كلمة لستة من طلاب النور

 

باسمه سبحانه

كلمة لستة من طلاب النور

لقد درسنا على أستاذنا الفاضل قسماً من تفسيره الموسوم «إشارات الإعجاز» الذي ألّفه قبل أربعين سنة أثناء الحرب العالمية الأولى، حينما كان يؤدي فريضة الجهاد في الخط الأمامي لساحة القتال وأحياناً كان على صهوة جواده.

ونحن مع قصر فهمنا بدقائق اللغة العربية وأسرار البلاغة، فقد أدركنا عندما قرأنا هدا التفسير على يد أستاذنا الفاضل أنه تفسير بديع وخارق للعادة، فرأينا من الأنسب أن نذكر النقاط الأربع الآتية حول بيان هذا التفسير للإعجاز النظمي فحسب من وجوه الإعجاز للقرآن:

النقطة الأولى: إن معاني القرآن معانٍ شاملة كلية وعامة لا تقتصر على طائفة معينه أو على معنى جزئي، بل يقدم أطيب الأغذية طراً وألذها طعماً إلى ألوف الطبقات المتباينة من الجن والإنس، فيوفّي حاجة أفكارهم ويُشبع عقولهم ويغذى قلوبهم وينمّي أرواحهم، كل بما يليق به؛ وذلك لأنه وحي سماوي وخطاب صمداني يخاطب الله سبحانه جميعَ طبقات البشر المصطفّين خلف الأعصار، فيجيب عن أسئلةِ واستفساراتِ جميع الطوائف ويلبي حاجاتهم كلها؛ فلا غرو أنه كلام رب العالمين، صادر من أرفع مراتب الربوبية المطلقة.

النقطة الثانية: إن ألفاظ القرآن التي هي بمثابة الأصداف لنفائسِ لآلئِ المعاني الكلية الشاملة، والتي نزلت من صفة الكلام الأزلي وخاطبتْ جميعَ الأعصار وجميعَ البشرية، لا ريب أنها كلية جامعة. وقد لمسنا في هذا التفسير قسماً من الإعجاز -القطعي الثبوت- في كل حرف من حروف ذلك الكتاب الحكيم والتي يثمر كل منها عشر حسنات أو مائةً أو ألفاً أو ألوفاً بل في الأوقات المباركة -كليلة القدر- ثلاثين ألف ثمرة من ثمرات الجنة.

النقطة الثالثة: إنَّ الحسن والجمال اللذين يلمعان في مجموع الشيء، لا يُتحريان في كل جزء من أجزائه، ولا يعدّ نقصاً ما لم يشاهَد ذلك الجمال في الجزء. ومع هذا فإن الإعجاز النظمي الذي نراه في جميع سور القرآن وفي آياته نراه بنمط آخر عندما ندقق ونحلل هيئاتِ وكيفياتِ كلماته وجمله. وهذا التفسير المؤلَّف بالعربية يبين منبعاً من المنابع السبعة لإعجاز الكتاب الحكيم، ألا وهو الجزالة الخارقة في ألفاظه مبيناً أدق فروعه وأخفى أسرارِه. فلا شك أنه لا يعد إسرافاً -بل هو حقيقة- اهتمام «إشارات الإعجاز» بكل حرف من حروف القرآن العظيم التي يثمر كل منها عشراً من الحسنات بل يرتقى الثواب إلى ثلاثين ألفاً في بعض الأوقات.

النقطة الرابعة: إن معاني القرآن الحكيم لها جامعية واسعة وكلية شاملة، وذلك لصدوره من الكلام الأزلي وخطابِه جميعَ الطبقات البشرية في جميع الأعصار. لذا لا تنحصر تلك المعاني على مسألة واحدة كما هي في الإنسان، بل هي كالعين الباصرة تنظر إلى أوسع المدى. فيضم الكلامُ الأزلي ضمن نظره المحيط جميعَ الأزمان وجميع البشرية بطوائفها كافة.

فبناءً على ما أسلفناه نقول: إن جميع الوجوه التي أوردها المفسرون في كتبهم التي تفوق العد، وما استنبطوه من المعاني المشتمل عليها الكتاب الكريم صراحة أو إشارة أو رمزاً أو إيماءً أو تلويحاً أو تلميحاً مرادةٌ ومقصودة بالذات من الكتاب الكريم، شريطةَ أن لا تردّها العلومُ العربية وأن تستحسنها البلاغة وأن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.

طاهري، زبير، صونغور، ضياء، جيلان، بايرام.

الآية (31-32-33)

﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَنْبِؤُ۫ني بِاَسْمَٓاءِ هٰٓؤُلَٓاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ ﴿31﴾ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ ﴿32﴾ قَالَ يَٓا اٰدَمُ اَنْبِئْهُمْ بِاَسْمَٓائِهِمْ فَلَمَّٓا اَنْبَاَهُمْ بِاَسْمَٓائِهِمْ قَالَ اَلَمْ اَقُلْ لَكُمْ اِنّٓي اَعْلَمُ غَيْبَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿33﴾﴾

مقدمة

اعلم أن هذه معجزة آدم تُحُدِّيت بها الملائكةُ، بل معجزةُ نوع البشر في دعوى الخلافة. إن في القصَصَ لعِبراً.

ثم إني نظراً إلى ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ﴾ (الأنعام:59) ومستنداً إلى أن التنـزيل كما يفيدك بدلالاته ونصوصه كذلك يعلّمك بإشارته ورموزه، لَأفهمُ من إشاراتِ([1]) أستاذيةِ إعجازِ القرآن في قَصَص الأنبياء ومعجزاتهم التشويقَ والتشجيعَ للبشر على التوسل للوصول إلى أشباهها؛ كأن القرآن بتلك القصص يضع إصبعه على الخطوط الأساسية ونظائرِ نتائج نهايات مساعي البشر للترقي في الاستقبال الذي يُبنى على مؤسسات الماضي الذي هو مرآة المستقبل، وكأن القرآن يمسح ظهرَ البشر بيد التشويق والتشجيع قائلا له: اسعَ واجتهد في الوسائل التي توصلك إلى بعض تلك الخوارق! أفلا ترى أن الساعة والسفينة أولُ ما أهدتْهما للبشر يدُ المعجزة.

وإن شئت فانظر إلى ﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا﴾، وإلى ﴿وَلَقَدْ اٰتَيْنَا دَاوُ۫دَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ اَوِّبي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَاَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ﴾ (سبأ:10)، وإلى ﴿وَلِسُلَيْمٰنَ الرّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَاَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ (سبأ:12) «أي النحاس»، وإلى ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ (البقرة:60)، وإلى ﴿وَتُبْرِئُ الْاَكْمَهَ وَالْاَبْرَصَ بِاِذْني﴾ (المائدة:110)! ثم تأمل فيما مخّضه تلاحقُ أفكارِ البشر واستنبَطه من ألوفِ فنونٍ، ناطقٌ كلٌّ منها بخواصِّ وصفاتِ وأسماء نوعٍ من أنواع الكائنات، حتى صار البشر مظهرَ ﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا﴾.. ثم فيما استخرجه فكرُ البشر من عجائب الصنعة من السكّة الحديدية والآلة البرقية وغيرهما بواسطة تليين الحديد وإذابةِ النحاس حتى صار مظهرَ ﴿وَاَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ﴾ الذي هو أُمّ صنائعه.. وفيما أفرخه أذهانُ البشر من الطيّارات التي تسير في يوم شهراً حتى كاد أن يصير مظهرَ ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾.. وفيما ترقَّى إليه سعيُ البشر من اختراع الآلات والعصِيِّ التي تضرب في الأرض الرملة اليابسة فتفور منها عينٌ نضّاخة وتصير الرملة روضةً حتى أوشك أن يصير مظهرَ ﴿اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾.. وفيما أنتجه تجارب البشر من خوارق الطب التي طفق أن تبرئ الأكمه والأبرص والمزمن بإذن الله.. ترَ مناســـبة تامة تصحح لك أن تقول: تلك مقائسها، وذكرُها يشــير إليها ويشجع عليها.

وكذا انظر إلى قوله تعالى: ﴿يَا نَارُ كُوني بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ (الأنبياء:69) وإلى ﴿لَوْلَٓا اَنْ رَاٰ بُرْهَانَ رَبِّه﴾ (يوسف:24) أي صورةَ يعقوب عاضاً على إصبعه في روايةٍ، وإلى ﴿اِنّي لَاَجِدُ ريحَ يُوسُفَ﴾ (يوسف:94) وإلى ﴿يَا جِبَالُ اَوِّبي مَعَهُ﴾ وإلى ﴿عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ﴾ (النمل:16) وإلى ﴿اَنَا اٰتيكَ بِه قَبْلَ اَنْ يَرْتَدَّ اِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ (النمل:40) وأمثالِها، ثم تأمل فيما كشفه البشر من مرتبة النار التي لا تحرق ومن الوسائط التي تمنع الإِحراق، وفيما اخترعه من الوسائل التي تجلب الصور والأصوات من مسافات بعيدة وتُحضرها إليك قبل أن يرتدَّ إليك طرفُك، وفيما أبدعه فكرُ البشر من الآلات الناطقة بما تتكلم، وفي استخدامه لأنواع الطيور والحمامات، وقس عليها، لترى بين هذين القسمين ملاءمةً يحق بها أن يقال: في هذه رموز إلى تلك.

وكذا تأمل في خاصية المعجزة الكبرى التي هي خاصية الناطقية؛ التي هي خاصية الإنسانية، وهي الأدب والبلاغة. ثم تدبّر في أن أعلى ما يربِّي روحَ البشر، وألطف ما يصفِّي وجدانَه، وأحسن ما يزيِّن فكره، وأبسط ما يوسِع قلبه إنما هو نوع من الأدبيات. ولأمرٍ مّا ترى هذا النوع أبسط الفنون وأوسعَها مجالاً وأنفذها وأشدها تأثيراً وألصقها بقلوب البشر حتى كأنه سلطانها. فتأمل!

ثم إن لهذه الآية أيضاً الوجوه الثلاثة النظمية:

أما نظم مآلها بسابقتها فمن وجوه أربعة:

الأول: أن التنـزيل لما ذكر في الآية الأولى في بيان حكمة خلقة الإنسان ما هو أوّلُ الأجوبة وأَولاها وأعمُّها للكل وأيسرُها وأسهلُها إقناعاً وأجملُها إجمالاً وأوجزُها، بيّن بهذه الآية جواباً تفصيلياً يطمئن به العوام والخواص.

والثاني: أنه لمّا صرّح في تلك بمسألة الخلافة للبشر، برهن بهذه على تلك الدعوى بمعجزة ذلك النوع في مقابلة الملائكة.

والثالث: أنه لما أشار بتلك إلى ترجح البشر على الملَك رمز بهذه إلى لِمّيّة الرجحان.

والرابع: أنه لما لوّح بها إلى مظهرية هذا النوع للخلافة الكبرى في الأرض لمّح بهذه احتجاجاً عليها إلى أن الإنسان هو النسخة الجامعة والمظهر الأتمّ لكل التجليات لتنوع استعداداته وتكثّر طرق استفاداته وعلمه فيحيط بالكائنات بحواسه الخمس الظاهرة والباطنة لاسيما بوجدانه الذي لا قعر له. أفلا تراه يعلم أمثال حلاوة العسل بوجهين بل بوجوه خلاف المَلَك فتأمل!

أما نظم الجمل بعضها مع بعض ففطريّ في غاية السلاسة: فالأولى: تحقيق لمضمونِ ﴿اِنّٓي اَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وتفصيلٌ لمَا أجمل فيها وتفسير لما أبهم.. وكذا إن خلافة الله تعالى في أرضه لإجراء أحكامه وتطبيق قوانينه تتوقف على علم تام.. وكذا إن انصباب الكلام في الآية الأولى ينجرّ إلى: «فخلقه وسوّاه ونفخ فيه من روحه وربّاه ثم علّم الأسماء وأعده للخلافة.. ثم لمّا اصطفاه على الملائكة وميّزه بعلم الأسماء في مسألة الرجحان واستحقاق الخلافة اقتضى مقامُ التحدِّي عرْضَ الأشياء عليهم وطلبَ المعارضة منهم.. ثم لمّا أحسّوا بالعجز من أنفسهم أَقرّوا بحكمته تعالى واطمأنوا». ولهذا قال: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَنْبِؤُ۫ني بِاَسْمَٓاءِ هٰٓؤُلَٓاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ﴾.

﴿قَالُوا﴾ أي متبرئين مما دسّه في استفسارهم أَنانيةُ إبليس ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ﴾. ثم لمّا ظهر عجزُهم لعدم جامعية استعدادهم اقتضى المقامُ بيانَ اقتدارِ آدم حتى يتم التحدِّي فقال: ﴿يَٓا اٰدَمُ اَنْبِئْهُمْ بِاَسْمَٓائِهِمْ﴾.. ثم لما امتثل وظهر سرُّ الحكمة فيه اقتضى المقامُ استحضارَ الجواب الإجمالي السابق وجعلَه كالنتيجة لهذا التفصيل فقال: ﴿اَلَمْ اَقُلْ لَكُمْ اِنّٓي اَعْلَمُ غَيْبَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.

واعلم أنه قد تَشفّ وتُحسّ صورةُ المقاولة عن تولّد أنانية إبليس فيما بين الملائكة وتُشعر بتداخل اعتراضِ طائفةٍ بين استفسارهم.

أما نظم هيئات جملة جملة:

فجملةُ ﴿وَعَلَّمَ اٰدَمَ الْاَسْمَٓاءَ كُلَّهَا﴾ أي صوَّره بفطرة تضمنت مبادئ أنواع الكمالات، وخلَقَه باستعدادٍ زرَع فيه أنواعَ المعالي، وجهّزه بالحواس العشر وبوجدان تتمثل فيه الموجودات، وأعدّه بهذه الثلاث لتعلُّم حقائق الأشياء بأنواعها، ثم علّمه الأسماء كلها. الواو فيها إشارة إلى الجمل المطوية تحت إيجازه كما مرَّ. و ﴿عَلَّمَ فيه إشارة إلى تنويه العلم ورفعة درجته وأنه هو المحور للخلافة.. وكذا رمز إلى أن الأسماء توقيفية. ويؤيده وجود المناسبة المرجحة للوضع -في الأغلب- بين الأسماء والمسمّيات.. وكذا إيماء إلى أن المعجزة فعلُ الله بلا واسطة خلافا للفلاسفة الذين يقولون: «إن الخوارق أفعال للأرواح الخارقة».

و﴿اٰدَمَ﴾ أي الشخص الأرضي الذي أراد الله تعالى خلافته وسمّاه آدم فالتصريح بالعلم لتنويهه وتشهيره وإحضاره بصورته.

و﴿الْاَسْمَٓاءَ﴾ سمات الأشياء من الصفات والخواص والأسماء، أو اللغات التي اقتسمها بنو آدم. وفيه إيماء بدليلِ ﴿عَرَضَهُمْ﴾ إلى أن الاسم عينُ المسمّى كما عليه أهل السنة.

و﴿كُلَّهَا﴾ تنصيص على منشأ التميز ومدار الإعجاز.

وجملةُ ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰٓئِكَةِ فَقَالَ اَنْبِؤُ۫ني بِاَسْمَٓاءِ هٰٓؤُلَٓاءِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ﴾ :

فـ ﴿ثُمَّ﴾ إشارة بسر التراخي واقتضاء المقام إلى «وقال: هو أكرم منكم وأحق بالخلافة».

وأما ﴿عَرَضَهُمْ﴾ أي أظهر أنواع الأشياء مبسوطة للبيع لأنظارهم كعرض المتاع على المشتري، وعرضِ الصفوف على الأمير. ففيه إشارة إلى أن الموجودات مالٌ للمُدْرِك يشتريها بالعلم، ويأخذها بالاسم، ويتملكها بتمثل الصورة.

وأما ﴿هُمْ﴾ الدالُّ على الذكور العقلاء فسِرُّ ما فيه من التغليبين والمجاز ما يرمز إليه لفظ العَرض. إذ يتخيل -مِن إرساله صور طوائفِ الموجودات مارةً صفاً صفاً على الأنظار- كونُها قبائل من العقلاء يجيئون إليهم.

وأما ﴿عَلَى﴾ فإيماء إلى أن ما يُعرض عليهم هي الصور المرتسمة في اللوح الأعلى.

تمت بوفاء


[1] فإن كنت في ريب فيما استخرجه من لطائف نظم التنزيل، فأقول:

قد استشرنا ابن الفارض تفاؤلاً فأجاب بـ:

كأن الكرام الكاتبين تنزّلوا         على قلبه وحياً بما في صحيفة (حبيب)

الآية (30)

 ﴿وَاِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلٰٓئِكَةِ اِني جَاعِلٌ فِي الْاَرْضِ خَليفَةً قَالُٓوا اَتَجْعَلُ فيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَٓاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ اِنّٓي اَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿30﴾﴾

مقدمة

اعلم أن التصديق بوجود الملائكة أحد أركان الإيمان. ولنا هنا مقامات.

المقام الأول

إن من نظر إلى الأرض وقد امتلأت بذوي الأرواح مع حقارتها، وتأمَّلَ في انتظام العالم وإتقانه، تحدّسَ بوجود سكان في هذه البروج العالية؛ فَمَثَلُ مَنْ لم يصدّق بوجود الملائكة كَمَثَل رجل ذهب إلى بلدة عظيمة وصادف داراً صغيرة عتيقة ملوّثة بالمزخرفات مشحونة بالناس، ورأى عرصاتها مملوءة من ذوي الأرواح ولحياتهم شرائط مخصوصة كالنباتات والسِّماك. ثم رأى أُلوفاً من القصور العالية الجديدة قد تخلّلت بينها ميادين النـزهة، فيعتقد خلوَّها عن السكان لعدم جريان شرائط حياة هذه الدار في تلك القصور. ومَثَل المعتقِد بوجودهم كَمَثَل مَنْ إذا رأى هذا البيت الصغير وقد امتلأ من ذوي الأرواح، ورأى انتظام البلدة، جزم بأن لتلك القصور المزيَّنة أيضا سكانا يناسبونها وتوافِقُهم، ولهم شرائط حياة مخصوصة. فعدم مشاهدتهم -لبُعدهم وترفّعهم- لا يدل على عدمهم. فامتلاءُ الأرض من ذوي الحياة ينتج بالطريق الأولَى وبالقياس الأولَويّ المؤسَّسِ على القياس الخفيّ المبنيِّ على الانتظام المطرد، امتلاءَ هذه الفضاء الوسيعة ببروجها ونجومها وسماواتها من ذوي الأرواح الذين يدعوهم الشرع بالملائكة، المنطويةِ على أجناس مختلفة فتأمل!

المقام الثاني

اعلم -كما مرَّ- أن الحياة هي الكشافة للموجودات بل هي النتيجة لها، فإذن كيف تخلو هذه الفضاء الوسيعة من ساكنيها وتلك السماوات من عامريها؟ ولقد أجمع العقلاء إجماعاً معنوياً -وإن اختلفوا في طرق التعبير- على وجود معنى الملائكة وحقيقتهم، حتى إن المشّائيين عبّروا عنهم بالماهيات المجرَّدة الروحانية للأنواع، والإشْراقيين عبّروا عنها بالعقول وأربابِ الأنواع، وأهلَ الأديان بمَلَك الجبال وملَك البحار وملك الأمطار مثلا. حتى إن الماديين الذين عقولُهم في عيونهم لم يتيسر لهم إنكار معنى الملائكة، بل نظروا إليهم في القوات السارية في نواميس الفطرة.

فإن قلت: أفلا يكفي لارتباط الكائنات وحيويتها هذه النواميسُ وتلك القوانين الجارية في الخلقة؟

 قيل لك: ما تلك النواميس الجارية والقوانين السارية إلا أمور اعتبارية بل وهمية لا يتعين لها وجود ولا يتشخص لها هُويّة إلا بممثِّلاتها ومَعاكسها، ومَنْ هو آخذ برأس خيوطها وإن هي إلّا الملائكة.. وأيضاً قد اتفق الحكماء والعقلُ والنقل على عدم انحصار الوجود في عالم الشهادة الظاهرِ الجامد الغير الموافق لتشكل الأرواح. فعالم الغيب المشتمل على عوالمَ -الموافقُ للأرواح كالماء للسِماك- مشحون بها، مَظهرٌ لحياة عالم الشهادة.. فإذا شهدتْ لك هذه الأمور الأربعةُ على وجود معنى الملائكة فأحسنُ صوَر وجودهم التي ترضى بها العقولُ السليمة ما هو إلّا ما شرحه الشرع من أنّهم عباد مكرمون لا يخالفون ما يؤمَرون، وكذا أنهم أجسام لطيفة نورانية ينقسمون إلى أنواع مختلفة.

المقام الثالث

اعلم أن مسألة الملائكة من المسائل التي يتحقق الكلُّ بثبوت جزء واحد، ويُعلَم النوع برؤية أحد الأشخاص، إذ مَن أنكر أنكر الكلَّ.

ثم كما أنه محال عندك -أيقظك الله- أن يُجمِع أهلُ كلِّ الأديان في كل الأَعصار من آدم إلى الآن على وجود الملائكة وثبوت المحاورة معهم وثبوت مشاهدتهم والرواية عنهم كمباحثة الناس طائفة عن طائفة، بدون رؤية فرد بل أفراد منهم وبدون ضرورة وجود شخص بل أشخاص منهم، وبدون الإحساس بالضرورة بوجودهم؛ كذلك محال أن يقوم وَهْمٌ كذلك في عقائد البشر ويستمر هكذا ويبقى في الانقلابات بدون حقيقة يَتَسَنْبَل عليها وبدون مبادئ ضرورية مولِّدة لذلك الاعتقاد العموميّ. فإذن ليس سندَ هذا الإجماع إلّا حدسٌ تولَّد من تفاريق أمارات حصلت من واقعاتِ مشاهدات نشأت من مبادئ ضرورية. وليس سببَ هذا الاعتقاد العمومي إلا مبادئُ ضرورية تولدت من رؤيتهم ومشاهدتهم في كَرّات تفيد قوة التواتر المعنوي. وإلّا رُفعَ الأمن من يقينيات معلومات البشر. فإذا تحقق وجود واحد من الروحانية في زمان مّا، تحقق وجود هذا النوع. وإذا تحقق هذا النوع، كان كما ذكره الشرعُ وبيّنه القرآن.

ثم إن نظم مآل هذه الآية بسابقها من أربعة وجوه:

الأول: أنه لما كانت هذه الآيات في تعداد النعم العظام، وأشارت الأولى إلى أعظمها -من كون البشر نتيجة للخلقة وكون جميع ما في الأرض مسخرا له يتصرف فيها على ما يشاء- أشارت هذه إلى أن البشر خليفة الأرض وحاكمها.

والثاني: أن هذه الآية بيان وتفصيل وإيضاح وتحقيق وبرهان وتأكيد لما في الآية الأولى من أن أَزِمّة سلاسلِ ما في الأرض في يد البشر.

والثالث: أن تلك لما بيّنت بناء المسكنَين من الأرض والسماء أشارت هذه إلى ساكنيهما من البشر والملَك، وأنها رمزت إلى سلسلة الخلقة، وأومأت هذه إلى سلسلة ذوي الأرواح.

والرابع: أنها لما صرّحت بأن البشر هو المقصود من الخلقة وأن له عند خالقه لموقعا عظيما، اختلج في ذهن السامع أنه كيف يكون للبشر هذه القيمة مع كثرة شروره وفساده؟ وهل تستلزم الحكمة وجودَه للعبادة والتقديس له تعالى؟ فأشارت هذه إلى أن تلك الشرور والمفاسد تُغتَفَر في جنب السرِّ المُودع فيه، وأن الله غني عن عبادته، إذ له تعالى من الملائكة المسبِّحين والمقدِّسين ما لا يُحصر، بل لحكمة في علم علّام الغيوب.

وأما نظم الجمل بعضها مع بعض فهو: أن الآية تنصبُّ -بناءً على اقتضاءِ ﴿اِذْ﴾ رديفا لها، وعطفِه على ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾ -إلى تقديرِ «إذ خلق ما خلق منتظما متقَنا هكذا ﴿وَاِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلٰٓئِكَةِ…﴾ الخ».. وأنه تعالى لمّا خاطب مع الملائكة-ليستفسروا سرّ الحكمة ولتعليم طريق المشاورة قائلاً: ﴿اِني جَاعِلٌ فِي الْاَرْضِ خَليفَةً﴾ – توجَّهَ ذهنُ السامع بسرّ المقاولة إلى «ما قالوا؟»، وبسرّ الاستفسار عن حكمته مع التعجب إلى: ﴿اَتَجْعَلُ فيهَا﴾، وبسر استخلافهم عن الجن المفسِدين مع توديع القوة الغضبية والشهوية فيهم أيضا إلى ﴿مَنْ يُفْسِدُ فيهَا﴾ بتجاوز القوة الثانية: ﴿وَيَسْفِكُ الدِّمَٓاءَ﴾ بتجاوز القوة الأولى.. ثم بعد تمام السؤال والاستفسار والتعجب ينتظر ذهنُ السامع لجوابه تعالى. فقال: ﴿قَالَ اِنّٓي اَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي فالأشياء ليست منحصرةً في معلوماتكم، فعدمُ علمِكم ليس أمارةً على العدم، وإني حكيم، لي فيهم حكمةٌ يُغتَفر في جنبها فسادُهم وسفكُهم.

أما نظم هيئات جملة جملة، فاعلم أن الواو في: ﴿وَاِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلٰٓئِكَةِ اِني جَاعِلٌ فِي الْاَرْضِ خَليفَةً﴾ وكذا في: ﴿وَاِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلٰٓئِكَةِ اِنّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ﴾ (الحجر:28) في آية أخرى -بسر المناسبة العطفية- إشارة إلى «إذ، وإذ» كما مرَّ. وكذا -بسر أن الوحي يتضمن «ذَكِّرهم بذلك»- إشارة إلى «واذكر لهم إذ…» الخ.

وأن ﴿اِذْ﴾ المفيدَ للزمان الماضي لتسيير الأذهان في الأزمنة المتسلسلة الماضوية ورفْعٍ وجلبٍ وإحضار لها إلى ذلك الزمان لتنظرَه فتجتنيَ ما وقع فيه.

وأن ﴿رَبُّكَ﴾ إشارة إلى الحجة على الملائكة، أي ربّاك وكمّلك وجعَلك مرشداً للبشر لإزالة فسادهم أي «أنت الحسنة الكبرى التي ترجّحتْ وغطّتْ على تلك المفاسد».

وأن ﴿لِلْمَلٰٓئِكَةِ إشارة في هذه المقاولة الكائنة على صورة المشاورة إلى أن لسكان السماوات -أعني الملائكة- مزيدَ ارتباط وعلاقة، وزيادةَ مناسبة مع سكان الأرض -أعني البشر-، فإن من أولئك موكلين وحَفَظة وكَتَبَة على هؤلاء، فحقُّهم الاهتمام بشأنهم.

وأن «إنّ» بناء على كونها لردّ التردد المستفاد من ﴿اَتَجْعَلُ﴾ إشارة إلى عظمة المسألة وأهميتها.

وأن ياء المتكلم وحده هنا مع ﴿نَا﴾ للمتكلم مع الغير في ﴿قُلْنَا﴾ في الآيات الآتية إشارة إلى أنْ لا واسطة في إيجاده وخلقه كما توجد في خطابه وكلامه. ومما يدل على هذه النكت آيةُ ﴿اِنَّٓا اَنْزَلْنَٓا اِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَٓا اَرٰيكَ اللّٰهُ﴾ (النساء:105)؛ فقال: ﴿اَنْزَلْنَٓا﴾ بنون العظمة لوجود الواسطة في الوحي، وقال: ﴿اَرٰيكَ اللّٰهُ﴾ مفردا لعدم الواسطة في إلهام المعنى.

