة الهادئة- ضراما روحيا واضطرابا نفسيا وقلقا قلبيا، ولضاقت عليهم الدنيا بما رحبت، ولتحولت سجنا مظلما رهيبا، ولانقلبت الحياة إلى عذاب أليم قاسٍ.

الدليل الثالث: إن الشباب والمراهقين الذين يمثلون محور الحياة الاجتماعية لا يهدّئ فورةَ مشاعرهم، ولا يمنعهم من تجاوز الحدود إلى الظلم والتخريب، ولا يمنع طيش أنفسهم ونزواتها، ولا يؤمّن السيرَ الأفضل في علاقاتهم الاجتماعية إلّا الخوفُ من نار جهنم. فلولا هذا الخوف من عذاب جهنم لقلَّب هؤلاء المراهقون الطائشون الثملون بأهوائهم الدنيا إلى جحيم تتأجج على الضعفاء والعجائز، حيث «الحُكم للغالب» ولحوّلوا الحياة الإنسانية السامية إلى حياة حيوانية سافلة.

الدليل الرابع: إن الحياة العائلية هي مركزُ تجمّعِ الحياة الدنيوية ولولبها وهي جنة سعادتها وقلعتها الحصينة وملجأها الأمين. وإن بيت كل فرد هو عالمَه ودنياه الخاصة. فلا سعادة لروح الحياة العائلية إلّا بالاحترام المتبادل الجاد والوفاء الخالص بين الجميع، والرأفة الصادقة والرحمة التي تصل إلى حد التضحية والإيثار. ولا يحصل هذا الاحترام الخالص والرحمة المتبادَلة الوفية إلّا بالإيمان بوجودِ علاقاتِ صداقة أبدية، ورفقةٍ دائمة، ومعيّة سرمدية، في زمن لا نهاية له، وتحت ظلِ حياة لا حدود لها، تربطها علاقاتُ أبوّةٍ محترمة مرموقة، وأخوةٍ خالصة نقية، وصداقةٍ وفيّة نزيهة، حيث يحدّث الزوجُ نفسه: «إن زوجتي هذه رفيقة حياتي وصاحبتي في عالم الأبد والحياة الخالدة، فلا ضير إن أصبحت الآن دميمة أو عجوزا، إذ إن لها جمالا أبديا سيأتي، لذا فأنا مستعد لتقديم أقصى ما يستوجبه الوفاء والرأفة، وأضحّي بكل ما تتطلبه تلك الصداقة الدائمة».. وهكذا يمكن أن يُكنّ هذا الرجل حبا ورحمة لزوجته العجوز كما يكنّه للحور العين. وإلّا فإنّ صحبة وصداقة صورية تستغرق ساعة أو ساعتين ومن ثم يعقبها فراق أبدي ومفارقة دائمة لهي صحبة وصداقة ظاهرية لا أساس لها ولا سند. ولا يمكنها أن تعطي إلّا رحمةً مجازية، واحتراما مصطنعا، وعطفا حيوانيَّ المشاعرِ، فضلا عن تدخُل المصالح والشهوات النفسانية وسيطرتها على تلك الرحمة والاحترام فتنقلب عندئذٍ تلك الجنة الدنيوية إلى جحيم لا يطاق.

وهكذا فإن نتيجة واحدة للإيمان بالحشر من بين مئات النتائج تتعلق بالحياة الاجتماعية للإنسان وتعود إليها، والتي لها مئات الأوجه والفوائد، إذا ما قيست على تلك الدلائل الأربعة المذكورة آنفا، يُدرك أن وقوع حقيقة الحشر وتحققَها قطعي كقطعية ثبوت حقيقة الإنسان السامية وحاجاته الكلية. بل هي أظهر دلالة من حاجة المعدة إلى الأطعمة والأغذية، وأوضح شهادةً منها. ويمكن أن يقدّر مدى تحققها تحققا أعمق وأكثر إذا ما سلبت الإنسانية من هذه الحقيقة (الحشر)،حيث تصبح ماهيتها التي هي سامية ومهمة وحيوية بمثابة جيفة نتنة ومأوى الميكروبات والجراثيم.

