رسائل متفرقة (9)

[رسائل النور سانحات قلبية]

إن مسائل رسائل النور ليست نابعة من العلم، وإعمال الفكر، وبالنية والقصد والإرادة، بل هي -بالأكثرية المطلقة- سانحات وظهورات قلبية وتنبيهات وإخطارات على القلب.

* * *

[كيف نجوتُ من ألم الشفقة؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد شعرتُ -بدافع العطف الإنساني- بحزن أليم جدا للبشرية المضطربة في هذا الشتاء القارس، والشتاء المعنوي الرهيب الذي يلطخ البشرية بالدماء، فأمدّت حكمةُ الخالق الكريم ورحمتُه تعالى قلبي المحزون، وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين -كما بينته ذلك في كثير من الأماكن- فورد هذا المعنى إلى القلب:

إن تألّمك هذا الشديد، يجرى مجرى الانتقاد لحكمة ذلك الحكيم ورحمة ذلك الرحيم سبحانه وتعالى. فلا رأفة -في دائرة الإمكان- تسبق الرحمة الإلهية، ولا حكمةَ أكمل من حكمته الربانية. فكّر: أن العصاة ينالون جزاءهم والأبرياء والمظلومون سينالون ثوابَهم بعشرة أضعاف مما قاسوا. فعليك النظر إلى الحوادث الواقعة خارج دائرة اقتدارك من زاوية رحمته وحكمته وعدالته وربوبيته تعالى.

وهكذا نجوتُ من الألم الشديد النابع من الشفقة بفضل الله.

يُنقل أدناه جواب سعيد القديم حول سؤال أورده في مؤلَّفه «المناظرات» المطبوعِ قبل ثلاثين سنة.

لقد سئل قبل ثلاثين سنة أثناء تجواله بين العشائر:

سؤال: أمَا تكون الشكوى من الزمان والاعتراضُ على الدهر اعتراضا على بدايع صنعة الصانع جل جلاله؟

الجواب: كلا، ثم كلا، بل ربما تعني الشكوى ما يأتي:

كأن الشاكي يقول: إن ماهية العالم المنظمةَ بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لإنجاز الأمر الذي أطلبه، والشيءِ الذي أبغيه، والحالةِ التي أشتهيها، ولا يسمح به قانونُ الفَلَك المنقش بيد العناية الأزلية، ولا توافقه طبيعةُ الزمان المطبوعةُ بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمةُ الإلهية المؤسِّسة للمصالح العامة.. لذا لا يقطف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمراتِ التي نطلبها بهندسةِ عقولنا وتَشَهِّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطَتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم، لا يمكن أن تسكن دائرةٌ عظيمة عن حركاتها المهمة لأجل هوى شخص…

هذا وتُلحِق رسائل النور هامشا في بحث الزلزلة، كالآتي:

بينما لكل عنصر من العناصر وكل حادثة من الحوادث المادية والمعنوية -كالشتاء والزلزال- مئات من النتائج والغايات الخيرة. فإن إيقافَه لئلا يأتي شرٌّ ونتيجةٌ ذات ضرر وشر، ارتكابٌ لمئات الشر، بترك تلك المئات من النتائج الخيرة، وهذا منافٍ للحكمة والحقيقة والربوبية.

ولكن الأفراد الذين يتضايقون من القوانين الكلّية، يُمدّ الرحمنُ الرحيم سبحانه كلَّ فرد عاجز ضعيف منهم بالعنايات الخاصة والإمدادات الخصوصية والاحسانات المخصوصة ويُسعفهم بدواءٍ لدائهم. ولكن ليس وفق هوى ذلك الفرد، بل وفق منفعته الحقيقية، وقد يُعطى له ألماسا في الآخرة على ما طلبه من زجاج في الدنيا.

* * *

[هموم العيش الثقيلة]

كنتُ شديد القلق لاحتمال انفراطِ تساند طلاب رسائل النور -وأكثرهم فقراء- وتزعزعِهم أمام هذه الحالات الرهيبة من هموم العيش التي أثقلت كاهلَ الفقراء والقحط الذي ألمّ بالناس -ضمن الوفرة- حيث بلغ الغلاءُ مبلغه في هذا الشتاء المادي والمعنوي. فأنتم يا إخوتي محتاجون ومكلّفون في هذه العواصف الهوج أكثر من أي وقت آخر بالحفاظ على ترابطكم واتحادكم وغض النظر عن تقصيرات إخوانكم وعدم نشر الانتقاد فيما بينكم. حذار حذار أن يمتعض أحدُكم من الآخر… فلا ينتقدنّ أحدكم الآخر… وبخلاف ذلك فإن إظهاركم ولو قليلا من ضعف يستغلّه أهل النفاق فيلحقون بكم أضرارا بليغة.