وأن إيثار ﴿جَاعِلٌ﴾ على «خالق» إشارةٌ إلى أن مدار الشبهة والاستفسار الجعلُ والتخصيص لعمارة الأرض لا الخلقُ والإيجاد، لأن الوجود خيرٌ محض والخلق فعلُه الذاتيّ لا يُسأل عنه.. وأن إيثار ﴿فِي﴾ في ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ على «على» -مع أن البشر على الأرض- لا يخلو من الإيماء إلى أن البشر كالروح المنفوخ في جسد الأرض؛ فمتى خرج البشر خَرِبت الأرضُ وماتت.

وأن ﴿خَليفَةً﴾ إشارة إلى أنه قد وُجد قبل تهيُّؤِ الأرض لشرائطِ حياةِ الإنسان مخلوقٌ مُدْرِك ساعدت شرائطَ حياته الأدوارُ الأوّليةُ للأرض. وهذا هو الأوفق لقضية الحكمة. والمشهور أن ذلك المخلوق المُدْرِك كان نوعا من الجن، فأفسدوا فاستُخلفوا بالإنسان.

أما هيئات جملةِ: ﴿قَالُٓوا اَتَجْعَلُ فيهَا مَنْ يُفْسِدُ فيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَٓاءَ﴾ فاعلم أن استيناف ﴿قَالُٓوا﴾ إشارة إلى أن توجيه خطابه تعالى إلى الملائكة يلجئ السامع إلى السؤال بـ«كيف يتلقّون جيرانهم بيتَ بيتَ وأَيَرضون بهم قُرَناءَ وما رأيهم فيهم؟» فقال: ﴿قَالُٓوا﴾.

وأن وجه كونه جزاء لـ ﴿اِذْ﴾ هو أن حكم الله تعالى بجعل البشر خليفة في الأرض -التي وكّل عليها الملائكة- مع أنه لا مشير له تعالى ولا وزير يستلزم إظهار كيفية تلقيهم لهم.

وأن صورة القول إشارة إلى أسلوب المقاولة على صورة المشاورة لتعليم الناس مع تنـزهه تعالى عنها.

وأن استفهام ﴿اَتَجْعَلُ﴾ فَلِتحقق الجعل بإخباره تعالى تمتنع حقيقتُه فيتولد منه التعجب الناشئ عن خفاء السبب، فيتولد منه الاستفسار، أي ما حكمةُ الجعل؟ فاستُفهم عن المسبَّب بدلاً عن السبب وليس للإنكار، لعصمتهم.

وأن الجعل رمز إلى أن شؤون البشر ونِسَبَه الاعتبارية ووضعياتِه ليست من لوازم الطبيعة، ولا من ضروريات الفطرة بل كلٌّ منها بجعل الجاعل.

وأن ﴿فيهَا﴾ مع ﴿فيهَا﴾ مع قصر المسافة فللتنصيص والإيماء إلى معنَى: ما حكمة جعل البشر روحاً منفوخاً في جسد الأرض لحياتها مع وجود الفساد والإماتة من حيث الأحياء؟

وأن التعبير بـ ﴿مَنْ﴾ إشارة إلى أنه لا يعنيهم شخصيةُ البشر وإنما يثقل عليهم عصيانُ مخلوقٍ لله تعالى.

وأن إيراد ﴿يُفْسِدُ﴾ بدل «يعصي» إشارة إلى أن العصيان ينجرّ إلى فساد نظام العالم.

وأن صورة المضارع إشارة إلى أن المستنكَر تجدُّد العصيان واستمراره. وقد علموا ذلك؛ إما بإعلامه تعالى، أو بمطالعة اللوح، أو بمعرفة فطرتهم من عدم تحديد القوى المودعة فيهم. فبتجاوز الشهوية يحصل الفساد، وبتعدي الغضبية ينشأ السفك والظلم.

و﴿فيهَا﴾ أي مع أنها كانت مسجداً أُسس على التقوى.. وأن موقع «الواو» الجمعُ بين الرذيلتين بمناسبة انجرار الفساد إلى سفك الدم.

وأن إيثار ﴿يَسْفِكُ﴾ على «يقتل» لأن السفك هو القتل بظلم، ومن القتل ما هو جهاد في سبيل الله، وكذا قتل الفرد لسلامة الجماعة، كقتل الذئب لسلامة الغنم.

وأما ﴿الدِّمَٓاءَ﴾ فتأكيد لما في السفك من الدم لتشديد شناعة القتل.

وأما هيئاتُ ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾:

فواو الحال إشارة إلى استشعارهم الاعتراضَ عليهم بـ«أما يكفيكم حكمةُ عبادة البشر وتقديسه له تعالى؟»

﴿وَنَحْنُ﴾ أي معاشر الملائكة المعصومين من المعاصي.. واسمية الجملة إشارةٌ إلى أن التسبيح كالسجية لهم واللازم لفطرتهم وهُمْ له.

أما ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ﴾ فكلمةٌ جامعة أي نُعلنُك في الكائنات بأنواع العبادات.. ونعتقد تنـزّهك عمّا لا يليق بجنابك بتوصيفك بأوصاف الجلال، وما هو إلا مِن نعمِك المحمود عليها. ونقول: «سُبحَان الله وبحَمده». ونحمدك ونصفك بأوصاف الجلال والجمال.

﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ أي نقدّسك، أو نطهّر أنفسنا وأفعالَنا من الذنوب وقلوبنا من الالتفات إلى غيرك. فالواو للجمع بين الفضيلتين، أي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فيكون حِذاء الواو الأول.

وأما هيئات: ﴿قَالَ اِنّٓي اَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ :

فاستينافها إشارة إلى السؤال بـ«ماذا قال الله تعالى مجيباً لاستفسارهم، وكيف بَيَّنَ السبب مزيلاً لتعجّبهم، وما الحكمة في ترجيح البشر عليهم؟» فقال: ﴿قَالَ﴾ مشيراً إلى جوابٍ إجماليٍّ ثم فصّل بعضَ التفصيل بالآية التالية.

و«إن» في ﴿اِنّٓي اَعْلَمُ﴾ للتحقيق وردِّ التردد والشبهة، وهو إنما يكون في حكمٍ نظريٍ ليس بمسلَّم مع بداهةِ ومسلّميةِ علمِ الله تعالى بما لا يعلم الخلقُ، وحاشاهم عن التردد في هذا، فحينئذ يكون ﴿إنَّ﴾ مناراً على سلسلةِ جُمَل لخّصها القرآنُ وأجملَها وأوجزَها بطريق بيانيّ مسلوك. أي إن في البشر مصالحَ وخيراً كثيراً تُغمَر في جنبها معاصيه التي هي شرٌ قليل، فالحكمةُ تنافي تركَ ذلك لهذا. وإن في البشر لسراً أهّله للخلافة غفلتْ عنه الملائكة وقد علّمه خالقُه.. وإن فيه حكمةً رجّحته عليهم لا يعلمونها ويعلمُها مَن خلق. وأيضاً قد يتوجه معنى ﴿إنَّ﴾ إلى الحكم الضمني المستفاد من واحد من قيودِ مدخولها أي لا تعلمون بالتحقيق.

وأيضاً ﴿اَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم، أي يوجد ما لا تعلمون، إذ علمُه تعالى لازم لكل شيء، فنفيُ العلم دليل على عدم المعلوم، كما قال تعالى: ﴿بِمَا لَا يَعْلَمُ﴾ (يونس:18) أي لا يمكن ولا يوجد، ووجود العلم دليل على وجود المعلوم.. ثم إنه قد ذكر في تحقيق هذا الجواب الإجمالي أن الله عليم حكيم، لا تخلو أفعالُه تعالى عن حِكم ومصالحَ، فالموجوداتُ ليست محصورةً في معلومات الخلق. فعدمُ العلم لا يدل على العدم، وأن الله تعالى لمّا خلق الخير المحض أعني الملائكة، والشر المحض أعني الشياطين، وما لا خير عليه ولا شر أعني البهائم، اقتضت حكمة الفيّاض المطلق وجودَ القسم الرابع الجامع بين الخير والشر. إن انقادت القوةُ الشهوية والغضبية للقوة العقلية فاق البشرُ على الملائكة بسبب المجاهدة، وإن انعكست القضية صار أنزلَ من البهائم لعدم العذر.

* * *

الآية (29)

﴿هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْاَرْضِ جَميعًا ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ فَسَوّٰيهُنَّ سَبْعَ سَمٰوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ۟ ﴿29﴾﴾‏

اعلم أن لهذه الآية أيضاً الوجوه الثلاثة النظمية؛

أما نظم المجموع بالسابق فهو أن في الآية الأولى إنكارَ الكفر والكفرانِ بالدلائل الأنفسية، وهي أطوار البشر، وفي هذه الآية إشارة إلى الدلائل الآفاقية.. وكذا في الأولى إشارة إلى نعمة الوجود والحياة، وفي هذه الآية إلى نعمة البقاء.. وكذا في تلك دليل على الصانع ومقدمة للحشر، وفي هذه إشارة إلى تحقيق المعاد وإزالة الشبه. كأنهم يقولون: أين للإنسان هذه القيمة؟ وكيف له تلك الأهمية؟ وما موقعه عند الله حتى يقيم القيامة لأجله؟ فقال القرآن بإشارات هذه الآية: إن للإنسان قيمة عالية، بدليل أن السماوات والأرض مسخّرة لاستفادته، وكذا إن له أهمية عظيمة بدليل أن الله لم يخلق الإنسان للخلق، بل خلق الخلق له، وإن له عند خالقه لَموقعاً بدليل أن الله تعالى لم يوجد العالم لذاته، بل أوجده للبشر وأوجد البشر لعبادته. فأنتج أن الإنسان مستثنىً وممتازٌ لا كالحيوانات، فيليق أن يكون مَظهراً لجوهرةِ ﴿ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

وأما نظم جملةٍ جملةٍ،

فاعلم أن لفظَ ﴿جَميعًا﴾ في الجملة الأولى، ولفظَ ﴿ثُمَّ﴾ في الثانية، ولفظَ ﴿سَبْعَ﴾ في الثالثة تقتضي تحقيقاً. فلنتكلم عليها في ثلاث مسائل:

المسألة الأولى

 إن قلت: إن هذه الآية تدل على أن جميع ما في الأرض لاستفادة البشر فكيف يُتصور استفادة «زيد» مثلا من كل جزء من أجزاء الأرض؟ و«حبيب وعلي» كيف يستفيدان من حجر في قعر جبل في وسط جزيرة في البحر المحيط الكبير؟ وكيف يكون مالُ «زيد» لاستفادة «عمرو»؟ مع أن الآية بإشارات أخواتها تشير أن لكل فردٍ الجميعَ لا التوزيع. وكذا كيف تكون الشمس والقمر وغيرهما مع تلك العظمة لـ«زيد وعمرو» والعلة الغائية فيها الفائدة الجزئية لهما؟ وكيف تكون المضرات لاستفادة البشر مع أنه لا مجازفة في القرآن ولا تليق المبالغة ببلاغته الحقيقية؟

قيل لك: تأمل في ست نقاط يتطايرْ عنك الأوهام:

الأولى: أن خاصية الحياة كما مرَّ تصيّر الجزءَ كلاً والجزئي كلياً والمنفردَ جماعة والمقيّدَ مطلقاً والفردَ عالَماً، فيصير الأنواع كقوم ذي الحياة والدنيا بيته، ويكون له مناسبة مع كل شيء.

والثانية: أن في العالم -كما علمت- نظاما ثابتا، واتساقا مُحكَما، ودساتير عالية، وقوانين أساسية مستمرة، فيكون العالَم كساعة أو ماكينة منتظمة. فكما أن كل دولاب منها بل كلَّ سنٍّ من كل دولاب بل كل جزء من كل سنٍّ له دخلٌ -ولو جزئياً- في نظام الماكينة، وكذا له تأثير في فائدة الماكينة ونتيجتِها بواسطة نظامها؛ كذلك لوجوده دَخلٌ في فائدة أهل الحياة الذين سيّدُهم ورئيسُهم البشرُ.

والثالثة: أنه -كما قرع سمعَك فيما مضى- لا مزاحمةَ في وجوه الاستفادة، فكما أن الشمس بتمامها لـزيد وأن ضياءها روضةٌ وميدان لنظره؛ كذلك بتمامها مُلك لـعمرو وجنة له. فـزيد مثلاً لو كان في العالَم وحده كيف تكون استفادته؛ كذلك إذا كان مع كل الناس لا ينقُص منها شيء إلَّا فيما يعود إلى الغارَيْن.

والرابعة: أن الكائنات ليس لها وجه رقيق فقط، بل فيها وجوه عمومية مختلفة، طَبَقاً على طبق. ولفوائدها جهات كثيرة عمومية متداخلة، وطرق الاستفادة متعددة متنوعة؛ مثلاً: إذا كان لك روضة، تستفيد منها بجهة ويستفيد الناس بجهة أخرى، كالاستلذاذ بالقوة الباصرة. ولا جرم أن استفادة الإنسان تحصل بحواسه الخمس الظاهرة وبحواسه الباطنة وبجسمه وبروحه وكذا بعقله وقلبه وكذا في دنياه وفي آخرته وكذا من جهة العِبرة وقس عليها.. فلا مانع من استفادته بوجه من هذه الوجوه من كل ما في الأرض بل العالم.

والخامسة: أنه:

إن قلت: هذه الآيات مع آيات أُخر تشير إلى أن هذه الدنيا العظيمة مخلوقة لأجل البشر وجُعل استفادته علّة غائية لها. والحال أن زُحلَ الأكبرَ من الأرض ليست فائدتها بالنسبة إلى البشر إلّا نوعَ زينة وضياء ضعيف فكيف يكون علة غائية؟

قيل لك: إن المستفيد يفنى في جهة استفادته وينحصر ذهنُه في طريقها وينسى ما عداها وينظر إلى كل شيء لنفسه ويحصر العلة الغائية على ما يتعلق به. فإذن لا مجازفة في الكلام الموجَّه إلى ذلك الشخص في مقام الامتنان بأن يقال: إن زَحَل -الذي أبدعه خالقُه لألوفِ حِكَمٍ، وفي كل حكمة ألوفُ جهاتٍ، وفي كل جهة ألوفُ مستفيدٍ- العلةُ الغائية في إبداعه جهة استفادة ذلك الشخص.

والسادسة:  -وقد نبهتُ عليه- أن الإنسان وإن كان صغيراً فهو كبير، فنفعُه الجزئيّ كليّ، فلا عبثية.

المسألة الثانية في ﴿ثُمَّ﴾:

اعلم أن هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل السماء، وأن آيةَ ﴿وَالْاَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰيهَا﴾ (النازعات:30) تدل على أن خلق السماء قبل الأرض، وأن آية: ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء:30) تدل على أنهما خُلقتا معا وانشقتا من مادة.

واعلم ثانيا: أن نقليات الشرع تدل على أن الله تعالى خَلَق أوّلاً جوهرةً -أي مادة- ثم تجلى عليها فجعل قسما منها بخارا وقسما مائعا. ثم تكاثف المائع بتجلِّيه فأزبَد. ثم خَلق الأرضَ أو سبع كُرات من الأرضين من ذلك الزبد، فحصل لكل أرض منها سماء من الهواء النسيميّ. ثم بسَط المادة البخارية فسوّى منها سماوات زَرَع فيها النجومَ فانعقدت السماوات مشتملة على نويات النجوم. وإن فَرَضيات الحكمة الجديدة ونظرياتها تحكم بأن المنظومة الشمسية أي مع سمائها التي تسْبَح فيها كانت جوهرا بسيطا ثم انقلب إلى نوعِ بخار، ثم تحصّل من البخار مائعٌ ناريّ، ثم تصلّب -بالتبرد- منه قسمٌ، ثم ترامى ذلك المائع الناري بالتحرك شراراتٍ وقطعاتٍ انفصلت فتكاثفت فصارت سيّاراتٍ، منها أرضنا هذه.

فإذا سمعت هذا يجوز لك التطبيق بين هذين المسلكين، لأنه يمكن أن تكون آيةُ ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ إشارةً إلى أن الأرض مع المنظومة الشمسية كانت كعجين عَجَنَتْه يدُ القدرة من جوهر بسيط أعني «مادّة الأثِير» التي هي كالماء السيّال بالنسبة إلى الموجودات فتنفذ جاريةً بينها. وآية ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَٓاءِ﴾ (هود:7) إشارة إلى هذه المادة التي هي كالماء. و«الأثير» بعد خلقه، هو المركز لأوّل تجلِّي الصانع بالإيجاد، أي فخَلق «الأثيرَ»، ثم صيّره جواهرَ فردةً، ثم جعل البعض كثيفاً، ثم خلق من الكثيف سبع كرات مسكونة، منها أرضنا. ثم إن الأرض بالنظر إلى كثافتها وتصلبها قبل الكل، وتعجيلها في لبس القشر وصيرورتِها من زمان مديدٍ مَنشأَ الحياة مع بقاء كثير من الأجرام السماوية إلى الآن مائعةً نارية.. تكون خلقتُها وتشكلُها من هذه الجهة قبل خلق السماوات. ولما كان تكمُّلُ منافعِها ودَحْوُها (أي بسطها وتمهيدها لتعيّش نوع البشر) بعد تسوية السماوات وتنظيمها تكون السماوات أسبقَ من هذه الجهة مع الاجتماع في المبدأ. فالآيات الثلاث تنظر إلى النقاط الثلاث.

الجواب الثاني: إن المقصد من القرآن ليس درس تاريخ الخِلقة، بل نزل لتدريس معرفة الصانع. ففيه مقامان؛ ففي مقام بيان النعمة واللطف والمرحمة وظهورِ الدليل تكون الأرض أقدمَ، وفي مقام دلائل العظمة والعزة والقدرة تكون السماوات أسبق.. ثم إن ﴿ثُمَّ﴾ كما تكون للتراخي الذاتيّ تجيء للتراخي الرُّتْبي، فـ ﴿ثُمَّ اسْتَوٰٓى﴾ أي ثم اعلموا وتفكروا أنه استوى.

المسألة الثالثة في ﴿سَبْعَ﴾:

اعلم أن الحكمة العتيقة قائلةٌ بأن السماوات تسعة، وتصوَّرَها أهلُها بصورة عجيبة، واستولى فكرُهم على نوع البشر في أعصار، حتى اضطر كثير من المفسرين إلى إمالة ظواهر الآيات إلى مذهبهم. وأما الحكمة الجديدة فقائلة بأن النجوم معلَّقة في الفضاء والخلو، كأنها منكِرة لوجود السماء. فكما أفرطت إحداهما فرّطت الأخرى. وأما الشّريعة فحاكمةٌ بأن الصانع جلّ جلاله خلق سبع سماوات وجعل النجوم فيها كالسِّماك تسبح. والحديث يدل على أن «السماء موج مكفوف».

وتحقيق هذا المذهب الحق في ست مقدمات.

الأولى: إنه قد ثبت فنّاً وحكمةً أن الفضاء الوسيع مملوء من الأثير.

والثانية: إن رابطة قوانين الأجرام العلوية وناشر قوى أمثال الضياء والحرارة وناقلها مادة موجودة في الفضاء مالئة له.

والثالثة: إنَّ مادة الأثير-مع بقائها أثيراً- لها كسائر المواد تشكلات مختلفة، وتنوعات متغايرة كتشكل البخار والماء والجَمَد.

والرابعة: إنه لو أُمعن النظر في الأجرام العلوية يُرى في طبقاتها تخالُف. ألا ترى أن نهر السماء المسمى بـ«كَهْكَشان» المرئيّ في صورة لطخة سحابية إنما هو ملايينَ نجومٍ أخذت في الانعقاد. فصورةُ الأثير التي تنعقد تلك النجوم فيها تخالف طبقة الثوابت البتة، وهي أيضاً تخالف طبقات المنظومة الشمسية بالحدس الصادق… وهكذا إلى سبع منظومات.

والخامسة: إنه قد ثبت حدساً واستقراءً أنه إذا وقع التشكيل والتنظيم والتسوية في مادة، تتولد منها طبقات مختلفة كالمعدن يتولد منه الرماد والفحم والألماس.. وكالنار تتميز جمراً ولهباً ودخاناً، وكمزج مولّد الماء مع مولّد الحموضة يتشكل منه ماء وجمد وبخار.

والسادسة: إن هذه الأمارات تدل على تعدد السماوات. والشارع الصادق قال هي سبعة، فهي سبعة على أن السبع والسبعين والسبعمائة في أساليب العرب لمعنى الكثرة.

والحاصل: إن الصانع جل جلاله خلق من «مادة الأثير» سبع سماوات فسوّاها ونظّمها بنظام عجيب دقيق وزرع فيها النجوم وخالف بين طبقاتها.

اعلم أنك إذا تفكرت في وُسْعة خطابات القرآن ومعانيه ومراعاته لأفهام عامة الطبقات من أدنى العوام إلى أخص الخواص، ترى أمراً عجيباً. مثلاً: من الناس مَن يفهم من ﴿سَبْعَ سَمٰوَاتٍ﴾ طبقاتِ الهواء النسيمية.. ومنهم مَن يفهم منه الكرات النسيمية المحيطة بأرضنا هذه وأخواتها ذوات ذوي الحياة.. ومنهم مَن يفهم منه السيّارات السبع المرئية للجمهور.. ومنهم مَن يفهم منه طبقات سبعة أثيرية في المنظومة الشمسية.. ومنهم مَن يفهم منه سبع منظومات شموسية أولاها منظومة شمسنا هذه.. ومنهم من يفهم منه انقسام الأثير في التشكل إلى طبقات سبعة كما مر آنفاً.. ومنهم مَن يرى جميع ما يُرى مما زُيّن بمصابيح الشموس والنجوم الثوابت سماء واحدة، هي السماء الدنيا وفوقها ست سماوات أُخر لا ترى.. ومنهم مَن لا يرى انحصار سبعِ سَمَاوَاتٍ في عالم الشهادة فقط، بل يتصورها في طبقات الخِلقة في العوالم الدنيوية والأُخروية والغيبية.. فكل يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن ويأخذ حصته من مائدته فيشتمل على كل هذه المفاهيم.

واعلم أن الجملة الأولى أعني ﴿هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْاَرْضِ جَميعًا﴾ نظمها بخمسة أوجه:

الأول: أن الآية الأولى إشارة إلى نعمة الحياة والوجود، وهذه تشير إلى نعمة البقاء وأسبابه.

والثاني: أنه لمّا أثبتت الأولى للبشر أعلى المراتب أعني الرجوع إليه تعالى، تنبه ذهنُ السامع للسؤال بـ«أين لهذا الإنسان الذليل استعدادٌ لهذه المرتبة العالية إلّا أن يكون بفضله تعالى وجذبه؟». فكأن هذه الجملة تقول -مجيبةً عن ذلك السؤال-: إن للإنسان عند خالقه الذي سخّر له جميع الدنيا لموقعاً عظيماً.

والثالث: أنه لما أشارت الأولى إلى وجود الحشر والقيامة للبشر، ذهب السامع إلى سؤالِ: ما أهمية البشر حتى تقوم القيامة لأجله ويخرب العالم لسعادته؟ فكأن هذه الجملة تجيبه بـ«أن من هُيّئَ جميع ما في الأرض لاستفادته وسُخّر له الأنواع، له أهمية عظيمة تشير إلى أنه هو النتيجة للخلقة».

والرابع: أن الأولى أشارت بـ ﴿اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إلى رفع الوسائط وانحصار المرجعية فيه تعالى، والحال أن للبشر في الدنيا مراجعَ كثيرة، فهذه الجملة تقول أيضاً: إن الأسباب والوسائط تشفّ عن يد القدرة، وإن المرجع الحقيقي في الدنيا إنما هو الله تعالى وإنما توسطت الأسبابُ لحِكَم، فإنه تعالى هو الذي خلق للإنسان كل ما يحتاج إليه.

والخامس: أن الأولى لما أشارت إلى السعادة الأبدية، أشارت هذه إلى سابقةِ فضلٍ يستلزم تلك السعادةَ ذلك الفضلُ. أي من أُحسن إليه جميع ما في الأرض لحقيقٌ بأن يُعطى له السعادة الأبدية.

وجملةُ ﴿ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ﴾ نظمُها بأربعة أوجه.

الأول: أن السماء رفيقة الأرض لا يَتصورُ الأرضَ أحدٌ إلّا ويخطر في ذهنه السماء.

والثاني: أن تنظيم السماء هو المكمِّل لوجه استفادة البشر مما في الأرض.

والثالث: أن الجملة الأُولى أشارت إلى دلائل الإحسان والفضل، وهذه تشير إلى دلائل العظمة والقدرة.

والرابع: أن هذه الجملة تشير إلى أن فائدة البشر لا تنحصر على الأرض؛ بل السماء أيضاً مسخرة لاستفادته.

ونظم جملةِ ﴿فَسَوّٰيهُنَّ سَبْعَ سَمٰوَاتٍ﴾ بثلاثة أوجه:

الأول: أن ربطها بالأُولى كربطِ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ مع ﴿كُنْ﴾.

والثاني: أنه كربط تعلّق القدرة بتعلق الإرادة.

والثالث: أنه كربط النتيجة بالمقدمة.

ونظم جملة: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾ بوجهين:

أحدهما: أنها دليل لِمّيّ على التنظيم السابق كما أن التنظيم السابق دليل إنّيّ عليها؛ إذ الاتساق والانتظام يدلان على وجود العلم الكامل كما أن العلم يفيد الانتظام.

والآخر: أن الجملة الأولى تدل على القدرة الكاملة وهذه على العلم الشامل.

أما نظم هيئاتِ جملةٍ جملةٍ؛ ففي الجملة الأولى الاستيناف، وتعريف الجزئين، وتعريف الخبر، ولامُ ﴿لَكُمْ﴾، وتقديم ﴿لَكُمْ﴾، ولفظ ﴿فِي﴾، ولفظ ﴿جَميعًا﴾؛

أما الاستيناف فإشارة إلى أسئلة مقدّرة وأجوبة قد نبهتُ عليها في الأوجه الخمسة لنظم الجملة الأولى..

وأما تعريف الجزئين فإشارة إلى التوحيد والحصر الذي هو دليل على الحصر في تقديم ﴿اِلَيْهِ﴾ في ﴿ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.

وأما تعريف الخبر فإشارة إلى ظهور الحكم.

وأما لام النفع في ﴿لَكُمْ﴾ فإشارة إلى أن الأصل في الأشياء الإباحة، وإنما تَعرِضُ الحرمةُ للعصمة؛ كـمالِ الغير. أو للحرمة؛ كلحم الآدميّ. أو للضرر؛ كالسم. أو للاستقذار؛ كبلغم الغير. أو للنجاسة؛ كالميتة.. وكذا رمز إلى وجود النفع في كل شيء، وأن للبشر -ولو بجهة من الجهات- استفادةً ولو بنوع من الأنواع ولو في أحقر الأشياء ولا أقل من نظر العبرة، وكذا إيماء إلى أنه كَم من خزائنَ للرحمة مكنوزةٍ في جوف الأرض تنتظر أبناء المستقبل.

وأما تقديم ﴿لَكُمْ﴾ فإشارة إلى أن جهة استفادة البشر أقدم الغايات وأولاها وأولها.

وأما ﴿مَا﴾ المفيدة للعموم فللحث على تحرِّي النفع في كل شيء..

