ذيل الحباب

ذيل الحباب

مَن كان لله كان له كل شيء..

ومَن لم يكن له، يكن عليه كلُّ شيء.

والكونُ له بتركِ الكلّ له والإذعانِ بأن الكلَّ مالُه ومنه وإليه..

في (ط1)

إفادة مرام

يا أيها الناظر في رسائلي العربية الثمان!

إني أولَ ما كتبتُها، ما كتبتُ إلّا لنفسي، ثم تخطّرتُ أن هذه النعمة من شُكرها نشرُها، لعل أن ينتفع بها أناسٌ. ثم بعد تكرار النظر فيها تفطنت فيها سرا ترددتُ في إظهاره من زمان، ولكن أُحسّ في قلبي الآن سائقا لإظهاره، وهو:

أنه أرى مسائل تلك الرسائل وسائلَ وسلالم للصعود إلى الزنابيل النورانية المتدليّة من عرش الرحمن التي هي الآيات الفرقانية. فما من مسألةٍ منها إلّا ويماسّ رأسُها قدمَ آيةٍ من الفرقان. فمسائلها وإن حصلت لي أولَ ما حصلت شهوديةً وحدسية وذوقية، لكن لدخولي في صحراء الجنون مع رفاقة عقلي مفتوحَ الجفون -فيما يغمض فيه ذووالأبصار- لفّ عقلي على عادته ما رآه قلبي في مقاييسه وَوَزَنه بموازينه واستمسكه ببراهينه.. صارت مسائل هذه الرسائل من هذه الجهة كأنها مبرهنة استدلالية.

فيمكن لمن ضلّ من جهة الفكر والعلم أن يستفيدَ منها ما يُنجيه من مزالق الأفكار الفلسفية.

بل يمكن أن يَستخرج منها بالتهذيب والتنظيم والإيضاح عقائدَ إيمانيةً وعلمَ كلام جديد في غاية القوة والرصانة لردّ ضلالات أفكار هذا الزمان.

بل يمكن لمن اختلط عقلُه بقلبه، أوالتحق قلبُه بعقله المتشتتِ في آفاق الكثرة أن يستنبطَ منها طريقة كسكّة الحديد متينةً أمينةً يسلك فيها تحت إرشاد القرآن الكريم..

كيف لا، وكل ما في رسائلي من المحاسن ما هوإلّا من فيض القرآن..

ولله الحمد كان القرآن هومرشدي وأستاذي في هذا الطريق.

نعم، مَن استمسكَ به استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاتُه، وتنزّهت عن مشابهة الأمثال صفاتُه، الخلّاق الذي ذاك العالمُ الكبير إبداعُه.. وهذا العالَمُ الصغير (أي الإنسان) إيجادُه.. وذا إنشاؤه وهذا بناؤه.. وذا صنعتُه وهذا صبغتُه.. وذا نقشه وهذا زينتُه.. وذا رحمتُه وهذا نعمته.. وذا قدرتُه وهذا حكمته.. وذا عظمتُه وهذا ربوبيتُه وذا مخلوقُه وهذا مصنوعُه.. وذا ملكهُ وهذا مملوكُه.. وذا مسجدُه وهذا عبده.. وعلى جوانبهما بل على كلِّ جزءٍ منهما سكتُه الناطقة بأن الكلَّ مالُه.

اَللَّهُمَّ يا قيومَ الأرض والسماء إنّا نُشهِدك ونُشهدُ حَملَة عرشكَ وملائكتك بشهادة جميع أنبيائكَ وأوليائك وآياتك وجميع مصنوعاتك وجميع خلقك بأنك أنت الله لا إلهَ إلّا أنت وحدك لا شريكَ لك، ونستغفركَ ونتوب إليك ونشهد أن محمدا عبدك ورسولك، أرسلتَهُ رحمةً للعالمين.

اَللَّهُمَّ صلِّ عليه كما يناسب حرمته وكما يليقُ برحمتك وعلى آله وصحبه أجمعين..

اعلم أن ما أنعم الله عليك من وجودك وتوابعه، ما هوإلّا إباحةٌ وليس بتمليك. فلك أن تتصرَّف فيما أعطاكَ كما يرضى مَن أعطى، لا كما ترضى أنت. كمن أضاف أحدا، ليس للضيف أن يُسرف أويَصرف فيما لا إذن للمضيِّف فيه.

اعلم يا من يستغرب الحشرَ الأعظم ويستبعده! ألا تنظر إلى ما بين يديك مما لا يُحصى من أنواع الحشر والنشر والقيامات الخصوصية! وكيف تستبعد القيامة الكبرى مع مشاهدة ما لا يحد من القيامات في كل سنة، حتى في كل شجرة مثمرة أومزهرة؟ وإن شئتَ اليقينَ الشهودي، فاذهب مع عقلك في آخر الربيع والصيف إلى تحت شجرة التوت أوالمشمش، مثلا.. وانظر كيف حُشرت ونُشرت هذه الثمراتُ الحلوة الحية.. والمخلوقاتُ الطرية اللطيفة النظيفة. كأنها أعيانُ الثمرات اللاتي ماتت في السنة الخالية. فهؤلاء الثمرات المنشورة المنثورة اللاتي يضحكن في وجهك، ما هي إلّا أخواتُ الميتات الخاليات وأمثالُها كأنها هي. ولوكانت لها «الوحدة الروحية» كالإنسان كانت هي إياها، أي عينَها، لا مثلَها! ثم تأمل في الشجرة مع يبسها وجمودها وحقارتها وصغرها، مع ضيق مجاريها واشتباك مسيل حَمَلة أرزاق الأزهار والأثمار..كيف صارت تلك الشجرة برأسها عالَما عجيبا، يصور للمدقق تمثال: ﴿وَاِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (الانفطار:4). الحق أن القدرة التي تنشُر من الشجرة اليابسة هذه المصنوعاتِ اللطيفة لا يتعسر عليها شيء ما في الإمكان. آمنا.

اعلم أن تضمين كلِّ سورةٍ سورةٍ من القرآن مجمَلَ ما في كل القرآن وسائرِ السوَر من المقاصد وأهم القصص، لأجل أن لا يُحرَمَ مَن يقرأ سورة فقط عما أُنزلَ له التنـزيل؛ إذ في المكلَّفين الأمّيُّ أوالغبيُّ، ومَن لا يتيسر له إلّا قراءة سورةٍ قصيرة فقط، فمِن هذه اللمعة الإعجازية تصير السورةُ قرآنا تاما لمَن قرأها.

اعلم أن الواحد المتصرفَ في الكثير لا يلزم أن يكون مباشرا مخالطا متداخلا فيما بينهم؛ لاسيما إذا كان مباينَ الماهية، ولاسيما إذا كان غيرَ مادي ولا ممكنٍ، بخلاف الكثير. والفاعلُ الكثير -كفعل الأمير في النفرات- يحصل بالإرادة والأمر بدون الاختلاط والمعالجة. ولوأُحيلت وظائفُ الإمارة وأفاعيلُها على النفرات، لَزِمت المباشرةُ الذاتية والمعالجة، أوانقلاب النفرات إلى ماهية الأمير. فالحق سبحانه مع غاية تقدّسه وتنـزّهه وعلوّه وعظمته، ونهاية بُعدنا وخساستنا، يتصرف فينا كما يشاء.وهوسبحانه كالشمس قريبٌ منا.. ونحن بعيدون منه جلّ جلاله.

اعلم أن الكثرةَ تنجر إلى الوحدة بجهة صيرورة الجزء أنموذجَ الكل، كالشجرة إلى الثمرة؛ فيصيرُ الكل كالكلي، والجزء كالجزئي كضياء الشمس المنبسط في الفضاء، إذ قد تضمن كلٌّ من ذرات ذلك الضياء لتمثالٍ من تماثيل الشمس، كأن الذرات المهتزة شُميساتٌ اتصلت فصارت ضياء مثلا: – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى -.. هكذا تجليات أسماء نور الأنوار الأزلي فتجلي أسماء الله يُري بهذين الوجهين كلا وكليا.

اعلم يا مَن اطمأن بالدنيا وسكن إليها! إن مَثَلكَ كمثل من يتدحرج ساقطا من أعلى قصر، يتدحرج ذلك القصر في سيلٍ، يتساقط ذلك السيل من أعالي جبل، يتدحرج ذلك الجبل متنازلا بالزلزلة إلى أعماق الأرض.. إذ قصرُ الحياة ينهدم، وطائرُ العمر يمرّ كالبرق أوشك أن يبيضك في وكر القبر، وسيلُ الزمان تسرع دواليبُه بدرجةٍ تُدهش العقول، وسفينةُ الأرض تمرّ مرّ السحاب. فمَن كان في «شمندوفر» يسرع سرعة شديدة، ثم مدَّ يدَه -في وسط الطريق وفي آن السرعة- إلى أزاهيرَ ذات أشواك مفترسة في جانب الطريق، فمزّقت الأشواكُ يدَه.. فلا يلومنّ إلّا نفسَه. فإذا كان هذا هكذا.. فلا تمدنّ عينيك ولا يديك إلى زهرة الدنيا، فإن أشواكَ آلام الفراق تمزّق القلوبَ في آنِ التلاقي؛ فكيف بوقت الفراق!

فيا نفسي الأمارة بالسوء! اعبدي مَن شئت وادْعي ما شئت.. وأما أنا فلا أعبدُ إلّا الذي فطرني واقَتَدَر على أن سخّر لي الشمسَ والقمر والأرض والشجر، ولا أستمدُّ إلا ممن حَملني في طيارة العمر السابح في فضاءِ محيط القَدر، وسخّر لي الفَلكَ الدائر الطائر بين النجوم السيارات، وأركبني في «شمندوفر» الزمان المار كالبرق في أخدود الأرض وتحت جبل الحياة إلى باب القبر في طريق أبد الآباد.. وأنا قاعد بإذنه وتذكرته في «واغون» هذا اليوم المتصل طرفاه بحلقتي الأمس والغد.. ولا أدعوولا أستغيث إلّا مَن يقتدر على توقيف «جرخ الفَلَك» المحرك ظاهرا لفُلكِ الأرض.. وعلى تسكين حركة الزمان بجمع الشمس والقمر.. وعلى تثبيت هذه الدنيا المتغيرة المتدحرجة من شواهق الوجود في أعماق أودية الفناء والزوال بتبديل الأرض غيرَ الأرض؛ إذ لي آمال ومقاصد متعلقة بكل شيء، تبقى آمالي ملتزقة على ما يمر عليه الزمان، وتذهب عليه الأرض وتفارقه الدنيا، ولي علاقة ولذة بسعادةِ كلِ صالح من أهل السماوات والأرض. ولا أعبد إلّا مَن هو؛ كما يسمع أدقّ هواجس سري ويُصلح لي أرقّ آمالِ قلبي وميوله.. كذلك يقتدر مع ذلك على ما يتمناه عقلي وخيالي من تحصيل السعادة الأبدية لنوع البشر بإقامة القيامة وتقليب الدنيا بالآخرة؛ فيصل يدُه إلى الذرة وإلى الشمس، فلا تتصاغر الذرةُ مختفيةً عن تصرفه، ولا يتكبر كبرُ الشمس على قدرته.. إذ هوالذي إذا عرفتَه انقلبت لك الآلامُ لذائذَ، وبدونه تُنتج العلومُ أوهاما.. والحِكَمُ أسقاما.. بل هي هي.

نعم، وبدون نوره تبكي الوجودات لك إعداما، والأنوار ظلماتٍ، والأحياء أمواتا، واللذائذ آلاما وآثاما، ويصيرُ الأودّاءُ بل الأشياءُ أعداء، وما البقاء بدونه إلّا بلاءٌ، والكمال هباءٌ، والعمر هواءٌ، والحياة عذاب، والعقل عقاب، وتبكي الآمالُ آلاما.

مَن كان لله تعالى كان له كل شيء، ومَن لم يكن له كان عليه كل شيء، والكون له بترك الكل له والإذعان بأن الكلّ مالُه.. وهوالذي فطرك بصورة أحاطت بك دوائرُ متداخلة من الحاجات وجهّزك في أصغرها التي نصف قطرها مدُّ يدك باقتدار واختيار. وجهّزك في البواقي التي وسعت بعضُها كما بين الأزل والأبد والفرش والعرش بالدعاء فقط.. وفي التنـزيل: ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُ۬ا بِكُمْ رَبّي لَوْلَا دُعَٓاؤُ۬كُمْ (الفرقان:77) فالصبي ينادي أبويه فيما لا يصل يدهُ إليه؛ فالعبد يدعوربَّه فيما عجز عنه.

اعلم أن كمالَ صنعة كل شيء وإتقانَها، ما هوإلاّ من سر الوحدة. ولولا الوحدة بلا توزيع وبلا تجزؤ وبلا تزاحم لتفَاوَتَت المصنوعات. كوحدة الشمس ووجودها بالتجلي في كل ما مسَّه ضياؤها.. من ذرةٍ شفافة إلى وجه البحر، ولا يشغلها شيء عن شيء. فهذا السر تشاهده في هذه الشمس الممكنة المسكينة المقيدة المحدودة الجامدة الميتة التي هي قطرة متلمعةٌ بتجلي شعلةٍ من اسم النور الحق. فكيف شمسُ الأزل والسلطان الأبد والقيومُ السرمد الواجبُ الوجود الواحد الأحد الحي القدير الصمد جل جلاله؟ –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى– فوحدة الضياء المحيط تشير إلى الواحدية، ووجود الشمس بخاصيتها بالتجلي في كل جزء وذرة من ذلك الضياء المحيط يرمز إلى الأحدية. فتأمل!

اعلم أن مِن أصدق شواهد الأحدية:

«الوحدةُ في كل شيء» من ذرات حجيرة من عينك، إلى وحدة العالم.

و«الإتقانُ الأكمل في كل شيء» بما تَسَعه لياقة قابليته المجعولة بقلم القضاء وقالب القدر.

و«السهولةُ المطلقة في إنشاء كل شيء وإيجاده». وأن السهولة المطلقة تدل على أن وجود الصانع ليس من جنس وجود المصنوع، بل لابد أن يكون أثبتَ وأرسخَ منه بما لا يتناهى.

اعلم أن الأرضَ تعطيكم وتبيعكم متاعَها والمالَ الذي في يدها، رخيصا بنهاية الرخيصية. فلوكان المتاع مالَها أونسجَ الأسباب الإمكانية، لمَا اشتريتم رمانةً فردةً بجميع ما تصرفون، لاستحصال جميع ما تأخذونه من جميع الأرض بأيادي أشجارها ومزارعها؛ إذ يُرى في كل حبةٍ أن صانعها اهتم بها وأتقن فيها بنهاية الإتقان وغاية التزيين، وجَمعَ فيها ما جمع بشعور تام، ومهارة حكيمة، وجهّزها بلطائف اللّون والطعم والرائحة لجلب أنظار المشترين. فلولم تكن هي مصنوعةَ مَن لا كُلفةَ ولا معالجةَ ولا مباشرة في صُنعه وإيجاده حتى تتساوى بالنسبة إلى قدرته الحبةُ والحديقةُ والفردةُ الفذةُ وكلُّ النوعِ والذرةُ والشمس.. لمَا كان هذا هكذا بلا ريب وبالبداهة وبالحدس القطعي؛ إذ لابد أن يكون صانعُ هذه الحبّات العِنَبية والرمانية المصنوعة ظاهرا لتطمين ذوقٍ موقت وهوس جزئي لبعض الحشرات والحيوانات، إما مسلوبَ الشعور ومفقودَ الحسّ وعديمَ الإرادة بلا علم وبلا اختيار وبلا كمال، ليكون هذا هكذا رخيصا تافها مبذولا؛ والحال أن الصنعة الشعورية المتقنة الحكيمة المختارة تكذّب هذا الفرضَ أشدَّ تكذيب.. وإما واجبَ الوجود: قدير، مريد، عليم، حكيم، بيده ملكوت كل شيء: ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس:82) ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (لقمان:28) بالنسبة إليه، وله في كل مصنوع حِكَمٌ وغايات تنظر إلى تجليات أسمائه وإلى أسرارٍ له في الفعالية الشؤونية، غيرُ ما يعود إلى المستهلكين من الفوائد الجزئية. فلا يمكن أن يكون منشأُ هذا الفيض العام قوّةً عمياء تسيل منها هذه الثمرات كالسيل، ثم تلعب بها يد التصادفات والاتفاقيات؛ إذ تشخصاتها المنتظَمة الحكيمة وخصوصياتها المتقنة الشعورية تردّ يد التصادف الأعمى والاتفاقية العوراء ردا قطعيا يقينا. فبالضرورة تدل هذه الرخيصية المبذولة والسهولة نوعا وكمّا، والإتقان والاقتصاد فردا وشخصا وكيفا، وتشهد على الجود المطلق من الجواد المطلق والحكيمِ المطلق والقدير المطلق جلّ جلالُه وعمّ نوالُه وشمل إحسانه.

فسبحان مَن جَمع نهايةَ الجود المطلق مع نهاية الحكمة المقتصدة، وأدرج الفيض المطلق الغير المحدود في ظروف النظام التام والميزان الحساس والعدل العادل.. الحساسة -تلك الثالثة- بدرجة تُجبر الفيلَ لمدافعة الذباب العاض على ذرة من جسمه الجسيم، وتُقلق هذا الإنسانَ المتكبر، الذي يحكّ بيافوخه كتفَ السماء بطعن البعوض «رُميحته» فيتشمر لمقاتلته: ﴿ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ (الحج:73).. ويسكن غضبُ البحر ويسكت غيظُ العاصفات وتسكن حدةُ البرودة بدعاءٍ خفي من قلبٍ منكسر لصبيّ نجا على لوح منكسر في البحر اللجيّ.. ﴿اَمَّنْ يُجيبُ الْمُضْطَرَّ اِذَا دَعَاهُ﴾ (النمل:62) يجيبُه مَن يسمع هواجس القلب والسر، ويحكم على حركات الشمس والقمر، جلّ سلطانه..

اعلم يا أيها المبتلى بالأسباب، إن خلق السبب وتقدير سببيته وتجهيزه بلوازمِ إنشاء المسبَّب، ليس بأسهل وأولى وأكمل وأعلى من خلق المسبَّب عند السبب بأمر «كن» ممن يتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والشموسُ..

اعلم يا قلبي أن ما يُرى ملء الدنيا من آلام الأعدام، إنما هي تجدّد الأمثال، ففي الفراق مع وجود الإيمان توجد لذةُ التجدد دون ألم الزوال. فآمِن تُؤمَن، وأسْلِم تسلَم.

اعلم أن العصبيةَ العنصريةَ الجاهلية، ما هي إلّا الغفلةُ المتساندة المتصالبة، وإلّا الضلالةُ والرياء والظلم المتجاوبة المتعاونة.. فيصير الخلقُ وملّته كمعبودِه -العياذ بالله- وأما الحمية الإسلامية، فهي النور المهتز المنعكس من ضياء الإيمان.

اعلم يا من يشتغل بالمناظرة مع الملحدين والمتشككين والمقلدين للزنادقة الأوروبائيين! إنك على خطر عظيم إن كانت نفسُك غيرَ مزكاة، لأجل التحاق نفسك سرا وتدريجا من حيث لا تشعر بخصمائك.. على أن المناظرة بالإنصاف المسمى بالتركي «بي طَرَفَانَه مُحَاكَمَه» أشدُّ خطرا على ذي النفس الأمارة؛ إذ بكثرة تكرار فرض المنصف نفسَه في موقع الخصم يقيمُ في ذهنه خصما خياليا فيتولد منه في دماغه «لُمّةُ تنقيدٍ» تصيرُ وكيلَ خصمه داخلا، فيتعشش الشيطانُ في تلك اللمة. لكن لا تيأس إن كانت نيتُك خالصة. فإذا أحسَستَ بهذا الحال فاصرف عنان الجهاد إلى عدوك الأكبر الداخلي، وعليك بكثرة التضرع والاستغفار.

اعلم أن الآلات الجامدة والحيوانات وجهَلةَ العَمَلة المستخدمة في بناء قصر عجيب لسلطان عظيم، وترسيمِ نقوشه، يعلم كلُّ مَن رآها أنها «لا تعمل بحساب أنفسها بل بحساب مَن يستخدمها» في مقاصده العالية الواسعة وأغراضِه الرقيقة التي تتقاصر عن إدراكها أفكارُ خواص العلماء، فكيف بجَهلَة العوام وبهيمةِ الأنعام وجامدات الأقلام.. كذلك من أمعن في جلوات الأزاهير وتودداتها وتحبباتها إلى أنظار ذوي الحياة تيقَّن أن الأزاهير موظفون -من جانبِ حكيمٍ كريمٍ- بالخدمة والتودد لضِيفَان ذلك الكريم النازلين بإذنه في أرضه، وكذلك الحيوانات.

نعم، أين حس الزهرة وشعور البهيمة، وأين دَرْكُ غايات نقوش الحِكَم ولطائف محاسن الكرم المودَعة في جلوات الأزاهير بتزييناتها، وتطورات الأنعام بمنافعها؟ فما هذه الحالات إلا تعرُّفُ ربٍ كريم وتودُده وتحبّبه إلى عباده وضيوفه جلّ جلاله وعمَّ نوالُه وشمل إحسانُه.

