الذيل الثالث للمكتوب السابع والعشرين

الذيل الثالث

للمكتوب السابع والعشرين

فقرة لسعيد

ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رسالة إلى طبيب اشتاق كثيرا إلى رسائل النور من جراء صحوة روحية انبعثت فيه لكثرة مطالعته لها. ورغم أن علاقة هذه الرسالة واهية بهذا الذيل، ولكن.. لتكن لي فقرة بين فقرات إخوتي.

مرحبا بك أيها الصديق الحميم، ويا عزيزي الطبيب السعيد الذي اهتدى إلى تشخيص مرضه!

إن الصحوة الروحية التي تُبينها رسالتُكم الخالصة، لجديرة بأن تُهنّأ وتُبارك.

يا أخي! اعلم أن الحياة أثمن شيء في عالم الموجودات، وأن ما يَخدم الحياةَ هو أرقى واجب من بين الواجبات كلها، وأن السعي لصرف الحياة الفانية إلى حياة باقية هو أغلى وظيفة في الحياة.

واعلم أن خلاصة قيمة هذه الحياة، وزبدتَها وأهميتها البالغة هي في كونها نواةً للحياة الخالدة ومنشأ لها، حتى إنّ تصور خلافِ هذا، أي حصر الهمّ والعلم في هذه الحياة الفانية، هو إفساد أيّ إفساد للحياة الأبدية، وليس ذلك إلّا جنونا وبلاهة كمن يستبدل برقا خاطفا بشمس سرمدية.

إن الأطباء الغافلين عن الآخرة، والمنغمسين في أوحال المادية هم -في نظر الحقيقة- أسقمُ الناس وأشدُّهم مرضا، ولكن إذا ما تمكّن هؤلاء من تناول العلاج الإيماني من صيدلية القرآن المقدسة وأخذوا جرعات من مضادات السموم فيها، فإنهم يضمدون جراحاتهم البشرية، ويداوون مرضهم، فضلا عن أنهم يكونون السبب في مداواة جراح البشرية كلها.

نسأل الله تعالى أن تكون صحوتُك الروحية هذه بلسما شافيا لجرحك أنت، ومثالا حيا، وقدوةً طيبة، أمام أنظار الأطباء الآخرين ودواء لمرضهم.

ولا يخفى عليك ما لإدخال السلوان في قلب مريض يائس قانطٍ من نور الأمل من أهمية، فقد يكون أجدى له من ألف دواء وعلاج. بيد أن الطبيب الغارق في مستنقع المادية والطبيعة الجاسية يزيد اليأس الأليم لهؤلاء المساكين حتى يجعل الحياة كلها أمامهم مظلمة محلولكة.. ولكن صحوتك هذه ستجعلك -بإذن الله- مناط سلوان ومدارَ تسلٍّ لأولئك المساكين وأمثالهم، وتجعل منك طبيبا حقا يشع نورا إلى القلوب وينثر البهجة في النفوس.

من المعلوم أن العمر قصير جدا، والوظائفَ المطلوبة كثيرة جدا، فالواجبات أكثر من الأوقات. فإذا تحرّيت ما في دماغك من معلومات، مثلما فعلتُه أنا، ستجد بينها ما لا فائدة له ولا أهمية من معلومات تافهة شبيهة بركام الحطب.. لقد قمتُ أنا بهذا الضرب من البحث والتفتيش، فوجدت شيئا كثيرا مما لا فائدة له ولا أهمية.

نعم، إنه لا بد من البحث عن علاج وعن وسيلة للوصول إلى جعل تلك المعلومات العلمية والمعارف الفلسفية مفيدةً نافعة، منورةً مضيئة، حية نابضة، تتدفق بالرواء والعطاء.

تَضَرّع أنت كذلك يا أخي وَادْعُ الحكيمَ الجليل أن يرزقك صحوةً روحية تُخلّص تفكيرك وتزكّيه لأجله سبحانه، وتُضرمُ النارَ في أكوام بقايا الحطب تلك، لكي تتنور وتتحول -تلك المعارفُ العلمية التي لا طائل وراءها- إلى معارف إلهية نفيسة غالية.

صديقي الذكي!

إن القلب ليرغب كثيرا في أن يندفع إلى الميدان أشخاصٌ من أمثال «خلوصي» ممن هم من أهل العلم والشوق اللهيف إلى الأنوار الإيمانية والأسرار القرآنية.

ولما كانت «الكلمات» تستطيع أن تخاطب وجدانك، فلا تحسبْها رسالة خاصة مني إليك، بل كلُّ «كلمة» من كلماتها أيضا رسالة موجهة إليك من داعٍ إلى القرآن الكريم، والدالِّ عليه. وخذها وصفةً طبية صادرة من صيدلية القرآن الحكيم. فإنك بهذا ستفتح -بظهر الغيب- مجلسا واسعا كريما، وجلسة مباركة حاضرة.

هذا وأنت حرّ في أن تكتب الرسائل إليّ متى شئت، ولكن أرجو ألّا تتضايق من عدم ردي عليها بجواب، ذلك لأني قد اعتدت -من سالف الأيام- على عدم كتابة الرسائل إلّا قليلا جدا، حتى إنني لم أكتب إلى شقيقي -منذ ثلاث سنوات- سوى جوابٍ واحدٍ على الرغم من كثرة رسائله إليّ.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[الرسائل أغرقتنا في بحر النور]

فقرة لخسرو

 أستاذي المحترم المحب!

لقد نوّرَتْنا رسالتُكم ماديا ومعنويا ورفعتْنا إلى ما لا يُطال إليه من الفيوضات وأغرقتْنا في بحر النور. فأحمد الله ربي بما لا يتناهى من الحمد على نيلنا لهذا الشرف العظيم بوساطتكم وبما بشّرتمونا بالتوفيق في الأيام الآتية لما يترتب عليه من خدمة القرآن العظيم.

إنني أدعو لكم يا أستاذي، بأن يرزقكم الله بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

أستاذي المحترم!

لقد تذكرتكم كثيرا، إلّا أن الخونة المارقين يحولون بيننا وبين الوصول إليكم في كل جانب. وهذا يؤلمني جدا. إن أحوالنا الحاضرة تعصر قلوبنا بالأسى. ولكن لا حول لنا ولا قوة إلّا بالله.

أيما إنسان وصلت إليه رسائل النور المفاضة بالأنوار يرتبط بها ارتباطا وثيقا. لذا فهي جوّالة بين المشتاقين الذين هم أهلٌ لها.

والحمد لله.. هذا من فضل ربي!

خسرو

* * *

[الرسائل بددت الغفلة]

أيها الأستاذ المحترم!

إن رسالتكم المؤلفة بفيض من القرآن الكريم، وكأنها مرآة لأنواره، تكفي دلالةً على مدى علوّكم أستاذا جليلا، فلقد بدّدتْ أيها الأستاذ العزيز هذه الرسائلُ الظلماتِ المخيّمةَ على الإسلام وهتكت أستار الغفلة عن الله المسدلة على الناس، وأبرزت بفضله سبحانه حقائق ساطعة براقة من تحت تلك الأستار الملطخة الملوثة.

فعزمُكم الذي لا يلين وصلابتُـكم التي لا تنثني، وسعيكم المتواصل لم تَبق بإذن الله دون ثمرات؛ فلقد فجّرتم يا أستاذي المحترم ينبوعا دفاقا بماء الحياة في قلب الأناضول.([1])

فمنبع تلك الرسائل وكنـزها الدائم إنما هو بحر القرآن الحكيم. ستديم لكم تلك المؤلفات القيمة حياتَكم وتخلّد اسمكم عندما ترحلون من هذه الدار، دار الامتحان إلى عوالم السعادة. فطوبى لأولئك السعداء البررة، طلابك الذين تحبهم والذين يقدّرون ما فجرتموه من نبع فياض حقَّ قدره، ويذبّون عنه بالإعلام عنه وتلقين أحكامه بألوف أرواحهم إن استوجب الأمر. فقرّ عيناً يا أستاذي العزيز، إن هؤلاء البررة لن يقوموا بأعمال لا تنشرح لها في الآخرة.

إن طلابكم شاكرون لفضلكم ممتنون بكل مهجهم وأرواحهم لما أودعتموه لديهم من مفاتيح كثيرة للأسرار القرآنية.

نعم، إن الأنوار والفيوضات التي تنشرونها وتنثرونها اليوم تجعل الناس الحقيقيين في سرور غامر؛ إذ تعلّمهم خطوات العمل لوظائفهم الأساس على الأرض.

إن سعيكم مشكور وخدماتكم مقبولة بإذن الله وتضحيتكم جسيمة.

أستاذي العزيز! لتنشر أعمالكم الجليلة، ولتبلغ آفاق السماوات، ولتنطق بها الألسن.([2])

إن الأعمال الدنيوية التي لم تلق حظا من الدين والتي بدأت بالانتشار في الأوساط عامة، والتي تزيد عتامةَ الغفلة للغافلين وتزيد سُكرَهم -بل هي السكرُ بعينه- لا يمكن دفعها إلا بمؤلّفاتكم القيمة، وإرشاداتكم القويمة. فلقد ثبتت بدلائل معقولة ومنطقية أنه لن ترقى الدول الملحدة إلى مستوى الإنسانية بل لا يمكنها أن تدركها وهي ما زالت كذلك، حتى تؤول إلى الخراب أو الانهيار.

إن مؤلفاتكم القيمة عالية رفيعة وجامعة، تنعكس فيها صفات روحكم السامية.

أستاذي الحبيب!

اطمئِنوا اطمئنانا تاما أن سعيكم مشكور ولم يذهب هباءً منثورا، وسوف تتلقف الأيدي العديدة رسائلَكم إلى الأبد، وستُوقِف ملحدي اليوم عند حدّهم بل ربما تمنحهم نور الإيمان، أليس هذا ما ترجونه؟ أليس عملكم وغايتكم تنحصر في بلوغ إيقاظ الناس وإرشادهم إلى الإيمان؟

إن الأدباء المتربين على فتات موائد الفلاسفة، أولئك المحرومون من الأدب، سيجدون حتما الأدبَ الحقيقي في رسائلكم. نعم، وسيتحقق هذا فعلا. وأنتم بدوركم تكونون قد وفّيتم خدمة الإيمان الجليلة حقَّ الإيفاء. إن هذه الأمة وهذا الوطن مدينةً لكم إلى الأبد، وتَعجز أن توفي حقكم. إن ثواب خدماتكم السامية لا تقابلها هذه الأمة، بل سيمنحها الله سبحانه ما يليق بها. ليرضَ الله في الدنيا والآخرة عنكم، وعن أمثالنا من الخدام المذنبين.

 زكي

صديق المرحوم لطفي الطالب القديم
لرسائل النور

* * *

[الرسائل تجرد قارئيها من المشاعر الهابطة]

 فقرة للسيد عاصم

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

حمداً وشكراً، بما لا يتناهي من الحمد والشكر، أرفَعُه كل دقيقة من دقائق عمري للقدير المطلق وسلطان الأبد والأزل، الحي القيوم الذي لا يموت، الذي أنعم من بحر كرمه الواسع بأستاذي المحترم على هذا الفقير. ومهما بالغتُ من الحمد والشكر لله تعالى فلا أُوفي حق الدّين عليّ. فله الحمد والمنة.. وهذا من فضل ربي.

إنني هذا الفقير الغارق في الذنوب، قد عصفَتْ بي المعاصي بمقتضى جبلّتي البشرية، وتقاذفتني موجاتُها، قليلا أو كثيرا طوال حياتي العسكرية التي دامت أربعا وثلاثين سنة دون انقطاع، فظلت حياتي الدينية والأخروية فقيرة جدا.. هكذا أمضيتُ حياتي وأنا ملفّع بستار الغفلة. فالآن أُدرِك ما فات مني، وأندم عليه أشد الندم. بل أبكي على ما كنت أضحك منه. ولم يحصل هذا إلّا باكتحال عيني بلقائكم ورسائلكم. فألْفُ حمد وحمد لله تعالى على هذا الإحسان العميم.

لقد بدأتْ بفضل الله مراسلتي معكم بوساطة أخينا الشيخ محمد أفندي لدى مجيئي إلى «بوردور» قبل أربع سنوات. فألقت تلك الرسائل في يد هذا الفقير مفاتيحَ تفجّر بالأنوار وتَفيض بالحِكم وتحل المعضلات وتفتح لغزَ الكائنات.

نعم، إن هذه المفاتيح لا تقدَّر بثمن، فهي أغلى من أغلى الجواهر والألماس، بل إن قلمي ولساني ليعجزان عن التعريف بما يكنّه قلبي من مشاعر نحوها. فأفضّل ملازمة عجزي.

إن هذه الرسائل التي تضم بين دفتيها خزائن الشريعة الغراء والحقيقة الصادقة والمعرفة الإلهية وكنوزها، بل إن كل رسالة منها أنورُ من الأخرى وأسطعُ منها ولاسيما رسالة «إعجاز القرآن» فهي تشع الأنوار. فأين وصفي العاجز منها؟ إنها بستان رائع تنثر الفرح والبهجة والسرور وتضم أزاهير نادرة لطيفة، حتى يحار المرء من أيها يقطف ويشم، لِيزيل حيرته ويبلّ ريقه ويشفي غليله. ولا شيء أمامه ولا مفرّ إلّا أن يجعل من جميعها باقة عظيمة من الأنوار.

فهذه الرسائل المباركة تُغرق قارئيها، وكاتبيها والمستمعين لها في بستان النور، في بحر النور، وتحملهم على التفكر والتدبر وهم نشاوى بالإعجاب. إنها تجعل الإنسان مجردا من الأحاسيس الدنيوية ومعزولا عن المشاعر الهابطة، موجهةً إياه إلى خالقه الكريم بعبودية خالصة دائمة. إنها ترفع الإنسان إلى منازل عالية تسمو على الأخلاق الرذيلة كلها.. إنها تقتل عنده النفس الأمارة بالسوء.

نعم، أستطيع أن أقول: بأن هذه الرسائل النورانية روضة من الجنان، ولكن أسفا وألف أسف على أولئك الشقاة الذين يعجزون عن أخذ حظهم من هذه الروضة الطيبة. وكلّي أمل أن يصل إلى أولئك هذا الإلهام الرباني أيضا، ليقدروا على تبديل الغفلة إلى يقظة وصحوة كما جاء في ختام «الكلمة الثالثة والعشرين».