فليلق السمعَ علماءُ الاجتماع والسياسة والأخلاق من المعنيين بشؤون الإنسان وأخلاقه واجتماعه، وليأتوا ويبينوا بماذا سيملأون هذا الفراغ؟ وبماذا سيداوون ويضمدون هذه الجروح الغائرة العميقة؟!

الشعاع السابع

الآية الكبرى

تنبيه مهم وإيضاح

على الرغم من أهمية هذه الرسالة وعظيم شأنها، لا يفهم كلُّ شخص، كلَّ مسألة من مسائلها. ولكن لا يبقى دون حظٍ منها. فالذي يدخل بستانا عظيما ولا تصل يدُه إلى جميع ثماره، فحسبُه ما نالَه منها؛ إذ البستان لم يخصّص له وحده، بل لذوي الأيدي الطويلة حصتُهم وحظُّهم كذلك.

وهناك خمسة أسباب تعيق فهم هذه الرسالة:

أولها: أنني كتبت مشاهداتي كما تراءت لي وفق فهمي، كتبتُها لنفسي، فهي لم تكتب شأن الرسائل الأخرى بمستوى فهم الآخرين ومدى تلقيهم.

ثانيها: أن التوحيد الحقيقي قد كُتب في صورته العظمى، بفيض تجلي «الاسم الأعظم»، فأصبحت مسائلُه واسعةً جدا، وعميقةً جدا، وطويلة جدا؛ لذا لا يتمكن كل شخص أن يحيط بها مباشرة ولأول وهلة.

ثالثها: أن كل مسألة من مسائلها بحدّ ذاتها حقيقةٌ كبرى طويلة -وحفاظا على وحدة الحقيقة وعدم تجزئتها- قد تصبح الصحيفةُ الواحدة جملةً مطولة واحدة، فهناك مقدمات كثيرة تورَد بمثابة دليل واحد فقط.

رابعها: أن كل مسألة -من أغلب المسائل التي تعالجها هذه الرسالة- لها أدلتها الكثيرة، وحُججها الوفيرة، فعند القيام بضم عشرة أدلة أو عشرين أحيانا لسَوقها برهانا واحدا تكون المسألة طويلة، لا تسعها المداركُ القصيرة.

خامسها: لقد تعرّضتُ لأنوار هذه الرسالة بفيوضاتِ شهر رمضان المبارك ونفحاته، إلّا أنها كُتبت على عجل، واكتفيت بالمسودة الأولى؛ لِمَا كنت أعانيه من الأسقام ومتاعبِ المضايقات من مختلف الجهات، وكنت أشعر عند كتابتها أنها تَرِد إلى القلب دون اختيار مني ولا إرادة، فلم أرَ من اللائق أن أمسها بشيء من التنظيم أو التشذيب حسب تفكيري؛ لذا أَخَذَتْ الرسالةُ هذا الشكل الذي يستشكل على الفهم. فضلا عما أُدرج فيها من فقرات المقام الأول الذي كتب باللغة العربية.

ولكن رغم هذه الأسباب الخمسة التي هي مدارُ القصور والإشكال فالرسالة ذات أهمية عظيمة.

فهذه الرسالة التي هي حقيقةٌ من حقائق «الآية الكبرى» وتفسير لها، هي الشعاع السابع والحجة الإيمانية الأولى من «مجموعة عصا موسى».

يتكون هذا الشعاع من مقامين، مع مقدمة توضح أربع مسائل مهمة:

المقام الأول: يبين باللغة العربية تفسير الآية الكبرى.

والمقام الثاني: يبين براهين المقام الأول ويوضحها ويثبتها.

