نقطة

الرسالة الثانية عشرة ([1])

الرسالة القيمة

 نقطة

من نور معرفة الله جل جلاله


إيضاح

إذا ما دخلتُ بستانا فلا أجني إلّا الأجوَدَ من الثمرات، حتى إذا ما تعبتُ في قطفها أجد المتعة واللذة. ولووقع نظري على الفاسدة منها، أصرفه عنها، آخذا بالقاعدة: «خذ ما صفا دع ما كدر»… هكذا أنا، فأرجوأن يكون قرّائي أيضا مثلي.

يقال: إنَّ كلامَك لا يُفهم بوضوح.

– نعم، ما حيلتي.. هكذا ترد السانحاتُ إلى القلب.. فبينما أجدني كأنني أتكلم فوق منارة عالية، إذا بي -في أحيان أخرى- أُنادي من قعر بئر عميقة.

فيا قارئي العزيز! أرجوأن تلاحظ في هذه الرسالة:

أنَّ المتكلم: هوقلبي العاجز.

أما المخاطَب: فهونفسي العاصية.

بينما المستمع: هوذلك الياباني الذي يتحرى الحقيقة.

وسنشير في هذه الرسالة إلى ما نقصده بالذات، وهوالتوحيد، في أربعة براهين عظيمة من بين براهينه التي لا تُحصر.

آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، والبعث بعد الموت حق، أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.

سعيد النُّورْسِيّ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.

إن مقصودَنا ومطلوبنا هو: ﴿اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هوۚ اَلْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (البقرة:255) فمن بين براهينه الكلّية التي لا تُعدّ نورد هنا أربعة منها:

البرهان الأول: هومحمد ﷺ. (وقد بسطنا هذا البرهان في رسالة «شعاعات»).

البرهان الثاني: هذا الكون وهذا الإنسان الأكبر، ذلك الكتاب الكبير المنظور.

البرهان الثالث: هوالقرآن الكريم.. ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه وهوالكلام المقدس.

البرهان الرابع: الوجدان الحي، أوالفطرة الشاعرة، الذي يمثّل البرزخَ ونقطةَ اتصال عالمَي الغيب والشهادة. فالفطرةُ الشاعرة أوالوجدان نافذةٌ إلى العقل يُنشر منها شعاعُ التوحيد.

البرهان الأول: وهوحقيقة محمد ﷺ

تلك المجهَّزة بالرسالة والإسلام، فمن حيث الرسالة تتضمن شهادةَ أعظمِ إجماعٍ وأوسعِ تواترٍ لجميع الأنبياء عليهم السلام. ومن حيث الإسلام تحمل روحَ الأديان السماوية كلها وتصديقَها المستند إلى الوحي.

فالرسول الكريم ﷺ يبين للبشرية جمعاء وجودَ الله ووحدانيته في جميع أقواله الصادقة المصدّقة بمعجزاته الباهرة، وبشهادة الأنبياء عليهم السلام وتصديق الأديان كلها. فهوﷺ يُظهر ذلك النورَ باسم المصطفين الأخيار من البشرية الذين اتحدوا في هذه الدعوة.

تُرى هل يمكن أن يتسلل الباطلُ إلى مثل هذه الحقيقة الباهرة التي تنال هذا القدرَ من التصديق، وتبصرها العيونُ النافذة في الحقائق، فتراها واضحة جلية خالصة لا شائبة فيها؟.. كلا.. ثم كلا.

البرهان الثاني: وهوكتاب الكون

نعم، إن حروفَ هذا الكتاب ونقاطه فردا فردا أومجموعة، يتلوكلٌّ بلسانه الخاص: ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه (الإسراء:44). ويبيّن وجودَ الخالق العظيم ووحدانيته.. فكلُّ ذرة في الكون تشهد شهادة صادقة على وجوب وجود الخالق الحكيم جلّ جلالُه. فبينما تراها تتردّد بين إمكانات واحتمالات غير متناهية، في صفاتها وذاتها وأحوالها ووجودها، إذا بها تنتعش وتسلك طريقا معينا، وتتصف بصفة معينة، وتتكيف بحالة منتظمة، وتسير وفق قانون مسدَّد، وتتوجه إلى قصد معين.. فتنتج حِكَما ومصالحَ تُبهر الألباب.. فتزيد سطوعَ الإيمان بالله في اللطيفة الربانية الممثِّلة لنموذج عوالم الغيب في الإنسان. أفلا تنادي الذرةُ بلسانها الخاص وتصرّح بقصد صانعها الجليل، وبحكمته البالغة؟ فكلُّ ذرة من الذرات كما أنها تدل على الخالق الحكيم بوجودها المنفرد وبصفاتها الخاصة وبكيفياتها المعينة: فإن هذه الدلالة تتزايد، باعتبار كون الذرة جزءا من مركباتٍ متداخلة متصاعدة، ومن حيث الإمكانات والاحتمالات التي تسلكها، إذ لها في كل مركّب مقامٌ، وفي كل مقام نسبةٌ معينة وارتباط معين، وفي كل نسبة لها وظيفةٌ خاصة، وفي كل موقع تحافِظ على التوازن العام، وفي كل وظيفة تثمر مصالحَ شتى وحِكما عديدة. في كل مرتبة إذن تتلوالذرةُ بلسانها الخاص دلائلَ وجوب وجود صانعها الجليل وتُظهر قصدَ خالقها الحكيم، وكأنها ترتّل الآيات الكريمة الدالة على الوحدانية. مَثلُها في هذا كمثل الجندي الذي له وظيفة معينة وارتباط خاص مع كلٍّ من فصيله وفرقته والجيش كله.. ألاَ تكون إذن البراهينُ الدالة على الله سبحانه وتعالى أكثر بكثير من عدد ذرات الكون، فما يُقال من أن: «الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق» إنما هي حقيقة صادقةٌ لا مبالغة فيها قط، بل قد تكون قاصرة.

سؤال: لماذا لا يَرى الجميعُ بعقولهم الخالقَ العظيم؟

الجواب: لكمال ظهوره جلَّ وعلا، ولعدم الضد.

تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا  مِنَ الْمَلإِ الأعلى إلَيكَ رَسَائِلُ

فهذا الكتاب الكوني العظيم يتجلى فيه النظامُ بوضوح تام بحيث يظهر النّظام كالشمس في رابعة النهار، فتظهر معجزةُ القدرة في كل كلمة أوحرف فيه. فتأليفُ هذا الكتاب البديع فيه من الإعجاز الباهر بحيث لوفرضنا -فرضا محالا- أن كلَّ سبب من الأسباب الطبيعية فاعلٌ مختار، لسجدَت تلك الأسبابُ جميعا -بكمال العجز- أمام ذلك الإعجاز، قائلة: «سبحانك… لا قدرة لنا… إنك أنت العزيز الحكيم». فإنك ترى أن في هذا الكتاب من النَّظم الدقيق المتشابك المتساند بحيث يلزم لإيجاد نقطة في مكانها الصحيح قدرةٌ مطلقة تستطيع إيجاد الكون كلِّه، وذلك لأن كل حرف من حروفه -ولاسيما ما كان ذا حياة- له وجهٌ ناظر إلى كل جملة من جُمل الكتاب، وله عينٌ شاخصة إليها، بل إن كل كلمة فيه لها ارتباط وثيق مع كلمات الكتاب كلها..

فالذي خلق عينَ البعوضة إذن هوخالقُ الشمس أيضا، والذي نظّم معدة البرغوث هوالذي ينظّم المنظومة الشمسية.

فإن شئت راجع كتاب «السانحات» لترى حقيقة الآية الكريمة: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (لقمان:28). ولتشهد كيف يقطُر شهدُ الشهادة الصادقة من لسان معجزة القدرة، النحلِ، الذي يمثّل كلمةً صغيرة من هذا الكتاب. أوإن شئت فتأمل في نقطةٍ من هذا الكتاب، في حيوان مجهري لا يُرى بالعين المجردة، لتشهد كيف أنه يمثل نموذجا مصغرا للكائنات. فالذي كتَبَه على هذه الصورة المعجزة كتب الكائنات. فلوأمعنت النظر فيه لرأيته يضم من المكائن الدقيقة والأجهزة البديعة ما يُثبت لك يقينا؛ أنه لا يمكن أن يفوَّض أمرُه إلى الأسباب الجامدة البسيطة الطبيعية التي لا تميز بين الإمكانات، إلّا إذا توهمتَ أن في كل ذرة شعورَ الحكماء وحكمةَ الأطباء ودهاءَ الساسة والحكام، وأنها تتحاور فيما بينها دون وساطة!! وما هذا إلاّ خرافة يخجل منها الخرافيون. فلا يمكن أن تكون تلك الماكنة الحية الصغيرة إذن إلّا معجزة قدرة إلهية. ألَا ترى أن العقول تنبهر أمامها؟ فهي إذن ليست من صنع الأسباب الطبيعية، بل من إبداع مَن يقدر على إيجاد الكائنات كلها وينظم شؤونها، إذ هومحال أن يجتمع أُس أساس تلك الأسباب المادية وهو: القوة الجاذبة والقوة الدافعة معا في جزء لا يتجزأ للقيام بتلك الصنعة الحكيمة.

نعم، إن ما يظنونه أساسا لكل شيء من جذب ودفع وحركة وقوة وأمثالها، إنما هوناموسٌ إلهي يمثل قوانين عادات الله، واسم لها. فهذه القوانين مقبولةٌ بشرط ألّا تنتقل من كونها قاعدةً إلى طبيعة فاعلة، ومن شيء ذهني إلى حقيقة خارجية، ومن أمرٍ اعتباري إلى حقيقة مشهودة، ومن آلةِ قياس إلى مؤثر حقيقي.

سؤال: مع أن هذه الشهادة قاطعة، فكيف إذَن يعتقد البعضُ بأزلية المادة، وتشكُّل الأنواع من حركات الذرات (أي بالمصادفة) وأمثالها من الأمور؟

الجواب: لمجرد إقناع النفس بشيء آخر -غير الإيمان بالله-، ولأنهم لا يدركون فساد الفكرة بالنظر السطحي التقليدي، ينشأ لديهم هذا الاحتمالُ. ولكن إذا قصَد الإنسانُ وتوجّه بالذات إلى إقناع نفسه، فلابد أنه سيقف على محالية الفكرة وبُعدها عن المنطق والعقل. ولواعتقد بها فلا يعتقد إلّا بسبب التغافل عن الخالق سبحانه. فما أعجبَ الضلالَ!. إنَّ مَن يضيق عقلُه عن أزلية الله سبحانه وإيجادهِ الأشياء كلها -وهي صفة لازمة ضرورية للذات الجليلة- كيف يعطي تلك الأزلية والإيجاد إلى ذرات غير متناهية وإلى أشياء عاجزة؟. فلقد اشتهرت حادثة: أنه بينما كان الناس يراقبون هلال العيد، ولم يره أحدٌ، إذا بشيخ هرم يحلف أنه قد رأى الهلال، ثم تبين أن ما رآه لم يكن هلالا بل شعرة بيضاء مقوسة قد تدلت من حاجبه! فأين تلك الشعرة من الهلال؟ وأين حركات الذرات من تشكيل الأنواع؟

إنَّ الإنسان لكونه مكرّما فطرةً يبحث عن الحق دوما، وأثناء بحثه يعثر على الباطل أحيانا فيخفيه في صدره ويحفظه. وقد يقع الضلالُ -بلا اختيار منه- على رأسه أثناء تنقيبه عن الحقيقة، فيظنه حقا، فيلبسه كالقلنسوة على رأسه!

سؤال: ما هذه «الطبيعة» و«القوانين» و«القوى» التي يسلّون بها أنفسهم؟

الجواب: إنَّ الطبيعة هي شريعة إلهية كبرى أوقعت نظاما دقيقا بين أفعالِ وعناصرِ وأعضاءِ جسد الخليقة المسمى بعالم الشهادة. هذه الشريعة الفطرية هي التي تسمى بـ«سنة الله» و«الطبيعة» وهي محصلةُ وخلاصةُ مجموعِ القوانين الاعتبارية الجارية في الكون.

أما ما يسمونه بـ«القوى» فكل منها هوحُكمٌ من أحكام هذه الشريعة.

و«القوانين» كل منها عبارة عن مسألة من مسائلها.

ولكن لاستمرار أحكام هذه الشريعة واطّراد مسائلها توهَّم الخيالُ فجسّمها في «الطبيعة» واعتبرها موجودا خارجيا مؤثّرا وحقيقةً واقعية فاعلة، بينما هي أمر اعتباري ذهني.

فترى النفوسُ التي ترى الخيالَ حقيقةً والأمرَ الاعتباري الذهني أمرا خارجيا ألبَست هذه الطبيعة طورَ المؤثر الحقيقي. والحال لا يقنع القلبُ بأي مبرر، ولا يعجب الفكر بأي مسوغ، بل لا تأنس الحقيقة بكون هذه الطبيعة الجاهلة مصدرا للأشياء. فما ساقهم إلى هذه الفكرة غير المعقولة إلّا توهمُهم إنكار الخالق الجليل، وذلك لعجزهم عن إدراك آثار قدرته المعجزة المحيرة للعقول.

فالطبيعة؛ مطبعةٌ مثالية وليست طابعة، نقشٌ لا نقاشة، قابلة للانفعال لا فاعلة، مِسطر لا مصدر، نِظام لا نَظّام، قانون لا قدرة، شريعة إرادية لا حقيقة خارجية.

فلو قدِم شخص في ريعان الشباب إلى هذا العالم البديع مباشرة، ودخل قصرا فخما مزينا بأروع الآثار، وافترض لنفسه أن ليس هناك من أحد خارج البناء قد قام بتشييده وتزيينه، وبدأ يتحرى السبب الفاعل في أرجاء القصر، ووقع بصرُه على كتاب جامع لأنظمة القصر وخارطته، فإنه يتصور -من جهله- أن هذا الكتاب هوالفاعل، لما ينعكس في شعوره من البحث عن علّة حقيقية، فيضطر إلى هذه العلة بسبب افتراضه الموهوم مقدما! وهكذا البعض يسلّي نفسه بالطبيعة بسبب تغافله عن الخالق الجليل، فيضطر إلى خداع نفسه بنفسه، ويتيه في مثل هذه الأمور الخارجة عن منطق العقل.

والشريعة الإلهية اثنتان:

إحداهما: الشريعة الآتية من صفة الكلام التي تنظّم أفعال العباد الاختياريةَ.

والثانية: الشريعة الآتية من صفة الإرادة التي تسمى بالأوامر التكوينية والشريعة الفطرية وهي محصلة قوانين عادات الله الجارية في الكون.

فكما أن الشريعة الأولى عبارة عن قوانين معقولة، فإن الشريعة الثانية أيضا عبارة عن مجموع القوانين الاعتبارية، والتي تسمى -خطأً- بالطبيعة فهذه القوانين لا تملك التأثير الحقيقي ولا الإيجاد اللذين هما من خواص القدرة الإلهية.

ولقد شرحنا -أثناء بياننا التوحيد- أن كل شيء مرتبط بالأشياء جميعا، فلا شيء يحدث من دون الأشياء جميعا. فالذي يخلق شيئا قد خلق جميع الأشياء، لذا فليس الخالق لشيء إلّا الواحد الأحد الصمد. بينما الأسباب الطبيعية التي يسوقها أهل الضلالة هي متعددة، فضلا عن أنها جاهلة لا يعرف بعضها بعضا. علاوة على أنها عمياء، وليس بين يديها إلّا المصادفة العمياء.. فـ ﴿قُلِ اللّٰهُۙ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (الأنعام:91).

الخلاصة: أنَّ الإعجاز الباهر الظاهر في النظام والتناسق والاطراد المشاهَد في كتاب الكون الكبير -وهوبرهاننا الثاني على التوحيد- يظهر بوضوح تام كالشمس الساطعة أنّ الكون وما فيه ليس إلّا آثار قدرة مطلقة وعلم لا يتناهى وإرادة أزلية.

سؤال: بمَ يثبت النظام والانتظام والتناسق؟

الجواب: إنَّ العلوم الكونية التي توصل إليها الإنسانُ، هي كالحواس لنوع الإنسان وكالجواسيس تكشف له عن مجاهيلَ لا يصلها بنفسه. فبالإستقراء التام يمكنه أن يتوصل إلى كشف ذلك النظام بتلك الحواس والجواسيس. فكل نوع من أنواع الكائنات قد خصّ بعلم أوفي طريقه إلى ذلك، لذا يُظهر كلُّ علمٍ ما في نوعه من انتظام ونظام بكليّة قواعده، لأنَّ كل علم في الحقيقة عبارة عن دساتير وقواعد كلية. وكليةُ القواعد تدل على حسن النظام؛ إذ ما لا نظام له لا تجري فيه الكليةُ. فالإنسان مع أنه قد لا يحيط بنفسه بالنظام كلّه إلّا أنه يدركه بجواسيس العلوم، فيَرى أن الإنسانَ الأكبر -وهوالعالَم- منظَّمٌ كالإنسان الأصغر سواءً بسواء. فما من شيء إلّا ومبنيّ على أُسس حكيمة، فلا عبث، ولا شيء سدىً. فبرهانُنا هذا ليس قاصرا -كما ترى- على أركان الكائنات وأعضائها، بل يشمل الخلايا وجميع الكائنات الحية، بل يشمل الذرات جميعا، فكلها لسانٌ ذاكر يلهج بالتوحيد، والجميعُ يذكرون معا: «لا إله إلّا الله».


[1] طبعت هذه الرسالة باللغة التركية لأول مرة بمطبعة «أوقاف» بإستانبول سنة 1337هـ (1918م) على أبواب ثلاثة، ولم يدرج الأستاذ المؤلف هنا إلّا الباب الأول منها فترجمناه كاملا.

ذيل الشعلة

ذيل الشعلة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة على نبيه.

اعلم أنه لا يتستر عن النور المحض المحيط شيءٌ من الأشياء، وكذا لا يخرج أمرٌ من الأمور عن دائرة القدرة الغير المتناهية؛ وإلّا لزم تناهي غير المتناهي بالتحديد بالمتناهي، وهومحال بوجوه.

وكذا إن الحكمة تعطي كلَّ شيء الفيضَ بقدَره، كما يقال: [كلٌّ بقدره].. وإنّ بقَدر الظرف يُغترف من البحر، وإن المقدِّر القدير الحكيم لا يَشغله صغيرٌ عن كبير، ولا خطيرٌ عن حقير. وإن المحيط الظاهر الباطن المجرد عن المادة لا يواري الأكبرُ عنه الأصغرَ. ولا النوعُ الفردَ. وإن الصغير مادةً قد يكون كبيرا من جهة الصنعة. وإن نوع الصغير عظيمٌ كثير كبير. وإن العظمة المطلقة لا تقبل الشركة أصلا ولا تتحملها.

وإن ما يشاهَد من الجود المطلق في السهولة المطلقة، في السرعة المطلقة، في الإتقان المطلق، مع إرادة التعرّف التام، مع محبة ذي الجمال مشاهدةَ جمالِه المطلق وكماله المطلق وتشهيرهما، ومع الرحمة المطلقة، والغَناء المطلق بشهادة الآيات التكوينية، ومع وجودِ ما لا يحد ولا يعد من الناظرين المتفكرين المشاهدين المعتبِرين.. يقتضي -بهذه الأسباب- بلا شك وجودَ أنواع الحوينات والطويرات أيضا، بل أَولى، إذ الصغيرُ الأدق أقربُ إلى الوجود، وإلى القدرة النورانية.

اعلم يا «أنا»، إذا كان نفسُك أحبّ إليك، لأنها أقربُ إليك من كل شيء؛ فلابد أن يكون ربُّك أحب إليك منك؛ إذ هوأقرب إليك من نفسك. ألَا ترى أن ما لا يصل اختيارُك وخيالُك إليه من أسرار ما رُكّب فيك، هوحاضر مشاهَد لربك.

اعلم أنه لا تصادف؛ فانظر إلى الرياض واستمع كيف تقرأ على الناظر بنهاية الانتظام في غاية الاختلاط، وكمال الامتياز في كمال امتزاج أشتات الأشياء.. آياتِ حكمة الصانع العليم المحيط.

اعلم أنك إن لم تُوَحِّدْ بنسبة كلِّ شيء إلى الواحد، تضطر إلى فرض وجود آلهة بعدد تجليات الله على جميع أفراد الأنواع في العالم. كما إذا أغمضتَ عينيك عن الشمس، وتغافلت عنها، وقطعت عنها نسبةَ الشُميسات المتلمعات في قطرات وجه البحر بتجليها، اضطررتَ إلى قبول وجود شموس بالأصالة فيها بعدد تلك القطرات. مع أن القطرة لا تسع أصغر مصباح، فكيف بسراج العالم!

اعلم أنه يشاهَد للمدقق أن طوائف المخلوقات وأصناف المصنوعات تتسابق بالرقابة والاشتياق إلى التبرّج والتزين، للعرض والظهور، لنظرِ شاهدٍ جليل يشاهدها كلَّها، ودائما، وبجميع دقائق محاسنها؛ إذ المصنوعات تُظهِر بالمشاهدة هيئةً تتضمن ما لا يتناهى من لطائفِ إتقان الصنعة الجالبة لنظر الدقة، والاستحسان والحيرة. فما هذا التهالك بالمسابقة للظهور، متزينة إلّا لأجل العرض لنظر لا يتناهى. وما هوإلّا نظر الشاهد الأزلي الذي خَلَقَ الخلق ليشاهِد في مرايا أطوارها جلواتِ أنوارِ جماله وجلاله وكماله.. ثم يستشهدَ عليها شهداء تعرّفَ إليهم، بإراءة ذلك الكنـز الخفي. فأعلى غاياتِ وجود الشيء وأغلى حقوقِ حياة الحي هوالمشهودية والظهور لنظر فاطره، بمظهريته لآثار أسمائه. وألذُّ لذائذ هذه الحياة هوالشعور بهذا الشهود.

وأما الظهور لأنظار إخوانه من المخلوقات فهوأيضا غاية، لكن نسبتها إلى الغاية الأولى كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي.

وأما ما اشتهر بين الناس من «حق الحياة» -وهوحفظ الحياة مع نوع راحة- فأقلُّ وأصغر وأدنى وأحقر من أن يكون جزءا من ملايينِ أجزاءِ «حق الحياة»، تلك الحياة التي هي من أعلى وأغلى وأعجبِ وأغربِ وألطف وأشرف معجزاتِ قدرة الحي القيوم الأحد الصمد. بل ما هوإلّا وسيلة، وإنما يتشرف ما بقي وسيلةً، فإذا ترقى إلى المقصِدية، سقط بالزوال هباءً منثورا.

أتظن -أيها الغافل- أن غايةَ عجيبِ صنعةِ الرمانة مثلا، هي أكلُك ومضغك في دقيقة بغفلة.. كلا، بل إنما هي كلمةٌ أفادت معناها للمكوِّن سبحانه، وللكون؛ فوفّتْ فتوفّتْ فدُفنتْ مِن فيكَ فيك، ويكفي من الزمان والبقاء لهذه الغاية آنٌ سيال.. فلا عبثية.

وكذا فاعلم أن من له جمال فائق، فلذتُه الحقيقية في المشاهدة لجماله شهودا بالذات، وشهودا بإراءة مصنوعاته لمخلوقاته فيشهدونها.. فيشهد أيضا في شهودهم بشهودهم. وأما لذة التفوق بملاحظة الغير فغيرُ ذاتيةٍ، بل عرضيةٌ ضعيفة، ومشوبة مخصوصة بالأمور النسبية.

وأما ذوالكمال الذاتي والجمال الحقيقي المجرد السرمدي، المحبوبُ لذاته لذاته، الذي له المثل الأعلى، فقد أخبرنا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام «أنه خَلق الخلق ليُعرف».. أي صوّر مرايا ليشاهِد فيها تجلياتِ جماله المحبوبِ لذاته بذاته.

اعلم أيها الفاني، كفاك بقاءً أنك مشهودُه في علمه ومعلومُه في شهوده بعد فنائك من بعض الوجوه. «يا هو» أعطِ كل شيء لصاحبه الحقيقي وانسبه إليه. وخذه باسمه. ثم استرِح، وإلّا اضطررت إلى قبول آلهة بعدد تجليات الله كما مرَّ آنفا. بل بعدد ذرات الكائنات كما مر مرارا أيضا. وكذا بعدد أجزاء التراب.. إذ أيّ جزء من التراب تراه، يصلح لحصول ما لا يعد من المصنوعات المنتظَمة المتنوعة.

فسبحان من تنـزّه عن الأشباه ذاتُه. وتقدست عن مشابهة الأمثال صفاتُه. ودلّت على وحدانيته مصنوعاتُه. وشهِدت بربوبيته آياتُه. وأحاط بكل شيء علمُه وقدرتُه.
جلّ جلالُه. ولا إله إلّا هو.

شعلة

 الرسالة الحادية عشرة ([1])

شعلة

من أنوار شمس القرآن


اعلم أن الفاطر الحكيم إنما ركّب في وجودك هذه الحواس، والحسيات، والجهازات لإحساس أنواع نِعَمه، ولإذاقة أقسام تجليات أسمائه.

فما غاياتُ حياتك وما حقوقها إلّا إظهارُك لآثار تجليات أسمائه، وتشهيرُ غرائبها لدى أنظار المخلوقات..

وما إنسانيتك؛ إلّا شعورُك بهذه الوظيفة.

وما إسلاميتك؛ إلا إذعانك بهذه المظهرية.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد من الله.. وبالله.. وعلى الله.. لله.. كما يليق بالله.. الحمد لله على «الحمد لله» بدور يدور بأنابيبَ في تسلسل وبتسلسل يتسلسل في دور دائرٍ بلا نهاية.

اَللَّهُمَّ إنا نقدّم إليك بين يَدَيْ كلِّ نعمةٍ ورحمةٍ، وبين يدي كلِّ عنايةٍ وحكمةٍ، وبين يدي كلِّ حياة ومماتٍ، وبين يدي كلِّ حيوانٍ ونباتٍ، وبين يدي كلِّ زهرةٍ وثمرةٍ، وبين يدي كلِّ صنعةٍ وصبغةٍ، وبين يدي كلِّ نظامٍ وميزانٍ، وبين يدي كلِّ سكونٍ وحركة في ذرات العالم ومركباتها شهادةً نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهوعلى كلِّ شيء قدير.. ونشهد أنّ محمدا عبدُه ونبيه وحبيبُه ورسوله أرسله رحمةً للعالمين.