اعلمي! أيتها النفس المشؤومة! إنك تطلبين كلَّ لوازمات المراتب المختلفة في كل مرتبةٍ، وحاجاتِ كل الحواس في حاجة كل حسٍّ، وأذواق كل اللطائف في درجةِ كل لطيفةٍ، وشعاعات كل الأسماء الحسنى في كلِّ اسمٍ، وعظمةَ المؤثر خلفَ كل أثرٍ ومصنوعٍ، وخواصَ المعنى الخارجي في المدلول الظلي، بل في الدال. فاطلبي من كلٍّ ما يليق به وما يَسَعه لئلا تستهوي بك الأوهامُ.

اعلم أنه لابد إذا رأيت نفسَك بعظمتها أن تنظر إلى ما هوأعظمُ منك من السماوات وغيرها، وإذا رأيت ما هوأصغر منك من الهوام والحشرات فانظر إلى حُجيرات جسدك وادخل مع نظرك في حُجيرة منها، ثم انظر إليها حتى ترى البعوضةَ فما فوقها أكبرَ منك، لئلا يسقطَ في عينك أهمية الحِكمة والرحمة والنعمة وإتقان الصنعة فيك. وإذا رأيت الغيرَ الغيرَ المحدود المماثلين لك في النِعم، فانظر إلى احتياجك وعَجز نفسك وحكمة النعمة، لئلا تهونَ عندك قيمةُ نعمتك.

نعم، هل يخفّف احتياجَك إلى العين وجودُ العين في عموم الحيوان؟. أم هل يُنقِص الشمولُ أثر القصد والإنعام الخاص؟ كلا، بل يشدّه ويزيده.

اعلم أن الحياة في كل ذي حياة لها غايات لا تعد ولا تحصى، يعود إلى الحي واحدٌ وإلى المحيي بمقدار مالكيته الغير المتناهية؛ ولا حق للكبير أن يتكبر على الصغير في الخلقة، ولا عبثية في الواقع، وإنما هي في نظر البشر النفسي الغَرور الذي يزعم ويرى أن الأشياءَ كلَّها لأجل منافعه وهوساته. ويحسب أن لا غاية لها غير ما يعود إليه..

نعم، هذه الضيافة المفروشة على ظهر الأرض إكرامٌ للبشر بسرّ الخلافة وبشرط استحصال لياقة الكرامة.. لا لَهُ ولاستفادته فقط.

اعلم أنه إذا قال لك الموسوِس: ما أنت إلّا حيوان مما لا يحد من الحيوانات، والنمل أخوك والنحلة أختك، فأين أنت وأين مَن يَطوي السّماء ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (الأنبياء: 104) ﴿وَالْاَرْضُ جَميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه (الزمر:67)؟

فقل له: إن عدم تناهي عجزي وفقري وذلّي، مع علمي الإذعانيّ به يصيرُ مرآةً لعدم تناهي قدرته وغَنائه وعزته. فهذا السر رقّاني من مرتبة إخواني الحيوانات. وإن من لوازم كمال عظمته وإحاطة قدرته أن يسمعَ ندائي ويرى حاجاتي ولا يُشغله تدبيرُ الأرض والسماوات عن تدبير شؤوني الحقيرة.

وأما تباعد الإنسان والممكن بدرجة عظمته عن الاشتغال بجزئيات الأمور وخسائسها، فليس من عظمته.. بل إنّما ينشأ من عجزه ونقصه وضعفه. أفلا تشاهد كلَّ حَبابٍ بل كل رشاشةٍ من القطرات والذرات الزجاجية، تشتمل على تمثال الشمس، لوتكلّمت تلك لقالت كلٌّ منها: الشمس لي وعندي وفيّ ومعي.. وما يزاحم تلك الذراتِ في المناسبة مع الشمس لا عيونُ السيارات ولا خدودُ البحور ولا عظمةُ الشمس. بل بدرجة علمنا بعدم تناهي فقرنا وحقارتنا تتزايد القربة -والمناسبة بعدم المناسبة- فما ألطفَ مناسبةَ من لا يتناهى في فقره وعجزه، مع من لا نهاية لغناه وقدرته وعزته وعظمته!

فسبحان مَن أدرج نهايةَ اللطف في نهاية العظمة، وغايةَ الرأفة في غاية الجبروت، وجَمعَ نهاية القُرب مع غاية البُعد. وآخى بين الذرات والشموس، فأظهر قدرته بجمع الأضداد!

فانظر كيف لا تُشغلهُ حشمةُ تدبير الأرض والسماوات عن لطافة تربية الهوام والحشرات، ولا يعوقُه تدبيرُ البر والبحر عن إيجاد أصغر النحل والطير وعن إحياء صغار السماك في أعماق البحور، ولا تزاحمه شدةُ عاصفات البر وحدّة غضب البحر عن كمال لطفه وإحسانه إلى أخفى وأضعفِ وأعجزِ وأصغرِ حيوان ساكنٍ في أخفى مكان، متوكلا تحت ظلمات كثافة البحر وغياهب أمواجه وتفاقم ارتجاجاته، وظلمةِ الليل وظلمات سحابه..

فتبسُمُ الرحمة في خلال غضب البحر وخلف وجهه العبوس القمطرير؛ إذ ينادي هذا البحر بنغماته الواسعة: يا عظيم، يا جليل، يا كبير، يا الله.. سبحانك ما أعظم كبرياءك. فيقابله ذلك الحيوان الصغير بترنّماته الخفية: يا لطيف، يا كريم، يا رزاق، يا رحيم، يا الله.. سبحانك ما ألطفَ إحسانَك. ففي اقتران هذين الذِكرين، وامتزاج هذين التسبيحين حِشمةٌ لطيفة ولطافة محتشَمة وعبودية عالية للواحد الأحد الصمد جلّ جلاله وعمّ نواله..

اعلم أن الأهم الألزم بعد علوم الإيمان، إنما هوالعمل الصالح؛ إذ القرآن الحكيم يقول على الدوام: ﴿الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ .

نعم، هذا العمر القصير لا يكفي إلّا لما هوأهمّ.. وأما العلوم الكونية المأخوذة من الأجانب فمضرة؛ إلا للضرورة وللحاجات وللصنعة واستراحة البشر.

اَللَّهُمَّ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ارْحَمْ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،
وَنَوِّرْ قُلُوبَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِنُورِ اْلإيمَانِ وَالْقُرْآنِ،
وَنَوِّرْ بُرْهَانَ الْقُرْآنِ، وَعَظِّمْ شَرِيعَةَ اْلإسْلَامِ، آمِينَ.

* * *

حباب

الرسالة الخامسة

حباب من عُمَّان القرآن الحكيم

خداى بركرم خود ملك خودرامى خِرَد أز تو

براى تونكه دارد بهاء بى كران داده ([1])


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمدُ لله ربّ العالَمينَ

والصَلاةُ والسَّلامُ على سيّد المُرسلينَ. وعلى آلهِ وَصَحبهِ أجمَعين.

اعلم أيها المؤمن المصلي الذاكر، إذا قلت: «أشهدُ أن لا إلهَ إلّا الله» أو«محمدٌ رسولُ الله» أو«الحمد لله».. مثلا: حكمتَ بحكمٍ، ادّعيتَ دعوى، وأعلنت اعتقادا، يشهد لك في دعواك في آنِ تلفّظِك ملايينُ، وقبلَك ملايينُ ملايينَ من المؤمنين المتكلمين بما تكلمتَ به؛ كأنهم يصدّقونك.. وكذا يؤيدُك في دعواك ويُثبت حكمَك ويزكّي شهداءك كلُّ ما قام على صدق الإسلامية، وكلُّ ما أثبت حُكما من أحكامها، وكلُّ ما استند عليه جزءٌ من أجزاء قَصر الإسلام من الشواهد والبراهين ومسامير الدلائل.. وكذا اندمج في ملفوظك وتوضَّعَ عليه أمرٌ عظيم، ويُمنٌ جسيمٌ من الفيوضات والبركات القدسية.. وكذا اتصل بملفوظك وأحاطَ به معنىً جاذب، وروحٌ جالب من شرارات جَذَبات توجهات جمهور المؤمنين، ومن رشاشات رشحات رشفات قلوب الموحّدين الشاربين ماءَ الحياة من عيون تلك الكلمات المباركة..

اعلم أنه قد تقرر في الأصول: «أن المثبِت يرجَّح على النافي». وسرُّه: أن النفي ينحصر في موضعه، والإثبات يتعدى. ولونفى ألفٌ، وأثبته ألفٌ كان كلٌّ من المثبتين كألفٍ. بسرّ: أنه إذا رأى واحدٌ الشمسَ من مشكاةٍ، وآخر من أخرى، وهكذا؛ فكلٌّ يؤيد كُلا، لاتحاد المَرئي والمشهودِ مع تعدد المناظر.. وإذا لم يره واحدٌ لعدم المشكاة، وآخر لضعف البصر، وآخر لعدم النظر، وهكذا.. فقوةُ كلٍّ في نفسهِ فقط، والانتفاءُ عنده، لا يدل على الانتفاء في نفس الأمر، فلا يؤيد أحدٌ أحدا لاختلاف الأسباب مع تعدد المدَّعى؛ لأن الانتفاء مقيّدٌ عند النافي بـ«عندي» مثلا.

فإذا تفهّمت هذا السر؛ فاعلم أن اتفاق كلّ أهل الضلالة والكفر على نفي مسألةٍ من المسائل الإيمانية، فاتفاقهم لا تأثير فيه، بل كحُكم واحدٍ. مع أنه حجةٌ قاصرة ينحصر على النافي فقط. وأما اتفاقُ أهل الهدى على المسائل الإيمانية فكلٌّ يتأيد بكلٍّ، كأن الكلَّ شواهد كلِّ واحدٍ.

اعلم أنه كما أن الأجزاء والأحجار في البناء المتساند يستند كلُّ واحدٍ بقوة الكل، ويزول ضعفُ كلٍّ بتساند الكلِّ، كأن الكلَّ عَوَنَةُ كلِّ واحدٍ ومساميره.. وأيضا كما أن الأغصان والأثمار في الشجرة تستند معرفةُ صفاتِ كل واحدٍ بالكلِّ، فكلٌّ للكلِّ معرِّفٌ، كأن كلَّ واحدٍ لكلِّ واحدٍ منفذٌ نظّار، ولمعرفته معيار.. كذلك إنّ تفاصيلَ لمعات الإيمان والإسلام ومسائلَهما يستند كلُّ جزئي بقوة الكلِّ، فبازدياد التفاصيل والجزئيات يزداد وضوحُ فهم كلِّ جزء وقوةُ معرفة كلِّ جزئي، وإذعانُ كلِّ حكم، وإيقانُ كلِّ مسألة. ومع كلِّ ذلك، فالنفسُ الشيطانة تعكس فتنتكس. فتزعم ضعفَ الجزء سببَ ضعفَ الكلِّ..

اعلم أن كلَّ جزء من كلِّ الكون واحد قياسيّ لإمكانات سائر الأجزاء. وبالعكس؛ فأجزاء الكائنات مقاييس للإمكانات بينها كلٌّ لكلٍّ..

اعلم أن أصغر جزءٍ؛ من أعظم كلٍّ، يحتاج إلى ما يحتاج إليه كلُّ الكلِّ كَمّا، فالثمرةُ تحتاج إلى كلِّ ما يحتاج إليه كلُّ الشجرة. فخالقُ الثمرة بل حُجيرةٍ من حُجيراتها لابد أن يكون خالقَ الشجرة، بل خالقَ الأرض، بل خالقَ شجرة الخلقة.

اعلم أن المسألة التي طرفاها في غاية التباعد، كل طرف كنواة تَسَنبلَت وأشجرت وتفرعت، لابد أن لا يتوضّع عليها الشكوك والأوهام؛ إذ التباسُ نواةٍ بنواة ممكن ما بقيت النواةُ نواةً مستورة. وأما إذا صارت شجرة وأثمرت، ثم شككتَ في جنس النواة شهدت الثمراتُ عليها، ولوتوهمتَها غيرها، كذّبتْكَ تلك الثمرات.

مثلا: لا يتيسر لك فرضُ النواة التي انقلبت شجرةَ التفاح نواةَ حنظلةٍ، إلّا بتوهمها إياها، أوتبديل كلِّ ما أثمرت من التفاحات حنظلات وهومحال.

النبوة نواةٌ، أَنبتت شجرةَ الإسلامية بأزاهيرها وثمراتها، والقرآنُ شمسٌ أثمرت سياراتِ أركان الإسلامية الأحد عشر.

اعلم أنه كما أن مَن يرى قشر بيضة انقشعت عن طير همائي تكمَّل وطار في السماء، ثم يتحرى ما يسمع من كمالاتِ ذلك الطير الطائر في فضاء العالَم في تلك القشرة اليابسة، لابد أن يغالط نفسه، أويكذّب. وكذا لونظر إلى فلقتَي نواةٍ انكشفت عن شجرةٍ تكمّلت وأثمرت، ومددت أغصانها في جوالسماء، ثم تحرّى ما قرع سمعَه من عظمتها وثمراتها وأزهارها في تلك القشرة المطروحة في التراب، لابد أن يتبلّه أوينكر..

كذلك إن مَن نظر إلى صورة ما نقله التواريخ من مبادي ظهور نبيّنا عليه الصلاة والسلام نَظرا ماديا وسطحيا وصوريا، لا يتيسر له دركُه وتقديرُ قيمته ومعرفة شخصيته المعنوية؛ بل لابد أن ينظر إلى ما نقله التواريخ والسِير بنظر قشر رقيقٍ انشقَّ عن قمريٍّ -كقمر- في جوالملكوت. ويرى ما يرى من لوازم البشرية، والأحوال الصورية كقشر نواة انكشفت منها شجرة طوبى المحمدية، التي تُسقى بماء الفيض الإلهي، وتنموبإمداد الفضل الرباني على مرّ الدهور. فكلما مرّ على سمعه شيءٌ من الأحوال الصورية والمبدئية، فلابد أن لا ينحبسَ عليه ذهنهُ، بل ليرفعْ رأسه بسرعة وفي كل مرة منه إلى ما ترقى وتصاعد إليه الآن مما لا يدرك منتهاه.

وكذا إن ممّا يشط النظر لاسيما نظر المتحرّي الشاكّ، أنه لا يفرق بين المصدرية والمظهرية، بين المنبعية والمعكسية، وبين المعنى الاسمي والحرفي، وبين الذاتي والتجلّي. فكونه عليه السلام عبدا محضا، وأعبدَ خلق الله لله؛ يستلزم أن يُنظَر إليه بأنه مَظهرٌ ومَعكِسٌ لتجلياته تعالى. وكلُّ ما فيه من الكمالات من فيضه تعالى.

نعم، قد ذكرنا مرارا أن الذرة لاتسع مصدريةً ولورأسَ ذبابة، ولكن تسع مظهريةً ولونجوم سماوات. ونظرُ الغفلة ينظر أولا وبالذات إلى الذاتي الاسمي والمصدرية، فيتوهم الصنعةَ الإلهية طبيعةً طاغوتية..

اعلم أن الدعاء أنموذج لأسرار التوحيد والعبادة؛ إذ الداعي في نفسه خُفيةً، لابد أن يعتقد سماعَ المدعولهواجسِ نفسه وقدرتَه على تحصيل مطلبه، فيستلزم هذا الاعتقادُ، اعتقادَ أن المدعوعليمٌ بكلِّ شيءٍ، وقديرٌ على كلِّ شيء.

اعلم أنه كما يمكن دخول هذه الشمس -سراج العالم- في عين الذباب بالتجلي فتتنور، ولا يمكن دخول شرارة من كبريتٍ في عينها بالأصالة، بل لودخلتْ لانطفت العين.. كذلك يمكن بل يجب مظهرية كل ذرة لتجليات أسماء شمس الأزل، ولا يمكن -بل يمتنع- أن تكون ذرةٌ مصدرا وظرفا لمؤثر حقيقي، ولوكان أصغر وأقل من الذرة.

اعلم يا «أنا» المتمردُ المغرور المتكبر، انظر إلى درجة ضعفك وعجزك وفقرك ومسكنتك! إذ يبارِزك ويصارعك -فتخرّ صعقا- الحُوَينُ الذي لا يُرى إلّا بتكبيره مرات ودرجات.

اعلم ومن صُغر الإنسان أنه يجول في خردلة حافظته، وتصير تلك الخردلة عليه كصحراءَ عظيمة يسري دائما ولا يقطعها إلى جانب. فقس درجةَ مَن يسري دائما ولا يتم دَورَ خردلةٍ، ومع أن الخردلة الحافظة تصير كصحراء عظيمة على عقل الإنسان، كذلك يصير ذلك العقلُ كبحر يبتلع الدنيا.. فسبحان مَن جعل الخردلة لعقل الإنسان كالدنيا، وجعل الدنيا له كخردلة!

اعلم أن من أشد ظلم البشر إعطاءَ ثمرات مساعي الجماعة لشخصٍ، وتوهُّمَ صدورها منه، فيتولد من هذا الظلم شركٌ خفيٌ؛ إذ توهّمُ صدورِ محصّل كسبِ الجماعة، وأثَرِ جُزئهم الاختياري من شخصٍ، لا يمكن إلّا بتصور ذلك الشخص ذا قدرة خارقة ترقت إلى درجة الإيجاد، وما آلهة اليونانيين والوثنيين، إلّا تولدت من أمثال هذه التصورات الظالمة الشيطانية.

اعلم أن الإنسان كدوائرَ متداخلة متحدة المركز. ففي دائرةٍ: لباسُه جسمُه، وفي أخرى: بلدُه، وفي أخرى: وجهُ الأرض، وفي أخرى: عالم الشهادة وهكذا.. ولكنه لا فِعلَ ولا تأثير له إلّا في الدائرة الصغرى، وفيما سواها من الدوائر عاجزٌ مسكين، منفعلٌ وقابلٌ لأخذ الفيض فقط. لوتَفَعَّل ما فعل إلا تغييرَ صورة الفيض بالقصور والنقصان اللذين هما من ألوان العدم.

اعلم أن في الذاكر لطائفَ مختلفةً في الاستفاضة؛ بعضُها يتوقف على شعور العقل والقلب، واستفادةُ بعضٍ لا شعوري تحصل من حيث لا يُشعَر. فالذكر مع الغفلة أيضا لا يخلومن الإفاضة.

اعلم أن الله خلق الإنسان في تركيب عجيب، ووحدةٍ في كثرة؛ بسيطٌ وهومركب، فردٌ وهوجماعة، له أعضاء وحواس ولطائف، لكلٍّ في ذاته ألمٌ ولذة مع تألمه وتلذذه من انفعالاتِ الكل وتأثراتِ إخوانه؛ بدليل سرعة التعاون والإمداد بينها. فمن حكمة هذه الخلقة جَعَلَ الإنسانَ مَظهرا لأنواع اللذائذ ولأقسام النِعَم ولأصناف الكمال -لاسيما في الآخرة- إن سلكَ في سبيل العبودية.. وكذا جعله محلا لأنواع الآلام ولأشكال العذاب ولأقسام النقم، إن ضلَّ في طريق الأنانية. فألمُ وَجَع السنِّ غيرُ ألَم وجع الأذن. ولذةُ العينِ غيرُ لذة اللسان، واللمس والخيال والعقل والقلب وهكذا..

اعلم أن كثرةَ فوائد عدمِ تعين الآجال؛ دليلٌ نيِّر على تعيُّنها في علم الباري، ولوتعينت لَتُوُهِّمَ عدمُ تعيُّنها من جهة العلم بتوهم تفويض تَعيّنها على القانون الفطري، وإذ لم تتعين فيما بين الحدين المعيّنين؛ لا حقّ للوَهم أن يدّعي عدمَ التعيّن.

اعلم أن الذكر من شأنه أن يكون من الشعائر، والشعائر أرفع من أن تنالها أيدي الرياء.

اعلم أن تكرارَ كلمة التوحيد؛ لتجريد القلب من أنواع العلاقات، وطبقات المعبودات الباطلة، ولأن في الذاكر أنواعا من لطائف وطبقاتٍ من حواس؛ لكلٍّ توحيدٌ وتجريدٌ من الشرك المناسب له.

اعلم أن الفاتحة المقروءة، مثلا؛ لا تفاوتَ بين إهداء مثلِ ثوابها لواحدٍ، ولألوفٍ، أولملايين، كمثل الكلمة الملفوظة؛ سواءٌ في استماعها الفردُ والألوفُ، لسرٍ لطيف في سرعة التناسل والاستنساخ في اللّطيف.. ولرمزٍ شريفٍ في التكثّر مع الوحدة في النوراني، كمصباح قابلَه مرآةُ فردٍ، أوألوفٌ من المرايا.

اعلم أن الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام كإجابة دعوة المُنعم الذي أفاضَ فيضه، وبسَطَ مائدةَ إنعامه على مقام صاحب المعراج. وإذا وصف المصلّي النبيَّ بصفةٍ، لابد أن يتأمل في مناط تلك الصفة ليشتاق المصلّي لتصليةٍ جديدة.