أتضرع إلى المولى القدير الواجب الوجود بأن يجعل المؤمنين الموحّدين على الصواب والسداد، وأدعوه سبحانه دعاءً فعليا باستنساخ ما لديّ من الرسائل وتداوُلِ قراءتها في أيام الجُمَع التي قد تستغرق القراءة حتى المساء، فنوفي بفضل الله سبحانه وتعالى حق عبوديتنا لله تعالى، وندعو لأستاذنا أن يديم الله عمرَه ويظل مرشدا لرسائل النور ودالّا عليها قائما بأمر الدعوة إلى النور. وهذا الدعاء دَين في أعناقنا جميعا تجاه الأستاذ.

إننا جميعا -أنا وأهلي- نتضرع إلى الله سبحانه عقب كل صلاة بمثل هذا الدعاء.

عاصم

* * *


[1] إنه إن كانت لي حصة واحدة من الألف التي تتصورونها من الثواب والشرف الحاصل في العمل ضمن هذه الخدمة السامية، فإني أشكر الله تعالى على تلك الحصة الواحدة. أما أهل الفضل فهم أولاء من أمثالكم ممن يعاونونني في الخدمة ويسعون للقيام بها بأقلامهم الألماسية. (المؤلف)

[2] إنني لا أشارك أخي هذا في دوافعه الحسية ومشاعره هذه، فحسبنا رضي الله، إذ إن كان معنا فكل شيء معنا إذن، وإلا فلا تغني الدنيا كلها شيئا. إن إعجاب الناس واستحسانهم في مثل هذه الأعمال أي في الأعمال الأخروية إن كانت علة، فإنها تبطل العمل، ولكن إن كان مرجِّحاً، فإنه يُفسد إخلاصَ العمل، وإن كان مشوِّقاً فإنه يزيل صفوة العمل ونقائه، ولكن إن تفضّل سبحانه به وأحسن إليه، علامةً على القبول بلا طلب، فهو مقبول وشيء حسن إن استُعمل في سبيل بيان تأثير ذلك العمل والعلم في الناس، ويشير إلى هذا قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلْ ل۪ي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْاٰخِر۪ينَ﴾ (الشعراء:84). (المؤلف)

الذيل الثاني للمكتوب السابع والعشرين

الذيل الثاني

هذه مشاعر أخي في الآخرة «بكر آغا» لدى قراءته للـ«كلمات» وهو الذي صار سببا لإيقاظ أهالي إسبارطة وجلب أنظارهم إلى أسرار القرآن، وبهذه الخدمة قد أدّى أعمال علماء أجـلاء رغــم أنه أمّي.

[مفاتيح الأنوار]

حضرة أستاذي الفاضل!

أقبّل أياديكم الكريمة، بكل إجلال واحترام يا سيدي المحترم، وأدعو لكم في كل وقت وآن بما ينطلق به لساني من دعوات خالصة. كما أرجو دعواتكم لي.

سيدي! لا يخفى عليكم أنّ أخاكم وطالبَكم هذا جاهلٌ أمّي، إلّا أنه بفضل الله قد استقرأ جميع رسائلكم الفريدة من نوعها واستمع إليها.

فرسائلكم النورانية لا يمكن حجبها عن الأنظار كما لا يمكن أن يُحجبَ نور الشمس بشيء، فليس هناك احتمال لذلك.

ولقد راقبتُ قلبي وتحريت عن أحوال روحي لدى الاستماع إلى الرسائل، وبدأت أفتش عن مدى ما فهمته من الرسائل فوجدت فورانا عظيما ينبعث من روحي وجيشانا هائلا ينطلق من قلبي، حتى يسوقني إلى القيام بعمل للإيمان -بغير شعور مني- وكأنه يناديني قائلا وملحّا: هيا هيا!

فأثناء مراقبتي هذه الحالة المنبعثة من روحي، شاهدتُ المفاتيح التي أظهرتْها لي تلك الرسائل النورانية، وأُظهرت لي وكأنني أُبلغت أن أفتح بهذه المفاتيح ما يجب فتحه من الأبواب. وكأنني أُمرت بأن أبحث عن إخواني النوريين وأبلّغ تلك الأنوار المفاضة إلى من هو أهل له. بل اعتبرت بث الأنوار المشعة من تلك الرسائل ونشرَها مهمة أوكلتْ إليّ.

وبعد تسلمي تلك المفاتيح من تلك الأنوار، ولأجل أن تشل أيدي الملحدين الخونة فتشتُ عن أولئك الإخوة والتقيتهم والحمد لله، وأودعت في أيديهم تلك الأنوار التي هي أمانة الله وأمانة رسوله الحبيب ﷺ. فالحمد لله أولا وآخرا على توفيقه سبحانه.

إن من يقرأ مؤلفاتكم القيّمة يدخل حظيرة الإيمان حتما، إن كان إنسانا حقا أو حتى إن كان له مساس بالإنسانية. وإلّا فعليه أن يتخلى عن الإنسانية ويقول: لست إنسانا.

هذه المؤلفات كل منها بمثابة «فاتح» بذاته، وسوف تفتح القلوبَ في أرجاء الأرض كافة إن شاء الله تعالى. نسأل الله أن ننال من ثوابها في الآخرة.. آمين.

أقبّل أياديكم الكريمة مكررا وأرجو دعاءكم يا سيدي.

 بكر أمر الله أوغلو

من مدينة «عادلْ جَوازْ» ونسل عبد الجليل

* * *

[أمل لفهم الرسائل]

فقرة لخسرو

لم أصادف لحد الآن مؤلَّفا شبيها بهذه «الكلمات» الراقية الجميلة. آمُل أن يوفقني الله بعد دعواتكم، لبلوغ ذلك اليوم الذي أتمكن من فهمها جميعا. حيث لا يتيسر لكلِّ أحد إدراكُ جميع معانيها.

أحمد الله حمدا لا نهاية له، لما تفضلتم بالسماح لي باستنساخ تلك «الكلمات».

خسرو

* * *

[حول رسالة المعجزات الأحمدية]

فقرة للحافظ زهدي الصغير

لقد استطعت بفضل الله قطفَ ثمرتين أيضا من الثمرات النورانية لبستان النور. ولكني عاجز عن التعبير عمّا تكمن في تلك الثمار من لذة فائقة. إنني لا أرتوي من أذواقِ مطالعة «المكتوب التاسع عشر» الذي يحملني إلى إدراك تذوق التشرف والمثول في المجلس النبوي المبارك، نبي آخر الزمان ﷺ، والحضور والجلوس في مجلسه السعيد.

إن قلمي ناقص وقاصر جدا عن التعبير عن إعجابي برسائل النور عامة وتقديري لها.. أسأل الله المعطي الوهاب أن يوفقني إلى تذوق لذائذ جميع ما في بستان النور من ثمرات يانعة، كما يتذوقها إخواني الأحبة.

الحافظ زهدي الصغير

* * *

[نور المعراج]

«فقرة لذكائي الفطن الذي سيكون بإذن الله خسـرو الثـاني وصبري الصغير»

لقد وُفّقت اليوم لإكمال قراءة ذلك الكتاب العظيم، ولكن قلمي عاجز كل العجز، عن التعبير عن مدى السرور والسعادة التي غمرتني بعد إكمال قراءة رسالة «المعراج». ومع هذا سأحاول عرضَ مشاعري النابعة من مطالعتها في جملة قصيرة ملخصة: لقد وجدت لدى قراءتي لرسالة «المعراج» نورا يملأ القلب وينير طريق السلامة في خضم متاهات بحر الحياة واصلا بالإنسان إلى البحر المعنوي الذي يجري نحو السعادة الأبدية.

نعم، إن الحقائق الغزيرة الثابتة بالأدلة القاطعة والواردةَ في كل مثال من أمثلة الكتاب، جعَلَت الحياةَ السعيدة لخير القرون وزمن المعجزات، تنبض بالحياة أمام أعيننا، تلك الحياة التي تملأ أرواحنا نورا بمجرد التخيّل بها، وتغمرها بالسرور والبهجة، ولاسيما لدى انتقالها من فكر إلى آخر.. لقد جعلني كتاب «المعراج» في حالة انبهار وذهول. وإنه لكاف وواف في كل وقت لأن يدحض أقوال المفتونين بالفلسفة، بل له من القوة في الإثبات والدلائل ما تدفعهم ليعلنوا إفلاسهم.

إن كتاب «المعراج» كتاب تاريخي جليل يُثبت الحقائق التي تتضمنها أصول العقيدة والمستورةَ حتى عن أهل الإيمان، ويقررها بأسلوب معقول وبمنطق سليم بحيث يستطيع المنصفُ المحايد أن يراها ويلمسها.

إن الفيلسوف الغارق في الغفلة، المستسلم للضلالة، ويريد أن يعلو تعقّله موقعا مرموقا، يكون شأنه شأن الملِك المعزول عن العرش، المنـزوع عنه جميع الشارات والأوسمة إزاء ذلك الكتاب الرائع، فيستحوذ عليه اليأس والقنوط إلى الأبد. بينما الفيلسوف المدرك، تتحطم قيودُ الفلسفة لديه إزاء هذه الحقائق، وتتحطم أغلال الاعتراض التي تكبّل فكره، الواحدة تلو الأخرى. وعند ذاك يدرك أن دعواه وادعاءاته باطلة، فيهوي للسجود أمام عظمة الخالق القدير سجدةَ تعظيمٍ وإجلال سائلا المغفرة منه تعالى.

ذكائي

* * *

[سبيل مأنوس]

فقرة للدكتور

إنني أقرأ مؤلفاتكم القيمة، مغتنما الفُرص لذلك، رغم أنى لا أتمكن من الإحاطة بكل معانيها. فهي سوانح رائعة بإرشاداتها السامية. لقد ملكَتْ عليّ مشاعري كلها وأسَرَتني بأذواقها، وستدوم إن شاء الله مدى الحياة وإلى القبر.

أستاذي! إن «كلماتكم» قد بدّلتْ فكري الديني تبديلا حقيقيا، وساقتني إلى سبيل مأنوس محبوب. فأنا الآن لا أنظر إلى الحياة كما يَنظر إليها الأطباءُ الآخرون.

الدكتور يوسف كمال

* * *

[شخصيات ثلاث]

وهذه الفقرات الطويلة للسيد خلوصي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد الملك والإنس والجان

أيها الأستاذ العزيز!

إنني محظوظ وسعيد لتسلّمي «المسألة الرابعة من المكتوب الثامن والعشرين» قبل أربعة أيام ولتسلمي مسألته «الثانية والثالثة» أمس.

أولا: أرجو التفضل بالسماح لي لأقول بعض الشيء حول الالتفاتة الكريمة والتقدير العظيم لشخصي العاجز، الذي أبداه أخي «السيد صبري» المحترم، والنابع من تواضعه الجم. وذلك: أن في أخيكم هذا المقصّر جدا، قطرةً من بحر صفات أستاذه العزيز، فأعرض لكم حالتي انطلاقا من هذه الجملة.

أولاها: لقد كنت منذ نعومة أظفاري -بلطف من الباري الكريم- متحريا عن الحقيقة، ومتلهفا لحقيقة القرآن العظيم. ولقد وجدتُ ما كنت أتحراه وأبحث عنه في قضاء «أكريدر»، وذلك فيما ألّفه الأستاذ المحترم من الكتاب الموسوم بـ«الكلمات»، فوجدت أن هذا الكتاب أنقذني من دوامات الحياة ومشكلاتها، وأبلغني ساحل السلامة، ونجّاني من المهالك والظلمات موصلا إياي إلى السعادة والأنوار. فأَورثَ روحي وكياني حبا لا يتزلزل نحو ناشر هذه الأنوار القرآنية -التي أيقظتني من الغفلة بإذن الله- وقام بتبليغها للآخرين وإرشاد الناس إليها. فمنذ تلك اللحظة شعرتُ بعلاقة قوية ورابطة وثيقة نحوه، فالحمد لله والشكر له مائة ألف ألف مرة.

إنني أشعر كلما انشغلت بالأنوار بشوق عارم وذوق لطيف تفوقان بمراتب كبيرة جميعَ لذائذ الدنيا.

ثانيتها: أن ما تقتضيه العبودية، وما تُلقيه هذه الأنوار من دروس هو علمي بأن جميع التقصيرات والأخطاء والسيئات والذنوب إنما هي من نفسي، بينما أجد الحسنات والفضائل كلها من فضله سبحانه.

فأرغب في الانطلاق إلى ميدان عملِ النورِ والقرآن الكريم حسبةً لله وحده وشكرا لله على وضعي هذا. ولكن لكوني لا أوفّق في نشرها يتملّكني الألم والحزن، حيث إنها لا تصل إلى يد المؤمنين كافة.

الحالة الثالثة وشخصيتي الحقيقية:

إنني أخجل من أن أعرّف هذه الشخصية، فأدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظني وإخوتي من دسائس النفس الأمارة ومكايد شياطين الجن والإنس، ولا يجعلنا من الضالين الخائبين. آمين.

إخوتي الأكارم!

إن الأفاضل والأكارم ممن هم إخوة أستاذي وطلابه، يستشعرون الحالة الأولى والثانية في أرواحهم بلا شك. إذن فالذين دخلوا في هذه الطريق مرة واحدة لا يُغلَبون أمام نفوسهم الأمارة بالسوء وشياطينهم، كهذا العاجز. وبنسبة تغلبهم على نفوسهم وشياطينهم تنبسط مشاعرُهم وحواسهم ولطائفهم بالتوفيق الإلهي. حيث اللطائف لا حدود لها في البشر ولا سيما في المؤمنين.

إن توجّه أستاذي المحترم ذلك التوجّه الكريم إلى طالبه، هذا المقصر، دليل ومثال على درجة شفقته الواسعة على الناس، ولا سيما على المؤمنين، ولا سيما من كان مثلي ممن هو في أمس الحاجة إليه.

الخلاصة: أقول إزاء حسن الظن المفرط نحوي، والالتفاتة التي يبديها الأخ المحترم المتواضع صبري: إنني عبد مذنب مقصر وعاجز وفقير مفلس، وواحد من أمة محمد ﷺ. فأنا محتاج جدا إلى دعواتكم. إن أعظم ما أتمناه وأسمَى نياتي والذي أرجوه من الله سبحانه، هو أن أكون -وأنا حامل للعجز والفقر- مُعينا لخادم القرآن والداعي إليه، في خدمته المقدسة خدمةِ القرآن والإيمان وفي استخراجه للآلئِ حقائق القرآن والإعلان عنها.