اَللَّهُمَّ صلِّ على محمد بحرِ أنوارك، ومعدنِ أسرارك، وشمس هدايتك، وعين عنايتك، ولسان حجّتكَ، ومليك صنع قدرتك، ومثال محبتك، وتمثال رحمتك، وأحبّ الخلق إليك، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آلِ كلٍّ وصحبِ كلٍّ أجمعين، وعلى ملائكتك المقربين، وعلى عبادك الصالحين من أهل السماوات والأرضين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

سبحانك يا مَن يُسبح بحمدك هذا العالمُ بلسان محمد عليه أفضل صلواتك وأتم تسليماتك.

سبحانك يا من تسبح لك الدنيا بآثار محمد عليه أنمى بركاتك.

سبحانك يا من تسبح بحمدك الأرضُ ساجدةً تحت عرش عظمتك بلسان محمدِها عليه أزكى تحياتك.

سبحانك يا من يُسبح لك المؤمنون والمؤمنات بلسان محمدهم عليه صلواتك أبدا سرمدا.

سبحانك أُسبّحك بلسان حبيبك محمد عليه أكمل صلاتك وأجمل سلامك، فتقبّل مني برحمتك كما تقبّلته منه.

اعلم أن عظمة وُسْعَةِ عمومِ آيةِ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه (الإسراء:44) اقتضتْ تفسيرا، فتوجهتُ إليها فترشحتْ متقطرةً منها في قلبي كلماتٌ مفسِّرات لها، وسُلَّم مرقاةٍ للصعود إليها. فهي منها وإليها. فإن أحببتَ أن ترشُف تلك القطرات المفسِّرات المترشحات من عُمان تلك الآية، والنازلات من سماوات عظمتها، فاستمع بقلب شهيد ما سيأتي واقرأ معي هذا:

سبحانك ما عرفناك -نحن معاشر البشر- حقَّ معرفتك يا معروفُ، بمعجزات جميع مصنوعاتك وبتوصيفات جميع مخلوقاتك، وبتعريفات جميع موجوداتك..

سبحانك ما أعظمَ سلطانَك وأوضحَ برهانَك!

سبحانك ما ذكرناك حق ذكرِك يا مذكورُ، بألسنة جميع مخلوقاتك، وبذوات جميع مصنوعاتك، وبأنفس جميع كلمات كتاب كائناتك..

سبحانك ما أجلّ ذكرَك!

سبحانك ما شكرناك حقّ شكرك يا مشكورُ، بأثنية جميع إحساناتك على أنظار ذوي البصائر، وبإعلانات جميع نِعَمك في سُوق الكائنات على رؤوس الأشهاد، وبشهادات نشائد جميع ثمرات رحمتك المُفْرغة تلك الثمراتُ في قوالب النظام والميزان..

سبحانك ما أوسعَ رحمتَك!

سبحانك ما عبدناك حقَّ عبادتك يا معبودَ جميع ملائكتك وجميع مخلوقاتك بجميع أنواع العبادات وأصناف التمجيدات.

سبحانك ما سبّحناك حق تسبيحك يا مَن ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه.. آمنا.. نعم..

سبحانك يا من تُسبّحُ لك الملائكة بأجناسها المتفاوتة، بألسنتها المختلفة، بأذكارها المتنوعة.

سبحانك يا من تُسبّح لك هذه الكائناتُ بأفواه عوالِمها، وأركانِ عوالمها، وأعضاء أركانها، وأجزاء أعضائها، وجزئيات أنواعها، وحُجيرات جزئياتها، وبفُوَيْهَاتِ ذراتها وأثير ذراتها؛ بألسنة نظاماتها الحكيمة، وموازينها العالية، وأحوالها المنظومة، وكيفياتها الموزونة بصُنعك الحكيم.

سبحانك يا من تُسبِّح بحمدك الجنةُ بأفواهِ بساتينها بنشائد هي حورُها وقصائدُ قصورها، ومنظوماتُ أشجارها، ومتشابهاتُ ثمراتها الموزونة.. كما تسبّح لك أشباهُها هنا في ضرّتها.

سبحانك يا من يقلّب الليل والنهار وسخّر الشمس والقمر، تسبّح لك هذه السماوات، بمنظومات بروجها، بأفواه شموسها بكلمات نجومها، بلسان نظامها في ميزانها، وانتظامها في زينتها، وتلألئها في حشمتها، وانقيادها في مسخّريتها، وسكونتها في سكوتها، وحكمتها في حركاتها.

سبحانك يا من تُسبِّح لك طبقاتُ الجوبأفواه رعودها وبروقها ورياحها وسحابها وشهابها وأمطارها، بكلمات لمعاتها وقطراتها، بلسان نظامها في ميزانها في غاياتها وثمراتها.

سبحانك يا مَنْ تُسبِّح لك الأرضُ ساجدةً لعظمة قدرتك بمحمدها وقرآنها، بأفواه بحورها وجبالها وأنهارها وأشجارها، وبأصواتٍ واهتزازاتٍ صوتية -هما حيواناتها ونباتاتها- وبكلمات نورانية وحروف نورية -هما أنبياؤها وأولياؤها- بلسان نظامها وميزانها وحياتها ومماتها، وفقرها ويبسها، وتبرجها وتزينها، بإذنك الكريم وصُنعك الحكيم.

سبحانك يا من تسبح لك البحورُ بكلماتٍ -هي عجائبُ مخلوقاتها- وبمنظومات نغماتها بلسان نظامها وميزانها وحكمتها وغاياتها.

سبحانك يا مَن جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا، تسبّح لك الجبال بأفواه عيونها وأنهارها وأشجارها، بلسان نظاماتها وموازينها وغاياتها ومخازنها.

سبحانك يا من جعل من الماء كلَّ شيء حي.

ويا من تسبّح لك الحيوانات بأفواه حواسها وحسياتها وجهازاتها وأعضائها وصنعتها وصبغتها وعقولها وقلوبها، بألسنة نظاماتها وموازينها، وبأسئلة استعداداتها واحتياجاتها ودعواتها وتنعّماتها، في أمطارها، وتقلباتها في أطوارها وحياتها ومماتها.

سبحانك يا مَن تسبح بحمدك الهوامُ في الهواء عند دورانها بزمزمة هَزَجاتها بشكرك، والطيورُ في أوكارها مع أفراخها بسجعاتها ونغماتها شكرا لك، بلسان نظامهما وميزانهما، وصنعتهما ونقوشهما وزينتهما كما تناديان على إحسانك، وتصيحان على نعمتك بإظهار شكرك في وقت تلذذاتهما بثمرات نعمتك، وتنعماتهما بآثار رحمتك.. كما تسبّح بحمدك الحشرات في قرارها بدمدمتها، والوحوش في قفارها بغمغمتها بألسنة نظاماتهما وموازينهما وصورهما وأشكالهما وتنعماتهما الكريمة وتقلباتهما الحكيمة..

سبحانك ما ألطفَ صنعَك وما أنفذ حكمك!

سبحانك يا مَنْ تُسبّح لك الأشجارُ صريحا بغاية الوضوح عند انفتاح أكمامها، وتزايد أوراقها، وتكامل ثمارها، ورقص بناتها على أيادي أغصانها؛ بأفواه أوراقها الخضرة، وأزهارها المتبسمة، وأثمارها الضاحكة بلسان نظاماتها وميزانها وطعومها اللذيذة، وألوانها الجميلة، وروائحها اللطيفة، ونقوشها المستحسنة، وزينتها المستملحة.. كما تمجّدك وتنادي على كمال رأفتك، وتصف تجليات صفاتك، وتُعرّف جلوات أسمائك، وتفسر تحببك وسياستَك لمصنوعاتك؛ بما يترشح من شفاه ثمارها من قطراتِ لمعاتِ جلوات تحبُّبك وتعهّدك لمخلوقاتك..

سبحانك ما ألطفَ برهانك في إحسانك، وأزيَن لطفك في توددك!

سبحانك يا من تُسبّح لك النباتاتُ بكمال الوضوح والبيان عند تنوّر أزهارها وتبسُّمِ بناتها وانكشاف أكمامها واشتداد حبوبها، بأفواه أزاهيرها وسنابلها بكلمات حباتها المنظومة وبذورها الموزونة بلسان نظامها الأرقّ وميزانها الأدق.. كما تمجّدك وتعرّفك وتشفّ عن وجه تحببك، وتصف صفاتك وتذكر أسماءك وتفسر تودّدك وتعرفك إلى عبادك بما يتقطر من عيون أزاهيرها وأسنان سنابلها، من رشحاتِ جلواتِ توددك وتعرفك إلى مخلوقاتك.

سبحانك ما ألطفَ برهانَك وما أنوَرَه وما أحلاه وما أزيَنه!

سبحانك يا من أنـزل الحَديد فيه بَأس شَديد ومَنافع للناس، تسبِّح لك المعادنُ بأنواعها وأجناسها وأشكالها وخواصها وخاصياتها وفوائدها ونقوشها وتزييناتها، بلسان نظاماتها المرصوصة وموازينها المخصوصة.

سبحانك يا من تُسبّح لك العناصرُ باجتماعاتها المنتظمة بأمرك وقدرتك، وتركباتها الموزونة بإذنك وصنعك الحكيم.

سبحانك يا من تُسبّح لك الذراتُ بفُوَيهات تعيناتها ووظائفها بألسنة نظاماتها وموازينها، وعجزها المطلق في ذاتها مع حملها -بحولك- وظائفَ عظيمة، كما تشهد كلُّ ذرة منها على وجوب وجودك بلسان عجزها بنفسها عن تحمل ما لا تطيق هي على حملها من وظائفها العالية العجيبة في دقائق نظام الكون. حتى إن كلّا منها كمثل نحلة نحيلة حملت عليها نخلةً طويلةً، كما تشير كل ذرة منها إلى وحدتِك بنظر وظائفها وتوجه حركاتها إلى النظام العام المحيط الدال بالقطع على وحدة الناظم. ففي كل ذرة لك شاهدان على أنك واجب واحد. وفي كل شأن لك آيتان على أنك أحد صمد، بل وفي كل شيء لك شواهد وآيات على أنك واجبٌ واحد أحد صمد، جلّ جلالُك، ولا إله غيرُك، وحدك لا شريك لك.

 * * *

اعلم أن وجودك وحواسك وجوارحك إنما تنظر أولا وبالذات إلى صانعها الذي يربّيها ويدبّرها ووجوهُها متوجهةٌ إليه سبحانه، ولا تنظر إليك إلّا وظيفةً وبمقدار مالكيتك الموهومة.

فإن أشارت -لأجل حُسن تعهدك لها- إلى لمعةِ شعورك بكيفيةٍ حاصلةٍ من كسبك، فبالمشاهدة تصرّح بِعلمِ بارئها بما لا يحد من كيفياتها المنتظمة وأحوالها المتقنة.. وهكذا تُفصح بسائر أسمائه وصفاته المتجلية عليها.

وإن خَدَمَتْكَ بجهةٍ في دقيقة، خَدَمَتْ صانعَها بكل الوجوه في كل آن.. ومن خِدمتها تشهيرُها لغرائب آثار صنعة فاطرها الحكيم، وكذا امتثالُ الوظائف الفطرية المؤذنة بكمال الموازنة في سر التعاون المادي على لطائف رحمته تعالى ولفائفِ حكمته سبحانه. وكذا إعلاناتُها بلسان فهرستيَّتِها لغرائب الصنعة لمحاسن جلوات فاطرها الحكيم.

وإن نَظرتْ إليك بدرجة ما يصل إليها نظرُك السطحي وبمقدار ما يحيط بها علمُك الإجمالي، نظرتْ إلى صانعها بجميع ذراتها ومركباتها وكيفياتها وأحوالها، فما ميزان مالكيتك الموهومة إلا درجةُ نظرك وتصرفك فيها، وما هوإلا كقطرة من بحر، فاعرف حدَّك ولا تجاوز طورَك.

فوجودُك وتوابعه له وجهان: فبالوجه الناظر إلى الحق سبحانه له قيمة عالية غالية. وبالوجه الناظر إلى الخَلق لا قيمة له لفنائه وزواله.

إذ الوجه الأول يقول لك وللناظر: إنك صنعةٌ لطيفةٌ، وأثرٌ نظيف نـزيه لمن فطر السماوات والأرض. فحسبُك من الوجود وكمالِه ولذتِه وقيمته علمُك بأنك صنعةٌ للصانع الذي زيّن السماء بهذه النجوم والشموس، حتى صِرتَ أخا عزيزا صغيرا لهذا العالم، يخدمك أخوك الكبير.

والوجه الثاني يقول لك ناعيا باليُتم: إنك مجموعُ عناصر ترافقت باتفاقية عمياء، وعن قريب تتفرق بفراق أليم ومفارقة صماء. فلا تظلِم وجودَك بالتملّك ولا تَبْخَسْ حقَّه بقطعه عن الحق، المؤدي لإسقاطه من القيمة. فلا يقام له الوزنُ حينئذ؛ إذ قيمة ملايينِ سنة وألوفِ قنطار من هذا الوجود الأبتر المكفهر لا تساوي قيمةَ ذرة وآنٍ سيّالٍ لذلك الوجود المظهر المطهّر.. ألا ترى أنك ما اقتطعَك بارئُك اقتطاعا من مواد حاضرة، ولا أخذك أخذا من صُبْرة الكون، ولا اغترفَك اغترافا من بحر الوجود، كيفما اتفق؟ هل ترى في سُوق عالم الكون والفساد دكانا يُشترى منه العيون أومخزنا ادُّخر فيه الأدمغة والألسنة، أوماكينة تَصنع القلوب وتنسج الجلود؟ كلا ثم كلا! بل أنشأك بارئُك، واخترعك فاطرُك بصورة بديعة جامعة، وخلقك من شيءٍ كَلاشيءٍ، أومن كل شيء، حتى لا يطمع شيءٌ من الأشياء -ولوأعظمَ الأشياء الممكنة- في خلق شيء من الأشياء ولوأصغر الأشياء، وحتى لا يتطاول إلى دعوى خلق ذبابة مثلا من لا يقتدر على خلق السماوات.

فمن لا يقتدر على خلق كلِّ شيءٍ لا يقتدر على خلقِ شيءٍ مّا من الأشياء.

اعلم أن المادة التي يتصرف فيها الصانع الماهر فيُظهِر فيها صنعةً عجيبة قد لا تساوي قيمةُ تلك المادة عُشر مِعشار قيمة «الصنعة». كالزجاج الذي صُنع منه المرآة الإسكندرية مثلا. وقد تتوازن قيمةُ المادة والصنعة كالبقلواء النفيسة من يد طابخ حاذق، وقد تزيد عليها. وإن لكل من المادة وما فيها من الصنعة غاياتٍ وثمرات تغاير غاياتِ الآخر.

وأما مصنوعات الصانع الأزلي فأكثرها -بل كلُّها- من القسم الأول حتى كأن المصنوعَ صنعةٌ متجسمة، لاسيما ذوي الحياة، ولاسيما صغارِها التي تضاءلت فيها المادة وتلاشت في كثافة دقائق الصنعة، وقد يصير شيء واحدٌ غايةً لهما، لكن بجهتين كالرزق مثلا: فمن جهة المادة والحياة ما هوإلّا تغذٍ بتلذذ جزئي زائل لحفظ الحياة وبقائها.

وأما من جهة الصنعة المعلَنة المثمِرة لآثار جلواتِ الصانع، فالرزق كنـز عجيب لطيف، وخزينةٌ غريبة نظيفة، إذ في الرزق حينئذ التحسس بإحساس جميع النِعَم والشعور بها، والتذوق عند إذاقة أقسام تجليات أسماء الرزاق الكريم، والتشرف بها والتنوّر بفَهمها. فإن شئت فانظر إلى لسانك الذي هوواحد من ألوف آلات الارتزاق بالرزق المادي والمعنوي، كيف اشتمل هذا الجرم الصغير على جهازاتٍ ذائقاتٍ بعدد طعوم المذوقات. فإن انتبه وشَعَر ذواللسان شكرَ هذا اللسانُ بهذه الألسنة الدقيقات في جهازه، لطائفَ نِعَم مَن أذاقه برحمته هذه النعمَ اللذيذات.

نعم، ومن شُكرِ النعمةِ -بل ألذُّ من النعمة- الشعورُ بالإنعام، ودركُ التِفات المُنعِم.

اعلم أنه ما من مصنوع إلّا وهومنظوم، وما من مخلوق إلّا وهوموزون، قد أنشأه بارئُه صحيحا صريحا، وأنشده فاطرُه واضحا فصيحا. وإنّ ما يُرى في هذه الأشياء الدنيوية وما في أثاثات هذا البيت الفاني من «التنظيم» بحساب معدود وبنظام مسرود، ومن «التوزين» بموازين حساسة، والموازنة بمقاييس جساسة يرمزان بل يُفصحان بعظمة الحساب في الحشر وتحقق وجوده فيه، وإلى هيبة الميزان في عرصات القيامة، ووقوعه ووضعه فيها، إذ ما يشاهَد هنا ما هوإلّا بذور وأساسات ومباد ومبشّرات وشواهد وعلامات لمَا يتَسَنبلُ في الآخرة.

وإن كل ما نشاهد في هذا الكون ما هوإلَّا مصنوع، وأثرُ الصنعةِ عليه ظاهرٌ جلي، يكاد أن ينطق، ولا يُشاهَد صانعُه. وما يُتوهم من جنس الممكنات أنه صانعُ شيء، فهوأضعفُ وأعجز بمراتب غير محدودة من أن يكون صانعَه حقيقة. إذ لابد لتصنيع كل شيء وإنشائه لاسيما من جنس النباتات والحيوانات من آلات مختلفة، وتجهيزات متنوعة، وموازين حساسة كالموازين المستعملة في تركيب الأدوية والمعجونات. وليست فليس.. مع أن عند كل مصنوع ومعه وفوقه وفيه وتحته وقبله وآخره شيء، ومع ذلك الشيء كلُّ ما يلزم للمصنوع وجودا وبقاءً، وما ذلك الشيء إلّا من لمعات وتجليات أنوار قُدرةِ مَن خزائنه بين «الكاف والنون».

لكن، إنّ من الأسماء ما يقبل توسط الوسائط الظاهرية، فيتجلى ذلك الاسم في خلال الحُجُب، وخلفَ السرادقات؛ كالمتكلم، والرزاق، والوهاب، وأمثالها. وبعضها لا يقبل التوسيط ولوظاهريا؛ كالخالق، والموجِد، والمحيي، وأمثالها. كمثل السلطان مع النفر؛ ففي نفس أرزاقه وسلاحه ولباسه لا واسطة، وفي تحريكه وتعليمه وتوظيفه وتلطيفه تتوسط الوسائط، لكن بإذن السلطان. إلّا أن التوسط هنا لعجز سلطان البشر وضعفه. وهناك لعزة سلطان الأزل وعظمته.

اعلم أني رأيت على رأس شُجيرة نابتة في صخرة، نوعين من الثمرات، فتحيرت منه! فتحرّيتها فإذا أحد النوعين: ثمرتُها الخاصة بها يقال لها بالكردي «كِزْوان». والنوع الثاني كالباقلة بمقدار الأصابع، أوأصغر أوأكبر، مقوسة مجوفة كالمنـزل المعد للمسافرين. فأخذتُ من الثمرة الثانية واحدةً، وإذ فتحتها تسارعت إلى الطيران في الهواء طويرات، كالذر في الصغر، وهي التي تراها صافاتٍ كأخواتها من طويرات النمل والذباب، قبيل الغروب وهي ترقص في الضياء بجذبةِ الذكر، فلا تظنن أنهن لاهيات لاعبات؛ بل ما هن إلا مجذوبات ذاكرات للرحمن الذي يمسكهن في الهواء، وهي شبان وتُجعل لهن -وهي أجنة- هذه الباقلةُ -التي كما أنها لا تناسبهن لمخالفة الجنس ولا تناسب الشجيرة لمخالفة النوع- أوكارا كالأرحام لطيفةً حصينةً من أحسن الأوكار، فيها أرزاق نظيفة لذيذة.

فهذه الحالة تصرّح بأن هذه المعاملة إنما تصدر مِن نظرٍ وتدبير فوق نظرٍ هذا الجامد وهذه البهيمة؛ إذ لمّا لم يصلحا لهذا التدبير الحكيم؛ لزمتْ حوالة هذا التدبير على خارجٍ عليمٍ، وهذا الخارج المتصرف لابد من أول الأمر البتة أن يحيط بكل أفراد هذين النوعين في جميع أقطار الأرض. وكذا بما يتعلق بهما، وكذا بمهدهما بالضرورة القطعية. ولا يكون هكذا إلّا مَن هوعليمٌ بكل شيء، وقدير على كل شيء.

أسألك يا من يجوِّز تصرف غير الله في ملك الله، ويا من يقبَل إمكان وجود التصادف في بعض لطائف صنع الله! كيف تسمع، أم كيف تفهم، أم كيف تعلم هذه الشجيرةُ لسانَ الذبابة التي باضت على رأس غصنها، مودعة بيضاتها في يد حمايتها، حتى تشرع الشجيرة في ذلك الآن تتخذ بألطف شفقة أوكارا أمينة كأرحام الأمهات، أوأرحاما كالأوكار رفيعةً، ومهادا مهتزةً في الهواء. فتأخذ الشجيرة من خزينة الرحمة رزقا كافيا، وافيا، لذيذا، عزيزا. فتدخره في تلك الأوكار في سبيل الله لمن ليس من أبناء جنسها، ولا من جنس بناتها، بل لمسافرين هم وديعة الله. فما هذا «التجاوب» بين هؤلاء المصنوعات إلّا آية شاهدة بأنّ كليهما -بل الكل، بل كلّ ما في الكون- خُدام سيد واحد، وتحت تدبيرِ مربٍ واحد، وفي تربية مدبرٍ واحد، أحد صمد. آمنّا.

اعلم أن النظر إلى الهوام الذاكرات لفاطرها في جوالهواء بألسنة أحوالها وأطوارها ونقوشها المنظومة وأجسامها الموزونة المكتوبة كالكلمات المنقوشة كما تذكُر الله وتفهِّم ذكرَها لك -وإن لم تفهم هي بنفسها- بألسنتها المخصوصة وأصواتها الملفوظة، كأن كلَّ طُوَيرة منها كلمةٌ ناطقة بلسانها عينَ ما تنطق به ذاتها.. وكذا النظر إلى الحشرات المسبِّحات لخالقها في جوف الغبراء بألسنة نقوشها وتزيّناتها المكتوبة بقلم القدرة، كما تسبّح بكلامها الملفوظ المخصوص بها. لابد أن يفيدك أمورا أربعة:

فأولا: اطمئنان النفس بأنك في مأمن حصين وحصن أمين محاط من كل وجه بمولودات وأطفال وطفيلات تربيها شفقةُ عليم، وتدبّرها تربيةُ حكيم، وتزيّنها عناية كريم، وتحسن إليها رحمة رحيم. فأنت تحت نظر هذا العليم الحكيم الكريم الرحيم دائما..

وثانيا: لابد أن يفيدك ذلك النظر قناعة النفس، بأنك لستَ سدىً مهملا، غاربُك على عنقك تسرح كما تشاء، وأن لست موكولا مفوَّضا إلى نفسك العاجزة عن أدنى حاجاتك الغير المحدودة حتى تقعد ملوما محسورا، متوحشا عن عجزك المطلق وحاجاتك الغير المحصورة. لأجل أنك ترى في تلك الصغار نظاما تاما خاصا في عموميته، عاما في خصوصيته. وميزانا حساسا في وسعته، وجساسا بالاقتصاد والإمساك في عين سماحته.


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «نجم استقبال» بإستانبول سنة 1342هـ (1923م).

شَمَّة (3)

الرسالة العاشرة([1])

القطعة الثالثة من

شَمَّة

من نسيم هداية القرآن 


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ومن الله التوفيق لأقوم الطريق.

سبحانك يا من أنطق السماءَ بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.

ويا من أنطق الأرضَ بحمده وتسبيحه بكلمات الأشجار والنباتات.

وأنطق النبات والشجر بكلمات الأزهار والثمرات..

وأنطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات.

وأنطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبّات.

سبحانك يا من يسبح بحمدك الضياءُ بأنواره، والهواءُ بأعصاره، والماءُ بأنهاره،
والأرض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجوبأطياره،
والسحاب بأمطاره، والسماء بأقماره.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس الأنبياء، وزبرقان الأصفياء ونيّر
 الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين. وعلى آله نجوم الهدى،
وأصحابه مصابيح الدجى.


اعلم يا من يضيق ذهنُه عن فهم سرّ ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطينِ (الملك:5) أن للصعود إلى سماء هذه الآية سلّما ذا درجات سبعة:

الأولى: أن للسماوات سكانا يناسبونها يسمَّونَ بالملائكة، إذ امتلاء الأرض -مع حقارتها بالنسبة إلى السماء- من ذوي الحياة والإدراك، يشير بل يصرّح بامتلاء السماوات ذات البروج -تلك القصور المزينة- من ذوي الإدراك.

وكذا إن تزيينَ الكائنات بجميع هذه التزيينات والمحاسن والنقوش مستلزمةٌ لوجود أنظار متفكرين مستحسنين بالحيرة والتقدير؛ إذ لا يُظهَر الحُسن إلّا لعاشق، كما لا يُعطى الطعامُ إلّا لجائع، مع أنه لا يكفي الجن والإنسُ لعُشر معشار عَشِير هذه الحشمة والوظيفة، بل لا تقوم بها إلّا ما لا يُعد من أنواع الملائكة والروحانيات.

الثانية: أن للأرض علاقةً مع السماء ومعاملةً معها وارتباطا يجيء منها إليها أشياء، من الضياء والحرارة والبركات وغيرها. فبالحدس القطعي نعلم أن للأرضيّين طريقا يصعدون فيها إلى السماء، إذا خَفّوا بوضع أثقالهم وخلع أجسادهم كالأنبياء والأولياء والأرواح.