اعلم أيها العالم الديني! لا تحزن على عدم الرغبة في عملك وقلّة أُجرتك؛ إذ المكافأة الدنيوية تنظر إلى جهة الاحتياج، لا إلى درجة القيمة الذاتية، إذ جهة المزية الذاتية ناظرة إلى المكافأة الأخروية، لا يجوز لك أن تشتريَ بها ثمنا قليلا من متاع الغرور.

اعلم أيها المحرّر والخطيب العمومي بلسان الجريدة! لك أن تتواضع وتهضم نفسك وتعلن قصورك تندّما. ولا حقّ لك أن تتمرد بالتجاهر بما يضاد شعائر الإسلام. فأين جاز لك، ومَن وكّلَكَ، وبأيّ حقّ تتجاسر على إعلان القصور الديني، بل إشاعة الضلالة بحساب الملة وباسم الأمة، وتظن الملّة على قلبك الضال؟!.. فلا يجوز لأحدٍ -فضوليا- أن يهضم نفسَ غيره حتى نفسَ أخيه. فمن أين جاز لك أن تزيِّفَ عامة الملّة الإسلامية بإساءة الظن بهم بإعراضهم عن الشعائر الإسلامية.. ولا ريب أن نشر ما لا يقبله جمهور المؤمنين في الجرائد العمومية من المستحدثات دعوةٌ إلى الضلالة، فناشرُها داعٍ إلى الضلالة، فلا يُجاب بالضرب على فمه فقط، بل يُعنّف بالأخذ على يده.

اعلم أن الكفار لاسيما الأوربائيون ولاسيما شياطين في إنكلترة وأباليس الفرنك، أعداء ألدّاء، وخُصماء معاندون أبدا للمسلمين وأهل القرآن.. بسر أن القرآن حَكَم على مُنكري القرآن والإسلام وعلى آبائهم وأجدادهم بالإعدام الأبدي، فهم محكومون بالإعدام أبدا، والحبسِ في جهنم سرمدا بنصوص ذلك القرآن الحكيم. فيا أهل القرآن كيف توالون مَن لا يمكن أن يوالوكم أويحبوكم أبدا؟.. فقولوا: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ (آل عمران:173) ﴿نِعْمَ الْمَوْلٰى وَنِعْمَ النَّصيرُ (الأنفال:40).

اعلم أن الفرق بين مدنية الكافرين ومدنية المؤمنين، أن الأولى: وحشةٌ مستحالة ظاهرُها مزيّن، باطنُها مشوّه، صورتها مأنوسة، سيرتها موحشة.. ومدنية المؤمنين باطنُها أعلى من ظاهرها، معناها أتمّ من صورتها، في جوفها أُنسيةٌ وتحبّب وتعاون. والسر: أن المؤمن بسر الإيمان والتوحيد يرى أخوّةً بين كل الكائنات، وأُنسيةً وتحببا بين أجزائها، لاسيما بين الآدميين ولاسيما بين المؤمنين. ويرى أخوةً في الأصل والمبدأ والماضي، وتلاقيا في المنتهى، والنتيجة في المستقبل. وأما الكافر فبحكم الكفر له أجنبيةٌ ومفارقة بل نوعُ عداوةٍ مع كل شيء لا نفع له فيه، حتى مع أخيه؛ إذ لا يرى الأخوة إلّا نقطة اتصال بين افتراق أزلي ممتد، وفراق أَبدي سرمد؛ إلّا أنه بنوع حَميّةٍ ملّية أوغيرة جنسية تشتد تلك الأخوة في زمان قليل، مع أن ذلك الكافر لا يحب في محبة أخيه إلاّ نفسَ نفسه. وأما ما يُرى في مدنية الكفار من المحاسن الإنسانية والمعالي الروحية، فمن ترشحات مدنية الإسلام، وانعكاسات إرشادات القرآن وصيحاته، ومن بقايا لمعات الأديان السماوية.

فإن شئتَ فاذهب بخيالك إلى مجلس «سيدَا» قُدّس سره في قرية «نورشين».. وما أظهرتْ من المدنية الإسلامية بصحبته القدسية، تَرَ فيها ملوكا في زي الفقراء وملائكة في زي الأناسي. ثم اذهب إلى «باريس» وادخل في لجنة الأعاظم تَرَ فيها عقاربَ، تلبسوا بلباس الأناسي، وعفاريتَ تصوَّروا بصور الآدميين. وقد بينتُ الفروق بين مدنية القرآن والمدنية الحاضرة في «لمعات» «وسنوحات» فراجعهما لترى فيهما أمرا عظيما تغافلَ عنه الناس.

اعلم يا من يطلب الاجتهاد في مسائل الدين في هذا الزمان! إن باب الاجتهاد مفتوح، لكن لا يجوز لكم الدخول فيه لستة أمور:

فأولا: لأن عند هبوب العاصفات في الشتاء يُسَدّ المنافذ الضيقة، فكيف تُفتح الأبواب؟ وعند إحاطة سيل المنكَرات والبدعيات وتَهاجم المخرّبات لا يُشقّ الجدار بفتح منافذ.

وثانيا: إن الضروريات الدينية التي لا مجال للاجتهاد فيها، والتي هي في حكم الغذاء والقوت للمسلمين قد أُهملَت وتزلزلت، فلابد صرفُ كلِّ الهمّة لأقامتها وامتثالها وإحيائها، ثم بعد اللَّتيّا والّتي تَمَسّ الحاجة إلى الاجتهاد في النظريات التي توسعت باجتهادات السلف، بحيث لا يضيق عن حاجات كل الزمان.

وثالثا: إن لكل زمان متاعا مرغوبا، يشتهر في سوقه، تُجلَب إليه الرغبات وتُوجَّه وتنجذب الأفكار إليه، كالسياسة وتأمين الحياة الدنيوية الآن.. وكاستنباط مرضيات خالق العالم من كلامه، وتأمين السعادة الأبدية في زمان السلف. فلأجل توجُّه الأذهان والقلوب والأرواح في الجمهور إلى معرفة مرضيات ربّ السماوات والأرض في ذلك الزمان، صار كلُّ مَن له استعداد جيد يتدرّس قلبُه وفطرتُه -من حيث لا يشعر- من كل ما يجري في ذلك الزمان ن الأحوال والوقوعات والمحاورات، كأن كلَّ شيء معلِّمٌ يلقن فطرتَه استعدادا إحضاريا للاجتهاد، حتى يكاد زيت ذهنه يضيء ولولم تمسسه نارُ كَسْبٍ. فإذا توجه إلى الاجتهاد صار له نورٌ على نور. وأما الآن فلتشتتِ الأفكار والقلوب، وانقسامِ العناية والهمة، وتحكّم السياسة والفلسفة في الأذهان، لا يمكن لمن كان في ذكاء «سفيان ابن عيينه» مثلا أن يحصِّل الاجتهادَ إلّا بعشرة أمثال وقت ما حصَّل سفيان الاجتهادَ فيه. إذ إن سفيان يبتدئ تحصيلُه الفطري من حيث التمييز، فيتهيأ استعدادُه كالكبريت للنار. وأما نظيره الآن -فبسر ما مرّ آنفا- يتباعد استعدادُه بدرجة تبحّره في الفنون الحاضرة ويتقاسى عن قبول الاجتهاد بدرجة تغلغله في العلوم الأرضية.

ورابعا: إنَّ ميلَ التوسيع والاجتهاد إن كان من الداخلين بحقٍ في دائرة كمال الإسلام بمظهرية التقوى الكاملة وامتثال الضروريات، يكون ذلك الميل كمالا وتكملا. وأما إن كان ممن يهمل الضروريات ويرجّح الحياة الدنيوية على الآخرة يصير ذلك الميل ميلَ تخريبٍ، ووسيلةً لحل ربقة التكليف عن عنقه.

وخامسا: إنَّ المصلحةَ حِكمةٌ مرجِّحة، وليست بعلّة للحُكم. ونظرُ هذا الزمان يصيِّر المصلحةَ علّةً للحُكم. وكذا نظرُ هذا الزمان يتوجه أولا وبالذات إلى السعادة الدنيوية، مع أن نظرَ الشريعة متوجه أولا وبالذات إلى السعادة الأخروية، وثانيا وبالعرض إلى الدنيا من حيث هي وسيلة الآخرة.. وكذا إن كثيرا من الأمور التي ابتُلي الناسُ بها، وعمّت البليةُ بها حتى صارت من «الضروريات»؛ فلتولدها من سوء الاختيار، ومن الميول الغير المشروعة «لا تبيح المحظورات» ولا تصير مدارا لأحكام الرّخَصية. كما أن مَن سَكر بشرب حرامٍ لا يُعذر في تصرفاته في حالة السُكر.. وهكذا فالاجتهادات بهذا النظر في هذا الزمان تصيرُ أرضية، لا سماويّة. فالتصرف في أحكام خالق السماوات والأرض وفي عباده بلا إذنه مردود.

مثلا: يَستحسِن بعضُ الغافلين الخطبةَ بالتركية لتفهيم السياسة الحاضرة لعامة المسلمين، فهذا الغافل المسكين لا يعلم أن السياسةَ الحاضرةَ -بكثرة الكذب والحيلة والشيطنة فيها- صارت كأنها وسوسةُ الشياطين، فلا حقَّ لهذه الوسوسة السياسية أن ترتقيَ إلى مقام تبليغ الوحي. وكذا لا يَفهم هذا الجاهل أن أكثر الأمة إنما يحتاجون لإخطار الضروريات وتذكير المسلّمات والتشويق على امتثال الحقائق المتعارَفة بين المؤمنين، من أركان الإيمان والإسلام ومراتب الإخلاص والإحسان. فبكثرة التسامع يتساوى العوامُ والعلماء في التذكر والتخطر بسماع القرآن. إذ العجمي يفهم المآل إجمالا وإن لم يعرف المعنى. وكذا لا يَعقلُ ذلك الغافلُ أن عربية الخطبة وَسْمٌ سماوي مسدّد ومُزيَّن في سماء وحدة الإسلام، وبالتغيير يصير وَشما مشتِتا مشينا.

اعلم يا من أحاطَ به الغفلة وأظلمت عليه الطبيعة حتى صار «أعمى وأصم» يعبد الأسباب في ظلمات الطبيعة الموهومة! إني أُترجم لك لسانا واحدا من خمسة وخمسين ألسنة يتكلم بها كلُّ واحدٍ من مركبات الكائنات وذراتها شاهداتٍ على وجوب وجوده تعالى ووحدته في ألوهيته وربوبيته جل جلاله([2]).. وهوأن اضطرابات الأرواحِ والعقول الناشئةَ من ضلالاتها الناشئةِ من استنكاراتها الناشئةِ من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في إسناد الأشياء إلى أنفسها، وإلى الأسباب الإمكانية.. تلجئ الأرواحَ والعقولَ للفرار إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل إيضاحُ كل مُشكل، وبإرادته يحصل فتحُ كلِّ مغلَق، وبذكره تطمئن القلوب.


[1] [[ إن الله ذا الكرم الواسع يشتري ملكه منك، ويحافظ عليه لأجلك، وقد أعطى قيمة غالية..]]

      طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «علي شكري» بأنقرة سنة 1341هـ (1923م)

[2] قد ذكرت تلك الألسنة إجمالا في «قطرة» وما هنا إيضاح لسانٍ واحدٍ فقط. (المؤلف).

قطرة

الرسالة الرابعة

قطرة من بحر التوحيد

مفتاح حل هذه الرسالة المستفادة من فيض القرآن

إنما يحصلُ بعد مطالعتها بتمامها مرةً بدقة.


إفادة المرام

اقرأ بدقة تَقَرَّ عينُك بإذن الله

اعلم

يا أيها الناظرون! إنى قد ساقني القدر الإلهي إلى طريق عجيب، صادفتُ في سيري فيه مهالك ومصائب وأعداء هائلةً. فاضطربتُ، فالتجأت بعجزي إلى ربي.. فأخذت العنايةُ الأزلية بيدي، وعلّمني القرآنُ رشدي، وأغاثتني الرحمة فخلصتني من تلك المهالك. فبحمد الله صرتُ مظفرا في تلك المحاربات مع النفس والشيطان اللذين صارا وكيلين فضوليين لأنواع أهل الضلالات..

فأولا: ابتدأَت المشاجرةُ بيننا في هذه الكلمات المباركة وهي:

سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فوقع تحت كلٍ من هذه الحصون الحصينة ثلاثون حربا. فكلُّ جملة، بل كل قيد في هذه الرسالة نتيجة مُظفَّريةٍ لحرب لم يبقَ للعدوفي شيء منها مطمَعٌ وأدنى ممسكٍ.. فما كتبتُ إلّا ما شاهدتُ.. بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكانٌ وهمي. فأُشيرُ بعضا إلى حقيقة طويلة مع دليلها بقيدٍ أوصفة اندمج دليلُ الحُكم فيهما، يُعرف بالدقة. وما صرّحتُ ليُحسَّ بالمرام من احتاج ولا يشتغلَ مَن لم يحتج فيحتاج..

أظن أن جريان هذا الزمان يلقي العقولَ والقلوبَ في المهالك التي أمَرَّني القدرُ عليها. فهذا الأثرُ يمكن أن يكون نافعا بإذنه تعالى لبعض المصابين. ومن الله التوفيق..

سعيد النُّورْسِيّ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة على نبيه

فهذا الأثر على أربعة أبواب وخاتمة ومقدمة.

المقدمة

اعلم أني حصّلتُ في أربعين سنة في سفر العمر، وثلاثين سنة في سير العلم: أربع كلمات، وأربع جمل. سيجيء تفصيلها. أشيرُ هنا إلى الإجمال..

أما الكلمة فهي:

المعنى الحرفي، والمعنى الاسمي، والنية، والنظر.

أعني: أن النظر إلى ما سواه تعالى، لابد أن يكون بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وأن النظر إلى الكائنات بالمعنى الاسمي أي بحساب الأسباب خطأٌ. ففي كل شيء وجهان: وجهٌ إلى الحق، ووجه إلى الكون. فالتوجه إلى الوجه الكوني لابد أن يكون حرفيا وعنوانا للمعنى الاسمي الذي هوجهةُ نسبتِه إليه تعالى؛ مثلا: لابد أن يُرى النعمةُ مرآةً للإنعام، والوسائطُ والأسباب مرايا لتصرف القدرة..

وكذا، إن النظر، والنيّة يغيّران ماهيات الأشياء، فيَقلبان السيئاتِ حسناتٍ. كما يقلب الإكسيرُ الترابَ ذهبا، كذلك تَقْلب النيةُ الحركاتِ العاديةَ عباداتٍ. والنظرُ يقلب علومَ الأكوان معارفَ إلهية.. فإن نُظر بحساب الأسباب والوسائط فجهالات، وإن نُظر بحساب الله فمعارف إلهية..

وأما الكلام:

فالأول: «إني لست مالكي» وإن مالكي هومالك الملك ذوالجلال والإكرام… فتَوهَّمْتُني مالكا، لأفهم صفات مالكي بالمقايسة. ففهمت بالمتناهي الموهومِ الغيرَ المتناهي. فجاء الصباح وانطفأ المصباح المتخيَّل..

الثاني: «الموت حق» فهذه الحياة وهذا البدن ليسا بقابلين لأن يصيرا عمودَين تُبنى عليهما هذه الدنيا العظيمة؛ إذ ما هما بأبديين ولا من حديد ولا حجر بل من لحم ودم وعظم. ومتخالفات توافقوا في أيام قليلة هم على جناح التفرق في كل آن.. فكيف يُبنى بالآمال قَصْرٌ يسع الدنيا على هذا الأساس الرخوالفاسد والعمود المدَوّد الكاسد..

الثالث: «ربي واحد»: كل السعادات لكلِّ واحدٍ هوالتسليمُ لرب واحد. وإلّا لاحتاج إلى الأرباب المتشاكسين من مجموع الكائنات؛ إذ لجامعية الإنسان، له احتياجات إلى كل الأشياء، وعلاقات معها، وتألمات وتأثرات، شعوريا وغير شعوري بكل منها، فهذه حالة جهنميّة. فمعرفة الرب الواحد الذي كل هذه الأرباب الموهومة حجابٌ رقيق على يد قدرته هي حالة فردوسية دنيوية..

الرابع: إن «أنا» نقطة سوداء، وواحد قياسي، التفّ على رأسه خطوط الصنعة الشعورية، تشاهَد فيها أن مالكه أقربُ إليه منه..

سيجيء تفصيل هذه الجمل في خاتمة الباب الأول.


الباب الأول

في

لا إله إلّا الله

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمدُ لله ربِ العاَلمينَ والصّلاةُ والسّلامُ عَلى سيّد المرسَلين، وعلى آله وصَحبه أجمعين.

أُشهِدُ كلَّ شاهدٍ ومشهود بأنّي أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا الله الذي دلّ على وجوب وجوده، ودلّ على أوصاف كماله، وشهد على أنه واحد أحد فرد صمد:

الشاهدُ الصادق المصدَّق والبرهانُ الناطق المحقَّقُ.. سيدُ الأنبياء والمرسلين.. الحاملُ لسر إجماعهم وتصديقهم.. وإمامُ الأولياء والعلماء المتقين.. الحاوي لسر اتفاقهم وتحقيقهم.. ذوالآيات الباهرة والمعجزات القاطعة المحققة المصدّقة.. والسجايا السامية والأخلاق العالية المكملة المنـزّهة.. مهبط الوحي الرباني.. سيّارُ عالم الغيب والملكوت مُشاهدُ الأرواح ومُصاحبُ الملائكة.. مرشد الجن والإنس.. أنموذج كمال الكائنات بشخصيته المعنوية المشيرة إلى أنه نصبَ عين فاطر الكون.. ذوالشريعة التي هي أنموذج دساتير السعادات، المرمزَة بأنها نظام ناظم الكون سيدنا ومهدينا إلى الإيمان: محمّد بن عبد الله بن عبدالمطلب عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات.. فإنه يشهد عن الغيب في عالم الشهادة على رؤوس الأشهاد بشيرا ونذيرا ومناديا لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار بأعلى صوته، وبجميع قوته وكمال جديته، وغاية وثوقه ونهاية اطمئنانه وكمال إيمانه بأنه:

لا إلهَ إلّا الله الذي دلَّ على وجوب وجوده، وصرّح بأوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:

الفرقانُ الحكيم المتضمن لسرِّ إجماع كلِّ كتبِ الأنبياءِ المختلفةِ الأعصارِ، وكلِّ كتب الأولياء المختلفة المشارب، وكلّ كتب الموحدين المبرهنين المختلفةِ المسالكِ. فقد أجمع الكلُّ -أي العقول والقلوب في هؤلاء- على تصديق حُكم القرآنِ الكريم المنوَّرِ جهاتُه الستُّ: كلام الله، المحافظ لياقتَه لهذا الاسم على مر الدهور.. محض الوحي بإجماع مهبط الوحي وأهل الكشف والإلهام.. عين الهداية بالبداهة.. معدن الإيمان بالضرورة.. مَجمَع الحقائق باليقين.. موصلٌ إلى السعادة بالعيان.. ذوالثمرات الكاملين بالمشاهدة.. مقبول الملك والإنس والجان بالحدس الصادق المتولدِ من تفاريق الأمارات.. المؤيَّد بالدلائل العقلية باتفاق العقلاء الكاملين.. المصدَّق بشهادة الفطرة السليمة عن الأمراض باطمئنان الوجدان.. المعجزة الأبدية بالمشاهدة.. لسان الغيب يشهد في عالم الشهادة شهادات مكررة جازمة بـ ﴿فَاعْلَمْ اَنَّهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ (محمد:19) الذي دَلَّ على وجوب وجوده ودَلَّ على أوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:

العالمُ، أي هذا الكتاب الكبير بجميع أبوابه وفصوله وصُحفه وسطوره وجُمله وحروفه، وهذا الإنسان الكبير بجميع أعضائه وجوارحه وحجيراته وذراته وأوصافه وأحواله. أي هذه الكائنات بجميع أنواع العوالم تقول: لا إله إلّا الله.. وبأركان تلك العوالم: لَا خالِق إلّا هو.. وبأعضاء تلك الأركان: لا صانع إلّا هو.. وبأجزاء تلك الأعضاء، لا مدبّر إلّا هو.. وبجزئيات تلك الأجزاء: لا مُربّيَ إلّا هو.. وبحجيرات تلك الجزئيات: لا متصرف إلّا هو.. وبذرات تلك الحجيرات: لا خالِقَ إلّا هو.. وبأثير تلك الذرات: لا إله إلّا هو.. فتشهد الكائنات على أنه هوالواجب الوجود الواحد الأحد بجميع أنواعها وأركانها وأعضائها وأجزائها وجزئياتها وحجيراتها وذراتها وأثيرها، إفرادا وتركيبا، متصاعدا بتركيبات منتظمة، رافعاتٍ أعلامَ الشهادة على وجوب وجود الصانع الأزلي.. ومتنازلا بنقوش غريبة، شاهدات على وجوب وجود النَّقَّاش الأزلي.. والكائناتُ كلُّ واحد من مركباتها وأجزائها تشهد بخمس وخمسين لسانا بأنه واجب الوجود الواحد الأحد..

سيجيء تفصيل تلك الألسنة.