إن طول المقدمة الآتية، وتوضيحَها المسهب، كان بدون اختيار مني، فهناك إذن حاجة أن أُملي عليّ هكذا، وقد يرى البعض طولَها قصرا.

سعيد النُّورْسِيّ


المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْاِنْسَ اِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56)

يُفهم من أسرار هذه الآية الجليلة: أن حكمة مجيء الإنسان إلى هذه الدنيا والغايةَ منه، هي معرفةُ خالق الكون سبحانه، والإيمانُ به، والقيامُ بعبادته. كما أن وظيفة فطرته، وفريضة ذمَّته، هي معرفةُ الله، والإيمانُ به، والتصديق بوجوده وبوحدانيته إذعانا ويقينا.

نعم، إن الإنسان الضعيف الذي يَنشد -فطرةً- الحياةَ الدائمة الخالدة والعيشَ الأبدي الرغيد، والذي له آمال بلا حدود وآلام بلا نهاية، لابد أن تكون جميعُ الأشياء والكمالات هابطةً تافهة بالنسبة إليه، بل ليس لأكثرها أيةُ قيمة تُذكر، ما عدا الإيمان بالله ومعرفته، وما عدا الوسائل التي تأخذ بيده إلى ذلك الإيمان الذي هو أس الأساس لتلك الحياة الأبدية ومفتاحُها.

ولما كانت رسائل النور قد أَثبتت هذه الحقيقةَ بوضوح تام وببراهين قاطعة، نحيل إليها، مبينين هنا ورطتين تزعزعان ذلك اليقينَ الإيماني في هذا العصر، وتؤديان إلى الحيرة والتردد، وذلك ضمن «مسائل أربع»:

الورطة الأولى وسبيل النجاة منها مسألتان:

المسألة الأولى: مثلما أُثبت في «اللمعة الثالثة عشرة» من «المكتوب الحادي والثلاثين» بالتفصيل أنه: «لا قيمة للنفي في المسائل العامة أمام الإثبات، فحكمُه ضعيف وهزيل».

مثال ذلك: إذا أثبت شاهدان من عامة الناس رؤيةَ الهلال في أول شهر رمضان، ونَفَى الرؤيةَ آلافٌ من الوجهاء والعلماء قائلين: «إننا لم نرَ الهلال». فإن نفيهم هذا يبقى غيرَ ذي قيمة أو أهمية؛ ذلك لأن بـ«الإثبات» يؤازر الواحدُ الآخرَ ويقويه، ففيه تساند واجتماع. بينما «النفي» لا فرق فيه أن يكون صادرا من شخص واحد أو من ألف شخص؛ إذ النافي منفردٌ باعتبار أنه وحده الذي ينفي. ذلك لأن المُثبِت ينظر إلى الأمر نفسه ثم يُصدِر حكمَه، كما هو الحال في مثالنا، إذا قال أحدهم: هو ذا الهلال في السماء؛ فإن الآخر يصدّقه ويؤيده مشيرا إلى المكان نفسه، فيشتركان في النظر إلى المكان نفسه، فيتساندان، ويَقوَى حكمُهما ويرسخ. أما في النفي والإنكار فالنافي لا ينظر إلى الأمر نفسه ولا يسعه ذلك، لذا أصبحت القاعدةُ: «لا يمكن إثبات النفي غيرِ الخاص وغيرِ المحددِ مكانُه» قاعدةً مشهورة.

مثال ذلك: إذا أثبتُّ لك وجود شيء معين في الدنيا، وأنكرتَ أنت وجوده في الدنيا. فينبغي لك أن تقوم بالبحث والتحري عنه في أرجاء الدنيا كافة لتُثبت عدمَ وجود ذلك الشيء الذي أتمكن بنفسي أن أُثبته بمنتهى السهولة وبإيماءة بسيطة مني إليه، بل عليك أن تغوص أيضا في أعماق الأزمنة الغابرة، حتى تستطيع أن تقول: «لا يوجد فعلا… لم تحدث حادثة كهذه!».