فلأجل هذه النية السامية، وفي الدقائق التي أنشغل فيها بالأنوار، وأنا أشعر بالسعادة، تَرِد بعض الكلمات إلى قلبي وقلمي من حيث لا أحتسب، فهذه المعرفة لا تعود لي، بل تخص الأنوار المتلمعة من أنوار القران العظيم. لذا فالأستاذ الحقيقي هو القرآن الكريم.

أما أستاذنا المحترم فهو أليق من يعرّف القرآن الكريم ويبلّغه ويدرّسه. فعلينا أيها الإخوة اغتنام الفرص لشراء تلك الجواهر الثمينة النفيسة. وأن ننقشها نقشا في قلوبنا ودماغنا، لأنها (أي هذه الأنوار) ستكون مدار سلوان لنا في الدارين.. وأن نسعى لنشرها حسب استطاعتنا ونصونَها مما قد يطرأ عليها من مؤثرات خارجية. ومن الله التوفيق.

خلوصي

* * *

[ستكون الرسائل أنشودة]

فقرة السيد سليمان الذي عاونني في شؤوني طوال ست سنوات بوفاء خالص، ولم يُثر غضبي وأنا العصبيّ المزاجِ، مُزاولا وظيفة كتابة المسودات باستمرار.

سيدي المحترم!

أقبّل أياديكم أولا، وأرجو دعاءكم. فأنا طالبكم وأخوكم ومعاونكم في الأمور، المدعو سليمان، قد طالعتُ ما قمتم بتأليفه من الأنوار إلى الآن، رسالةً تلوَ رسالة. وشاهدت في كل منها من الأنوار الساطعة ما هو كالشمس المنيرة، واستفدت منها أيّما استفادة؛ حيث وضّحتْ لي تلك الأنوارُ طريقَ الآخرة ونوّرتْه وبينتْ لي كثيرا مما كنت أجهله في ذلك الطريق. فرضي الله عنكم. وأعتذر عن بيان شكراني إليكم.

ولما كنت عاجزا عن تصوير وتمثيل تلك الأنوار في نفسي، تشبثت روحي فصورتْ مشاعري القلبية على هذه الصورة، أقدمها لكم راجيا عفوكم الكريم عن النقائص والأخطاء.

سيدي الكريم!

إن ما شاهدتُه من طعوم اللذة والسعادة في بحر رسائل النور، لم أر مثلَها أبدا في حياتي الدنيا كلها. فلقد أدركتُ بعد محاكماتي الوجدانية يقينا أن كل رسالة من تلك الرسائل بحد ذاتها تفسير للقرآن الكريم، وأن مطالعتها مَرْهَم سريعُ التأثيرِ وترياقٌ نافع للجروح المعنوية التي ابتلي بها المحرومون عن الإنسانية وهم في صور أناسي. فأنا بقريحتي الضئيلة هذه قد أدركت هذا الأمر. وأعتقد أن الزمان سيُظهر قيمة هذه الرسائل، وأنها ستكون أنشودة تترنم بها الألسنة وتجول شرقا وغربا. وستبين لأوربا -بإذن الله- كيف أن الإسلام نور إلهي ساطع.

أقبل أياديكم مرة أخرى، راجيا دعواتكم الكريمة يا سيدي.

طالبكم سليمان

* * *

[ماهية الملاحق]

أخي السعيد خسرو!

إن هذه الرسالة (أي المكتوب السابع والعشرين) مجلس نوراني عظيم، يتدارس فيه طلابُ القرآن الكريم الميامين، ويتداولون فيما بينهم ضمنا الأفكارَ الدائرة حول الإيمان ويتذاكرون ما فيها من المعاني.

فهذه الرسالة رواقُ مدرسةِ عالية رفيعة، يتبادل فيه حملةُ القرآن الآراء والأفكار ووجهات النظر ويدلي كلٌّ بِدَلوه فيما تَعلّمه من دروس القرآن الكريم.

وهي أيضا منـزل عظيم، ومعرض واسع لبيع الرسائل التي هي صناديقُ مجوهراتِ الخزينة القرآنية المقدسة. فكلُّ طالب يعرض ما أخذه من الجواهر النفيسة على الزبائن الكرام.

فبارك الله فيكم يا أخي خسرو، فلقد جمّلتم ذلك المنـزل أي تجميل.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[كنت أبحث عن نور]

هذه الفقرة للعقيد المرحوم السيد عاصم

إن هذه الرسائل المباركة المسماة بـ«الكلمات» لا تقدَّر بثمن فهي نابعة من موازين القرآن الكريم وبراهينه، فلقد كنتُ أبحث عن نور مثل هذا منذ مدة مديدة، فلله الحمد والمنة أن أنعم عليّ هذه «الكلمات». إن قلمي ولساني عاجزان عن التعبير عمّا يكنّه قلبي.

عاصم

* * *

[صفة الدلّال]

فقرة لصبري

نعم، ينبغي الاعتراف بهذه الحقيقة:

إن خزينة المجواهرات مهما كانت مليئة وغنية ونفيسة، لابد أن يكون دلَّالُها والبائعُ لها على معرفة بأصول البيع والشراء؛ إذ لو لم تكن له تلك القابلية أو المعرفة فإن ما يملكه من الخزائن الثمينة وما فيها من الأمتعة القيمة تُحجَب عن أنظار الناس، أي لا يكون قد أدّى ما يستحقها من قدر.

وبناء على هذا، فإن الذي يقوم بعرض الحقائق القرآنية للناس كافة عرضا خالصا لله، ويدعو إليها منذ أربعين سنة -وليس منذ ست سنوات- وفي خضم هذه الظروف المضطربة وهو يقرأ على أهل الإسلام الأمرَ الرباني الجليل: ﴿يَٓا اَيُّهَا الَّذينَ اٰمَنُوا هَلْ اَدُلُّكُمْ عَلٰى تِجَارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنْ عَذَابٍ اَليمٍ (الصف:10) وينادي منذ ذلك الوقت بهذا النداء العُلوي، قد جعل الأمة المحمدية في موضع شكران عظيم لله، بما قدم من أنوار إيمانية إلى المحتاجين إليها.

صبري

* * *

ذيل المكتوب السابع والعشرين

ذيل

المكتوب السابع والعشرين

[لذة العجز والفقر]

فقرة للسيد خلوصى

إن كل فرد مؤمن يعرف ببصيرته ما هو جميل حقا، كلٌّ حسب درجة فهمه وذوقه، إلّا أن اللذة الكامنة في العجز والفقر، وفي السمو الذي تنطوي عليه الشفقة والتفكر، لا يُقاس بشيء إطلاقا.

إنني أتضرع إلى الرب اللطيف الكريم أن يريَنا هذه النتيجة السامية، وهي أن ييسّر لكثير من البصائر رؤيةَ القِطع الألماسية التي تستخرجونها من خزينة القرآن الخاصة وتَدلّون عليها بتعابيركم الرفيعة، وإفاقةَ الغافلين الثملين، ونجاةَ الحائرين، ويُدخل الفرحَ في قلوب المؤمنين، ويدفع الملحدين والكفار والمشركين إلى دائرة الصواب ونطاق العقل والإنصاف..

أيها الأستاذ المحترم! إنكم مهما بالغتم في تقديم الشكر إلى الله العلي القدير، فهو في موضعه.

فقد وفقكم الله -بالعجز والفقر- إلى الوقوف بباب قصر القرآن العظيم والأخذ من خزينته الخاصة مما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، فتستخرجون ما تشاهدونه -وما يؤذَن لكم منها- من جواهر، الواحدة تلو الأخرى، وتتدبّرون فيها أنتم أولاً ثم تقولون: «أيها الناس، انظروا إلى المولى الكريم الذي فتح لكم أبوابَ مضيفه وخلق العوالم برحمته العميمة وبَرأكم بحكمته وأرسلكم إلى هذا العالم.. ذلكم رب العالمين.. الذي بيّن لكم الحكمة في الخلق والقصد من مجيئكم إلى هنا، والمهمة التي كُلفتم بها، وكل ما تقتضيه العبوديةُ من وظائف وخدمات.. وأمثالها من الأمور التي بيّنها قبل ألف وثلاثمائة سنة بوساطة رسوله الكريم ﷺ، فأنا بدوري أبلّغكم تلك الأوامر الرفيعة وتلك الأحكام المقدسة، بلسانكم أنتم بحيث تَقدرون على فهمه فاستمعوا إليها. فإن كنتم ذوي عقل وصواب وذوي بصائر وقلب، وتتمتعون بالإنسانية، فستفهمون الحقيقة وتردون إلى حظيرة الإيمان».

نعم، يا أستاذي المحترم!

أنتم تبيّنون هذه الأوامر لا غيرَها. ونحن بدورنا قد سمعنا -قدر المستطاع- تلك الأوامر عن كثب والحمد لله، وحثثنا عليها، لمشاهدتها وإشهادها. فلقد أبرزتم لنا تلك القطع الألماسية وأيقظتمونا من الغفلة وأفهمتمونا الحقيقة، وأصبحتم وسيلةَ خير إلى معرفة الصواب. فليرضَ الله عنك إلى الأبد.

ونحن وإن لم نكن قد نجونا بعدُ من شرور النفس الأمارة وأحابيل شياطين الجن والإنس إلّا أننا نجد الذوق واللذة في الانهماك في العمل في حقل هذه الخدمة القرآنية المقدسة. فلئن قصّرنا في العمل ولم نتمكن منه بما يستحق هذه الخدمة الجليلة، فحسبنُا أننا داخلون فيها والحمد لله، وإنما الأعمال بالنيات.

خلوصي

* * *

[حول الكلمة الحادية والعشرين]

 فقرة من رسالة صبري كتبها لدى استنساخه للكلمات: «الأولى، والحادية والعشريـن، والثانية والعشريـن».

إن جميع رسائل النور، بل كلاً منها، وكل موضوع من موضوعاتها، تَحُل ما لا يُحصر من المشكلات. وأعتقد أن هذا الأمر مشهود ومسلَّم به. لذا فلو أراد أحد أن يتقرب من بحر هذه الأنوار فإن الكلمتين «الحادية والعشرين، والثانية والعشرين» كافيتان لإزالة أمراض القلب وتنوير الروح وبث الفرح والسرور فيها، وإن لم تصل يدُه إلى غيرها بعد.

علما أن أُولى الكلمتين (مفتاح التوحيد)، والشق الأول من الكلمة الحادية والعشرين (مرقاة إلى الجنة)، والشق الثاني منها صيدلية لا نظير لها لضماد جراحات الأمراض القلبية، بحيث تخنس بإكسيرِ أدويتها الوساوسُ التي قلّما ينجو منها إنسان. فهو طريق خلاص وسبيل نجاة توصل إلى شاطئ السلامة الأبدّية، بما تفتح للقلب والروح من فيوضات أبدية للقرآن الكريم وأنواره الخالدة غير المتناهية.

أما «الكلمة الثانية والعشرون» فإنها ترسّخ العقيدة وترصّن الإيمان ببراهينها ولمعاتها ودلائلها التي لا نظير لها.

صبري

* * *

[كيف تُقرأ الرسائل؟]

«هذه الفقرة من رسالة السيد رأفت»

إن «كلماتكم» رفيعة وسامية، ترشد السبيل أمام الحائرين، ينبغي قراءتها بدقة وإمعان مع تحليلٍ فكريّ وعمل عقلي، لأن الدلائل العقلية والموازين المنطقية التي تسوقونها لذيذةُ المذاق مع كونها تثير الإعجاب، حتى إن المرء كلما قرأها زاد شوقُه لقراءة أخرى، وشَعَر بلذة معنوية غير متناهية، فيلازمها ملازمة لا يستطيع أن يتركها ويتخلى عنها. ولهذا لا تكفي قراءتها مرة واحدة بل ينبغي قراءتها باستمرار.

رأفت

* * *

المكتوب السابع والعشرون و ذيوله

المكتوب السابع والعشرون

و ذيوله

 

وهو فقرات التقدير والإعجاب المستلة من الرسائل الخاصة للسيد «خلوصي» المخاطبِ الأول «بمكتوبات» النور.

أما القسم الثاني من هذا المكتوب (السابع والعشرين)، أي الذيل، فهو فقرات السيد «صبري» الذي هو حقا «خلوصي الثاني». تلك التي يبين فيها إعجابه وتقديره لرسائل
النور.([1])


[مهمة الداعية لا تنتهي]

الفقرة الأولى للسيد خلوصي

ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد ذرات الكائنات أبدا دائما

أيها الأستاذ المحترم!

لست من الكاملين الذين يجدون اللذة ويشعرون بالنشوة لدى رؤية أنفسهم فقراءَ حقراء أمام الله، ولكني ممن يريد أن يَظهر كما هو، وقد حظي بلطفكم وخطابكم له بـ«طالبي، أخي، ابن أخي». وحقا يا أستاذي إني في وضع وضيع معنويا وفي أشد الحاجة إلى دعائكم.

فلقد تعلقت المشيئةُ الإلهية بإظهار بعض لمعات القرآن المبين -الذي هو نور حقا وحقيقة- إلى أبناء هذا العصر ولاسيما إلى الفرق الضالة، بيانا واضحا وضوحا جليا بحيث يَدخل إلى عيونهم المطموسة. وأصبح الأستاذ المحترم وسيلة للقيام بهذه المهمة الجليلة. وهكذا -بلطف الله وفضله وعنايته سبحانه- دُفع طالبُكم هذا -الذي هو لا شيء وعدم في عدم- إلى القيام بخدمة جزئية لأستاذه الذي يوفي مهمة خدمة القرآن العظيم حق الإيفاء. ولهذا فمهما بالغتُ في الشكر لله فهو قليل جدا إزاء نعَمه العظيمة. فليس لي حقّ الفخر قطعا ولو بمقدار ذرة، بل أطلب العفوَ والصفح عن الأخطاء والذنوب المحتملة في أثناء سيرى للقيام بهذه الخدمة…

لقد أصررتم يا أستاذي المحترم في رسالتيكم الأخيرتين على الإجابة عن سؤال قد تفضلتم به سابقا. فسمعا وطاعةً. ولكن إزاء هذا السؤال العسير ليس لي إلّا الالتجاء إلى العناية الإلهية والتشبثُ بالكرم الإلهي والاستمداد من روحانية الرسول الكريم ﷺ، ذلك لأني في منتهى العجز والفقر. ولأجل أن يكون الجواب مطابقا للحق منطبقا على الحقيقة، أقول: لا شك أن «الكلمات» المباركة هي لمعاتٌ من نور الكتاب المبين. وعلى الرغم من أنها تحتاج إلى إيضاح وشرح في بعض المواضع بسبب أسلوبها الرفيع، فلا نقص ولا قصور فيها بكليتها، ويمكن لكل طبقةٍ من الناس أن تأخذ منها حظَّها. ويكفي لصحة قناعتنا عدمُ قيام أحد بانتقادها لحد الآن، بل إبداءُ كلِّ مشرب ومسلكٍ الرضى عنها وبقاءُ الملحدين إزاءها صما بكما..