أما إجمالها فهي: تنادي بألسنة إفرادها وتركيباتها المنتظمة.. وفقرها وحاجاتها المَقْضِيَّة.. وأحوالها المنتظمة.. وصورها المكمَّلة العجيبة اللائقة.. ونقوشها المزينة الغريبة الفائقة.. وحِكَمها العالية.. وفوائدها الغالية.. وبتخالفاتها الخارقة المتلاحظة.. وتماثلاتها المنتظمة المتناظرة.. وبألسنة نظامها وموازنتها جزءا وكلا.. وبانتظامها واطرادها.. وبإتقان الصنعة الشعورية وكمالها في كل شيء.. وبتجاوب المتخالفات الجامدات بعضٍ لحاجة بعض.. وتساند المتباعدات المتفاوتات.. وبلسان الحكمة العامة.. والعناية التامة.. والرحمة الواسعة.. والرزق العام.. والحياة المنتشرة.. وبلسان الحُسن والتحسين.. والجمال المنعكس الحزين.. والعشق الصادق.. والانجذاب والجذبة.. وظليّة الأكوان.. وبلسان التصرف لمصالح.. والتبديل لفوائد.. والتحويل لحِكَم.. والتغيير لغايات.. والتنظيم لكمالات.. وبألسنة إمكانها وحدوثها.. واحتياجاتها وافتقاراتها.. وفقرها.. وضعفها.. وموتها..وجهلها.. وفنائها.. وتغيرها.. وعباداتها.. وتسبيحاتها.. ودعواتها.. والتجاآتها..

فالكائنات -مركباتها وأجزاؤها- بكل هذه الألسنة شاهدات على وجوب وجود خالقها القديم القدير.. ودالّات على أوصاف كماله -كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز- شاهدات على وحدانيته تعالى.. وذاكرات تاليات لأسمائه الحسنى..ومسبّحات بحمده تعالى..ومفسّرات لآيات القرآن الحكيم.. ومصدقات لإخبارات سيد المرسلين..ومولّدات لحدس صادق منظّم إلى نور الإسلام، المنظم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بواجب الوجود الواحد الأحد. فإجماع الكائنات بكل ألسنتها تحت أمر الكلام القديم، ورياسة سيد الأنام والمرسلين، قائلاتٌ ناطقات: ﴿اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هوۚ اَلْحَيُّ الْقَيُّومُ (البقرة:255).

فاستمع تفصيل هذه الفقرات المذكورة:

 (1،2) إذ ما يتراءى ويتظاهر في الكائنات مجموعا وأجزاءً من نوع «التنظيمات» المتلاحظة والنظامات المتناظرة و«الموازنات» المتساندة، الدالة على وجوبِ وجودِ مَن هذه الكائناتُ في تصرفِ قبضَتَيْ «نظامه وميزانه»، والشاهدة بالتلاحظ والتناظر والتساند على أن المقنِّن والأستاذ والنَظّام واحد.. يفتحان مَنفذا نَظارا إلى المطلوب: أي وجوب الوجود والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (3،4) وإن ما في بيت الكائنات من «الانتظام والاطراد» الدالَّين على عدم تداخل الأيدي المتعددة، وأن الصنعة والنقش والمُلك لواحد.. يفتحان كوةً نظارةً بطرزٍ آخر أيضا، تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (5،6) وإن «إتقان الصنعة الشعورية، وكمالَها» في كل شيء بما تسعه لياقةُ قابليته المجعولة بقلم القَدَر من يد الفياض المطلق الدالَّين على اتحاد القلم، وأن كاتبَ صحيفةِ السماء بنجومها وشموسها هوكاتبُ صحيفةِ النحل والنمل بحُجيراتها وذراتها.. يفتحان مشكاة نظّارةً بطور آخر أيضا، تشهد الكائنات فيها بلسان كل مصنوع مناديةً: الله لا إله إلّا هو..

 (7،8) وإن «تجاوب الأشياء المتخالفة» الجامدة في الطرق الطويلة المعوجة، بعضٍ لحاجة بعض؛ كمادة غذاء الحجيرات والثمرات «وتساندَ الأشياء المتباعدة المتفاوتة» كالسيارات التي هي ثمرات الشمس، الدالَّ ذلك التجاوبُ والتساند على أن الكل خُدّامُ سيدٍ واحد، وتحت أمرِ مدبّرٍ واحدٍ، ومرجعُهم مربٍّ واحدٌ.. يفتحان منفذا نظارا أيضا بمرتبة أخرى، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (9،10) وإن «تشابُهَ الآثار» المنتظمة المتناظرة، كنجوم السماوات، «وتناسُبَ الآثار المتلاحظة» كأزاهير الأرضين، الدالَّين على أن الكلَّ مالُ مالكٍ واحد، وتحت تصرّفِ متصرف واحد، ومصدرُهم قدرةُ واحدٍ.. يفتحان منفذا نظارا أيضا، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (11) وإن «مظهرية كل حي لتجليات أسماء كثيرة شعورية» مختلفة الآثار والجمال، المتساندة في التأثير، والمتشابهة المتشاركة حتى في حجيرةٍ واحدة، والمتعاكسة كلٌّ في كلٍّ، والمتمازجة كالألوان السبعة في ضياء الشمس الدالة هذه الأحوال مع وحدة أثرها، على أن مسمّاها واحد، تدل بالضرورة على أن خالقَ الحيّ هوبارئُه، ومصوّره، والمنعم عليه، ورزاقه، وأن رزاقه هوخالقُ منابع الرزق، وخالقها هوالحاكم على الكل.. فتفتح هذه الحقيقة منفذا نظارا أيضا إلى مرتبة الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بلسان كل حي: الله لا إله إلّا هو..

 (13،12) وإن «ارتباط» أمثال عين النحل والنمل ومعدتهما بالشمس ومنظومتها، مع «المناسبة» في الجزالة الكيفية والتلاحظ والتناظر، الدال ذلك الارتباطُ والمناسبة على أنهما: كلاهما نَقْشَا نقاشٍ واحد.. فيفتحان منفذا نظارا أيضا، تشهد الكائنات فيه مناديةً: الله لا إله إلّا هو..

 (14) وإن «أخوّة الجاذبةِ» المكتوبة المنسوجة المنقوشة بين الذرات والجواهر الفردة «للجاذبة العمومية» المكتوبة المنسوجة الممددة بين النجوم والشموس، الدالة على أنهما: كلاهما كتابةُ قلمٍ واحدٍ ومدادِه ونَسْجَا نسّاجٍ واحدٍ وأسدائه، وشعاعا شمس واحدٍ وفيضِه.. تفتح مرصادا نظارا أيضا إلى الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان الدقيق والعُلوي: الله لا إله إلّا هو..

 (15) وإن «نِسَب كلّ ذرةٍ في المركبات» المتداخلة المنتظمة الموظفة تلك الذرةُ كالنفر في كل نسبة له وظيفة لفائدة، كذرة العين في مركبات الأعصاب المحركة والحساسة والأوردة والشرايين والباصرة. فتدل بالضرورة على أن خالق عين العين والعين، وعين العالم -أي الشمس- وواضعَها موضعَها اللائق هوخالق كل المركبات.. فتفتح هذه الحقيقة أيضا مشكاةً نظارةً، تشهد الكائنات فيها بلسان كل ذرة من ذراتها: الله لا إله إلّا هو.

 (16) وإن «وُسعَة تصرف القدرة في النوع الواحد» الذي لا يصدر إلّا عن الواحد بالبداهة، مع شمول بعض الأنواع أكثر الكائنات -كالحيات والملَك والسمك- يُتحدس منه بأن خالق الفرد هوخالقُ النوع؛ مثلا: إن القلم الذي رَسَم تشخُّص وجهِ «زيد» لابد بالضرورة أن يكون كلُّ أفراد البشر منظورا له دفعةً، لمخالفة تعيّنه لكلِّ فرد، وإلّا لوقَع التوافق بالتصادف، وخالقُ النوع بهذا السرّ هوخالق الأجناس.. فتفتح هذه الحقيقة أيضا منفذا نظارا، تشهد الكائنات فيه: الله لا إله إلّا هو..

 (17) وإن «ما يُتوهم -بقصور النظر- من الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة» المنجرَّة إلى الاستنكار في إسناد كل شيء إلى الواجب الوجود الواحد الأحد.. فتلك الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة والمعالجات تنقلب حقيقيةً عند عدم الإسناد إلى صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، بل تتضاعف تلك الأمور عند إسناد الآثار إلى جانب الإمكان والكثرة والأسباب وأنفسِها، عددَ أجزاء الكائنات.. فما يُتوهم في إسناد الكل إلى الواجب يتحقق في إسناد جزء واحد إلى غيره تعالى. بل الأولُ أسهلُ وأيسر؛ إذ صدور الكثير عن الواحد أقلُّ كلفةً من صدور الواحد عن الكثير المتشاكسين العُمي الذين اجتماعهم يُزيدهم عَمىً؛ إذ النحلة لولم تخرج من يد قدرة الواجب، لزم اشتراك ما في الأرض والسماوات في وجودها! بل تترقى الكلفة والمعالجة في الجزء الواحد من الذرة بالنسبة إلى الوجوب إلى أمثال الجبال، ومن الشعرة إلى أمثال الحبال، لوأُحيل على الأسباب.. إذ الواحد بالفعل الواحد يحصّل وضعيةً ومصلحة للكثير لا يصل إلى عين تلك الوضعية والنتيجة الكثيرُ إلّا بفعل كثير؛ كالأمير بالنسبة إلى نَفَراته، والفوّارة إلى قطراتها، والمركز إلى نقاط دائرته. فبفعل واحدٍ تصل هذه الثلاثة إلى تحصيل وضعيةٍ للكثير، ونتيجةٍ لا تصلُ النفرات والقطرات والنقاط لوأحيلت عليها إلّا بأفعال كثيرة وتكلُّفات عظيمة. بل الاستغراب والاستبعاد الموهومان في طرف الوجوب، ينقلبان هنا إلى محالات متسلسلة.

من بعض المحالات: فرض صفات الواجب في كل ذرة بضرورة اقتضاء النقش الكامل والصنعة المتقنة.. وكذا، توهُّمُ شركاءَ غيرِ متناهية في الوجوب الذي لا يقبل الشركة أصلا.. وكذا، فرض كل ذرة حاكما على الكل ومحكوما لكلٍ من المجموع، وللكلِ معا، بضرورة اقتضاء النِظام والانتظام.. وكذا، فرض شعورٍ محيط، وعلمٍ تام في كل ذرةٍ، بضرورة اقتضاءِ التساند والموازنة.

فإسناد الأشياء إلى الأسباب في جانب الإمكان والكثرة يستلزم التزامَ هذه المحالات المتسلسلة، والممتنِعات العقلية، والأباطيل التي تمجّها الأوهام.. وأما إذا أُسند إلى صاحبها الحقيقي، وهوصاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لا يلزم إلّا أن تكون الذرة ومركباتها -كقطرات المطر المتشمِّسة المتلمعة بتماثيل الشمس- مظاهرَ للمعاتِ تجليات القدرة النورانية الأزلية الغير المتناهية المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين، فلمعتُها المالكة لخاصيتها أجلُّ من شمس الأسباب تأثيرا بسبب التجزؤ والانقسام في جانب الإمكان والكثرة دون الوجوب والوحدة. فالتّماس مع تلك القدرة في أقلَّ من ذرة أكبر تأثيرا من أمثال الجبال في جانب الكثرة، بسبب أن جزء النوراني مالكٌ لخاصية الكل، كأن الكلّ كلي، والجزءَ جزئيٌ ولوكان النور ممكنا، فكيف بنور الأنوار المتنور من جانب الوجوب؟.. وكذا لا كلفة ولا معالجة بالنسبة إلى تلك القدرة؛ إذ هي ذاتية للذات محالٌ تداخلُ ضدِّها فيها، فتتساوى بالنسبة إلى لمعتها الذراتُ والشموس والجزء والكل والفرد والنوع، بسر الشفافية والمقابلة والموازنة والتجرد والإطاعة والانتظام بل بالحدس والمشاهدة، إذ تلك القدرة تفعل بأمثال الخيوط الدقيقة الجامدة أمثالَ العناقيد، تلك الخوارق الحيوية.. لوأُحيلت على الأسباب؛ لاحتيج لتصنيع عنقود واحد -لوأمكن- إلى ملايين قنطارٍ من تلك الكلفة والمعالجات! وكذا إن تلك القدرة تتجلى بجلوات الوجود المنعكس من ظل الوجوب في سَمِّ الخياط، على صفحات الشفافات بالتماثيل البرزخية.. لوأحيلت على الأسباب لامتنعت أواحتيجت إلى ما لا يحد من المعالجات.

اعلم أن الحياةَ والوجود والنور -لشفافية وجهَي المُلكِ والملكوتِ فيها- ما استترت القدرةُ عند إيجادها تحت الوسائط الكثيفة. فيترقق السببُ الظاهري فيها بحيث يتراءى تحتَه تصرفُ القدرة. فمن أمعن النظر في أطوار الحياة والأنوار، يشاهِد تصرفاتِ القدرة تحت الأسباب؛ إذ تلك القدرة لا تَصرِفُ لتصنيع عنقودِ العنب إلّا غصنا دقيقا جامدا، ولترسيم شُميسة في زجيجة إلاّ إمرارَ النور في سَمِّ الخياط، ولتنوير البيت إلّا توسيطَ شَعرةٍ في زجاجة.

وكذا إن الأرواحَ والعقول في اضطرابات مزعجة ناشئة من أمراض وضلالات ناشئة من الاستنكارات الناشئة من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في إسناد الأشياء إلى أنفسها وأسبابها الإمكانية. فتُجبر الاضطراباتُ الأرواحَ للخلاص والتشفي إلى الفرار إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل إيضاحُ كل مُشكل، وإرادتُه مفتاح كل مغلق، وبذكره تطمئن القلوب. فلا ملجأ ولا منجى ولا مناص ولا مخلص، إلّا الالتجاء والفرار إلى الله والتفويض إليه. كما قال الله تعالى: ﴿فَفِرُّٓوا اِلَى اللّٰهِ﴾ (الذاريات:50) ﴿اَلَا بِذِكْرِ اللّٰهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28) فتفتح هذه الحقيقة أيضا مشكاةً نظارة إلى الحدس الصادق، المنظّم إلى نور الإسلام، المنظّم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بواجب الوجود الواحد الأحد، فتشهد الكائنات بلسان كل جزء من أجزائها: الله لا إله إلّا هو..

لاسيَّما

الرسالة الثالثة

لاسيَّما

[المقام الثاني العربي من الكلمة الثامنة والعشرين]

[وأساس «الكلمة العاشرة»]


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي شهدتْ على وجوب وجوده ووحدته ذراتُ الكائنات ومركباتُها بلسان عجْزها وفقرها. والصلاة والسلام على نبيّه الذي هوكشاف طلسمِ الكائنات ومفتاحُ آياتها، وعلى آله وصحبه وعلى إخوانه من النبيين والمرسَلين وعلى الملائكة المقربين، وعلى عباد الله الصالحين من أهل السماوات والأرضين.

اعلم يا من سَدَّت عليه الطبيعةُ والأسباب بابَ الشكر، وفتحتْ له باب الشرك! إنَّ الشرك والكفر والكُفرانَ تأسست على محالاتٍ غير محدودة، فانظر من تلك المحالات إلى هذا المحال الواحد:

وهوأن الكافر إذا ترك سُكْر الجهالة ونظر إلى كفره بعين العلم، يَضطر -للإذعان بكفره- أن يحمل على ظهر ذرةٍ واحدةٍ ألفَ قنطار، وأن يقبل في كل ذرةٍ ذرّةٍ ملايينَ مطبعاتٍ للطبيعة، واطلاعا -مع مهارة- على جميع دقائقِ الصنعة في جميع المصنوعات؛ إذ كلُّ ذرة من الهواء -مثلا- تصلُح أن تمرّ على كل نباتٍ وزهرة وشجرة وثمرة، وأن تعمل في بنيتها، فلابد لهذه الذرة والقوة البسيطة المستترة فيها -إن لم تكن مأمورةً، تعمل باسم مَن بيده ملكوت كل شيء- أن تعرف كيفيةَ جهازاتِ كلِ ما دخلت الذرةُ في بنيتها وكيفيةَ صنعته وتشكيله، مع أن الثمرة -مثلا- متضمنةٌ لمثال مصغر للشجر، وأن نواتها كصحيفةِ أعمال الشجر، وفيها تاريخُ حياتِه. فالثمرة تنظر إلى كل الشجرة بل إلى نوعها بل إلى الأرض أيضا. ومن هذه الحيثية فالثمرة -بعظمة صنعتها ومعناها- في جسامة صنعة الأرض بوجه، فمَن بناها بهذه العظمة المعنوية الصنعوية، لابد أن لا يعجزَ عن حمل الأرض وبنائها.

فيا عجبا للكافر المنكِر كيف يدّعي العقل والذكاوة مع أنه يتبطن -بكفره- في قلبه مثلَ هذا الحمق والبلاهة!

واعلم أن لكل شيء صورتين:

أما إحداهما: فمادية محسوسة كقميصة قُدّتْ على مقدار قامة الشيء بتقدير القَدَر بغاية الانتظام.

وأما الأُخرى: فمعقولة مركبة من أشتاتِ صُوَر الشيء في حركته في بحر الزمان، أومرور نهر الزمان عليه، كصورة الدائرة النورانية المخيَّلة الحاصلة من جولان الشعلة، فهذه الصورة المعنوية للشيء هي تاريخ حياة الشيء، وهي مدارُ القَدَر المشهور، وهي المسماة بـ«مُقدَّرات الأشياء». فكما أن الشيء -كالشجرة مثلا- في الصورة المادية، له نهايات منتظمة مثمرة، وله غايات موزونة متضمنة لمصالح حِكَمية، كذلك له في صورته المعنوية أيضا نهايات منتظمة متضمنة لمصالح، وله حدود معينة تعينت لحِكَم خفية. فكأن القُدرة في الصورة الأولى كالباني، والقَدَر كالهندسة، وفي الثانية كالمصدر، والقَدَر كالمِسطَر. فتَكتب القدرةُ كتابَ المعاني على رسوم مِسطَر القدر.

فيا أيها الكافر! تضطر في كفرانك وكفرك -عند المراجعة إلى العلم والحقيقة- أن تقبل في كل ذرةٍ وقوّتِها الجزئية الصغيرة معرفةَ صنعةِ خياطةٍ بدرجةٍ تقتدر تلك الذرةُ -وطبيعة السببية- على أن تقُدّ وتخيط ألبسةً وأقمصة مختلفة متنوعة بعدد أشتات الأشياء التي يمكن أن تذهب إليها الذرة، مع اقتدارها على تجديد الصور المتخرقة بأشواك الحادثات في مرور الزمان، مع أن الإنسان -الذي هوثمرةُ شجرة الخلقة وأقدر الأسباب -بزعمه- وأوسعُها اختيارا- لوجَمع كلَّ قابليةِ صنعةِ خياطته ثم أراد أن يخيط قميصا لشجرة ذاتِ أشواك على مقدار أعضائها، ما اقتدر. مع أن صانعَها الحكيم يُلبسها في وقتِ نَمائها أقمصةً متجددة منتظمة طرية لا تشففها الشمس، وحُللا خَضِرة متزينة موزونة، بكمال السهولة والسرعة بلا كُلفة ولا معالجة. فسبحان مَن: ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿82 فَسُبْحَانَ الَّذي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس:82-83).

اعلم أن للأحد الصمد على كل شيء سِكّةً وخاتما وآيةً، بل آياتٍ تشهد بأنه له وملكُه وصُنعه. فإن شئت فانظر -مما لا يحد ولا يعد من سكاتِ أحديتِه وخواتمِ صمديتِه- إلى هذه السكة المضروبة على صحيفة الأرض في فصل الربيع بمرصاد هذه الفقرات الآتية المتسلسلة المتعانقة المتداخلة، لترى السكةَ كالشمس في رابعة النهار.

 وهي: أنا نشاهد في صحيفة الأرض إيجادا بديعا حكيما: في جُودٍ واسع عظيم في سخاوة مطلقة في إتقان مطلق، في سهولةٍ مطلقة في انتظام مطلق، في سرعة مطلقة في اتزان مطلق، في وُسعة مطلقة في حُسنِ صُنعٍ مطلق، في رخيصيةٍ مطلقة وقيمتُه في غلومطلق، في خِلطة مطلقة في امتياز مطلق، في بُعدةٍ مطلقة في اتفاق مطلق، في كثرة مطلقة في أحسن خلقة.

على أن كلا من هذه الفقرات بانفرادها تكفي لإظهار السكة؛

إذ نهاية السخاوة نوعا مع غاية الإتقان وحسنِ الصنعة في فردٍ فردٍ، تختص بمَن لا يُشغلهُ شيء عن شيء، وله قدرة بلا نهاية.

وكذا إن نهاية السهولة مع غاية الانتظام، تختص بِمَن لا يُعجزه شيء، وله علم بلا نهاية.

وكذا إن نهاية السرعة مع غاية الاتزان والموزونية، تختص بمن استسلم كلُّ شيء لقدرته وأمره.

وكذا إن نهاية وُسْعة التصرف -بانتشار النوع- مع غاية حسنِ صنعِ كل فردٍ فرد، تختص بمن ليس عند شيء، وهوعند كل شيء بقدرته وعلمه.