الثالثة: أنَّ سكونةَ السماء وسكوتها وانتظامها واطّرادها تدل على أن أهلَها ليسوا كأهل الأرض التي فيها اضطرابٌ وتذبذب واختلافات وامتحان بمشاجرات، بسبب اختلاط الأشرار بالأخيار واجتماع الأضداد، بل كلُّ أهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون.

الرابعة: أنَّ لمالك يوم الدين ولرب العالمين أسماءً متغايرةً أحكامُها، فالاسم الذي اقتضى إنـزالَ الملائكة للمحاربة في صف الصحابة مع الكفار، يقتضي وقوعَ المحاربة بين الملائكة والشياطين؛ أي السماويين الأخيار والأرضيين الأشرار. ألا ترى السلطان كيف يفعل؟ إذ قد يقتضي شأنُ سَطوته واسمُ حشمته تشهيرَ استحقاق المكافأة والمجازاة على رؤوس الأشهاد، أوإعلانَ تعظيم بعض خدامه، بأن لا يعامِلهم بعِلْمِه بهم فقط، وبتَلَفُونه الخاص، بل يأمر الوزيرَ فيحشّد الناسَ لميدان مبارزة محتشَمة، وامتحان عُلوي، واستقبال سياسي.

الخامسة: أنه لابد أن يقلِّد أشرارُ الروحانيات أخيارَهم في تشبث الذهاب إلى مملكة السماء للطافتهم، ولابد أن لا يقبَلَهم أهلُ السماء، بل يطردونهم لشراراتهم. ولابد في حكمة سلطنة الربوبية أن يكون لهذه المبارزة المعنوية والمعاملة المهمة علامةٌ وإشارةٌ في عالم الشهادة لإشهاد الإنسانِ الذي أهمُّ وظيفته المشاهدةُ والشهادةُ مع أنه لا يَرى فيما بين الحادثات السماوية أنسبَ من إعلان هذه المبارزة العلوية من رمي الشُهب المشابِهة للمنجنيقات المُرماةِ من بروج الحصون الرفيعة، مع أنه لا يرى لهذه الحادثة حكمةً تناسبها غيرَ هذه الحكمة المشهورة المشهودة لجميع أهل الحقيقة، خلافَ سائر الحادثات.

السادسة: أنَّ القرآن الحكيم المعجز يرشد البشرَ ويزجرُه من العصيان بأسلوب غال ومثَل عال.. فانظر إلى إنذارِ ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْاِنْسِ اِنِ اسْتَطَعْتُمْ اَنْ تَنْفُذُوا مِنْ اَقْطَارِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ فَانْفُذُواۜ لَا تَنْفُذُونَ اِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33). الآيةُ في تعجيز الثَقلين، وإعلان عجزهما في جنبِ وُسعةِ سلطنة الربوبية، كأنّهُ يقول: أيها الإنسان الحقير الصغير العاجز! كيف تعصي سلطانا يطيعه الشموسُ والأقمارُ والنجوم والملائكة الذين يرجمون الشياطينَ ببنادقَ كأنها جبالٌ بل أعظم! وكيف تتجاسر على العصيان في مملكةِ سلطانٍ؛ مِن جنوده مَن يقتدر أن يرميَ في وجه الأعداء بنجومٍ في عظمة أرضكم كما ترمي جَوزَك وبندقتك.

السابعة: أنَّ النجم كالمَلك والسَمَك له أفراد في غاية الصغر وفي غاية الكبر. فكل ما يضيء في وجه السماء فهونجم، فمن هذا النوع ما يُزَيّن به السماء كالجواهر والأثمار والأسماك، ومنه ما يُرجم به الشياطين كالمنجنيقات المرماة للطرد، أوللإشارة إلى وجود الحارسين المتيقظين المطيعين المجتنبين عن اختلاط العاصين، أوللرمز إلى جريان قانون المبارزة في أوسع الدوائر.. ولله الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

اعلم أن الآيات المصرِّحة بكتابة الأشياء قبل كونها وبعد كونها كثيرةٌ، كأمثالِ ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ﴾ (الأنعام:59). ويصدّقها منظوماتُ مكتوباتِ كتابِ الكائنات وموزوناتُ آياتها، لاسيّما آياتُ النظام والميزان والانتظام والتصوير والتزيين والامتياز.

أما قبل الكون، فالدليلُ جميعُ المبادي والبذور وجميعُ المقادير والصور، إذ ما البذور إلا صُنيدقات لطيفةٌ أُودعت فيها فهرستةُ ما رسمَه القَدر، فتبني القدرةُ وتستخدم الذرات على هندسته. وما المقادير إلّا مكتوباتٌ قدَرية منظومة، وقوالبُ علمية موزونة؛ إذ الذرات الصم العمي الجامدة تتحرك في نموالأشياء ثم تتوقف عند حدود معوجّة، توقفَ سميعٍ بصير بمظانّ الفوائد والثمرات. وهكذا فقس كثرة براهين الكتابة قبل الكون.

وأما الدليل على الكتابة بعد الكون؛ فمن العالَم جميعُ الثمرات التي هي كمطوياتِ صحائفِ أعمالِ الأشجار والأزهار، تَنشرُ على رأس الأشهاد ما جرى على رؤوس أُصولها، إذا دُفنت في الأرض وحُشرت في الربيع. ومن الإنسان قوّّته الحافظة التي هي في محل كالخردلة في الصغر، وما هي إلّا كسَنَدٍ استنسخته يَدُ القدرة بقلم القَدر من صحيفة الأعمال، وأعطَتْه ليد الإنسان ليتذكّر به وقتَ المحاسبة، وليطمئن أن خلفَ هذا الهَرج والمَرج والفناء والزوال مرايا للبقاء رَسَم فيها القديرُ هويّات الزائلات، وألواحا يكتب فيها الحفيظُ العليم معانيَ الفانيات.

اعلم أنه كما أن الساعة غيرُ ثابتة بل متزلزلة مضطربة الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى أيضا متزلزلة؛ فبإدراج الزمان فيها صار «الليلُ والنهار» كميلين يعدّان ثوانيها، و«السنة» إبرةً تعدّ دقائقَها، و«العصر» كإبرة تعد ساعاتها. وبإدراج المكان فيها صار «الجو» بسرعةِ تغيره وتحوله وتزلزله كمِيل الثواني، و«الأرضُ» بتبدل وجهها نباتا وحيوانا موتا وحياةً كميل الدقائق، وبتزلزل بطنها وتولد «جبالها» كميل الساعات. و«السماء» بتغيراتها بحركات أجرامها وظهور ذوي الأذْناب والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعد الأيام.

فالدنيا المبنية على هذه الأركان السبعة -مع أنها واصفةٌ لشؤونات الأسماء ولكتابة قلم القدرة والقَدر- فانيةٌ هالكة متزلزلة راحلةٌ كالماء السيال في الحقيقة. لكن تجمّدت -صورةً- بالغفلة، وتكدّرت بالطبيعة فصارت حجابا عن الآخرة.

فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودَتها وكُدورَتَها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعية. وأما القرآن فينفش الدنيا كالعهن المنفوش بآياته، ويشفّفها ببيّناته، ويذيبها بنيّراته، ويمزّق أبديتَها الموهومة بنعياته، ويفرّق الغفلةَ المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقةُ الدنيا المتزلزلة تَقرأ بلسان حالها المذكورة آيةَ

﴿وَاِذَا قُرِئَ الْقُرْاٰنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَاَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف:204).

اعلم أن مميّز الإنسان عن الحيوان شمولُ علاقته بالماضي والمستقبل، وكليةُ إدراكه بالأنفس والآفاق.. وكشفُه لترتب العلل الظاهرية في إنشاء الأشياء الظاهرية. فأعظمُ وظيفته وأقدمُها، وأتم جهازاته وألزمُها؛ التسبيحُ والتحميد بالجهاز المخلوق لهما، فيسبّح الإنسانُ صانعَه بلسان الماضي والحال والمستقبل، وبألسنة الأنفس والآفاق. وبسر مشاهدته لتسبيحات المخلوقات وشهادته عليها يُثني على صانع الأشياء بقراءة أسمائه المكتوبة بالترتيب والترتب في حكمة صُنع الأشياء. فـ«سبحان الله» يتضمن معنى الحيرةِ والتقدير، ومعنى التعجب والاستحسان، ومعنى التنـزيه والتقديس، ومعنى الهَيبة مع المحبة، ومعنى المجهولية للعظمة.

اعلم أن لله عطايا وقضايا ومقدرات.. ينفذ العطاءُ في القضاء، والقضاءُ في القدَرَ. أي يخرق العطاءُ قانونَ القضاء. كما تنخرق صلابةُ الحجر والتراب عند مرور العروق اللينة، وتنكسر مقاومةُ الحديد للمَيل اللطيف من الماء اللطيف عند الانجماد، ويُخرق لسهم القضاء قانونُ القَدر كما ينخرق القانونُ الكلي الذي هوقَدَرُ النوع بشذوذ الجزئيات الخارقة المخصّصة للإشارة إلى أنه سبحانه فاعلٌ مختار، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، ويَحْكُمُ ما يريدُ، لا مانع لما أعطى، ولا رادّ لما قضى.. فنسبة العطاء إلى القضاء كنسبة القضاء إلى القَدر، أي العطاء شذوذٌ عن قانون القضاء كما يقول العارف بحقيقة الحال: «يا إلهي إن حسناتي من عطائك، وسيئاتي من قضائك. لولا عطاؤك لكنت من الهالكين». أي استعداد النفس الأمارة بالسوء قانونُ شر وهلاك.

اعلم أن السر في تختيم الآيات بفذلكات متضمنة للأسماء الحسنى كأمثال آية الملك، أوبعين الأسماء كما في كثير من الآيات، هوأن القرآن الحكيم ببيانه الإعجازي يبسط الآثار للنظر، ثم يستخرج منها الأسماء، كأمثال آيةِ ﴿وَهو الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهو اَهونُ عَلَيْهِۜ وَلَهُ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهو الْعَزيزُ الْحَكيمُ (الروم:27).

وكذا ينشر للبشر منسوجاتِ صُنعه، ثم يطويها في الأسماء.

وكذا يفصّل أفاعيلَه ثم يَجْملها بأسمائه.

وكذا يرتّب المخلوقات ويشفّفها بإراءة النظام والميزان والفوائد، ثم يريك فيها الأسماء كأن تلك المخلوقاتِ ألفاظٌ، وهذه الأسماء معانيها أوماؤها أونواتها إيجادا وخلاصتها علما.

وكذا يذكر الجزئيات المادية المتكيفةَ المتغيرة، ثم يُجمِلها بالأسماء الكلية النورانية الثابتة.

وكذا يفرش الكثرةَ المتوسعة المنتشرة، ثم يضع عليها مظاهرَ الوحدة كجهة الوحدة.

وكذا يُظهِر بإظهار غاياتِ المسبَّبات بُعْدَ ما بين الأسباب والمسبَّبات المتصلتين في الظاهر، كما يُرى تماسُّ الأفق بالسّماء في ظاهر النظر، مع أن ما بينهما مسافة مدهشة. إذ لا طاقة لأعظم الأسباب بذاته على حَمل أخف المسبَّبات، فيُظهر القرآنُ بإظهار هذا البُعد محلَّ ظهور الأسماء ومَطَالِعها.

وكذا قد يذكر أفاعيلَ الخلق فيهدّد، ثم يسلّي بأسماءٍ تشير إلى الرحمة.. وقد يذكر مقاصدَ جزئيةً، ثم يقررها بأسماء هي كالقواعد الكلية والبراهين عليها.

اعلم أن العجز كالعشق طريقٌ موصلٌ إلى الله بل أقرب وأسلم. ثم إن أهلَ السلوك سلكوا في طرق الخفاء على اللطائف العشرة، وطرق الجهر على النفوس السبع.. وهذا العاجز استفاد من القرآن طريقا قصيرا، وسبيلا سويا هوأربع خطوات:

الخطوة الأولى: ما أشارت إليها آيةُ ﴿فَلَا تُزَكُّٓوا اَنْفُسَكُمْ (النجم:32).

والثانية: ما أشارت إليها آية ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسُوا اللّٰهَ فَاَنْسٰيهُمْ اَنْفُسَهُمْ (الحشر:19).

والثالثة: ما أشارت إليها آيةُ ﴿مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء:79).

والرابعة: ما أشارت إليها آيةُ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ (القصص:88).

وإيضاحه: أن الإنسان بحسب جبلّته محبٌّ لنفسه، بل لا يحب بالذات -في الأول- إلّا ذاتَه، فيمدح نفسَه مدحا لا يليقُ إلّا بالمعبود، ويدافع عن نفسه بشدة وينـزّهها عن المعايب ولا يقبل القصورَ لها ما أمكنه، حتى كأنه يصرفُ الجهاز المخلوق فيه لحمد معبوده وتسبيحه إلى نفسه، كـ ﴿مَنِ اتَّخَذَ اِلٰهَهُ هوٰيهُ (الجاثية: ٢٣). فلابد من تزكيتها هنا بعدم تزكيتها.

والثانية: نسيانُ النفس في مقام الكُلفة والخدمة، وشدةُ التزامها في مقام أَخذ الأُجرة والحظوظات. فتزكيتُها عكسُ هذه الحالة أي عدم النسيان في عين النسيان.

والمرتبة الثالثة: لا يرى من نفسه إلّا القصورَ والنقص والعجز والفقر، ويرى كلَّ المحاسن نِعَما من جانب فاطره تقتضي الحمد لا الفخر، فتزكيتُها في هذه المرتبة؛ علمُها بأن كمالَها في عدم كمالِها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها.

والخطوة الرابعة: دركُ أنه في نفسه وبالمعنى الاسمي فانٍ مفقودٌ حادثٌ معدومٌ، وبالمعنى الحرفي -والمرآتيةِ لأسماءِ صانعه- شاهدٌ مشهودٌ وواجدٌ موجودٌ. فتزكيتُها هنا معرفةُ أن عدَمَها في وجودِها، ووجودَها في عدمِها، ووِردُها: «له الملك وله الحمد».

وكذا إن مشرب أهل وحدة الوجود يذهب إلى إعدام الكائنات بنفي وجودها، ومشرب أهل وحدة الشهود يذهب إلى حبس الموجودات في سجن النسيان المطلق.. وأما ما أَفهمُ من منهاج القرآن فهوعفوها عن الإعدام والحبس، بل استخدامُها في وظائفِ إعلان الأسماء الحسنى بالمظهرية والمرآتية؛ بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وعزلُها عن الخدمة بالمعنى الاسمي وبحساب نفسها.

ثم إن الإنسان في وجوده دوائرُ متداخلةٌ ومصنوعات متراكبة؛ إذ هونبات، وحيوان، وإنسان، ومؤمن.. فالمعاملة للتزكية قد تقع أولا في الطبقة الرابعة الإيمانية. ثم تتنازل إلى النباتية التي هي شديدة المقاومة، وقد تقع المعاملة في الكل في اليوم والليلة. ومما غَلِط فيه الإنسانُ عدمُ الفرق بين تلك المراتب فيقول: خُلق لنا ما في الأرض جميعا؛ فأولا يغلط بظن انحصار الإنسانية في معدته النباتية أوالحيوانية، ثم يغلط بانحصار غايات الأشياء في ما يؤول إلى نفسه. ثم يغلط بتقدير قيمة الأشياء بمقياسِ مقدار منفعته منها، فلا يشتري نجم الزهرة بزهرةٍ مشمومة.

اعلم أن العبوديةَ نتيجةُ النعمة السابقة وثمنُها، لا مقدمةُ المكافآت اللاحقة ووسيلتها.

أيها الإنسان! أخذتَ أجرتك؛ إذ صنَعك هكذا في أحسن تقويم ثم تَعرَّفَ إليك بإعطاء الإيمان.

نعم، كما أنه بإعطاء المعدة أنعمَ عليك بجميع المطعومات.. كذلك بإعطاء الحياة صيَّر لك عالمَ الشهادة سُفرةً مملوءَةً من النِّعم. فانظر إلى تفاوت السُفرتين. وكما أنه بإعطاء النفس الإنساني جعل لهذه المعدة عوالمَ المُلك والملكوت مائدةً مشحونة بالنِّعم.. كذلك بإعطاء الإيمان فرشَ لك مع الموائد المزبورة موائدَ مدخراتِ كنوز أسمائه.. وبإعطاء محبته فَتَح لك ومنَحك ما لا يوصف، فإذا أخذتَ مثل هذه الأجرة، فعليك بالخدمة. فإذا أعطاك بعد العمل نعمةً أخرى فما هي إلّا من محض الفضل.


[1] هذه الرسالة بكاملها غير موجودة في الطبعة الأولى، وإنما هي في المخطوط وفي الطبعة التالية وهى رسالة مستقلة في الترجمة التركية. تضم خلاصة لكثير من مباحث رسالة «المدخل إلى النور» والتي فصّلت في «الكلمات».

شَمَّة (1-2)

الرسالة التاسعة([1])

 شَمَّة

من نسيم هداية القرآن


في (ط1)

إفادة المرام

اعلم أيها الناظر! إني أسمع من الناس شكايةً عن الغموض في آثاري، فاستمع مني ثمانية كلام:

فأولا: لا تعجل لعتابي لأجل الإشكالات، إذ مخاطبي نفسي الدساسة، وهي تفهم بسرعةٍ أجوبةَ أسئلتِها المخطئة ولوبالرمز.

وثانيا: إن كل مسألة افتتحت بـ«اعلم» سلاحٌ قاطع، ودواءٌ نافعٌ، أُعطِيتُه من حيث لم أحتسب، في وقت شدة احتياجي وكثرة جروحي. فليس لي في الكتاب مالٌ إلّا ما ليس في الكتاب من الألم والجرح والداء المستتر في الضمير. وأما المذكور في الكتاب من الدواء والسلاح وذوق الحق، فليس مني، ولا مما مضغه فكري، بل من فيض القرآن الكريم.

وثالثا: إني لا أبالي بتنقيد الناس؛ إذ لله الحمد إني لا أعرف الآن لنفسي غيرَ القصور والعجز وما تستحق من الذم. فإذا أردتُ التمدحَ والافتخار بأثري لا أرى إلّا ما أخجل به وأفتضح، إلّا أن الله ستّارُ العيوب. فكما لا قيمة لنفسي حتى أبتهجَ متصنعا بما يُظَن محاسنَ وهي في الحقيقة مساوئ، كذلك لا أقيم لنفس غيري المتكدرة بالأنانية أيضا وزنا، حتى أتصنّعَ له بالرياء الكلاميّ والتصلف في العبارة. إلّا أنه يليق أن تُلبَس الحقايقُ ما يليق بها.. ولكن هيهات أنا عاجز وأعجمي وخام لا أطيق أن أنسج غيرَ ما ترونه من أساليبي المشوشة، فأعترف وأنادي بأعلى صوتي: بأني عاجز، قاصر في الإفهام. لكن أقول تحديثا بالنعمة وأداءً للأمانة بأني لا أخدعكم، إنما أكتب ما أشاهد أوأتيقن عين اليقين أوعلم اليقين.

ورابعا: لا تحسبنَّ أن ما أكتبه شيء مضغَتْه الأفكارُ والعقول. كلا! بل فيضٌ أُفيض على روحٍ مجروح وقلب مقروح، بالاستمداد من القرآن الكريم، ولا تظنه أيضا شيئا سيالا تذوقه القلوب وهويزول. كلا! بل أنوارٌ من حقائقَ ثابتةٍ انعكست على عقلٍ عليلٍ وقلبٍ مريضٍ ونفسٍ عمي.

وخامسا: إني ما أدري كيف صار عقلي ممزوجا بقلبي، فصرت خارجا عن طريق أهل العقل من علماء السلف وعن سبيل أهل القلب من الصالحين، فإن وافقتُهما «فبها ونعمت»، وإن خالفتُ في كلامي أيّ السبيلين منهما فهومردود عليّ.

وسادسا: لا تطلب في آثاري انتظاما وانسجاما ووضوحا، لأنها تقيِّد وتلخّصُ مشاهداتي في تحولات غريبة ومجرَّبات نفسية مختلفة، مع أمور أخرى، لواطّلعتَ عليها لعذّرتني.

وسابعا: لا تقل: إذا لم أدرِ الكلَّ، لا أُريد الكلَّ.. فإذا كنتَ في بستان أتترك كل الثمرات إن لم تأكل كلها.

وثامنا: إن ما يصادفك في المسائل من صورة البرهان والاستدلال ليس برهانا حتى يقالَ: فيه نظر! بل مبادئ حدسية قُيّدت وعُقدت واستُحفظت بأنوار اليقين المُفاضة من القرآن الكريم.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين على رحمته على العالمين برسالة سَيد المرسلين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

اعلم أن العالمَ بجميع أنواعه من طبقات الغيب والشهادة يشهد بأنه: «لا إله إلَّا هو» إذ التساند بينها هكذا يقتضي.. وبجميع أركان جميع أنواعها من المنظومة الشمسية وغيرها تشهد بأنه: «لَا رَبَّ إلَّا هو» إذ التشابه مع التناظر هكذا يقتضي.. وبجميع أعضاء جميع أركانها من أرضنا وغيرِها تشهد بأنه: «لا مَالِكَ إلَّا هو» إذ التماثل مع اتحاد السكة هكذا يقتضي.. وبجميع أجزاء جميع أعضائها من طوائف النباتات وقبائل الحيوانات تشهد بأنه: «لا مُدبِّر إلَّا هو» إذ التعاون مع الاشتباك هكذا يقتضي.

وبجميع جزئيات جميع أجزائها تشهد بأنه: «لا مُربّيَ إلَّا هو» إذ توافق الأفراد في أساسات الأعضاء يصرّح باتحاد القلم وبأن المربّي واحدٌ، وتمايزُها في الصور المنتظمة ينصّ على أن الكاتب مختارٌ حكيم.. وبجميع حُجيرات جميع جزئياتها تشهد بأنه: «لا مُتَصَرف في الحقيقةِ إلَّا هو» ولا تصرفَ إلّا تحت أمره التكويني؛ إذ لولم يتحد لَلَزم وجود متصرِّفين غير متناهين، مع أنها أضدادٌ أمثال ومع أنها مستقلين أُسراءُ، ومع أنها مطلقين مقيَّدين مع محالات أُخر كثيرة.. وبجميع ذرّات جميع حُجيراتها تشهد: بأنه: «لَا نَاظِمَ إلَّا هو» إذ اتحّاد الخيط بين الجواهر الفردة هكذا يقتضي.. وبعموم أثير ذَراتها تشهد بأنه: «لا إلهَ إلَّا هو» إذ بساطةُ الأثير وسكوته وانتظاره وسرعة امتثاله لأوامر الخالق هكذا يقتضي.

اعلم أنّه لا حقَّ لأحدٍ في التشكي والاعتراض على صانع العالم؛ إذ في إرضاء الفرد المشتكي إغضابُ أُلوفِ حِكَمٍ متدلية في نظام مقتضٍ لكسر هوس ذلك الفرد ﴿وَلَو اتَّبَعَ الْحَقُّ اَهوٓاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمٰوَاتُ وَالْاَرْضُ﴾ (المؤمنون:71).

فيا أيها المشتكي! مَن أنت حتى تعترض وتصيّر هوسَك الجزئي مهندسَ كليّات الكائنات، وتجعل ذوقَك الفاسد مقياسَ درجات النِعم؟ وما يدريك لعلّ ما تراه نِقما عينُ النِعَمِ؟ ومَن أنت حتى يُغيَّرَ حركةُ دواليب العالم و«جرخ الفلك» لتسكين هوسِك الذي لا يوازي جناح البعوضة، ولا يملأ نواةَ التينة؟ لكن لك أن تشتكي إليه، لا منه؛ إذ لك منك حَبَّة من صُبرة، والمملوك لا يملك. فاعرف حدَّك ولا تجاوز طورَك.

اعلم أن مَن يتصرف في حُجيرة من عضومن جسد، لابد أن يتصورَ الجسدَ أولا، ثم يتصرّفَ لنظر نسَب الجزء إلى نقوش الكلّ ووضعيته. فالتصرف في الحجيرة تحت أمر خالق الكل البتة.

اعلم أن من يحفظ بيضات الهوام والسمك، وبذورَ الحشرات والنباتات، حفظا رحيما نظيما حكيما، كيف يليق بحفيظيته وحكمته أن يهمل ولا يحفظ أعمالَك التي هي نواتات لأشجارٍ مثمرة في الآخرة، وأنت حاملُ الأمانة وخليفةُ الأرض؟ مع أن شدّة حسّ حفظ الحياة في كل حي، وشدّةَ حسّ التأليف للبقاء والإدامة بين المتباينات المجتمعة يدلان بالحدس الصادق على أن الوجود ينجرّ إلى البقاء الأبدي بتجلي اسم «الحي الحفيظ الباقي».. وأيضا رمزٌ من القدَر الإلهي إلى أن في الفاني ما يبقى.

اعلم أن من يحفظ بذر التينة مثلا في الأطوار ويحميه في الأدوار ويصونه عن الانحلال ويحفظ في تلك البذيرة لوازمات شجرة التينة بكمال الاهتمام والمحافظة، وهكذا سائر النباتات والحيوانات.. لا يهمل -ذلك الحفيظ- البتةَ أعمالَ البشر خليفة الأرض بالضرورة وبالحدس الصادق.

اعلم أن المعنى يبقى واللفظ يتبدل، واللب يبقى والقشر يتمزق، والجسد يبقى واللباس يتخرّق، والروح يبقى والجسد يتفرق، و«أنا» يشبّ والجسد يشيب، والواحد يبقى والكثير يبلى، والوحدة تدوم والكثرة تتمزق، والنور يبقى والمادة تتحلل. فالمعنى الذي يبقى من أول العمر إلى الآخر، مع تبديله لأجسادٍ، وانتقالِه في أطوار، وتدحرجِه على أدوار مع محافظة وحدانيته، يدل على أنَّه يتخطى على الموت أيضا وينسلّ من كلاليبه، متشققَ الجسد، عريان الروح، سالما في طريق الأبد. وشدّة دستور الحفظ والمحافظة في الماديات التي الأصلُ فيها الفناء، تدل بالحدس القطعي وبالطريق الأَولى على جريان ذلك القانون الباقي في المعنى والنور والروح الواحد البسيط، التي الأصلُ فيها البقاء.