وأما ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ بدلَ «على الأرض» مثلاً، فإشارة إلى وجود أكثر المنافع في بطن الأرض، وكذا تشجيع على تحرِّي ما في جوفها.. ويدل تدرج البشر في الاستفادة من معادن الأرض وموادها على أنه يمكن أن يكون في ضمنها مواد وعناصر تخفِّف عن كاهل أبناء الاستقبال ضغطَ تكاليف الحياة من الغذاء وغيره.

وأما ﴿جَميعًا﴾ فلردّ الأوهام في عبثية بعض الأشياء.

وأما ﴿ثُمَّ﴾ في الجملة الثانية فإشارة إلى سلسلة من أفعاله تعالى وشؤونه بعد خلق الأرض إلى تنظيم السماء.. وكذا رمز إلى تراخي رتبة التنظيم في نفع البشر عن خلقة الأرض.. وكذا إيماء إلى تأخره عنها.

وأما ﴿اسْتَوٰٓى﴾ ففيه إيجاز، أي أراد أن يسوّي.. وكذا فيه مجاز أي كمن يسدد
قصده إلى شيء لا ينثني يمنةً ويسرةً.

و ﴿اِلَى السَّمَٓاءِ﴾ أي إلى مادتها وجهتها.

وأما فاء ﴿فَسَوّٰيهُنَّ﴾ فبالنظر إلى جهة التفريع، نظيرَ ترتُّبِ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ على ﴿كُنْ﴾، وتعلقِ القدرة على تعلق الإرادة، والقضاءِ على القدر. وأما بالقياس إلى جهة التعقيب فإيماء إلى تقديرِ: «ونوّعها ونظّمها ودبّر الأمر بينها فسوّيهن» الخ.

وأما «سَوَّى» أي خلقها منتظمة مستوية متساوية في أنْ أعطى كلًّا ما يناسب استعداده ويساوي قابليته. وأما ﴿هُنَّ﴾ فإيماء إلى تنوع مواد السماوات.

وأما ﴿سَبْعَ﴾ فيتضمن الكثرة والمناسبة مع الصفات السبع ومع الأدوار السبعة في تشكلات الأرض.

و ﴿سَمٰوَاتٍ﴾ أي اللاتي هن رياض لأزاهير الدراري وبحار لسِماك السّيارات ومزرعة لحبّات النجوم.

أما جملةُ ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾:

فواو العطف المقتضية للمناسبة إشارة إلى «﴿وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ (هود:4) فهو الخالق لهذه الأجرام العظيمة، ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾ فهو النَظّام المتقن للصنعة فيها».

وباء الإلصاق إشارة إلى عدم انفكاك العلم عن المعلوم.

وأما «كل» فهو العام الذي لم يخص منه البعض. وقد خص قاعدة: «وما من عام إلّا وقد خُصَّ منه البعض» وإلّا لكانت هذه القاعدة بحيث إذا صَدَقت كذّبت نفسها نظيرَ «الجذر الأصم الكلاميّ»

ولفظ ﴿شَيْءٍ﴾ يعم الشائيّ والمشيءَ وما ليس بهذا ولا بذاك كالممتنع.

و ﴿عَليمٌ﴾ أي ذات ثبت له لازماً منه العلم.

* * *

الآية (28)

﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ اَمْوَاتًا فَاَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿28﴾﴾

اعلم أن لهذه الآية أيضاً الوجوهَ الثلاثة النظمية:

أما نظمُ مآلها بسابقها، فاعلم أن الله تعالى لما دعا الناس إلى عبادته والاعتقادِ به، وذكر أصولَ العقائد والأحكام مشيراً إلى دلائلها إجمالاً؛ عاد في هذه الآية مع لواحقها الثلاث إلى سرد الدلائل عليها بتعداد النِعم المتضمنة للدلائل.

ثم إنَّ أعظمَ النِعم «الحياة» المشار إليها بهذه الآية، ثم «البقاءُ» أي كمال الحياة بتنظيم السماوات والأرض المشار إليه بالآية الثانية، ثم تفضيلُ البشر وتكريمُه على الكائنات بالآية الثالثة، ثم تعليمُه العلم بالرابعة.. فهذه النعم نظراً إلى «صورة النعمة» دليل العناية والغاية، وكذا دليل العبادة؛ إذ شُكر المُنعِم واجبٌ وكفران النعم حرام في العقول. ونظراً إلى «الحقيقة» دليل اختراعيّ على وجود المبدأ والمعاد.. وكذا إن هذه الآية كما تنظر إلى سابقتها كذلك تنظر إلى الأسبق من بحث الكافرين والمنافقين فأشار بهذا الاستفهام الإنكاريّ التعجبيّ إلى تقريعهم وتشنيعهم وتهديدهم وترهيبهم.

وأما نظم الجمل، فاعلم أن هنا التفاتا من الغَيبة إلى الخطاب؛ إذ حكى عنهم أوّلا ثم خاطبَهم، لنكتة معلومة في البلاغة وهي أنه إذا ذُكر مساوئ شخص شيئا فشيئا تزيد الحدّة عليه، إلى أن يلجئ المتكلم -لو كان إنسانا- إلى المشافهة والمخاطبة معه.. وكذا إذا ذكرت محاسن أحدٍ درجةً درجةً يتقوى ميلُ المكالمة معه إلى أن يُلجئ المتكلم إلى التوجه إليه والخطابِ معه. فلنـزول القرآن على أسلوب العرب التفَتَ فقال: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾ مخاطِباً لهم.

ثم اعلم أنه لما كان المقصد هنا سردَ البراهين على الأصول السابقة من الإيمان والعبادة، وردِّ الكفر ومنعِ كفران النعمة، ثم إن أوضحَ الدلائل هو الدليل المستفاد من سلسلة أحوال البشر، وإن أكمل النِعم هي النعمُ المتدلّية في أنابيب تلك السلسلة والمندمجة في عقدها.. قال:

﴿وَكُنْتُمْ اَمْوَاتًا فَاَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ إشارةً إلى تلك السلسلة العجيبة المترتبة ذات العُقد الخمس التي تدلّت من أنابيبها عناقيد النِّعم. فلنمهّد خمس مسائل لحلّ تلك العُقد:

المسألة الأولى: في ﴿وَكُنْتُمْ اَمْوَاتًا﴾.

اعلم أن الإنسان باعتبار جسده بينما كان ذرّاتٍ جامدةً منتشرةً في العالم، إذ تراها دخلت بقانون مخصوص ونظام معيّن تحت انتظام.. ثم بينما تراها متسترة ساكتة في عالم العناصر، إذ تراها انتقلت متسلّلة بدستور معيّن وانتظام يومئ إلى قصد وحكمة إلى عالم المواليد.. ثم بينما تراها متفرقةً ساكنة في ذلك العالم، إذ تراها تحزّبت بطرز عجيب وصارت نطفةً.. ثم بانقلابات متسلسلة علقةً.. فمضغةً.. فلحماً وعظاماً وهلمَّ جرّا.. فكلٌّ من هذه الأطوار وإن كان مكمَّلاً بالنسبة إلى سابقه إلَّا أنه ميّت وموات.

 فإن قلت: الموت عدمُ الحياة وزوالُها ولا حياة فيها حتى تزول؟

قيل لك: اختار المجاز لإعداد الذهن لقبول العقدة الثالثة والرابعة.

المسألة الثانية: في ﴿فَاَحْيَاكُمْ﴾.

اعلم أن أعجبَ معجزات القدرة وأدقَّها الحياةُ.. وكذا هي أعظمُ كلِّ النعم وأظهر كل البراهين على المبدأ والمعاد.

أما وجه أدقّيتها وغموضها فهو أن أدنى أنواع الحياة حياةُ النبات، وأن أوّل درجاتها تنبّهُ العقدة الحياتية في الحبَّة. وهذا التنبّه -مع شدة ظهوره وعمومه والألفة به من زمان آدم إلى الآن- قد بقي مستوراً عن نظر حكمة البشر.

وأما وجه كونها أعظم النعم، فهو أن الجسم الذي لا حياة فيه ليس له مناسبةٌ إلّا مع مكانه المشخص وما به يختلط، فيكون يتيماً منفرداً ولو كان جبلاً. لكن إذا رأيت جسما ولو صغيرا كالنحل مثلا وقع فيه الحياةُ، حصل له دفعةً مناسباتٌ مع عموم الكائنات وتجارةٌ مع الأنواع، حتى يحقُّ له أن يقول: «مكاني الكائناتُ وهي كمِلكي». إذ إذا انتقل إلى الحياة الحيوانية تراه يجول بحواسه ويتصرّف بها في أطراف الكائنات، فيحصل بينَه وبين أنواعها اختصاصٌ ومبادلة ومحبة.. ولاسيما إذا ترفّع إلى طبقة الإنسانية تراه بنور العقل يجول في عوالم. فكما يتصرّف في العالم الجسماني يجول في العالم الروحاني، ويطوف في العالم المثالي. وكما يسافر هو إلى تلك العوالم؛ كذلك تسافر هي إليه بالتمثل في مرآة روحه، حتى يستحق أن يقول: «إنَّ العالم مخلوقٌ لأجلي بفضل الله تعالى».. فتتنوع حياتُه وتنبسط إلى الحياة المادية والمعنوية والجسمانية والروحانية التي يشتمل كلٌّ منها على طبقات. فحقّ أن يقال: كما أن الضياء سببٌ لظهور الألوان والأجسام؛ كذا إن الحياة كشافةٌ لكافة الموجودات وسببٌ لظهورها، وإن الحياة هي التي تُصيِّر ذرّةً كعالم. وإن الحياة هي الوسيلة لإِحسان مجموع العالم لذي حياة برأسه مع عدم المزاحمة والانقسام إلّا في أقل قليل بين البشر.

وأما وجه كونها أظهر الدلائل على الصانع وكذا على الحشر، فاعلم أن انتقال بعضِ ذراتٍ جامدةٍ وانقلابَها دفعةً إلى هيئةٍ ووضعيةٍ تُخالِفُ الوضعية الأولى -بلا توسط سبب معقول- برهان أيُّ برهان. حتى إن الحياة لكونها أشرفَ الحقائق وأنزهَها، لا خسّةَ فيها بوجهٍ ولا رَيْن عليها، لا في جهة المُلك ولا في جهة الملكوت، فكلا وجهَيها لطيفان، حتى إن حياة أخسِّ حيوانٍ جزئيّ أيضاً عاليةٌ. ولهذا السر لم يتوسط بينها وبين يد القدرة سببٌ ظاهريّ؛ إذ مباشرتُها لا تنافي عزةَ القدرة، مع أن وضعَ الأسباب الظاهرية -كما مرَّ- لِمحافظة عزة القدرة في مباشرة الأمور الخسيسة في ظاهر النظر.

وأما وجه كونها أظهرَ الدلائل على المبدأ والمعاد فقد سمعتَ آنفاً، فلنلخص لك وهو: أن مَنْ نظر في هذه الحياة وتدرّج بنظره إلى الأطوار المترتبة إلى أبسط صوَر الجسم يرى أجزاءً منتثرة في عالم الذرات. ثم يبصرها قد تلبّس في عالم العناصر صوراً أُخرى. ثم يصادفها في عالم المواليد في وضعية أخرى.. ثم يلاقيها في نطفة ثم في علَقة ثم في مضغة. ثم يراها -دفعةً، بانقلاب عجيب- قد لَبست صورةً، ويرى في هذه الانقلابات حركاتٍ منتظمة على دساتير معينة يتراءى منها: أن كل ذرة كانت معيّنة في أول الأطوار كأنها موظفة للذهاب إلى الموضع المناسب من جسد الحي، فيتفطن الذهن أنها بقصدٍ تُساقُ، وبحكمة تُرسَلُ، وكانت الحياة الثانية في نظره أهونَ وأسهل وأمكَن بدرجاتٍ، فيقنَع بها قلبُه بالطريق الأَولى.

فهذه الجملة كالدليل للاحقتها، والكلُّ معاً برهانٌ على الإنكار المستفاد من ﴿كَيْفَ﴾.

المسألة الثالثة: ﴿ثُمَّ يُميتُكُمْ﴾.

اعلم أن آيةَ ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيٰوةَ﴾ (الملك:2) تدل على أن الموت ليس إعداماً وعدماً صِرفاً، بل تصرُّفٌ، وتبديلُ موضعٍ، وإطلاقٌ للروح من المحبس. وكذا إنّ ما وجد في نوع البشر إلى الآن من أماراتٍ غير معدودة، ونَجَمَ مِن إشارات غير محدودة، ألقت إلى الأذهان قناعةً وحدساً بأن الإنسان بعد الموت يبقى بجهةٍ، وأن الباقيَ منه هو الروح. فوجودُ هذه الخاصة الذاتية في فردٍ يكون دليلاً على وجودها في تمام النوع للذاتية. ومن هنا تكون الموجبةُ الشخصية مستلزمةً للموجبة الكلية، فحينئذ يكون الموت معجزةَ القدرة كالحياة، لا أنه عدمٌ علتُه عَدَمُ شرائط الحياة.

 فإن قلت: كيف يكون الموت نعمةً حتى نُظم في سلك النِعَم؟

قيل لك:

أما أوّلاً: فلأنه مقدمةٌ للسعادة الأبدية، ولمقدمة الشيء حُكمُ الشيء حُسناً وقبحاً؛ إذ ما يتوقف عليه الواجب واجبٌ، وما ينجرّ إلى الحرام حرام.

وثانياً: فلأن الموت عند أهل التحقيق من المتصوِّفين نجاةٌ للشخص بخروجه عن نظير المَحْبس المشحون بالحيوانات المضرّة إلى صحراءَ واسعةٍ.

وثالثاً: فلأنه باعتبار نوع البشر نعمة عظمى؛ إذ لولاها لوقع النوع في سفالات مدهشة.

ورابعاً: فلأنه باعتبار بعض الأشخاص نعمة مطلوبة؛ إذ بسبب العجز والضعف لا يتحمل تكاليفَ الحياة وضغطَ البليات وعدمَ شفقة العناصر. فالموت بابُ فوزِه.

المسألة الرابعة: في ﴿ثُمَّ يُحْييكُمْ.

اعلم أن بإشارة آيةِ ﴿اَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَاَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ﴾ (غافر:11) وكذا برمز تعقيب هذه بـ ﴿ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ مع النظر إلى إيجاز القرآن، إيماءً إلى حياة القبر كما تدل على حياة الحشر.

 فإن قلت: إذا أُحرق إنسانٌ وأُعطي رمادُه للهواء كيف يتصور فيه الحياة القبرية؟

قيل لك: إنَّ البنية ليست شرطا للحياة عند أهل السنة والجماعة، فيمكن تعلق الروح ببعض الذرات.

 فإن قلت: كيف يُتصور عذابُ القبر مع أنه لو وُضعت بيضةٌ على صدر جنازة بأيام، لا يحس فيها أدنى حركة فكيف الحياة والعذاب؟

قيل لك: إنَّ العالم المثاليّ قد بُرهن عليه في موقعه، حتى إن وجوده قطعي عند المحققين الإلهيين. وخاصةُ ذلك العالم تحويلُ المعاني أجساماً والأعراضِ جواهرَ والمتغيراتِ ثابتةً. والعيون الناظرة من عالم الشهادة إليه، الرؤيا الصادقة،ُ والكشفُ الصادق، والأجسامُ الشفافة، فإنها تلوِّح بوجوده. ثم إن عالم البرزخ أثبتُ حقيقةً من عالم المثال الذي هو تمثاله. وظِل هذا العالم عالمُ الرؤيا، وظل هذا عالمُ الخيال، ونظير هذا الأجسامُ الشفافة كالمرآة. فإذ تفهّمتَ هذا؛ فانظر في عالم الرؤيا وتأمل في شخص نامَ عندك وهو ساكن وساكت، مع أنه في عالمه يقاتل ويضارب فيصير مجروحاً، أو تلدغه الحيةُ فيتألم، ولو أمكن لك أن تدخل في رؤياه وتقول له: «يا هذا! لا تعجز ولا تغضب فإن هذا ليس حقيقة» وحلفتَ له ألف يمين لَمَا يصدّقك. ويقولُ لك: «هذا ألمي يوجعني وهذا جرحي! أمَا ترى هذا وبيده السيف، وأمَا ترى الحية تهجم عليّ»؛ إذ تجسّم معنىً وجعُ الكتف أو نزلة الرأس في صورة سيف جارح، إذ النتيجة واحدة. أو تصوَّر معنى الخيانة الموجعة لقلبه في لباس الحية؛ إذ الألمُ واحد. فيا هذا! إذ ترى ذاك في ظِل عالَم المثال أفلا تصدّقه في عالم البرزخ الذي هو أثبتُ حقيقةً بدرجاتٍ وأبعدُ منا؟

أمّا ﴿يُحْييكُمْ﴾ بالنظر إلى الحياة الأخروية، فاعلم أن تلك الحياة نتيجة لكل العالم. ولولاها لم تكن الحقيقةُ ثابتة ولانقلبت الحقائقُ -كالنعمة- نقمةً. وقس! ولقد لخصنا دلائلها في تفسيرِ ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.

المسألة الخامسة: في ﴿ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ آخرِ العُقد من تلك السلسلة.

اعلم أن الخالق -جلّت قدرتُه- مزج الأضدادَ في عالم الكون والفساد لِحِكَم دقيقة، ووضعَ أسباباً ظاهرية ووسائط، إظهارا لعزته، فترتبت سلسلةُ العِلل والمعلولات. ثم لمّا تصفّت الكائنات وتميّزت وتحزّبت في الحشر، ارتفعت الأسبابُ وأُسقطت الوسائط، فارتفع الحجابُ وكُشف الغطاء، فيرى كلُّ شيء صانعَه ويعرف مالكه الحقيقي.

تذييل لخلاصة نظم الجمل:

اعلم أنه تعالى لمّا أنكر كفرَهم الواقع بطريق الاستفهام الاستخباريّ في ﴿كَيْفَ﴾ ودعا الناس إلى التعجب منه؛ برهن عليه بما بعد الواو الحالية؛ أي بإراءة أربعة انقلابات عظيمة كلُّها، وكلّ منها شاهد على وجوب الإيمان. ثم إن كل انقلاب منها مشتمل على أطوار ومراتب، ومقدمة ومُعِدّة للانقلاب الذي يليه. فمن الطور الأول من الانقلاب الأول إلى الطور الآخر من الانقلاب الآخر يتجدد أصلُ جسد الحي دائما، فيُلقِي قشراً ويَلبس الأكملَ، ثم يخلعه ويلبس صورة أعلى، ثم يلقيها أيضاً فيلبس صورة أحسن، وهلم جرا… فهو دائماً في استبدالِ صورةٍ بأخرى كاملةٍ إلى أن يصل إلى أعلى الأعالي فيستقرَّ بتقرر السعادة الأبدية، وكلُّها بنظام معيّن وقانون منتظم. فأشار إلى أول الانقلابات بقوله: ﴿وَكُنْتُمْ اَمْوَاتًا﴾ وهذا مشتمل على أطوار،ٍ آخرُ الأطوار ينتج مآلَ ﴿فَاَحْيَاكُمْ﴾ الدالِ على الانقلاب الثاني الذي هو أعجب حقائق العالم المشتمل على أطوارٍ آخرُها تنتهي بانقلابِ ﴿ثُمَّ يُميتُكُمْ﴾ المشتملِ أيضا على أطواره البرزخية التي تتم بانقلابِ ﴿ثُمَّ يُحْييكُمْ﴾ المشتملِ على أطواره القبرية ثم الحشرية المختومة بقوله: ﴿ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾. فمَن أمعن في هذه الانقلابات كيف يتجاسر على الإنكار؟

ولنشرع في نظم هيئاتِ جملةٍ جملةٍ:

أما الجملة الأولى أعني: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ اَمْوَاتًا﴾ :

فالاستفهام فيها لتوجيه ذهنهم إلى قباحتهم ليروا بأنفسهم فينصفوا فيقرّوا.

و ﴿كَيْفَ﴾ إشارة إلى الاستدلال على عدم الكفر بإنكار الحال اللازم.

والخطاب في ﴿تَكْفُرُونَ﴾ إيماءٌ كما مرّ إلى شدة الغضب. ولم يقل «لا تؤمنون» إشارةً إلى شدّة تمردهم؛ إذ يتركون الإيمان الذي عليه الدلائل ويقبلون الكفر الذي على بطلانه البراهينُ.

وواو الحالية في ﴿وَكُنْتُمْ﴾ تشير إلى مقدّر، إذ الجملتان ماضيتان والأُخريان مستقبلتان كلاهما لا يوافق قاعدة مقارنة الحال لعامل ذي الحال، فإذَن التقديرُ «والحال أنكم تعلمون».

 فإن قلت: إنهم وإن علموا بالموت والحياةِ الأُولى لكنهم لا يعلمون أنهما من الله، وكذلك لا يقرّون بالحياة الثانية ولا يصدّقون بالرجوع إليه تعالى؟

قيل لك: من البلاغة تنـزيل الجاهل منـزلة العالم عند ظهور دلائل إزالة الجهل، فلما كان التفكرُ في أطوار الموت الأول والحياة الأُولى ملجِئا إلى الإقرار بالصانع وكان العلمُ بها مقنعاً للذهن بوقوع الحياة الثانية.. كانوا كأنهم عالمون بهذه السلسلة.

والخطاب في ﴿وَكُنْتُمْ﴾ إشارة إلى أن لهم في عالم الذرات أيضا وجودا وتعينا، لا أن الذرات كيفما اتفقت صارت أجسادَهم المعينة بالتصادف.

وإيثار ﴿اَمْوَاتًا﴾ على «جماد» أو «ذرات» إيماءٌ إلى مآلِ:

﴿لَمْ يَكُنْ شَيئًا مَذْكُورًا﴾ (الإنسان:1).

وأما جملة: ﴿فَاَحْيَاكُمْ﴾ :

 فإن قلت: الفاء للتعقيب والاتصال مع تخلل تلك الأطوار وتوسّط مسافة طويلة إلى الحياة؟

قيل لك: الفاء للإشارة إلى منشأ دليل الصانع، وهو أن انقلابها من الجمادية إلى الحيوانية دفعةً من غير توسطِ سببٍ معقولٍ، يُلجئ الذهن إلى الإقرار بالصانع. وكذا إن الأطوار في حالة الموات ناقصة غير ثابتة شأنها التعقيب.

وإيثار ﴿أَحْيَاكُمْ﴾ على «صرتم أحياء» للتصريح، أي صرتم أحياء ولا يمكن ذلك بغير قدرة الصانع. فأنتج: إن الله تعالى هو الذي أحيا.

وأما جملةُ ﴿ثُمَّ يُميتُكُمْ﴾ بدلَ «تموتون»، فإشارة كما مرَّ إلى أن الموت تصرف عظيم للقدرة بمقياس القَدَر؛ ألا ترى أن من استوفى عمرَه الطبيعيّ ثم انتهى إلى الأجل أقلُّ قليل، فيتيقظ الذهنُ إلى أن الموت ليس نتيجة طبيعية. فالموت انحلال الجسد لا فناءُ الروح بل إطلاقه.

وأما جملة ﴿ثُمَّ يُحْييكُمْ﴾ فـ ﴿ثُمَّ﴾ إشارة إلى توسط عالم البرزخ ذي العجائب.

وأما جملة ﴿ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ فـ ﴿ثُمَّ﴾ إشارة إلى توسط الغطاء العظيم.

و ﴿تُرْجَعُونَ﴾ إشارة إلى كشف الغطاء وطردِ الأسباب وإسقاطِ الوسائط.

 فإن قلت: الرجوع إلى الله تعالى يقتضي أن يكون المجيء منه أوّلاً، ومن هنا توهّمَ بعضٌ الاتصالَ واشتبه بعضُ أهل التصوف.

قيل لك: إن في الدنيا وجودا وبقاءً وكذا في الآخرة وجودٌ وبقاء. فالوجود في الدنيا يصدر من يد القدرة بلا واسطة، وأما البقاء المحفوف بالتحليل والتركيبِ والتصرفِ والتحول في عالم الكون والفساد فيتداخل بينه العِلل وتتوسط الأسباب للحكمة المذكورة سابقاً. وأما في الآخرة فالوجود وكذا البقاءُ بلوازمه وتركيباته يظهر بالذات من يد القدرة ويَعرف كلُّ شيء مالكَه الحقيقي. فإذا تأملت في هذا علمت معنى الرجوع.

* * *

الآية (26-27)

 ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ اَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَاَمَّا الَّذينَ اٰمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَٓا اَرَادَ اللّٰهُ بِهٰذَا مَثَلًاۢ يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهٓ اِلَّا الْفَاسِقينَ ﴿26﴾ اَلَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهۖ وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ اُولٰٓئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿27﴾﴾

اعلم أن في هذه الآية أيضاً الوجوهَ الثلاثة النظمية، وأن مآل المجموع ينظر إلى سوابقه وإلى لواحقه وإلى مجموع القرآن.

وأما نظمُها بالنظر إلى لواحقها فاعلم أن القرآن لمّا مثّل بالذباب والعنكبوت وبحث عن النمل والنحل انتهز الفرصةَ -للاعتراض- اليهودُ وأهلُ النفاق والشركِ فتحمّقوا وقالوا: أَيتنـزّل الله تعالى مع عظمته إلى البحث عن هذه الأمور الخسيسة التي يستحي من بحثها أهلُ الكمال؟ فضرب القرآنُ بهذه الآية ضرباً على أفواههم.

وأما نظمُها بالقياس إلى سوابقها، فاعلم أن القرآن لما أثبت النبوّةَ بالإعجاز والإعجاز بالتحدِّي والتحدِّي بسكوتهم، وكذلك أثبت في رأس السورة أن القرآن مشتملٌ على صفات عالية ومزايا كاملة لا تجتمع في كلام… سكتوا في نقطة التحدي حتى لم ينبض لهم عرقُ عصبية. لكن اعترضوا وغالطوا في نقطة كماله وقالوا: إن التمثيل في أمثالِ ﴿كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾
و﴿كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ من الأمور العادية سببٌ لنـزالة درجة الكلام فيشبه المحاورةَ العاديةَ بين الناس؛ فالقرآن ألقَمهم حجراً وأفحمهم بهذه الآية.