وكذا إن نهاية الرخيصية والمبذولية مع غاية غلوقيمة الفرد باعتبار الصنعة، تختص بمَن له غَناء بلا غاية وخزائن بلا نهاية.

وكذا إن نهاية الاختلاط والاشتباك -في أفراد الأنواع المختلفة- مع غاية الامتياز والتشخيص بلا مَرْج ومزج وبلا خلط وغلط، تختص بمن هوبصير بكل شيء، وشهيد على كل شيء لا يمنعه فعل عن فعل، ولا يختلط عليه سؤال بسؤال.

وكذا إنّ الفعالية؛ مع نهاية التباعد بين الأفراد المنتشرة في أقطار الأرض، مع غاية التوافق في الصورة والتشكيل والإيجاد والوجود، حتى كأن أفراد كل نوعٍ نوعٍ منتظرٌ أمرا يخصّها من مدبرٍ واحد، تختص بمن الأرضُ جميعا في قبضةِ تصرّفه وعلمه وحُكمه وحِكمته.

وكذا إن نهاية الكثرة في أفراد النوع مع غاية مُكَمَّليةِ خِلقةِ فردٍ فردٍ وحُسنِ إيجادِ جزءٍ جزءٍ، تختص بالقدير المطلق الذي تتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والنجوم والقليل والكثير.

على أن في كل فقرة آيةً أخرى على صنع القدير المطلق وهي التضاد بين السخاوة والإتقان الاقتصادي، وبين السرعة والموزونية، وبين الرخيصية وغلوالقيمة، وبين الاختلاط الأطم والامتياز الأتم… وهكذا.

فإذا كان كل فقرة بانفرادها كافيةً لإظهار خاتم الأحدية، فكيف إذا اجتمعت متداخلة متآخذة في فعالية واحدة؟! ومن هذا ترى سرَّ ﴿وَلَئِنْ سَاَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّٰهُ (الزمر:38) أي إنَّ المنكِر المتعنّد إذا سُئل منه -بتنبيه عقله- يضطر لأن يقول: «الله»..

اعلم أن بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي والإيمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازما قطعيا، وارتباطا تاما؛ للتلازم في نفس الأمر بين وجوب الألوهية وثبوت الرسالة، ووجودِ الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة.

إذ كما لا يمكن وجود كتاب -لاسيما إذا تضمن كلُّ كلمة منه كتابا وكل حرف قصيدةً منتظمة- بلا كاتب.. كذلك لا يمكن شهود كتاب الكائنات -بدون سُكر- بلا إيمان بوجوب وجودِ نقّاشه الأزلي.

وكما لا يمكن وجود بيت -لاسيما إذا اشتمل على خوارق الصنعة وعجائب النقوش وغرائب التزيينات حتى في كل حجر منه- بلا بانٍ وصانع، بلا منشئ وصاحب.. كذلك لا يمكن التصديق بوجود هذا العالم -بدون سُكر الضلالة- بلا تصديق بوجود صانعه.

وكما لا يمكن شهود تلمعات الحَبابات في وجه البحر، وتلألؤِ القطرات المائية وتشعشع الزُجيجات الثلجية في وسط النهار مع إنكار وجود الشمس، إذ يلزم حينئذ قبول وجود شُميسات بالأصالة بعدد الحبابات والقطرات والزجيجات الثلجية.. كذلك لا يمكن -لمن له عقل لم يفسد- شهودُ هذه الكائنات -المتحولة دائما في انتظام، المتجددة في انسجام- بلا تصديقٍ بوجوبِ وجودِ خالقها وبانيها، الذي أسس ذلك البيت المحتشم، والشجر المعظم، بأصول مشيئته وحكمته، وفصّله بدساتير قضائه وقَدَره، ونظّمه بقوانين عادته وسنته، وزيّنه بنواميس عنايته ورحمته، ونوّره بجلوات أسمائه وصفاته..

نعم، وبعدم قبول الخالق الواحد يُضطر إلى قبول آلهات غير متناهية بعدد ذرات الكائنات ومركباتها، بحيث يَقتدر إلهُ كلِّ واحدٍ على خلق الكل؛ بسرِّ أن كل جزئيٍ ذي حياة كأنموذج للكل؛ فخالقهُ لابد أن يقتدر على خلق الكل!

ثم إنه كما لا يمكن وجود الشمس بلا نشر ضياء.. كذلك لا يمكن الألوهية بلا تظاهر بإرسال الرسل..

ولا يمكن جمال في نهاية الكمال بلا تبارز وبلا تعرُّف بواسطة رسول معرِّف..

ولا يمكن كمال صنعةٍ في غاية الجمال بلا تشهير بواسطة دلّال ينادي عليه..

ولا يمكن سلطنة ربوبية عامة، بلا عبودية كلية، بإعلان وحدانيته وصمديته في طبقات الكثرة بواسطة مبعوثٍ ذي الجناحين..

ولا يمكن حُسنٌ لانهاية له، بلا طلب ذي الحسن، ومحبته لمشاهدة محاسن جماله ولطائف حسنه في مرآة، وبلا إرادته لإشهاد أنظار المستحسنين عليه وإراءته لهم بواسطة عبد حبيب يتحبب إليه، ورسول يحببه إلى الناس. أي هوبعبوديته مرآةٌ لشهود ذي الجمال جمالَ ربوبيته، وبرسالته مدارُ إشهاده..

ولا يمكن وجود كنوز مشحونةٍ بعجائب المعجزات وغرائبِ المرصعات، بلا إرادة صاحبِها ومحبته لعَرْضها على الأنظار وإظهارِها على رؤوس الأشهاد، لتبيِّن كمالاتِه المستورة بواسطة معرِّفٍ صرّاف ومُشهِّر وصّاف.

فإذ هذا هكذا، فهل ظهر في العالم أجمعُ لهذه الأوصاف من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ كلا، بل هوأجمعُ وأكملُ وأرفعُ وأفضلُ. فهوسلطان الرسل المظهرين المبلّغين المعرّفين المُشهّرين الدلّالين العابدين المعلنين المرشدين الشاهدين المشهدين المشهودين المحبوبين المحبين المحببين الهادين المهديين المهتدين، عليه وعليهم وعلى آلهم أفضل الصلوات وأجمل التسليمات، مادامت الأرض والسماوات.

* * *

ثم انظر إلى قوة حقانية الحشر والآخرة، وهي أنه:

كما لا يمكن سلطان بلا مكافأة للمطيعين وبلا مجازاة للعاصين:

لاسيما: إذا كان له كرمٌ عظيم يقتضي الإحسان، وعزةٌ عظيمة تقتضي الغيرة..

ولاسيما: إذا كان له رحمة واسعة تقتضي فضلا يليق بوسعة رحمته، وله جلالُ حيثيةٍ تقتضي تربيةَ مَن يستخف به، ولا يوقّره..

ولاسيما: إذا كان له حكمة عالية، تقتضي حمايةَ شأنِ سلطنته بتلطيف الملتجئين إلى جناحه، وله عدالة محضة تقتضي محافظةَ حشمةِ مالكيته بمحافظة حقوق رعيته..

ولاسيما: إذا كان له خزائن مشحونة مع سخاوة مطلقة، تقتضي وجود دارِ ضيافةٍ دائمة، وتقتضي دوامَ وجودِ محتاجين بأنواع الحاجات فيها. وكذا له كمالاتٌ مستورة تقتضي التشهير على رؤوس المشاهِدين المقدِّرين المستحسِنين. وكذا له محاسنُ جمال معنوي بلا مثل، وله لطائفُ حُسن مَخفيّ بلا نظير، تقتضي الشهودَ لحُسنه بنفسه في مرآة، والإشهادَ لغيره، والإراءةَ بوجود مستحسِنين متنـزِّهين ومشتاقين متحيرين بل دوامِ وجودهم؛ إذ الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل!

ولاسيما: إذا كان له شفقة رحيمة في إغاثة الملهوف وإجابة الداعي، بدرجةٍ يُراعي أدنى حاجةٍ مِن أدنى رعية، تقتضي تلك الشفقة اقتضاءً قطعيا يقينا أن تُسعِفَ أعظمَ الحاجة من مقبول السلطان، وبالخاصة إذا كانت الحاجة عامة مع أنها يسيرة سهلة عليه، ومع اشتراك العموم في تضرع مقبول السلطان.

ولاسيما: إذا شوهد مِن إجراآته آثارُ سلطنته في نهاية الاحتشام، مع أن ما يُرى من رعيته إنما اجتمعوا في منـزلٍ مُعَدٍّ للمسافرين، يُملأ ويُفرغ في كل يومٍ، وحضروا في ميدانِ امتحانٍ يتبدل في كل وقت، وتوقفوا قليلا في مَشهَر قد أُعدّ لإراءة أنموذجِ غرائبِ صنعةِ المَلِك، ونموناتِ إحساناته؛ وهذا المشهر يتحول في كل زمان. فهذه الحالة تقتضي بالضرورة أن يوجَد خلفَ هذا المنـزل والميدان والمشهر وبعدَها قصورٌ دائمة، ومساكن مستمرة، وخزائن مفتحة الأبواب، مشحونة بجيّداتِ أصول الأنموذجات المغشوشات.

ولاسيما: إذا كان الملك في نهاية الدقة في وظيفة الحاكمية، بحيث يكتب ويستكتب أدنى حاجة وأهونَ عمل وأقل خدمة، ويأمر بأخذ صورةِ كلِّ ما يجري في ملكه، ويستحفظ كل فعل وعمل. فهذه الحفيظية تقتضي المحاسبة، وبالخاصة في أعظم الأعمال من أعاظم الرعية.

ولاسيما: إذا كان الملك قد وعد وأوعد مكررا، بما إيجادُهُ عليه هيّن يسير، ووجودُهُ للرعية في نهاية الأهمية، وخُلفُ الوعدِ في غاية الضدية لعزّة اقتداره.

ولاسيما: إذا أخبر كلُّ مَن ذهب إلى حضور ذلك الملك، أنه أعدّ للمطيعين والعاصين دار مكافأة ومجازاة، وأنه يَعِد وَعدا قويا ويُوعِد وعيدا شديدا، وهوأجلّ وأعز من أن يذِل ويتنـزل بخُلف الوعد، مع أن المخبِرين متواترون، قد أجمعوا على أن مدار سلطنته العظيمة إنما هوفي تلك المملكة البعيدة عنا. وما هذه المنازل في ميدان الامتحان إلّا مؤقتة، سيبدّلها –البتة- بقصور دائمة؛ إذ لا يقوم مثل هذه السلطنة المستقرة المحتشمة على هذه الأمور الزائلة الواهية المتبدلة السيالة.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك المَلِكُ في كل وقت في هذا الميدان المؤقت، كثيرا من أمثال ذلك الميدان الأكبر ونموناته. فيُعلَم من هذه الكيفية، أن ما يُشاهَد من هذه الاجتماعات والافتراقات ليست مقصودة لذاتها، بل إنما هي تمثيل وتقليد لتؤخذ صورُها، وتُركَّب وتُحفظ نتائجها، وتُكتب لتدوم، وتدور المعاملة في المجمع الأكبر والمشاهدة في ذلك المحضر عليها، فتثمر الفانيةُ صورا ثابتة وأثمارا باقية.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك الملك في تلك المنازل الزائلة والميادين الهائلة والمشاهر الراحلة آثارَ حكمة باهرة، وعناية ظاهرة، وعدالة عالية، ومرحمة واسعة، بدرجةٍ يَعرِف باليقين مَن له بصيرة أنه لا يمكن أن يوجَد أكملُ من حكمته، وأجملُ من عنايته، وأشملُ من مرحمته، وأجلُّ من عدالته. فلولم يكن في دائرة مملكته أماكنُ دائمة عالية ومساكنُ قائمة غالية، وسواكنُ مقيمة خالدة لتكون مظاهرَ لحقيقة تلك الحكمة والعناية والمرحمة والعدالة، لَلَزم حينئذ إنكار هذه الحكمة المشهودة، وإنكار هذه العناية المبصَرة، وإنكار هذه المرحمة المنظورة، وإنكار هذه العدالة المرئية؛ وللزم قبول كون صاحب هذه الأفاعيل الحكيمة الكريمة سفيها لعّابا وظالما غدارا. فيلزم انقلاب الحقائق بأضدادها، وهومحال باتفاق جميع أهل العقل غير السوفسطائي الذي ينكر وجود الأشياء حتى وجودَ نفسه.

وهكذا مما لا يعد ولا يحصى من دلائلَ، أنه سينقل رعيته من هذه المنازل المؤقتة إلى مقر سلطنته الدائمة، ومما لا يحد ولا يستقصى من أماراتٍ، تبديلُه هذه المملكةَ السيارة بتلك المملكة المستمرة.

كذلك لا يمكن -بوجه من الوجوه قطعا وأصلا- أن يوجِد هذا العالَمَ ولا يوجِد ذلك العالَمَ، وأن يبدع الفاطر هذه الكائناتِ ولا يُبدعَ تلك الكائنات، وأن يخلق الصانعُ هذه الدنيا ولا يخلقَ تلك الآخرة؛ إذ شأن سلطنة الربوبية يقتضي المكافأة والمجازاة.

ولاسيما: يُعلَم بالآثار أن لصاحب هذه الدار كرما عظيما، ومثلُ هذا الكرم يقتضي كمال الإحسان وحسنَ المكافأة. وأن له عزة عظيمة تقتضي كمالَ الغيرة وشدة المجازاة؛ مع أن هذه الدار لا تفي بعُشر مِعشار عَشير ما يقتضيه ذلك الكرم وتلك العزة..

ولاسيما: أن لصاحب هذا العالم رحمةً وسعت كلَّ شيء، ومن لطائف تلك الرحمة شفقةُ الوالدات مطلقا، حتى النباتاتِ على أولادها، وسهولةُ أرزاق أطفال الحيوانات وضعفائها، وهذه الرحمة تقتضي فضلا وإحسانا يليقان بها. انظر أين مقتضى هذا الرحمة، ثم أين هذه التنعمات الزائلة المنغّصة في هذه الدنيا الفانية -في هذا العمر القصير- التي لا تفي بقطرة من بحر تلك الرحمة؟ بل الزوال بلا إعادة يصيّر النعمةَ نقمةً، والشفقةَ مصيبةً، والمحبة حرقة، والعقل عقابا، واللذة ألما، فتنقلب حقيقةُ الرحمة. فتلزم المكابرة بإنكار الرحمة المشهودة، كإنكار الشمس مع شهود امتلاء النهار من ضيائها. وكذا يُعلم من تصرفات صاحب هذا العالم أن له جلالَ حيثيةٍ وعزةٍ، يقتضيان تأديب من لا يوقّره وقهرَ من يستخف به، كما فعل بالقرون السالفة في هذه الدنيا، ما يدل على أنه لا يهمل وإن أمهل. وكذا يُفهم من إجراآته أن له غيرةً عظيمة على استخفاف أوامره ونواهيه.

نعم، ومن شأن من يتعرف إلى الناس بأمثال هذه المصنوعات المنظومات، ويتودد إليهم بأمثال هذه الأزاهير الموزونات، ويترحّم عليهم بأمثال هذه الثمرات المزينات، ثم لا يعرفونه بالإيمان، ولا يتحببون إليه بالعبادة، ولا يحترمونه بالشكر إلّا قليل.. أن يُعِدّ لهم في مقر ربوبيته الأبدية دارَ مجازاة ومكافأة.

ولاسيما: أن لمتصرِّف هذا العالم حكمةً عامةً عالية، بشـهاداتِ رعاية المصالح والفوائد في كل شيء، وبدلالات الانتظامات والاهتمامات وحسن الصنعة في جميع المخلوقات. فهذه الحكمة الحاكمة في سلطنة الربوبية، تقتضي تلطيف المطيعين الملتجئين إلى جناحها.

وكذا يشاهد أن له عدالة محضة حقيقية بشهادات وضعه كل شيء في الموضع اللائق، وإعطاء كل ذي حق حقه الذي يستعد له؛ وإسعاف كل ذي حاجة حاجته التي يطلبها -لوجوده أوحفظ بقائه- وإجابة كل ذي سؤال سؤاله. وبالخاصة: إذا سُئِل بلسان الاستعداد أوبلسان الاحتياج الفطري أوبلسان الاضطرار.. فهذه العدالة تقتضي محافظة حشمة مالكيته وربوبيته، بمحافظة حقوق عباده في محكمةٍ كبرى؛ مع أن هذه الدار الفانية أقل وأحقر وأضيق وأصغر من أن تكون مَظهرا لحقيقةِ تلك العدالة؛ فلابد حينئذ لهذا الملِك العادل والرب الحكيم ذي الجمال الجليل والجلال الجميل من جنة باقية وجهنم دائمة.

رشحات

 الرسالة الثانية

رشحات من بحر معرفة النبي صلى الله عليه وسلم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تنبيه

إنَّ ما يُعرّف لنا ربَّنا لا يعد ولا يحد، ولكن البراهين الكبيرة والحجج الكلية ثلاثة:

إحداها: هذه الكائنات، وقد سمعتَ بعض آيات هذا الكتاب الكبير.

وثانيتها: الآية الكبرى من هذا الكتاب، وهي خاتم ديوان النبوة، ومفتاح الكنوز الخفية عليه الصلاة والسلام.

وثالثتها: مفسر كتاب العالم، وحجة الله على الأنام، أي القرآن الحكيم.

فلابد أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق ثم نستمع إليه.. فنذكر من بحر معرفته رشحات:

الرشحة الأولى

اعلم أن ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة.

فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟

قيل لك: هوالذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجدَه، ومكةُ محرابَه، والمدينةُ منبرَه.. وهوإمامُ جميع المؤمنين يأتمّون به صافّين خلْفَهُ.. وخطيبُ جميع البشر يُبين لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيسُ جميع الأنبياء، يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيدُ جميع الأولياء، يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرةِ حلقةِ ذكرٍ تركّبَتْ من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء بأساساتهم السماوية، وأغصانُها الخضرة الطرية وثمراتُها اللطيفة النيرة، هي الأولياء بمعارفهم الإلهامية. فما من دعوىً يدّعيها إلّا ويشهد لها جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوى من دعاويه خواتمَ جميع الكاملين؛ إذ بينما تراه قال: «لا إله إلّا الله» وادعى التوحيدَ، فإذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفَّين النورانيين (أي شموسِ البشر ونجومِه القاعدين في دائرة الذكر) عينَ تلك الكلمة؛ فيكررونها، ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالإجماع: «صَدَقْتَ وبالحَق نَطقتَ».

ولا حدّ للوَهم أن يَمُدّ يدَه لردّ دعوىً تأيدتْ بشهاداتِ مَن لا يُحدّ من الشاهدِين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.

الرشحة الثانية

اعلم أن هذا البرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشرَ إليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه: نبوةً وولايةً من الإجماع والتواتر.. وكذا تُصدّقه إشاراتُ الكتب السماوية من بشارات التوراة والإنجيل والزبور وزُبُر الأولين.. وكذلك تصدّقه رموزاتُ الإرهاصات الكثيرة المشهودة.. وكذا تصدّقه بشاراتُ الهواتف الشائعة المتعددة.. وكذا تصدّقه شهادات أهل الكهانة المنقولةُ بالتواتر.. وكذا تصدقه دلالات ألفِ معجزات من أمثال شق القمر، ونَبَعانِ الماء من الأصابع كالكوثر، ومجيءِ الشجر بدعوته، ونزولِ المطر في آن دعائه، وشِبَع الكثير من طعامه القليلِ، وتكلُّمِ الضب والذئب والظبي والجمل والحجر.. إلى ألفٍ مما بيّنَه الرواةُ الثقاة والمحدّثون المحققون.. وكذا تصدّقه شريعته الجامعةُ لسعادات الدارين.

وقد سمعتَ ورأيت في الدروس السابقة شعاعاتٍ من شمس شريعته المفيضة للسعادات. فيكفيك إنْ لم يكن على عينك غين وفي قلبك رَين، فلا نطوّل هنا.

الرشحة الثالثة

اعلم أنه كما تصدّقه الدلائلُ الآفاقية، كذلك هوكالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدّقه الدلائل الأنفسية؛ إذ اجتماع أعالي جميع الأخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضلَ جميع السجايا الغالية والخصائلِ النـزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سِيَره وكمال جدّيته وكمال متانته..وكذا قوةُ أمنيته في حركاته بشهادة قوة اطمئنانه، تصدّقه في دعوى تمَسُّكِه بالحق وسلوكه على الحقيقة، كما تصدّق الأوراقُ الخضرة والأزهار النضرة والأثمار الطرية حياةَ شجرتها.

الرشحة الرابعة

اعلم أنَّ للمحيط الزماني والمكاني تأثيرا عظيما في محاكمات العقول.. فإن شئت فتعال، نخلع هذه الخيالات الزمانية والعصرية والمحيطية، ونتجرّد من هذا اللباس الملوّث؛ ثم نخوض في بحر الزمان السيال، ونَسبَح فيه إلى أن نخرج إلى عصر السعادات التي هي الجزيرة الخضراء فيما بين العصور والدهور، فلننظر إلى جزيرة العرب التي هي المدينة الشهباء في تلك الجزيرة الزمانية، ولنلبس ما نسَجَ لنا ذلك الزمانُ، وخاطه لنا ذلك المحيط، حتى نزور -ولو بالخيال- قطبَ مركزِ دائرةِ الرسالة، وهو على رأس وظيفته يعمل.