اعلم أن عظمة الألوهيّة وعزّتَها واستقلالَها تستلزم دخولَ كلِّ شيء -مطلقا: عظيما أوحقيرا، أعظمَ الأشياء وأخَسَّها- تحت تصرفها. فخستُك وحقارةُ أحوالك لا تستلزم خروجَك. إذ بُعدُك لا يستلزم بعدَه، وحقارة صفتك لا تستلزم حقارةَ وجودك. وتلوث وجه المُلك فيك، لا يستلزم تلوثَ ملكوتك.. وكذا لا تستلزم عظمةُ الخالق خروجَ الحقير عن تصرفه، إذ العظمةُ الحقيقية تستلزم الإحاطةَ، والانفرادَ في الإيجاد.

اعلم أن المادي الكثيف كلّما تعاظم تباعدَ عن الدقائق والخفايا وتقاصر يدُه عنها. وأما النور فكلّما تعاظم وتعالى كان أتمَّ نفوذا في الخفايا والدقائق. وكلما كان النور ألطفَ كان أكشفَ لباطن الشيء كشعاع «رونتكن». فإذا كان هذا هكذا في الممكن المسكين والكثرة المشوشة، فكيف بنور الأنوار من طرف الوجوب والوحدة العالِمِ بالأسرار ومدبّر الليل والنهار؟ فعظمتُه تستلزم الإحاطةَ والنفوذ والشمول.

اعلم وانظر إلى كمال مراعاة القرآن ومماشاته وتأنيسه لأفهام جمهور العوام الذين هم الأكثر المطلق؛ إذ يَذكر في المسألة ذاتِ الدرجات الدرجةَ القريبةَ إليهم، والصحيفةَ الواضحة لنظرهم، وإلّا لزم أن يكون الدليل أخفى من النتيجة. فالقرآن يذكر الأشياء الكونية للاستدلال على صفات الخالق جلّ جلاله. فكلما كان أظهرَ لفهم الجمهور كان أوفق للإرشاد.

مثلا: يقول:

﴿وَمِنْ اٰيَاتِه خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ﴾ (الروم:22) مع أن خلفَ طبقة الألوان مسافاتِ تعيّناتِ الوجهِ كما أُشير إليها في «ذرّة» ويقول: ﴿اِنَّ في خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَاٰيَاتٍ﴾ (آل عمران:190) مع أن تحت صحيفة الليل والنهار المقروءة بأول النظر عجائبَ نقوشِ تحريكِ الأرض على نفسها وتدويرها حول الشمس. ويقول: ﴿وَالْجِبَالَ اَوْتَادًا﴾ (النبأ:7) مع أن تحت ما يُرى من صورة سفينة الأرض وخيمتها المرساة المربوطة بالعمد والأوتاد تسكينَ غضب الأرض التي ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (الملك:8) بسبب الهرج والمرج في بطنها وإسكات غضبها بخلق الجبال فتتنفس الأرضُ من منافذها، فتهتز بالزّلزلة فقط، بدل التمزق لولا الجبال، وتحت هذه الصحيفة أيضا جعل الجبال مخازنَ الماء ومشّاطةَ الهواء وحاميةَ التراب من استيلاء البحر والتوحل. وهذه العناصر أوتادُ حياة الحيوان، الذي الناطق منه «وتد» الدنيا. فقس على هذه أمثالها.

ومن هذا السر ترى الشريعةَ تعتبر رؤيةَ الطلوع والغروب، دون الحساب الحقيقي.. ومن هذا السر أيضا التردادُ للتثبيت، والتكريرُ للتقرير في القرآن الحكيم.

اعلم أن حقائق الآيات أوسع بمراتبَ من خيالات الأشعار، فتنـزّهتْ عن الشعرية. والمتكلمُ خلف الآيات يبحث عن شأنه وفعله، وفي الشعر فضوليٌّ يبحث عن غيره. والقرآن الباحث عن العاديّات في الجملة خارقٌ للعادة، والشعر الباحث عن خوارق العادات في الأكثر عادي.

اعلم أن مرايا وحدة الخالق وصحائفَ شواهدِها متعدّدةٌ متنوعة متداخلة متحدة المركز غيرُ محدودة؛ فتنوُّر واحدٍ في النظر المتبصر يستلزم تنوّرَ الكل، وبفتح واحدٍ يمكن بالدّخول فتحُ الكل، دون العكس؛ إذ انسدادُ واحد لاسيما الأدنى لا يستلزم انسداد الكل. مع أن النفسَ الأمارة بتعليم الشيطان تكذِّب الأصلَ الصادق وتصدّق بالعكس الكاذب.

اعلم أنه كما لا يمكن أن يكون كاتبُ الكلمة غيرَ كاتب الحرف، وكاتب السطر غيرَ كاتب الصحيفة، وكاتُبها غيرَ كاتب الكتاب.. كذلك لا يمكن أن يكون خالقُ النملة غيرَ خالق جنس الحيوان، وخالقُه غيرَ خالق الأرض، وخالقُها غيرَ رب العالمين.

ومن إشارات الربوبية المطلقة العامة كتابةُ كلمةٍ أوكلام أوكتاب في حرف كبير، لرمز عمومِ الشعور والإحاطة كخلق السمك في حرف البحر، وخلق دابة الأرضة في سطر الشجر، وخلقِ الحيوان في نقطة الأرض، والنملِ في كل موضع يُظَن أنه جامد مهمل متروك، حتى إن بعض المصنوعات كصورة «يس» كتبت فيها سورة «يس».

اعلم أن هذه النجومَ والشموس متماثلة متساوية في الجملة، فليس ربُّها منها بالضرورة، وربُّ واحدِها ربُّ كلِّها وربُّ كل شيء.

……

اعلم أن الفردَ الإنسان جماعةٌ من المكلَّفين، ولكل فردٍ من حواسه -ظاهرا وباطنا- عبادةٌ تخصُّه، وضلالةٌ تفسِّقُه. فكما أن سجدةَ الرأس لغير الله ضلالة، كذلك سجدةُ خيال الشعراء بالحيرة المفرطة والمحبة الوالهة في مدح غير الله -لا بحساب الله- أيضا ضلالةٌ يَفْسُق بها الخيالُ. وقس على الخيال إخوانَه.

اعلم أن من أَعمّ أسباب ضلالة فكر البشر؛ ظَنَّ المألوفِ معلوما، مع أن الألفةَ تتضمّن الجهلَ المركب، فبحُكمِ الألفة لا يتأملون في العادّيات المستمرة مع أنها كلَّها خوارقُ معجزاتِ القدرة، وما يمُعنون النظر إلا في ما فوق العاديّات من نوع التجليات السيالة، كمَن لا ينظر من مجموع البحر -مع ما في بطنه من الحيوانات- إلّا إلى تموّجاته بالهواء وتلألئه بشعاعات الشمس، فيستدل بهذين الحالتين فقط على عظمة مالك البحر وصانعه جلّ جلاله.

اعلم أن أكثر معلومات البشر الأرضية ومسلّماته، بل بدهياته مبنية على الألفة، وهي مفروشة على الجهل المركب. ففي الأساس فسادٌ أي فساد. فلهذا السر توجِّه الآياتُ أنظارَ البشر إلى العاديات المألوفة، وتثقب نجومُ القرآن حجابَ الألفة، ويأخذ بأُذُن البشر ويُميل رأسه، ويريه ما تحت الألفة من خوارق العادات في عين العاديات.

اعلم أن المناسبة حتى المكالمة لا تستلزم التساوي ولا التداني ولا التشابه؛ فقطرة المطر وزهرة الثمر لهما مناسبة ومعاملة مع الشمس. فيا أيها الإنسان! لا تحسبن أن حقارتَك تسترك عن نظر عناية خلاق الكون.

اعلم أن ما اشتهر من وقوع بسط الزّمان وطيّهِ لبعض الأولياء كما وقع للشعراني في مطالعته للفتوحات المكية، في يوم واحد مرتين ونصفا، كما في آخر «اليواقيت والجواهر» لا ينبغي أن يُستغرَب فيُستَنكر؛ إذ فيما تراه له نظائر تقرّبه إلى الفهم؛ ألا ترى أنك ترى في الرؤيا كأن مرَّ عليك سنة في ليلة بل في ساعة. ولوقرأتَ القرآن بَدَلَ ما جرى عليك، وما شاهدتَه من الأقاويل والأفاعيل لقرأت ختماتٍ في تلك الساعة. ففي انكشاف هذه الحالة لأهل الكشف في اليقظة ينبسط الزمان، ويطول العمر، ويتقرب إلى دائرة الروح التي لا يقيّدها الزمان. ولوصُوّرت «ساعة» لها أميالٌ متداخلة لأجل أن تكون ميزانا تشير إلى درجات سرعة الحركات الموجودة في مصنوعات الله، لا سيما لبيان درجات سرعة الصوت، والضياء، و«الألكتريق»، والخيال، ونور العقل، والملَك، والروح. فمِيلٌ يعدّ الساعات وميلٌ الدقائقَ، وميل الثوانيَ إلى الميل الذي يعدّ العاشرات، مع محافظة النسبة بين كلّ آنين من معدودِ أول الأميال إلى آخرها. ففي تلك الساعة مدارُ الميل العادّ للساعات المشيرِ إلى أبطأ الحركات، لوكان مثل دائرة ساعتك هذه، لكان مدارُ الميل العادّ للعاشرات المشيرة لأسرع الحركات مثل مدار زُحل بل أوسع، فافرض أحدا ركب ميلَ الساعات وواحدا امتطى ظهر ميل العاشرات، فانظر كَم بين ما رأَيَا وقَطَعا، فقد انطوى لهذا ما انبسط لذاك بدرجةٍ تكون ثانيةُ ذا سنةَ هذا. ولأن الحركةَ كجسم الزمان أوالزمان كلونِها، فما يجري فيها، يجري فيه أيضا. فلِمَ لا يجوز للولي الغالبِ روحُه على جسمانيّته أن يُصدر أفاعيلَه على مقياس سرعة الروح والخيال؟

اعلم أنه قد يستعظم المرءُ النتيجةَ وهي التوحيد المحض الخالص، ولا يسعها ذهنُه الكاسد، أولا يتحملها خيالُه الفاسد. فيشرع يردّ براهينَها الصحيحة القاطعة، ويتعلل بأن نتيجةً بهذه العظمة لا يمكن أن يقبَلها ويقيمَها هذا البرهان ولوكان في غاية القوة. فالمسكين لا يعرف أن قيّومَ النتيجة الإيمانُ، وما البرهان إلّا مَنفَذٌ ينظر إليها.. أومكنسة يطهّر الأوهامَ عنها. مع أن البرهان ليس واحدا، بل لها براهين عدد رمال الدهناء، وبمقدار حصى البطحاء وقطرات الأمطار وأمواج البحار.

اعلم أن من هيّأ البطيخَ والتفاح لأكلك، لا بد أن يكون أعلمَ بأكلك منك، وخبيرا بذوقك الوجداني الذي لا يدريه غيرُك. فأين العروق والأغصان الجامدة الميتة من هذا العلم؟ فما الأسبابُ والأغصان إلاّ موازيبُ الرحمة ومَسيلاتُ النعمة.

* * *


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «أوقاف» بإستانبول سنة 1340هـ (1922)م

ذرة

 الرسالة الثامنة ([1])

ذرة

من شعاع هداية القرآن


في (ط1)

اعلم أن هذه الرسالة محادثاتٌ مع نفسيَ الأمارةِ المرائية، ورشاشاتٌ من شرارات «القطرة» أظن أنى مأذون في نشرها. إذ يتكرر الاحتياج للمعالجة في كل «رمز» مادام لم يُكتب. فإذا كُتب يزول الاحتياج، لكن يبقى نوعُ تمايل للمناقشة مادام لم يُنشر. فإذا نُشر زال ذلك واطمأن القلب. فيدل على أنه ليس لي فقط، بل فيه للغير حصةٌ. فلهذا أتجاسر على نشرها لعل فيها نفعا لبعض الناس إن شاء الله تعالى.

ولتنوع الرموز يمكن الاستفادة لكثير فـ «ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كله». ولترك التصنع تركتُ الخاطرات في الصور التي برزتْ فيها أولَ ما خطرت في القلب. ومن الله الهداية.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يا مَن له الملك وله الحمد صلّ وسلم على سيد البشر الذي قلتَ له: ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ (الأنفال:64)، فقال: لبيك! بحيث أسمعَ من عرفاتٍ ملائكةَ السماوات العليا.. فقلتَ: بشِّر وأنذر. فنادى بـ ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ (البقرة:21) بحيث أسمعَ أدوارَ الزمان وأطراف المكان.. إذ صار ﴿بَشيرًا وَنَذيرًا﴾ (البقرة:119) بطَور المشاهِد.. إذ يشاهِد فيشهَد مناديا لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار.. إذ أسمعَ، فهذا صدى صوته يُسمَع بأعلى صوته.. إذ قد ملأ الدنيا بنداء القرآن وبجميع قوّته.. إذ قد استولى على نصف الأرض وبكمال جدّيته بشهادة سِيَره، وبغاية وثوقه بشهادة زهده في الدنيا، ونهاية اطمئنانه بشهادة قوة دساتيره ومعالمه، وبكمال إيمانه بشهادة أنه كان أعبدَ وأتقى من الكل.

اعلمي يا أيتها النفس الجاهلة! أن الأبوابَ المفتوحةَ النظارة إلى الله عدد طبقات العالم وصحائفه، وعدد المركبات المتصاعدة والمتنازلة. فما أجهلَكِ؛ إذا انسدّ في وجهكِ بابٌ عادي تتوهمين انسدادَ كلِّ الأبواب. مَثَلُك كمثل مَن إذا لم يَرَ أولم يعرف في بلد فرسانَ العسكر مع وجود سائر جيوش السلطان وخدّامِه ودوائر حكومته، يشرع ينكر وجود السلطان ويؤوّل كلَّ شعائره ومعالمه.

اعلم أن الدليلَ على أن الباطن أعلى وأتمَّ شعورا وأقوى حياةً، وأزيَنُ وأعلم وأكمل وأحسن وألطفُ من الظاهر.. وأن ما على الظاهر من الحياة والشعور والكمال وأمثالِها، إنما هوترشّحٌ ضعيف من الباطن -لا الباطن جامدٌ ميّت أثمَر حيّا عليما- كونُ بطنِك أكملَ انتظاما من بيتك، وجلدِك أحسنَ نسجا من ثوبك، وحافظتِك أتمَّ نقشًا من كتابك. فقس على هذه الجزئيات عالَمَ المُلك وعالمَ الملكوت وعالَمَ الشهادة، وعالمَ الغيب والدنيا والآخرة. فيا حسرةً على النفوس! إن النفس الأمارة النظارة بعين الهوى ترى الظاهر حيا مونسا مفروشا، على باطنٍ ميت عميق مظلم موحش..

اعلم أن وجهَك يتضمن من العلامات الفارقة عددَ أفراد الإنسان الماضية والآتية، بل لووجد الغير المتناهي من الأفراد لتصادف كلُّ واحدٍ في وجهك ما يميزك عنه -مع التوافق في أركان أجزاء الوجه- كأن الوحدة تجلّت من وجهك في كثرة غير متناهية.

فالتوافقُ في أساساتِ أعضاءِ أفراد الإنسان والحيوان يدل بالبداهة على أن الصانعَ واحدٌ أحدٌ. والتخالفُ في التعيّنات المنتظمة يدل بالضرورة على أن الصانع مختارٌ حكيم.

ويتعاظم هذا السر بالنظر إلى كل فردٍ فردٍ.. ومن أبعدِ المحالات وأبطلِها أن لا يكون هذا التمييز الحكيم والتخالف المثمر والتفريق المفيد بقصدِ قاصدٍ واختيارِ مختارٍ وإرادة مريدٍ وعلم عليم.

فسبحان مَن أدرجَ وكتبَ الغيرَ المتناهي في صحيفة الوجه، بحيث يُقرأ بالبصر ولا يُحاط بالعقل. نعم، يُقرأ بالنظر واضحا مفصلا ولا يُرى بالنظر إجمالُهُ، بل ولا بالعقل أيضا. فهوالمعلوم المُبْصَر، المجهولُ المطلق، والمشهودُ الغائب. فمحالٌ بمراتبَ أن يكون هذا التخالفُ المنتظم المفيد في نوع الإنسان، والتوافقُ المطّرد المتناظر في أنواع أمثال الحنطة والعنب، وكذا النحل والنمل والسّمك، بالتصادف الأعمى والاتفاقية العوراء، كلَّا ثم كلَّا. إنه لصنعةُ سميعٍ، بصير، عليم، حكيم.

فإذا كان أوسعُ أطوار الكثرة وأبعدُها وأرقاها، وأنسبُ مراتب الكثرة لجولان التصادف -لوكان- وأكثرُها انتشارا وأدناها أهميةً هكذا غيرَ مُهمَلٍ ولا سدىً، بل محفوظا من يد التصادف، حتى صار ميدانا لجولان القصد الحكيم والاختيار العليم والإرادة السميعة البصيرة.. فيا أيها التصادفُ لا محلّ لك في مُلك الله، فاذهب مع أخيك الطبيعة وأبيك الشرك إلى جهنمِ العدم والفناء بل الامتناع. وآيةُ ﴿وَمِنْ اٰيَاتِه خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْ (الروم:22) أشارت إلى أولِ مراتب تجلّي الحكمة وإلى آخرها..

اعلم أن مما يوسوس به الشيطان، أنه يقول: إن البقرَ مثلا لوكان مُلكا ونَقشا للقدير الأزلي العليم لمَا كان هكذا مسكينا، إذ حينئذ تحت جلده وداخل بيته يحكم قلمُ قديرٍ عليم مريد على الإطلاق؛ فكيف صار فوق الجلد وخارجَ البيت هكذا عاجزا جاهلا يتيما مسكينا؟

قيل له: أيها الشيطان الإنسي الذي صار أستاذا لشياطين الجن!

أولا: لولم يكن صنعةَ القدير الأزلي الذي يعطي كلَّ شيء ما يليق به بمقدار المصلحة، لزِم أن يكون إذَنْ حمارُك أعقلَ وأحذقَ منك ومن أساتيذك، ولزِم أن يكون في داخل إصبعك -مثلا- شعورٌ واقتدارٌ يزيدان على شعورك واختيارك بمراتب. فمَن قيَّدَهما في حدِّهما مع أن شأن هذه اللطائف الانبساط والانتشار؟

وثانيا: إنّ القدر يرسم مقدارا وقالبا، يُنشئ منه قابليةً، تقبل من الفيض المطلق مقدارَ قالبه، وكل ما يترشح من الداخل إلى الخارج فبمقياس الجزء الاختياري وميزانه، وبقدر الاحتياج ودرجته، وبمساعدة القابلية وتحملها، وبميزان نظام حاكمية الأسماء وتقابلِها. فليس المصنوعُ البقرُ فقط، خارجُه داخلَ آخرَ. ففي كل شيء الداخلُ مظهرُ المطلق، والخارجُ مظهرُ المقيد. ومَنْ طلب إضاءة الدنيا وجذبَ السيارات ومركزيةَ العالم وأمثالَها من لوازم عظمة الشمس وحشمتها، من شُميسة الحباب، انعزلَ عن العقل.

نعم، يصف الحبابُ تلك اللوازم ولا يتّصف..

اعلم أنك صنعةٌ شعورية بحكمة، حتى كأنك بوضوح الدلالة على صفات الصانع؛ مُجَسَّمُ الحكمة النقاشة، ومتجسّدُ العلم المختار، ومُنجَمدُ القدرة البصيرة بما يليق بك، وثمرةُ الرحمة السميعة لنداء حاجاتك، ومتصلَّب الفعل المريد لما يريده استعدادُك، ومتكاثَف الإنعام العليم بمطالبك، وصورةُ القدَر المرسِّم المهندس الخبير بما يناسب بناءك. فكيف يمكن لك أن تذهب بجزئك الجزئي الاختياري والشعرة الشعورية، وتخلص عن أحكام الكل وتصير حرا برأسك. ثم ترجع تقيس الكل على الجزء؟ وكيف يتيسر أن تتغافل عن مالكك المالك لكل شيء؟ وكيف تتوهم مع هذا العلم أن ليس عليك رقيبٌ، سميعٌ، بصير، عليم، مجيب، مغيث.. يسمع أنيناتك يبصر فاقاتك ويعلم جناياتك؟

يا نفسي المسكينة، لم تتوهمين نفسَك خارجةً؟ حتى يلزم عليك مراعاةُ كل حي واحترامه، أوظلم الكل بعدم الأهمية. فهذا حملٌ ثقيل لا يُطاق حَمله، فحينئذٍ لابد أن تتركي الأجنبيةَ الشركية وتدخلي في دائرة مُلك الله، لتستريحي بالأخوة، بل تصيرين أختا كبيرة محترمة. ألا ترين أن مثَلك كمثل مَن كان في سفينة مشحونة بمال السلطان وقد فُوّض إليه تدبيرٌ جزئي من دواليبه، فوضع الشخصُ الأبله ذلك الدولاب المربوط بالسفينة مع أرزاقه على ظهره بكمال الاهتمام. فإن كان له جزء من العقل لقال: إني أيضا في السفينة فأطرحُ فيها مالي مع مال مالكها.. وكذا واحملي الدساتير الإسلاميةَ على سفينة دماغ عالم الإسلام لتستفيدي وأنت مستريحة مطمئنة…

اعلم أن من خلَقك لا يُبعَد منه ولا يُستغَرب أن يخلق العالَم بجميع ما فيه، لأنه فيك ما فيه. بل يجب أن يكون خالقُك هوالخالق لكل شيء، لامتناع أن يكون خالقُ البطيخ غيرَ خالقِ نواته التي هي أنموذجُه المصغر المتلخّص منه المُحاط به…

اعلم أنك مقيّدٌ بالتعيّن، في مقيّدٍ بالبدن، بمقيد بالعمر، محدودُ الحياة في محدود البقاء بمحدود الاقتدار. فحينئذ لابد أن لا تصرفَ هذا العمرَ القصير القليل الفاني للفاني حتى يفنى، بل للباقي ليبقى؛ إذ الاستفادة منه هنا تصير مائة سنة، كمائة نواة نخلة تتآكل مع يبوستها وقلة نفعها وإضاعة فوائد الغرس على آكلها، وإن وجّهت إلى الآخرة وسُقيت بماء الشريعة صارت مائةَ نخل باسقات.. الحق أن مَن يشترى بمائة نخل باسقات، مائةَ نواة يابسات.. فهولائق لأن يكون حطب الحُطَمَة..

اعلم أن مخزنَ الأوهام والشبهات بل الضلالات فرضُ النفس نفسَها خارج الدائرة التي تجلى القدَرُ والصفات الإلهية فيها، ثم تفرضُ النفسُ نفسَها الأجنبية في موقع الشيء الذي تعلّق به القدرُ وتجلى عليه اسمٌ من الأسماء الإلهية فتفنى فيه، ثم بصبغة الأجنبية تشرع تُخرج ذلك الشيء أيضا عن مُلكِ الله، وتصرُّفِ قُدرتِه بتأويلاتٍ تصير بها أستاذَ الشياطين، وتعكس حالاتها المترشحة من شركها الخفي في ذلك الشيء المعصوم. فالنفسُ الأمارة كالنَّعامة ترى فيما عليها، لها وجها، وكالسوفسطائي تقول للمتخاصميَن: يا هذا دليلُ خصمك يردّك، وكذا: يا ذا دليلُ هذا يبطلك، فلا حق لكما.

اعلم أن النفس تديم الغفلةَ بربط الدنيا بالآخرة، كأنها منتهاها، كلا بل معكوستها.

فبتصور الآخرة -ولومع الشك- تتخلص من دهشة فناء الدنيا وألم الزوال، وبسبب الغفلة أوالشك تريد الخلاصَ من كلفة العمل للآخرة وتنظر إلى الأسلاف الميّتين، كأنهم أحياءٌ غائبون، فلا تعتبرُ بالموت. وكثيرا ما يَثبت عروقُ مطالبها الدنيوية في أرض الآخرة للتأبيد بدسيسةِ، أنّ تلك المطالب لها وجهان: وجه إلى الدنيا لا ثباتَ له، بل هباءً منثورا. ووجه إلى الآخرة تتصل أساساته بأرضها فتدوم، كالعلم مثلا له وجه مظلم ووجه مضيء. فالنفس الشيطانة تريك المضيء وتُبلعك المظلم. إذ النفس نعامة (دوَه قوشي) والشيطان سوفسطائي، والهوى بيطاشي..

اعلم أنى قد تيقنت بلا ريب أنه لولم تصدُق «الموجبة الكلية» لزِم صدقُ «السالبة الكلّية» في مسألة خلق الأشياء؛ إذ كل الخلق بالتساند المنتظم كلٌّ لا يقبل التجزي، فإما وإما. مع أن الوهم الذي يطيق أن يتوهم عدمَ العلة في كل شيء أوهنُ بمراتبَ من نسج العنكبوت، فالقبول في شيء ما، يستلزم بالحدس الصادق القبولَ في كل شيء.

وكذا، إن الخالقَ إما واحدٌ وإما غيرُ متناهٍ، لا وسط قطعا، إذ الصانع لولم يكن واحدا حقيقيا، لكان بالضرورة كثيرا حقيقيا. وهوما لا يتناهى. وعلى الثاني -مع محالات عجيبة- يلزم عدمُ التركيب وفقدُ الوحدة مطلقا وامتناعُ الوجود.

اعلم أنه كما أن من المحال الظاهر أن يكون منيرٌ غيرَ متنور، والموجِد غيرَ موجود، والموجِب غيرَ واجب.. كذلك محالٌ أن يكون مُنعِمُ العلم غيرَ عالم، ومُحسنُ الشعور غير ذي شعور، ومُعطي الاختيار غيرَ مختار، ومُفيض الإرادة غير مريد، وصانعُ المكمّل غير كامل. وهل يمكن أن يكون مُرسم العين ومصوّر البصر ومنوّر النظر غير بصير؟ بل من الواجب أن يكون ما في المصنوع من أنواع الكمال من فيض الكمال المناسب للصانع.. والمكروب الذي لا يعرف من الطيور إلا البعوضة إذا رأى البازي يقول ليس بطير إذ ليس له ما للبعوضة..