وها أنذا أدرج البراهين التي تمكنتُ من التفكر فيها، والتي تدل على عدم انتهاء مهمّتكم:

أولا: إن واجب العلماء هو الصدعُ بالحق وعدمُ السكوت عنه عند انتشار البدع. وقد ورد الزجر عن السكوت عن الحق في الحديث الشريف.

ثانيا: نحن مكلفون باتباع الرسول الكريم ﷺ، فضرورةُ أداءِ هذه المهمة مستمرةٌ مدى الحياة.

ثالثا: إن هذه الخدمة ليست محصورة برأيكم، بل أنتم تُستَخدمون فيها. فأنا على قناعة تامة من أن مهمة أستاذي المحترم إذا ما كمُلت فإنه تعالى يُلهم قلبَه بختام مهمته. مثلما بُلّغ بختام الرسالة مبلِّغُ القرآن فخرُ العالمين، حبيبُ رب العالمين سيدُنا محمد ﷺ بالآية الكريمة ﴿اَلْيَوْمَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ (المائدة:3).

رابعا: إن عدم ورود أي نقد على «الكلمات» والسكوتَ عليها ليس دليلا على أن هذا الوضع سيستمر على هذا المنوال إلى النهاية؛ فإنكم يا أستاذي المحترم مكلّفون أوّلا بالإجابة عن الهجمات المحتملة التي ستأتي عليها وأنتم ما زلتم على قيد الحياة.

خامسا: أظنكم لا تدَعون الإجابات والاستيضاحات جانبا، تلك التي يرجوها مَن ارتبط بـ«الكلمات». فإن لم يكن هناك إلّا هذا السبب، فلا يمكنكم نسيان الدنيا حتى لو أردتم ذلك.

سادسا: إن الذين أحبّوكم لله ويستوضحون منكم أمورا حول كتاباتكم القيّمة وتقريراتكم في مجالسكم العلمية من مسائل متنوعة لم تُدرج كلُّها في «الكلمات». مما تَبين بقطعية تامة أن الحاجة لم تنته بعدُ، والخدمةَ الإيمانية لم تبلغ نهايةَ المطاف.

وأعرض الآن لحضرتكم بضعة أمور:

في الأوقات التي ييسّر الله لي قراءة «الكلمات» النورية على الجماعة تستجيش مشاعري، فأرجو التفضل بالسماح لأعرضها لكم:

أولا: عندما أتناول القلم لأكتب لكم -أيها الأستاذ المحترم- ما يعرض لي، أشعر انبساطا لروحي، حتى إنني أجد أن قلمي يكون ترجمانا لمشاعري في تلك اللحظة دون اختيار مني.

ثانيا: لقد فكرت بالآتي: إذا ما فكر كل واحد بأن ينـزوي في زاوية مظلمة ليأمن خداع النفس الأمارة بالسوء -تلك العدوّة الكبرى- ويأمنَ مكر شياطين الجن والإنس، وانسحب إلى زاوية النسيان أو أراد أن ينسحب إليها، وأهمل ما حلّ بالعالم الإسلامي والإنساني حتى لم يعد ينفع أحدٌ أحدا، فأنا أقوم بتبليغ إخواني في الدين هذه الحقائق النورانية، لعل الله يعاملني بفضله وكرمه بما يوافق جلالَ ألوهيته سبحانه. وأرى من المفيد جدا صرفَ النظر عن نفسي في تلك الأزمنة. فما الحكمة من هذا الأمر؟

ثالثا: إن اسمَي «الرحمن الرحيم» قد دخلا في البسملة، فما السبب؟ هل هما في أعظم مرتبة من مراتب الأسماء الحسنى، أم إن هناك سببا آخر وحكمةً أُخرى؟ هذا السؤال ورد إلى الذهن أثناء كتابتي الرسالة.([2])

أستاذي العزيز المحترم! لسنا وحدنا بحاجة إلى وجودكم، بل العالم الإسلامي كله بحاجة إليكم، لأنكم قد أصبحتم بفضل الله سبحانه وتعالى وسيلة لظهور «الكلمات» السامية التي نبعت وتلمّعت من نور القرآن المبين والتي تقوّي إيمانَ المؤمنين، وتوقظ الغافلين، وتبين الصراط السوي لهداية الضالين، وتبهت الحكماءَ الفلاسفة وتَدَعُهم في حيرة وذهول.

أسأل الله الربّ الرحيم أن يديم صحة أستاذنا العزيز وعافيته ويجعله ذخرا للأمة المحمدية.

آمين بحرمة سيد المرسلين

خلوصي

* * *

[إن الله بالغ أمره]

لقد بدأتُ متوكلا على الله بقراءة رسائل النور -بين المغرب والعشاء- للضيوف القادمين، في غرفة الاستقبال التي خصصها والدي لهم، وذلك في الليلة الأولى من وصولي.

أستاذي الحبيب!

مثلما عرضت لكم سابقا، أنا لا أعتقد أنني سأعيش لشيء إلّا لمعاونة جزئيةٍ جدا في إيفاء المهمة المعنوية لأستاذي المحترم وهي الاضطلاع بالدعوة إلى القرآن الكريم، أي خدمة جزئية في سبيل القرآن الكريم ليس إلّا. فإني أرجو رجاءً خاصا ألّا تَدَعوني محروما من استفاضاتكم من القرآن الكريم واستخراجاتكم منه -في سبيل نشر حقائق الإيمان والإسلام- مادمتم باقين هناك.

وسيبلغني الله سبحانه بدعواتكم المستجابة -إن شاء- إلى ما كنتُ أرغبه وأرجوه من نتائجَ في العمل لرسائل النور، فأكون كالمرحوم عبد الرحمن ممن ينال الإيمان والتوفيق إلى آخر رَمَق من حياته مقتديا بفخر العالمين سيدنا محمد المصطفى ﷺ وراجيا السعادة الخالدة، وأكون خَلَف أستاذي المحترم وفي جواره.

إن سيد الكائنات وأشرف المخلوقات سيدنا محمد ﷺ قد أصبح وسيلة إلى تبليغ القرآن العظيم إلى الناس كافة، فأنتم يا أستاذي تخاطبون الإنسان الغافل في هذا العصر باسم الله تعالى، وبفيوضات ذلك الكتاب المبين، وذلك من خلال رسائل النور، رغم أنها تبدو من تأليفكم.

لذا فإنني أعتقد أن ذلك الحكيم الرحيم الذي يسخّركم في هذا المضمار لا يدَع الأنوار مهملةً تُداس تحت الأقدام. فلا شك أنه سيَبعث من الفانين بل ممن لا يُحسب لهم حساب، بمراتب متفاوتة، مَن يتبنَّونها من الحُفّاظ المبلّغين الناشرين.

خلوصي

* * *

[متطلبات إنقاذ الإيمان]

نعم، إن لي -ولله الحمد- طريقا سويا رفيعا هو الإسلام، ولي منهل عظيم أنهل منه هو مشرَب العجز والفقر إلى الله، وأقتدي بقائدٍ رائد جليل هو سيد المرسلين الرسول الكريم ﷺ، وأسترشد بمرشد عظيم هو القرآن المبين، وأسلك مسلكا قيّما – خدمة الجيش – يبلّغني مرتبة الولاية لله في دقيقة واحدة -كما هو لدى الجندي المرابط في الثغر-؛ فلقد علّمني أستاذي -كما علّم كلَّ ذي عقل- أن الزمان زمانُ إنقاذ الإيمان لا سلوكِ الطريقة الصوفية. فقال: أدِّ حقَّ الصلاة خمسَ أوقات في اليوم، واعمل بالأذكار عقِبها، واتبِع السنةَ الشريفة، واجتنب الكبائر السبع. فاستجبتُ بكل ما أملك من روح وقلب.

قلت: نعم، أيها الأستاذ!. قلتُه بتوفيق من الله سواءً لهذا الدرس أم للدروس التي تلقيتُها من رسائل النور، قلتُه لما أظهرها الأستاذ من حقائق استنبطها من القرآن الكريم.. وصدّقتُها بكل جناني.

فالذي لقنني هذا الدرس -درسَ الحقيقة- خاطبتُه بـ«الأستاذ». تلك الكلمة التي لم أُخاطب بها أحدا في حياتي غيره. أصبتُ ولم أخطأ.

خلوصي

* * *

[لابد من وجدان المخاطب]

لقد أكملتُ بفضل الله كتابة «الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين» هديةَ شهر رمضان المبارك. ولئن وفّقني المولى الكريم فسأكتب الرسائل الأخرى في المدة المقررة التي أمرتم بها.

إن هذه «الكلمات» القيمة الرفيعة النورانية جديرة بأن تُـكتب بأجود خط، بل حتى بالذهب. إلّا أنها تُكتب من قِبَل هذا العاجز المحروم من جودة الخط إلّا بقدر ما يساعد على القراءة، بل له أخطاء. وهذا مما يكون مبعثا لأزيد حمدي وشكري لله تعالى.

وحيث إنني سأكون بعيدا بعدا ماديا عن التفاتاتكم الكريمة وعن التحيات السارّة التي تبعثونها بشتى الوسائل وعن أوامركم التي هي بمثابة تفسير لرسائل النور وهوامش قيمة وذيول لها.. لأجل كل هذا سأكون متألما. ولكني لا أفكر على هذه الصورة، إذ أقول: سأسعى أينما كنت لوجدان المخاطب الذي سيعير السمعَ للدرس الذي تَلقّنه بفضل العناية الإلهية دون النظر إلى عجزي وفقري في سبيل نشر الحقيقة، وسأطرق بابَ كل وسيلة من الوسائل، بفضل الله ثم بفضل دعواتكم.. وهكذا أجد العزاء والسلوان.

ولكني آسف من جانب آخر، هو أن الانشغال بالوظائف الدنيوية تعيق إلى حدٍّ ما انشغالي بـ«بالكلمات» النورية التي أرتاح إليها فطرةً وانجذبتُ لحقائقها.. ولكن لا حيلة لي، فكلما مرّ يوم من الأيام ظهر وجهُ الدنيا الفاسد والفاني بأوضح صورة. وتذهب نفسي حسراتٍ على الأوقات الماضية التي لم تُستغل في سبيل الحياة السرمدية.

ولهذا لا أتألم كثيرا على فراقنا الصوري، ولا سيما بعدما بشّر أستاذي الحبيب في درسه الأخير لي بيقين جازم عن الحياة الباقية اللذيذة التي تفوق لذتُها ألذَّ حالاتِ هذه الحياة الفانية بمراتب لا تعد.

خلوصي

* * *

[ساحل السلامة]

إن المؤلَّف أو الأثر -كأمثاله- منوَّر مليء بالحِكَم، وسيكون إن شاء الله دواءً ناجعا وبلسما شافيا لجرحٍ اجتماعيّ بليغ تعاني منه الأمةُ المحمدية. وكما تفضلتم فـ«الكلمات» المستفاضة من نور القرآن الكريم استفاضة مباشرة، قد عرضتُها على «فلان»، وقرأت عليه عددا من «الكلمات» فصدّق بها، وسأقرؤها عليه كلما سنح لي الوقتُ.

إني عاجز عن الشكر والحمد لله تعالى إزاء النعم التي أنعم بها عليّ جلّ وعلا وهي لا تُعد ولا تحصى؛ إذ بينما كنت ملطخا بالذنوب والمعاصي، أخرجتموني أيها الأستاذ المحترم بإذن الله من الظلمات إلى النور بوساطة تلك «الكلمات» المباركة المنورة.

وبينما كنت أقضي عمري الماضي بالتحرّي عن الحقيقة، ساقني القدرُ الإلهي -وأنا الضعيف العاصي- إلى الطريقة النقشبندية، وذلك قبل خمس سنوات، تلك الطريقة المتوجهة نحو الشيخ «محمد الكفروي» الذي استلمها من «الشاه النقشبند». ولكن بعد ذلك انسدّ عليّ الطريق بعد كسوف عابر. فظل هذا العاجزُ يتخبط في طريق شائك مظلم، وإذا بي أخرج من الظلمات إلى النور ومن الدوامات المغرقة إلى ساحل السلامة، ومن المهالك الخطرة إلى السعادة الدائمة بوساطة أنوار «الكلمات» المؤلَّفة من قِبَلكم. فالحمد لله.. وهذا من فضل ربي.

ولقد تفضلتم بالقول: إن زماننا هذا زمن إنقاذ الإيمان..

نعم، أيها الأستاذ المحترم! إن كلامكم على العين والرأس.

خلوصي

* * *

[أهمية قراءة المعجزات]

إن هذه الرسالة (المكتوب التاسع عشر) تعلن بين دفتيها المعجزاتِ الكبرى للرسول الكريم ﷺ، وإن إرسالها إليّ خصّيصا، بعثَت فيّ حياةً جديدة، فضلا عن أن مطالعتها تمسّ عواطفي ومشاعري كلها وتثيرها حتى أصبحتْ وسيلة لأسكُبَ العبرات ساخنة.

خلوصي

* * *

[مرشدون معنويون]

فقرة من رسالة لأخي عبد المجيد

أقبّل أياديكم وأرجو دعواتكم.. لقد وصلني تأليفُكم الجديد الذي سيكون أستاذا قديرا ومرشدا ساميا لعبد المجيد العاجز في نفسه والذي تجافى عن الدنيا.

وبهذا أبشّر نفسي وأسلّيها؛ فلئن فقدتُ أستاذا يخاطبني لفظا ومشافهة، فقد وجدتُ مرشدِين عديدين معنويين.

إنها حقا مؤلَّفات نورانية ترشد إلى الصراط السوي والسداد. رضي الله عنكم.