ولما كان النافون والمنكِرون لا ينظرون إلى الأمر بذاته، وإنما يُصدرون أحكامهم حسب أنفسهم، ووفق عقولهم ونظراتهم؛ لذا لا يمكن أن يساند أحدُهم الآخرَ وأن يكون ظهيرا له؛ ذلك لأن حُجُب الرؤية مختلفة لديهم، والأسبابَ المانعة للمعرفة متنوعة عندهم. إذ يستطيع كل شخص أن يقول: «إنني لا أرى الشيء الفلاني».. «وعندي أنه غير موجود».. «وباعتقادي أنه لا يوجد».. ولكنه لا يمكنه أن يقول: «إنه فعلا لا يوجد». وإذا قال بهذا النفي -وبخاصة في المسائل الإيمانية التي تشمل الكون كله- فإن كلامه يكون إفكا عظيما وكذبا كبيرا بكبر الدنيا، ولن يكون صدقا قط ولا يمكن أن يُستصوب أو يقوّم أبدا.

نخلص مما تقدم: أنَّ النتيجة في الإثبات واحدة، وأن فيه تساندا، أما في النفي فالنتيجةُ ليست واحدة بل متعددة، إذ القيود: «عندي».. «في نظري».. «وباعتقادي».. وأمثالها من الأسباب التي تحجب الرؤيةَ الصحيحة تتعدد وتختلف باختلاف الأشخاص؛ لذا تأتي النتائج متعددة أيضا، ومتفرقة، فلا يحصل التساند مطلقا.

وهكذا، انطلاقا من هذه الحقيقة: لا قيمة أو أهمية للكثرة الظاهرة للكفار والمنكرين الذين يصدّون عن الإيمان.. ولكن، في الوقت الذي لا ينبغي أن يتأثر يقينُ المؤمن ولا يُشاب إيمانُه بأي نوع من أنواع الشك والتردد، نرى أن ما يثيره فلاسفة أوروبا من شبهات وجحود في هذا العصر قد جلب الحيرة إلى بعض المنكوبين المفتونين بهم، فأزال يقينَهم وأباد سعادتهم الأبدية وأوقعهم في شقاء وتعاسة؛ ذلك لأن إنكارهم هذا حوّل معنى «الموت» الذي يصيب يوميا ثلاثين ألفا من الناس من معناه الحقيقي الذي هو إنهاء وظيفة الإنسان على الأرض، إلى صورة الإعدام الأبدي والفناء النهائي والنهاية المرعبة المخيفة. وأصبح القبر -الذي لا ينغلق بابُه- يسمِّم لذائذَ حياةِ ذلك المنكِر وينغّص عليه عيشَه بآلام مبرحة ملوّحا له بالعدم الرهيب دائما وبإعدامه الأبدي. فافهم من هذا:

ما أعظمَ الإيمان وما أعظم نعمته! وافهم كيف أنه «حياة» للحياة!

المسألة الثانية: لا يؤخَذ بكلامِ مَـن هـم خارج إطــار علم أو صنعة في مســألة من مســائلهما، دارت حولها المناقشة، حتى لو كانوا عظماء وعلماء وصنّاعا مهَرة في اختصاصاتهم. ولا يؤخذ حُكمهم حجةً في تلك المسألة، ولا يدخلون ضمن إجماع علماء ذلك الضرب من العلم.

فمثلا: لا يسري حكمُ مهندس عظيم كواحد من الأطباء في تشخيص مرض ما أو علاجه. لذا لا تؤخذ الأقوال المنكِرة الصادرة من أعظم فيلسوف بنظر الاعتبار فيما يخص المعنويات، ولا يُقام لها وزن، وبخاصة مَن توغل منهم كثيرا في الماديات فطمس على بصيرته وتعامى عن النور، فتبلّد ذهنُه عن المعنويات وانحدر عقلُه إلى عينيه وتردى حتى أصبح لا يرى غيرَ المادة ولا يعقل شيئا دونها.