اعلم أن أشد ما تطلبه النفسُ الناطقةُ البقاءُ والدوامُ، حتى لولم تنخدع بتوهم الدوام ما التذّت بشيء. فيا طالبةَ الدوام اشتملي على ذكر الدائم لتدومي، وكوني زجاجةً لنوره لئلا تنطفي، وصدَفا لدرّه لتصطفي، وبدنا لنسيم ذكره لتحيَي، وتمسكي بالخيط النوراني الذي هوشعاع من اسم من الأسماء الإلهية لئلا تسقطي في فضاء العدم. فالثمرة الغافلة إذا لم تتوجه إلى ما تقوم به، وانجذبت إلى التشعشع الأجنبي وضحكهم في وجهِها، انقطعت وسقطت على رأسها!

يا نفسُ استندي على ما يقوّمكِ، إذ إلى عهدته منك من الألف تسعُمائة وتسعةٌ وتسعون، وإليك واحدٌ فقط. فاطرحي واحدَكِ أيضا في سفينة مالِه واستريحي.

اعلم أنكَ إذا لم تُطق أن تفعلَ لنفسك، ولم تصلْ يدُك إليك، فالناس والأسباب البُعَداء-بالطريق الأولى- لا يطيقون ولا تصل أيديهم إلى خُوَيِّصَة ذاتك، فجرّب نفسَك هل تقدر أن تصنع لسانك الذي هوشجرة الكلمات وحوض الأذواق و«سانترال» المخابرات، فإنْ لمْ، ولم.. فلا تشرك بالله ﴿اِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظيمٌ (لقمان:13).

اعلم أن العالم دكان ومخزنٌ إلهي يوجَد فيه كلُّ نسجٍ وطرز وشكل وقشر، كثيف ورقيق وزائل ودائمي، ولبٌ صلب ومايع وهوائي، بعضها نَسجُ الإيجاد وبعضها ترسيم التجلي. قد ضلت الفلاسفةُ في الإيجاب بالذات، بإدراج الإيجاد في التجلّي…

اعلم أن الشرك الخفي الناشئ من الأنانية، إذا تصلَّب انقلبَ إلى شرك الأسباب، وهوإذا استمر تحوّل إلى الكفر، وهوإذا دام تبدَّل إلى التعطيل، والعياذ بالله…

اعلم أن طلَب الضياء في طور الظلمة مع محافظة النفس عليها وتطبّعها بها أليم شديد، مخلٌّ بحرمة الضياء، ومُلَوِّثٌ له. فلابد من التعري والانسلال من الظلمة. ثم النظر منها -لا فيها- إلى الضياء.

اعلم أن من الأعاجيب؛ أن الإنسان خُلق ليكون فاتحا وكاشفا مريئا، وبرهانا نيّرا، ودليلا مبصّرا، ومعكِسا نورانيا، وقمرا مستنيرا للقدير الأزلي، ومرآةً شفافة لتجلي الجمال الأزلي. وقد انجلت وتصيقلت بحمل الأمانة التي تدهّشتْ من حملها السماوات والأرض والجبال. إذ من مضامين تلك الأمانة صيرورةُ الإنسان واحدا قياسيا لفهم الصفات المحيطة، وصيرورةُ ما فيه من «أنا» -الذي هوالنقطة السوداء بالغفلة والشرك الخفي- مفتاحا لتنوير الصفات. فكيف ولأي شيء صار أكثرُ الإنسان حجابا وبابا وسدا. وكان لازما عليه أن يفتح فأغلَق.. وأن ينوِّر فأظلم.. وأن يوحِّد فأشرك.. وأن ينظر بمرصاده إلى الله فيسلِّم المُلكَ إليه، لكن نظر إلى الخلق بمرصادِ «أنا»، فقسّم مُلكَ الله عليهم.. نعم، إن الإنسان لظلوم جَهول.

اعلم يا نفسي، إن أرضيت خالقَك بالتقوى والعمل الصالح، كفاكِ إرضاءَ الخلق. فإن رضوا منك بحسابه تعالى فنافعٌ، وبحساب أنفسهم فلا فائدة، إذ هم عاجزون مثلك. فإن أردت الشق الأول فأرضِ ربَّك، وإن أردتِ الثاني أشركتِ بلا فائدة.. ألا ترين أن مَن ذهب إلى مقرِ سلطانٍ مطلقٍ لمصلحةٍ، إن أرضاه تمت بلا كلفة، مع محبةِ الرعية له. وإن طلبها ممَن تحت حكمه المطلق يتعسّر -بل يتعذر- إرضاءُ الكل واتفاقُهم على إيفاء مصلحته. ثم بعد الاتفاق يحتاج إلى إذن السلطان، وإذنُه يتوقف على إرضائه إن كان إكراما، وإن كان استدراجا فلا بحث.

اعلم أن الواجبَ الوجود كما لا يشبه الممكنَ في الذات والماهية، كذلك لا يشبهه في أفعاله.. مثلا: لا فرقَ بالنسبة إليه بين القريب والبعيد، والقليل والكثير، والصغير والكبير، والفرد والنوع، والجزء والكل بالحدس الشهودي. وكذا لا كلفةَ ولا معالجة ولا مزاولة ولا مباشرة في فعله، خلافا للممكن. ولهذا يتحير العقلُ في فهم كنهِ أفعاله تعالى فيظن الفعلَ لا فعلا.

اعلم أن أنيابَ الأسد كما تدل أن من شأنه الافتراسَ، وأن لطافة البطيخ على أنه للأكل، كذلك استعداد الإنسان يدل على أن وظيفتَه الفطريةَ العبوديةُ. وأن عُلويةَ روحانيته واشتياقَه إلى البقاء والأبدية تدل على أن الإنسان خُلق أولا في عالمٍ ألطفَ من هذا العالم، وأُرسل إلى هنا، ليتجهّزَ ويعود إليه. وأن كونه ثمرةَ شجرةِ الخلقة يدل على أن من الإنسان مَن هونواة أنبت منها الصانعُ شجرةَ الخلقة، وما تلك النواة إلا مَن اتفق كلُّ الكُمّل، بل نصفُ البشر -بسر انصباغ العالم بصبغته المعنوية- على أنه أفضلُ الخلق بالتمام، وهونورُ سيد الأنام الفاتحِ الخاتم عليه الصلاة والسلام..


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «أوقاف» بإستانبول سنة 1340
هـ (1922)م.

ذيل الزهرة

ذيل الزهرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله على نعمته بإنزال القرآن، وعلى رحمته بإرسال سيد الأنام، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.

اعلم أن الفاطر الحكيم جل جلاله جعل النباتات والحيوانات -لا سيما صغارهما- من أوسع ميادين تصرفات قدرته، ومن أكثر مظاهر تجليات صفاته، ومن أغلب مرايا جلوات أسمائه؛ لأسرارٍ غالية وحكمٍ عالية:

منها: أن النبات كالنواتات للأرض، وأن الحيوان ثمرةُ العالم. والنواة أنموذج مصغّر للشجرة، والثمرة مثال مصغر لها. فكل ما يتجلى عليها يتجلى عليهما أيضا.

فما دام أن غايات الخلقة والحياة هي المظهرية لتجليات أسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق، تكون العناية بتكثير جزئيات النبات والحيوان، لاسيما دقائقهما هي الأوفق للحكمة الأزلية.

روي أن موسى عليه السلام اشتكى إلى الله من كثرة البعوضات الهاجمة عليه، وسأل: «ما الحكمةُ في تكثيرها؟.. فأوحى إليه: أن البعوض يَسأل: لِمَ خلقت هذا الإنسان بهذه الجسامة، وهويغفل عنك؟ ولوخلقت رأسه بعوضاتٍ لبلغت مائة ألف مسبحين بحمدك في عالمهم، وذاكرين لك بين إخوانهم، مظهرين لجلوات أسمائك ونقوش صنعتك بلسان قالهم وحالهم».

نعم، إن القرآن المعنوي المكتوب بمداد النجوم على صحائف طبقات السماوات، إذا قَرَأَ على الأنظار آيات العظمة والجبروت التكوينية، يقرأ معه -رأسا برأس- القرآنُ المكتوب بمداد الجواهر الفردة على جزء لا يتجزأ في حُجيرة عينك: آياتِ العلم والحكمة.

فإذا سمعت من ذاك: سبحانه ما أعظمَ شأنه! سمعت من هذا أيضا: سبحانه ما أدق حكمته وما ألطف صنعته! فإذ تساوى القرآنان، واقتضت الحكمةُ تكثيرَ نسخ أحدهما -وتكثيرُ نُسَخ الكبير لا يفيد الناظرين- فلا بد من تكثير نسخ الصغير للمطالعين المتفكرين الغير المحدودين، من المَلَك والجن والإنس وغيرهم. وفي تكثير النسخ لا يبقى الكتاب كتابا واحدا، بل تتنوع الكتب وتتفاوت الفوائد وتتعدد المفاهيم، فتتلاحق الأمثالُ فيتزايد الحُسن والجزالة. ولولا إدراجُ كثير من سور الكتاب الصغير ونُسَخه في بعض حروفات القرآن الكبير لفاق الصغير على الكبير بدرجة صغره!

ومنها أيضا: أن أتم التجليات؛ تجلي الأحدية. وأكملَ الصنعة؛ إدراجُ الأكبر بتمام نقوشه في الأصغر. وأن الثمرة والنواة بالنسبة إلى النبات، وأن النبات والحيوان بالنسبة إلى الأرض، وأن الإنسان والنبي بالنسبة إلى العالم. وأن القلب والسر بالنسبة إلى الإنسان..أنموذج مختصٌر جامعٌ مُظهِرٌ لجميع الأسماء المتجلية على الأصل والكل والمحيط.

وأن الثمرة -مثلا- كما أنها «جزء» من الشجرة وهي «كلُّها»، فتشير من هذه الجهة إلى الواحدية.. كذلك كـ«الجزئي» لها تشتمل على تمام الشجرة وهي «كلّيها» فترمز بهذه الجهة إلى الأحدية.. فالواحدية شاهدة الوحدة عند تجلي الأحدية في مرايا الكثرة والجزئيات.

مثلا، –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى-: إن الضياء المحيطَ في النهار مثالُ الواحدية، وتمثال الشمس في كل ذرة شفافة وقطرةٍ وحوضٍ وبحرٍ ونجوم سيارة مثال لتجلي الأحدية. فإذا رأيت الشمسَ في مرآتك بلَون مرآتك، وبما تقتضيه وضعيتّها، ثم رأيتَها في مرايا أخرى، فتنظر إلى الضياء، فيشهد لك بالوحدة، وأن لا كثرةَ في المتجلّي، كما تتوهم. وتنشد الكثرة والمرايا:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

فيُتحدس من هذه الأسرار، أن الفاطر الحكيم -جلّت حكمته، ودقّت صنعته- متوجهٌ بألطف قدرته وأتمّ عنايته وأكمل رحمته وأدق حكمته من العالم إلى الأرض، ومنها إلى ذوى الحياة، ومنهم إلى الإنسان، ومن فرد الإنسان إلى قلبه، ومن نوع الإنسان إلى ما هوقلبُ النوع وقلبُ العالَم ونواتُه التي خُلق العالَمُ عليها، وثمرتُه المنوّرة التي انتهى إليها مخلوقا لأجلها، وتمثال محبة فاطر العالم، ومثال رحمته.. وما ذلك القلب العالي الغالي المطهّر المنـزّه إلّا سيدنا وسيد الأنام محمد عليه صلوات وتسليمات بعدد ثمرات شجرة العالم.

اعلم يا من يتوهم الإسرافَ والعبثيةَ في بعض الموجودات! أن كمالَ النظام والميزان في إنشاء كل موجودٍ يطرد هذا الوهم؛ إذ النظامُ خيط نُظم فيه الغايات المترتبة على الأجزاء الجزئية والتفاصيل الفرعية. ومن المحال أن يراعي أحدٌ كلّ غايات تفاصيل قصرٍ -بدلالة انتظام بنائه- ويترك غايةَ المجموع التي بها تصير الغاياتُ الجزئية غاياتٍ.

فإن شئت التحقيقَ فاستمع يا من له قلب شهيد وسمعٌ حديد!: إن لكل شيء غاياتٍ دقيقةً كثيرةً تعود منها إلى الحي القيوم المالك بمقدار مالكيته وتصرفه بمظهرية الشيء لأنواع تجليات أسمائه، وما تعود إلى الحي إلّا بدرجة تلبّسه الجزئي.

وإن كلَّ شيء من الأشياء يصير هدفا مشتركا بين ذوي العقول، فلا يصير عبثا أصلا؛ إذ إذا لم يطالعه هذا هنا الآن، طالعه هؤلاء، ومع أن وجوه استفادة كل أحدٍ من كل شيء في غاية الكثرة، وأن جنودَ الله لا تُحصى ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ اِلَّا هو﴾ (المدثر:31). فلا شيء في الكون إلّا ويتزاحمُ عليه -بلا مزاحمةٍ- أنظارُ مَن لا يُحصى من الملائكة المسبّحين المقدّسين بأجناسهم وأنواعهم المالئين للكون، ومن الجان المتحيرين المتفكرين باقتسامهم وأصنافهم، ومن الأرواح المكبّرين المهللين بطوائفهم، وقبائلهم وغيرهم ممن لا يمنعهم كثيفاتُ الأشياء عن رؤية ما في أجوافها، ولا يشغلهم شهودُ شيء عن شيء، وفوق الكل رؤيةُ صانعِ الكلِّ لصنعته.. وكذا كثير من الناس المؤمنين المتنبهين، بل وكذا الحيوانات المتحسسات المتأثرات بحواسهم.

فإن قلتَ: أيةُ آياتِ كتابِ الكائنات تدل على وجود معتبِرين ومتحيرين ومتفكّرين ومسبحّين من غير الإنسان؟ وأي سطرٍ من ذلك الكتاب يشير إليه؟.

قيل لك: آيةُ النظام في سطر الميزان من صحيفة الحكمة؛ ألا ترى أنك إذا ذهبتَ إلى دار تمثيل -مثلا- فرأيتَ في تلك الدار أنواعا كثيرة من الغرائب التي تتحير فيها الأنظارُ، وأصنافا من الملاهي التي تستحسنها الأسماعُ، وأقساما متنوعة من السحر والشعبذة التي تتلذذ بها العقول والخيال. وهكذا من كل ما يتلذذ به ما لا يحد من لطائف الإنسان وحواسه وحسياته، ثم نظرتَ في ساحة محل التمثيل، فما رأيت إلّا صبيانا صما عميا مفلوجي الحواس والحسيات إلّا قليلٌ منهم. فبالضرورة العرفية تتفطن وتتيقن بأنّ خلفَ هذه الحُجُب والأستار المرسَلة على وجوه الجدار عقلاءَ مختلفين في الأذواق والمشارب لهم حواسُ سليمة جاءوا للتنـزّه، يشتاقون لكل ما أُبدع وشُهِر في ذلك المجلس، ويرونك والتمثيلَ من حيث لا ترونهم.

فإذ تفطنت لسر التمثيل، فانظر من دار الدنيا إلى هذه المصنوعات؛ فمنها كزرابي مبثوثة، وفُرُشٍ مرفوعة، وحللٍ ملبوسة، وحلية منثورة، وصحائفَ منشورة.. ومنها أزاهير وثمرات اصطفت؛ تدعوبألوانها وطعومها وروائحها ذوى الحياة وأصحابَ الحاجات، وتدعوبنقوشها وزينتها وصنعتها أُولي الألباب وذوى الاعتبار.. ومنها نباتات شَمّرت عن ساقاتها لوظيفة خلْقَتها، وحيواناتٌ قامت على أرجلها لوظيفة عبوديتها، وأكثرها لا تشعر بما أُودع في أنفسها من المحاسن الرائقة واللطائف الفائقة، فليست تلك اللطائفُ والمحاسن لِحَمَلَتَها البُهْمِ العُجْمِ، بل ما هي إلّا لغيرها السميع البصير.. ومنها إلى ما لا يحد ولا يعد.

فمع كل هذه الحشمة الجلابة والزينة الجذابة، وأنواع التلطيفات والتوددات، وأنواع التحببات والتعرفات، وأقسام التعهدات والتعمدات وأصناف التزينات والتبسمات وأشكال الإشارات والجلوات، وغير ذلك من ألسنة الحال التي كادت أن تنطقَ بالقال مع أنه لا نرى ظاهرا في ساحة الدنيا من ذوي الاعتبار والابتصار إلّا هؤلاء الثقلين اللذين صيرت الغفلةُ أكثرَهم كصبيانٍ صمٍ عميٍ فلج في ظلمات طاغوت الطبيعة يعمهون.

فبالحدس الصادق وبالضرورة القطعية وبالبداهة العقلية، لابد أن يكون الكون مشحونا من ذوي الأرواح المعتبِرين المسّبحين مما عدا الثقلين. كما قال مَن قولُه القول:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه وَلٰكِنْ لَا تَفْقَهونَ تَسْبيحَهُمْۜ ﴾ (الإسراء:44).

اعلم أن بمقدار توسع تصرف القدرة في الجزئيات وتزييدِ الأمثال تتقوى العناية بالفرد. فلا تقل: أنا قطرة في بحر، فيُنسيني البحرُ. كلا! بل البحر شاهدٌ على أنك بنسبة محاطيتك به محفوظ أبدا بنظام قوي نافذ بقوته في جميع أمثالك؛ إذ بدرجة الصغر والخفاء والمُحاطية يتزايد الاهتمامُ به، والمصونيةُ من الإهمال، والمحفوظيةُ من مداخلة الغير، ومن لعب التصادف، ويزيد ظهورُ المخلوقية والمجعولية.

ألا ترى أن المركز أصونُ من تسلط الغير والمهاجمات، وأن النواة أحصنُ من لعب التصادفات وتعجيز العاصفات، وأن الاهتمامَ بالنواة أشد؟

أيها الإنسان! أنت نواة الأرض والأرضُ بيضة العالم. ومن هذا السر يُكثر القرآن ذكرَ خلق السماوات والأرض ويجعله عنوانا لخلق كل شيء.

اعلم وانظر إلى كمال النعمة في كمال الحكمة، وكمال الحكمة في كمال النظام، وكمال النظام في كمال الميزان، في صنعة الحواس الخمسة الإنسانية؛ إذ فطَرها فاطرُها بوضعيةٍ وجهّزها صانعُها بجهازاتٍ، يحس الإنسان بها ويُذَوِّقُ صاحَبَها خصوصياتِ جميع أنواع الثمرات والأزهار والأصوات والروائح وغيره، حتى إن في حاسة الذائقة حسياتٍ رقيقةً دقيقةً منتظمة بعدد طعوم جميع أجناس الثمرات وأنواعها وأصنافها.. وهكذا حاسة السمع لخصوصيات ما لا يحد من الأصوات. وقس سائرَ الحواس الظاهرة، ولاسيما الباطنة التي هي أكثرُ غناءً وجهازا.

ومن هذا السر؛ بلغت جامعيةُ فطرة الإنسان إلى درجةٍ صيّرَت هذا الإنسانَ: مظهرا لما لا يحد من أنواع تجلياتِ أسماءِ فاطره جلّ شأنه، وذائقا لما لا يعدّ من ألوان نِعمه، عمّ نواله.

مَثَلك أيها الإنسان، كمثل المركز العمومي للتلفون، فكما أن فيه لمخابرة كل موقع في الولاية مفتاحٌ خاص، كذلك فيك لحسِّ ذوقِ جميع أنواع نِعَمه، ولذوق لذة مظهريتك لما لا يحد من أقسام تجلياته مفاتيحُ مخصوصة عُلّقت برأسك ولطائفك، فاستعملْها كما يرضى به بارئُها، بالحركة بميزان شريعته.

ومن هذا السر: يمكن التفاوت بلا نهاية بين مراتبِ لذائذِ شخصين هما في عين جنةٍ وفي عين مكانٍ. وبشارةُ: «المرءُ مع مَن أحبَّ» قد تجمع بين الأدنى والأعلى.

اعلم أن ما يُرى عند اختلاط أشتات الأشياء وأوباشها من المُشوَّشيّة المنافية للنظام والميزان، فليس مما لعب به التصادفُ، بل خرج من صورة النظام إلى نقش الكتابة، لكن تلك الكتابة غير مقروءة بالسهولة للنظر الظاهري الأمي الناظر إلى معكوسها في مرآة الوهم!

ألا ترى أن تلك الأشتاتَ لوكانت بذورا، إذا تنبتت، تكشّفت عن نظام تام. فالجمع بينها كتابةٌ غريبةٌ لقلم القدر.

اعلم أن الحُجةَ القاطعة على خاتمية النبوة الأحمدية، إيصالُها حدودَ الدين في كل قاعدةٍ منه إلى حدٍ لا يُتَعَقَّل أوسعُ ولا أكملُ ولا أتمُّ منه.

مثلا، في مسألة التوحيد والربوبية، يقول:

﴿بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (يس:83)

﴿مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هو اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (هود:56)

 ﴿وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه﴾ (الزمر:67)

﴿هوالَّذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْاَرْحَامِ كَيْفَ يَشَٓاءُ﴾ (آل عمران:6)

﴿هوالْاَوَّلُ وَالْاٰخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُۚ وَهوبِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾ (الحديد:3)

﴿وَمَا تَشَٓاؤُ۫نَ اِلَّٓا اَنْ يَشَٓاءَ اللّٰهُ﴾ (الإنسان: 30)

﴿وَنَحْنُ اَقْرَبُ اِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ﴾ (ق:16).

وكذا يحكم ذلك الدين بأن نهاياتِ ما تنقسم إليه المادة وتنبسط وتصل إليه حدود الماديات من الجواهر الفردة والذرات، وأعظمَ ثمراتِ العالم من الشموس والسيارات، متساويةُ الأقدام كتفا بكتف في امتثال أمرِ خالقها المنـزّهِ عن صفاتها، المقدس عن حدودِها ولوازماتها.

وفي مسألة الحشر والتوحيد، وصلَ إلى مرتبةٍ لا حدّ فوقها بالبداهة.

وهكذا في كل مسألةٍ مسألةٍ، فلا يمكن فيه الإكمالُ والإتمام بآخرَ. فحقُّه الأبديةُ والدوامُ إلى يوم القيام.

اعلم أن قلبي قد يبكي في خلال أَنِينَاته العربية بكاءً تركيا، بتهييج المحيط الحزين التركي، فأكتب كما بكيت:

[لا أُريد من كان زائلا لا أُريد

أنا فانٍ، مَنْ كان فانيا لا أُريد، أنا عاجز، من كان عاجزا لا أُريد

سلّمت روحي للرحمن، سواه لا أُريد

بل أُريد،

حبيبا باقيا أُريد.

أنا ذرةٌ، شمسا سرمدا أُريد.

أنا لا شيء ومن غير شيء، الموجوداتِ كلَّها أُريد.

* * *

لا تَدْعُني إلى الدنيا، فقد جئتُها ورأيت الفساد.

إذ لمّا حجبَت الغفلةُ أنوارَ الحق،

رأيتُ الأشياء والدنيا أعداءً ضارّين.

ذقت اللذائذ، ولكن وجدتُ الألم في زواله.

أما الوجودُ، فقد لبستُه،

آهٍ لا تسل كم عانيتُ من الألم في العدم.

إن قلتَ: الحياة، فقد رأيتُها عذابا في عذاب.

نعم، لما استتر نورُ الحق عني،

إذا بالعقل يتحول عقابا، ورأيت البقاء بلاء، والكمالَ هباء،

والعمر ذهب أدراج الرياح.

نعم، بدونه، انقلبت العلومُ أوهاما.

وأصبحت الحِكَمُ أسقاما، والأنوارُ ظلماتٍ، والأحياءُ أمواتا،

والأشياءُ أعداءً.

ولمستُ الضرَّ في كل شيء.

والآمالُ انقلبت آلاما.

والوجودُ هوالعدم بعينه. وصار الوصال زوالا.

والألم يعصرني مما لا بقاء فيه.

نعم، إن لم تجد اللّه فالأشياء كلُّها تعاديك؛

أذىً في أذىً، بل هوعينُ الأذى.

وإن وجدتَ اللّه،

فلن تجده إلّا في ترك الأشياء.

فرأيت بذلك النور: الجنةَ في الدنيا،

وبدت الأمواتُ أحياءً.

ورأيت الأصواتَ أذكارا وتسابيح.

والأشياء مؤنسةً، واللذائذَ في الآلام نفسِها.

والحياةَ أصبحت مرآةً تعكس أنوارَ الحق.

والبقاءَ رأيتُه في الفناء.

والذراتِ تلهج بالذكر.

يقطُر من ألسنتها وتتفجر من عيونها؛

شَهْدُ شهادة الحق.]

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

اعلم يا من يتوهم اللذةَ والسعادةَ الدنيوية في الغفلة وفي عدم التقيد بالدين!

أني جرّبتُ نفسي مرةً فرأيتُني على جسر امتدّ من رأس جبلٍ إلى رأس جبل شاهقَين، وتحتَهما وادٍ عميق في غاية العمق، وقد أظلم علينا الدنيا بما فيها.

فنظرت في يميني الماضي، فما رأيت إلّا ظلماتٍ عدَميّة مدهشة.. ثم في يساري المستقبلي، فما رأيت إلّا غياهب مهدِدة دهاشة.. ثم إلى تحتي، فرأيت عمقا إلى أسفل السافلين.. ثم إلى فوقي، فما رأيت إلّا غيما بُكما صُما يمطر الغمَّ واليُتمَ واليأس والبأس.. ثم في أمامي فرأيت في خلال الظلمات عفاريتَ وعقاربَ وليوثا وذئاباَ كاشرةً أسنانَها للافتراس.. ثم في خلفي، فما رأيت مددا ولا مغيثا ولا معينا.