عبد المجيد

* * *

[مرتبة الحب في الله]

نعم، هناك جهتان أتسلّى بهما:

الأولى: وجودُنا دوما في صحبة ومسامرة معنوية بوساطة «الكلمات» المباركة التي بين أيدينا.

الثانية: إيماننا أن محبّتنا بفضل الله هي في مرتبة «الحب في الله».

وبناء على هذا فإن أعظم هدية أقدّمها إليكم اليوم وغدا هو تبليغُ ما علّمتمونا من درس إلى المؤمنين، -تبليغا باسمكم وكالةً حسب المستطاع- وحملُ ما وهبنا الله سبحانه من محبة حقيقية إلى الأبد.

وإزاء هذا أدعو الربَّ الرحيم الكريم الذي هو أحسن الخالقين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يبلّغنا ما تؤول إليه المحبةُ في الله، والموضّح في «الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين».

إننا عازمون على سلوك الحق والصدق والإخلاص برفقة السيد حقي الذي التقيناه في طريق الإيمان التحقيقي.

خلوصي

* * *


[1] يضم ملحقُ بَارلَا وذيوله، قسماً من المكتوب السابع والعشرين. وقد كمل فيما بعد هذا المكتوبُ بضم الملاحق الثلاثة معاً وهي: ملحق بَارلاَ، ملحق قسطموني، ملحق أميرداغ.

[2] المكتوب الثامن جواب لهذا الاستفسار.

المقدمة

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

المقدمة

هناك خمسة أسباب لإدراج ما كتبه كلٌّ من «خلوصي» «وصبري» في رسائلهما، حول انطباعاتهما عن رسائل النور ضمن أجزائها، وهي الآتية:

الأول: أما خلوصي، فإن غيرته وجدّيته هما أهمُّ سببين لكتابة أواخر «الكلمات» وأغلبِ «المكتوبات». وكذا الشوق الجاد المنبثق من صميم القلب لدى «صبري» هو السبب في كتابة «المكتوب التاسع عشر» الذي يكوّن ثلث «المكتوبات».

السبب الثاني: هذان الأخَوان المحترمان لم يكونا على علم من أن هذه الفقرات ستنُشر. وإن عدم معرفتهما هذا جعلهما بعيدَين عن التكلف والتصنع، فجاءت كتاباتُهما في غاية الإخلاص، تلك التي تعبّر عما تتحسسه مشاعرُهما وأرواحهما من مراتب الذوق تجاه الرسائل، وتُبيّن في الوقت نفسه أشواقَهما نحو الحقائق الإيمانية. لذا ليس إعجابُهما وتقديرهما من قبيل التقاريظ المعروفة، بل هو تعبيرٌ صادق لا مبالغةَ فيه عمّا لمَساه من حقيقة وذاقاه منها فعلا.

السبب الثالث: أنهما من طلابي الحقيقيين، ومن رفقائي الصادقين الجادّين، يحملان ثلاثَ خصال من خصال طلاب النور العاملين في سبيل القرآن، وهي: خاصيةُ كلٍّ من «الطالب» و«الأخ» و«الصديق». بل هما قد فازا بقصَب السَبق في الاتصاف بتلك الصفات الثلاث والتي هي:

الخاصية الأولى: أنهما يتبنيان ما يُنسب إليّ -من رسائل النور- وكأنهما صاحباه بالذات. فإذا ما دُوّنت كلمةٌ من «الكلمات» فإنهما يتذوقانها ذوقا خالصا كأنهما قد كتباها وألّفاها بنفسَيهما، فيشكران الله. فهما كروح حلّ في جسدين، وهما وارثاي الحقيقيان المعنويان.

الخاصية الثانية: أنهما يعتقدان أن أعظمَ غاية من غايات حياتهما وأجلَّها هي خدمةُ القرآن الكريم بوساطة تلك «الكلمات» النورية. ويدركان أن خدمة الإيمان هي أهم نتيجة حقيقية لحياتَيهما الدنيوية وأعظم وظيفة فطرية لهما في الدنيا.

الخاصية الثالثة: أنهما يشعران بجراحاتهما -بمثل ما أشعرُ بها- ويضمدانها بالأدوية التي أخذتُها من صيدلية القرآن الكريم المقدسة والتي جرّبتُها في نفسي أولا. وهما يحملان في الوقت نفسه غيرة عالية سامية للحفاظ على إيمان المؤمنين. لذا يشعران بشفقة عالية لضماد جراحات أهل الإيمان الناشئة من ورود الشبهات والأوهام.

السبب الرابع: أن السيد خلوصي هو كابني المعنوي الوحيد وابنِ أخي «عبد الرحمن» الذي كان مدار سلواني ووارثي الحقيقي وكان من المتوقع أن يملك دهاءً نورانيا. وبعد وفاته حلّ «خلوصي» محلّه، حيث بدأ يوفي الخدمات التي كنتُ أنتظرها من المرحوم حقَّها.

وعندما كنت أكتب «الكلمات» قبل رؤيتي لخلوصي بمدة مديدة شعرت وكأن شخصا معنويا موظفا بوظيفته العسكرية يمثّل مهمة المخاطَب لي، لذا جاء معظم أمثلتي على وفق وظيفته وسارت مسرى مسلكه. بمعنى أن الله سبحانه قد جعل هذا الشخص طالبا ومُعينا لي في خدمة القرآن والإيمان. وأنا بدوري كنت قد اتخذته مخاطبا لي دون قصد أو شعور وكلّمته في «الكلمات» قبل أن أراه وألقيَ عليه الدرس.

أما «صبري»، فإنه يحمل علامة فارقة فطرية خاصة بي،([1]) لم أرَها في غير «صبري» في الأماكن التي تجولتُ فيها. ويشعر بصِلة قربى معي تفوق صلةَ الرحم. وكنت آمل منه خدمة يسيرة حيث قد انتبه مؤخرا، إلّا أنه سبق الجميع. فهذه إشارةٌ إلى أنه «خلوصي الثاني» وأنه مرشح لهذه الخدمة، قد ولّاه العلي القدير لهذه المهمة طالبا وزميلا في خدمة القرآن.

السبب الخامس: أنني لا أقبل المدح والثناء وإبداء الإعجاب فيما يخصنّي، لأنني قد لمستُ ضررا بالغا منه، ولهذا أنفر منه نفورا شديدا بل أتجنّبه خشيةَ أن يكون التقدير والإعجاب مدارَ فخرٍ وغرور. ولكن من حيث إني داع إلى القرآن الكريم وخادِم له، فإن الإعجاب والتقدير لا يعودان لي من هذا الجانب وإنما يعودان إلى «الكلمات» النورية، بل إلى الحقائق الإيمانية والأسرار القرآنية. ولهذا أقبل مثل هذا النوع من التقدير والإعجاب من باب الشكر لله تعالى لا افتخارا.

وهكذا فلأن هذين الشخصين قد أدركا هذه الحقيقة أكثرَ من غيرهما، فإن ما كتباه من تقدير وإعجاب بغير شعور منهما وبدافع من وجدانهما أصبح سببا لإدراجه ضمن رسائل النور.

نسأل الله أن يكثّر من أمثالهما ويوفقهما إلى الخير، ولا يزيغ قلبيهما.. آمين

اللهم وفّقنا وإياهما وأمثالهما من إخواننا لخدمة القرآن والإيمان كما تحب وترضى بحق من أنزلتَ عليه القرآن، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليمات ما اختلف الملوان وما دار القمران.

سعيد النُّورْسِيَ


[1] وهي التحام إبهام الرجل مع التي تليها.

 

ما الملاحق؟

ما الملاحق؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد

لا يخفى على القارئ الكريــم أن «الملاحق» تعني الرســـائل الملحقة بالكتاب بعد الفراغ منه. إلّا أن هذه «الملاحق» واكبت رسائل النور منذ شروع الأستاذ سعيد النورسي بتأليفها في «بَارلَا» سنة 1927، واستمرت معها لحين ارتحال المؤلف إلى رحمة الرحمن
سنة 1960.

فهذه «الملاحق» عبارة عن مجموعة مكاتيب جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه الأوائل. وطابعُها العام توجيهيّ إرشادي يبين أهميةَ رسائل النور ومنهجَها في الدعوة إلى الله في هذا العصر. تكتنفُها مكاتيب ودّية يبيّن فيها الطلابُ مدى استفاضتهم الروحية من رسائل النور واستفادِتهم العقلية منها، وكيف أنها حوّلت مجرى حياتهم وفتحت أمامَهم آفاقا معرفية واسعة. وتتضمن أيضا خواطر وردت على قلب الأستاذ النورسي يَذكرها لطلابه بصدق وإخلاص. فضلا عن توجيهات لتقويم السلوك وكيفيةِ التعامل مع الآخرين والحثّ على الإيمان العميق والعمل المتواصل والترابط الوثيق والاعتصام بالكتاب والسنة، مع التأكيد على العبادة وشحن القلب بالذكر والدعاء والتفكر الإيماني، ودوام الاستغفار والانطراح بين يدي المولى القدير عاجزا فقيرا… وأمثالها من الأمور التي تهم كل داعية إلى الله، بل كل مسلم.

وتتضمن «الملاحق» ثلاثة كتب مستقلة هي: ملحق بَارلَا، ملحق قسطموني، ملحق أميرداغ. والحقيقة أن هذه الملاحق الثلاثة تشكلت تدريجيا، وذلك بضم المكاتيب المتبادلة بعضها ببعض، ثم عرضِها على الأستاذ النورسي، واختياره ما يصلح للنشر من بينها.

هذا، وإن كل ملحق من هذه الملاحق الثلاثة يبين مرحلة معينة من مراحل حياة الأستاذ النورسي، مثلما يبين مرحلة مميزة أيضا من تاريخ دعوة النور منذ انبثاقها في تركيا. علما أن كل مرحلة من المراحل تبدأ بامتحان عسير وتمحيص إيمانيّ دقيق للعاملين في حقل الإيمان ودعوة القرآن من سجنٍ وتشريد ونفي وتعذيب. ثم تعقبها المرحلة الأخرى وهكذا.

فملحق بَارلَا: يضم المكاتيب التي تبدأ منذ نفيِ الأستاذ النورسي إلى ناحية «بَارلَا» سنة 1927 وإقامته الإجبارية هناك إلى أن اقتيد مع طلابه إلى محكمة الجزاء الكبرى في «أسكي شهر» ثم أُودع سجنَها سنة 1935.

أما ملحق قسطموني: فيتضمن المكاتيب التي جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه بعد قضائه مدة محكوميته في سجن «أسكي شهر» ونفيه إلى قسطموني سنة 1936 وإقامته الإجبارية هناك لحين سَوقه مع طلابه النور إلى محكمة دنيزلي سنة 1944.

أما ملحق أميرداغ: فعلى جزأين:

الأول: عبارة عن مكاتيب الأستاذ النورسي بعد براءته من محكمة «دنيزلي» سنة 1944 وإقامته الإجبارية في «أميرداغ» بقرار من مجلس الوزراء، وينتهي هذا القسم أواخر سنة 1947 أي حتى الدخول في السجن الثالث الرهيب، سجن «أفيوُن».

والقسم الثاني منه: يبدأ من سنة 1948 أي من بعد الإفراج عن الأستاذ النورسي وطلابه من سجن «أفيوُن» ورجوعه إلى أميرداغ وإقامته الإجبارية فيها لحين وفاته، تتخللها مكاتيبه التي أرسلها إلى طلابه في أثناء اعتقاله وتوقيفه في «أفيوُن» لمدة عشرين شهرا، ثم إقامته لمدة شهرين في «أسكي شهر» وثلاثة أشهر في إسطنبول لمرتين (1952-1953) عند قدومه إليها لأجل الدعوى المُقامة على رسالةِ «مرشد الشباب».

أما الرسائل القيمة التي كتبها الأستاذ النورسي في أثناء سجن «أسكي شهر» و«دنيزلي» و«أفيوُن» فقد نشرت ضمن مجموعة «الشعاعات» على وفق ما ارتآه المؤلف نفسه.

ومن الجدير بالذكر أن «الملاحق» هذه امتازت بطابع دعوي خاص في مخاطبة المحبين والمناصرين للدين بل حتى المعارضين له، وحثّهم جميعا للذود عن الإسلام وعقيدته وتاريخه، لمـا واجه المجتمعُ التركي وقتئذ من ملابسات سياسية قاسية شاذة، وحرمانٍ من أبسط المفاهيم الإسلامية في مرحلة لم يكن هناك عمل إسلامي جاد يحمل على عاتقه مسؤولية النهوض بحمل الأمانة وإرشاد أبناء الأمة.

ولكي يجني القارئ الكريم الثمرات الطيبة لهذه «الملاحق» نضع بين يديه الخطوط العريضة للأوضاع السائدة في تلك الفترة والقسمات البارزة لأوضاع كل مرحلة، لتكتمل لديه صورة المرحلة، وليلمس بنفسه أهمية الأمور التي يتطرق إليها الأستاذ النورسي في «الملاحق».

كانت تركيا في تلك الفترة (1920-1950) تعيش في ظلام قاتم من الظلم والطغيان والعداء السافر للدين؛ فالسلطة الحاكمة آنذاك أرادت قطع الأمة عن عقيدتها، فحظرت تداول القرآن الكريم، وألغت المدارس الدينية، ومنعت أداء فريضة الحج بحجج مختلفة، وحرمت أداء الأذان وإقامة الصلاة وخطبة الجمعة بالوجه الشرعي وبدّلتها إلى التركية، وفرضت الزي الأوروبي والسفور على النساء، وألغت الحروف العربية المستعملة إلى اللاتينية، وفرضت يوم الأحد عطلة رسمية بدلا من يوم الجمعة، ووضعت القوانين الأوروبية موضع التنفيذ بدلا من أحكام الشريعة، وألّفت المحاكم في طول البلاد وعرضها لتطبيق هذه القوانين، فزرعت الإرهاب والذعر في قلوب الناس ونصبت المشانق للعلماء ولكل من تحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة. ومن جهة أخرى كانت تُروّج للقومية التركية وامتيازها على غيرها من القوميات، وتُقدّس الزعماء إلى حد التأليه، وتدرّس الفلسفة المادية وإنكار الخالق والآخرة في المدارس مع بث روح الإعجاب بحضارة أوروبا إلى حد التميع.