فافتح عينيك وانظر! فإن أول ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارقٌ، له حسنُ صورةٍ فائقة، في حُسن سيرة رائقة؛ فها هو آخذ بيده كتابا مُعجزا كريما، وبلسانه خطابا موجزا حكيما يبلّغ خطبة أزلية ويتلوها على جميع بني آدم، بل على جميع الجن والإنس، بل على جميع الموجودات.

فيا للعجب! ما يقول؟ نعم، يقول عن أمرٍ جسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم؛ إذ يشرح ويحل المعمّى العجيبة في سرّ خِلقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سر حكمة الكائنات، ويوضح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقولَ وأوقعتها في الحيرة؛ إذ هي الأسئلة التي يَسأل عنها كلُّ موجود، وهي: مَن أنت؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟

الرشحة الخامسة

انظر إلى هذا الشخص النوراني، كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نَوّارا، ومن الحق نُورا مضيئا! حتى صيّر ليل البشر نهارا وشتاءَه ربيعا، فكأن الكائنات تَبدَّل شكلُها فصار العالم ضاحكا مسرورا بعدما كان عبوسا قمطريرا.

إذ إذا لم نستضئ بنوره نرى في الكائنات مأتما عموميا، ونرى موجوداتها كالأجانب والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضا، بل يعاديه، ونرى جامداتها جنائز دهّاشَة، ونرى حيواناتها وأناسيّها أيتاما باكين بضربات الزوال والفراق، ونرى الكائنات بحركاتها وتنوعاتها وتغيّراتها ونقوشها مَلعَبةَ التصادف مُنجرّةً إلى العبثية مهملةً لا معنى لها، ونرى الإنسان قد صار -بعَجزه المزعج وفقره المعجِز وعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل إلى رأس الإنسان- أدنى وأخسرَ من جميع الحيوانات. فهذه هي ماهية الكائنات عند مَن لم يدخل في دائرة نوره.

فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، إلى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكلُ العالم، فتحول بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر، ومجلسَ الجذبة والشكر.. وتحوَّل الأعداء الأجانب من الموجودات أحبابا وإخوانا.. وتحوَّل كلٌّ مِن جامداتها الميتة الصامتة حيا مؤنسا مأمورا مسخرا، ناطقا بلسان حاله آياتِ خالقه.. وتحوَّل ذووالحياة منها -الأيتامُ الباكون المشتكون- ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لترخيصاتهم عن وظائفهم.. وتحوَّلت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمُهمَليّة وملعبةِ التصادف إلى صيرورتها مكتوباتٍ ربانية وصحائفَ آيات تكوينية ومرايا أسماءٍ إلهية، حتى ترقّى العالمُ وصار كتابَ الحكمة الصمدانية.

وانظر إلى الإنسان كيف ترقّى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة إلى أوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه، وحشمة إيمان عقله. ثم انظر كيف صارت أسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني!

ثم انظر إلى الماضي، ذلك المزارِ الأكبر في ظلماته، كيف استضاء بشموس الأنبياء وبنجوم الأولياء! وإلى الاستقبال تلك الليلةِ الليلاء في ظلماته، كيف تنوّر بضياء القرآن وتكشّف عن بساتين الجنان!

فعلى هذا؛ لولم يوجَد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والإنسانُ وكلُّ شيء إلى درجة العدم، لا قيمة ولا أهمية لها، فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة مِن مِثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكنِ الكائناتُ، إذ لا معنى لها بالنسبة إلينا. فما أصدقَ ما قالَ مَنْ ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّۜ وَلَهُ الْمُلْكُ (الانعام:73) «لولاكَ لَولاكَ لَما خَلقتُ الأفلاكَ».

الرشحة السادسة

فإن قلت: مَن هذا الشخص الذي نراه قد صار شمسا للكون، كاشفا بدينه عن كمالات الكائنات، وما يقول؟

قيل لك: انظر واستمع ما يقول! ها هويخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعوالناس إليها. وهودلّالُ محاسنِ سلطنةِ الربوبية ونَظّارُها، وكشّافُ مخفيات كنوز الأسماء الإلهية ومعرِّفها.

فانظر إليه من جهة وظيفته؛ تَـرَه برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.

ثم انظر إليه من جهة شخصيته تَـرَه مثالَ المحبةِ الرحمانية، وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الإنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمراتِ شجرة الخلقة.

ثم انظر، كيف أحاط نورُ دينه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب قريبٌ من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته بحيث تفدي لها أرواحها.

فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بدون مغالطة في مدَّعَيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعَياته وهو«لا إله إلّا الله» بجميع مراتبه؟!

الرشحة السابعة

فإن شئت أنْ تَعرف أن ما يحرّكه إنما هوقوّة قدسية، فانظر إلى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام الوحشيةَ في هذه الصحراء العجيبة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامم، القاسيةَ قلوبُهم بدرجة يدفِن أحدُهم بنتَه حيةً بلا تأثّر! كيف رفع هذا الشخصُ جميع أخلاقهم السيئة والوحشية، وقلَعَها في زمان قليل! وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية، فصيّرهم معلِّمِي العالمِ الإنساني وأساتيذَ الأمم المتمدنة. فانظر، ليست سلطنته على الظاهر فقط، بقوة الخوف كسائر الملوك، بل ها هويفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الأرواح والنفوس حتى صار محبوبَ القلوب ومعلِّم العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.

الرشحة الثامنة

من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة كـ«التتون» مثلا، من طائفة صغيرة بالكلية قد يَعسُرُ على حاكم عظيم بهمّة عظيمة، مع أنّا نرى هذا الذات ها هوقد رفع بالكلية عاداتٍ عظيمة كثيرة، من أقوام عظيمة متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسياتهم، بقوة جزئية، وهمةٍ قليلة وفي زمان قصير، وغَرسَ بدلها برسوخ تام في سجيتهم عاداتٍ عاليةً، وخصائل غالية. فانظر إلى «عمر» رضي الله عنه قبل الاهتداء وبعده، تَرَه نواةً قد صار شجرةً باسقة. وهكذا يتراءى لنا من خوارق إجراآته الأساسيةِ ألوفُ ما رأينا، فمن لم يَرَ هذا العصر نُدخل في عينه هذه الجزيرة! فليجرّب نفسه فيها. فليأخذوا مائة من فلاسفتهم وليذهبوا إليها وليعملوا مائةَ سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا بالنسبة إلى هذا الزمان جزءا من مائة جزءٍ مما فعل سيدُنا في سنةٍ بالنسبة إلى ذلك الزمان؟!

الرشحة التاسعة

اعلم -إنْ كنت عارفا بسجية البشر- أنه لا يتيسر للعاقل أن يدّعيَ في دعوى فيها مناظرة كذبا يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حجاب وبلا مبالاة وبلا تأثر يشير إلى حيلته، وبلا تصنّع وتهيّج يُوميان إلى كذبه، في أنظار خصومه النقادة، ولوكان شخصا صغيرا، ولوفي وظيفة صغيرة، ولوبحيثية حقيرة، ولوفي جماعة صغيرة، ولوفي مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدَّعَيات مثل هذا الشخص الذي هوموظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لأَمنية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، وفي مقابلة خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوى عظيمة؟ وها هويقول ما يقول بلا مبالاة بمعترضٍ، وبلا تردّد وبلا حجاب وبلا تخوف وبلا تأثر، وبصفوةٍ صميمية، وبجدية خالصة، وبطرزٍ يحرِّك أعصاب خصومه بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزّتِهم، بأسلوب شديد عُلوي. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلَّا ﴿اِنْ هواِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى (النجم:4).

نعم، إن الحقَّ أغنى من أن يُدلِّس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلَّس عليه! نعم، إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرهُ النَقَّاد منـزّه من أن يلتبس عليه الخيال بالحقيقة.

الرشحة العاشرة

انظر واستمع ما يقول! ها هويبحث عن حقائقَ مدهشة عظيمة، ويُنذر البشر ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، لازمةٍ جالبة للعقول إلى الدقة فيبشّر البشر. ومن المعلوم أن شوقَ كشفِ حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل «المَرَق» إلى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لوقيل لك: إن أفديتَ نصفَ عمركَ أونصف مالك، لَنـزل من القمر أوالمشتري شخصٌ يخبرك بغرائب أحوالهما ويخبرك بحقيقة استقبالك، أظنك ترضى بالفداء؟ فيا للعجب! ترضى لدفع «مَرَقِك» بترك نصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هذا ويصدِّقه إجماعُ أهل الشهود وتواترُ أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين؛ فيبحث عن شؤون سلطانٍ: ليس القمرُ في مملكته إلّا كذبابٍ يطير حول فَراشٍ، يطير ذلك الفراشُ حول سِراجٍ من القناديل التي أسرجَها في منـزلٍ أعدّه لضيوفه المسافرين من ألوفِ منازله! وكذا يخبر عن عالمٍ هومحل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، فرضا لوانفلقت الأرضُ وتطايرت جـبـالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار عَشِير غرائبِ ذلك الانقلاب.

فإن شئت فاستمع من لسانه أمثالَ ﴿اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۙ﴾ و﴿اِذَا السَّمَٓاءُ انْفَطَرَتْ﴾ و﴿اِذَا زُلْزِلَتِ الْاَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ و﴿اَلْقَارِعَةُ﴾.. وكذا يخبر بتحقيقٍ عن استقبالٍ ليس الاستقبالُ الدنيوي بالنسبة إليه إلّا كقطرةِ سرابٍ بلا طائلٍ بالنسبة إلى بحر بلا ساحل.. وكذا يبشّر عن شهودٍ بسعادةٍ ليست السعادةُ الدنيوية بالنسبة إليها إلا كبرقٍ زائل بالنسبة إلى شمسٍ سرمدية.

نعم، تحت حجاب هذه الكائنات -ذاتِ العجائب- عجائبُ، تنتظرنا وتنظر إلينا. ولابد لإخبار تلك العجائب والخوارق [من] شخصٍ عجيب خارق يشاهِد ثم يشهَد، ويُبصِر ثم يُخبر.

نعم، نشاهد من شؤونه وأطواره أنه يشاهِد ثم يشهَد، فينذر ويبشّر. وكذا يخبر عن مرضيات رب العالمين ومَطالبه منّا وهكذا.. من عظائم مسائل لا مفرّ منها، وعجائبِ حقائقَ لا منجا منها، ولا سعادة بدونها.

فيا حسرةً على الغافلين! ويا خسارةً على الضالين! ويا عجبا من بلاهة أكثر الناس! كيف تَعامَوا عن الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة! لا يهتمون بمثل هذا الذات في عجائبه، مع أن من شأن مثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع إليه بترك الدنيا وما فيها.

الرشحة الحادية عشرة

اعلم أن هذا الشخص، المشهودَ لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية؛ كما أنه برهانٌ ناطقٌ صادقٌ على الوحدانية، ودليلٌ حقٌّ بدرجة حقانية التوحيد.. كذلك هوبرهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصولِ السعادة الأبدية ووسيلةُ وصولها.. كذلك هوبدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة ووسيلةُ إيجادها.

فإن شئت فانظر إليه وهوفي الصلاة الكبرى، التي بعظمة وُسعَتها صيّرت هذه الجزيرة -بل الأرضَ- مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر، إنه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجةٍ كأنه هوإمام في محرابِ عصره واصطفّ خلفَه مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم إلى هذا العصر إلى آخر الدنيا، في صفوف الأعصار مؤتَمّين به ومُؤَمِّنين على دعائه.. ثم استمع ما يَفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة؛ فها هويدعولحاجةٍ شديدةٍ عظيمةٍ عامةٍ بحيث يشترك معه في دعائه الأرضُ، بل السماء، بل كلُّ الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: «نعم يا ربَّنا تقبل دعاءه، فنحن أيضا نطلبه، بل مع جميع ما تجلى علينا من أسمائك، نطلب حصول ما يطلب هو..». ثم انظر إلى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرّع بافتقارٍ عظيمٍ في اشتياق شديد وبحزن عميق في محبوبية حزينة، بحيث يهيّج بكاءَ الكائنات فيُبكيها فيُشركُها في دعائه.. ثم انظر، لأيّ مقصدٍ وغاية يتضرع؛ ها هويدعولمقصدٍ لولا حصول ذاك المقصد لسقط الإنسان بل العالم بل كل المخلوقات إلى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقى الموجوداتُ إلى مقاماتِ كمالاتها.. ثم انظر، كيف يتضرع باستمدادٍ مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرشَ والسماوات، ويهيّج وجدَها، حتى كأنه يقول العرشُ والسماوات: «آمين اَللَّهُمَّ آمين».. ثم انظر، ممّن يطلب مسؤولَه؟ نعم، يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمع أخفى دعاءٍ من أخفى حيوانٍ في أخفى حاجة، إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياة في أدنى غاية؛ إذ يوصله إليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويُكرم ويَرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم؛ لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير مِن سميعٍ عليم ومن بصير حكيم.

الرشحة الثانية عشرة

فيا للعجب! ما يطلب هذا الذي قام على الأرض وجمَعَ خلفَه جميعَ الأنبياء، أفاضلِ بني آدم، ورَفَع يديه متوجها إلى العرش الأعظم، ويدعودعاءً يُؤمِّن عليه الثقلان، ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوعِ الإنسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن؛ ويَستشفع بجميع الأسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعووتطلب تلك الأسماءُ عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هويطلب البقاءَ واللقاء والجنة والرضاء. فلولم يوجَد ما لا يُعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات -المتوقفِ كونُها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة، وكذا جميع الأسماء القدسية، أسبابٌ مقتضية لها- لكفى دعاءُ هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُّهُ له ولأبناء جنسه الجنةَ، كما يُنشئ لنا في كل ربيع جِنانا مزينة بمعجزاتِ مصنوعاته.

فكما صارت رسالته سببا لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سببا لفتح دار الآخرة للمكافأة والمجازاة.

فهل يمكن أن يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجةٍ أنطق أمثال الغزالي بـ«ليس في الإمكان أبدع مما كان».. وأن تتغير هذه الحقائق بقبحٍ خشين، وبظلم مُوحش، وبتشوش عظيم؛ إذ سماعُ أدنى صوت في أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولُها بأهميةٍ تامة، مع عدم سماع أرفَع صوتٍ ودعاءٍ في أشد حاجة، وعدمُ قبولِ أحسنِ مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح، وقصورٌ لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلّا.. لا يَقبل مثلُ هذا الجمال المشهود بلا قصور مثلَ هذا القبح المحض، وإلّا لانقلبت الحقائقُ بانقلاب الحُسن الذاتي قبحا ذاتيا.

الرشحة الثالثة عشرة

يا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردتَ الإحاطة فلا يمكن، بل لوبقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما أحطنا ولا مَلِلْنا من النظر بجزءٍ واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب إجراآته.. فلنرجع قهقريا، ولننظر عصرا عصرا، كيف اخضرّت تلك العصور واستفادت من فيض هذا العصر؟

نعم، نرى كلَّ عصرٍ نمرُّ عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمَر كلُّ عصرٍ من أمثال أبي حنيفة، والشافعي، وأبي يزيد البسطامي، والجنيد البغدادي، والشيخ عبد القادر الكيلاني والإمام الغزالي، ومحيي الدين بن عربي، وأبي الحسن الشاذلي، والشاه النقشبند، والإمام الرّبّاني ونظائرهم ألوفَ ثمراتٍ منورات من فيض هداية ذلك الشخص النوراني.

فلنؤخر تفصيلات مشهوداتنا في رجوعنا إلى وقت آخر.

ونصلي ونسلم على هذا الذات النوراني، ذي المعجزات، أعني سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام:

اَللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى هٰذَا الذَّاتِ النُّورَانِىِّ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ
مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أعْنِي سَيِّدَنَا مُحَمَّدا
ألْفَ ألْفِ صَلَاةٍ وَألْفَ ألْفِ سَلَامٍ بِعَدَدِ حَسَنَاتِ أمَّتِهِ.

عَلٰى مَنْ بَشَّرَ بِرِسَالَتِهِ التَّوْرَاةُ وَاْلإنْجِيلُ وَالزَّبوُرُ وَبَشَّرَ بِنُبُوَّتِهِ اْلإِرْهَاصَاتُ وَهواتِفُ الْجِنِّ وَأوْلِيَاءُ اْلإنْسِ وَكَوَاهِنُ الْبَشَرِ، وَانْشَقَّ بِإشَارَتِهِ الْقَمَرُ..
سَيِّدِنَا وَمْوْلاٰنَا مُحَمَّدٍ ألْفُ ألْفِ صَلَاةٍ وَألْفُ ألْفِ سَلَامٍ بِعَدَدِ أنْفَاسِ أمَّتِهِ.

عَلٰى مَنْ جَاءَتْ لِدَعْوَتِهِ الشَّجَرُ، وَنَزَلَ سُرْعَةً بِدُعَائِهِ الْمَطَرُ، وَأظَلَّتْهُ الْغَمَامَةُ مِنَ الْحَرِّ، وَشَبِعَ مِنْ صَاعٍ مِنْ طَعَامِهِ مِئاٰتٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَالْكَوْثَرِ، وَسَبَّحَ فِي كَفَّيْهِ اْلحَصَاةُ وَالْمَدَرُ، وَأنْطَقَ الله لَهُ الضَّبَّ وَالظَّبْي وَالذِّئْبَ وَالْجِذْعَ وَالذِّرَاعَ وَالْجَمَلَ وَالْجَبَلَ وَالْحَجَرَ وَالشَّجَرَ صَاحِبِ الْمِعْرَاجِ وَمَا زَاغَ الْبَصَرُ… سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا وَشَفِيعِنَا مُحَمَّدٍ ألْفُ ألْفِ صَلَاةٍ وَألْفُ ألْفِ سَلَامٍ بِعَدَدِ كُلِّ الْحُرُوفِ الْمُتَشَكِّلَةِ فِي اْلكَلِمَاتِ الْمُتَمَثِّـلَةِ بِإذْنِ الرَّحْمٰنِ فِي مَرَايَا تَمَوُّجَاتِ الْهواءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ مِنْ أوَّلِ النُّزُولِ إلٰى آخِرِ الزَّماَنِ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا يَا إلٰهَنَا بِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا آمِينَ آمِينَ آمِينَ.

* * *

لمعات

الرسالة الأولى

لمعات من شمس التوحيد

 [النص العربي للكلمة «الثانية والعشرين»]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سبحانك يا من تُسبِّحُ بحمدك هذه الكائناتُ السيالة بتسبيحاتِ لِسان محمدٍ عليه الصلاة والسلام؛ إذ هوالذي تتموج أصديةُ تسبيحاته لك، على أمواج الأجيال، وأفواج الأعصار، بمَر الفصول والعصور والأدوار.

اَللَّهُمَّ فأبِّدْ على صفحات الكائنات وعلى أوراق الأوقات، أصديةَ تسبيحاته عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة والعرَصَات.

سبحانك يا مَن تُسبِّحُ بحمدك الأرضُ، ساجدةً تحت عرش عظمة قدرتك بلسان محمدِها عليه أفضلُ صلواتك وأجملُ تسليماتك؛ إذ هوالناطقُ والمترجِمُ لتسبيحات الأرض لك بألسنةِ أحوالها. وبرسالته استقرت الأرضُ في مستقرها في مدارها.

اَللَّهُمَّ فأنطِق الأرضَ بأقطارها إلى نهاية عمرها بتسبيحات لسانه عليه الصلاة والسلام.

سبحانك يا مَن يُسبِّحُ بحمدك جميعُ المؤمنين والمؤمنات، في جميع الأمكنة والأوقات، بلسان محمدِهِمْ عليه أكملُ الصلوات وأتم التسليمات؛ إذ هوالذي تتظاهر أنوارُ تسبيحاته لك من أفواه أهل الإيمان.

اَللَّهُمَّ فأنطق بني آدم إلى آخر عمر البشر بتسبيحات محمدِك لك، عليه صلاتك وسلامك كما يليق بحرمته وبرحمتك، وارحمنا وارحم أمته. آمين.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

في بيان جواهرَ من خزائن هذه الآيات:

﴿اَللّٰهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍۘ وَهوعَلٰى كُلِّ شَيْءٍ وَكيلٌ ﴿62﴾ لَهُ مَقَاليدُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ (الزمر:63-62).

﴿فَسُبْحَانَ الَّذي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس:83)

﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا عِنْدَنَا خَزَٓائِنُهُۘ ﴾ (الحجر:21)

﴿مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هواٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (هود:56).