فبينما أنا مدهوش مأيوس نادم من تجربتي! إذ نبهتْني الهدايةُ الربانية، فرأيت وقد طلع على الأنام قمرُ الإسلام وأشرقت شمسُ القرآن، فرأيت جسرَ الحياة: طريقا تمر بين جنان النِّعم السبحانية وتنتهي إلى جنة الرحمة الرحمانية.. ويميني الماضي: بساتينَ مزهرةً بالصُلَحاء، منورةً مثمرة بالأنبياء والأولياء تجري من تحتهم أنهارُ الدهور، وهم في البقاء خالدون.. ويساري: فراديسَ تزهر فيها الآمالُ والأماني برحمة الحنان المنان.. وفوقَنا: سحائبَ الرحمة تفيضُ علينا ماءَ الحياة، وفي خلالها تبتسم الشمس بأنوار الهداية والسعادة الأبدية.. وأما ما في أمامي من الكائنات، فإخواني وأحبابي وأنعامٌ مؤنسات، صوّرتْها ظلمةُ الضلالة وحوشا موحشات، فقرأت علينا هذه الواقعة: ﴿اَللّٰهُ وَلِيُّ الَّذينَ اٰمَنُواۙ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلَى النُّورِۜ وَالَّذينَ كَفَرُٓوا اَوْلِيَٓاؤُ۬هُمُ الطَّاغُوتُۙ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ اِلَى الظُّلُمَاتِ (البقرة:257).

يا نورَ النور بحق اسمك النور أخرجنا من الظلمات إلى النور.. آمين..

اعلم أيها السعيد المجنون المحزون! إن مَثلَك كمثل صبي أبله قعد على ساحل البحر يبكي دائما لزوال الحبابات المتشمسة. كلما زال واحدٌ بكى عليه، ظنا منه انطفاءَ الشُميسة المتبسمة في الحباب بزوال الحباب وتحوله، وقد يبكي لتكدر ما في الحباب وتشوهه باختلاط موادَّ كثيفةٍ به، ولا يرفع رأسَه حتى يتفطن لتنـزّه الذات -التي هذه التماثيل جلواتُ أنوارها المتجددة على وجه البحر وخدود الأمواج وعيون القطرات- عن الزوال بزوال مرايا تجلياته، بل ليس في ما ترى زوالٌ مؤلم ولا فراقٌ أليم.

أما الجمال بمحاسنه وجلواته فثابتٌ بكمال حشمته في تجدد شؤونه وتعدد مراياه. وأما المرايا والمظاهر فتظهر لوظيفتها وهي راقصةٌ، فإذا تمت الوظيفةُ استترت وهي ضاحكة.

كذلك أنت، قاعد على ساحل بحر الدنيا تتألم باكيا على أُفول ذوي الكمال والجمال والحسن، وعلى زوال ثمرات النِّعم عند انقضاء أوانها، تزعم بالغفلة أن الجمالَ مِلكُ ذي الجمال والثمرات مال الشجرة، وتغتصبهما منهما عاصفات التصادفات فتلقيهما في ظلمات العدمات. أفلا تعقل أن من نوّر ما تحبه بنور الحُسن هوالذي نوّر كلَّ أزاهير بستان الكائنات وشوّق عليها قلوب البلابل العاشقين.

إلى كم تبكي أيها المسكين على زوال ما في يدك من الثمرة! فانظر إلى تواتر نِعَم فالق الحب والنوى في إبقاء شجرة تلك الثمرة.. ثم إلى دائرة إنعاماته في أقطار الأرض من أمثال تلك الشجرة إن عقمت.. ثم إلى دائرة تجدد إحساناته في تجدد الفصول والسنين إن صارت سنتُك شهباء.. ثم إلى دائرة إدامة إحسانه حتى في عالم المثال والبرزخ بأمثال ما شاهدتَ في عالم الشهادة.. ثم إلى دائرة إنعاماته الواسعة الأبدية في عالم الآخرة بأشباه ما استأنستَ به في حديقة الأرض، ثم.. و.. ثم.. وهكذا! فلا تنظر إلى النِّعمة بالغفلة عن الإنعام حتى تحتاجَ إلى التشفي بالبكاء، بل انظر من النِّعمة إلى الإنعام ودوامِه، ومن الإنعام إلى المُنعِم ووسعةِ فيضه وكمالِ رحمته، فاضحك شاكرا له، وبفضله فافرح.

وحتى متى تدمع عينُك ويجزع قلبُك على فراق جمالٍ زالَ! فانظر إلى كثرةِ ووسعة الدوائر المتداخلة المحيطة بما تحبه؛ تنسيك ألمَ فراقه بإذاقة لذةِ تجدُّد أمثاله وترادفِ أشكاله. وتلك الدوائرُ المتفاوتة صغرا وكبرا إلى أصغرَ من خاتمِك وأكبرَ من منطقة البروج، وزوالا وبقاءً إلى آنٍ ودقيقة وإلى دهر وأبدٍ؛ مظاهرُ ومرايا ومعاكسُ ومجاري لجلواتِ ظلالِ أنوارِ جمال ذي الجلال والإكرام الأزلي الأبدي السرمدي القيوم الباقي المقدَّس عن الحدوث والزوال المنـزّه عن التغيّر والتبدل. فلا تظنن أن ما في المرآة مُلك للمرآة، كي لا تبكي على ما في المرآة بموتها وانكسارِها، فارفع رأسَك عن الدنيا بخفضه إلى منظار قلبك لترى شمسَ الجمال، فتعلمَ أنّ كلَّ ما رأيتَ وأحببت إنما هومن آياته نِعَمٌ.. ومن آيات جماله أنْ زيّن السماء بمصابيحها والأرضَ بأزاهيرها.. ومن آيات حُسنه أنْ خلق الإنسانَ في أحسن تقويم.. وأن كتبَ العالَم في أبدع ترقيم.. ومن آيات بهائه أن أشرق أرواحَ الأنبياء ونوّر أسرارَ الأولياء وزيّن قلوبَ العارفين بأنوار جماله المجرد. جلّ جلاله.

اعلم يا أنا! أراك أنك لا ترى تناسبا بينك -وأنت عجزٌ مطلق وفقر مطلق، قد تضايقتْ عليك الحدود والقيود حتى صرت كذَرَّة غابت في رمال الجزئيات وكنملة تراكمت عليها جبال الحادثات، وكنحلة تفاقمت عليها العاصفات- وبين مَن لا نهاية لقدرته وغنائه، ولا حدَّ ولا قيدَ لتجليات أسمائه وصفاته، وجميعُ الخلق في قبضة قدرته، والسماوات مطوياتٌ بيمينه، لا تتحركُ ذرةٌ في الكون إلّا بإذنه، لا شريك له في مُلكه وألوهيته، ولا منازعَ له في جبروته وربوبيته، ولا إله إلّا هو.

نعم، لوكانت وظيفتُك في الدنيا الاشتراكَ مع فاطرك في ربوبيته سبحانه، لكانت المناسبة لازمة في المعاملة معه، لكن هيهات! أين يدُ البعوضة من نسجِ قميصاتٍ مطرّزات قُدّت على مقدارِ قامات هذه العوالم، بل وظيفتُك في فطرتك وغايةُ كمالك في استعداد ماهيّتك إنما هي: العبوديةُ التي على المحوية تنبّتَت، ومنها ابتدأت وإلى المحبوبية انتهت، وإياها أثمرت. والعبوديةُ ضد الربوبية والمالكية. فعدم المناسَبة هي المناسِبة. فبدرجة علمك ببعدك عن الربوبية والمالكية تصير عبدا محبوبا مرحوما.

وإن العبوديةَ مرآةُ الربوبية بالضدية ككتابة الحروف النورية على صحيفة الظلمة، فكلما تقربَت إلى العدم تراءت منها أعالي مراتبِ جلواتِ الوجود للواجب الوجود جل جلاله ولا إله إلّا هو..

اعلم يا من يتوهم المبالغة في بعض ما ورد في فضائل الأعمال! مثلا: قد يُروى: من فعل هذا مثلا كان له مثلُ ثواب الثقلين.. حتى قال بعض: إن المرادَ الترغيب فقط، وبعض: مطلق الكثرة. وقد انكشف لي في ما مضى أن القضيةَ في تلك المتشابهات مطلقةٌ وقتية يكفي في صدقها وجودُ الحُكم في بعض الأفراد، في بعض الأوقات، فليست تلك القضايا كلية؛ إذ لصحتها شرائطُ غيرُ مذكورة معروفةٍ. فإن كانت كليةً فهي قضيةٌ ممكنة، وكذا ليست دائمة، لتقيّدها بالإخلاص وبالقبول.

وقد انكشف لي الآن، أن الثوابَ فضلُ الله وفيضُه، ونظرُ العبد لا يحيط بما يعطي مَن لا نهاية لتجليات فيضه لعبده الذي لا نهاية لاحتياجه في دارِ بقاء لا نهاية لدوامها. فما من فيضٍ -إذا نظرتَ إليه من جانب الله-، إلّا وفيه جهةٌ من عدم التناهي لووزِنَ بجميع ما أحاط به علمُ العبد لزاد عليه. مثلا روي: من قرأ هذا أُعطي له مثلُ ثواب موسى وهارون عليهما السلام. المراد أن ما ترونَه وتتصورونه بنظركم المتناهي في هذا العالم المتناهي من ثوابهما لا يزيدُ على ثواب قراءة آيةٍ في نفس الأمر وبالنظر إلى الله بشرط القبول والإخلاص.

وكذا إن التشبيه في الكمية دون الكيفية، فللقطرة المتشمسةِ أن تقول للبحر لا يزيدُ وجهُك على عيني في أخذ فيض الشمس من ضيائها وألوانه.

نعم، إن الثواب ينظر إلى عالم الإطلاق، وذرةٌ من ذلك العالم تسعُ عالَما من هذا العالم، كما تسعُ ذرةٌ من زجاج عالمَ السماء بنجومها.

وكذا قد يتيسر لأحد فتحُ خزينةٍ من رحمة بكلمة طيبة في حالةٍ قدسية، فيقيس الناسَ على نفسه فيعبر عن القضية الشخصية بالمطلقة الموهِمة كليةً، والعلم عند علام الغيوب ومقلّب القلوب جل جلاله.

* * *

زهرة

الرسالة السابعة([1])

زهرة

من رياض القرآن الحكيم

 

 

كلُّ حيّ في الدنيا كعسكر موظّف، إنما يعمل بحساب المَلِك وباسمه.

فمن زَعمَ أنه مالِكٌ، فهوهالِكٌ..

إنَّ هذا النظام والميزان المشهودين عنوانان لقبضتي الرحمن وبابان من الكتاب المبين.. ومن كتاب الكائنات.

والقرآن ترجمانُ الكتابين وفهرستة البابين وفذلكةُ القَبْضَتين.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الحاكم الحَكَمِ الحكيمِ الأزلي الذي نظَّمَ هذه الكائنات بقوانينِ عادتهِ وسنَّتهِ، وعيَّنها بدساتير قضائهِ وقدَره، وأسس بنيانَها بأُصول مشيئته وحِكمته، وزيَّنها بنواميسِ عنايتهِ ورحمتهِ، ونوَّرَها بجلواتِ أسمائه وصفاتِه. وهوالقادرُ القيومُ السرمدي الذي ما هذه الكائنات بماهياتها وهوياتها وتمايزاتِها وتزييناتِها وموازينها ومحاسنها إلا خطوطُ قلمِ قضائهِ وقدَره، ونقوشُ بركار عِلمه وحِكمته، وتزييناتُ يدِ بيضاء صُنعه وعنايته، وأزاهيرُ رياضِ لُطفه وكرمه، وثمراتُ فيّاض رحمتهِ ونعمتهِ، ولمعاتُ تجليات جمالهِ وكمالهِ جلَّ جلالهُ؛ حمدا يزيدُ على ضرب جميع الذرات في الذرات.

فيا من بتلألؤ لمعاتِ بروقِ شروق أسمائه ظهر عجائب المخلوقات.. ويا مَن تساوى بالنسبة إلى قدرته الذراتُ والسياراتُ.. ويا من كتبَ على مِسطَرِ الكتاب المبين -المصدرِ للنظام والميزان- هذه الكائنات المتزينات:

إنّا نُقدِّمُ إليك بين يَدي كلِّ سُكونٍ وحركةٍ تتحركُ بها ذراتُ العالَم ومركباتها شهادةَ: نشهدُ أن لا إله إلّا أنتَ وحدَكَ لا شريكَ لك، ونشهد أن محمّدا عبدُك ورسولُك، أرسلته رحمةً للعالمين.

اَللَّهُمَّ صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه بعددِ جميعِ الحروفات المتشكّلة في الكلمات المتمثلة بإذنِكَ في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كلِّ كلمةٍ من القرآن مِن كل قارئٍ من حين النـزول إلى يوم النشور.

اعلم أن ما يوصل إليك -بحسب الظاهر- من الوسائل؛ إمّا له اختيار أولا. وما لا اختيار له، لا ريب أنه يعطيك ما يعطيك بحساب الله وباسمه. فخذ وكُل أنت باسم الله، وتوجَّه بتمام شكرك إليه.. وإما له اختيارٌ ما، فلا تأخذ ولا تأكل منه ما لَمْ يُذكَرِ اسمُ الله عَليهِ، أي بإخطار صاحبه الحقيقي وبتوجيه نظرك إليه كما ترمز إليه الآية: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّٰهِ عَلَيْهِ﴾ (الأنعام:121).. فإن لم يَذكُر هو، فاذكر أنت. وانظر من فوقِه إلى مَن أنعمَ عليه وعليك. فانظر في النعمة إلى الإنعام، ومنه إلى المنعم الحقيقي. فاشكره بهذا النظر، فإنّ هذا النظر شكرٌ، ثم ارجع إن شئت وانظر إلى الوسيلة وأدعُ له مُثنيا عليه بسبب إرسال النعمة على يده. وإياك إياك يا قلبي أن تنظر أوّلا وبالذات إلى المنعم الظاهري..

الحاصل: لابد من «بسم الله»: مرتين في المختار، ومرة في غيره. وإياكِ إياكِ يا نفسي أن تظني «الاقترانَ» عِلّية.. فقد يقارن وصولُ نعمةٍ فعلَ أحدٍ، فيظنُ قاصرُ النظر أن فعلَه علّتُها، كلا! وإياك أن تجعلَ عدمَ نعمةٍ عند عدمِ شيءٍ دليلا على أن وجودَ ذلك الشيء علةُ وجودها. فقد تترتب النتيجةُ على ألوف أمورٍ، فلا توجد -بسنّة الله – تلك النعمة لفِقَدْ أي جزءٍ كان ولوأضعف الأمور. فهل يجوز لمن فتحَ قنطرة جدولٍ فسال الماءُ على نواة وبذر فانشجرت وتسنبلت، أن يدّعيَ أن الشجرة صُنعُه ومُلكه ومالُه حقيقةً؟ فهذه المسألة ميزان تُعرف به درجاتُ الغفلة والشرك الخفي..

وإياكَ إياك يا قلبي أن تسنِد ما يُفاض على الجماعة أويتظاهر منها أويتحصل من مساعيها إليكَ وإلى غيرك من ممثل الجماعة أوأُستاذِها أومرشدها؛ إذ مع أن هذا الإسناد والتصوّر ظلمٌ عظيم يوقع المسنَد إليه -المستتر فيه «أنا»- في غرور عظيم، وأنانية غليظة، ويفتح لمَن يسنِد منافذَ إلى نوع شركٍ خفي، فتأخذ الوسيلةُ حُكمَ المقصود ويلبس البوّابُ زيّ السلطان..

وإياك إياك إذا رأيت من أحدٍ فيوضاتٍ تَرِدُ عليك، أن تظن أنه مصدرُها أومنبعها. بل ما هوإلّا مظهرها ومَعكِسُها، بل يحتمل أن لا يكون مصدرا ولا مظهرا، بل لأجل حصر نظرك عليه تتخيل ما يُفاض عليك من مقلّبِ القلوب إلى قلبك، كأنه تمثّل أولا في مرشدك، ثم انعكس عليك. كَمَثل من يُمعن النظر في زجاجة، فيتجرد ذهنه فيجول في عالم المثال، فيشاهد غرائبَ فيزعمها متمثلة في الزجاجة، كلا!

اعلم يا من يستمد من الأسباب: «تنفخُ في غير ضرمٍ وتستسمن ذا وَرَم».

مثلا: إذا شاهدتَ قصرا عجيبا يُبنَى من جواهرَ غريبةٍ لا يوجد وقتَ البناء بعضُ تلك الجواهر إلا في الصين، وبعضها إلاّ في فاس، وبعضها إلّا في اليمن، وبعضها إلّا في سيبيريا، وهكذا.. أفلا تشهدُ أن ذلك القصر بناءٌ يبنيه مَن يحكم على كرة الأرض ويجلب من أطرافها ما يريد في أسرع وقت؟

وهكذا؛ كلُّ حيٍّ بِناءٌ، وكلُّ حيوان قصرٌ إلهي، لاسيما أن الإنسان من أحسن تلك القصور، ومن أعجبها، لأنه امتدت حاجاتُه إلى الأبد، وانتشرت آمالُه في أقطار السماوات والأرض، وشرعت روابطهُ في ما بين أدوار الدنيا والآخرة. فيا هذا الإنسان، لا يليق بك ولا يحق لك وأنت تحسَبك إنسانا أن تدعووتعبدَ إلّا مَن يَحكم على الأرض والسماء ويملك أزمةَ الدنيا والعقبى!

اعلم يا قلبي أن الأبله الذي لا يعرفُ الشمسَ إذا رأى في مرآةٍ تمثالَ شمس، لا يحب إلا المرآة ويحافظ عليها بحرص شديد لاستبقاء الشمس، وإذا تفطن أن الشمس لا تموت بموت المرآة ولا تفنى بانكسارها، توجَّه بتمامِ محبتِه إلى الشمس؛ إذ ما يشاهَد في المرآة ليس بقائم بها، بل هوقيومُها. وبقاؤه ليس بها، بل بنفسهِ.. بل بقاءُ حيوية المرآة وتلألؤها إنما هوببقاء تجليات الشمس ومقابلتِها، إذ هي قيومُها. يا هذا قلبُك وهويتُك مرآةٌ، فما في فطرتك من حُب البقاء ليس لأجلها، بل لأجل ما فيها.. فقل: «يا باقي أنت الباقي، فإذ أنت باقي فليفعل الفناءُ بنا ما شاء فلا نبالي بما نلاقي».

اعلم يا أيها الإنسان! إنّ من غرائب ما أودع الفاطرُ الحكيم في ماهيتك أنه قد لا تَسعك الدنيا فتقول «أوف» كالمسجون المخنوق، مع أنه تَسعُك خردلةٌ وحُجيرةٌ وخاطرةٌ ودقيقةٌ حتى تفنَى فيها، وتستعمل أشد حسياتك لها.. وأعطاك لطائف بعضُها يبتلع الدنيا فلا يشبع، وبعضها يضيق عن ذرة ولا يتحمل شُعيرة، كما أن العين لا تتحمل شعرة.

فاحذر وخفّف الوطء، وخَف أن تغرقَ ويغرق معك ألطفُ لطائفك في أكلةٍ، أوكلمةٍ، أوشعرة، أوشُعيرة، أولمعةٍ، أولحمةٍ، أوبقلةٍ، أوقُبلةٍ.. فإن في كل شيء جهة من عدم التناهي يطيق أن يُغرقَك، ولا يضيق عن بلعِك. فانظر إلى مرآتك كيف يغرقُ فيها السماء بنجومها! وإلى خردلةِ حافظتك كيف كتب «الحق» فيها أكثر ما في صحيفة أعمالك وأغلبَ ما في صحائف أعمارك! فسبحانه من قادرٍ قيوم!

اعلم أن دنياك كمنـزل ضيق كالقبر، لكن لأجل أن جدرانه من زجاجة تتعاكس، تراه واسعا مقدار مد البصر؛ إذ الماضي المعدومُ من جهة الدنيا، والآتي المفقودُ؛ مرآتان متقابلتان تصلان جناحَ حالك وتتصلان بزمانك. فلا تفرقُ بين الحقيقة والمثال؛ فيصير خطُ «آنِكَ» سطحا، حتى إذا تحركتَ بتحريك المصائب ضربت الجدرانُ رأسَكَ فيطيرُ خيالكَ ويُطرَد نومُك، فترى دنياكَ أضيقَ من القبر والجسر، وزمانَك أسرعَ من البرق والنهر..

اعلم يا من يريد أن يرى شواهدَ تجليات اسمه «الحفيظ» المشار إليه بـ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُۜ ﴿7 وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة:7-8) وبـ: ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْاَرْضِ وَلَا فِي السَّمَٓاءِ وَلَٓا اَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَلَٓا اَكْبَرَ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ (يونس:61) في صحائف كتاب الكائنات المكتوب ذلك الكتابُ على مِسطرِ الكتابُ المبين.

انظر إلى غُرفَةٍ تأخذها بقبضتك من أشتات بذور الأزهار والأشجار، قد اختلطت تلك البذور والحبَّات المختلفةُ الأجناسِ والأنواع، المتشابهةُ الأشكالِ والأجرام، بحيث لا يميَّز بينها. ثم ادفنْها معا -في الظلمة- في ظلمات تراب بسيط جامد محدود. ثم اسقِه بالماء الذي لا ميزانَ له ولا يفرّق بين الأشياء، فأينما توجّهْه يذهب. ثم انظر إليها عند الحشر السنوي وقد حُشر بنفخ الرعد في الصُور في الربيع، حتى ترى تلك البذورَ المختلطة المتشابهةَ كيف امتثلت بلا خطأ الأوامرَ التكوينيةَ من فاطرها الحكيم، بصورة يتلمعُ منها كمالُ الحِكمة والعلم والإرادة والقصد والبصيرة والشعور! ألا ترى تلك المتماثلات كيف تمايزت؟ حتى صارت هذه شجرةَ التين تنشُر وتنثر على رؤوسكم نِعَم ربّها! وصارت هذه أزاهيرَ تزيَّنت لأجلك وتضحك في وجهك وتتودّد لك؟ وصارت هاتيك فواكهَ مما تشتهون تدعوك إلى أنفسها وتفديها لك؟ حتى صارت تلك الغُرفة بإذن خالقها جَنةً مشحونةً من الأزهار المختلفة والأشجار. وانظر هل ترى فيها غلطا أوقصورا؟. ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَۙ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ (الملك:3) بل قد أعطى «الحفيظ» لكلٍ منها ما ورثه من مال أبيه وأصله بلا نقصان وبلا التباس. فما يفعل هذا الفعل إلا من يقتدر على أن يقيم القيامة. فمَن يفعل هذا، هوالذي يفعل تلك.. فإظهارُ كمالِ الحفظ ها هنا مِن الأمور التافهة الزائلةِ حُجةٌ بالغة على محافظة ما له أهميةٌ عظيمة وتأثير أبدي، كأفعال خلفاء الأرض وآثارهم، وأعمال حَملة الأمانة وأقوالهم، وحسنات عبدة الواحد الأحد وسيئاتهم. ﴿اَيَحْسَبُ الْاِنْسَانُ اَنْ يُتْرَكَ سُدًى (القيامة:36) بلى إنه لمبعوث إلى الأبد، فيحاسَب على السبَد واللبَد.

فهذا المثال الذي تنسج أنت على منواله ليس قبضةً من صُبرة أوغرفة من بحر، بل حَبَّة من رمال الدهناء، ونقطة من تلال الفيفاء، وقطرة من زلال السماء.. فسبحانه مِن حفيظ رقيب وشهيد حسيب.

اعلم أيها السعيد الغافل! إن ما لا يرافقك بعد فناء هذا العالم بل يفارقك بخراب الدنيا، لا يليق أن تلزق قلبَك به. فكيف بما يتركك بانقراض عصرك؟.. بل فكيف بما لا يصاحبك في سفر البرزخ؟.. بل فكيف بما لا يشيّعك إلى باب القبر؟.. بل فكيف بما يفارقك سنة أوسنتين فراقا أبديا مورِثا إثمَه في ذمتك؟.. بل فكيف بما يتركك على رغمك في آن سرورك بحصوله؟

فإن كنت عاقلا لا تهتم ولا تغتم، واترك ما لا يقتدر أن يرافقَك في سفر الأبد، بل يضمحل ويفنَى تحت مصادمات الانقلابات الدنيوية والتطورات البرزخية والانفلاقات الأُخروية. ألا ترى أن فيك شيئا لا يَرضى إلّا بالأبد والأبدي، ولا يتوجه إلّا إليه، ولا يتنـزل لما دونه؟ وذلك الشيء سلطانُ لطائفك. فأطِعْ سلطانك المطيع لأمر فاطره الحكيم جلّ جلاله.

………

اعلم يا أيها السعيد الغافل! تنظر إلى أطرافك الآفاقية فتراها ثابتة مستمرة في الجملة وبالنوع، فتظن نفسَك أيضا ثابتةً دائمةً حتى لا تتدهشُ إلّا من القيامة، كأنك تدوم إلى أن تقوم هي. كلا! إنك ودنياك في مَعرض الزوال والفناء في كل آن. فمثلك في هذا الغَلط كمثل مَن في يده مرآة متقابلةٌ لمنـزل أوبلد أوحديقة ارتسمتْ هي فيها، ففي أدنى حركة للمرآة وتغيرها يحصل الهرج والمرج في تلك الثلاثة التي اطمأننتَ بها. وأما بقاؤها في أنفسها فلا يفيدك، إذ ليس لك منها إلا ما تعطيك مرآتُك بمقياسها وميزانها. فتأمل في مرآتك وإمكان موتها وخراب ما فيها في كل دقيقة. فلا تحمِل عليها ما لا طاقةَ لها به.

اعلم أن من سنة الفاطر الحكيم -في الأكثر- ومن عادته، إعادةَ ما لَهُ أهميةٌ وقيمةٌ غاليةٌ بعينهِ لا بمثله في الأدوار والفصول المتكررة بتجدد الأمثال في أكثر الأشياء. فانظر إلى الحشر العصري والسنوي واليومي، تَرَ هذه القاعدةَ مطّردة. وقد اتفقت الفنونُ وشهدت العلومُ على أن الإنسان أكملُ ثمرات شجرة الخلقة، وله أهمية عظيمة وقيمة غالية، وفردُه كنوعِ غيره. فبالحدس القطعي يُعادُ كلُّ فردٍ من البشر في الحشر والنشر بعينه وجسمه واسمهِ ورسمهِ..