فيا تُرى، ما قيمة أقوال فلاسفة ذهلوا أمام تفرعات أصغر الأجزاء، وتاهوا أمام أكثرها تشتتا وغرقوا فيها، وكم يساوي كلامُهم وأقوالهم في مسائل التوحيد والإيمان والمعنويات السامية التي اتفقت عليها مئات الآلاف من أهل العلم والحقيقة أمثال الشيخ الكيلاني قدس الله سره ذي الدهاء القدسي والبصيرة الخارقة الذي كان يعاين العرش الأعظم وهو بَعدُ على الأرض، والذي سعى مرتقيا مراتب المعنويات زهاء تسعين سنة، حتى كشف الحقائق الإيمانية بعلم اليقين وعين اليقين بل حتى بحق اليقين؟ ألا يكون إنكارهم واعتراضُهم خافتا واهيا أشبه بطنين البعوضة أمام هدير السماء ودويّ رعودها؟!

إن ماهية الكفر الذي يُظهر العداء للحقائق الإسلامية ويبارزها إنما هي إنكار وجهل ونفي. وحتى لو بدت -ظاهريا- إثباتا ووجوديا، إلّا أن معناها عدمٌ ونفيٌ؛ أما الإيمان: فهو علمٌ ووجودي وإثبات وحُكم. وحتى مسائله السلبية فهي ستار لحقيقة إيجابية وعنوان لها.

ولو أن أهلَ الكفر الذين يصدّون عن الإيمان سعوا ليثبتوا -بمشكلات عويصة- اعتقاداتِهم المنكرة السلبية ويجعلوها مقبولةً بصورة «قبول العدم» و«تصديق العدم»، فإن ذلك الكفر يمكن أن يعدّ -من جهة- علما خطأً وحكما غير صائب. وإلّا فإن ما هو سهلٌ ارتكابه من مجرد «عدم القبول» و«الإنكار» و«عدمِ التصديق» ليس إلّا جهلا مطلقا، و«عدمَ حكم».

والخلاصة: الاعتقاد بالكفر قسمان:

أولهما: ما ليس له علاقة بالحقائق الإسلامية. فهو تصديقٌ خطأ، واعتقاد باطل، وقبولٌ خطأ، وحكم ظالم خاصٌ به. فهذا القسم من الكفر خارج إطار بحثنا، لا شأن لنا به ولا شأن له بنا.

ثانيهما: ما يبارز الحقائق الإيمانية ويعارضها، وهذا أيضا قسمان:

الأول: هو رفضٌ، وعدمُ قبولٍ، وهو مجرد عدم تصديق الإثبات، وليس هذا الكفر إلّا جهلا، وإلّا عَدَمَ حُكمٍ، وهو سهلٌ ارتكابُه، وهو خارج نطاق بحثنا أيضا.

الثاني: هو قبول للعدم، وتصديق قلبيٌّ للعدم، فهذا القسم من الكفر هو حكم، وهو اعتقاد يفضي بصاحبه إلى الالتزام. فيضطر إلى إثبات نفيه وإنكاره.

والنفي بدوره قسمان:

أولهما: أن يقول النافي: إنه لا يوجد في موقع خاص وفي جهة معينة الشيءُ الفلاني. وهذا القسم من النفي المعيَّن يمكن إثباته، وهو أيضا خارج بحثنا.

القسم الثاني: هو نفي وإنكار المسائل الإيمانية والقدسية والعامة والمحيطة التي تتوجّه إلى الدنيا، وتشمل الكون، وتتطلع إلى الآخرة، وتضم العصور. وهذا النفي -كما أثبتنا في المسألة الأولى- لا يمكن إثباته مطلقا، لأنه يلزم أن يكون هناك نظرٌ محيط بالكون، ورؤية شاملة للآخرة ومشاهدة نافذة في الزمان غير المحدود بجميع جهاته، ليثبت مثل هذا النفي.