وإيضاحه: أن لهم شبهات واهية منشؤها أوهامٌ متسلسلة مبناها مغالطات:

إحداها: القياس مع الفارق، ومنشؤه أنهم ينظرون إلى كل شيء بمرآة مألوفهم؛ فحينما يرَون الإنسان ذهنُه جزئي وفكرُه جزئي ولسانه جزئي وسمعه جزئي؛ لا يتعلق كلٌّ بأمرين معا بالذات، ويعرفون أن مقياس الهمّة موضوعُ المَشْغَلة والاهتمام، ويرون أن القيمةَ العظمة بنسبة الهمّة حتى إنهم لا يُسنِدون أمراً حقيراً نزيلاً إلى شخص عالٍ جليل؛ ظناً منهم
أنه لا يتنـزّل للاشتغال بمثلِه ولا يسع ذلك الأمر الحقير همّتَه العظيمة… ينظرون بهذا النظر المشبط إلى الواجب تعالى، ويقولون: كيف يتنـزّل بعظمته وجلاله للتكلّم مع البشر بمثل محاورة الإنسان وللبحث عن هذه الأمور الجزئية لاسيما هذه الأشياء المحقَّرة؟ أفلا يعقِل هؤلاء السفهاءُ أن إرادةَ الله تعالى وعلمَه وقدرتَه كليةٌ عموميةٌ شاملة محيطة، وليس مقياسُ عظمته تعالى إلّا مجموعَ آثاره، وما ميزانُ تجلّيه إلّا كافةَ كلماته التي لو كان البحرُ مداداً لها ما نفدَت. مثلاً – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾ -: إذا ألقت الشمسُ -بعد فرض كونها مختارةً عاقلةً- ضياءها على ذرّة ملوّثة، أَيقال لها: كيف تنزّلتْ -بعظمتها- للاشتغال والاهتمام بمثل هذه الذرة؟

نعم، إن الله تعالى كما خلَق العالَم وأتقنه صُنعاً واهتم به؛ كذلك خلَق الجوهرَ الفردَ وأتقن صُنعه. ففي نظر القدرةِ الجواهرُ الفردةُ كالنجوم السيارة، لأن قدرتَه تعالى وعلمَه وإرادتَه وكلامَه لازمةٌ للذّات، وذاتية، فليست متجددةً ولا قابلةً للزيادة والنقصان ولا متغيرةً حتى يتداخل فيها المراتبُ؛ إذ العجزُ ضدٌّ لها لا يمكن تداخلُه بينها. فلا فرق بين الذرة والشمس. إذ الممكنُ بتساوي طرفَيه كالميزان ذي الكفتين، لا فرقَ في صرف القوة التي ترفعُ كفةً وتضع أخرى بين أن يكون في الكفتين شمسان أو ذرتان، وهكذا نسبةُ المقدورات بالنسبة إلى القدرة الذاتية اللازمة. وأما بالنسبة إلى قوة الممكنات العارضَة المتغيرةِ المتداخلِ بينها العجزُ فلا موازنةَ.

والحاصل: أنَّ الذرات والأمور الخسيسة لمّا كانت مخلوقةً له تعالى كانت معلومةً له بالضرورة، فلا مُشاحَّة بالبداهة أن يبحث عنها. وعلى هذا السر قال: ﴿اَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ﴾ (الملك:14) فكيف لا يبحث عنها ولا يتكلم بها مَنْ عَلِم وهو العزيز الحكيم.

وثانية المغالطات: هي أنهم يزعمون أنهم يرون في أسلوب القرآن خلفَ المتكلم تمثالَ إنسانٍ، بدليل البحث عن هذه الأشياء الحقيرة والأمور العادية كأسلوب محاورة البشر. أفلا يتذكر هؤلاء المتجاهلون أنّ الكلام كما ينظر إلى متكلِّمه بجهة؛ كذلك ينظر إلى المخاطَب به بجهات، على ما تقتضيه البلاغة للتطبيق على مقتضى حال المخاطب. فلما كان المخاطَب بشراً وكان البحثُ عن أحواله والمقصدُ تفهيمه، لبِس القرآنُ أسلوبَ البشر الممزوج بحسيّاته المسمى بـ«التنـزّلات الإلهية إلى عقول البشر» للتأنيس.. ألَا تراك إذا حاورتَ مع صبيّ تتصبّى له؟

 فإن قلت: إنَّ حقارة الأشياء وخساستها تنافي عظمةَ القدرة ونزاهةَ الكلام؟

قيل لك: إنَّ الحقارةَ والخساسة والقُبح وأمثالَها إنما هي بالنظر إلى مُلك الأشياء وجهتِها الناظرة إلينا وبالنظر إلى نظرنا السطحي، وقد وُضعَت الأسبابُ الظاهرية للتوسط في هذه الجهة لتنـزيه العظمةِ، وأما بالنظر إلى ملكوتية الأشياء فكلُّها شفّافةٌ عالية، وهذه الجهة هي محلُّ تعلّق القدرة، لا يخرج من التعلّق شيءٌ؛ فكما اقتضت العظمةُ وضعَ الأسباب في الظاهر، كذلك تستلزم الوحدةُ والعزة شمولَ القدرة لكلٍّ وإحاطةَ الكلام به؛ على أن القرآنَ المكتوبَ على ذرّة بالجواهر الفردة ليس بأقلَّ جزالةً من القرآن المكتوب على صحيفة السماء بمِداد النجوم، وأن خِلقةَ الذباب ليست بأدنى صنعاً من خِلقة الفيل. فالكلام كالقدرة.

 فإن قلت: إلى أيّ شيء تعود الحقارةُ الظاهرية في هذه التمثيلات؟

قيل لك: إنما تعود إلى الممثَّل له دون الممثِّل، فكلما كانت مطابقتُه للممثَّل له أحسنَ، كانت درجةُ الكلام أعلى ونظام البلاغة أرفع. ألا ترى أن السلطان إذا أعطى راعيه ما يليق به من اللباس وألقى إلى الكلب ما يشتهيه من العظم.. الخ، لا يقال إنه فعلَ بدعةً، بل يقال إنه أحسن بوضع كل شيء في موضعه. فإذن كلما كان الممثَّل له حقيراً كان مثالُه حقيراً، وإن كان عظيماً فعظيماً. ولما كانت الأصنام أدنى الأمور سلَّط الله الذبابَ على رؤوسها. ولما كانت عبادتُها أهونَ الأشياء جعل الله تعالى نسجَ العنكبوت عنوانها.

وثالثة المغالطات: أنهم يقولون ما الحاجة إلى أمثال هذه التمثيلات المومِئَة إلى العجز عن إظهار الحقيقة؟.

الجواب: لما كان المقصد من إنزال التنـزيل إرشادَ الجمهور، والجمهورُ عوامُّ، والعوام لا يرون الحقائق المحضة والمجرداتِ الصرفة عراةً عن متخيلاتهم، ألبَس الله تعالى بلُطفه وإحسانه الحقائقَ لباسَ مألوفاتهم لتحسن ألفتهم كما عرفتَ في سرّ المتشابهات.

أما نظم الجمَلِ بعضٍ مع بعضٍ، فاعلم أن ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ اَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ ردٌّ وطردٌ لاعتراضات متسلسلة. كأنهم يقولون: أيّةُ حكمةٍ في مكالمة الله تعالى مع البشر، وعتابِه عليهم، والتشكِّي منهم؛ فإنها علامةُ أن للإنسان أيضاً تصرفاً آخرَ في العالم؛ لاسيما كالمحاورة الجارية بين الناس فإنها علامةُ أنه كلامُ البشر.. ولاسيما يتراءى من خلف الكلام تمثالُ إنسان.. ولاسيما بتصويراتٍ وتمثيلات فإنها علامةُ العجز عن إظهار الحقيقة.. ولاسيما إذا كانت التمثيلات عادية فإنها علامةُ انحصار ذهن المتكلم.. ولا سيما بأمور حقيرة فإنها علامة خفّة المتكلم.. ولاسيما إذا كانت مما لا اضطرار إليه وكان تركُه أَولى.. ولاسيما إذا كان بعض تلك الأمور مما يستحي أهلُ العزّة عن البحث عنه.. ولاسيما إذا كان الباحث ذا العظمة والجلال.. فأجاب القرآن هدماً لهذه السلسلة من المبدأ إلى المنتهى بضربةٍ واحدة فقال: ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ…﴾ الخ؛ لأن جهة الملكوتية لا تنافي العظمةَ والجلالَ فلا يتركها ولا يهملها؛ إذ الألوهيةُ تقتضي كذلك.

فإذن يمثَّل بالأمور المحقَّرة للمعاني المحقّرة؛ إذ حكمتُه مع سر البلاغة هكذا تقتضي.. فإذن يذكر التمثيلات العادية بناء على أنها الموافقة للتربية والإرشاد.. فإذن يصوّر الحقائق بتمثيلات بناءً على ما تقتضيه العنايةُ مع التنـزّلات الإلهية.. فإذن يختار أسلوب محاورة البشر بعض مع بعض بناءً على ما تقتضيه الربوبية مع التربية.. فإذن يتكلم مع الناس بناءً على ما تقتضيه الحكمة مع النظام.

والحاصل: أن الله تعالى لمّا أودع في الإنسان جزءاً اختيارياً وجعله مصدراً لعالم الأفعال، أرسل كلامَه لينظم ذلك العالم.

وأن نظم جملةِ ﴿فَاَمَّا الَّذينَ اٰمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ هو أنه لما ذكر في الأولى المدعى، أشار بهذه إلى طريق دليله. وكذا رمَزَ وأومأ إلى وجه دفع الأوهام، أي مَن نظرَ بنور الإيمان ومن جانب الله تعالى ومن جهة قدرته -جاعلاً حكمتَه وعنايتَه وربوبيتَه نصبَ العين- عَلِم أنه حق وبلاغة. وأما من نظر من جانب حضيض نفسِه، ومن جهة الممكنات، فلا جرم ستهوي به الأوهامُ.. ومثَلُهما كمثل شخصين مُصْعِداً منحدِراً رأَيَا جداولَ ماء؛ أما أحدُهما فيصعد ويرى رأس العين ويذوق فيعلم أن الماء كلَّه عذب؛ فكلما يصادف قطعة ماء من تفرعات الجداول يتفطن -ولو بأمارة ضعيفة- أنه عذب، فلا تقدِر الأوهامُ -ولو قويةً- على تغليطه. وأما الآخر فيَتَسَفَّل وينظر من جانب التفرعات ولا يرى منبع العين فيحتاج لمعرفة عذوبة كلِّ قطعةِ ماء إلى دليل قطعي. فأدنى وهمٍ يُورّطه في الشبهة. أو كمثال شخصين بينهما مرآة ينظر أحدهما إلى الوجه الشفّاف، والآخر إلى الوجه الملوّن.

والحاصل: أنه لابد في النظر إلى صنعه تعالى أن يُنظر إليه من جانبه تعالى، مع ملاحظة عنايته وربوبيته. وليس هذا النظر إلّا بنور الإيمان، ولا تكون الأوهامُ حينئذ -ولو قوية- إلّا أوهَن من بيت العنكبوت. ولو نظر إليه من جهة الممكنات بنظر المشتري وبفكره الجزئي لقويت في عينه الأوهامُ الضعيفة فيتستر عنه الحقيقةُ كما يمنع جناحُ بعوضةٍ رؤيةَ العين لجبل الجوديّ.

وأن نظم جملةِ ﴿وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا..﴾ الخ هو: أنه لمّا أرى طريقَ فهم حكمة أسلوب التمثيلات -وهي النظر بنور الإيمان من جانب الواجب الوجود- بيّنَ هنا الطريقَ المقابل الذي هو منشأ الأوهام والتعللات، بأن ينظر من طَرَف نفسه بظلمةِ الكفر التي تصوِّر كلَّ شيء مظلماً مع مرض القلب الذي يَثقُل به أخفُّ وَهْمٍ، ثم يضلّ طريقَ الحق ثم يتردد ثم يستفهم ثم يُنكِر. فالقرآن بالإيجاز والكناية أورد -إشارة إلى استفهامهم الإنكاري- قولَه:
﴿مَاذَٓا اَرَادَ اللّٰهُ بِهٰذَا مَثَلًا﴾ بدلَ «لا يعلمون» مع أنه المطابق للسابق ظاهراً.

وأن نظم جملةِ ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا﴾ هو: أنها جوابٌ عن صورة استفهامهم؛ فلغاية الإيجاز نُزّلَ الغايةُ والعاقبةُ منـزلةَ العلّة الغائية، كأنهم يسألون ويقولون: لأي شيء كان هكذا؟ ولِمَ لم يكن إعجازُه بدهيا؟ ولِمَ لم يكن كونُه كلامَ الله ضرورياً؟ ولِمَ صار معرضَ الأوهام بسبب هذه الأمثال؟ فأجاب القرآنُ بقوله: ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا﴾ أي لأجل أنّ مَن تفكّر فيه بنور الإيمان ازداد نوراً، ومن تفكر بظلمة الكفر والتنقيد ازداد ظلمةً.. وهذا لأجل أنه نظريّ ليس بدهياً.. وهذا لأجل تفريق الأرواح الصافية العُلوية عن الأرواح الكدِرة السفلية.. وهذا لأجل تمييز الاستعدادات العالية بالنشوء والنماء عن الاستعدادات الخبيثة.. وهذا لأجل تمييز الفطرة الصحيحة بالتكمّل والمجاهدة والاجتهاد عن الفطرة المتفسخة الفاسدة.. وهذا لأجل أن امتحان البشر يستلزمه..

وهذا لأجل أن الابتلاء يقتضيه.. وهذا لأجل أن سرَّ التكليف لتكميل البشر وسعادته يستلزمه. فأوجزَ التنـزيلُ في الجواب.

 إن قلت: قد قلتَ إنَّ التكليف لتأمين سعادة البشر مع أنه يكون سبباً لوقوع الأكثر في الشقاوة، ولولاه لما صار التفاوتُ بهذه الدرجة؟.

قيل لك: إنَّ الله تعالى كما كلّف الجزءَ الاختياريَّ بكسبه تشكيلَ عالَم الأفعال الاختيارية؛ كذلك جعل التكليف سببَ إسقاء وإنبات البذور الغير المحصورة المودعة في روح البشر. ولولاه لبقيَت الحبوباتُ يابسة. وإذا تأملتَ في أحوال النوع بنظر نافذٍ رأيت كلَّ ترقيات الروح المعنوية، وكلَّ تكملات الوجدان الإلهية، وتكملاتِ العقل، وترقياتِ الفكر المُثمرة بدرجة تحيّر فيها العقولُ إنما وُجِدت كافةً بالتكليف.. وإنما استيقظت ببعثةِ الأنبياء..وإنما تلقّحت بالشرائع.. وإنما أُلهمَت من الأديان. ولولاها لبقي الإنسانُ حيواناً ولانعدمت هذه الكمالاتُ الوجدانية وتلك المحاسن الأخلاقية. أما القسم القليل فقبِلوا التكليف اختياراً ففازوا بالسعادة الشخصية وصاروا سبباً للسعادة النوعية. وأما القسم الكثير كميةً فهم وإن كفروا بقلوبهم وفيما هم فيه مختارون، لكن لمّا لم يكن كلُّ حالِ كلِّ كافرٍ كافراً وكلُّ صفتِه كافرةً يابسة، كانوا بسبب إيقاظ البعثة للحسِّيات الوجدانية، وتنبيهِ النبوةِ للسجايا الأخلاقية، وبتسامع الشرائعِ، وتعارفِ آثارِها بحيث قد قَبلوا أنواعاً من التكليف اضطراراً.

 فإن قلت: سعادة القليل مع شقاوة الكثير كيف تكون مَظهراً لسعادة النوع حتى تكون الشريعةُ رحمةً، مع أن سعادة النوع إنما تكون بالكلِّ أو الأكثر؟

قيل لك: إذا كان لك مائةُ بيضة ووضعتَها تحت طير، فافرخَتْ عشرين وأفسدت ثمانين؛ أفلا تقول قد تكمّل هذا النوع؟ إذ حياةُ عشرين تساوي ألوفَ بيضةٍ. أو كان لك مائةُ نواةِ تمرٍ فأسقيتها بالماء فصار عشرون منها نخلات باسقات وتفسخ ثمانون، أفلا تقول: الماءُ سعادةٌ لهذا النوع؟ أو كان لك معدن فسلطتَ عليه النارَ فأصفَت خُمسَه ذهباً وصيَّرتِ الباقي فحماً ورماداً، أفلا تكون النارُ سببَ كماله وسعادته؟ وقس على هذا! فإذن نشوءُ الحسيّات العالية ونموّ الأخلاق إنما هو بالمجاهدة، وتكمُّلُ الأشياء إنما هو بمقابلة الأضداد ومزاحمتها. ألا ترى أن حكومة إذا جاهَدت ينمو فيها الجسارةُ وإذا تركت انطفأت.. تأمل!

وأن نظم جملةِ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهٓ اِلَّا الْفَاسِقينَ﴾ هو:

أنه لمّا أبهمَ في ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا﴾ انتبه ذهنُ السامع وخاف فاستفسر قائلاً:
مَن هم الضالون؟ وما السبب؟ وكيف تجيء الظُلمةُ من نور القرآن؟.. فأجاب بأنهم الفاسقون، وأن الإضلال جزاءٌ لفسقهم، وبالفسق ينقلب النورُ في حق الفاسق ناراً والضياءُ ظلمةً. ألا ترى أن ضياء الشمس يعفّن ما استقذرت مادتُه.

وأن وجه التوصيف بقوله: ﴿اَلَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهۖ وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ﴾ هو أنه شرحٌ وكشفٌ للفسق. إذ الفسق عدولٌ عن الحق، وتجاوزٌ عن الحد، وخروجٌ من القشر الحصين. وأن الفسق إنما هو بالإفراط أو التفريط في القوى الثلاث التي هي: القوّة العقلية، والغضبية، والشهوية.. وأن الإفراط والتفريط سببان للعصيان في مقابلة الدلائل التي كالعهود الإلهية في الفطرة.. وكذا وسيلتان لمرض الحياة النفسية وأُشير إلى هذا بالصفة الأولى.. وكذلك محرِّكان للعصيان في مقابلة الحياة الاجتماعية وتمزيق الروابط والقوانين الاجتماعية وأُشير إلى هذا بالصفة الثانية.. وأيضاً هما سببان للفساد والاختلال المنجر إلى فساد نظام الأرض وأُشير إلى هذا بالصفة الثالثة. نعم، إن الفاسق بتجاوز القوةِ العقلية عن حدّ الاعتدال يكسر رابطةَ العقائد ويمزّق القشر الحصين أي الحياة الأبدية.. وبتجاوز القوةِ الغضبية يمزّق قشرَ الحياة الاجتماعية.. وبتجاوز القوةِ البهيمية واتباع الهوى يزيل عن قلبه الشفقةَ الجنسية فيفسُد ويورّط الناسَ فيما تورط فيه، فيكون سبباً لضرر النوع وفساد نظام الأرض.

وأن نظم جملةِ ﴿اُولٰٓئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ هو: أنه لمّا ذكر جنايات الفاسق ورهّب بها أكّد التهديد بنتيجتها وجزائها ليؤثر الترهيبُ. فقال: هم الذين خسروا ببيع الآخرة بالدنيا واستبدال الهدى بالهوى.

ولنشرع في نظم هيئات جملةٍ جملةٍ، فاعلم أن الآيات وجمَلَها وهيئاتِها كأميال الساعة التي تعدّ الثواني والدقائقَ والساعاتِ، فكلما يُثبت هذا شيئاً يؤيّده ذاك بدرجته ويمدّه ذلك بنسبته، وكذا إذا أراد هذا شيئاً عاوَنه ذاك وساعده الآخر بحيث يُخطِر الحالُ ما قيل:

عِبَارَاتُنا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ    وَكُلٌ إلى ذَاكَ الْجَمالِ يُشِيرُ

ولهذا السر قد بلغت سلاسةُ القرآن وعلوُّ طبقته ودقةُ نقشه إلى مرتبة الإعجاز.

أما هيئاتُ جملةِ ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْيٓ اَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾ فاعلم؛

أن ﴿اِنَّ﴾ للتحقيق وردِّ التردد والإنكار فهي إشارة إلى الترددات المتسلسلة المذكورة..

وأن لفظة ﴿اللّٰهَ﴾ لتنبيه الذهن على الخطأ في القياس المذكور.

وأن إيثار ﴿لَا يَسْتَحْيٓ﴾ على «لا يترك» مع أن الحياء -وهو انقباض النفس- محالٌ في حقّه تعالى ونفيُ المحال لا فائدة فيه، إشارةٌ إلى أن الأسباب من الحكمة والبلاغة وغيرهما تقتضي حسنَ التمثيل، فلا علّة للترك إلّا الحياء، والحياءُ عليه تعالى محالٌ، فلا سبب للترك أصلاً فألزمَهم أشدَّ إلزام وألطفَه.. وكذا رمزَ بمشاكلة الصُّحبة إلى كلمتهم الحمقاء من قولهم: «أما يستحي ربُّ محمد من التمثيل بهذه المحقَّرات»..

وأن إيثار ﴿اَنْ يَضْرِبَ﴾ على «من المثل الحقير» مع أنه الأنسب، إشارةٌ إلى أسلوب لطيف وهو أن التمثيل كضرب الخاتم للتصديق والإثبات، أو كضرب السكة للقيمة والاعتبار. وفي الإشارة رمز إلى حسن التمثيل طرداً للأوهام، وكذا إشارة إلى أن التمثيل منهاجٌ مشهور مستحسَن، لأن ضروب الأمثال من القواعد المعروفة.

وأن إيثار ﴿اَنْ يَضْرِبَ﴾ على «ضَرْب» مع أنه الأوجز للإيماء إلى أن منشأ الاعتراض ليس إلّا الخساسة؛ لأن ﴿اَنْ يَضْرِبَ﴾ لعدم استقلاله كأنه لطيفٌ يُمِرّ القصدَ إلى المفعول.. وأما «ضَرْب» فلاستقلاله كأنه كثيف يستوقف القصدَ.

وأن ﴿مَثَلًا﴾ إيماء إلى خاصية التمثيل من تصوير المعقول بالمحسوس، والموهومِ بالمحقق، والغائب بالشاهد. ومنه إيماء إلى ردِّ الوَهم.. وتنكير ﴿مَثَلًا﴾ رمز إلى أن مدار النظر هو ذاتُ التمثيل، وأما الصفات فمحمولةٌ على طبيعة المقام وحال الممثَّل له.

وأن التعميم في ﴿مَا﴾ إشارة إلى تعميم القاعدة لئلا يختص الجواب بما اعترضوا به فالممثَّل له أيّةَ صورة اقتضى استحسنتها البلاغةُ.

وأن تخصيص ﴿بَعُوضَةً﴾ إشارةٌ إلى كثرة استعمال البلغاء للتمثيل بها، كقولهم: «أضعفُ من البعوضة» و«أشدُّ عناداً من البعوضة» و«كلفتني مخَّ البعوضة» و«أعزُّ من مخ البعوضة» و«قالت البعوضة للنخلة استمسكي أنا أطير» و«الدنيا لا توزن عند الله جناح بعوضة» وقس.. وفي الإشارة رمز إلى ضعف وَهمهم.. وأن المعنيّ بـ ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ ما دونها في الصغر وما فوقها في قيمة البلاغة أو في الصغر أيضاً، فالتعبير بـ ﴿فَمَا فَوْقَهَا﴾ إشارة إلى أن الصغير أغربُ بلاغةً وأعجب خِلقةً.

واعلم أن الهيئات كخيوط الحرير؛ باجتماعها يظهر النقشُ الحسَن.

وأما هيئات جملةِ ﴿فَاَمَّا الَّذينَ اٰمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَٓا اَرَادَ اللّٰهُ بِهٰذَا مَثَلًا﴾:

فاعلم أن «الفاء» للتفريع، والتفريع إشارة إلى دليل ضمني ينتج هذه الجملةَ ذات الشقين: أي لا يترك التمثيل لأن البلاغة تقتضيه؛ فمن أنصف يعرف أنه بليغ وحق وكلام الله تعالى. ومن نظر بالعناد لا يعلم الحكمة، فيتردد، فيسأل، فينكر، فيستحقر… فأنتج: إن المؤمن -لأنه منصف- يصدِّق أنه كلام الله، والكافر -لأنه معاند- يقول: ما الفائدة فيه؟

وأن ﴿اَمَّا﴾ فلأنها شرطية لزومية في الوضع إشارة إلى أن الخبر لازم للمبتدأ وضروريّ له، يعني من شأن المبتدأ هذا الخبر.

وأن إيراد ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ بدل «المؤمنين» إشارة إلى التنصيص على أن الإيمان هو سبب العلم بحقيته، وأن العلم بحقّيته إيمان.

وأن ﴿اَنَّهُ الْحَقُّ﴾ بدلَ «أنه البليغ» الأنسبِ بالمقام إشارة إلى آخِر نتيجة اعتراضهم، إذ غرضُهم نفيُ كونه كلام الله.

وأنّ حصْرَ ﴿اَنَّهُ الْحَقُّ﴾ إشارة إلى أن هذا هو المستحسن الذي لا يُستقبَح بخلاف ما يزعمون؛ إذ السلامةُ من العيب لا تُثبت الكمالَ.

وأن ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ إشارة إلى أن هدف غرضهم إنكار النـزول.

وأن ﴿اَمَّا﴾ في ﴿وَاَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا﴾ للتأكيد والتحقيق والتفصيل.

وأن إيراد ﴿الَّذينَ كَفَرُوا﴾ بدل «الكافرين» الأوجزِ إيماءٌ -كما مرَّ- إلى أن إنكارهم يجيء من الكفر ويذهب إلى الكفر.

وأن إيثار ﴿فَيَقُولُونَ﴾ على «فلا يعلمون» -مع أنه الظاهر كما مرَّ- فلاختيار طريق الكناية للإيجاز أي مَن كفر لا يعرف الحقيقةَ فينجرّ إلى التردد.. فينجر إلى الإنكار.. فينجر إلى الاستحقار بصورة الاستفهام.

وأيضاً في ﴿يَقُولُونَ﴾ رمز إلى أنهم كما كانوا ضالّين، كذلك كانوا مُضلّين بأقوالهم.

وأما هيئات جملةِ ﴿يُضِلُّ بِه كَثيرًا وَيَهْدي بِه كَثيرًا﴾، فاعلم أن الترتيب يقتضي تقديمَ الثانية لكن لما كان الغرضُ ردّ اعتراض المتردِّد المستفهِم المستنكِر المستقبِح، كان ﴿يُضِلُّ﴾ أهمَّ. أما العدولُ عن «الضلالة والهداية» المناسِبتين للسؤال إلى صورة
الفعل المضارع فإشارة إلى أن كفرهم يتكاثف ظلمةً على ظلمةٍ بنسبة تزايد النـزول تجدداً؛ كما أن المؤمن يتزايد إيمانُه بدرجات النـزول نوراً على نور.. وكذا في الفعل -بناء على كونه جواباً- رمزٌ إلى بيان حال الفريقين وبيان السبب.

وأما ﴿كَثيرًا﴾ ففي الأُولى كميةً وعدداً، وفي الثانية قيمةً وكيفيةً. نعم، إن كرامَ الناس كثيرون وإن قلّوا. فالتعبير بالكثير في الثانية رمز إلى سرّ كون القرآن رحمة للبشر. تأمل.

وأما جملةُ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهٓ اِلَّا الْفَاسِقينَ﴾: فاعلم أنه لما ذكر الكثير في الأولى دفع الوسوسة والخوف والتردد وتهمة النقص في القرآن ببيانِ أن الضالين مَن هم؟ وأن منشأ الضلالة فسقُهم، وأن سببَها كسبُهم، وأن القصورَ منهم لا من القرآن، وأن خلق الضلالة جزاءٌ لفعلهم..

ثم اعلم أن كل واحدة من هذه الجمل كما أنها كشّافةٌ لسابقتها؛ كذلك مفسَّرةٌ بلاحقتها كأنها دليل للسابقة نتيجة للاحقة.

وإيضاحه: أن فيها سلسلتين.

إحداها هكذا: إنه لا يستحيي.. لأنه لا يترك.. لأنه بليغ.. لأنه حق.. لأنه كلام الله.. لأن المؤمن يعلمه.

والثانية هكذا: إنه لا يستحيي كما يقول المنكِرُ.. لأنهم يقولون: يلزم تركه.. لأنهم لا يعلمون حكمتَه.. لأنهم يقولون: ما الفائدة فيه.. لأنهم ينكرونه.. لأنهم يستحقرونه.. لأنهم يقعون في الضلالة بسماعه.. لأنهم يضلّهم القرآن.. لأنهم هم الذين فسقوا وخرجوا عن قشرهم.. لأنهم نقضوا عهد الله.. لأنهم مزّقوا ما اتصل بأمر التكوين والتشريع.. لأنهم يفسدون النظام الإلهيّ في الأرض. فإذن هم الخاسرون في الدنيا باضطراب الوجدان، وبقلق القلب، وبتوحش الروح، وفي الآخرة بالعذاب الأبديّ وبغضب الله… فتأمل في سلاسة السلسلتين!