………

اعلم أن الفذلكات المذكورةَ في أواخر الآيات لا تنظر إلى تلك الآية التي هي فيها فقط، بل تنظر إلى مجموع القصة، بل إلى تمام السورة، بل إلى جميع القرآن؛ لتساند الآيات وتلاحظها وتناظرها، فلا تزنْ ما في الفذلكة بميزان مآل آيتها فقط، ولا تحمِل عظمتَها على حُكمٍ جزئي مُهّد المحلُ لذكرها، وإلّا بَخَسْتَها حقَّها. مثلا قال: ﴿وَكَذٰلِكَ نُفَصِّلُ الْاٰيَاتِ﴾ (الأعراف:174).. ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا في هٰذَا الْقُرْاٰنِ﴾ (الإسراء:41).. ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ في هٰذَا الْقُرْاٰنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ (الروم:58).. و﴿اِنَّ اللّٰهَ عَزيزٌ حَكيمٌ﴾ (التوبة:71).. و﴿اِنَّ اللّٰهَ عَليمٌ قَديرٌ (النحل:70) ومثل: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات:49) و﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (البقرة:183) وأمثالها مما له عيون ناظرة إلى أكثر الآيات التنـزيلية، وأكثر الآيات التكوينية، وأكثر الأحوال البشرية.

فهذه الخواتيم القرآنية التي تُمهَرُ بها الآيات مع تأييدها لآياتها، ترفع رأسَ المخاطَب من الجزئي المشتّت إلى الكلي البسيط؛ ومن الجزء المفصّل إلى الكل المجمل، وتوجِّه نظره إلى المقصد الأعلى.. وغير ذلك من أسرار البلاغة.

اعلم([2]) يا قلبي قد يغالطك الشيطان بإراءة الغير الغير المحدود، ليهونَ عندك قيمةَ ما أُنعم عليك. فانظر حينئذٍ إلى احتياجك ونفسِك وعجزك وحكمة النعمة والإنعام القصدي في النعمة، وإلى عدم تناهي تجلي القدرة والعلم والإرادة، وإلى غايات وجودك ونتائجه العائدة إلى مالكه وصاحبه الحقيقي الذي له الأسماء الحسنى. وكذا يغالطك الموسوِس مستمدا من أنانيتك ومستندا بفرعونية النفس بإراءة صغار الحيوانات وخِساس الحشرات، ويضعها نصب عينك ويقول لك: ما الفائدة في خلقتها السريعةِ الزوالِ؟ فيلقنك العبثيةَ -بعد تلقين أنّ غايةَ الحياة هي الحياة، وأن قيمة الحياة بالبقاء- ليُسقِطَ في عينك أهميةَ الرحمة والنعمة وإتقانِ الصنعة فيما تُشاهِد هذه الثلاثةَ فيه، ليُنسيكَ الصانعَ بالتعطيل. فقابلْ أنت بإراءة السماوات بنجومها والأرضِ بحيواناتها. هذا إذا نظرتَ إليها وأنت أنت.. وأما إذا نظرتَ إلى ما هوأصغر منك، فانظر أيتها الحُجيرةُ الكبرى إلى غرائب حياة حُجيرات جسدك ووظائف الكريوات الحمراء والبيضاء في دمك الدائر مادمتَ في هذه الدار، وإلى رقائق لطائفك الطائفة بقلبك.


[1] طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «نجم استقبال» بإستانبول سنة 1341هـ (1923م) ثم ترجمها الأستاذ النُّورْسِيّ إلي اللغة التركية مع شيء من الإيضاح وجعلها «اللمعة السابعة عشرة» في خمس عشرة مذكرة وقد أشرنا إلى موضع كل مسألة من اللمعة المذكورة، فمن شاء فليراجعها.

[2] قد مرّ في ذيل الحباب إجمال هذه المسألة. (المؤلف).

ذيل الحبة

ذيل الحبة

يا ناظر!

أظنني أحفر بآثاري المشوّشة عن أمرٍ عظيم بنوع اضطرارٍ مني.

فيا ليت شعري هل كَشَفتُ..

أوسينكشفُ..

أوأنا وسيلة لتسهيل الطريق لكشّافه الآتي.

لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله..

حَسْبُنا الله ونِعمَ الوَكيل.

اَللَّهُمَّ لا تُخرِجنا مِنَ الدُّنيا إلّا مَعَ الشَّهادة والإيمان.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

اَلْحَمْدُ لله عَلَى نِعْمَةِ الإيمَانِ وَالإسْلَامِ بِعَدَدِ قَطَرَاتِ اْلأمْطَارِ، وَأمْوَاجِ البِحَارِ، وَثَمَرَاتِ اْلأشْجَارِ، وَنُقُوشِ الأزْهَارِ، وَنَغَمَاتِ الأطْيَارِ، وَلَمَعَاتِ اْلأنْوَارِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلى كُلٍّ مِنْ نِعَمِهِ فِي اْلأطْوَارِ، بِعَدَدِ كُلِّ نِعَمِهِ فِي الأدْوَارِ.

وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلى سَيِّدِ اْلأبْرَارِ وَاْلأخْيَارِ مُحَمَّدٍ المُخْتاَرِ وَعَلى آلِهِ الأطْهَارِ وَأصْحَابِهِ نُجُومِ الْهِدَايَةِ ذَوِى اْلأنْوَارِ مَادَامَ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ.

اعلم أن المسافر كما يُصادف في سيره منازلَ، لكلِّ منـزلٍ شرائطُ تخصّهُ.. كذلك للذاهب في طريق الله مقامات ومراتب وحالاتٌ وحُجبٌ وأطوار، لكل واحدٍ طورٌ يَخصهُ؛ مَن خلَطَ غلطَ. كمثل مَن نزل في قرية اصطبلا سمع فيه صهيل الفرس، ثم في بلدٍ نزل قصرا فسمع تَرَنُّمَ العندليب، فتوهم الترنمَ صهيلا، وأراد أن يستمع منه صهيل الفرس مغالطا لنفسه.

اعلم أن مما زيّن في عينك هذه الحياةَ تلألُؤ تماثيلِ نجوم الهداية من أماثل الأسلاف في مرآة الدنيا، بسرّ: أن المستقبل مرآة الماضي، والماضي يلتحق بالبرزخ -بمعناه- ويُودع صورتَه ودنياه في مرآة الاستقبال والتاريخِ وأذهانِ الناس. مثلك في حب الحياة بحبهم كمثل مَن صادف في وجه طريقه مرآةً عظيمة فرأى فيها تماثيل رفقائه وأحبابه الذاهبين إلى الشرق (مغرّبين في المرآة) فيتوحش من الشرق فيهرول مغربا. ولوكُشِفَ عن وجهك غطاءُ الغفلة لرأيتَك تسرعُ في بيداءَ خاليةٍ يابسة لسراب وعذاب، لا لِعَذْبٍ وشراب..

اعلم أن من عظيم علوالقرآن وأصدق دليل حقانيته: محافَظَتَه لكلِّ لوازمات التوحيد بمراتبه.. ومراعاتَهُ لموازنة الحقائق العالية الإلهية.. واشتماله على مقتضيات الأسماء الحسنى، والتناسب بينها.. وجمعَه لشؤونات الربوبية والألوهية بكمال الموازنة. وهذه خاصيّةٌ ما وُجدَت قطُّ في أثر البشر وفي نتائج أفكار أعاظم الإنسان من الأولياء المارين إلى الملكوت، والإشراقيين الذاهبين إلى بواطن الأمور، والروحانيين النافذين إلى عالم الغيب.

فإنهم لا يحيطون بالحقيقة المطلقة بأنظارهم المقيدة، بل إنما يشاهدون طَرفا منها فيتشبثون به وينحبسون عليه ويتصرفون فيه بالإفراط والتفريط.. فتختل الموازنة ويزول التناسبُ.

مَثلهم كمثل غوّاصين في البحر لكشف كنـزٍ متزين ممتلئ بما لا يحصى من أصناف الجواهر، فبعضٌ صادف يدُه ألماسا مستطيلا مثلا، فيحكمُ بأن الكنـزَ عبارةٌ عن ألماسٍ طويل، وإذا سمع من رفقائه وجودَ سائر الجواهر فيه يتخيلها فصوصَ ألماسه، وصادف آخرُ ياقوتا كرويا وآخر كهربا مربعا وهكذا. وكل واحد يعتقد مشهودَه جرثومَ الكنـز ومعظمه، ويزعم مسموعَه زوائدَه وتفرعاتِه، فتختل الموازنة ويزول التناسب، فيضطرون للتأويل والتصلف والتكلف حتى قد ينجرّون إلى الإنكار والتعطيل. ومَن تأمل في آثار الإشراقيين والمتصوفين المعتمدين على مشهوداتهم بلا توزين بميزان السُّنة لم يتردد فيما قلت.

ثم انظر إلى القرآن فإنه أيضا غواص لكن له عينٌ مفتوحة تحيط بالكنـز وما فيه، فيصف الكنـزَ كما هوعليه، بتناسب وانتظام واطراد.

مثلا: يشتمل على ما تقتضيه عظمةُ مَن: ﴿وَالْاَرْضُ جَميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه﴾ (الزمر:67).. وكما قال: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104) مع أنه: ﴿يُصَوِّرُكُمْ فِي الْاَرْحَامِ كَيْفَ يَشَٓاءُ﴾ (آل عمران:6) ﴿مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هو اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (هود:56) و﴿خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ﴾ (الأنعام:73) مع أنه: ﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الصافات:96) ﴿وَيُحْيِ الْاَرْضَ﴾ (الروم:50) ﴿وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ﴾ (النحل:68) ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِاَمْرِه﴾ (الأعراف:54) ﴿اَوَلَمْ يَرَوْا اِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٓافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَۜ مَا يُمْسِكُهُنَّ اِلَّا الرَّحْمٰنُۜ اِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصيرٌ﴾ (الملك:19) ويكتب صحيفة السماء بنجومها وشموسها ككتابة صحيفةِ جناح النحلة بحجيراته وذراته ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ﴾ (البقرة:255) مع أنه: ﴿وَهومَعَكُمْ اَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ (الحديد:4) ﴿هوالْاَوَّلُ وَالْاٰخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُۚ وَهوبِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾ (الحديد:3) وهكذا.. وقس عليها.. وما يشاهد في نوع البشر من أنواع الفرق الضالة، إنما نشأت من قصور أئمتهم المارين إلى الباطن، المعتمدين على مشهوداتهم، الراجعين من أثناء الطريق، المصداقين لما قيل: «حفظت شيئا وغابت عنك أشياء».

اعلم أن توصيفَ السماء بالدنيا في: ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَٓاءَ الدُّنْيَا (فصلت:12) ومقابلة الدنيا للآخرة، تشير إلى أن السماوات الست الأُخر ناظرةٌ إلى عوالم أخرى، من البرزخ إلى الجنة، والمشهودةُ بنجومها وطبقاتها سماء الدنيا. والله أعلم.

اعلم أنه جِيءَ بك من العدمِ إلى الوجود، ثم رقّاك موجِدُك من أدنى أطوارِ الوجود حتى أوصَلكَ بإنعامه إلى صورة الإنسان المسلم. فما تخلل بينك وبين مبدإ حركتك من المنازل الكثيرة المتعددة كلٌّ منها نعمةٌ عليك، وفيك ثمرةٌ وصبغةٌ من كلِّ واحدٍ. فصرتَ كقلادةٍ منظّمة، وعنقودٍ نضيدٍ بحبات النِعَم، وسنبلةٍ منضدة من الرأس إلى القدم، كأنك فهرستة لطبقات نِعَمه تعالى؛ ولأن الوجودَ يقتضي علّةً، والعدمَ لا يقتضي.. كما تقرر في العقول.. تُسأل ويُسألُ عنك في كل منزل في مراتب الوجود من الذرة إلى العدم: كيف وصلت إلى هذه النعمة؟ وبِمَ استحققتَها وبـ«هل شكرتَ؟» ولا يَسأل من له مسكةُ عقلٍ عن حَجَر لماذا ما صار شجرا، وعن شجرةٍ لماذا ما صارت إنسانا…

فيا أيها السعيد المسكين المغرور! أنت نقطةٌ في وسط سلسلةِ الموجودات، فعليك نِعَمٌ بعددِ ما تحتَك إلى العدم الصرف، وأنت مسؤولٌ عن شُكرها. وأما ما فوقك فليس لك ولا لأحدٍ أن يسأل لماذا ما وصلتَ إلى أعلى مما أنت فيه، كما لا حقَّ للذرة أن تقول: «أي واه» لِمَ ما صرتُ شمسا، ولا للنحلةِ أن تقول لصانعها: هلا خلقتَني نخلةً مثمرة؟.. إذ ما تحتك وقوعاتٌ، وما فَوقك عدمات إمكانات شبيهة الممتنعات..

اعلم يا أنا! أن مما أهلككَ وأهواكَ وأوهمك وأهذاك وأذلك وأضلك؛ أنك لا تعطي كلَّ ذي حقٍ مقدارَ حقّه، وكل ذي حِمل حملَهُ بوسعه، بل تَفرِطُ وتُفرِّطُ فتحمِّل على نفرٍ ممثلٍ للجيش كلّ لوازمات الجيش العَرَمْرم، وتتحرى في تمثال الشمس في عين القطرة أووجهِ الزهرة كلّ لوازمات عظمة شجرة الشمس المثمرة بالسيارات. نعم، القطرة والزهرة تصفان ولا تتصفان.

اعلم أن المُلكَ له، وأمانتُه، واشتراه، لا فائدة في «المرق». لا خير فيما لا يبقى. وإياك ونقضَ العهد معه. وعليك بالموت، والموتُ المنجرّ إلى الحياة أولى من هذه الحياة المنقلبة إلى الموت.

اعلم أن ما في المرآة كما أنه «ليس عينا ولا غيرا» فهو«عين وغيرٌ»، فمن حيث إنه مظروفُ ملكوتِ المرآة «عينٌ» فأحكامُه أحكامُ الأصل. ومن حيث إنه صفةُ مُلكِ المرآة المتلألئة به «غيرٌ»، فله أوصافٌ ناظرة إلى المرآة، لا إلى الأصل فقط. ومن الحيثيتين «لا عينٌ ولا غيرٌ». كما أن الشيء في مرآة الذهن -من وجهِ أنه مظروفه- معلومٌ، ومن جهةِ أنه صفته علمٌ مع تغاير لوازمهما…

اعلم أنه لا تزاحم بين العوالم المختلفة في نوع الوجود. فإن شئتَ فادخل في ليلة مظلمة منـزلا منوّرا بالمصابيح وأربع جدرانه من الزجاجة التي هي نوع مشكاةٍ للعالم المثالي؛

فأولا: ترى فيها -باتصالِ الحقيقي بالمثالي- منازلَ عديدةً متنورة عمّت البلد كأنه لا ظلمة بمقدار مد النظر..

وثانيا: تراك تتصرف بالتغيير والتبديل بكمال السهولة في تلك المنازل..

وثالثا: ترى السراج الحقيقي أقربَ إلى أبعد السُرُج المثالية من لصيقهِ، بل من نفسه لأنه قيّومه

ورابعا: ترى أن حبةً من هذا الوجود تقتدر أن تقل وتحمل عالما من ذلك الوجود.

فهذه الأحكام الأربعة تجري في موادَّ كثيرةٍ حتى بين الواجب وعالم الممكنات التي وجوداتها ظلال أنوار الواجب، فوجودها في مرتبة الوهم، لكن استقرّ وثَبتَ -بأمره تعالى له – وجودٌ خارجي، فليس خارجيا حقيقة بالذات ولا وَهميا محضا ولا ظليا زائلا بل له وجودٌ بإيجاد الواجب الوجود. فتأمل..

اعلم أنه كما أنه محال أن لا يكون لهذا المُلك المُعتَنى به مالكٌ، كذلك محالٌ أن لا يتعرفَ ذلك المالكُ إلى الإنسان الذي يدرك درجاتِ محاسنِ الملك الدالة على كمالات المالك، مع أن ذلك الإنسان كالخليفة في مهده الممهّد له يتصرف فيه كيف يشاء؛ بل في السقف المحفوظ السماوي أيضا بعقله. ومع ذلك إن الإنسان أشرفُ المخلوقات بشهادة تصرفاته العجيبة الخارقة مع صغره وضعفه، وإنه أوسعُ الأسباب اختيارا بالبداهة. فبالضرورة يرسل المالك من يعرّف المالكَ إلى مماليكه الغافلين عنه ويخبرهم ما يَرضى به ويطلبه منهم ذلك المالك جل جلاله..

اعلم أن كلَّ الحواس حتى الوهم والفرض والخيال يتفقون في النهاية على الحق ويَلتَجِئون إليه، ولا يبقى عندهم للباطل إمكان. فيقرون بأن الكائنات لا يمكن أن تكون إلّا على ما أخبَر به القرآن.. هكذا شاهدتُ وعقلي معي.

اعلم أنه كما لا تزاحم ولا تصادم بين عالم الضياء وعالم الحرارة وعالم الهواء وعالم الكهرباء (والألكتريقية) وعالم الجاذبة إلى عالم الأثير والمثال والبرزخ. تجتمع الكلُّ بلا اختلاط معك في مكانك بلا تشكٍّ من أحدٍ منكم، من مزاحمةِ أخيه.. فهكذا يمكن أن يجتمعَ كثيرٌ من أنواع العوالم الغيبية الواسعة في عالم أرضنا الضيقة. وكما لا يعوقنا الهواءُ من السير ولا يمنعنا الماءُ من الذهاب ولا يمنع الزجاجُ مرورَ الضياء ولا يعوقُ الكثيف أيضا نفوذَ شعاع «رونتكن» ونورِ العقل وروح المَلَك، ولا يمنع الحديدُ سيلانَ الحرارة وجريان «الألكتريق» ولا يعوق شيءٌ سريانَ الجاذبة وجولانَ الروح وخدّامه وسيرانَ نور العقل وآلاتِه.. كذلك هذا العالَمُ الكثيف لا يمنع ولا يعوق الروحانياتِ من الدوران، والجنَّ من الجولان، والشيطانَ من الجريان، والمَلَك من السيران..

اعلم أن النور والنوراني كالعين والسراج والشمس، يتساوى لها الجزئي والنوع والجزء والكل والواحد والأُلوف. فانظر إلى الشمس كيف انصبغت بتماثيلها السياراتُ والبحورُ والحياضُ والحبابات والقطَرات والرشاشات (والشَّبنَمات) والذرات الزجاجية دفعةً، بالسهولة والمساواةِ بين السيارات والذرات.

كذلك – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى – تصرفاتُ شمسِ الأزل نورِ الأنوار في كتاب الكائنات هكذا.. يكتُب كلَّ أبوابه وفصوله وصحفه وسطوره وجمله وحروفه دفعةً بلا كُلفة كما قال: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (لقمان:28).. آمَنّا..

اعلم أن من تأمل في ذرات الأشياء وسَرَيانها إلى حدود، ثم توقِفها عندها لفوائدَ وثمراتٍ، تيقّن أن عند الحدود من يأمر الذرات بـ: قفي وانثني! كما يأمر القالبُ الذهبَ الذائبَ بلسان حديد، وينهى بـ: لا تَسِل واستقر! فيما عَيَّنَتْه لك معاطفي وتلافيفي المصنوعة لحِكم.

وآمرُ الذرات ما هو إلّا علمٌ محيطٌ يتجلى ذلك العلمُ قدَرا، فينعكس القدَرُ مِقدارا فينطبع المقدارُ قالبا..

…………

اعلم أن القرآن كما يفسّر بعضُه بعضا، كذلك إن كتاب العالم يفسِّر بعضُ آياته بعضها. فكما أن العالَم المادي يحتاج احتياجا حقيقيا إلى شمس تفيض منها عليه أنوارُ نعمته تعالى، كذلك العالمُ المعنوي يحتاج أيضا إلى شمس النبوة لفيضان أضواء رحمته تعالى. فنبوةُ أحمد عليه الصلاة والسلام في الظهور والوضوح والقطعية بدرجة الشمس في وسط النهار، وهل يحتاج النهارُ إلى دليل؟..

اعلم أن الثمرات المترتبةَ على وجود الحي لا تنظر إلى الحي وبقائه ونفعِه وكمالِه فقط، بل إليه بحصةٍ ودرجة، وإلى المحيي جل جلاله بدرجات غير محصورة.. فحصةُ الحي قد لا تحصل إلا بزمان مديد، لكن ما ينظُرُ إلى المحيي قد يحصل في آنٍ سيال، كإظهار الحي -بمعكسيته ومظهريته لتجليات الأسماء الحسنى- حمدَ خالقهِ بتوصيفه بأوصافِ كماله وجماله وجلاله بلسان الحال..

اعلم أن فردَ الإنسان كنوع سائر الأنواع، بسر: أن فرد الإنسان له ماضٍ ومستقبل يجتمع في الشخص -معنىً- كلُّ مَن مات منه من أفراد نفسه؛ إذ في كل سنةٍ يموت منه فردان صورةً ويورثان فيه معنَييْهما من الآلام والآثام والآمال وغيرها، فكأنه فردٌ كلي.. وإحاطةُ فكره وعقله ووُسعة قلبه وغيرها تعطيه نوعَ كليةٍ.. وكونَ فرده كنوعه في الخلافة والمركزية لعالمٍ خاص كالعالم العام.. والعلاقةُ الشعورية مع أجزاء العالم وتصرفُه في كثير من أنواع النباتي والحيواني والمعدني تحويلا وتغييرا خلافا لسائر الحيوانات وغيرها، أيضا تعطي له نوعَ كليةٍ، كأنَّ كلَّ فردٍ نوعٌ منحصر في الشخص.. ودعاء المؤمن لعموم أهل السماوات والأرض يشير إلى أن الشخص يصير بالإيمان كعالَم، أومركزِه. فما تجري في نوع الحيوان من القيامات المكررة النوعية المشهودة في كل سنة -فإن شئت فَانظُر إلى آثارِ رحمة الله في كل سنة في الثمرات المتجددةِ الأمثالِ كأنها أعيانُها، وإلى حشر أنواع الهوام والحشرات بكمال سهولة من القيامة- تجري بالحدس القطعي في كل فرد من أفراد الإنسان، فيدل كتاب العالَم في هذه الآيات التكوينية على قيام القيامة الكبرى لأبناء البشر، كما يدل القرآن عليه بالآيات التنـزيلية.. فالدلائل العقلية على القيامة ذكرتُها في «إشارات الإعجاز» وفي الباب الثالث في «نقطة» فراجعهما إن شئت، فإن فيهما ما يطرد عنك الوساوسَ ويطيّر عنك الأوهام..

اعلم أنك إذا استمعت القرآن فألبس لكلّ نغمةٍ -من نغماتهِ المتطوّرة على الحُجُب، والمتنوعة في المراتب الإرشادية، والمنصبغة بحسيات الوسائط، من جبرائيل عليه السلام إلى من تسمع منه- ما يناسبها.

فلك أن تَمُرّ بسمعك من القارئ في مجلسك إلى الاستماع من النبيِّ ﷺ الذي يقرؤه في ذروة شاهق النبوة في مجلس الأرض على أبنائها من بني آدم وغيرهم.

ولك أيضا أن تستمعَ من جبرائيل وهويخاطب النبيَّ في الأفق الأعلى عليهما الصلاة والسلام.

ولك أن تستمع من خلف سبعين ألف حجابٍ من المتكلم الأزلي، وهويتكلم مع النبي في قاب قوسين أوأدنى. فألبسْ إن استطعتَ لكلٍّ ما يليقُ به!

اعلم أن ما يتعلق بك منك من الشعور والعلم، إنما هوبدرجةِ ما يرجع إليك منك، بسر عدم الإسراف، ومناسبةِ السبب للمسبَّب، والقوةِ للعمل. وما يرجع إليك بالنسبة إلى ما يرجع إلى مَن خَلَقَك كنسبة شعرةٍ إلى حبل، وخيط إلى ثوب. فنسبةُ علمِك وشعورك المتعلقين بك بالنسبة إلى علمِه وبصره المتعلقين بك كنسبة «تنور الذباب» الذي يبرق منه النور كنُجيمة بتلمعه في النهار تحت ضياء الشمس المحيط به. وأنت في ظلمات الغفلة، وليل الطبيعة ترى لمعتَك نجما ثاقبا..

اعلم أن فيما بين أفعال الله تناسبا، وبين آثاره تشابها، وبين أسمائه تعاكسا، وبين أوصافه تداخلا، وبين شؤوناته تمازجا. إلّا أن لكلٍ طورا يخصُّه، يستتبع ما سواه في طوره. فلا يُتوجّه قصدا في بيته ودائرة حُكمه إلى غيره، ولا يُطلَب لوازمُ الغير منه، لأن لازم اللازم ليس بلازم إلّا بقصدٍ جديد. إذ التابع لا يُستتبع، كما أن الحرف التبعي لا يُحكم عليه.

فإذا نظرت من آثاره إلى الجامدات فتوجّه قصدا إلى القُدرة والعظمة، ويتراءى لك تجليات سائر الأسماء استطرادا وتَبَعيا.

فإذا نظرتَ إلى الحيوانات الغير الناطقة فألبس لها طورها، فهكذا ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عندهُ بِمِقْدَارٍ (الرعد:8) ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا (الفرقان:2).

اعلم أن «لاَ حَولَ ولاَ قُوّةَ إلاّ بالله» ينظر إلى مراتب أطوار الإنسان وأدوار وجوده من الذرات إلى الوجود الحي، معدنا جامدا، ونباتا ناميا، وحيوانا حساسا، وإنسانا مؤمنا، ففي كل مقام من تلك المنازل، ولكل لطيفة من لطائفه آلامٌ وآمال:

فلا حولَ عن العدم ولا قوةَ على الوجود إلّا باللّه..

لا حول عن الزوال ولا قوةَ على البقاء إلّا باللّه..

لا حول عن المضار ولا قوةَ على المنافع إلّا باللّه..

لا حول عن المصائب ولا قوةَ على المطالب إلّا باللّه..

لا حول عن المعاصي ولا قوةَ على الطاعات إلّا باللّه..