يا أيها الغافل المنغمس في الأسباب! إنّ الأسبابَ حجابُ تصرّفِ القدرة؛ إذ العزةُ والعظمة تقتضيان الحجابَ، لكنَّ المتصرّف الفعّال هوالقدرة الصمدانية؛ إذ التوحيد والجلال هكذا يقتضيان. إذ سلطان الأزل له مأمورون، لكن ليسوا وسائطَ الإجراء حتى يكونوا شركاءَ سلطنةِ الربوبية، بل هم من الدلّالين الذين يُعلنون إجراآت الربوبية، ومن النُظَّار الذين يشاهِدون ويَشهَدون، ويكتسبون -في الانقياد للأوامر التكوينية- عباداتٍ تُناسبُ استعداداتهم. فهذه الوسائط لإظهار عزةِ القدرة وحشمة الربوبية.

وأمّا السلطان الإنساني، فلعجزه واحتياجه يحتاج إلى وسائط ومأمورين يشتركون في سلطنته. فلا مناسبة بين المأمور الإلهي والإنساني.

نعم، إن نظر أكثر الغافلين لا يدرك حُسنَ الحادثات ولا يعرف حِكمَتَها، فيشتكي بلا حقٍ، ويعترض جهلا. فُوضِعَتِ الأسباب لتتوجه الشكاوى إليها. وإذا وُفِّقَ أحدٌ لدَرْك الحكمة والحقّ ارتَفعَت الأسباب عن نظره.

وقد قيل بتمثيل معنوي: إنّ عزرائيل عليه السلام اشتكى إليه تعالى: بأن عبادك يشتكون منّي في قبض الأرواح، فأُلقي إليه: إنّي أضع بينك وبينهم، وسائط المصيبات حتى يتوجّه شكواهم إليها لا إليكَ.

الحاصل: إنّ العزةَ والعظمة تقتضيان وضعَ الأسباب الظاهرية لردّ الشكايات الباطلة، ولئلا يرى العقلُ الظاهريُ مباشرةَ يد القدرة بالأمور الخسيسة الجزئية. ولكن التوحيد والجلال يَردّان أيدي الأسباب عن التأثير الحقيقي.

تنبيه

إنّ التوحيد توحيدان:

الأول: توحيد عامي يقول: «لا شريك له، ليس هذه الكائنات لغيره» فيمكن تداخل الغفلات بل الضلالات في أفكار صاحبه.

والثاني: توحيد حقيقي يقول: «هوالله وحدَه، له الملك، وله الكون، له كل شيء» فيرى سِكّته على كل شيء ويقرأ خاتمه على كل شيء، فيثبته له إثباتا حضوريا. لا يمكن تداخل الضلالة والأوهام في هذا التوحيد.

فنحن نُسمِعُكَ لمعاتٍ من هذا التوحيد التي استفدناها من القرآن الحكيم:

اللمعة الأولى

إنَّ للصانع جل جلاله على كل مصنوع من مصنوعاته سكّةً خاصةً بمن هوخالق كل شيء.. وعلى كل مخلوق من مخلوقاته خاتمٌ خاص بمن هوصانع كل شيء.. وعلى كل منشور من مكتوبات قدرته طغراءُ غَرّاءُ لا تُقلَّد، خاص بسلطان الأزل والأبد.

مثلا: انظر مما لا يُعدّ من سكاته، إلى هذه السكة التي وضعها على «الحياة». انظر إلى الحياة كيف يصير فيها شيءٌ كلَّ شيءٍ. وكذا يصير كلُّ شيءٍ شيئا.

نعم، يصير الماءُ المشروب -بإذن الله- ما لا يُعد من أعضاءٍ وجهازاتٍ حيوانية، فصار شيءٌ بأمر الله كلَّ شيء. وكذا يصيرُ جميعُ الأطعمة المختلفة الأجناس -بإذن الله- جسما خاصا وجلدا مخصوصا وجهازا بسيطا، فيصير كلُّ شيءٍ شيئا لأمر الله. فمَن كان له عقل وشعور قلب يفهم: أنّ جعْلَ شيءٍ كلَّ شيء وجعلَ كلَّ شيء شيئا سكةٌ خاصة بصانع كلِّ شيء وخالقِ كلّ شيء جلّ جلاله.

اللمعة الثانية

انظر إلى خاتمٍ واحد من الخواتم الغير المعدودة الموضوعة على «ذوي الحياة» وهو:

أنَّ الحيّ بجامعيته كأنه مثال مصغّر للكائنات، وثَمرٌ مُزْهر لشجرة العالم، ونَواةٌ منوّرةٌ لمجموع الكون، أدرج الفاطر فيه أنموذجَ أكثرِ أنواع العالم، فكأنَّ الحيَّ قطرةٌ محلوبة من مجموع الكون بنظامات حكيمة معينة، وكأنهُ نقطة جامعة مأخوذة من المجموع بموازينَ حساسة علمية، فلا يمكن أن يَخلق أدنى ذي حياةٍ إلّا مَن يأخذ في قبضةِ تصرُّفِه مجموعَ الكائنات. فمَن كان له عقل لم يفسد، يفهم: أن مَن جعل النحل -مثلا- نوعَ فهرستةٍ لأكثر الأشياء، ومن كتب في ماهية الإنسان أكثرَ مسائل كتاب الكائنات، ومَن أدرج في نواة التينة هندسةَ شجرةِ التين، ومَن جعل قلب البشر أنموذجا ومرصادا لآلاف عوالم، ومَن كتب في حافظة البشر مفصَّلَ تاريخ حياته وما يتعلق به.. ليس إلّا خالقَ كل شيء، وأن هذا التصرف خاتمٌ مخصوص برب العالمين.

اللمعة الثالثة

انظر إلى نقش طغرائه المضروب على «الإحياء، وإعطاء الحياة»..

نذكر مما لا يُعد واحدا وهوأنه: كما أن للشمس على كل شفاف -أوكشفاف- من السيارات، إلى القطرات، إلى الذرات الزجاجية، والزجيجات الثلجية سكةً مثالية من جلواتها، وطغراءَ غرّاء خاصة بها.. كذلك إنّ للشمس الأحدية السرمدية على كل ذي حياة -من جهة الإحياء وإفاضة الحياة-، طرةً وسكةً من تجلي الأحدية تظهر بخصوصية، لواجتمع الأسباب -بفرض الاقتدار والاختيار لها- على أن يقلدوا ويأتوا بمثلها لم يفعلوا ﴿وَلَوكَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهيرًا﴾ (الإسراء:88).

فكما أنه لولم تُسنِد تماثيلَ الشمس المتلألئة في القطرات، إلى تَجلي الشمس، يلزم عليك أن تقبل شُمَيْسة حقيقيةً وبالأصالة في كلّ قطرة قابلَتْها الشمسُ وفي كل زجاجة أضاءتها الشمسُ، بل في كل ذرةٍ شفّافةٍ تشمّسَتْ. وما هذا الفرض إلّا بلاهة من أعجب البلاهات.

كذلك إنك لولم تُسنِد كلَّ حي وحياة وإحياء بواسطة تجلي الأحدية الجامعة، وبواسطة كون الحياة نقطةً مركزية لتجلي الأسماء -التي هي أشعةُ شمس الأزل والأبد- لَزِمَ عليك أن تَقبَل في كل ذي حياة -ولوذبابةٍ أوزهرة- قدرةً فاطرةً بلا نهاية وعلما محيطا وإرادةً مطلقة، وكذا صفاتٍ لا يمكن وجودها إلّا في الواجب الوجود. حتى تضطر أن تعطي لكل ذرةٍ الُوهيةً مطلقة، إنْ أسنَدتَ الشيء إلى نفسه، أوتَقبَلَ لكل سبب من الأسباب الغير المحدودة ألوهية مطلقة إن أسندت الشيء إلى الأسباب، وتَقْبَلَ شركاء غير متناهية في الألوهية التي شأنها الاستقلالية التي لا تَقبَلُ الشركة أصلا.

إذ إنَّ كل ذرة -لاسيما إذا كانت من البذرة والنواة- لها وضعية منتظمة عجيبة، ولها مناسبة مع أجزاء الحي الذي هي جزء منه، بل لها مناسبات مع نوعه، بل مع الموجودات، ولها وظائف في نِسَبِها كالنَّـفَر في الدوائر العسكرية. فلوقطعتَ نسبةَ الذرة عن القدير المطلق، لزِمكَ أن تقبل في الذرة عينا ترى كل شيء وشعورا يحيط بكل شيء.

الحاصل: كما أنه لولم تُسنِد الشُّمَيسَاتِ المشهودةَ في القطرات إلى جلوة الشمس في ضيائها، لزمك قبول شموس غير محصورة في أشياء صغيرة تضيق عن نُجيمة الذُّبَيْبَة التي تطير في الليل… كذلك لولم تُسنِد كلَّ شيء إلى القدير المطلق الذي تتساوى بالنسبة إلى قدرته الذراتُ والشموس، والجزء والكل، والجزئي والكلي، والصغير والكبير. لزمك قبول آلِهاتٍ غير متناهية وسقطتَ في بلاهةٍ مِن أشنع البلاهات.

اللمعة الرابعة

فكما أن الكتاب لوكان مكتوبا يكفي له قلمٌ واحدٌ لواحدٍ، ولوكان مطبوعا يلزم لطبعه أقلام بعدد حروفه -على شكل حروفه- واشتراكُ كثيرين لتصنيع تلك الأقلام، أي الحروف الحديدية. ولوكتب بخط دقيق أكثر الكتاب في بعض الكلمات -كما قد تُكتب سورة «يس» في كلمة «يس»- فحينئذ لابد لطبع تلك الكلمة الواحدة أقلامٌ حديدية بعدد حروف أكثر الكتاب.

كذلك هذه الكائنات إذا قلتَ إنها مكتوبة بقلم الواحد الأحد، سلكتَ طريقا سهلا معقولا في نهاية السهولة بدرجة الوجوب، وإذا أسنَدتَها إلى الطبيعة وإلى الأسباب، سلكتَ طريقا في نهاية الصعوبة بدرجة الامتناع وفي نهاية عدم المعقولية بدرجة المُحالية؛ لأنه يلزم على الطبيعة إن تُحضِر لطبع كل حيٍ كلَّ ما يلزم لأكثر الكائنات. فهذه من الخرافات التي تمجّها الأوهام. بل لابد أن تُوجِد في كل جزء من التراب والماء والهواء؛ إمّا ملايينَ مطبعاتٍ معنوية وماكينات مستترةٍ فيه حتى بعدد الأزهار والأثمار، لِيُمكن تَشكُّلُ هاتيك الأزاهير والثمرات المتخالفةِ الجهازاتِ والماهيات.. وإمّا فَرضُ وجودِ قدرةٍ قادرةٍ على تصنيع جميع النباتات، ووجودِ علمٍ بلا نهاية محيطٍ بتفاصيل جميع خواص جميع الأشجار والمتزهرات وجهازاتها وموازينها، في كل جزء من التراب والماء والهواء؛ إذ كل جزء من هذه الثلاثة يَصلُح أنْ يصير مَنشأً لتَشكُّّل كل النباتات أوأكثرها.

فافرضْ قصعةَ تراب، ثم افرض دخولَ كل بذر ونواة فيها على التعاقب، ثم أفرغ القصعة واملأها من صُبْرَةِ التراب حتى تكيل كل التراب، ترى النتيجة واحدة. على أن المشهود يكفيك؛ إذ تُشاهِد في سيرك في الأرض مَنشَئِيَّةَ أكثرِ أجزاء التراب لأكثر النباتات، مع أن تشكُّل كل واحدٍ واحدٍ من النباتات المزهرة والمثمرة مخالفٌ لكل واحدٍ واحدٍ منها؛ وكلُّ واحد منها له من الانتظام والاتزان والامتياز طرز خاص وخصوصية تستلزم جهازاتٍ مخصوصةً، وماكينة خاصة، ومطبعة تخصه، بل تستلزم وجودَ كل جهازاتِ تشكيلِ تمامِ الشجرة والنبات في كل واحد من نواته وبذره، مع بساطة البذور والنواتات وتشابهها. فيلزم على الطبيعة أن تُحضر -معنىً- جهازاتٍ تُشكِّل كل الأشياء وماكيناتها المعنوية وأسبابها في كل شيء شيءٍ. فهذه سفسطة يتنفّر منها السوفسطائي أيضا، وخرافةٌ يخجل منها من يُضحِكُ الناس بنقل الخرافات.

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المؤلف للمجموعة العربية لفظا والمثنوي حكما

ترجمة: الملا عبد المجيد النُّورْسِيّ

«تتضمن خمس نقاط»

النقطة الأولى

كان «سعيد القديم» -قبل حوالي خمسين سنة- لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكا ومدخلا للوصول إلى حقيقة الحقائق، داخلا في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة. وكان لا يَقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدَها -كأكثر أهل الطريقة- بل جَهَد كلَّ الجهد أوّلا لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثَتها إيّاه مداومةُ النظر في كتب الفلاسفة.

ثم أراد -بعد أن تخلّص من هذه الأسقام- أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى أن لكلٍّ من أولئك العظماء خاصيّةً جاذبة خاصة به، فحار في ترجيح بعضهم على بعض. فخطر على قلب ذلك «السعيد القديم» الممخض بالجروح ما في مكتوبات «الإمام الرباني»(*) من أمره له غيبا: «وحِّد القبلة» أي إن الأستاذ الحقيقي إنما هوالقرآن ليس إلّا، وإن توحيد القبلة إنما يكون بأستاذِيَّة القرآن فقط. فشرع بإرشادٍ مِن ذلك الأستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسُه الأمارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية.

وخلال سلوكه ذلك المسلكَ ومعاناته في دفع الشكوك، قَطَع المقاماتِ، وطالَع ما فيها، لا كما يفعله أهلُ الاستغراق مع غض الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، مع فتح أبصار القلب والروح والعقل، فسار فيها (أي في المقامات) ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها، منفتحةً من غير غضٍ ولا غمض.

فحمدا لله على أن وُفِّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده، حتى بيّن برسائل النور التي ألّفها «سعيد الجديد» حقيقةَ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

النقطة الثانية

لقد كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوكَ في تلك المقامات، ساعيا بالقلب تحت نَظَارة العقل، وبالعقل في حماية القلب، كالإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي. فبادر إلى ضماد جراحات قلبه وروحه، وخلّص نفسَه من الوساوس والأوهام. وبخَلاصِه منها انقلب «سعيدٌ القديم» إلى «سعيد الجديد»، فألّف بالعربية ما هوبحكم المثنوي الشريف -الذي هوأصلا بالفارسية- رسائلَ عدة في أوجز العبارات. وكلما سنحت له الفرصة أقدمَ على طبعها، وهي: «قطرة، حباب، حبة، زهرة، ذرة، شمة، شعلة، ودروس أخرى» مع رسالتين بالتركية وهما: لمعات ونقطة. وبيّن ذلك المسلك في غضون نصف قرن من الزمان في رسائل النور التي لم تقتصر على جهاد النفس والشيطان، بل أصبحت شبيهة بمجموعةٍ كليةٍ واسعة من «المثنوي» تنقذ الحيارى المحتاجين وتنتشُل المنساقين إلى الضلالة من أهل الفلسفة.

النقطة الثالثة

إن المناظرة الجارية بين ذينك السعيدين -سعيد القديم والجديد- كانت دافعة للشيطان، قاهرةً للنفس، حتى غدت رسائل النور طبيبة حاذقة لذوي الجراحات من طلاب الحقيقة، وأصبحت مُلزِمةً ومُسكتةً لأهل الإلحاد والضلالة.

فتبيَّن أن هذا «المثنوي العربي» كان نواة لرسائل النور، وغرسا لها، يُخلِّص الناس من شبهات الشياطين من الإنس والجن.. ولا يخفى أن تلك المعلومات في حكم المشهودات، وأن يقين العلم كعين اليقين، يورث القناعة ويوجب الاطمئنان التام.

النقطة الرابعة

لما كان أكثر اشتغال «سعيد القديم» بعلمَي الحكمة والحقيقة، ويناظر عظماء العلماء ويناقشهم في أدق المسائل وأعمقها، ويراعي درجةَ أفهامِ طلابه القدامى المطلعين على العلوم الشرعية العالية، فضلا عن أنه يشير إلى ترقياته الفكرية وفيوضاته القلبية، بأدق العبارات وأقصر الجمل التي لا يفهمها إلّا هو؛ لذا قد لا يُدرِك قسما منها -بعد جهد جهيد- إلّا الراسخون في العلم.

فلوكانت تلك الخواطر القلبية مبيّنة بعبارات سهلةٍ مفصَّلةٍ وموضحةً بإيضاح يقرّبها إلى الأفهام لكان ذلك «المثنوي العربي» مَعينا تاما لرسائل النور ومعاونا لها في وظيفتها.

فتبيّن أن «المثنوي العربي» -وهومشتل رسائل النور وغراسها- قد سعى كالطرق الخفية إلى المعرفة الإلهية، في تطهير الأنفس والداخل من الإنسان، فوفّق إلى فتح الطريق من الروح والقلب.

بينما رسائل النور -التي هي بستانه اليانع- قد فتحت طريقا واسعا إلى معرفة الله، بتوجهها إلى الآفاق الكونية -كالطرق الجهرية- فضلا عن جهادها في الأنفس، حتى وكأنها عصا موسى عليه السلام أينما ضربتْ فجّرت الماءَ الزلال.

وكلاهما يوصل إلى معرفة الله.. كما قيل:

عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشير

وكذا فإن رسائل النور ليس مسلكها مسلك العلماء والحكماء، بل هومسلكٌ مقتَبسٌ من الإعجاز المعنوي للقرآن يُخرج زلالَ معرفةِ الله من كل شيء، فيستفيد السالك في رسائل النور في لحظةٍ ما لا يستفيده سالكوسائر المسالك في سَنة.

وذلك سرٌّ من أسرار القرآن يعطيه الله من يشاء من العباد ويدفع به هجومَ أهل العناد.

النقطة الخامسة

إنك ترى في ثاني «المثنوي» أعني تلك المجموعة العربية، من المسائل والحقائق الدقيقة التي من شأنها أن يكون كلٌّ منها موضوعا لرسالة.. قد ذُكرتْ ضمن ألفاظٍ ضيقة لا تَسعها، وفي سطور معدودة لا تستوعبها.. وأُفرِدت تلك المسائل بذكرِ: «اعلم.. اعلم» في أوائلها. فلا تظنن أن المسائل -التي كل منها موضوعٌ لرسالة ومشيرٌ إلى حقائقَ متخالفةٍ بعضُها عن بعض- كلها من فن واحد، أوعائد إلى مقام واحد، أوكاشف عن جواهرِ صَدفٍ واحد، قائلا في نفسك: «إنَّ ذِكر «اعلم» وتكرارَه في رؤوس هذه المسائل مما لا فائدة له ولا طائل تحته»؛ لأن كلا منها عنوان وفهرس لرسائل وحقائق، وتكراره إنما هوللإشارة إلى ما بين تلك المسائل من المغايرة.

فعلى القراء الكرام أن يضعوا هذه النقاط المذكورة آنفا نصب أعينهم كيلا يبادروا إلى الاعتراض.([1])

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

الدعاء وبعض الصور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النورسي  


 

صفحة من مخطوط (الملا عبد المجيد النورسي) وقد انسكب عليها الحبر وسجل تاريخ أسر المؤلف في الحرب.

 

صورة صفحة الغلاف للطبعة اللأولى من كتاب (إشارات الإعجاز) المحفوظ في قسم اسماعيل حقي تحت رقم 206 بمكتبة السليمانية بإستانبول والمطبوع سنة 1908م.

 

 

 

قالوا عن القرآن

قالوا عن القرآن

الأستاذ الدكتور عماد الدين خليل([1])

ليل أحمد ([2])

1) «يرتبط هذا النبي ﷺ بإعجاز أبد الدهر بما يخبرنا به المسيح عليه السلام في قوله عنه: «ويخبركم بأمور آتية»، هذا الإعجاز هو القرآن الكريم معجزة الرسول الباقية ما بقي الزمان. فالقرآن الكريم يسبق العلم الحديث في كل مناحيه: من طب، وفلك، وجغرافيا، وجيولوجيا، وقانون، واجتماع، وتاريخ.. ففي أيامنا هذه استطاع العلم أن يرى ما سبق اليه القرآن بالبيان والتعريف…»

2) «أعتقد يقيناً أني لو كنت إنساناً وجودياً… لا يؤمن برسالة من الرسالات السماوية وجاءني نفر من الناس وحدثني بما سبق به القرآن العلم الحديث -في كل مناحيه- لآمنت برب العزة والجبروت، خالق السماوات والأرض ولن أشرك به أحداً…»

3) «في هذا الظلام الدامس -أيها المسيحي- ينـزل القرآن الكريم على رسول الله ليكشف لك عن الله عز وجل…»

4) «للمسلم أن يعتزّ بقرآنه؛ فهو كالماء، فيه حياة لكل من نهل منه»

آرنولد ([3])

«..[إننا] نجد حتى من بين المسيحيين مثل الفار Alvar [الإسباني] الذي عُرف بتعصبه على الإسلام، يقرر أن القرآن قد صيغ في مثل هذا الأسلوب البليغ الجميل، حتى إن المسيحيين لم يسعهم إلا قراءته والإعجاب به..»