ومن هنا نرى أن مرحلتي «بَارلَا» و«قسطموني» خاصة (1927-1944) -وكذا أميرداغ- تتميزان بالعمل السري التام والتأسيس الصامت، والتأكيد على الحذر الشديد لإرساء القواعد، وتربية طلاب يتحلون بالإخلاص الكامل والتفاني في العمل والوفاء الخالص والشغف بالدعوة والارتباط المتين بها، وبُعد الهمة في سبيل نشر رسائل النور التي هي تفسير للقرآن الكريم والعمل المتواصل في ترسيخ حقائق الإيمان في النفوس ودفع الشبهات عنها، في الفترة التي تعدّ أقسى الفترات التي مرت على تركيا حيث الحرب الضروس على الإسلام قائمة تشتد كلما مرّ الزمان، فضلا عن مصائب الحرب العالمية الثانية -في مرحلة قسطموني- التي أذاقت الناس الجوع والفقر مع الخوف والهلع رغم بقاء تركيا في الحياد منها.

استمرت هذه السنوات العجاف والأجواء الحالكة حتى هيأ الله سبحانه ثلة من الطلاب الميامين من الرعيل الأول من طلبة النور شمروا عن ساعد الجد في العمل الدؤوب، قلوبهم تفيض بالإيمان، أرواحهم مشبوبة نضرة ملآى بحب الله ورسوله ﷺ، صدورهم مفعمة بالدعوة إلى الإيمان والقرآن، حتى كان أحدهم يسير ليلا إلى مطلع الفجر بين الجبال ليوصل الرسالة إلى من يستنسخها باليد.

وطوال هذه السنين والأستاذ النورسي دائم الاتصال مع طلابه بالمراسلة سرا رغم بُعده عنهم ورغم الترصد الدائم والمراقبة الشديدة. فالتوجيهات مستمرة إلى العمل مع أخذ الحيطة والحذر والجدّ في العمل وملازمة التقوى والزهد والقناعة والغيرة على الإيمان في تواضع جمّ وانقطاع كامل إلى دعوة الإيمان والقرآن.

ومما يلفت النظر أن الأستاذ النورسي ضمّ بين مكاتيبه في «الملاحق» مكاتيبَ وردت إليه من طلابه يفصحون فيها عن جيشان مشاعرهم القلبية وفيضهم الروحي وتزودهم العقلي لدى قراءتهم رسائل النور التي كلما قرؤوها عملت على تزكية نفوسهم وتنقية فكرهم من الشوائب والشبهات ودفَعتهم إلى الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ يحدوهم الشوق إلى العمل في سبيل إعلاء كلمة الله. فمكاتيبهم هذه إنما هي نوع من عرفان للجميل الذي قدمته لهم رسائل النور.

أما في ملحق «أميرداغ» فنجد الأمر قد تغيّر قليلا حيث أتيحت حرية نسبية للمسلمين وذلك بعد سنة 1950. لذا نرى فيه موازين سياسية وقواعد اجتماعية، ولاسيما في القسم الثاني منه، ورسائل موجهة إلى المسؤولين في البلاد بدءا من مدير الأمن للولاية إلى مدير الأمن العام إلى محكمة التمييز والمحاكم الأخرى إلى رئاسة الوزارة فرئيس الجمهورية، بل إلى خارج تركيا بل حتى إلى البابا في الفاتيكان، مع ردود على الصحف المأجورة التي ما فتئت تحرض على المسلمين وتشيع الفتن وتبث الإشاعات.

وحيث إن الأستاذ النورسي نفسه قد اختار من المجموعة الهائلة للمكاتيب المتبادلة بينه وبين طلاب النور ما يصلح للنشر، فقد انتقينا كذلك في أثناء الترجمة من المكاتيب التي اختارها الأستاذ النورسي تلك التي لها فاعليتها في التوجيه والإرشاد وتعبّر عن أساليب الدعوة في مراحلها المختلفة أو العمل مع الموالين والمعارضين بأصنافهم كافة، أو فيها دروس بليغة وحكم رصينة وقواعد سديدة وموازين صائبة يحتاج إليها كل صاحب دعوة. ذلك لأن أمور الدعوة إلى الله تتكرر في كل مكان وزمان بعُسرها ويُسرها وفي منشطها ومكرهها. لذا تعدّ هذه المكاتيب نماذج حيّة وموفّقة في حقل دعوة الإيمان والقرآن لا يمكن الاستغناء عنها.

ولأهمية «الملاحق» هذه وضعها الأستاذ النورسي ضمن رسائل النور الإيمانية وجَعَلها «المكتوب السابع والعشرين» من مجموعة «المكتوبات».

والملاحَظ أن من يقرأ «المباحث الإيمانية» في رسائل النور بتأمل عميق، يصفو ذهنُه وتشرق روحُه ويصقل إيمانُه، فيرقى في مدارجه.. وأنّ من يديم قراءة «الدفاعات» المندرجة في ثنايا الرسائل يتجهّز بأعتدة تُعِينه في الدفاع عن دعوته تجاه شياطين الجن والأنس.. وأنّ من يَدرس «الملاحق» دراسة متقنة تصبح حركاتُه وأطواره ونظراته للأحداث والوقائع منسجمةً مع منظور رسائل النور القرآني، فتتوسع مداركُ عقله ويتنور فهمُه ويفيض قلبُه وتستجيش عواطفه ويَنْفُذ نظره إلى البعيد، فلا تزيغ به الأهواء بإذن الله.

ويجمُل بنا أن ننقل هنا نص رسالة الأستاذ النورسي إلى أحد طلابه الأوائل (خسرو) والتي يبيّن فيها ماهية هذه «الملاحق» ليكون مسك الختام لهذه المقدمة:

«إن هذه الرسالة (أي المكتوب السابع والعشرين) مجلس نوراني عظيم، يتدارس فيه طلاب القرآن الكريم الميامين، ويتداولون فيما بينهم -ضمنا- الأفكارَ الدائرة ووجهاتِ النظر، ويدلي كلٌ بدَلوه فيما تعلّمه من دروس القرآن الكريم.

وهي أيضا منـزل عظيم، ومعرض واسع لعرض الرسائل التي هي صناديقُ مجوهراتِ الخزينة القرآنية المقدسة؛ فكل طالب يعرض ما أخذه من الجواهر النفيسة على الزبائن الكرام. فبارك الله فيكم يا أخي خسرو، فلقد جمّلتم ذلك المنـزل أيّ «تجميل».

وتسهيلا للقارئ الكريم وضعنا بدايةَ كلِّ مكتوب عنوانا صغيرا حصرناه بين قوسين مركّنين وهو غير موجود في النص التركي.

والله نسأل أن يوقفنا إلى حُسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلِّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إحسان قاسم الصالحي

ذيل القطرة

ذيل القطرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمْدُ لله رَبّ العَالمين، والصَلاةُ والسّلامُ على سيدنا مُحمّدٍ وعلى آله وصَحبهِ أجمَعين.

رمز

اعلم أن الصلاة في أول الوقت، والنظر إلى الكعبة خيالا مندوبٌ إليهما، ليرى المصلي حول بيت الله صفوفا كالدوائر المتداخلة المتّحدة المركز، فكما أحاط الصفُ الأقربُ بالبيت، أحاط الأبعدُ بعالم الإسلام، فيشتاق إلى الانسلاك في سلكهم، وبعد الانسلاك يصير له إجماعُ تلك الجماعة العظمى وتواترُهم حجةً وبرهانا قاطعا على كل حُكمٍ ودعوى تتضمنّها الصلاة.

مثلا: إذا قال المصلّي «الحمد لله» كأنه يقول كلُّ المؤمنين المأمومين في مسجد الأرض: نعم صَدَقتَ. فيتضاءل ويضمحل تكذيبُ الأوهام ووسوسة الشياطين. وكذا يستفيض كلٌّ من الحواس واللطائف حصةً وذوقا وإيمانا، ولا يعوقها لِمَ؟ وكيف؟ ففي أول الوقت تنعقد الجماعةُ العظمى «للمتقين»، ولاتفاق الصلوات الخمس في الأقوال والأركان لا يخلّ اختلافُ المطالع بخيال المصلي.. ولينظر المصلي وهوفي مكانه إلى الكعبة وهي في مكانها لا يجذبها إليه ولا يذهب إليها ليتظاهر الصفوف، لا يشتغل بها قصدا، بل يكفي شعورٌ تَبَعي. وما يُدريك لعل القَدر الذي لا يُهملُ شيئا من الأشياء يكتب بأشكال هذه الصفوف المباركة المنتظمة في حركاتها سطورا على صحائف عالَم المثال الذي من شأنه حفظ ما فيه دائما..

رمز

اعلم أنّي شاهدتُ في سيري في الظلمات السُّنَن السَّنية نجوما ومصابيح، كلُّ سُنَّةٍ، وكلُّ حَدٍ شرعي يتلمّع بين ما لا يُحصر من الطرق المظلمة المضلّة. وبالانحراف عن السُّنة يصير المرء لعبةَ الشياطين، ومركَبَ الأوهام، ومَعرضَ الأهوال، ومطيةَ الأثقال -أمثالِ الجبال- التي تحملها السُنةُ عنه لواتّبعها.

وشاهدتُ السُننَ كالحبالِ المتدلّية من السماء، من استمسك ولوبجزئي استَصعد واستسعد. ورأيتُ مَن خالَفَها واعتمدَ على العقل الدائر بين الناس، كمَن يريد أن يبلُغَ أسباب السماوات بالوسائل الأرضية فيتحمّق كما تَحمّقَ فرعونُ بـ ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لي صَرْحًا﴾ (غافر:36).

رمز

اعلم أن في النفس عقدة مغلقةً مدهشةً تُصيّرُ الضدَّ مولِّدَ الضّدِ، وترى ما عليها كأنه لها.

مثلا: إن الشمس تصل يدُها إليك تمسحُ أوتضربُ وجهكَ، ولا تصل يدُك إليها ولا يؤثر «كيفُك» فيها. فهي قريبةٌ إليك، بعيدة منك! فكما أنّ جعلَ وجهِ البُعديّة دليلا على عدم تأثيرها فيك، ووجه القُربية دليلا على تأثّرها منك، جهلٌ.. كذلك نظرُ النفس -بعين الهوى والأنانية- إلى خالقها القريب إليها، البعيدِ منها سببُ ضلالتها.

وكذا ترى النفسُ عظمةَ المكافأة، فمن شدة الحرص تقول: ليت، وأنّى، وهيهات. وتسمع دهشة المجازاة، فمن شدة الخوف تتسلى بالتعامي والإنكار.

فيا أيتها النقطة السوداء الحمقاء إن أفعالَه تعالى إنما تليق به وتنظر إليه تعالى، لا بكَ ولا إلى حَوصلتِكَ الضيقة، ولا بنَى هندسةَ الكائنات على هوسِك، ولا أشهَدَك خَلقها. ولقد صدقَ الإمام الرباني في قوله: «لا يحمل عطايا المَلِك إلّا مطاياه».

رمز

اعلم أن مَن يُزَيِّن رأسكَ ويُحسنه، ويعلّق به زينةَ البصر أبصرُ بك منك. فالصانعُ الذي زيّن رأسك بفصّي العينين، وصَدَفي الأُذنين، وعلّق مرجانَ اللسان في مغارة وجهك -يتلقلق- لهوأبصرُ بك منك، وأقربُ إليك منك، وأشفَقُ عليك منك، وأسمعُ لك منك..

رمز

اعلم أنَّ الدعاء لاسيما من المضطرين، له تأثيرٌ عظيم، يسخَّر بسببه أقوى الأشياء وأعظمُها لأضعفِ الأشياء وأصغرِها، كسكوتِ غضب البحر لأجل معصومٍ على لوحٍ منكسر دعا بقلبٍ منكسر؛ فيدلّ على أن المجيبَ يحكم على الكلِّ فهوربُّ الكل.

رمز

اعلم أن من أهم مرض ضلالة النفس؛ طلبُ شوكةِ الكلِّ من الجزء، وحِشمةِ السلطان من نَفَر، فإذا لم تجدْه فيه تَردُّه. مثلا: تطلب تمامَ تجليات الشمس في تمثالها المرتسِم في حَباب، فإذا لم تجد بالتمام تُنكرُ أنه منها.

أيتها النفس! وحدةُ الشمس لا تستلزم وحدة التجليات، وإن الدلالة لا تستلزم التضمن، وإن ما يصفُ لا يلزم أن يتَّصف؛ فالذرةُ الشفافة تصفُ الشمسَ، والنحلة تصف الصانعَ الحكيم.

رمز

اعلم أن الذهاب في طريق الكفر كالذهاب في الجَمَد بل تحت التراب بل الحديد، مع دفع الدافعة، مشكلٌ عسير على مَن توجَّه إليه قصدا وبالذات. وهذا الإشكال يستتر تحت النظر التَبعي.

وفي سبيل الإيمان كالذهاب في الماء بل الهواء بل الضياء، مع جذبة الجاذبة، سهلٌ يسير للمُوفَّق.

مثلا: تريد أن تقابل الشمسُ جهاتك الستة، فإما أن تتحول أنت بلا كُلفة فيحصل المقصود، وإما أن تُكلِّفَ الشمسَ قطع مسافةٍ مدهشةٍ لمقصد جزئي. فالأول: مثال التوحيد سهولةً. والثاني: مثال الشرك إشكالا. هكذا شاهدتُ. وبرهان هذا الرمز في «قطرة».

فإن قلت: فكيف يُقبَل الكفرُ مع هذا الإشكال ويُترَك الإيمانُ مع هذه السهولة؟..

قيل لك: إن الكفر لا يُقبَل قصدا، بل يُزلَق بسوء الهوى ويُسقَط فيه ويُتلوث به. وأما الإيمان فيُقصَد فيقبَل ويُوضع في القلب.

رمز

اعلم أنه كما أن الكلمة الفردةَ مسموعةٌ لألوفٍ من المخاطَبين كواحدٍ لا فرقَ بين الواحد والملايين، كذلك نسبةُ الأشياء إلى القدرة الأزلية، لا فرق بين الفرد والنوع..