الورطة الثانية وسبيل النجاة منها: وهي مسألتان أيضا:

الأولى: أن العقول التي ضاقت أمام «العظمة» و«الكبرياء» و«المطلق غير المتناهي» وقصُرت عن إدراكها نتيجةَ الغفلة أو المعصية أو الانغماس في الماديات والانسياق وراءها قد أخذت -هذه العقول- تزلّ إلى الإنكار وتنفي -بغرورٍ علميّ- المسائلَ الهائلة العظمى لعجزها عن الإحاطة بها.

نعم، إن الذين عجزوا عن استيعاب المسائل الإيمانية المحيطة الواسعة جدا والعميقة جدا، في عقولهم الصلدة الضيقة معنىً، وعن أن يقروها في قلوبهم الفاسدة الميتة -تجاه المعنويات- يقذفون بأنفسهم إلى أحضان الكفر والضلال، فيغرقون. ولكن إذا ما تمكن هؤلاء من إنعام النظر في كُنه كفرهم وفي ماهية ضلالهم، لرأوا أن ما هو معقول في الإيمان تجاه العظمة ولائق بها وضروري لها، يقابله المحال تلو المحال وغير الممكن والممتنع طي ذلك الكفر وضمنه.

وقد أثبتت رسائل النور هذه الحقيقة بمئات الموازين والموازنات، وبقطعية تامة كقطعية حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعا. فمثلا: إن الذي يعجز أن يقبل الإيمان بوجوب وجوده سبحانه وتعالى وبأزليته وبصفاته المحيطة، لعظمته سبحانه ولعظمة صفاته الجليلة، سيحيل وجوبَ الوجود، وأزليتَه سبحانه، وصفاتِ الألوهية إلى جميع الموجودات غير المحدودة، بل إلى الذرات غير المتناهية، ليتمكن من الاعتقاد بكفره. أو عليه أن يتخلى عن العقل كالسوفسطائيين الحمقى بإنكاره وجودَ نفسه، ونفيه وجود الكون.

وهكذا تستقر الحقائقُ الإيمانية والإسلامية كلُها باستنادها إلى «العظمة» -التي هي من شأن تلك الحقائق ومن مقتضاها- وتثبت في القلوب الصافية والعقول السليمة، بكمال الإذعان والتسليم المطمئن، منقذةً أصحابَها مما يجابهها من الكفر ومحالاته المدهشة وخرافاته الموحشة وجهالاته المظلمة.

نعم، إن العظمة والكبرياء ستاران ضروريان لابد منهما؛ ويتبين ذلك من إعلان تلك العظمة والكبرياء في كل وقت: في الأذان، في الصلاة، وفي أغلب الشعائر الإسلامية بترديدِ:

الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.

ويتضح ذلك أيضا في الحديث القدسي: «العظمة إزاري والكبرياء ردائي».

ويظهر أيضا في العقدة السادسة والثمانين من المناجاة الأحمدية البليغة في «الجوشن الكبير»:

يا مَنْ لَا مُلكَ اِلّا مُلكهُ     يا مَنْ لَا يُحصِى العِبَادُ ثَناءَهُ

يا مَنْ لَا تَصِفُ الخَلائِقُ جَلالَهُ           يا مَنْ لا ينال الأوهامُ كنهَه

يا مَنْ لا يدرك الأبصارُ كمالَه             يا مَنْ لا يَبلــغ الأفهامُ صفاته

يا مَنْ لا ينال الأفكار كبرياءه            يا مَنْ لا يحسن الإنسان نعوته

يا مَنْ لا يردُّ العبادُ قضاءَه                   يا مَنْ ظهر في كل شيء آياته

سُبحَانَكَ يَا لَا إلَهَ إلّا أَنتَ، اَلأَمانَ الأَمانَ نَجِّنَا مِنَ النَّارِ