وأما هيئات جملةِ ﴿اَلَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ميثَاقِهۖ وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ﴾: فاعلم أن توصيف الفاسقين المشكِكين في إعجازه ونظمه بهذه الأوصاف في هذا المقام، إنما هو لمناسبةٍ لطيفةٍ عاليةٍ. كأن القرآن يقول: ليس ببعيد من الفساق -الذين لم يروا إعجاز القدرة في نظام الكائنات التي هي القرآن الأكبر- أن يترددوا ويجهلوا إعجاز نظم القرآن؛ إذ كما يرون نظام الكائنات تصادفياً، والتحولاتِ المثمرةَ عبثاً اتفاقيةً فتستر عنهم -لفساد روحهم- حِكَمُه؛ كذلك بفطرتهم السقيمة وتهوّسهم الفاسد رأوا النظْمَ المعجِز مشوَّشاً ومقدماتِه عقيمةً وثمراتِه مُرّةً.

أما جملةُ ﴿يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ﴾ فـ-لأن النقض لغةً تفريق خيوط الحبل وتمزيقُها- إشارةٌ إلى أسلوب عال، كأن عهده تعالى حبل نوراني فُتِلَ بالحكمة والعناية والمشيئة فامتد من الأزل إلى أن اتصل بالأبد، فتجلّى في الكائنات بصورة النظام العمومي، وأَرسلتْ تلك السلسلةُ سلاسلَها إلى الأنواع وامتدّ أَعْجُبُها إلى نوع البشر فأورثَت وأثمَرت في روح البشر بذورَ استعداداتٍ وقابلياتٍ تُسقَى وتتزاهر بالجزء الاختياريّ المعدَّل بالأمر التشريعيّ، أي الدلائل النقلية. فوفاءُ العهد: صرف الاستعدادات فيما وُضعَت له؛ ونقضُ العهد خلافُه وتفريقُه، كالإيمان ببعض الأنبياء وتكذيب بعض، وقبولِ بعض الأحكام وردِّ بعض، واستحسانِ بعض الآيات واستنكار بعض. فإنه يخل بالنظام والنظم والانتظام.

وأما جملة: ﴿وَيَقْطَعُونَ مَٓا اَمَرَ اللّٰهُ بِهٓ اَنْ يُوصَلَ﴾ : فاعلم أن هذا الأمر عام للأمر التشريعيِّ والأمر التكوينيِّ المندمج في القوانين الفطرية والعادات الإلهية. فالقطعُ لِما أُمر بوصله شرعاً كقطع صلة الرحم، وقطع قلوب المؤمنين بعضٍ عن بعض. وعلى هذا القياس. وتكويناً كقطع العمل عن العلم، وقطعِ العلم عن الذكاء، وقطع الذكاء عن الاستعداد، وقطعِ معرفة الله عن العقل، وقطعِ السعي عن القوة، وقطعِ الجهاد عن الجسارة وهكذا.. إذ إعطاءُ القوةِ أمرٌ معنوي تكويني بالسعي، وإعطاءُ الذكاء أمر معنويّ بالعلم.. إلى آخره.

وأما جملة: ﴿وَيُفْسِدُونَ فِي الْاَرْضِ﴾: فاعلم أن من فسدَ وتورّط في الوحَل يطلب أن يكون له رفقاءُ متورطون ليتخفف عنه دهشةُ الحال بسرِ «إذا عمّت البلية طابت»، وكذا إذا وقع في قلب أحدٍ اختلالٌ، يتخرّب في قلبه الكمالاتُ وتتساقط الحسياتُ العالية، فيتولد فيه ميلُ التخريب فينتج له لذة في التخريب فيتحرى لذتَه في الإفساد والاختلال.

 فإن قلت: كيف يؤثر إفسادُ فاسق في عموم الأرض المشار إليه بلفظ «في الأرض»؟

قيل لك: الذي فيه نظام ففيه موازنة، حتى إن النظام مبنيٌ على الموازنة، فتداخل شيء حقير بين دواليب ماكينة تتأثر به، وإن لم يُحَس. والميزان الذي في كفتيه جبلان يتأثر بوضع جوزة على كفة.

وأما جملة: ﴿اُولٰٓئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ : فاعلم أن حق العبارة «هم خاسرون في عدم الهداية به» فلفظ ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ ولفظ ﴿هُمُ﴾ والتعريفُ والإطلاقُ لنكت:

أما ﴿اُولٰٓئِكَ﴾ فلأن وضعَه لإِحضار محسوسٍ، فالإِحضار المستفاد منه إشارة إلى أن السامع إذا سمع حالَهم الخبيثة، من شأنه أن يحصل له حدّةٌ عليهم ونفرةٌ منهم. فلتطمين نفرته وتشفّي حدّتِه يطلب أن يُستحضَروا إلى خياله ليشاهدهم وقت اتصافهم بالعاقبة الوخيمة.. والمحسوسيةُ إشارة إلى أن أوصافَهم الرذيلة تكثّرت بدرجة تُجسّمُهم محسوسين نصبَ نظر النفرة. فمن الإِشارة إيماء إلى علة الحكم بالخسارة.. والبُعدية إشارة إلى أنهم قد بعدوا عن طريق الحق بدرجة لا يرجعون، فيستحقون الذم والتشنيع بخلاف من كان في معرض الندامة ومسافة الرجوع.

و ﴿هُمُ﴾ إشارة إلى أن الخسارة منحصرةٌ عليهم حتى إن خسارات المؤمنين لبعض اللذائذ الدنيوية ليست خسارة. وكذا خسارات أهل الدنيا في تجاراتهم ليست خسارة بالنسبة إلى خساراتهم.

و«الألف واللام» إشارة إلى تصوير الحقيقة أي مَن أراد أن يرى حقيقة الخاسرين فلينظر إليهم.. وكذا إيماء إلى أن مسلكَهم محضُ خسارة لا كالخسارات الأُخر التي فيها وجوهٌ من النفع لكن الضرَّ أكثر. فالتعريف إما للكمال أو للبداهة أو لتصوير الحقيقة.

وإطلاق الخسارة إشارة -بإعانة المقام الخطابيّ- إلى عموم أنواع الخسارات، أي خسروا في وفاء العهد بالنقض، وفي صلة الرحم بالقطيعة، وفي الإصلاح بالإفساد، وفي الإيمان بالكفر، وبالشقاوة خسروا السعادة الأبدية.

* * *

الآية (25)

 ﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَاُتُوا بِه مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فيهَٓا اَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ ﴿25﴾﴾

فاعلم أن نظم هذه الآية كأخواتها بثلاثة وجوه: نظمُ المجموع بما قبله، والجُمَل بعضها مع بعض، والهيئاتِ.

أما الأول: فاعلم أن لمآلها ارتباطاتٍ متفاوتة مع الآيات السابقة، وخطوطاً ممتدة بالاختلاف إلى الجمل السالفة. ألا ترى أن القرآنَ لمّا أثنى في رأس السورة على نفسه وعلى المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح كيف أشار بهذه الآية إلى نتيجةِ الإيمان وثمرةِ العمل الصالح.

وكذا لمّا ذمَّ الكفار وشنَّع على المنافقين وبيَّن طريقهم المنجَرّ إلى الشقاوة الأبدية لوّح بهذه الآية إلى نور السعادة الأبدية، فأراهم ليزيدوا حَسرةً على حَسرة بفوات هذه النعمة العظمى.. ثم لما كلّف بـ ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ -مع أن في التكليف مشقّة وكُلفة وترْكَ اللذائذ العاجلة- فتَحَ لهم أبواب الآجلة، فأراهم بهذه الآية تطميناً لنفوسهم وتأميناً لهم.

ثم لما أثبت التوحيد -الذي هو أول أركان الإيمان؛ الذي هو أساس التكليف- صرّح في هذه الآية بثمرة التوحيد وعنوانِ الرحمة وديباجةِ الرضاء بإراءة الجنة والسعادة الأبدية.

ثم لما أثبت النبوّةَ -ثانيةَ أركانِ الإيمان- بالإعجاز بقوله: ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ…﴾ الخ، أشار بهذه مع المطويِّ قبلَها إلى وظيفة النبوّة ومكلّفية النبيّ وهي الإِنذار والتبشير بلسان القرآن.

ثم لما أوعدَ وأرهَب وأنذر في سابقتها القريبة وعدَ ورغّب وبشّر بهذه الآية بسرِّ أن التضادّ مناسبة.. وأيضاً أن الذي يُطيِّع (حاشية) يطيّع، يطوع أي يجعلها مطيعة. النفسَ، ويديمُ الإطاعة ويصيّر الوجدانَ مطيعاً لحُكم العقل تهييجُ حسِّ الخوف وحسِّ الشوق معاً بجَمع الترغيب والترهيب؛ إذ حُكم العقل وأمرُه موقّت فلابد من وجود محرِّكٍ آمرٍ دائميٍّ في الوجدان.. وكذا لما أشار بالسابقة إلى أحد شقَّي الآخرة كمّل بهذه الآية الشقَّ الآخر وهو منبعُ السعادة الأبدية.. وكذا لما لوّح هناك بالنار إلى جهنم صرّح هنا بالجنة.

ثم اعلم أن الجنة وجهنم ثمرتان تدلّتا إلى الأبد من شجرة الخِلقة، ونتيجتان لسلسلة الكائنات، ومخزنان لانصباب الكائنات، وحوضان للكائنات الجارية إلى الأبد.

نعم، تتمخّض الكائناتُ وتختلط بحركة عنيفة فتتظاهر الجنةُ وجهنم فتمتلئان.

وإيضاحه: هو أن الله جلّ جلالُه لما أراد أن يُبدع عالَماً للابتلاء والامتحان لحِكَم كثيرةٍ تدِقُّ عن العقول، وأراد تغيير ذلك العالَم وتحوّلَه لحِكَم؛ مزجَ الشر بالخير وأدرجَ الضرَّ في النفع، وأدمجَ القُبح في الحُسن؛ فوصَلها بجهنم وأمدّها بها. وساق المحاسن والكمالات تتجلى في الجنة. وأيضاً لما أراد تجربةَ البشر ومسابقتهم، وأراد وجودَ اختلافات وتغيّراتٍ فيهم في دار الابتلاء خلَط الأشرار بالأبرار. ثم لما انقضى وقتُ التجربة وتعلّقت الإرادة بأبديتهم جعَل الأشرارَ مظهرَ خطابِ: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ اَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (يس:59) وصيّر الأبرارَ مظهرَ تلطيفِ وتشريفِ: ﴿فَادْخُلُوهَا خَالِدينَ﴾ (الزمر:73). ولما امتاز النوعان تصفّت الكائناتُ فانسلّت مادةُ الضرّ والشر عن عنصر النفع والخير والكمال فاختارت جانباً.

والحاصل: أنه لو أُمعن النظر في الكائنات صودف فيها عنصران أساسان وعِرقان ممتدان إذا تحصّلا وتأبدا صارا جنةً وجهنم.

مقدمة

هذه الآية مع ما قبلها إشارة إلى القيامة والحشر، فمدار النظر في هذه المسألة أربع نقط:

إحداها: إمكانُ خراب العالم وموته.

والثانية: وقوعُه.

والثالثة: التعمير والإِحياء.

والرابعة: وقوعه.

أما إمكان موت الكائنات:

فاعلم أن الشيء الداخل تحت قانون التكامل ففيه نشوءٌ ونماء.. فله عمرٌ طبيعيّ.. فله أجَلٌ فطريّ؛ لا يخلص من حُكم الموت؛ بدليل استقراء أكثر أفراد الأنواع. فكما أن الإنسان عالَم صغير لا خلاص له من الخرابية؛ كذلك العالَم إنسانٌ كبير لامناص له من الموت البتة. وكما أن الشجر نسخةٌ من الكائنات يعقبها التخريبُ والانحلال؛ كذلك سلسلة الكائنات من شجرة الخلقة لا مناص لها من يد التخريب للتعمير. ولئن لم يَعرضْ عاصفة أو مرض خارجيّ بالإرادة الأزلية قبل العمر الفطريّ، ولم يخرّبها صانُعها قبلَه لَيَجئُ بالضرورة وعلى كل حال حتى بالحساب الفنّي يومٌ يتحقق فيه: ﴿اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۖ ﴿1﴾ وَاِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾ (التكوير:1-2) و﴿اِذَا السَّمَٓاءُ انْشَقَّتْ﴾ (الانشقاق:1) فيتظاهر في الفضاء سكراتُ الإنسانِ الكبيرِ بخرخرة عجيبة وصوت هائل.

أما وقوعه:

فبإجماع كل الأديان السماوية، وبشهادة كلِّ فطرة سليمة، وبإشارةِ تغيّرِ وتبدّلِ وتحوّلِ الكائنات. وإن شئت أن تتصور سكراتِ العالم وخرخرته فاعلم أن الكائنات قد ارتبطت بنظام عُلويّ دقيق، واستمسكت بروابطَ عجيبة، فإذا صار جسمٌ من الأجرام العلوية مظهرَ خطاب «كُن» أو «اخْرُج عَنْ مِحْوركَ» ترى العالمَ يشرع في السكَرات، وترى النجومَ تتصادم، وتتلاطم الأجرامُ فترعد وتصيح في الفضاء الغير المتناهي، ويضرب بعضٌ وجهَ بعض، وترمي بشَرر كأرضنا هذه بل أكبر. فكيف أنت بخرخرةِ موتٍ صوتُها محصَّلُ ملايين مَرامي مدافعَ رصاصتُها الصغرى أكبر من الأرض؟.. فبهذا الموت تتمخض الخِلقةُ وتتميز الكائناتُ فتمتاز جهنمُ بعشيرتها ومادتها، وتتجلى الجنةُ جامعةً لطائفتها مستمدةً من عناصرها.

 فإن قلت: لِمَ كانت الكائنات مغيَّرة موقّتة تخرُب ثم تصير يوم القيامة مؤبَّدة مُحكَمةً ثابتة؟

قيل لك: إن الحكمة والعناية الأزليتين لما اقتضتا التجربة والابتلاء، والنشوءَ والنماء في الاستعدادات، وظهورَ القابليات، وظهورَ الحقائق النسبية التي تصير في الآخرة حقائقَ حقيقية، ووجودَ مراتبَ نسبيةٍ، وحِكم كثيرةٍ لا تدركها العقولُ؛ جعل الصانعُ جلّ جلالُه الطبائعَ مُختلطةً، والمضارّ ممزوجةً بالمنافع، والشرورَ متداخلةً بين الخير، والمقابحَ مجتمعة مع المحاسن، فخمّرتْ يدُ القدرة الأضدادَ تخميراً، فصيّرت الكائناتِ تابعةً لقانون التبدل والتغيّر والتحوّل والتكامل. فلمّا انسدّ ميدانُ الامتحان وانقضى وقتُ الابتلاء وجاء وقتُ الحصاد؛ أراد الصانعُ جلّ جلالُه بعنايته تصفيةَ الأضداد المختلطةِ للتأبيد، وتمييزَ أسبابِ التغيّر، وتفريقَ موادّ الاختلاف؛ فتحصل جهنمُ بجسم مُحكَم مَظهراً لخطابِ: ﴿وَامْتَازُوا﴾ وتجلى الجنةُ بجسم مؤبّدٍ مشيّد مع أساساتها.. بسرّ أن المناسبةَ شرطُ الانتظام، والنظامَ سببُ الدوام. ثم إنه تعالى أعطى بقدرته الكاملة لساكني هاتين الدارَين الأبديتين وجوداً مشيّداً لا سبيل للانحلال والتغيّر إليه، على أن التغيّر هنا المنجَر إلى الانقراض إنما هو بتفاوت النسبة بين التركيب وما يتحلل، وأما هناك فلِاستقرار النسبة يجوز التغيّرُ بلا انجرار إلى الانحلال.

وأما النقطة الثالثة والرابعة: أعني إمكان التعمير والحشر ووقوعه:

فاعلم أن التوحيد والنبّوة لمّا لم يصح إثباتهما بالدليل النقليّ فقط للزوم الدور أشار القرآنُ إلى الدلائل العقلية عليهما. أما الحشر فيجوز إثباته بالعقل والنقل:

أما العقليّ فراجعْ إلى ما بيّنا بقدر الطاقة في تفسيرِ ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ حاصلُه: أن النظام والرحمة والنعمة إنما تكون نظاماً ورحمةً ونعمة إن جاء الحشرُ.. وأما النقليّ فقول كل الأنبياء مع حُكم القرآن المعجِز بوقوعه. وأما النقليّ مع الرمز للعقليّ فراجع هذا الموضع من تفسير فخر الدين الرازي فإنه عدّد الآيات المثبتة للحشر.

والحاصل: أنه ما من متأمل في نظائرِ وأشباهِ وأمثالِ الحشر في كثيرٍ من الأنواع إلّا ويتحدّس من تفاريق الأمارات إلى وجود الحشر الجسماني والسعادة الأبدية.

أما نظمُ جملها بعض مع بعض، فاعلم أن السلك الذي نُظّم فيه جواهرُ جُمل هذه الآية وسلسلتُها هي: أن السعادة الأبدية قسمان:

الأول الأَوْلى: رضاء الله تعالى وتلطيفه وتجلّيه وقُربيته.

والثاني: السعادة الجسمانية وهي بالمسكن والمأكل والمنكَح ومتمّمُها ومكمّلُها جميعاً هو الدوام والخلود.

ثم إن أقسام الأول مستغنيةٌ عن التفصيل أو غيرُ قابلة.

وأما أقسام الثاني: فالمسكن: ألطفُه ما يجري الماء بين نباتاته؛ ألا ترى أن مُلهِمَ الشعر ومُفيضَ العشق في القلوب إنما هو خشخشة الماء وخريرُه، وكشكشة الأنهار وصفيرُها تحت القصور وبين البساتين.

والمأكل: الرزق. ولأنه قوت يكون كمالُ لذّته فيما حصل به الألفة والأُنسية، ولأنه تفكّه يكون كمالُ لذتِه في التجدد من جهة؛ إذ بحُكم المألوفية يُعرَف درجةُ علوّ النعمة وتفوقُها على نظيرها. وكذا من مكمّلات اللذة أن يعرف أنه جزاء عمله.. ومنها أن يكون منبعُه ومخزنُه حاضراً نصبَ العين لتحصل لذةُ الاطمئنان.

وأما المنكَح: فاعلم أن من أشدّ حاجات الإنسان وجودَ قلبٍ مقابلاً لقلبه لمداولة المحبة ومبادلة العشق والمؤانسةِ والتشارك في اللذة، بل التعاونِ في أمثال الحيرة والتفكر. ألا ترى أن من رأى ما يتحيّر فيه أو يتفكر في أمر عجيب يدعو -ولو ذهناً- من يُعينُه في تحمّل الحيرة. ثم إن ألطفَ القلوب وأشفقَها وأحرَّها قلبُ القِسم الثاني. ثم إن متمِّم الامتزاج الروحيّ ومكمِّلَ الاستيناس القلبيّ، ومصفِّيَ الاختلاط الصوريّ كون القسم الثاني مبرَّأةٌ ومطهّرَة من الأخلاق السيئة والعوارض المنفِّرة.

 فإن قلت: إنَّ الأكل لبقاء الشخص؛ إذ به يحصل تعمير ما يتحلل، وإن النكاح لبقاء النوع مع أن الأشخاص في الآخرة مؤبَّدون لا يقع فيهم التحويل والانحلال، وكذا لا تناسل في الآخرة؟

قيل لك: إنَّ فوائد الأكل والنكاح ليست منحصرةً في البقاء والتناسل بل فيهما لذةٌ عظيمة في هذا العالم الأَلَميّ. وكيف لا يكون فيهما في عالم السعادة واللذة لذّاتٌ عالية منـزّهة؟

 فإن قلت: إن اللذة هنا دفعُ الألم؟

قيل لك: إنَّ دفعَ الألم سببٌ من أسباب اللذة.. وأيضاً قياسُ العالم الأبديّ على هذا العالم قياسٌ مع الفارق، بل إن النسبة بين حديقة «خُورْخُورْ» هذه وتلك الجنة العالية هي النسبة بين لذائذ الآخرة ونظائرِها في هذا العالم. فكما تفُوق تلك الجنةُ على الحديقة بدرجات غير محصورة؛ كذلك هذه.. وإلى هذا التفاوت العظيم أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله: «ليس في الجنة إلّا أسماؤها» أي ثمراتِ الدنيا.

أما الخلودُ ودوامُ اللذة، فاعلم أن اللذة إنما تكون لذةً حقيقيةً إن لم ينغّصها الزوالُ؛ إذ كما أنّ دفعَ الألم لذةٌ أو سببٌ لها، كذلك زوالُ اللذة ألمٌ بل تصوّرُ زوالِ اللذةِ ألمٌ أيضاً. حتى إن مجموع أشعار العشاق المجازيين إنما هي أنينٌ ونياحٌ من هذا الألم. وإن ديوانَ كلِّ عاشق غيرِ حقيقي إنما هو بكاء وعويل من هذا الألم الناشئ من تصوّرِ زوالِ المحبوب.. نعم، إنَّ كثيراً من اللذائذ الموقّتة إذا زالت أثمرت آلاماً مستمرة كلما تَذكّرها يفور مِن فيه: «أيواه!» وا أسفا! المترجمَينِ عن هذا الألم الروحانيّ. وإن كثيراً من الآلام إذا انقضت أَوْلَدت لذّاتٍ مستمرة كلما تذكرها الشخص وهو قد نجا، يتكلم بـ«الحمد لله» الملوِّحِ لنعمة معنوية.

أجل، إنَّ الإنسان مخلوقٌ للأبد، فإنما تحصُل له اللذةُ الحقيقيةُ في الأمور الأبدية كالمعرفة الإلهية والمحبة والكمال والعلم وأمثالِها.

والحاصل: أنَّ اللذة والنعمة إنما تكونان لذةً ونعمة إن كانتا خالدتين.

وإذا رأيت هذا السلك فانظم فيه جمَل الآية.

أما جملة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فاعلم أنه تعالى لما كلّف الناسَ، وأثبت النبوّة، وكلف النبيّ بالتبليغ أمرَه بالتبشير تأميناً لامتثال التكليف الذي فيه مشقةٌ وتركٌ للّذائذ الدنيوية. فكما أنه مأمور بالإنذار؛ كذلك مأمور بالتبشير برضاء الله تعالى وتلطيفه وقُربيته وبالسعادة الأبدية.

وأما جملةَ ﴿اَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري﴾ فاعلم كما مرَّ أن أَوّل حاجات الإنسان الضرورية -لأنه جسم- المكانُ والمسكن؛ وأنّ أحسنَ المكان هو المشتمل على النباتات والأشجار، وأن ألطفه هو الذي يتسلل بين خضراواته الماءُ، وأن أكمَله هو الذي تجري بين أشجاره وتحت قصوره الأنهار بكثرة. فلهذا قال: ﴿تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ﴾.. ثم إن أشد الحاجات كما سمعت آنفاً بعدَ المكان وأكمل اللذائذ الجسمانية هو الأكل والشرب اللذين يشير إليهما الجنة والنهر.. ثم إن أكملَ الرزق هو أن يكون مألوفاً ومأنوساً ليُعرف درجةُ تفوقه على نظيره.. وألذّ الفاكهة أن تكون متجددة.. وإن أصفى اللذة هو أن يكون المقتطَف معلوماً وقريباً.. وإن ألذَّها أن يُعرف أنها ثمرةُ عمله. فلهذا قال: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ أي في الدنيا أو قبل هذا الآن.

وأما ﴿وَاُتُوا بِه مُتَشَابِهًا﴾ فاعلم أن في الحديث: أن صورتَها واحدة والطعم مختلف. فتشير الآية إلى لذةِ التجدّد في الفاكهة.. وأن كمال اللذة أن يكون الشخصُ مخدوماً يؤتى إليه.

وأما جملةُ ﴿وَلَهُمْ فيهَٓا اَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾ فاعلم كما رأيت في السلك أن الإنسان محتاجٌ لرفيقة وقرينة يسكن إليها وينظر بعينها وتنظر بعينه ويستفيد من المحبة التي هي ألطفُ لمعات الرحمة. ألا ترى أن الأُنسية التامة هنا بهنّ؟

وأما جملة ﴿وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ﴾ فاعلم أن الإنسان إذا صادف نعمةً أو أصاب لذة فأول ما يتبادر لذهنه: أتدومُ أم تُنَغَّص بزوال؟ فلهذا أشار إلى تكميل النعمة بخلود الجنة ودوامهم وأزواجهم فيها ودوام اللذائذ واستمرار الاستفادة بقوله:

﴿وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ﴾

أما نظم هيئاتِ جملةٍ جملةٍ:

فجملة: ﴿وَبَشِّرِ الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ الواو فيها -بسرّ المناسبة بين المتعاطفَين- إشارة إلى «أنذر» الذي يتقطّر من أنف السابقة.. وأما ﴿بَشِّرِ﴾ فرمز إلى أن الجنة بفضله تعالى لا واجب عليه.. وكذا إلى أن لابد أن لا يكون العملُ لأجل الجنة.. وأما صورةُ الأمر في ﴿بَشِّرِ﴾ فإيماء إلى «بلّغ مبشراً» فإنه مكلَّف بالتبليغ..

وأما ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا﴾ بدل «المؤمنين» الأقصرِ، فتلويحٌ إلى ﴿اَلَّذينَ﴾ الذي مرّ في رأس السورة ليكون تفصيلُه هناك مبيِّنا لما أجمل هنا.

وأما إيراد ﴿اٰمَنُوا وَعَمِلُوا﴾ على صيغة الماضي هنا، مع إيراد ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ و﴿يُنْفِقُونَ﴾ هناك بصيغة المضارع فللإشارة إلى أن مقامَ المدح والتشويق على الخدمة شأنُه المضارع. وأما مقامُ المكافأة والجزاء فالمناسب الماضي، إذ الأجرة بعد الخدمة..

وأما واو ﴿وَعَمِلُوا﴾ فإشارة -بسرّ المغايرة- إلى أن العمل ليس داخلاً في الإيمان كما قالت المعتزلة. وإلى أن الإيمان بغير عمل لا يكفي. ولفظُ العمل رمز إلى أن ما يُبشَّر به كالأجرة..

أما ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ فمُبهَمة ومُجمَلة. قال «شيخ محمد عبده المصريّ»: الإطلاق هنا حوالة على الاشتهار وتعارفِ الصالحات بين الناس. أقول: وكذا أُطلقت اعتماداً على رأس السورة.

وأما جملة ﴿اَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْاَنْهَارُ﴾ :

فاعلم أن هيئاتها -مِن تحقيق ﴿اَنَّ﴾، وتخصيصِ «اللام»، وتقديمِ ﴿لَهُمْ﴾، وجمعِ «الجنة»، وتنكيرِها، وذكر الجريان، وذِكرِ ﴿مِنْ﴾ مع «تَحْتِ»، وتخصيصِ «نهر» وتعريفِه- تتعاون وتتجاوب على إمداد الغرض الأساسيّ؛ الذي هو السرور ولذةُ المكافأة، كالأرض النّشِفة الرطبة؛ ترشح بجوانبها الحوض المركزيّ… لأن ﴿اَنَّ﴾ إشارةٌ إلى أن البشارة بما هو في هذه الدرجة من العظمة يتردد فيها العقلُ فتحتاج إلى التأكيد.. وأيضاً من شأن مقام السرور طردُ الأوهام؛ إذ طَرَيان أدنى وَهْم يكسر الخيالَ ويطير السرورَ.. وكذا إيماءٌ إلى أن هذا ليس وعداً صِرفاً بل حقيقةٌ من الحقائق.