رمز

اعلم أن جامعيةَ القرآن ووسعته، ومراعاته لحسيات طبقات المخاطَبين، لاسيما: تَنزّلاته لتأنيس العوام-الذين هم الأكثر المطلق والمخاطَبون أولا وبالذات- مع أنها سببٌ لكماله. فالنفس المريضة تضلّ بها؛ إذ تتحرى في أدنى طرزِ تفهيمِه المناسبِ للمقام أعلى وأزينَ صور الإفادة، وتصيّر الأسلوبَ -الذي هوميزانٌ ومَعكِسٌ لحسّ المخاطب وفهمهِ- ميزانا ومرصادا تنظُرُ منه إلى المتكلم، فتضل ضلالا بعيدا!

رمز

كيف السكون إلى الدنيا بالوجه الثالث والفرح بها؟.. إن الدنيا لها وجوه ثلاثة:

وجه: ينظر إلى أسماء الله.

ووجه: هومزرعة الآخرة.. فهذان الوجهان حَسَنان.

والوجه الثالث: الدنيا في ذاتها بالمعنى الاسمي، مدار للهوسات الإنسانية ومطالب الحياة الفانية.

أنا رُكِّبتُ نقطةً ميتة، وتركَبُني جيفةٌ ميتة. ويومي تابوتي، بين أمسِ وغدٍ قبرَي أبي وابنه. فأنا بين تضييق ميتتين وضغطة القبرين. إلاّ أن الدنيا من جهة أنها مزرعة الآخرة والنظر إليها بنور الإيمان تصير كجنةٍ معنوية.

رمز

اعلم أن وجودك كالبندقة الميرية أوالفرس الميري في يد عسكر. كما أن العسكر مكلّف بتعهد بندقته وفرسِه السلطانيَين، كذلك أنت مكلّف بحفظ أمانتك وتعهدها..

اعلم أن السائق لهذا القول، أنى رأيت نفسي مغرورةً بمحاسنها. فقلتُ: لا تملكين شيئا! فقالت: فإذن لا أهتم بما ليس لي من البدن.. فقلت: لابد أن لا تكوني أقلَّ من الذباب.. فإن شئتِ شاهدا فانظري إلى هذا الذباب، كيفَ ينظِّفُ جناحَيهِ برجليهِ ويمسحُ عينيه ورأسَه بيديه! سبحان من ألهَمَه هذا، وصيّره أستاذا لي وأفحمَ به نفسي!

رمز

اعلم أن من المزالق للأقدام: خلطَ أحكام الاسم «الباطن» بأحكام الاسم «الظاهر» وسؤالَها منه.. ولوازمِ «القدرة» بلوازم «الحكمة» وطلبَ رؤيتها فيها..ومقتضياتِ دائرة «الأسباب» بمقتضيات دائرة «الاعتقاد والتوحيد» وطلبَها منها.. وتعلّقاتِ «القدرة» بجلوات «الوجود» أوتجليات سائر الصفات، وملاحظةَ نواميسها وحِكمها فيها.. مثلا: وجودُك هنا تدريجي، ووجودك في المرايا البرزخية دفعيّ آني؛ لتمايز الصفات الإلهية في التعلقات.. وللفرق بين الإيجاد والتجلي.

رمز

اعلم أن الإسلامية رحمةٌ عامة، حتى إن الكفار سعادةُ حياتهم الدنيوية وعدمُ انقلاب لذائذهم إلى الآلام الأليمة، سببُها الإسلامية! إذ الإسلاميةُ قَلَبت الجحودَ والكفر المطلق، والإنكار المحض المتضمنين لليأس الأليم والألم الشديد إلى الشك والتردد. فالكافر بسبب تولُّد احتمال الحياة الأبدية في ذهنه بصيحةِ القرآن يستريحُ من الألم المنغِّص، وبعدم اليقين يستريح من الكلفة اللازمة للديانة. فهوكالنعامة (إبل الطير) إذا قيل له: طِرْ يقول: أنا إبل.. إذا قيل له: احمل الحمل. يقول: أنا طير! فهذه الدسيسة الشيطانية هي التي صيَّرت الكافر والفاسقَ مسعودَين ظاهرا في الحياة الدنيوية بالنسبة إلى الكافر المطلق والمؤمن الخالص..

رمز

اعلم أن النفسَ لا تريد أن تعترفَ وتتصور صدور ما هوأصغر أوأقلُ قيمةً منها من يدِ قدرةِ الخالق، لتحافظ على دائرة ربوبية نفسها، فتعطي للخالق ما فوقَها، وتتغافل عما تحتها. فما دامت لم تر نفسَها أصغرَ الأشياء أولا شيء، لا تخلص من ميل نوعِ تعطيلٍ أوشرك خفي.

رمز

اعلم أن النفس بسبب تكاسلها في وظيفتها، تريد أن لا يكون عليها رقيب، فتحبُّ التستر. فتلاحظ عدمَ المالك مكررا، فتعتقد حريتَها؛ فأولا تتمنى، ثم تترجى، ثم تلاحظ، ثم تتصور، ثم تعتقد العدَم. ثم تمرُق من الدين! ولواستشعَرتْ بما تحت الحرية والراحة وعدم المسؤولية من الأهوال المدهشة المحرقة واليُتم الحزين الأليم؛ لما مالتْ أدنى ميلٍ، بل لفرّتْ وتبرأت وتابت أوماتت.

رمز

اعلم أن الأشياء تتفاوت بتفاوت مدار الاستناد؛ مثلا: إن النفر المستند بسلطانٍ عظيم يفعل ما لا يَقتدِر عليه «شاه» عظيم، فالنفر يزيد بسبعِ مراتب على من زاد عليه بسبعين مراتب؛ فالبعوضة المأمورة من طرف القدرة الأزلية تغلب نمرودَ النماريد المتمرّدة. فالنواة المأذونة من طرف فالق الحَبّ والنوى، تتضمن وتَسَعُ كلَّ ما تحتاج إليه النخلةُ الباسقة، ولا تسعُهُ «فابريقات» تسَع قريةً..

اعلم أن الفرق بين طريقي في «قطرة» المستفادة من القرآن؛ وطريق أهل النظر والفلاسفة، هوأني أحفر أينما كنتُ، فيخرج الماءُ، وهم تشبثوا بوضعِ ميازيبَ وأنابيب لمجيء الماء من طرفِ العالَم ويُسلسِلونَ سلاسلَ وسلالمَ إلى ما فوق العَرش لجلب ماء الحياة، فيلزم عليهم بسبب قبول السبب وضعُ ملايين من حفظة البراهين في تلك الطريق الطويلة لحفظها من تخريب شياطين الأوهام. وأما ما علَّمَنا القرآنُ فما هوإلّا أن أُعطينا مثلَ «عصا موسى» أينما كنتُ -ولوعلى الصخرة- أَضربُ عصاي فينفجر ماءُ الحياة، ولا أحتاج إلى السفر الطويل إلى خارج العالم، وتعهُّدِ الأنابيب الطويلة من الانثلام والانكسار..

رمز

(أي واه) وا اسفا! إن وجودَ النفس عمىً في عينها، بل عينُ عَماها، ولوبقي من الوجود مقدارُ جناحِ الذباب يصيرُ حجابا يمنع رؤيتَها شمسَ الحقيقة. فقد شاهدتُ أن النفسَ بسبب الوجود تَرى على صخرةٍ صغيرةٍ في قلعة عظيمةٍ مرصوصةٍ من البراهين القاطعة ضعفا ورخاوةً، فتنكر وجودَ القلعة بتمامها. فقس من هنا درجةَ جهلها الناشئ من رؤيتها لوجودها..

رمز

اعلم يا «أنا» قد علمتَ أنه ما في يدك منك من الأُلوف، إلّا جزءٌ مشكوك؛ فابنِ على ذلك الجزء الاختياري الضعيف ما يطيق حملَه، ولا تحمل على الشعرة الشعورية الصخورَ العظيمة، ولا تحمل على ما ليس إليك، إلّا بإذن مالِكهِ. فإذا تكلمتَ بحسابكَ -بالغفلة – فلا تتجاوز عن حدِّك، وميدان جولانك شعرة فقط.

وإذا تكلمتَ بحساب مالك الملك فاحمل ما ترى كيفما أمر، وكيفما يشاء لا كيفما تشاء وإذنُ المالكِ ومشيئتُه تُعرَف من شريعته.

رمز

يا من يطلب الشهرة المسماة في العرف بـ«شان وشرف»! اسمع مني. فقد شاهدتُ الشهرةَ عينَ الرياء وموتَ القلب، فلا تطلبها لئلا تصير عبدَ الناس، فإن أُعطيتَها فقل: ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156).

* * *

بعض الصور

صفحتان من مخطوط بخط «جيلان جالشقان» مع بعض تصحيحات الأستاذ النُّورْسِيّ عليها

صورة لغلاف الطبعة الأولى من رسالة «زهرة من رياض القرآن الحكيم».

صفحة من الطبعة الأولى

صفحة من مخطوط رسالة « نور من أنوار نجوم القرآن » بخط الحافظ توفيق الشامي.

وقد أجرى الأستاذ النُّورْسِيّ عليها بعض تصحيحاته.

الدعاء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «المثنوي العربي النوري».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النُّورْسِيّ

 

نور

الرسالة الثالثة عشرة

نور

من أنوار نجوم القرآن


باسمه سبحانه

اعلم لقد كشف هذه الرسالةَ الباحثُ الدؤوب أخونا الكريم «نجم الدين شاهين أر» وذلك أثناء تحرّيه وتنقيبه عن آثار الأستاذ النُّورْسِيّ، فوجدها ضمن مجموعة هائلة من الأوراق المتفرقة المدفونة تحت منصّة الوعظ في الجامع الملاصق لمنـزل الأستاذ النُّورْسِيّ في منفاه: «بارلا». ولمّا كانت الرسالة مؤلّفةً باللغة العربية سلّمها لي مشكورا وقد قمتُ بترجمتها إلى اللغة التركية وضممتها إلى ترجمتي للمثنوي العربي.

والمخطوط هوبخط جيّد للحافظ توفيق الشامي، وقد أجرى عليه الأستاذ تصحيحاتٍ دقيقة. والرسالة بحد ذاتها أصول موجزة وأسس ملخّصة لأجزاء من رسائل النور، ومن هنا فلها أهمية خاصة.

وإذ أُقدّم هذا المخطوط لأخي الكريم إحسان قاسم الصالحي أبارك له عمله في التحقيق والنشر راجيا له التوفيق.

عبد القادر بادِلّى

أورفة

* * *


 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذي هَدٰينَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَٓا اَنْ هَدٰينَا اللّٰهُۚ لَقَدْ جَٓاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّۜ﴾ (الأعراف:43).

والصلاة والسلام على حجّةِ الحقّ على الخَلق سلطانِ الأنبياء وبرهان الأصفياء حبيبِ ربِّ العالمين وعلى آله وصحبه أبد الآبدين.

اعلم أنه ما مِنْ سهل ولا جبلٍ ولا وادٍ ولا بادٍ ولا بحرٍ ولا بَرٍّ ولا قطعةٍ ولا بقعة في أقطار الأرض إلّا وقد تزاحمَتْ عليها أنواعُ سكّاتِ الأحدِ الصمدِ، حتى كأن هذا الجبلَ -مثلا- يُعلَم أنه مملوكُه سبحانه، بعدد ما فيه من مماليكهِ المتوطنةِ فيهِ من أقسام الحيواناتِ وأصناف الأشجار.. وكذا يُعرَف أنّه مصنوعُهُ تعالى بعدد شهاداتِ ما ضُرِبَ عليه من سِكّاتهِ المتلألئة عليه من أجناسِ النباتات وأنواع الطيور.. ويُفهَم أنَّهُ مكتوبُهُ جلّ جَلاله بعدد ما ضُرِب على جوانبهِ من خواتمهِ سبحانَهُ من مُزيّنات الأزهار وجميلات الأثمار.

فإذا عَرَفْتَ أن النَّحلَ والنَّخلَ -مثلا- مالُهُ وصُنعه سبحانه تَعرفُ أنّ كل ما يوجَد فيه نحلةٌ أونخلة هوأيضا مُلكه. وهكذا الكل شاهدُ الكلِّ. وكلٌّ دليلُ كلٍّ.

والدليل على أنّ السِكّاتِ والخواتمَ في جميع الأقطار لِمَلِكٍ واحدٍ ومالكٍ صمدٍ وحدةُ زمانِ ضَربها ووضعِها. ففي آنٍ واحدٍ يُوجَد ما لا يُحدّ في أقطار الأرض من المتماثلات من أجناس الأشياء. فما هذا التوافقُ في الوجود والإيجاد والصورة والإنشاء والزمان إلّا لأن صانعَها واحد أحد لا يمنعُه فعل عن فعل ولا يشغله شأن عن شأن ولا يلهيه قول عن قول ولا يختلط عليه سؤال -قولا أوحاجةً أواستعدادا- بسؤالٍ كذلك، جلّ جلالُه ولا إله إلّا هو.

اعلم أنّك إن شئت أن ترشُف إعجازيةً أُفيضتْ على قلبي من عُمّان القرآن.. فاستمعْ بقلبٍ شهيد ما أخاطب نفسي.

أيها السعيد الغافل حتى عن نفسه وعن غفلته! إنَّ الغفلةَ والكفرانَ والكفرَ تأسسّتْ على محالات متضاعفة متسلسلة غير محصورة؛ إذ إذا نظرتَ إلى أيّ شيءٍ كان -لاسيما من ذوي الحياة- ثم غفلتَ بسبب عدمِ الإسناد إليه تعالى (أي إلى الإله الواحد) لَزِمتك هذه المحالات العجيبةُ بقبولِ آلهاتٍ بعدد أجزاء التراب والهواء والماء، بل بعدد الذرات ومركباتها، بل بعدد تجليات الله.. ولوأمكن عدمُ الإسناد لما لَزِم من فرضِ وقوعِهِ محالٌ -إذ إذا لزم المحال فهوممتنعٌ، لا ممكنٌ، مع أنه لا يلزم محال واحد- بل محالات غير محصورة.

أمّا لزومُ آلهاتٍ بعددِ أجزاءِ التراب، فلأنّك تعلم أن أيّ جزء من التراب ترى، يصلُح لحصول أيِّ نبات وشجر وأيَّة زهرة وثمرة.. فإن شئتَ عينَ اليقين فاملأ قصعتك هذه من التراب.. ثم ادفن فيها نواة التين حتى تتشجّر تينةً مثمرة.. ثم اقلعها وادفنْ بَدَلَها نواةَ الرمانةِ. ثم بعدُ نواةَ التّفاح.. ثم.. وثم.. وثم.. حتى تستوعب جميعَ الأشجار المثمرة، وقد ترى كم ما بينها من التفاوت في الجهازات المنظمة والتشكلات الموزونة.