إيرفنج ([4])

1) «كانت التوراة في يوم ما هي مرشد الإنسان وأساس سلوكه. حتى إذا ظهر المسيح عليه السلام اتبع المسيحيون تعاليم الإنجيل، ثم حلّ القرآن مكانهما، فقد كان القرآن أكثر شمولاً وتفصيلاً من الكتابين السابقين، كما صحح القرآن ما قد أدخل على هذين الكتابين من تغيير وتبديل. حوى القرآن كل شئ، وحوى جميع القوانين، إذ إنه خاتم الكتب السماوية..»

2) «يدعو القرآن إلى الرحمة والصفاء وإلى مذاهب أخلاقية سامية»

بروز ([5])

1) «إنه ليس هناك شيء، لا ديني في تزايد سيطرة الإنسان على القوى الطبيعية، هناك آية في القرآن يمكن أن يستنتج منها أنه لعل من أهداف خلق المجموعة الشمسية لفت نظر الإنسان لكي يدرس علم الفلك ويستخدمه في حياته: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَٓاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس:5). وكثيراً ما يشير القرآن إلى إخضاع الطبيعة للإنسان باعتباره إحدى الآيات التي تبعث على الشكر والإيمان: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْاَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴿12﴾ لِتَسْتَوُ۫ا عَلٰى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ اِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذي سَخَّرَ لَنَا هٰذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنينَ﴾ (الزخرف:12-13). ويذكر القرآن -لا تسخير الحيوان واستخدامه فحسب- ولكن يذكر السفن أيضاً.. فإذا كان الجمل والسفينة من نعم الله العظيمة، أفلا يصدق هذا أكثر على سكة الحديد والسيارة والطائرة؟»

2) «.. إن أعظم نتائج العلم يمكن أن تستخدم في أغراض هدمية أو بنائية. وربما كان هذا هو المقصود بما ورد في القرآن خاصاً باستخدام الحديد: ﴿وَاَنْزَلْنَا الْحَديدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (الحديد:25). وأظهرُ مثالٍ من هذا الآن بالضرورة هو استخدام النشاط الذري – الذي نشطت بحوثه- لضرورة حربية..»

بلاشير([6])

1) «.. إن الفضل بعد الله يعود إلى الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه لإسهامه قبل سنة 655هـ في إبعاد المخاطر الناشئة عن وجود نسخ عديدة من القرآن، واليه وحده يدين المسلمون بفضل تثبيت نص كتابهم المنزل، على مدى الأجيال القادمة».

2) «لا جرم في أنه إذا كان ثمة شئ تعجز الترجمة عن أدائه فإنما هو الإعجاز البياني واللفظي والجرس الإيقاعي في الآيات المنزلة في ذلك العهد.. إن خصوم محمد عليه الصلاة والسلام قد أخطأوا عندما لم يشاؤوا أن يروا في هذا إلّا أغاني سحرية وتعويذية، وبالرغم من أننا على علم -أستقرائياً فقط- بتنبؤات الكهان، فمن الجائز لنا الاعتقاد مع ذلك بخطل هذا الحكم وتهافته، فإن للآيات التي أعاد الرسول عليه الصلاة والسلام ذكرها في هذه السور اندفاعاً وألَقاً وجلالةً تخلِّف وراءها بعيداً أقوالَ فصحاءِ البشر كما يمكن استحضارها من خلال النصوص الموضوعة التي وصلتنا».3) «.. إن القرآن ليس معجزة بمحتواه وتعليمه فقط، إنه أيضاً -ويمكنه أن يكون قبل أي شيء آخر- تحفة أدبية رائعة تسمو على جميع ما أقرّته الإنسانية وبجّلته من التحف.. إن الخليفة المقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المعارض الفظ في البداية للدين الجديد، قد غدا من أشد المتحمسين لنصرة الدين عقب سماعه لمقطع من القرآن. وسنورد الحديث فيما بعدُ عن مقدار الافتتان الشفهي بالنص القرآني بعد أن رتّله المؤمنون»

4) «.. الإعجاز هو المعجزة المصدقة لدعوة محمد ﷺ الذي لم يرتفع في أحاديثه الدنيوية إلى مستوى الجلال القرآني..»

5) «.. في جميع المجالات التي أطللنا عليها من علم قواعد اللغة والمعجمية وعلم البيان، أثارت الواقعة القرآنية وغذت نشاطات علمية هي أقرب إلى حالة حضارية منها إلى المتطلبات التي فرضها إخراج الشريعة الإسلامية. وهناك مجالات أخرى تدخل فيها «الواقعة القرآنية» كعامل أساسي.. ولا تكون فاعليتها هنا فاعلية عنصر منبه فقط، بل فاعلية عنصر مبدع تتوطد قوته بنوعيته الذاتية..»

بوازار ([8])

1) «لابدّ عند تعريف النصّ القدسي في الإسلام من ذكر عنصرين، الأول إنه كتاب منزل أزلي غير مخلوق، والثاني أنه «قرآن» أي كلام حي في قلب الجماعة.. وهو بين الله والإنسانية «الوسيط» الذي يجعل أيّ تنظيم كهنوتى غيرَ ذي جدوى، لأنه مرضيّ به مرجعاً اصلياً، وينبوع إلهام أساسي.. ومازال حتى أيامنا هذه نموذجاً رفيعاً للأدب العربي تستحيل محاكاته. إنه لا يمثل النموذج المحتذى للعمل الأدبي الأمثل وحسب، بل يمثل كذلك مصدر الأدب العربي والإسلامي الذي أبدعه، لأن الدين أوحى به هو في أساس عدد كبير من المناهج الفكرية التي سوف يشتهر بها الكتاب..»

2) «لقد أثبت التنـزيل برفضه الفصل بين الروحي والزمني أنه دين ونظام اجتماعي.. ومن البدهي أن التنزيل والسبيل الذي ظن إمكان استخدامه فيه قد طبعا المجتمع بعمق..»

3) «..إن القرآن لم يقدَّر قط لإصلاح أخلاق عرب الجاهلية، إنه على العكس يحمل الشريعة الخالدة والكاملة والمطابقة للحقائق البشرية، والحاجات الاجتماعية في كل الأزمنة»

4) «.. يخلق الروح القرآني مناخَ عيش ينتهي به الأمر إلى مناغمة التعبيرات الذهنية والمساواة بين العقليات والنظم الاجتماعية بأكثر مما تفترض التصريفات السياسية والطوابع الأيديولوجية التي تسند إلى الدول. ولا يكفي قط ما يتردد عن درجة تأثير القرآن الكبرى في (الذهنية الإسلامية) المعاصرة، فهو ما يزال مصدر الإلهام الفردي والجماعي الرئيسي، كما أنه ملجأ المسلمين وملاذهم الأخير»

5) «..[إن] الأدوات التي يوفرها التنزيل القرآني قادرة ولا ريب على بناء مجتمع حديث..»

بوتر([9])

1) «.. عندما أكملتُ القرآن الكريم غمرني شعور بأن هذا الحق الذي يشتمل على الإجابات الشافية حول مسائل الخلق وغيرها. وأنه يقدم لنا الأحداث بطريقة منطقية نجدها متناقضة مع بعضها في غيره من الكتب الدينية. أما القرآن فيتحدث عنها في نسق رائع وأسلوب قاطع لا يدع مجالاً للشك بأن هذه هي الحقيقة وأن هذا الكلام هو من عند الله لا محالة».

2) «.. إن المضمون الإلهي للقرآن الكريم هو المسؤول عن النهوض بالإنسان وهدايته إلى معرفة الخلق، هذه المعرفة التي تنطبق على كل عصر..»

3) «.. كيف استطاع محمد ﷺ الرجل الأمي الذي نشأ في بيئة جاهلية أن يعرف معجزات الكون التي وصفها القرآن الكريم، والتي لا يزال العلم الحديث حتى يومنا هذا يسعى لاكتشافها؟ لابدّ إذن أن يكون هذا الكلام هو كلام الله عزّ وجلّ»

بوكاي([10])

1) «لقد قمت أولاً بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أي فكر مسبق وبموضوعية تامة باحثاً عن درجة اتفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث. وكيف أعرف، قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات، أن القرآن يذكر أنواعاً كثيرة من الظاهرات الطبيعية ولكن معرفتي كانت وجيزة. وبفضل الدراسة الواعية للنصّ العربي استطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوى على أية مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم في العصر الحديث. وبنفس الموضوعية قمت بنفس الفحص على العهد القديم والأناجيل. أما بالنسبة للعهد القديم فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول، أي سفر التكوين، فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلم رسوخاً في عصرنا. وأما بالنسبة للأناجيل… فإننا نجد نص إنجيل متي يناقض بشكل جلي إنجيل لوقا Luc، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمراً لا يتفق مع المعارف الحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض.»

2) «لقد أثارت الجوانب العلمية التي يختص بها القرآن دهشتي العميقة في البداية. فلم أكن اعتقد قط بإمكان اكتشاف عدد كبير إلى هذا الحدّ من الدعاوى الخاصة بموضوعات شديدة التنوع ومطابقته تماماً للمعارف العلمية الحديثة، ذلك في نص كتب منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً. في البداية لم يكن لي أي إيمان بالإسلام. وقد طرقت دراسة هذه النصوص بروح متحررة من كل حكم مسبق وبموضوعية تامة..»

3) «.. تناولت القرآن منتبها بشكل خاص إلى الوصف الذي يعطيه عن حشد كبير من الظاهرات الطبيعية. لقد أذهلتني دقة بعض التفاصيل الخاصة بهذه الظاهرات وهي تفاصيل لا يمكن أن تدرك إلا في النص الأصلي. أذهلتني مطابقتها للمفاهيم التي نملكها اليوم عن نفس هذه الظاهرات والتي لم يكن ممكنا لأي إنسان في عصر محمد ﷺ أن يكون عنها أدنى فكرة..»

4) «.. كيف يمكن لإنسان -كان في بداية أمره أُميّاً-.. أن يصرح بحقائق ذات طابع علمي لم يكن في مقدور أي إنسان في ذلك العصر أن يكوّنها، وذلك دون أن يكشف تصريحه عن أقل خطأ من هذه الوجهة؟»

بيكارد([11])

«.. ابتعت نسخة من ترجمة سافاري (Savary) الفرنسية لمعاني القرآن وهي أغلى ما أملك. فلقيت من مطالعتها أعظم متعة وابتهجت بها كثيراً حتى غدوت وكأن شعاع الحقيقة الخالد قد أشرق علي بنوره المبارك.»


[1] الدكتور عماد الدين خليل: أستاذ التاريخ الإسلامي ومناهج البحث في جامعة الموصل في العراق. ولد عام 1939 في الموصل في شمالي العراق. درس في الموصل وبغداد والقاهرة حيث حصل على الدكتوراه في التاريخ الإسلامي في عام 1968م من جامعة عين شمس. عمل محاضراً في أكثر من جامعة عراقية وعربية وإسلامية. شارك في العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية والثقافية في عدد من البلدان. ألّف أكثر من أربعين كتاباً في مجال التاريخ وفلسفته والمنهج والفكر والأدب الإسلامي تنظيراً ونقداً وإبداعاً.

[2] إبراهيم خليل أحمد İbrahim Khalil Ahmad : قس مبشر من مواليد الإسكندرية عام 1919، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية، ومن جامعة برنستون الأمريكية. عمل أستاذاً بكلية اللاهوت بأسيوط. كما أرسل عام 1954 إلى أسوان سكرتيراً عاماً للإرسالية الألمانية السويسرية. وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الإسلام. لكن تعمقه في دراسة الإسلام قاده إلى الإيمان بهذا الدين وأشهر إسلامه رسمياً عام 1959. كتب العديد من المؤلفات، أبرزها ولا ريب «محمد في التوراة والإنجيل والقرآن»، «المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي»، و«تاريخ بنى إسرائيل».

[3] سير توماس آرنولد (1864-1930) Sir Thomas Arnold : من كبار المستشرقين البريطانيين. صاحب فكرة كتاب «تراث الإسلام» الذي أسهم فيه عدد من مشاهير البحث والاستشراق الغربي. وقد أشرف أرنولد على =  تنسيقه وإخراجه، تعلم في كمبردج وقضى عدة سنوات في الهند أستاذاً للفلسفة في كلية عليكرة الإسلامية. وهو أول من جلس على كرسي الأستاذية في قسم الدراسات العربية في مدرسة اللغات الشرقية بلندن. وصفه المستشرق البريطاني المعروف «جب» بأنه «عالم دقيق فيما يكتب»، وأنه أقام طويلاً في الهند وتعرف إلى مسلميها، وأنه متعاطف مع الإسلام، وكل هذه أمور ترفع أقواله فوق مستوى الشهادات» «دراسات في حضارة الإسلام ص 244» ذاع صيته بكتابيه: «الدعوة إلى الإسلام» الذي ترجم إلى أكثر من لغة، و«الخلافة». كما أنه نشر عدة كتب قيمة عن الفن الإسلامي.

[4] واشنجتون إيرفنج W.Irving: مستشرق أمريكي، أولى اهتماماً كبيراً لتاريخ المسلمين في الأندلس. من آثاره: «سيرة النبي العربي» مذيلة بخاتمة لقواعد الإسلام ومصادرها الدينية (1849)، و«فتح غرناطة» (1859)، غيرها.

[5] د. ميلر بروز Millar Burrows: رئيس قسم لغات الشرق الأدنى وآدابه وأستاذ الفقه الديني الإنجيلي في جامعة (بيل) وعمل أستاذاً بجامعة براون، وأستاذاً زائراً بالجامعة الأمريكية في بيروت، ومديراً للمدرسة الامريكية للبحوث الشرقية بالقدس، ومن مؤلفاته: Founders of Great Religions، 1931.

What Means These Stones، 1941. Palestines Is Our Business، 1941.

[6] بلاشيرR.L.Blachere: ولد بالقرب من باريس، وتلقى دروسه الثانوية في الدار البيضاء، وتخرج بالعربية في كلية الاداب بالجزائر (1922)، وعين أستاذاً لها في معهد مولاي يوسف بالرباط، ثم انتدب مديراً لمعهد الدراسات المغربية العليا بالرباط (1924-1935)، واستدعته مدرسة اللغات الشرقية بباريس أستاذاً لكرسي الأدب العربي (1935-1951)، ونال الدكتوراه (1936)، وعين أستاذاً محاضراً في السوربون (1938)، ومشرفاً على مجلة (المعرفة)، التي ظهرت في باريس باللغتين العربية والفرنسية، من آثاره: «دراسات عديدة عن تاريخ الأدب العربي في أشهر المجلات الإستشراقية»، وكتاب «تاريخ الأدب العربي» (باريس 1952)، وترجمة جديدة للقرآن الكريم في ثلاثة أجزاء (باريس 1947-1952)، وغيرها.

[8] مارسيل بوازار M.Poizar: مفكر، وقانوني فرنسي معاصر، أولى اهتماماً كبيراً لمسألة العلاقات الدولية وحقوق الإنسان وكتب عدداً من الأبحاث للمؤتمرات والدوريات المعنية بهاتين المسألتين. يعتبر كتابه «إنسانية الإسلام»، الذي انبثق عن الاهتمام نفسه، علاقة مضيئة في مجال الدراسات الغربية للإسلام، بما تميز به من موضوعية، وعمق، وحرص على اعتماد المراجع التي لا يأسرها التحيز والهوى. فضلاً عن الكتابات الإسلامية نفسها.

[9] ديبورا بوترD. Potter: ولدت عام 1954، بمدينة ترافيرز، في ولاية متشيغان الأمريكية، وتخرجت من فرع الصحافة بجامعة متشيغان، اعتنقت الإسلام عام 1980، بعد زواجها من أحد الدعاة الإسلاميين العاملين في أمريكا، بعد اقتناع عميق بأنه ليس ثمة من دين غير الإسلام يمكن أن يستجيب لمطالب الإنسان ذكراً كان أم أنثى.

[10] د. موريس بوكايMaurice Bucaille: الطبيب والعالم الفرنسي المعروف. كان كتابه «القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم» من أكثر المؤلفات التي عالجت موضوعاً كهذا، أصالة واستيعاباً وعمقاً. ويبدو أن عمله في هذا الكتاب القيم منحه قناعات مطلقة بصدق كتاب الله، وبالتالي صدق الدين الذي جاء به. دعي أكثر من مرة لحضور ملتقى الفكر الإسلامي الذي ينعقد في الجزائر صيف كل عام، وهناك أتيح له أن يطّلع أكثر على الإسلام فكراً وحياةً.

[11] وليم بيرشل بشير بيكارد W. B. Beckard: إنكليزي، تخرج من كانتر بوري. مؤلف وكاتب مشهور. ومن بين مؤلفاته الأدبية بالإنكليزية «مغامرات القاسم» و«عالم جديد». شارك في الحرب العالمية الأولى وأسر. عمل فترة من الوقت في أوغندا. أعلن إسلامه عام 1922م.

كلمة الثناء للشيخ البدليسي

وبه ثقتي

كلمة ثناء

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد، فقد كان رائدنا العظيم الأستاذ المناضل العلامة «بديع الزمان النورسي» منذ أن انفتحت أمام عينيه آفاقٌ شاسعة من دنيا العلم والعرفان وخاض عباب الكتاب العزيز يتطلع دائماً -كما كتبه الأستاذ في إفادة المرام- إلى انتهاض لجنة مؤلَّفة من كبار العلماء المتخصصين، كل في ناحية من نواحي العلم، تقوم تلك اللجنة بدراسات طويلة في شتى نواحي الكتاب الكريم حتى يتحصل ويتولد من مجهوداتهم الكثيرة ودراساتهم الطويلة تفسيرٌ جامع للقرآن المبين، يستجيب لحاجات القرن العشرين، واستمر لديه ذلك التطلع والترقب إلى بداية زمن الحرب العالمية الأولى.

فلما انفلقت قنبلة الحرب بين شعبنا التركي وبين الشعب الروسي أيسَ الأستاذ من تحقق ذلك الأمل بعضَ الإياس فاضطر أن يكتب ما يلُوح له من إشارات إعجاز القرآن. فأخذ يقيد ويصنف ويرتب ما يسنح له في شرح آي الذكر الحكيم. فجاء منه هذا القسم من التفسير، وهو رغم أنه وليد فكرٍ واحد إلا أنه فريد في بابه لم ينسج للآن على منواله أيُّ تفسير. لأنه يستجلي ويكشف الإعجاز المكنون في نظم الكتاب المجيد بطريقة عجيبة مخترَعة لم نرها ولم نصادفها فيما عثرنا عليه من مشهور التفاسير المتداولة كتفسير «أبي السعود» و«الفخر الرازي» و«البيضاوي» وتفسير الأستاذ المرحوم «الشيح طنطاوي جوهري» الذي أفاض وأسهب فيه وبيّن كثيراً من العلوم المختلفة التي تشير إليها الآيات الكونية.

وإن كنتَ في ريب مما نقول فردِّد الطرْفَ أوّلاً في تحليله المنوط بآيةِ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ اٰمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْاٰخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنينَ﴾ أو المنوط بآيةِ ﴿خَتَمَ اللّٰهُ عَلٰى قُلُوبِهِمْ وَعَلٰى سَمْعِهِمْ وَعَلٰٓى اَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ..﴾ الخ أو بآيةِ ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ أو بأي آية أخرى من الآيات المشروحة في ذلك التفسير، وبعد ذلك طالِعْ في عين هاتيك الآيات السالفة الذكر سائرَ التفاسير، ثم ليتكلمْ ضميرُك الحر المطلق من قيد التعصب.

خلاصة القول: إنَّ في عباراته عذوبة وحلاوة وطلاوة بديعة وتدقيقاً خارقاً جداً في تحليل آي الوحي المنـزّل. إنه يبيّن جهة مناسبة الآيات بعضها ببعض، وتناسب الجمل وتناسقها، وكيفية تجاوب هيآت الجمل وحروفها حول المعنى المراد معتمداً في ذلك على أدق قواعد علم البلاغة وعلى أصول النحو والصرف وقوانين المنطق ودساتير علم أصول الدين وسائر ما له علاقة بذلك من مختلف العلوم. حتى إنه ليبحث عن أخفى مناسبات البلاغة الذي لا يُكشف -عادةً- بالمجهر المعنوي المركز في الدماغ البشري.

وأعجب من الكل أنه وجد ذلك التدقيق البالغ والبحث العميق حينما كان ينصب ويتقاطر على المؤلف من جهاته الأربع شآبيبُ رصاصِ بنادقِ الجيوش السوفيتية، فكان الأستاذ يناضل ويطلق بندقيته في صدور الأعداء من جهةٍ، ويضع في مصنع دماغه قنبلة إعجاز القرآن الذرية ليحطم بها بنيان الكفر والضلال من جهة أخرى.

فيا سبحان الله من ذكاء إلهي خارق، مجهز ببطولة عجيبة وثبات قلب زائد! إن ذلك الوقت العصيب والموقف الرهيب لم يُدهش المؤلف ولم يُذهِل فكره الثاقب عن الجولان في مناحي إعجاز القرآن المبين. وها نحن تلامذة «رسائل النور» يسرنا أن نضع هذا الكتاب بين يدي الإنسانيين من البشر ليدرَس دراسة مجردة عن الأغراض بعيدة عن الأهواء والتعصب الذميم. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

والله أسأل أن ينفع به الناس ويهديهم سواء السبيل.

الشيخ صدر الدين يوكسل البدليسي

ذي الحجة 1378هـ