ولام ﴿لَهُمْ﴾ إشارة إلى الاختصاص والتملّك والاستحقاق الفضليّ لتكميل اللذة وزيادة السرور. وإلّا فكثيراً ما يضيِّف مَلِكٌ مسكيناً.

وتقديمُ ﴿لَهُمْ﴾ إشارة إلى اختصاصهم بين الناس بالجنة، إذ ملاحظة حالِ أهل النار سببٌ لظهور قيمة لذة الجنة.

وجمع ﴿جَنَّاتٍ﴾ إشارة إلى تعدّد الجنان وتنوّعِ مراتبها على نسبة تنوع مراتب الأعمال.. وكذا رمز إلى أن كلَّ جزء من الجنة جنةٌ.. وكذا إيماء إلى أن ما يصيب حصةَ كلٍّ -لِوُسْعَته- كأنه كالجنة بتمامها لا كأنه يساق بجماعتهم إلى موضع..

وتنكير ﴿جَنَّاتٍ﴾ يتلو على ذهن السامع: «فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». وكذا يُحيل على أذهان السامعين حتى يتصورها كلٌّ على الطرز الذي يستحسنُه.. وكذا كأن التنوين بدل: ﴿وَفيهَا مَا تَشْتَهيهِ الْاَنْفُسُ﴾ (الزخرف:71).

وأما ﴿تَجْري﴾ فاعلم أن أحسنَ الرياض ما فيها ماء، ثم أحسنُها ما يسيل ماؤها، ثم أحسنُها ما استمر السيلان. فبِلفظ ﴿تَجْري﴾ أشار إلى تصوير دوام الجريان..

وأما ﴿مِنْ تَحْتِهَا فاعلم أن أحسنَ الماء الجاري في الخضراوات أن ينبعَ صافياً من تلك الروضة، ويمر مُتَخَرْخِراً تحت قصورها، ويسيل منتشراً بين أشجارها فأشار بـ ﴿مِنْ تَحْتِهَاإلى هذه الثلاثة..

وأما ﴿الْاَنْهَارُ﴾ فاعلم أن أحسن الماء الجاري في الجنان أن يكون كثيراً، ثم أحسنُه أن تتلاحق الأمثالُ من جداوله. فإنَّ بتناظر الأمثال يتزايد الحُسن على قيمة الأجزاء. ثم أحسنُه أن يكون الماء عذباً فراتاً لذيذاً كما قال: ﴿مَٓاءٍ غَيْرِ اٰسِنٍ﴾ (محمد:15) فبلفظ «نهر» وجمعِه وتعريفِه أشار إلى هذه.

أما جملة ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾

فاعلم أن هيئاتها تتضمن كثيرةً من الجُمل الضمنية؛ فاستينافُها جوابٌ لسؤال مقدَّر، وذلك السؤال ممزوج من ثمانية أسئلة متسلسلة؛ إذ لمّا بُشّروا بمسكن هكذا عالٍ، يتبادر لذهن السامع: أفيه رزقٌ أم لا؟ وإذا كان فيه رزق فمن أين يجيء ويحصل؟ وإذا حصل من تلك الجنة، فمن أي شيء منها؟ وإذا كان من ثمرتِها، فهل هي تشبه ثمارَ الدنيا؟ وإذا شابهتها، فهل يشبه بعضها بعضاً؟ وإذا تشابهت، فهل تختلف طعومُها؟ وإذا اختلفت وقد قُطعت، فهل تنقص أم يُمتلأ موضعُها؟ وإذا تبدلت بأخرى، فهل يدوم الأكل منها؟ وإذا دام فما حال الآكلين، أفلا يستبشرون؟ وإذا استبشروا فماذا يقولون؟

وإذ تفطنتَ لهذه الأسئلة، فانظر كيف أجاب القرآنُ عن هذه الأسئلة المتسلسلة بهيئات هذه الجملة.

أما لفظ ﴿كُلَّمَا﴾ فإشارة إلى الدوام والتحقيق.

وماضوية ﴿رُزِقُوا﴾ إشارة إلى تحقيق الوقوع.. وكذا إيماء إلى إخطار نظيره من رزق الدنيا إلى ذهنهم. وإيراده على بناء المفعول إشارةٌ إلى عدم المشقة وأنهم مخدومون يؤتى إليهم.

وإيثار ﴿مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ﴾ على «من ثمراتها» للتنصيص على جوابين عن سؤالين من الأسئلة المذكورة.

وتنكيرُ ﴿ثَمَرَةٍ﴾ المفيدُ للتعميم إشارة إلى أنه أيةَ ثمرة كانت فهي رزق.

وتنكير ﴿رِزْقًا﴾ إشارة إلى أنه ليس من الرزق الذي تعلمونه لدفع الجوع.

ولفظ ﴿قَالُوا﴾ -أي يتقاولون بعضهُم- لبعض إيماءٌ إلى الاستبشار والاستغراب اللازمَين للحُكم.

أما جملة ﴿هٰذَا الَّذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ﴾ فاعلم أن هذا الإطلاق يتضمن أربعة معان:

أحدها: أن هذا ما رُزِقنا من العمل الصالح في الدنيا فبشدة الارتباط بين العمل والجزاء كأن العملَ تجسّم في الآخرة ثواباً. ومن هنا الاستبشار.

والثاني: أن هذا ما رُزِقنا من الأطعمة في الدنيا مع هذا التفاوت العظيم بين طعمَيهما. ومن هنا الاستغراب.

والثالث: أن هذا مثلُ ما أكلنا قبلَ هذا الآن مع اتحاد الصورة واختلاف المعنى لجمع لذّتَي الألفة والتجدد. ومن هنا الابتهاج.

والرابع: أن هذه التي على أغصان الشجرة هي التي أكلناها إذ ينبُت بدَلها دفعةً فكأنها إياها. ومن هنا يُعرف أنها لا تنقص.

وأما جملة ﴿وَاُتُوا بِه مُتَشَابِهًا﴾ فاعلم أنها فذلكة وتذييل واعتراضية لتصديق الحُكم السابق وتعليله.. وبناء المفعول في ﴿وَاُتُوا﴾ إشارة إلى أنّ لهم خَدَمَة.. وفي ﴿مُتَشَابِهًا﴾ ما عرفتَ من الإشارة إلى جمع اللذتين.

وأما جملة ﴿وَلَهُمْ فيهَٓا اَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ﴾:

فاعلم أن «الواو» بسر المناسبة العطفية إشارة إلى أنهم كما يحتاجون إلى المسكن لأجسامهم يفتقرون إلى السكَن لأرواحهم..

﴿وَلَهُمْ﴾ إشارة إلى الاختصاص والتملك، ورمزٌ إلى التخصيص والحصر، وإيماء إلى أن لهم غير النساء الدنيوية حُوراً عيناً خُلِقن لأجلهم.

و ﴿فيهَٓا﴾ إشارة إلى أن تلك الأزواج لائقةٌ بتلك الجنة، فعلى نسبة علوّ درجاتها يفوق حُسنُهن.. وكذا فيها إيماءٌ خفي إلى أن الجنة تزيّنت وتبرّجت بهن.

و ﴿مُطَهَّرَةٌ﴾ إشارة إلى أن مطهِّراً طهّرهُنّ، فما ظنّك بمن طهّرهُن ونزّههن يد القدرة؟.. وكذا إيماء بالتعدية أن نساء الدنيا يُطَهَّرن ويُصفَّين فيَصرن حساناً كالحور العين المتطهرات في أنفسهن.

وأما جملة ﴿وَهُمْ فيهَا خَالِدُونَ﴾ فإشارة إلى أنهم، وكذا أزواجُهم، وكذا لذائذُ الجنة، وكذا الجنةُ كافةً؛ أبدية.

الآية (23-24)

﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهۖ وَادْعُوا شُهَدَٓاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ ﴿23﴾ فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ اُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ ﴿24﴾﴾

مقدمة في تحقيق النبوة

اعلم أنه كما أثبتت الآيةُ السابقة أوّلَ المقاصد الأساسية القرآنية وهو التوحيد؛ كذلك تثبت هذه الآية ثانيَ المقاصد الأربعة وهو إثبات نبوّة محمّد عليه الصلاة والسلام بأكمل معجزاته الذي هو التحدّي بإعجاز القرآن. ولقد فصلنا دلائلَ نبوّته في كتاب آخر فلنلخِّص بعضها هنا في ستِّ مسائل:

المسألة الأولى

اعلم أن الاستقراء التام في أحوال الأنبياء مع الانتظام المطّرد المسمى بالقياس الخفيّ ينتج أن مدارَ نبوّة الأنبياء وأساسها وكيفية معاملاتهم مع أممهم -بشرط تجريد المسألة عن خصوصيات تأثير الزمان والمكان- يوجد بأكملِ وجهٍ في محمّد عليه الصلاة والسلام الذي هو أستاذُ البشر في سنِّ كمال البشر، فينتج بالطريق الأَوْلى وبالقياس الأَوْلَويّ أنه أيضاً رسولُ الله. فجميع الأنبياء بأَلسنة معجزاتهم كأنهم شاهدون على صدق محمّد عليه السلام الذي هو البرهانُ النَيِّر على وجود الصانع ووحدته فتأمل…

المسألة الثانية

اعلم أن كلَّ حال من أحواله وكلَّ حركة من حركاته عليه السلام -وإنْ لم يكن خارقاً- يلَوِّح بالمبدأ على صدقِه وبالمنتهى على حقانيته. ألا ترى أنه عليه السلام كيف كان حالُه في أمثال واقعة الغار التي انقطع -بحسب العادة- أملُ الخلاص، يقول بكمال الوثوق والاطمئنان والجدية: ﴿لَا تَحْزَنْ اِنَّ اللّٰهَ مَعَنَا﴾ (التوبة:40). فكما أن ابتداءه بالحركة -بلا مبالاةٍ لمعارض وبلا خوفٍ وتردّد مع كمال الاطمئنان- يدل على تمسكه بالصدق؛ كذلك تأسيسُه بانتهاء حركاته -لقواعدَ هي الأساس لسعادة الدارين- وإصابتُه للحق واتصاله بالحقيقة دليلٌ على حقانيته، فهذا فرداً فرداً. وأما إذا نظرتَ إلى مجموع حركاته وأحواله يتجلى لِعينك برهانُ نبوّته كالبرق اللامع. فتبصّر!

المسألة الثالثة

اعلم أن الزمان الماضيَ والحالَ (أي عصر السعادة) والاستقبالَ اتفقتْ على تصديق نبوّته كما أن ذاتَه دليل على نبوّته. ولنطالع هذه الصحُف الأربع:

فأولاً: نتبرك بمطالعة ذاته عليه السلام. ولابد أوّلاً من تصوّر أربع نكت:

إحداها: أنه «ليس الكَحَلُ كالتكحُّل» أي لا يصل الصنعيُّ والتصنعيُّ -ولو كانا على أكملِ الوجوه- مرتبةَ الطبيعيّ والفطريّ ولا يقوم مقامَه، بل فلتاتُ غلَطاتِ هيئةِ حركةِ الصنعي تومئ بمُزخرَفِيَّته.

والثانية: أن الأخلاق العالية إنما تتصل بأرض الحقيقة بالجدّية، وأن إدامة حياتها وانتظام مجموعها إنما هي بالصدق. ولو ارتفع الصدقُ من بينها صارت كهشيم تذروه الرياحُ.

والثالثة: هي أنه كما يوجد المَيل والجذب في الأمور المتناسبة، كذلك يوجد الدفعُ والتنافر في الأمور المتضادة.

والرابعة: هي «أن للكلِّ حُكماً ليس لكلٍّ» كقوّة الحبل مع ضعف خيوطه..

وإذا تفطنت لهذه النكت فاعلم أن آثار محمّد عليه الصلاة والسلام وسِيَره وتاريخ حياته تشهد -مع تسليم أعدائه- بأنه لعلى خُلق عظيم، وبأنه قد اجتمع فيه الخصائلُ العالية كافة. ومن شأن امتزاج تلك الأخلاقِ توليدُ عزةٍ للنفس وحيثيةٍ وشرفٍ ووقار لا تساعد التنـزّلُ للسفاسف. فكما أن علوّ الملائكة لا يساعد لاختلاط الشياطين بينهم؛ كذلك تلك الأخلاقُ العالية بجَمعها لا تساعد أصلاً لتداخُل الحيلةِ والكذب بينَها. ألا ترى أن الشخص المشتهر بالشجاعة فقط لا يتنـزّل للكذب إلّا بعُسر؟ فكيف بالمجموع؟ فثبتَ أن ذاتَه عليه السلام كالشمس دليلُ لنفسه..

وأيضاً إذا تأملتَ في حاله عليه السلام من الأربع إلى أربعين -مع أنّ من شأن الشبابية وتوقّدِ الحرارة الغريزية أن تُظهر ما يَخفى وتُلقي إلى الظاهر ما استتر في الطبيعة من الحِيَل- تراه عليه السلام قد تدرّج في سنينه وعاشرَ بكمال استقامةٍ ونهايةِ متانةٍ وغاية عفة واطّرادٍ وانتظامٍ. ما أومأ حالٌ من أحواله إلى حيلة، لاسيما في مقابلة المعاندين الأذكياء. وبينما تراه عليه السلام كذلك إذ تنظر إليه وهو على رأس أربعين سنة -الذي من شأنه جعلُ الحالاتِ مَلَكةً والعاداتِ طبيعةً ثانية لا تخالَف- قد تكشّف عليه السلام عن شخصٍ خارق قد أوقعَ في العالم انقلاباً عظيماً عجيباً. فما هو إلّا من الله.

المسألة الرابعة

اعلم أن صحيفة الماضي المشتملةَ على قَصَص الأنبياء المذكورة على لسانه عليه السلام في القرآن برهانٌ على نبوّته بملاحظة أربع نكت.

إحداها: أنَّ من يأخذ أساساتِ فنٍ ويعرف العُقَد الحياتية فيه ويُحسن استعمالها في مواضعها ثم يبني مدَّعاه عليها؛ يدل ذلك على مهارته وحذاقته في ذلك الفن.

النكتة الثانية: هي أنك إن كنت عارفاً بطبيعة البشر لا ترى أحداً يتجاسر وبلا تردد وبلا مبالاة بسهولة على مخالفةٍ وكذبٍ ولو صغيراً.. في قوم ولو قليلين.. في دعوى ولو حقيرة.. بحيثيةٍ ولو ضعيفة. فكيف بمـَن له حيثيةٌ في غاية العظمة.. وفي دعوى في غاية الجلالة.. في قوم في غاية الكثرة.. في مقابلة عنادٍ في غاية الشدة مع أنه أميّ لم يقرأ.. يبحث عن أمور لا يستقلّ فيها العقلُ ويُظهرها بكمال الجدية، ويعلنها على رؤوس الأشهاد. أفلا يدلّ هذا على صدقه وأنه ليس منه بل من الله؟.

الثالثة: هي أن كثيراً من العلوم المتعارفة عند المدَنيين -بِتعليم العادات والأحوال وتلقين الوقوعات والأفعال- مجهولةٌ نظريةٌ عند البدويين. فبناءً عليه لابد لمـَن يحاكِم ويتحرى حال البدويين -لا سيما في القرون الخالية- أن يفرض نفسَه في تلك البادية.

الرابعة: هي أنه لو ناظرَ أميّ علماءَ فنٍّ -ولو فنَّ الصرف- ثم بيّن رأيه في مسائله مصدِّقاً في مظان الاتفاق، ومصحِّحاً في مطارح الاختلاف؛ أفلا يدلّك ذلك على تفوّقه، وأن علمه وهبي؟.

إذا عرفت هذه النكت: فاعلم أن محمّداً العربيّ عليه السلام مع أميّته قصّ علينا بلسان القرآن قصَصَ الأولين والأنبياء قصةَ مَنْ حضرَ وشاهَد، وبيّن أحوالَهم وشرحَ أسرارَهم على رؤوس العالم في دعوى عظيمة تجلب إليها دقةَ الأذكياء. وقد قصّ بلا مبالاة، وأخذ العُقَد الحياتية فيها وأساساتها مقَدَّمة لمدّعاه، مصدِّقاً فيما اتفقت عليه الكتبُ السالفة، ومصحِّحاً فيما اختلفت فيه. كأنه بالروح الجوّالِ المَعكسِ للوحي الإلهي طيَّ الزمانَ والمكانَ، فتداخل في أعماق الماضي فبيّن كأنه مشاهِد. فثبت أن حاله هذه دليل نبّوته وإحدى معجزاته. فمجموعُ دلائل نبوّة الأنبياء في حُكمٍ دليلٍ معنويٍ له، وجميعُ معجزات الأنبياء في حُكم معجزة معنوية له.

المسألة الخامسة

في بيان صحيفة عصر السعادة لا سيما مسألة جزيرة العرب. فها هنا أيضاً أربع نكت:

إحداها: أنك إذا تأملتَ في العالم ترى أنه قد يتعسر ويستشكل رفعُ عادةٍ ولو حقيرةً في قوم ولو قليلين. أو خصلةٍ ولو ضعيفةً.. في طائفةٍ ولو ذليلين.. على مَلِك ولو عظيماً.. بهمّة ولو شديدة. في زمان مديد بزحمة كثيرة. فكيف أنت بمَن لم يكن حاكماً، تشبثَ في زمان قليل بهمّة جزئية -بالنسبة إلى المفعول- وَقَلَعَ عاداتٍ وَرَفَعَ أخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستُؤنس بها نهاية استيناس واستمرت غايةَ استمرار، فغرسَ فجأةً بَدَلَها عاداتٍ وأخلاقاً تكمّلت دفعةً عن قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب. أفلا تراه خارقاً للعادات؟..

النكتة الثانية: هي أن الدولة شخصٌ معنويّ. تشكُّلُها تدريجيّ كنمو الطفل، وغلَبتُها للدولة العتيقة -التي صارت أحكامُها كالطبيعة الثانية لملّتها- متمهلةٌ. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكُّلِ الدول تشكيلُ محمّد عليه السلام لحكومةٍ عظيمةٍ دفعةً، مهيَّئةً لنهاية الترقي، متضمنةً للأساسات العالية الأبدية مع غلبتها للدول العظيمة دفعةً مع إبقاء حاكميته لا على الظاهر فقط، بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً.

النكتة الثالثة: هي أنه يمكن بالقهر والجبر تحكّمٌ ظاهريّ، وتسلّط سطحيّ. لكن الغلبةَ على الأفكار، والتأثيرَ بإلقاء حلاوته في الأرواح، والتسلطَ على الطبائع مع محافظةِ حاكميته على الوجدان دائماً لا يكون إلّا من خوارق العادات.. وليس إلّا الخاصةُ الممتازة للنبوّة.

النكتة الرابعة: هي أن تدوير أفكار العموم وإرشادَها بحِيَل الترهيب والترغيب والخوف والتكليف إنما يكون تأثيرُها جزئياً سطحياً موقتاً يسدّ طريقَ المحاكمة العقلية في زمان. أما مَن نفذ في أعماق القلوب بإرشاده، وهيَّج دقائقَ الحسيات، وكشف أكمامَ الاستعدادات، وأيقظ الأخلاق، وأظهر الخصائل المستورة، وجعل جوهر إنسانيتهم فوّاراً، وأبرزَ قيمةَ ناطقيتهم؛ فإنما هو مقتبِسٌ من شعاع الحقيقة ومن الخوارق للعادة. بينما ترى شخصاً في قساوة قلبِه يقبُرُ بنتَه حيةً ولا يتألم ولا يتأثر إذ تراه بعد يوم -وقد أسلم- يترحّم على نحو النمل، ويتألم بألَم حيوان. فبالله عليك أَ ينطبق هذا الانقلاب الحسي على قانون؟

فإذا عرفت هذه النكت تأمّل في نقطة أخرى وهي: أن تاريخ العالم يشهد: أن الداهيَ الفريدَ إنما هو الذي اقتدر على إنعاش استعداد عموميّ، وإيقاظِ خَصلة عمومية، والتسببِ لانكشاف حسّ عموميّ؛ إذ مَن لم يوقِظ هكذا حسّاً نائماً يكون سعيُه هباءً موقتاً ولو كان جليلاً في نفسه.. وأيضاً إن التاريخ يرينا أن أعظمَ الناس هو الموفَّق لإيقاظ واحد أو اثنين أو ثلاث من هذه الحسِّيات العمومية: كحسّ الحَميّة الملّية، وحس الأخوّة، وحس المحبة، وحس الحرية… الخ. أفلا يكون إذَن إيقاظُ ألوفٍ من الحسِّيات المستورة العالية، وجعلُها فوّارةً منكشفة في قوم بَدَوييّن منتشرين في جزيرة العرب تلك الصحراءِ الوسيعة، من الخوارق؟.. نعم! هو من ضياء شمس الحقيقة.

فيا هذا! مَن لم يُدخِل في عقله هذه النقطة نُدْخِل جزيرةَ العرب في عينه. فهذه «جزيرةُ..» بعد ثلاثة عشر عصراً وبعدَ ترقِي البشر في مدارج التمدّن! فانتخِب أيها المعانِد من أكملِ الفلاسفة مائةً، فليسعَوا مائةَ سنة فإن فعلوا جزءاً من مائة جزءٍ مما فعلَه محمّد العربي عليه الصلاة والسلام بالنسبة إلى زمانه… فإن لم تفعل -ولن تفعل- فاتّق عاقبةَ العناد! نعم، هذه الحالة خارقةٌ للعادة وإن هي إلّا معجزةٌ من معجزاته عليه الصلاة والسلام.

واعلم أيضاً أن من أراد التوفيق يلزم عليه أن يكون له مصافاةٌ مع عادات الله، ومعارَفَةٌ مع قوانين الفطرة، ومناسبةٌ مع روابط الهيئة الاجتماعية. وإلّا أجابته الفطرةُ بعدم الموفَّقية جوابَ إسكات..

وأيضاً مَن تحرك بمسلك في الهيئة الاجتماعية يلزمه أن لا يخالفَ حركة الجريان العموميّ. وإلّا طيّرَه ذلك الدولابُ عن ظهره فيسقط في يده. فإذن مَن ساعده التوفيقُ في ذلك الجريان كمحمّد عليه السلام يثبت أنه متمسكٌ بالحق.

فإذا تفهمت هذا، تأمل في حقائق الشريعة مع تلك المصادمات العظيمة والانقلابات العجيبة، وفي هذه الأعصار المديدة تَرَها قد حافظتْ على موازنة قوانينِ الفطرة وروابطِ الاجتماعيات اللاتي بدقتها لا تتراءى للعقول مع كمال المناسبة والمصافاة معها. فكلما امتدّ الزمانُ تظاهرَ الاتصال بينها. ويتظاهر من هذه الحالة؛ أن الإسلامية هي الدين الفطريّ لنوع البشر وأنها حقٌ، لهذا لا ينقطع وإن رَقَّ. ألا ترى أن الترياق الشافي للسموم القاتلة في الهيئة الاجتماعية إنما هو أمثالُ: «حرمةِ الربا ووجوبِ الزكاة» اللتين هما مسألتان في أُلوف مسائل تلك الشريعة.

فإذا عرفت هذه النكت الأربع مع هذه النقط الثلاث، اعلم أن محمداً الهاشميّ عليه الصلاة والسلام مع أنه أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، ومع عدم قوّته الظاهرية وعدم حاكميةٍ له أو لسَلفه، وعدمِ ميلِ تحكّم وسلطنةٍ، قد تشبثَ بقلبه بوثوقٍ واطمئنان في موقع في غايةِ الخطر وفي مقام مهم، بأمر عظيم فغلَب على الأفكار، وتحبّب إلى الأرواح، وتسلّط على الطبائع، وقلع من أعماق قلوبهم العاداتِ والأخلاقَ الوحشيةَ المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة. ثم غرس في موضعها في غاية الإِحكام والقوة -كأنها اختلطت بلَحمهم ودمهم- أخلاقاً عاليةً وعاداتٍ حسنة، وقد بدَّل قساوةَ قلوب قوم خامدين في زوايا الوحشة بحسيات رقيقة وأظهرَ جوهرَ إنسانيتهم. ثم أخرجهم من زاوية الوحشة وَرقّى بهم إلى أوج المَدَنية وصيّرهم معلِّمي عالَمهم، وأسَّس لهم دولةً ابتلعت الدول كـ«عصا موسى»، فلما ظهرت صارت كالشعلة الجوّالة والنور النوّار، فأحرقت روابط الظلم والفساد، وجعل سريرَ تلك الدولة الدفعية في زمان قليل الشرقَ والغربَ.

أفلا تدل هذه الحالة على أن مسلكَه حقيقة وأنه صادق في دعواه؟

الآية (21-22)

﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿21﴾ اَلَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءًۖ وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ اَنْدَادًا وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿22﴾﴾

مقدمة

اعلم أن العبادة هي التي ترسِّخ العقائد وتُصيِّرها حالاً ومَلَكة؛ إذ الأمور الوجدانية والعقلية إن لم تنمِّها وتربِّها العبادةُ -التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي- تكن آثارُها وتأثيراتها ضعيفة. وحال الإسلام الحاضرة شاهدة.

واعلم أيضاً أن العبادة سببٌ لسعادة الدارين، وسبب لتنظيم المعاش والمعاد، وسبب للكمال الشخصيّ والنوعيّ، وهي النسبة الشريفة العالية بين العبد وخالقه.

أما وجهُ سببيتها لسعادة الدنيا التي هي مزرعةُ الآخرة فمن وجوه:

منها: أن الإنسان خُلِق ممتازاً ومستثنى من جميع الحيوانات بمزاج لطيف عجيب، أنتج ذلك المزاجُ فيه ميلَ الانتخاب وميلَ الأحسن وميلَ الزينة، وميَلاناً فطرياً إلى أن يعيش ويحيى بمعيشة وكمال لائقين بالإنسانية.. ثم لأجل تلك الميول احتاج الإنسان في تحصيل حاجاته في مأكله وملبسه ومسكنه إلى تلطيفها وإتقانها بصنائع جمّة، لا يقتدر هو بانفراده على كلِّها. ولهذا احتاج إلى الامتزاج مع أبناء جنسه ليتشاركوا، فيتعاونوا، ثم يتبادلوا ثمرات سعيهم. لكن لمّا لم يحدد الصانعُ الحكيم قوى البشر الشهوية والغضبية والعقلية بحدٍّ فطريّ لتأمين ترقّيهم بزَمْـبَـرَكِ الجزء الاختياريّ -لا كالحيوانات التي حُدّدت قواها- حصل انهماكٌ وتجاوز.. ثم لانهماك القوى وتجاوزها -بسر عدم التحديد- تحتاج الجماعةُ إلى العدالة في تبادل ثمرات السعي.. ثم لأن عقلَ كل أحد لا يكفي في درْك العدالة احتاج النوع إلى عقل كلّي للعدالة يستفيد منه عقل العموم. وما ذلك العقل إلّا قانون كلّيّ، وما هو إلّا الشريعة.. ثم لمحافظة تأثير تلك الشريعة وجريانها لابد من مقنّنٍ وصاحب ومبلّغ ومرجِع، وما هو إلّا النبيّ عليه السلام.. ثم إن النبيّ لإدامة حاكميته في الظواهر والبواطن وفي العقول والطبائع يحتاج إلى امتياز وتفوّق مادةً ومعنى، سيرةً وصورة، خَلْقاً وخُلُقاً. ويحتاج أيضاً إلى دليل على قوة المناسبة بينه وبين مالكِ الملك صاحبِ العالَم، وما الدليل إلّا المعجزات.. ثم لتأسيس إطاعة الأوامر وتأمين اجتناب النواهي يحتاج إلى إدامة تصوّر عظمةِ الصانع وصاحب المُلك في الأذهان وما هو إلا تجلي العقائد.. ثم لإدامة التصور ورسوخ العقائد يحتاج إلى مذكِّر مكرَّرٍ وعمل متجدد، وما المذكِّر المكرر إلا العبادة.