مثلاً: لوكانت «الماكينة القَدَرية» المندمجة في نواة التينة «كالفابريقة» التي تصنع السكّرَ من النباتاتِ، لكانت «الميكانيكية القُدرتية» المندرجة في نواة الرمانة كالماكينة التي تنسج الحرير وهكذا فقس. ثم ادفن بدلَ نواة الأثمار كلَّ واحد من بذور الأزهار، بذرا فبذرا، واحدا بعد واحد إلى أن لا تبقى بذرة في الدنيا إلّا وقد دخلتْ في قصعتك ذرّةً ميتةً جامدةً ثم خرجتْ حيةً متسنبلةً متزهرّة.

فيا صاحب القصعة إنْ حصلتْ غفلتُك من مذهب المادّيين؛ لزِمك البتة وبالقطع واليقين الأوليّ -لإدامة غفلتك- أن تقبل وجودَ «فابريقات» معنوية بعدد الأشجار «وماكيناتٍ» بعدد الأزهار في قصعتك هذه. فلوكان المرجع «الطبيعةَ» لزم أن يكون للطبيعة في كل جزء من التراب بل في ذرّةٍ مطبعاتٌ غير محصورة.. وما النواتات والبذور إلّا أمور متماثلة في المادة، ومشابهة في التشكيل، ومتقاربة في الشكل.. وما هي إلّا كمثل مثقالٍ واحد من قطن مع أنه يُنسَج منه قناطيرُ مقنطرة من أثواب الحرير والجوخ والصوف وغيرها. وآيةُ ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (النساء:1) وآيةُ ﴿خَلَقَ كُلَّ دَٓابَّةٍ مِنْ مَٓاءٍ (النور:45) وغيرهما، تشير إلى أن المادة التي تُخلَقون منها لمّا كانت واحدة لا مركبةً كمثل أحدِكم بل أصغر، لا يمكن أن تكون مصدرا تنشقّون منه أومنشأً تُصنَعون منه، للزوم كونِ المصنوع منه أكبرَ أومساويا للمصنوع، على أن إيجاد البذور والنواتات -التي كل منها مع بساطتها كأنها مِسطر قُدّرت خيوطُه بهندسة القَدَر، ومع صغرها كأنّها أصل متضمن لمجموع دساتيرِ وجودِ ما هوكأصلها- مع إبداعها في رقائقِ نهاياتِ دقائقِ حدودِ أغصان الشجر وأعضاء النبات.. من أصدقِ شاهد على أن خلْقَها هكذا لا يُتصوّر إلّا ممن خَلق السماوات والأرض، الذي تتساوى بالنسبة إلى قدرته الذراتُ والشموس.

وإن نشأتْ غفلتُك من مذهب الطبيعيين، لَزِمك لحفظِ غفلتك -إن كنتَ ذا شعور- أن تقبلَ في قصعتك وجودَ قدرةٍ بصيرةٍ خارقةٍ، بحيث تقتدر على تصوير جميع الأثمار والأزهار وإنشائها وإبداعها.. وكذا وجودَ علمٍ محيط بتفاصيل خواصها وخاصيّاتها.. وكذا وجودَ إرادة علمية بتفاريق موازينها ولوازماتها.. وهكذا من سائر الأسماء المطلقة المحيطة التي لا يمكن أن يكون مسمىً لها إلّا مَن يطوي ﴿السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (الأنبياء:104) ومَنْ؛ كما أن الأرضَ قبضتُه يتصرف فيها كيفما يريد، كذلك القلبُ بين إصبعيه يقلّبه كيفما يشاء، لا يشغله كبير عن صغير، ولا يلهيه خطير عن حقير.. وإلّا من يتجلّى بنور قدرته على العرش والشمس والذرّ، باليُسر والتساوي؛ كانعكاس الشمس على البحر والمرآة والقطرات بكمال السهولة والمساواة في ماهية الفيض وإن تفاوتت الكيفيةُ التابعة للقابلية.

كما يشهد لهذا السرّ ما يشاهَد في الربيع من الجود المطلق نوعا.. في الإتقان الأكمل -شخصا-، في السهولة المطلقة، في السرعة المطلقة في إيجاد ما لا يحدّ من أفرادِ ما لا يُعدّ من أنواع الأزهار والأثمار المنثورة والمنشورة في غالب وجه الأرض في زمان واحد.

ثم أفرِغ قصعَتك في هذا التراب واملأها من صُبرة الأرض واعمل في هذا أيضا كل المعاملة الجارية في أخيه الأول، ثم جدِّد الكيل والمعاملة إلى أن تكيل كلَّ التراب.

كما يشهد لمساواة المعاملة في كلّ كَيلٍ جريانُ المعاملة بالفعل في الجملة في غالب وجه التراب بظهور أشتاتِ أفرادِ كثيرٍ من الأنواع في ما صادفته من صفحات التراب في سيرك في الأرض.

ثم توجّه إلى الهواء والماء والضياء فَزِن وكِلْ بقسطاس قصعتك تخرج لك النتيجةُ سواءً بسواء.

هذا بالنظر إلى جميع أفراد جميع الأنواع، والحال أن كل فرد واحد من كلّ زهرة وثمرة وحيوان وحُوَيْنَةٍ كقطرة محلوبةٍ معصورة من كل الكون، ومأخوذة من أجزاء العالم بموازين دقيقة حسّاسة وبنظامات رقيقة جسّاسة لا يقتدر على خلقها هكذا إلّا مَن في قبضته تصرُّف كلّ الكون، فيعصر تلك القطرةَ من تلك الكائنات بموازين ومقادير قَدَره إن شاء النشوّ، أويُبدعُ مثالا مصغرا يكتب في نسخته مآل ما في الكائنات، إن أراد الإبداعَ وإيجاد الأيس من الليس، كما هوالحق أوالأكثر المطلق.

وأما لزوم ذي الكفر والكفران آلهةً بعدد ذرّات العالم، فقد مرّ في «حَباب» و«قطرة» وغيرهما.. [4] وأما بعدد تجليّات الله، فقد مرّ في ذيل «شعلة» زبدتُه؛ كما أن تماثيلَ الشمس المتجلية على الشفافات والقطرات إذا لم تُسند إلى الشمس الواحدة بالتجلّي السهل، لزِم قبول شموس بالأصالة في كلّ شفاف وقطرة وذرة متشمسة.

فإن تفهمتَ ما تلوتُ على نفسي، تفطنتَ للمعةٍ من أنوار إعجاز بيان القرآن من جهةِ المعنى، إذ هذه المسألة رشحةٌ من رشحات بحر إعجازه الزاخر المعنوي.

اعلم أن الإيمانَ إكسيرٌ يقلِبُ فحمَ المادة الفانية ألماسا مصنّعا مرصّعا باقيا بمعناه بنسبته إلى الصّانع الباقي.. والإنسانُ بالكفر يعكس فينتكس، إذ كما أنه يوجد في مصنوعات البشر ما تكون قيمةُ مادته خمسةَ دراهم، وقيمةُ صنعته ألوف الدنانير، وتتزايد القيمة بكون صانعه شخصا مشهورا خارقا عتيقا. كذلك في مصنوعات الصانع القديم ﴿اللّٰهُ الَّذي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ في سِتَّةِ اَيَّامٍ﴾ (الأعراف:54) وزيّن السماءَ بمصابيحَ، والأرضَ بأزاهير. بل من أغرب مصنوعاته «الإنسانُ» الذي مادتُه «صلصالٌ كالفخار» ينكسر ويتمزّق بسرعة، ما قيمتُه إلّا شيءٌ قليل.. وأما ما فيه من الصنعة فأمرٌ عظيمٌ تزيد قيمتُها على قيمة المادة بدرجات لا تعد ولا تحصى.. إذ الإنسانُ بنقش الصنعة قصيدةٌ منظومةٌ من لطائف آثار جلوات الأسماء الحسنى.. ومرآةٌ مجلوةٌ لتجلياتِ أشعّاتِ شؤونِ شمس الأزل والأبد.

فالإيمان نسبةٌ يَنسِبُ الإنسانَ إلى مالكه، وجهةُ النسبة إنما تنظر إلى الصّنعة، فيكون مدارُ النظر حينئذٍ إلى المصنوعية والصنعة. فبالإيمان تزيد قيمةُ الإنسان إلى أن تصيرَ الجنةُ ثمنَه، وتكون الخلافةُ رتبتَه، ويطيق على حمل الأمانة.. وأما الكفر فهوقاطعُ النسبةِ، وقاطعُ الوصلة.. فإذا انقطعت النسبةُ استتر الصنعُ، وانتكست الصنعةُ واختفى التجلي، وظهرت المادةُ، وانقلبت المرآةُ، وسقطت القيمةُ إلى دركة يتمنّى الكافرُ العدمَ، أوينقلبَ ترابا.

الحاصل: أنَّ الإنسان كماكينةٍ مشتملة على ملايينِ آلاتِ الوزنِ وميزاناتِ الفهم، توزَن بها مدّخراتُ خزينة الرحمة، وجواهر ثروة الكنـز الخفي، حتى أُودعَ في اللسان فقط جهازاتٌ للوزن بعدد المطعومات، ليُحِسَّ ذوواللّسان بأنواع دقائقِ نِعَم الحق. فإذا استعمل تلك الماكينةَ أمينُ يمين يُمن الإيمان أثمرت ثمراتٍ وأورثت آثارا عند مَن لا يضلّ ولا ينسى.. وأما إذا ما وقعت في يد الكفر صارت كمثل ماكينة غالية القيمة بلا مثيل، أخَذَها وحشيّ لا يعرف ما هي، فاستعملها في خدمة النّار -كآلة عادية- حتى أحرقها.

فيا مَن بيده ملكوتُ كلِّ شيء، وبيده مقاليدُ كل شيء، ويا مَن هوآخذٌ بناصيةِ كل شيء، ويا مَن عنده خزائن كل شيء، لاتكِلنا إلى أنفسنا، وارحمنا، ونوّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن.

﴿اِنَّ وَعْدَ اللّٰهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيٰوةُ الدُّنْيَا۠ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ الْغَرُورُ﴾ (لقمان:33)

اعلم أيها السكران السفيه الغافل الضّال! تورطتَ في مزبلة الدنيا فتُريد إضلالَ الناس بتصوير تلك المزبلة معدنَ السّعادة ليتخَفّف عنك. فإن أمكن لك قلبُ أربعِ حقائق فاصنع ما شئت.

أحدها: الموت؛ مع أنّك لا تقلِب، بل تبدّل الموتَ الذي هوتبديلٌ لمكان في نظر المؤمن إعداما أبديا.

والثاني: العجز؛ في مقابلة الحاجات والأعداء الغير المحصورين، مع أنك تحوّل العجزَ المنجر للاستناد إلى القدير المطلق -كأن العجزَ داعٍ يدعوك إليه- إلى عجز مطلقٍ مع اليُتم وعدم نقطة الاستناد.

والثالث: الفقر؛ في الأكثر المطلق، مع أنك تصرِف الفقر -الذي هووسيلة التوجه إلى خزينة الغني المطلق كأن الفقر تذكرةُ دعوة- إلى فقرٍ مظلمٍ مؤلم متزايد بتزايدِ رذائل المدنية.

والرابع: الزوال؛ إذ زوالُ اللذة ألمٌ دائم. فلا خيرَ في لذةٍ لا تدوم. مع أنك تحوِّل الزوال -الذي هووسيلة الوصول إلى اللذة الباقية إن قارنَ نيةً صالحة- زوالا أليما، لا إلى بديلٍ، مورثا آلاما وآثاما. فمَن ينتظرُ الموتَ دائما، ويحيط به العجزُ، ويستولي عليه الفقر، وهوعلى جناح السفر.. إنما ينخدع بسفسطياتك حالةَ السُكر فقط، والسُكر لا يدوم. [5] فالتي تسمّيها سعادةَ الحياة، هي عينُ شقاوةِ الحياة من كل الوجوه، وإنما تكون سعادةً ظاهرية بشرط دفع الموت أونسيانه على الإطلاق.. ورفعِ العجز أوالغرور المطلق.. ودفعِ الفقر. أوالجنة المطلقة ودوام الخلود أوتسكين جرخ الفلك.

نبّهني الله وإياكم عن نوم الغفلة الذي تظنون فيه اليقظةَ الكاذبة -التي هي انغماسٌ في غمرات النوم- انتباها، وأفاقني الله وإياكم من الجنون المطلق الذي تتوهمونه عقلا منورا.

اعلم وانظر كيف أدرجَ الصانعُ القدير ملايينَ عوالمَ من أنواع الحيوانات والنباتات في سطح الأرض، كلُّ عالَمٍ كبحرٍ صارت قطراتٍ للتوظيف، كتوظيف النمل لتنظيف وجه الأرض من جنائزِ الحُوَينات. وقد أطبقت تلك القطرات على وجه الأرض.. أوككلٍّ ذي أجزاء صار ككلّيّ ذي جزئيات.

كما أن الماءَ والهواء والضياء والتراب لاسيما الثلج كقطراتٍ صارت بحرا، لتماثُل الوظيفة، ووحدةِ الأمر، وتلقي الأمر الوحداني. فأجزاء الأربعة ككلياتِ تلك مشعورةٌ معلومة موظفةٌ. فتداخلت تلك العوالمُ الغيرُ المحصورة واختلط الكل بالكل واشتبك، مع أن الصانعَ الحكيم ميّز كلَّ واحدٍ عن كلِّ واحدٍ بتشخصّاته المخصوصة ولوازماته المشخّصة، فأظهر نهايةَ الامتياز في غاية الاختلاط، بحيث يَضعُ عالمَ النمل أوالذباب -مثلا- فيما بين أجزاءِ عوالم ذوي الحياة بإيجاد يخصّه ثم يرفعه بإماتة تخصّه، كأن سطحَ الأرض وطنُه فقط، فلا تتشوشُ حياةُ الخاصة ولا مماتُها المعيّن. فنسبةُ عالَمٍ إلى سائر العوالم المجاورة له، كنسبة حُسن انتظامِ تربيةِ فردٍ -مغمور في الأفراد- إلى تدبير النوع. لا يشغل الصانعَ هذا عن ذاك، ولا ذاكَ عن هذا.