لا حول عن النقم ولا قوةَ على النعم إلّا باللّه..

لا حول عن المساوئ ولا قوةَ على المحاسن إلّا باللّه..

لا حول عن الآلام ولا قوةَ على الآمال إلّا باللّه..

لا حول عن الظلمات الهائلة ولا قوة على الأنوار المتلألئة إلّا باللّه العلي العظيم.

حبة

الرسالة السادسة

 حبة

من نواتات ثمرة من ثمرات جنان القرآن

 حَبَّه مِى كُويَدْ

مَنْ شَاخِ دِرَخْتَمْ بُر أَزْ مَيْوَهءِ تَوْحِيدْ

يَگْ شَبْنَمَمْ أَزْيَمْ بُرَازْ لُؤْلُؤِ تَمْجِيدْ([1])


في (ط 1)

إفادة المرام

اعلم أنه قيل لي إن الناس يقولون: لا نفهم كثيرا مما في آثاره فتصير ضايعة.

فأقول: لا تضيع بإذنه تعالى. وسيجيء زمان يفهمها أكثرُ المتفكرين المتدينين إن شاء مَن بيده مقاليدُ كل شيء؛ إذ أكثر هذه المسائل أدويةٌ جربتُها في نفسي أعطانيها الفرقان الحكيم، لكن يمكن أن لا يفهمَها الناسُ كما أفهمُها بتمامها! لأن نفسي -بسوء اختيارها- من الرأس إلى القدم ملمّعةٌ بالجروح المتنوعة، فالسليمُ بحياة القلب لا يفهم درجةَ تأثير الترياق في السقيم بلدغ حية الهوى كما يفهمه هو…

وأيضا إني لا أتصرف في السانحات للتوضيح؛ عجزا من التحرير أوخوفا من التغيير. فأكتبها كما سنحت…

وأيضا أتكلم في مكاني، لا في مقام السامع المواجه لي -خلافا لسائر المتكلمين الذين يفرضون أنفسَهم في مقام السامعين- فيصير أمام كتابي (الذي) وجههُ إليّ، ومعكوسُه ومقلوبه إلى السامع، فكأنه يقرأ في المرآة فيتعسّر عليه؛ فإذا لا أذهب إلى مقامه، فليرسل هوخيالَه إليّ لأضيّفَه على عيني في رأسي، كي يرى كما أرى.

أدرجتُ في «نقطة وقطرة وذيلها وذرة وشمة وحبة» تفاريقَ حدسيات، وقطعات مرآة إذا جاء بإذنه تعالى من يركّبها، بتحرير وتصوير، تظهر مرآةٌ يظهر فيها وجهُ عين اليقين ويتحصل حدسٌ يزهر منه نورُ حق اليقين.. كيف لا، وهومن فيض القرآن المبين!

اَللَّهُمَّ أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعَه وأرنا الباطلَ باطلا وارزقنا اجتنابه..آمين


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لله عَلٰى دِينِ الإسْلَامِ وَكَمَالِ اْلإيمَانِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلٰى مُحَمَّدٍ الَّذِي هومَرْكَزُ دَائِرَةِ اْلإسْلَامِ وَمَنْبَعُ أنْوَارِ اْلإيمَانِ، وَعَلٰى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ مَادَامَ الْمَلَوَانِ وَمَادَامَ الْقَمَرَانِ.

اعلم أنه بينما ترى العالَم كتابا كبيرا ترى نورَ محمد عليه الصلاة والسلام مِدادَ قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه عليه الصلاة والسلام نواتَها أولا، وثمرتَها ثانيا.. وبينما ترى العالَم يلبس جسمَ الحيوان ترى نورَه «عليه الصلاة والسلام» روحَه.. وبينما ترى العالم تحوّل إنسانا كبيرا ترى نورَه عليه الصلاة والسلام عقلَه.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نورَه عليه الصلاة والسلام عندليبَه.. وبينما ترى العالم قصرا مزيّنا عاليا ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعةُ سلطنة سلطان الأزل وخوارقُ حشمته، ومحاسنُ تجليات جماله، ونقوشُ خوارق صنعته، إذا ترى نورَه عليه الصلاة والسلام نظّارا يرى لنفسه أولا، ثم ينادي بيا أيها الناس تعالَوا إلى هذه المناظر النـزيهة، وحَيهلوا على ما لَكُم فيه كل شيء من المحبة والحيرة والتنـزّه والتقدير، والتنوّر والتفكر، وما لا يحد من المطالب العالية. ويريها الناسَ، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكَه إليهم.. يستضيء ويُضيء لهم.. يستفيض ويفيض عليهم..

اعلم أن الإنسان ثمرةُ شجرة الخِلقة. والثمرةُ تكون أكملَ الأجزاء وأبعدَها من الجرثوم، وأجمعَها لخصائص الكل.. وهي التي من شأنها أن تبقى وتُسْتَبقى.

ومن الإنسان مَن هونواةٌ أنبتَ القديرُ جل شأنه منها تلك الشجرة.. ثم صيّر الفاطرُ جل جلالُه ذلك الإنسان ثمرةَ تلك الشجرة.. ثم جعل الرحمنُ تلك الثمرة النورانيةَ نواةً لشجرة الإسلامية.. وسراجا لعالمها.. وشمسا لمنظومتها..

وأنه لابد في الثمرة من نواةٍ تشتمل بالقوة على لوازمات شجرةٍ هي مثل أصلها. وأصغريةُ النواةِ لا تنافي أعظميةَ الشجرة، كنواة شجرة التينة..

وأن في الإنسان حبةً، لوكان الإنسان ثمرةً، لكانت تلك الحبة نواتَه، ألَا وهي القلب.. فقد رأيتُ فيه بواسطة الاحتياج علاقاتٍ إلى أنواع العالَم، بل إلى أجزائها.. وارتباطاتٍ إلى جميع أنوار الأسماء الحسنى باحتياج شديد وفقر عظيم لتجلي فردٍ فردٍ منها.. حتى كأن له حاجاتٍ عدَد أجزاء العالَم، وله أعداء ملءَ الدنيا.. فما يطمئن إلّا بمَن يقتدر أن يُغنيه عن كل شيء، ويحفظه من كل شيء..

ورأيت فيه أيضا قابليةً تمثل مجموعَ العالم كالخريطة والفهرستة والأنموذج والتمثال.. وأن المركز فيه لا يقبل إلّا الواحدَ الأحد.. ولا يرضى إلّا بالأبد والسرمد.. فهذه النواة -وهي حبة القلب- ماؤه الإسلام وضياؤه الإيمان فإن اطمأنتْ تحت تراب العبودية والإخلاص، وسُقيَت بالإسلام، وانتبهتْ بالإيمان، أنبتت شجرةً نورانيةً مثاليةً من عالم الأمر هي روحٌ لعالمه الجسماني، وإن لم تُسقَ بقت نواةً يابسةً منكمشة لائقةً للإحراق بالنار إلى أن تنقلبَ إلى النور.

وكم في النواة من أعصابٍ رقيقة وأشياءَ دقيقة لا يُبالَى بها، وتُرى أقلَّ من أن يُهتَمّ بها، إلّا أن لكلٍ منها -إذا انكشفت النواة- وظيفةً مهمةً بحشمة وعظمة.. كذلك لحبةِ القلب خدّام كامنة نائمة إذا انتبهتْ وانبسطتْ بحياة القلب، يجولون في بساتين الكائنات كطيور سيارة، وتنبسط بدرجة يقول المرء: الحمد لله على كل مصنوعاته، لأنها كلها لي نِعَمٌ.. حتى إنَّ الفرضَ أوالخيالَ الذي هومن أضعفِ خدَّام القلب وأهونِهم، له وظيفةٌ عجيبة، يَدخل به صاحبُه المتوكل -وهوفي السجن مقيد- في حديقةٍ نزيهة، ويضع رأس صاحبه المتنبّه وهويصلي في الشرق أوالغرب تحت «الحجر الأسود» ثم يُودع في الحجر الأسود شهادتَي صاحبه..

ومن المشهود أن «البيدر» يدور على رؤوس «الأثمار».. والثمرة هي التي تنتَقى وتُستبقى.. فبيدر الحشر ينتظر بني آدم.

اعلم أن لكل أحد من هذا العالم العام عالما خاصا، هوعين العام، لكن مركزه هوالشخص، بدلَ الشمس. فمفاتيحُ ذلك العالَم في نفس الشخص ومعلّقة بلطائفه.. ولونُ ذلك العالم وصفاؤهُ وحُسنهُ وقُبحهُ وضياؤه وظلمته تابعةٌ لذلك المركز. فكما أن الحديقة المرتسمة في المرآة تابعة في أحوالها من الحركة والتغيّر وغيرهما للمرآة، كذلك عالم الشخص تابعٌ لمركزه الذي هوالشخص كالظل والتمثال. فلا تحسبنّ صِغَر جِرمك سببا لصغر جُرمك؛ إذ ذرةٌ من قساوة قلبك، تكدّر عليك نجوم عالمك..

اعلم أن هذه ثلاثون سنة، لي مجادلةٌ مع طاغوتين وهما: «أنا» في الإنسان، و«الطبيعة» في العالم. أما هذا، فرأيتُه مرآةً ظليا حرفيا. لكنْ نظرَ الإنسانُ إليه نظرا اسميا قصديا بالأصالة، فتفرعن عليه وتَنَمرَدَ. وأما هذه، فرأيتُها صنعةً إلهيّة وصبغةً رحمانية.. لكنْ نظرَ البشرُ إليها بنظر الغفلة فتحولت لهم «طبيعةً» فتألّهتْ عند مادييهم. فأنشأتْ كفرانَ النِعَم المنجرّ إلى الكفر.

فلله الشكر والحمد وبتوفيق الأحد الصمد وبفيض القرآن المجيد أنتجت المجادلة قتلَ الطاغوتين وكسرَ الصنمين؛ بالنقطة، والقطرة، والذرة، والشمة، والحبة، والحباب.. فتكشَّفتْ الصنعةُ الشعورية الإلهية والشريعةُ الفطرية الربانية من حجاب الطبيعة الموهومة، وانسلختْ هي منها، أي نهارُها من ليلها. وتَكشّفَ «أنا» عن ظل «هو»، وانشقّ عنه فأشارت بـ«هو» إلى مَن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌۚ  (الشورى:11) جلّ جلاله..

اعلم يا «أنا»! لك أمور تسعةٌ في دنياك تعاميتَ عن ماهيتها وعواقبها:

أما جسدُك؛ فكالثمرة المتزهرة المتزينة صيفا، المنكمشة المتفسخة شتاءً.

وأما حيوانيتُك؛ فانظر إلى جنس الحيوان كيف يُسرع فيهم الموتُ والزوال.

وأما إنسانيتُك؛ فمترددة بين الانطفاء والاصطفاء والزوال والبقاء، فاستحفِظْ على ما بقي بما من شأنه أن يبقى بذكر الدائم الباقي.

وأما حياتك؛ فكقامتك قصيرةٌ معيّنةُ الحدود لا تقدَّم ولا تؤخَّر، فلا تتألمْ ولا تحزن ولا تخَفْ عليها ولا تحمّلها ما لا طاقةَ لها به مما تطاول إليه طول الأمل.

وأما وجودك؛ فليس مُلكا لك، فله مالكٌ، الملكُ له وأشفقُ به منك؛ فمداخلتك بغيرِ ما أمركَ به، فكما أنها من الفضول وشُغل فضولي فكثيرا ما تضر؛ ألا ترى الحرص و(مرق) النوم كيف يفعلان ويجلبان الخيبة والسهر!

وأما مصائبك؛ فلا تمرُّ حقيقةً لأنها تَمُرُّ سريعا، بل تحلولأنها تُحول؛ فتَحوِّلُ وجهَكَ من الفناء في الفاني إلى البقاء بالباقي.

وأما أنت هنا الآن؛ فمسافرٌ ثم مسافرٌ، والمسافرُ لا يَعلّقُ قلبَه بما لا يتعلق به ويفارقه بسرعة. فكما ترتحل من هذا المنـزل في هذا المسجد البتة، كذلك تفارق هذه البلدة قطعا، إما إلى بطنها أوإلى خارجها.. فكما ستفارقها بالضرورة، كذلك تذهب بل تُخرَج وتُطرَدُ -شئتَ أم أبيتَ- من هذه الدنيا الفانية؛ فاخرجْ وأنت عزيز قبل أن تُطرد وأنت ذليل.

وأما وجودك؛ فافْدِهِ لمُوجدهِ الذي يشتريه بثمنٍ غالٍ، فسارعْ إلى البيع بل الفداء:

أولا: فلأنه يزول مجانا.

وثانيا: لأنه مالُه وإليه يؤول..

وثالثا: لأنه إن اعتمدتَ عليه سقطتَ في العدم، لأنه «بابٌ إليه»، وإذا فتحتَه بالتَرك وصلتَ إلى الوجود الثابت..

ورابعا: لأنه إذا تمسكتَ به كان في يدك نقطة وجودٍ فقط، ويحيط بك ما لا يتناهى من الأَعدام الهائلة.. وإذا نَفَضْتَ يدك منه استبدلتَ لمعةً بشمس فينقلب محيطُكَ إلى ما لا يتناهى من أنوار الوجود.

وأما لذائذ الدنيا؛ فقِسمتُكَ تأتيك، فلا تَطِشْ في طلبها.. ولزوالها بسرعة لا يليق بالعاقل تعليقُ القلب بها. وكيف ما كانت عاقبةُ دنياك فتركُ اللذائذ أولى؛ إذ إما إلى السعادة، وهي تستلزم تركها.. وإما إلى الشقاوة. ومَن ينتظرُ الصَّلبَ كيف يلتذُّ ويَستعذِبُ ما يزيد عذابَه من تزيينات آلات الصَلب؟ وإن توهمتَ بالكفر العدمَ -العياذ بالله- فأولى بالترك؛ إذ بزوال اللذة يُحِسُّ ذلك العدمُ الهائلُ ألَمه الأليم آنا فآنا في ضمن زوال اللذائذ، وهذا الألمُ أثقلُ بمراتبَ من لذة الوصال إن كنت تشعر..

اعلم أن مثلَك -وقد تصيب رأسَك المصائبُ المرماةُ «بالقدر»- كمثل أغنام مُرسَلة في المرعى، يراها الراعي قد تجاوزت، فيرمي الأحجارَ خلفَها لترجعَ، فيقول المُصابُ رأسُه بلسان الحال: نحن تحت أمر الراعي، وهوأعرفُ بنا منا فلنرجع.. فيرجع.. فيرجعون..

فلا تكوني يا نفسي أضلَّ من الغنم! فقولي عند المصيبة:

﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156).

اعلم أن من الدليل على أن القلب ما خُلق للاشتغال بأمور الدنيا قصدا؛ أنه: إذا تعلق بشيء تعلّق بشدةٍ، واهتمّ به اهتماما عظيما، ويتطلب فيه أبديةً ودواما.. ويفنى فيه فناءً تاما. وإذا مدّ يدَه يَمُدّ يدا تطيق أن تقبضَ على الصخور العظيمة وتَرفَعَها، مع أن ما يأخذه بتلك اليد من الدنيا، إنما هوتينةٌ أوتبنةٌ أوريشةٌ أوشعرةٌ أوهباءٌ أوهواءٌ..

نعم، القلب مرآةُ الصمد؛ فلا يقبل حجرَ الصنم بل ينكسرُ به. والعاشقُ المجازي يرى ظُلمَ معشوقه في الأكثر، بسرّ: أن المعشوق بفطرته -بلا شعور- يردّ ولا يرضى ما ليس له بحق، وهوليس بلائقٍ إسكانه في باطن قلب العاشق.

اعلم أن القرآن أُنزل وأُنزلت به مائدةٌ سماويةٌ، يوجد فيها كل أنواعُ ما تحتاج إليه طبقاتُ نوع البشر المتفاوتين في اشتهاء الأفهام.. في المائدة أطعمة مترتبة، قُدِّمَ أولا في وجهِ السُفرة الإلهية رزقُ الأكثر المطلق والجمهور الأعظم، أي العوام.. مثلا: ﴿اَنَّ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء:30) الصفحة الأولى: أي هما رتقاوان، أما هذه فنقيةٌ صحوصافيةٌ. وأما تلك فميتة غبراء يابسة. فازدوَجَتا بإذنه تعالى فأولدت هذه أمطارا وتلك أثمارا. والدليل على هذه الصحيفة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَٓاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّۜ﴾ (الأنبياء:30). وخلف هذه الصفحة والصحيفة انفصال السيارات مع شمسها من عجين المادة التي خُلقَت من نور سيّد الأنام ﷺ. والآية على هذه الصفحة حديث: «أول ما خلق الله نوري..الخ»..

مثلا: ﴿اَفَعَيينَا بِالْخَلْقِ الْاَوَّلِۜ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ (ق:15) الصحيفة الأولى المقدمة في النظر، أنهم مع إقرارهم بخلقهم الأول الأعجبِ المشهودِ، يستبعدون الخلق الجديد الأهون؛ إذ له مثال سبق. وإن خلفَ هذه الصحيفة برهانا نيرا على كمال سهولة النشر.

أيها المنكرون للحشر.. تُحشَرون.. وتنشرون في عمركم مرات، بل في سَنتكم، بل في يومكم، تلبسون وتخلعون هذا الجسم كلباسكم صباحا ومساءً يتجدد عليكم جسمكم كلباسكم.([2])

اعلم فيا عجبا من بلاهة النفس! ترى في نفسها أثرَ المصنوعية والمملوكية والتربية من طرف ربّ مختار حكيم، ثم تنظر إلى أمثالها من سائر الأفراد والأنواع والأجناس، فيتظاهر سرُّ كلّيةِ القاعدة وشمولِ الفيض، وتحلُّبِ نوعِ إجماعٍ وتصديق فعلي، فكان لازما عليها أن تطمئن بتفطنِ سرِ: «كلية القاعدة ودستورية الحادثة». والحال أنها تتخيل ما يقوي تجليات الأسماء عليها من عموم تجلياتها في دائرة الآفاق سببَ الضعف وواسطة التستر وأمارة الإهمال وعلامةَ أنه لا رقيب عليها فتقول: اتسعَ فامتنع.. عَظُم فَعُدِم. فهذه مغلطة يخجل منها الشيطان أيضا.

اعلمي! أيتها النفس المتضجرة القلقة.. أن كل أحوالك في التعين، والنقش في جبهتك بقلم القَدر، كطلوع الشمس وغروبها. فإن أردتِ أن تضربي سندان القَدر برأسك العليل، فتضجّري. واعلمي يقينا، أن من لا يستطيع أن ينفذَ من أقطار السماوات والأرض، لابد أن يرضى رضاء محبةٍ بربوبيةِ مَن: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا (الفرقان:2).

اعلم لوكان صانعُ الشيء في الشيء لناسَبه، ولَتَنَوعَ بعدد الأشياء. وإذا لم يكن فيه فلا، كهذا الكتاب: يُكتب بقلم واحد مع أنه لا يُطبع إلّا بحديدات مصنوعة، موضوعة تحته عدد حروفه، ولوتَنَبَّتَتْ نقوش الصنعةِ المتقنة في شيء منه وتحلّبت ثمراتُها وترشحت حروفُها من نفسه وإمكانه، لانبثتْ وانتثرتْ وانتشرتْ ولخرجت عن الانتظام. لكن فيها استقرار تام وانتظام كامل فلم ينكتب نقشُ الشيء منه ولن ينكتبَ منه أبدا، بل يُكتب عليه بقلم القُدرة على مِسطَر القَدَر.

اعلم ومن الغرائب أن العقلَ الذي يتطاول إلى الإحاطة بالعالم والنفوذ إلى الخارج والخروج من دائرة الإمكان، يغرق في قطرة.. ويفنَى في ذرة.. ويغيب في شعرة.. وينحصر الوجود عنده فيما فني فيه.. ويريد أن يُدخلَ معه كلَّ ما أحاطَ به في النقطة التي بَلَعته.([3])

اعلم أنه لوكان المُلك لك لتنغّص عليك التنعمُ بتكلف التعهّد والتحفظ والتخوف. والمنعمُ الكريم يتعهد كل لوازمات النعمة.. وما يفوِّض إليك إلّا التنعمَ والتناول من سُفرة إحسانه، والشكرَ الذي يزيد لذةَ النعمة.. إذ الشكر؛ رؤيةُ الإنعام في النعمة. ورؤية الإنعام تزيل ألمَ زوال النعمة؛ إذ تزولُ النعمةُ حينئذٍ فلا تعطي موضعها للعدم حتى تُؤلِم، بل تُخلي الموقعَ لمجيء المِثل كالثمرة، فتعطيك لذةَ التجدد. ﴿وَاٰخِرُ دَعْوٰيهُمْ اَنِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمينَ (يونس:10) يدل على أن الحمدَ عينُ اللذة. نعم، إن سرَّ الحمد؛ رؤيةُ شجرةِ الإنعام في ثمرة النعمة. فيزول ألمُ تصوّر الزوال فيُلتَذ بنفس الحمد..

اعلم أن المعلومات الآفاقية لا تخلوعن الأوهام والوساوس. وأما إذا استندت إلى الأنفس واتصلت بالوجدانيات المشعورة بالذات، تصفّت عن الاحتمالات المزعجة. فانظر من المركز إلى المحيط، ولا تعكس فتنتكس.

اعلم أن هذه المدنية السفيهة المصيّرةَ للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلُها ويتناجَون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحا ومساءً، غَلُظَ بسببها وتكاثفَ بملاهيها حجابُ الغفلة، بحيث لا يُخرَق إلّا بصرفِ همةٍ عظيمة. وكذا فَتحتْ لروح البشر منافذَ غير محدودة نظّارة إلى الدنيا يتعذّر سدُّها إلّا لمن خصّه الله بلُطفه..

اعلم أن الذرة تسعُ الشمسَ بتجليها فيها بالمشاهدة ولا تسع تلك الذرةُ ذرتين بالذات بالبداهة، فذراتُ الكائنات ومركباتها -كقطرات المطر ورشاشاتها المتشمسة المتلألئة بتماثيل الشمس- قابلةٌ لأن تصير مظاهرَ للمعات تجليات القدرة النورانية الأزلية المطلقة المحيطة المستندة بل المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين.. ولا يمكن أن تكون ذرةُ حُجيرةِ عينك منبعا ومعدنا لقدرةٍ وشعور وإرادة تتحمل وظائفها العشرة من خَدَمتها في الأعصاب المحركة والحساسة والأوردة والشرايين والإبصار والتصوير وغيرها مما يتيه فيه الفكر.

فهذه الصنعة المتقنة العجيبة، والنقش المزين المنتظَم، والحكمة العميقة الدقيقة، تقتضي قطعا:

إما أن يكون كل ذرة وكل مركب في الكائنات معدنا ومنبعا ومصدرا لصفات محيطة مطلقة كاملة.

وإما أن يكون مظهرا ومعكِسا ومَجلَىً للمعاتِ تجلياتِ شمس الأزل الذي له هذه الصفات.

والشِق الأول فيه محالاتٌ بعدد ذرات الكائنات ومركباتِها؛ فمن جاز عنده أن يحمل على جناحَى نحلةٍ جبلي «سُبحانْ وآرارات» وأن ينبع من عيني بعوضة «النيل والفرات»، فليذهب إلى الشق الأول؛ فتشهد كلُّ ذرةٍ -بِعَجزها عن تحمّل ما لا طاقة لها به- أنه: لا موجدَ ولا خالقَ ولا رب ولا مالك ولا قيوم ولا إله إلّا الله. وكل ذرات الكائنات ومركباتها بألسنتها المختلفة ودلالاتها المتنوعة تتكلم بـ:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

نعم، إن كل حرف من كتاب الكائنات، يدل على وجود نفسه بوجهٍ واحدٍ، وبمقدار حرف، لكن يدل على كاتبه وصانعه بوجوه كثيرة. وينشدُ من أسمائه المتجلية عليه قصيدةً طويلة:

تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا  مِنَ الْمَلإِ الأعلى إلَيكَ رَسَائِلُ

اعلم أن مرايا التجليات متنوعة منها: الزجاج، والماء، والهواء -لاسيما للكلمات- وعالم المثال، والروح، والعقل، والخيال، والزمان. وغيرها مما لا نعلم أولا تعلم.. وتماثيل الماديات الكثيفة في المرايا منفصلة حُكما، وأمواتٌ حقيقةً.. وليس لها خاصية الأصل.. وغيرٌ للأصل أيضا، بدليل انتقالها إلى الفطوغراف، دون النورانية الخالصة، وفي غير الخالصة تنتقل هويةُ صورتها المادية فقط.

وأما تماثيل النورانيات فمتصلةٌ حُكما، ومرتبطةٌ حقيقة، ومالكةٌ لخواص الأصل، وليستْ غيرا له. فلوجَعل الفاطرُ جلّ جلاله حرارةَ الشمس حياتها، وضياءها شعورَها، وألوان الضياء حواسَّها؛ لتكلمت الشمسُ معك في قلب مرآتك التي في يدك، كتلفونك ومرآة قلبك. إذ مثالها الذي في يدك له أيضا بمقدار استعداده حرارةُ حياةٍ، وضياءُ شعورٍ، وألوانُ حواسٍ. ومن هذا السر يطّلع النبي ﷺ الذي هوالنور النوراني على صلواتِ كلِّ مَن صلّى عليه في آن واحد. ومن هذا السر ينفتح مغلقات أسرار.


[1] [[الحبة تقول: إنني غصنُ شجرةٍ مثقلٌ بثمرة التوحيد وقطرةُ ندىً من البحر الزاخر بلؤلؤ التمجيد.]]

         طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «أوقاف إسلامية» بإستانبول سنة 1340هـ (1922م).

[2] تفصيله في إشارات الإعجاز في تفسير قوله تعالى:  ﴿ وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾  (المؤلف).

[3] نعم، إن أكبر فلاسفة الأرض عقلا يغرق في قطرة من الألم، ويفنى في ذرة من المحبة، ويغيب في شعرة من السرور، وينحصر الوجود عنده في لحظة فناء باهتماماته، ويجهد أن يسحب معه كل معارفه الوجودية إلى عمق النقطة التي ابتلعته.