ومنها: أن العبادة لتوجيه الأفكار إلى الصانع الحكيم، والتوجّهُ لتأسيس الانقياد، والانقيادُ للإِيصال إلى الانتظام الأكمل والارتباط به، واتباعُ النظام لتحقيق سرّ الحكمة. والحكمةُ يشهد عليها إتقان الصُنع في الكائنات.

ومنها: أن الإنسان كالشجر الذي عُلّق على ذروته كثيرٌ من خطوط الآلة البرقية، قد التفّت على رأسه رؤوسُ نظامات الخِلقة، وامتدت مشرعةً إليه قوانينُ الفطرة، وانعكست متمركزة فيه أشعةُ النواميس الإلهية في الكائنات. فلابد للبشر أن يتمّمها ويربطها وينتسب إليها ويتشبث بأذيالها ليسري بالجريان العمومي حتى لا يُزلَق ولا يُطرَد ولا يُلقى عن ظهر هذه الدواليب المتحركة في الطبقات. وما هي إلّا بالعبادة التي هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

ومنها: أن بامتثال الأوامر واجتناب النواهي يحصل للإنسان نِسَبٌ كثيرة إلى مراتب عديدة في الهيئة الاجتماعية، فيصير الشخصُ كنوعٍ؛ إذ كثيرٌ من الأوامر لاسيما التي لها تماسّ بالشعائر والمصالح العمومية كالخيط الذي نيط به حيثيات ونُظّم فيه حقوق، لولاه لتمزقت وتطايرت.

ومنها: أن الإنسان المسلم له مناسباتٌ ثابتة وارتباط قوي مع كل المسلمين. وهما سببان لأُخوةٍ راسخة ومحبةٍ حقيقية بسبب العقائد الإيمانية والمَلَكات الإسلامية. أما سبب ظهور تلك العقائد وتأثيرها وصيرورتِها مَلَكة راسخة فإنما هي العبادة.

وأما جهة الكمال النفسيّ، فاعلم أن الإنسان مع صِغَر جِرمه وضَعفه وعَجزه وكونه حيواناً من الحيوانات ينطوي على روح غالٍ ويحتوي على استعداد كامل، ويتبطّن ميولا لا حصر لها، ويشتمل على آمالٍ لا نهاية لها، ويحوز أفكاراً غير محصورة، ويتضمن قوى غير محدودة، مع أن فطرته عجيبة كأنه فهرستة للأنواع والعوالم.

فالعبادة هي السبب لانبساط روحه وجِلاء قيمتِه.. وأيضاً هي العلةُ لانكشاف استعداده ونموّه ليناسبَ السعادة الأبدية.. وكذا هي الذريعةُ لتهذيب ميوله ونزاهتها.. وهي الوسيلة لتحقيق آماله وجعلها مُثمرة ريانة.. وكذلك هي الواسطة لتنظيم أفكاره وربطها.. وأيضاً هي السببُ لتحديد قواه وإلجامها.. وأيضاً هي الصَيْقل لرَيْن الطبيعةِ على أعضائه المادية والمعنوية التي كلٌّ منها كأنه منفذٌ إلى عالم مخصوص ونوع إذا شفَّ.. وأيضاً هي المُوصل للبشر إلى شرفِه اللائق وكماله المقدَّر، إذا كانت بالوجدان والعقل والقلب والقالب.. وكذلك هي النسبة اللطيفة العالية، والمناسبةُ الشريفة الغالية بين العبد والمعبود. وتلك النسبة هي نهايةُ مراتب كمال البشر.

ثم إن الإخلاص في العبادة هو: أن تفعل لأنه أُمر بها، وإن اشتمل كلُّ أمر على حِكَم كلٌ منها يكون علةً للامتثال، إلّا أن الإخلاص يقتضي أن تكون العلةُ هي الأمر، فإن كانت الحكمةُ علةً فالعبادة باطلة، وإن بقيت مرجِّحة فجائزة.

* * *

ثم إن المخاطبين لما سمعوا ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ استفسروا بلسان الحال: ما الحكمة؟ ولِمَ؟ وما المجبورية؟ ولأيّ شيء؟.

أما الحكمة فقد سمعتَ في المقدمة. وأما العلة فأجاب القرآنُ بإثبات الصانع وتوحيده بقوله: ﴿رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ…﴾ الخ. وإثبات النبوّة بقوله: ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا…﴾ الخ.

مقدمة في نكات هذه الآية

اعلم أن البرهان إما «لِمِّيٌّ» وهو الاستدلال بالمؤثِّر على الأثر. وإما «إنّيّ» وهو الاستدلال بالأثر على المؤثِّر، وهذا أسلمُ. وهو إما «إمكانيّ» بالاستدلال بتساوي الطرفين على المرجِّح، وإما «حدوثيّ» بالاستدلال بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكلٌّ منهما إما باعتبار ذوات الأشياء أو باعتبار صفاتها.. وكلٌّ منها إما بإعطاء الوجود أو بإدامة البقاء.. وكل منها إما «دليل اختراعيّ» أو «دليل عِنَايَتيّ». وهذه الآية إشارة إلى هذه الأنواع، فالملخَّص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر.

أما «دليل العناية» على إثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: «النظام المندمج في الكائنات»؛ إذ النظام خيطٌ نيط به المصالحُ والحِكم. فجميع الآيات القرآنية التي تَعُدّ منافع الأشياء وتذكُر حِكَمها إنما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهرُ لتجلِّي هذا البرهان؛ إذ النظام المرعي به المصالحُ والحِكم كما يُثبِت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البَيْن وهْمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.

يا هذا! إن لم يُحِط نظرُك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحِكَم، ولا تقتدرُ على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون -التي هي الحواسّ لنوعك- الحاصلةِ من تلاحق الأفكار -الذي هو في حُكم فكر النوع- لترى نظاماً يبهر العقولَ، وتعلمَ أن كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لا يُعقل أكملُ منهما؛ إذ كل نوع من الكائنات إما تَشكّلَ فيه فنٌ أو يقبل أن يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية. وكليةُ القاعدة تدلّ على حُسن النظام؛ إذ ما لا نظام له لا تجري فيه الكلية. ألَا ترى أن قولَنا: «كل عالِم فهو ذو عمامة بيضاء» إنما يصدُق كليّةً، إذا كان في ذلك النوع انتظام. فأنتج أن كل فن من الفنون الكونية، بسبب كليةِ قواعدِه ينتجُ بالاستقراء التام نظاماً كاملاً شاملاً.. وأن كل فن برهانٌ نيّر يشير إلى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقاتِ سلاسلِ الموجودات، ويلوِّح إلى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال. فتَرْفع الفنونُ أعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته، كأن كلَّ فن نجمٌ ثاقب في طرد شياطين الأوهام.

وإن شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو: أن الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورتُه الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية. فبالضرورة والبداهة أن تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وُجدت بنفسها بلا علة، لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها. والممكن متساوي الطرفين ككفتَي الميزان، ولو وجد الترجّح لكان في العدم. فباتفاق العقلاء لابد لها من علّة مرجِّحة.. ومن المحال أن تكون العلةُ أسباباً طبيعية؛ إذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهايةَ علمٍ وكمالَ شعورٍ لا يمكن تصورُهما في تلك الأسباب التي يخادعون أنفسهم بها. مع أنها أسبابٌ بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركُها، مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا أولَويةَ لبعضها. فكيف تجري في مجرى معيّن، وتتحرك على مَحْرَك محدود، وكيف يترجَّح بعضُ وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينةُ العجيبة المنتظمة التي حيَّرت العقولَ في دقائق حِكَمها، بل إنما تقنع نفسُك وتطمئن بتولّدها منها إن أَعطيت لكلِّ ذرّة شعورَ «أفلاطون» وحِكمةَ «جالينوس» واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرةً عمومية. وما هذه إلّا سفسطة يَخجل منها السوفسطائيُّ. مع أن أُس الأسباب المادية وجودُ القوة الجاذبة والقوة الدافعة معاً، في جزءٍ لا يتجزأ والجوهر الفرد، وإن هذا كاجتماع الضدين.

نعم، قانونُ الجاذبة والدافعة وأمثالهما أسماءٌ لقوانينِ عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولةٌ بشرط أن لا تنتقل من القاعدية إلى الطبيعية، وأن لا تخرج من الذهنية إلى الخارجية، وأن لا تتحول من الاعتبارية إلى الحقيقية، وأن لا تترقى من الآلَتِيَّة إلى المؤثِّرية.

فإذ تفهّمت ما في هذا المثال ورأيت عظمتَه مع صِغَره، ووسعتَه مع ضيقِه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات ترَ وضوحَ «دليل العناية» وظهورَه بمقدار درجة وُسعة الكائنات. فكلُّ الآيات القرآنية العادّة لنِعَم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل، فكلما أمرَ القرآنُ بالتفكر فإنما أشار مخاطِباً للعموم إلى طريق هذا الاستدلال ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ﴾ (الملك:3). ثم إنَّ الذي يومئ إلى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى: ﴿اَلَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءًۖ وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾.

وأما «الدليل الاختراعيّ» المشار إليه بقوله تعالى: ﴿الَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ فهو: أن الله تعالى أعطى لكل فردٍ ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأُ آثاره المخصوصة، ومنبعُ كمالاته اللائقة؛ إذ لا نوعَ يتسلسل إلى الأزل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولأن هذا التغيّر في العالَم يثبت حدوث بعضٍ بالمشاهدة، وبعضٍ آخر بالضرورة العقلية. ثم إنه قد ثبت بعلم الحيوانات والنباتات تكثّر الأنواع إلى أزيدَ من مائتي ألفِ نوع، ولكل نوع آدم وأبٌ عال. فبسرّ الحدوث والإمكان يثبت بالضرورة صدورُ تلك الأوادم والآباء للأنواع عن يد القدرة الإلهية بلا واسطة. ولا يُتوهَّم فيها ما يُتوَهم في السلسلة. وتوهمُ انشقاق الأنواع بعضها عن بعض باطلٌ؛ لأن النوع المتوسط لا يتسلسل بالتناسل في الأكثر، فلا يكون رأسَ سلسلة. فإذا كان المبدأ والأصل هكذا، فأجزاءُ السلسلة كذلك بالطريق الأولى.

نعم، كيف يُتصوّر أن تكون الأسبابُ الطبيعية البسيطة الجامدة التي لا شعورَ لها ولا اختيار قابلةً لإِيجاد تلك السلاسل التي تحيّرت الأفهامُ فيها، ولاختراع أفرادها التي كلٌّ منها صنعةٌ عجيبة من معجزات القدرة. فكلُّ الأفراد مع سلاسلها تشهد بلسان حدوثها وإمكانها شهادةً قاطعة على وجوب وجود خالقها جلّ جلالُه.

 إن قلت: فمع هذه الشهادة القاطعة كيف يعتقد الإنسانُ بأمثال ضلالاتِ أزليةِ المادة وحركتِها؟.

قيل لك: إن النظر التبعيّ قد يَرى المحالَ ممكناً، كالمستهلّ الذي رأى الشعرةَ البيضاء من أهدابه هلالَ العيد؛ لأن الإنسان بسبب جوهره العالي وماهيته المكرّمة إنما يدور خلفَ الحق والحقيقة. وإنما يقع الباطلُ والضلال في يده بلا اختيار ولا دعوة ولا تحرٍّ، بل بنظره السطحيّ التبعيّ فيقبله اضطراراً؛ لأنه لمّا تغافل عن النظام الذي هو خيطُ الحِكَم، وتعامى عن ضدية الحركة والمادة للأزلية، احتمل عند نظره التبعي إسنادُ هذا النقش البديع والصنعة العجيبة إلى التصادف الأعمى والاتفاق الأعور. كما قال «الجسريّ» في مَنْ دخل قصراً مزينا مشتملاً على آثار المدنية، من أنه حينما لا يرى صاحبَه فيعتقد عدمَه يضطر لإِسناد زينته وأساساته إلى الاتفاق والتصادف وناموس الانتخاب الطبيعيّ.

وأيضاً لما تعامى وتغافل عن شهادة كلِّ الحِكم والفوائد في نظام العالَم على اختيارٍ تام وعلم شامل وقدرةٍ كاملة، احتمل في نظره التبعي إثباتُ تأثيرٍ حقيقيٍ لهذه الأسباب الجامدة.

فيا هذا! مع قطع النظر عن دقائق صنعته جلّ جلالُه تأمّلْ في أظهر الآثار التي تسمى «طبيعة» وهو الارتسام -بشرط أن تمزِّق حجابَ الألفة- كيف تُقنع نفسَك ويقبل عقلُك أن خاصيةَ وجهِ المرآة علّة مؤثّرةٌ مناسبة لكشطِ وجهِ السماء، وجَلْبِ صورةِ ارتفاعها ونقشها بنجومها في زُجَيْجَتها؟. وكيف يَقنع عقلُك بأن الأمر الوهميّ في الحقيقة المسمّى بالجاذب العموميّ علةٌ مؤثرة كخيط المنجنيق لإِمساك الأرض والنجوم وتحريكها وتدويرها بانتظام محكَم؟

الحاصل: أنَّ الإنسان إذا نظر نظراً سطحياً تبعيّاً إلى الأمر الباطل المُحال ولم يرَ العلة الحقيقية احتمل صحتُه عنده. إلّا أنه إذا نظر إليه قصداً وبالذات وتحرّاه مشترياً له لا يمكن أن يقبل شيئاً من تلك المسائل التي يطنطنون بها في الحكميات، إلّا أن يَتَبَلَّه بفرض عقلِ الحكماء وحِكمة السياسيّين في الذرّات.

 إن قلت: فما الطبيعة والنواميس والقُوَى التي يدَمدمون بها ويسلّون أنفسهم بها؟

قيل لك: إنَّ الطبيعة مِسْطرٌ لا مصدر.. ومطبعةٌ لا طابع.. وقوانين لا قوة. بل إنما هي شريعة فطرية إلهية أوقعت نظاماً بين أفعالِ أعضاءِ جسدِ عالَم الشهادة. كما أن الشريعة محصَّلُ وخلاصةُ قواعد الأفعال الاختيارية، ونظامُ الدولة مجموعُ الدساتير السياسية. فكما أن الشريعة والنظام أمران معقولان اعتباريان؛ كذلك الطبيعةُ أمرٌ اعتباريّ ملخَّصُ عادةِ الله الجارية في الخِلقة. وأما توهّم وجودها الخارجيّ فكتَوهّم الوحشي الذي يرى فرقةَ العسكر يتحركون بانتظام، وجودَ أمر خارجيّ ربط بينهم. فمن كان وجدانُه وحشياً يتخيل الطبيعة بسبب الاستمرار موجوداً خارجياً مؤثراً.

الحاصل: أنَّ الطبيعة صنعةُ الله تعالى وشريعتُه الفطرية. وأما نواميسُها فمسائلها. وأما قواها فأحكام تلك المسائل.

أما «دليل التوحيد» الذي أشار اليه ﴿اعْبُدُوا﴾ على تفسير ابن عباس أي «وحِّدوا»، فاعلم أن القرآن المعجزَ البيانِ ما ترك من دلائل التوحيد شيئاً. وما تضمنته آيةُ ﴿لَوْ كَانَ فيهِمَٓا اٰلِهَةٌ اِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتَا ﴾ (الأنبياء:22) من «برهان التمانع» دليلٌ كاف ومنار نيِّر على أن الاستقلال خاصة ذاتية ولازم ضروري للألوهية، ثم في هذه الآية رمز إلى دليل لطيف على التوحيد، وهو: أنَّ تعاونَ الأرض والسماء ومناسبتهما في توليد الثمرات -لتُعَيِّش نوعَ البشر وجنسَ الحيوان- ومشابهةَ آثار العالم وتعانقَ أطرافه وأخذَ بعضٍ يد بعضٍ بتكميل بعضٍ انتظامَ بعضٍ، وتجاوبَ الجوانب وتلبيةَ بعضٍ لسؤال حاجة بعض، ونظرَ الكل إلى نقطةٍ واحدة، وحركةَ الكل بالانتظام على محور نظام واحد؛ تلوِّح بل تصرِّح بأن صانعَ هذه الماكينة الواحدة واحد وتتلو على كلٍ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ     تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ

ثم اعلم أن الصانع كما أنه واجب الوجود وواحد؛ كذلك أنه متصف بجميع الأوصاف الكمالية؛ لأن ما في المصنوع من فيض الكمال إنما هو مقتبسٌ من ظلِّ تجلي كمال صانعِه. فبالضرورة يوجد في الصانع جل جلاله من الجمال والكمال والحُسن ما هو أعلى بدرجات غير متناهية من عمومِ ما في عموم الكائنات من الحُسن والكمال والجمال؛ إذ الإحسان فرعٌ لثروة المُحسِن ودليل عليها، والإيجاد لوجودِ الموجِد، والإيجابُ لوجوب الموجب، والتحسين لحُسن المحسّن المناسب له.

وكذلك إن الصانع منـزَّه عن جميع النقائص، لأن النواقص إنما تنشأ عن عدم استعداد ماهيات الماديات، وهو تعالى مجرّد عن الماديات.

وكذلك إنه تعالى مقدّس عن لوازمَ وأوصافٍ نشأت من إمكانِ ماهيات الكائنات، وهو سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شيء جلّ جلاله. ولقد أشار إلى هاتين الحقيقتين بقوله: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ اَنْدَادًا﴾.

أما «الدليل الإمكانيّ» المشار إليه بقوله تعالى: ﴿وَاللّٰهُ الْغَنِيُّ وَاَنْتُمُ الْفُقَرَٓاءُ﴾ (محمد:38) فاعلم أنّ كل واحدة من ذَرات الكائنات باعتبار ذاتها، وباعتبار فردٍ فردٍ من صفاتها، وباعتبار واحدٍ واحدٍ من أحوالها، وباعتبار جهةٍ جهةٍ من وجوهها؛ بينما تراها تتردد بين الإمكانات الغير المتناهية في الذات والصفات والأحوال والوجود، إذا انتعشت وقامت وسلكَت طريقاً معيناً منها ولبِست صفة مخصوصة، وتكيّفت بحالة منتظمة، وركبت على قانون مسدَّد، وتوجّهت إلى مقصد معيّن، فأنتجت حكمةً ومصلحةً لا تَحصلان إلّا بذلك الطرز المعين.. أفلا تنادي بلسانها المخصوص، وتصرّح بقصد صانعها وحكمته؟ فكما أن كل ذرة بنفسها دليل على الانفراد؛ كذلك تتزايد دلالتُها باعتبار كونها جزءاً من مركبات متداخلةٍ متصاعدة؛ إذ لها في كل مركّبٍ مقامٌ.. وفي كل مقام لها نسبة.. وفي كل نسبة لها وظيفة.. وفي كل وظيفة تثمر مصالحَ.. وفي كل مرتبة تتلو بلسانها دلائل وجوبِ وجودِ صانعها.. مثلُها كمثل جنديّ في «طاقمه وطابوره وفرقته… الخ».

* * *

الآية (19-20)

﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ ﴿19﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ۟﴿20﴾﴾

اعلم أن مدار النظر في هذه الآية أيضاً من ثلاثة وجوه: نظمُها بسابقتها، والنظمُ بين جملها، ثم النظر بين هيئات جملةٍ جملةٍ. مثلُها في الارتباط كمثل الأميال العادّة للساعات والدقائق والثواني.

أما وجه النظم بينها وبين سابقتها فهو: أنه كرّر التمثيلَ وأطنب في التصوير، إشارة إلى احتياج تصوير حال المنافقين في دهشتهم وحيرتهم إلى نوعين منه، إذ:

خلاصة التمثيل الأول هي: أن المنافق يرى نفسَه في صحراء الوجود منفردةً عن الأصحاب، مطرودةً عن جمعية الكائنات، خارجةً عن حُكم شمس الحقيقة. يصير كلُّ شيء في نظره معدوماً ويرى المخلوقات أجنبية كلَّها، ساكنةً وساكتة، استولى عليها الوحشةُ والخمود. وأين هذا من حال المؤمن الذي يرى بنور الإيمان كلَّ الموجودات أحبّاءه ويستأنس بكل الكائنات؟.

وخلاصة التمثيل الثاني هي: أن المنافق يظن أن العالَم بأجزائه ينعى عليه بمصائبه ويهدده ببلاياه ويصيح عليه بحادثاته ويحيط به بنوازله، كأن الأنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافعُ ضاراً. وما هذه الحالة إلا لعدم نقطتي الاستمداد والاستناد كما مرَّ.

وأين هذا من حال المؤمن الذي يسمع بالإيمان تسبيحاتِ الكائنات وتبشيراتِها؟

وأيضاً تكرارُ التمثيل إيماء إلى انقسام المنافقين إلى الطبقة السفلية العامية المناسِبة للتمثيل الأول، وإلى الطبقة المتكبرة المغرورة الموافقة للتمثيل الثاني.

وأما مناسبة هذا التمثيل لمقامه بالنظر إلى السامع فهي أن الصف الأول من مخاطبي القرآن أبناءُ الفيافي يفترشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء. وما منهم إلّا وقد رأى بنفسه أو سمع من أبناء جنسه مثل هذه الحادثة حتى استأنس بها حسُّ العموم؛ بحيث تؤثّر فيه كضرب المثَل.

وأما مناسبته للتمثيل الأول فأظهرُ من أن يَخفى، إذ هو كالتكملة والتتمة له، مع الاتحاد في كثير من النقط.

وأما مناسبة التمثيل للممثَّل له فبخمسة وجوه:

منها: وقوعُهما كليهما في شدة الحيرة، بانسداد كلِّ طرق النجاة عليهم، وبأنْ ضلّ جميعُ أسباب الخلاص عنهم.

ومنها: وقوعهما في شدة الخوف، حتى يتخيلُ كلٌّ من المشبَّه والمشبَّه به، أن الموجودات اتفقت على عداوته، ولا يأمَن من بقائه في كل دقيقة.

ومنها: وقوعهما في شدة الدهشة المنتجة لاختبال العقل حتى إن كلاًّ منهما يتَبَلَّه. كمثل مَن يرى برق السيوف فيتحفظ بغَمضِ بصره أو يسمع تَقْتَقَة البنادق فيتجنّب عن الجرح بسد سمعه. أو كمثل مَن لا يحب غروبَ الشمس فيُمسك دولاب ساعته لئلا يدور جرخُ الفَلك الدَّوّار، فما أخبَلهم! إذ الصاعقةُ لا تنثني بسدّ الأسماع، والبرقُ المُحرق لا يترحم عليهم بغضِّ الأبصار. ومن هنا يُرى أنْ لم يبقَ لهم مَمسَك.

ومنها: أن الشمس والمطر والضياء والماء كما أنها منابعُ حياة الأزاهير وتربيةِ النباتات، وسبب تعفن الميتات ونَتن القاذورات؛ كذلك إن الرحمة والنعمة إذا لم تَصادفا موقعَهما المنتظَر لهما والعارف بقيمتهما، تنقلبان زحمةً ونِقمة.

ومنها: أنه كما يوجد التناسب بين المآلين الذي هو الأصل في انعقاد الاستعارة التمثيلية بلا نظر إلى تطبيق الأجزاء؛ كذلك يوجد مناسباتٌ هنا بين أجزائهما؛ إذ الصيِّب حياةُ النباتات كما أن الإسلاميةَ حياةُ الأرواح، والبرق والرعد يشيران إلى الوعد والوعيد، والظلماتُ تريك شبهاتِ الكفر وشكوكَ النفاق.

وأما وجه النظم بين الجمل:

فاعلم أن التنـزيل لمّا قال: ﴿اَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ مشيراً إلى أنهم كالذين اضطروا إلى السفر في صحراء موحشة في ليلة مظلمة تحت مطر شديد، كأن قطراتِه مصائبُ تصيب مَرماها بصَوبها وقد ملأت الجوّ بكثرتها؛ استيقظ ذهنُ السامع منتظراً لبيان السبب في أنْ صار الصيّبُ الذي هو في الأصل رحمةٌ مرغوبةٌ مصيبةً هائلةً، فقال مصوراً لدهشته: ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ مشيراً إلى أن المطر كما هو ظرفٌ لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك لأجل عمومِه وكثرته وإحاطته كأنه ظرفٌ للّيلة المُتَفَتِتَة قطراتٍ مسودةً بين قطراته.. ثم ما من سامع يسمع ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ إلَّا وينتظر لبيان. كأن المتكلم سمع صدى الرعد من ذهن السامع فقال: ﴿وَرَعْدٌ﴾ مشيراً إلى تهويل الحال وتشديدها بأن السماء -أميرَ الموجودات- عزمتْ على إهلاكهم، وتصيح عليهم برعدها؛ إذ المصابُ المدهوش يتخيل من الكائنات المتعاونة على إضراره حركةً مزعجة تحت سكونها، ونطقاً مهيباً تحت سكوتها. فإذ سمع الرعدَ توهَّم أنها تتكلم بما يهدده وتصيح عليه؛ إذ بالخوف يحسب كلَّ صيحةٍ عليه.. ثم إن السامع لا يسمع الرعدَ إلّا ويستهل فيبرق في ذهنه رفيقه الدائميّ، ولذلك قال: ﴿وَبَرْقٌ﴾ مشيراً بالتنكير إلى أنه غريبٌ عجيب. نعم، هو في نفسه عجيب؛ إذ بتولّده يموت عالَمٌ من الظلمات فتطوى وتلقى إلى العدم، وبموته فجأة يحيى ويحشر عالمٌ من الظلمات. كأنه نار حينما تنطفئ تورث مِلءَ الدنيا دخاناً. ومن شأن المصاب بها أن يمعن النظر ولا يمرّ بنظر سطحي بناءً على الألفة والمناسبة حتى يتكشف عن دقائق صُنع القدرة..

ثم بعد هذا التصوير كأن ذهنَ السامع يتحرك سائلاً: كيف يعملون؟ وبِمَ يتشبثون؟ فقال: ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾ مشيرا إلى أن لا مناص ولا ملجأ ولا منجى لهم حتى إنهم كالغريق يتمسكون بما لا يُتَمَسك به. فمن التدهّش يستعملون الأصابع موضع الأنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيُدخلون الأصابع من الوجع في الآذان، ومن التبلّه أنهم يسدّون الآذان لئلا تصيبهم الصواعق.. ثم بعد هذا يتحرى ذهنُ السامع سائلاً: أعَمَّت المصيبةُ أم خَصّت فيُرجى؟ فقال: ﴿وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ﴾ مشيراً إلى أن هذه المصيبة جزاءٌ لكفرانهم النعمة. يؤاخذهم الله تعالى به لشذوذهم عن القانون الإلهي المودَع في الجمهور. ثم لما سمع شدةَ الرعد يحدّث نفسه بـ«أَلَا يفيدُهم البرق بإراءة الطريق»؟ فقال: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ ﴾ مشيراً إلى أنه كما أن الرعد يعاديهم فلا يستطيعون السمعَ؛ كذلك البرقُ يخاصمهم بإضاءته فيُظلم أبصارَهم.. ثم بعد سماع تجاوب الكائنات على عداوتهم ينادي ذهنُ السامع بـ«فما مصير حالهم وما يفعلون؟ وبمَ يشتغلون؟» فقال: ﴿كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوامشيراً إلى أنهم مشوشون مترددون متحيّرون مترقبون لأدنى فرصة ولأدنى رؤية للطريق. فكلما تراءت لهم يتحركون، لكن كحركة المذبوح لاضطراب أرواحهم، ويتخطّون خطى يسيرة مع علمهم بأن لا فائدة، وكلما غشيَتهم الظلمةُ فجأة ينجمدون في مقامهم.. ثم يستعد ذهنُ السامع للاستفسار بـ«لِمَ لا يموتون أو يعْمَون أو يَصَمُّون بالمرّة فيخلصون عن الاضطراب؟» فقال: ﴿وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ ﴾ أي ليسوا مستحقين للخلاص من الاضطراب، ولهذا لا تتعلق المشيئةُ بإماتتهم، ولو تعلقت لتعلقت بذَهاب سمعهم وبصرهم. ولكنّ بقاءَ السمع لاستماع العقاب ووجودَ البصر لرؤية العذاب أجدرُ بمن شذّ ونشَزَ عن قانونه تعالى..

ثم إنَّ هذه القصة لما احتوت على نقاط يتلوّح من معاطفها استطراداً: العظمةُ والقدرة الإلهية وتصرّفُه تعالى في الكائنات، ولاسيما يتذكّر السامع تبعاً في تلافيفها عجائب الرعد والبرق والسحاب، كان من حق السامع المتيقظِ وجدانُه أن يعلن ويقول: «سبحانه ما أعظمَ قدرةَ مَنْ هذه الكائنات تَجَلِّي هيبتِه، وهذه المصيباتُ تَجلِّي غضبه». فقال: ﴿اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾.

وأما نظم هيئات جملة جملة:

فاعلم أن ﴿اَوْ﴾ في ﴿اَوْ كَصَيِّبٍ﴾ إشارة إلى انقسام حال الممثّل إلى قسمين، ورمز إلى تحقيق المناسبة بين التمثيلين وبينهما وبين الممثَّل له، وإيماء إلى مسلَّمية المشابهة.. وأيضاً متضمنٌ لـ«بل» التَرْقِيَة؛ إذ التمثيل الثاني أشدُّ هَوْلاً.

وأن ﴿كَصَيِّبٍ﴾ لعدم مطابقته للمَمثّل يقتضي تقديرَ لازمٍ، والسكوتُ عن إظهار المقدَّر للإيجاز، والإيجاز في اللفظ لإطناب المعنى بإحالته على خيال السامع بالاستمداد من المقام. فبعدم المطابقةِ كأنه يقول: أو كالذين سافروا في صحراءَ خاليةٍ وليلةٍ مظلمة فأصابتهم مصائبُ بصيّبٍ.

وأن العدول عن لفظ المطر المأنوس المألوف إلى الصيّب رمز إلى أن قطرات ذلك المطر كمصائبَ تُرمى إليهم بقصدٍ فتصيبُهم مع فقد الساتر عليهم.

وأن ذكر ﴿مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ مع بداهةِ أن المطر لا يجيء إلّا من جهتها، إيماءٌ بالتخصيص إلى التعميم، وبالتقييد إلى الإطلاق نظيرَ التقييد في ﴿وَمَا مِنْ دَٓابَّةٍ فِي الْاَرْضِ وَلَا طَٓائِرٍ يَطيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ (الأنعام:38) أي مُطبِقٌ آخذٌ بآفاق السماء. وما استدل بعضُ المفسرين بلفظ ﴿مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ هنا وفي آيةِ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ (النور:43) على نزول
المطر من جِرم السماء حتى تَخيل «بعضٌ» وجودَ بحرٍ تحت السماء، فنظرُ البلاغة لا يرى عليه سكةَ الحقيقة. بل المعنى: من جهة السماء، والتقييدُ لمَا عرفت. وقد قيل: السماء ما علاك. فالسحاب كالهواء سماء.

وتحقيق المقام: هو أنك إن نظرتَ إلى القدرة، تتساوى الجهاتُ، أي يمكن النـزول من أية جهة كانت؛ وإن نظرت إلى الحكمة الإلهية المؤسِّسة للنظام الأحسن في الأشياء المستلزِم لمحافظة الموازنة العمومية المرجِّحة لأقرب الوسائل، فالمطر إنما هو من تكاثف البخار المائي المنتشر في كرة الهواء التي أحدُ أجزائها العشرة ذلك البخار المائيّ المنتشر في أعماقها.

وتوضيحه: أن ذراتِه إذا أمرَتها الإرادةُ الإلهية، يتمثل كلٌّ، ويتسللنَ من الأطراف، ومن كل فجٍ عميق. فيتحزَّبن سحاباً هامراً. ثم بإرادةِ آمرها يشتدّ تكاثفُ بعضٍ فتصير قطراتٍ تأخذها بأيديهم الملائكةُ الذين هم ممثلو القوانين ومَعكس النظامات، لئلا يزاحِمَ ويصادم بعضٌ بعضاً، فيضعونها على الأرض. ولأجل محافظة الموازنة في الجوّ لابد من بدلِ ما يتحلّل بالتقطر، فيُبخَّر البحرُ والأرضُ فيملأ منازلها. وأما تخيّل بعضٍ وجودَ بحر سماويّ فمَحْمِله أنه تَصور المجاز حقيقةً؛ إذ لإراءة خُضرةِ الجوّ لونَ البحر، ولاحتواءِ الجو على ماءٍ أكثرَ من البحر المحيط ما استُبعِد تشبيهُه بالبحر.

أما ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ فاعلم أن الجمود على الظاهر مع التوقّد في استعارتها جمود بارد وخمود ظاهر. إذ كما تَضمَّنَ: ﴿قَوَاريرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ (الإنسان:16) استعارةً بديعة؛ كذلك يحتوي ﴿مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ على استعارة بديعة عجيبة مستملحة. فكما أن ظروف الجنة لم تكن من الزجاجة ولا من الفضة بل في شفافية الزجاج وبياض الفضة، ومن حيث إن الزجاجة لا تكون من الفضة لتخالف النوعين أشار إلى الاستعارة بالإضافة بذكر ﴿مِنْ﴾، كذلك ﴿مِنْ جِبَالٍ فيهَا مِنْ بَرَدٍ﴾ متضمنة لاستعارتين مؤسستين على خيال شعريّ بالنظر إلى السامع. وذلك الخيال مبني على ملاحظة المشابهة والمماثلة بين تمثل العالم العلويّ وتشكل العالم السفليّ. وتلك الملاحظة مبنية على تصور المسابقة والرقابة بين الأرض والجوّ في لبس الصور من يد القدرة، كأن الأرض لما برزت بجبالها اللابسة للبيض من حُلل الثلج والبَرَد في الشتاء، والمتعممة بها في الربيع. ثم تزينت في الصيف ببساتينها المتلونة فأظهرت في نظر الحكمة بانقلاباتها معجزةَ القدرة الإلهية، قابلَها جوُّ السماء محاكياً لها مسابقاً معها لإظهار معجزة العظمة الإلهية فبرز متبرقعاً ومتقمصاً بالسحاب المتقطع جبالاً وأطواداً وأودية، والمتلون بألوان مختلفة مصوِّرة لبساتين الأرض، ملوحاً ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها.

فبناء على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخياليّ استَحسن أسلوبُ العرب تشبيهَ السحاب لاسيما الصيفيّ بالجبال والسفن والبساتين والأودية وقافلة الإبل كما تسمع من العرب في خطبهم. فيخيل إلى نظر البلاغة أن قطعات السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة في الجو، كأن الرعد راعيها وحاديها كلما هزّ عصا بَرقه على رؤوسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت، وتراءت جبالاً صادفت الحشر، أو سفناً يلعب بها يد العاصفة، أو بساتين ترججها من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قطاع الطريق، ومع ذلك يسيرون ويجرون بأمر خالقهم حتى كأن كل ذرة من ذرات ذلك البخار تكمَّنتْ في مكانها أوّلا ساكتة ساكنة منتظرة لأمر خالقها. ولما ناداها الرعدُ -كالآلة المعروفة في العسكر- بـ«حَيَّ على الاجتماع والاتحاد!» تسارعوا من منازلهم مهطعين إلى داعيهم فيحشرون سحاباً. ثم بعد إيفاء الوظيفة وأمرِهم بالاستراحة يطير كلٌ إلى وكره.. فبناءً على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال -إذ الجبل لجذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره ويلبس لباسه- وعلى تلون السحاب بنظير بياض الثلج والبَرد وتكيّفه برطوبتهما وبرودتهما، وعلى وجود الأخوّة بينهما ومبادلة الصورة واللباس لهما في كثير من مواضع القرآن ومصافحتهما في منازل التنـزيل كمحاورتهما ومعانقتهما في كثير من سطور صحيفة الأرض من كتاب العالم، فترى السحاب متوضعاً على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسىً لسفن السحاب تُرسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير اليه؛ استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة أن يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه. فإذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات فـ ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ﴾ أيْ من جهة السماء. ﴿مِنْ جِبَالٍ﴾ أي من سحاب كالجبال. ﴿مِنْ بَرَدٍ﴾ أي في لونه ورطوبته وبرودته.

فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي أتقن كل شيء صنعاً.

أما هيئات جملةِ ﴿فيهِ ظُلُمَاتٌ﴾ المسوقة للتهويل؛

فتقديم ﴿فيهِ﴾ إشارة إلى أن خيال المصاب المدهوش والسامعِ المستحضِر خيالُه لتلك الحال يتوهم أن ظلمات الليالي الكثيرة أفرغت بتمامها في تلك الليلة.

وأما الظرفية مع أن الصيِّب مظروف فرمز إلى أن المتدهش بتلك المصيبة يظن فضاء العالم حوضاً قد ملئ من المطر، فما الليل إلا مظروف مفتت بين أجزائه.

وأما جمع «الظلمات» فإيماء إلى تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه، ومن تقارب دفعات المطر وتكاثف قَطْره، ومن تضاعف ظلمة الليل.

وأما تنكير ﴿ظُلُمَاتٌ﴾ فللاستنكار ولجهل المخاطب، فهو تأكيدُ ﴿ظُلُمَاتٌ﴾.

وأما جملةُ ﴿وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فاعلم أن المقصد تصوير حيرتهم ودهشتهم، وأن المصاب المتحير يجمع تمام دقته ونظره إلى أدنى حادث. فلإمعان النظر يتفطنون لما في الرعد والبرق من الانقلابات العجيبة والتحول الغريب. إذ بينما يرى المصابون ظلمة استولت على الكائنات وابتلعت الموجودات -نظير العدم- فتنقلب حيرتُهم بالغمِّ اليتميّ والسكوت الميتيّ؛ إذ يرون أظهر دلائل الوجود، وهو تكلُّم العلويات، ثم ظهورها بكشف الحجاب، فينقلب نظرهم إلى نظر المدهوش المتحير الخائف؛ إذ كما أنهم إذا رأوا ظلمات غير محصورة في فضاء غير متناهٍ، لا ضعفَ فيه بجانبٍ يُبقي لهم أملاً، ينظرون نظر اليأس؛ كذلك إذا فاجأهم بغتةً انعدامُ الظلمات بأن أفرغت من الفضاء، ومُلئ بدلها نوراً، ينقلب يأسهُم المطلق إلى رجاء.

اعلم أن الرعد والبرق آيتان ظاهرتان من جهة العالم الغيبيّ في أيدي الملائكة الموكلين على عالم السحاب لتنظيم قوانينه. ثم إن الحكمة الإلهية ربطت الأسباب بالمسَّببَات فإذا تشكل السحاب من بخار الماء المنتشر في الهواء؛ صار قسم حاملاً «للألكتريق» المنفي وقسم حاملاً «للألكتريق» المثبت؛ فحينما يتقاربان يتصادمان دفعة فيتولد البرق. ثم بالهجوم والانقلاع دفعة وامتلاءِ موضعه بآخرَ لعدم الخلو، يهتز وتتموج الطبقات فيتولد صدى الرعد. ولا تجري هذه الحالات إلا تحت نظام وقانون يتمثلهما مَلَكُ الرعد والبرق. وأما ظرفية الصيّب لهما مع أن الظرف هو السحاب فلأن المدهوش والسامع المتدهش بدهشته يرى الصيِّب محيطاً بكل شيء لإحاطته بنفسه.

وأما إفراد الرعد والبرق مع جمع الظلمات، فإشارة إلى أن منشأ الدهشة تخيُّلُ المُصابِ تكلمَ السماء وتهديدَها بالإرعاد، وكشْفَ الحجاب بالإبراق، وهما معنى مصدريّ، لا الكلام واليد البيضاء. وأيضاً كل منهما نوعٌ واحد وإن تعددت أفراده.

وأما تنوين ﴿رَعْدٌ وَبَرْقٌ﴾ فبدل من الصفة، أي رعد قاصف وبرق خاطف، ودالة على عدم الأُلفة بهما بسبب التفطن بالدقة لما فيهما من العجائب.. وأيضاً فيها إيماء إلى أنهم لا يعرفون ذلك الرعد والبرق لسد السمع وغض البصر.

وأما هيئات جملة ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فٓي اٰذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾

فاعلم أنها جواب لسؤال مقدَّر واستيناف حسن؛ إذ السامع لما توجه إلى هذه القصة الحسية التمثيلية حصل له مَيَلان شديد لكشف حال المصيبة. ثم بعد أن كمّل التصويرُ التصويرَ وقضى منه الوطر انثنى مجرى الميلان إلى كشف حال المصاب. فكأنه يقول السائل: كيف حال المُصاب حينئذ وبمَ يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله: ﴿يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ..﴾ الخ. أي لامناص لهم، إنما هم كالغرقى يتمسكون بغير متمسك فيريدون التحفظ من مجانيق السماويين بسد الأسماع. وكونه سبباً محالٌ، فلا سبب.

وأما لفظ ﴿يَجْعَلُونَ﴾ بدل «يُدخلون» فإيماء إلى أنهم تحروا الأسباب فما صادفوا إلَّا ما سببيته بجعلهم وظنهم فقط.. وصورة المضارع المستحضِرة للحال فرمز إلى أن السامع في مثل هذا المقام المهيج للحيرة يحضر بخياله زمان الواقعة ومكان الحادثة. ثم في المضارع استمرار تجددي. وفي استمراره إيماء إلى تواتر تَقْتَقَة السحاب.

وأما ﴿اَصَابِعَهُمْ﴾ بدل «أناملهم» فإشارة إلى شدة الحيرة باستعمال الأصابع موضع الأنامل.

وأما في ﴿اٰذَانِهِمْ﴾ فإيماء إلى شدة الخوف من صدى الرعد حتى يخيل إليهم أنه لو دخل الرعد في شبكة الآذان لطيّر الأرواحَ من أبواب الأفواه. وفيه رمز لطيف إلى أنهم لمّا لم يفتحوا آذانَهم لنداء الحق والنصيحة عوقبوا من تلك الجهة بنَعَرات الرعد، فسَدّوا هنا ما سدّوا هناك، كمن أخرج كلاماً شنيعاً مِن فيهِ يُضْرَب على فمه، فيُدخل يمينَ الندامة في فيهِ ويضع يسارَ الخجالة على عَينه.

وأما ﴿مِنَ الصَّوَاعِقِ ﴾ فإشارة إلى اتحاد الرعد والبرق على إضراره؛ إذ الصاعقة صوتٌ شديد معه نار مُحرقة تصرع مَن صادف.

وأما ﴿حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾ فإشارة إلى أن البلاء جذَّ اللحمَ إلى العظم، وجاز الأحوالَ إلى الحياة، فما يعنيهم إلّا غمّ الموت وحفظ الحياة.

وأما هيئات جملة: ﴿وَاللّٰهُ مُحيطٌ بِالْكَافِرينَ﴾.

فاعلم أن «الواو» تقتضي المناسبة، وما المناسبة إلّا بين هذه وبين التابع لمآل السابقة. فكأن هذه «الواو» تقرأ عليهم: «هم قومٌ فرّوا من العمارة ونفروا من الحضارة وعصَوا قانون كون الليل سباتاً ولم يُطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاةَ بالخروج إلى الصحراء فخابوا وأحاط بهم بلاءُ الله».

وأما لفظ ﴿اللّٰهُ﴾ فرمز إلى قطع آخرِ رجائهم؛ إذ المصاب إنما يلتجئ ويتسلَّى أولاً وآخراً إلى رحمة الله، فحين استحقوا غضبَ الله تعالى انطفأ ذلك الرجاءُ.

وأما لفظ ﴿مُحيطٌ﴾ فإيماء إلى أن هذه المصائب المحيطة آثارُ غضبه تعالى، فكما أن السماء والسحاب والصيّب والليل تهجُم عليهم من الجهات الست؛ كذلك غضبُه تعالى وبليّاتُه محيطة بهم.. وأيضاً علمُه تعالى وقدرتُه محيطان بكل الكائنات، وأمرُه شامل لكل الذرات. فكأن ﴿مُحيطٌ﴾ يتلو عليهم: لا تنفذون من أقطار السماوات والأرض، ﴿فَاَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ﴾ (البقرة:115).

وأما تعلق «الباء» فرمز إلى أنهم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفاً للسهام.

وأما التعبير بـ ﴿الْكافِرِينَ﴾ فإشارة إلى إراءة تمثال الممثَّل -أعني المنافقين- في مرآة التمثيل، لئلا يتوغل فيه ذهنُ السامع فينسى المقصد.. ورمز إلى أن المشابهة وصلت إلى درجة، وتَضايَق المسافةُ بينهما إلى حدّ يتراءَيان معاً، فتمتزج الحقيقةُ بالخيال.. وأيضاً إيماء إلى ظلمةِ قلوبهم إذ وجدانُهم أيضاً يعذبهم لقصورهم وجنايتهم؛ إذ مَن رأى جزاءَ جنايته لا يستريح وجدانُه.

وأما هيئات جملة: ﴿يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ ﴾ فاستينافُها يشير إلى أن السامع يقول: ألَا ينتفعون بالبرق المخفِّف لبلاء الظلمة عنهم؟ فأُجيبَ بأنهم يخافون من الضرر فضلاً عن الفائدة.

وأما ﴿يَكَادُ﴾  فيشير -باعتبار خاصّته المشهورة- إلى وجود سببِ زوال البصر، لكن لم يزل لوجود مانع.

وأما ﴿يَخْطَفُ﴾ باعتبار استعماله كـ«اختطفتهُ الغُول والعُقاب»، ففيه بلاغة لطيفة تبرُق للذهن، وتشير إلى أن البرق يسابق شعاعَ العين، من قبل أن يصل إلى الأشياء ليأخذ صوَرَها، يمرّ هو عليه فيقطعُه ويضرب على جفنه فيذهبُ بنورِه. كأن نور العين لمّا خرج من بيته مُسرعاً لاجتناء صوَر الأشياء يسارع البرقُ الذي هو شعاع عين الليل، فيأخذ من يد شعاع العين صورتَه قبل إيصاله إلى المخزن، أي يختلس البرقُ صورتَه من يده.

وأما ﴿اَبْصَارَهُمْ﴾ فرمز -بناءً على كونها مرآةً للقلوب- إلى عمل بصائر المنافقين المتعامية عن البراهين القاطعة القرآنية.

وأما هيئات جملة: ﴿كُلَّمَٓا اَضَٓاءَ لَهُمْ مَشَوْا فيهِ وَاِذَٓا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا﴾

فاستينافُها يشير إلى أن السامع حينما رأى اختلافَ المصيبة وتغيّرَها سأل عن شأنهم في الحالتين فأُجيب بذلك.

وأما ﴿كُلَّمَٓا﴾ في الإضاءة و ﴿إِذَا﴾ في الإظلام، فإشارة إلى شدة حرصهم على الضياء، ينتهزون أدنى الضياءِ فرصةً. وأيضا ﴿كُلَّمَٓا﴾ متضمن لقياس مستقيم استثنائي.

وأما ﴿اَضَٓاءَ لَهُمْ﴾ بلام الأجْلية والنّفع، فرمز إلى أن المُصاب المدهوش يستغرق في حاجة نفسه حتى يَظنُّ الضياءَ الذي تنشره يدُ القدرة في العالم لآلاف حِكمٍ كلية أنه المُراد به خاصة، ويدُ القدرة إنما أرسلتْه لأجله.

وأما ﴿مَشَوْا﴾ مع اقتضاء الفرصة السيرَ السريع، فإشارة إلى أن المصيبة أقعَدَتهم، فما سيرُهم السريع إلّا مشيٌ وحركة على مهل.

وأما ﴿فيهِ﴾ فإشارة إلى أن مسافة حركتهم الضياءُ، الذي هو لون الزمان، فكأنه يحدّد لهم المكان.

وأما ﴿وَاِذَٓا﴾ فـ«الواو» رمز إلى تجديد المصيبة لتشديد التأثير. وأما الإهمال والجزئية في ﴿إِذَا﴾ عَكْسَ ﴿كُلَّمَٓا﴾ فإشارة إلى شدة نفرتهم وتعاميهم، فتأخذُهم وهم منغمسون في آنِ الفرصة.

وأما ﴿اَظْلَمَ﴾ بالإسناد إلى البرق، فإشارة إلى أن الظلمة بعد الضياء أشدُّ. وإيماءٌ إلى أن خيال المصاب لمّا رأى البرقَ طردَ الظلمةَ ثم ذهب وامتلأ موضعُه بالظلمات، يتخيل أنه انطفأ وأورث دخاناً.

وأما ﴿عَلَيْهِمْ﴾ الملوِّح بالضرر فإشارة إلى أن الإظلام ليس تصادفيا، بل جزاءٌ لعملهم. ورمزٌ إلى أن المدهوش يتخيل الظلمةَ المالئة للفضاء كأنها تَقصِد -من بين الأشياء- ذلك الإنسانَ الصغير الذليل وتجعلُه خاصةً هدفَ هجومها وإضرارها.

وأما ﴿قَامُوا﴾ بدل «سكنوا» فإشارة إلى أنهم بالمصيبة وشدة التشبّث تقوّسوا كالراكعين، كما هو شأن المجدِّين في العمل.

وأما هيئات جملة ﴿وَلَوْ شَٓاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ ﴾ فالـ«واو» -بسر الربط- تلوّح إلى أن يدَ القدرة تتصرف تحت حجاب الأسباب، وأن نظر الحكمة يراقبُ من فوقِ جميعِ العلل.

وأما ﴿لَوْ﴾ فمتضمنةٌ لقياس استثنائيّ غيرِ مستقيم. أي عدمُ المشيئة علةٌ لعدم ذهابهما؛ كما أن عدمَ الذهاب دليلٌ على العلم بعدم المشيئة بذهابهما. وأيضاً رمز إلى أن السبب بلغَ النهاية.

وأما ﴿شَٓاءَ﴾ فإشارة إلى أن الرابط بين السبب والمسبَّب إنما هي المشيئة والإرادة الإلهية. فالتأثيرُ للقدرة، وما الأسباب إلّا حجابُ العزة والعظمة؛ لئلا تباشرَ يدُ القدرة بالأمور الخسيسة في ظاهر نظرِ العقل.

وأما التصريحُ بلفظة ﴿اللّٰهُ﴾ فإشارة إلى زجر الناس عن الابتلاء بالأسباب والانغماس فيها. وأيضاً لدعوة الأذهان إلى رؤية يدِ القدرة خلفَ كل الأسباب.

وأما حذفُ مفعول ﴿شَٓاءَ﴾ وإن كان واجباً بالقاعدة المطّردة، فيجوز بقرينة إخوانه أن يكون إيماءً إلى عدم تأثّر المشيئة والإرادة الإلهية بأحوال الكائنات، وعدم تأثير الأشياء في الصفات الإلهية، كما تتأثر إرادةُ البشر بحُسن الأشياء وقبحها وعظمتِها وصِغَرها.

وأما ﴿لَذَهَبَ﴾ فإشارة إلى أن الأسبابَ ليست مسلطةً ومستولية على المسبّبات، حتى إذا رُفعت بقيت المسبباتُ في جوف العدم تلعب بها يدُ التصادف وتشتّتها بالاتفاق؛ بل يدُ القدرة حاضرةٌ خلف الأسباب. إذا أخرجت الأشياءَ تأخذها يدُ الحكمة الإلهية، بقانون الموازنة والانتظام، ترسلها إلى مواقعَ أُخر ولا تُهملها. كما أن الحرارة إذا خرّبت بُنية الماء، فبالنظام المندمج في الهواء يذهب البخارُ في مجرى معيّن ويسوقُه صانعُه إلى موقع معين. وكذا في ﴿ذَهَبَ﴾ رمز إلى أن الحواسَّ الخمس الظاهرة ليست متولدةً عن الطبيعة، ولا لازمةً لتجاويف السمع والبصر، بل إنما هي هداياه تعالى وعطاياه. وما التجاويفُ والأسباب إلّا شرائطُ عاديةٌ.

وأما التعديةُ بـ«الباء» بدلَ «الهمزة» فإيماء إلى أن يد القدرة لا تُطلق الأشياءَ عن حبل الأسباب، غَاربُها على عنقها بل تضع أزمّتها بيد نظام.

وأما إفراد «السمع» مع جمع «البصر» فإشارة إلى إفراد المسموع وتعدّد المُبصَر، إذ ألفُ رجل يسمعون شيئاً واحداً مع تخالف المبصَرات.

وأما هيئات جملة: ﴿اِنَّ اللّٰهَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ فاعلم أنها فذلكة لتحقيق الدهشة في التمثيل والممثَّل له، تشير إلى أنه كما لا تهمل دقائق أحوال المصابين المتمثلة لجزئيات أحوال المنافقين؛ كذلك يُرى في كل ذرة تصرّف القدرة الإلهية.

وأما ﴿اِنَّ﴾ فمع إشارتها إلى أن هذا الحكم من الحقائق الراسخة، رمزٌ إلى عظمة المسألة ووُسعَتها ودقّتها، وعجزِ البشر وضعفه وقصوره عنها، المولِّدة للأوهام المُنتجة للتردّد في اليقينيات.

وأما التصريحُ بلفظة ﴿اللّٰهَ﴾ فإيماء إلى دليل الحُكم، إذ القدرة التامة الشاملة لازمةٌ للألوهية.

وأما ﴿عَلٰى﴾ فإيماء إلى أن القدرة المُخرِجةَ للأشياء من العدم، لا تتركها سُدىً هَملاً، بل ترقُب عليها الحكمةُ وتربّيها.

وأما ﴿كُلِّ﴾ فإشارة إلى أن آثار الأسباب، والحاصلَ بالمصدر من الأفعال الاختيارية أيضاً بقدرته تعالى.

وأما لفظ ﴿شَيْءٍ﴾ بمعنى مَشيء، أي ما تعلقت به المشيئةُ، فإشارة إلى أن الموجودات بعد وجودها لا تستغني عن الصانع، بل تفتقر في كلِّ آنٍ لبقائها -الذي هو تكرّر الوجود- إلى تأثير الصانع.

وأما لفظ ﴿قَديرٌ﴾ بدل «قادر» فرمز إلى أن القدرة ليست على مقدار المقدورات فقط، وأنها ذاتية لا تغيّر فيها، ولازمةٌ لا تقبل الزيادة والنقصان، لعدم إمكانِ تخلّلِ ضدِّها حتى تترتب شدةً ونقصاناً.. وتلويحٌ إلى أن القدرة كالجنس وكميزان الصّرف، أعني: «فَعَلَ» لجميع الأوصاف الفعلية من الرزاق والغفار والمحيي والمميت وغيرها. تفكّر فيما سمعتَ حقَّ التفكر!