وتجاه ضرورة هموم العيش، عليكم الالتزام بالاقتصاد والقناعة. وحيث إن المصالح الدنيوية ساقت كثيرا من أهل الحقيقة وأهل الطريقة إلى نوع من المنافسة، فأنا قلقٌ من هذه الجهة التي لم تُزعزع طلابَ رسائل النور إلى الآن، ونسأل الله ألّا تزعزعهم في المستقبل أيضا. ولكن ليس الجميع على النمط نفسه من الأخلاق. وإذا ما أراد البعضُ راحته ضمن الدائرة المشروعة فلا تعترضوا عليه. والطالبُ الذي يعاني حالة الضرورة يمكنه أن يَقبل الزكاة. وأنه لَيعدّ نوعا من خدمة رسائل النور أيضا، مدُّ يد العون بالزكاة إلى الأركان -من طلاب النور- الذين نذروا وقتهم لخدمة رسائل النور وإلى الساعين في الخدمة. بل يجب معاونتهم. ولكن يجب ألاّ يكون بالحرص والطمع؛ والسؤال بلسان الحال. وإلّا يفتح الميدان لتعرّض أهل الضلالة الذين يقولون: هؤلاء ضحّوا بدينهم في سبيل الحرص والطمع؛ إذ يقيسونكم على أنفسهم ويتهمونكم بقولهم: إن قسما من طلاب رسائل النور أيضا قد جعلوا دينهم أداةً لدنياهم.

عليكم بقراءة رسالة «الإخلاص والاقتصاد» فيما بينكم تارة، وتارة أخرى رسالة «الهجمات الست».

إن ثباتكم الخارق وصلابتكم المتينة وتساندكم التام واتفاقكم العظيم سيكون مدار فخر لهذه البلاد بل هي بدرجة تستطيع أن تنقذ مستقبلها. احذروا ألّا تُفسد تساندَكم العاصفةُ الجديدة المقبلة.

* * *

[حقيقة تتعلق بأرباب العلم]

باسمه سبحانه

إخواني الأعزاء!

إن لرسالة «الحزب النوري» كرامةً معنوية تعود إلى شخصي، والآن جاء دور بيانها:

عندما انقلب سعيدٌ القديم إلى سعيد الجديد قبل ثلاثة وعشرين عاما، واختار مسلك التفكر، بحثتُ عن سرِّ «تفكرُ ساعةٍ خير من عبادة سنة»، وفي كل عام أو عامين كان ذلك السرّ يغيّر من شكله فينتج إما رسالة عربية أو رسالة تركية. وقد دامت تلك الحقيقة وهي تتلبّس الأشكالَ المختلفة ابتداء من رسالة «قطرة» العربية، وانتهاء إلى رسالة «الآية الكبرى»، حتى أخذت شكلها الدائم في «الحزب النوري». ومنذ عشرين عاما، ما كان يتملّكني الضيق وأصاب الفكرَ والقلبَ إرهاقٌ، ولجأتُ إلى قراءة قسم من ذلك الحزب بتأمل، إلّا وكان يزيل ذلك الضيقَ والسآمة والإرهاق. وقد تكرر ألف مرة أنه لم يبق أي أثر للملل والتعب -الناتجين عن الانشغال طوال خمس أو ست ساعات من الليل- بقراءة سُدس ذلك الحزب قبيل الفجر. نعم، إن هذه الحال تدوم حتى الآن.

ولمناسبة هذه الحقيقة أُبين مسألة وحقيقة عظيمة تتعلق في الوقت الحاضر بأرباب المدرسة الشرعية والعلماء:

لقد انقادت طائفةُ المدارس الشرعية لطائفة التكايا والزاويا الصوفية منذ سالف العصور، أي سلّموا لهم القياد وراجعوهم للحصول على ثمار الولاية. وتحرّوا عندهم أذواقَ الإيمان وأنوار الحقيقة. حتى كان عالم كبير من علماء المدرسة الشرعية يقبّل يدَ شيخ ولي صغير من أولياء الزاوية الصوفية ويتبعه، فطلبوا ذلك النبع الفياض بالماء الباعث على الحياة في التكايا والزوايا.

بينما أظهرت رسائل النور بالمعجزة المعنوية للقرآن الكريم -كما هو ماثل أمامكم- أن في المدارس الشرعية أيضا طريقا قصيرة توصل إلى أنوار الحقيقة، وفي العلوم الإيمانية ينبوع ثرّ هي أصفى وأنقى من غيرها. وأنه في العلم الشرعي، وفي الحقائق الإيمانية وعلم كلام أهل السنة، طريقا للولاية هي أسمى وأحلى وأقوى من العمل والعبودية والطريقة الصوفية.

بينما يلزم -بل الألزم- سعيُ علماء المدرسة الشرعية لموالاة رسائل النور باعتزاز وشوق، فإن أكثرهم لا يعرفون -يا للأسف- أن هذا الكنـز العظيم الباقي، وهذا النبع الفياض الباعث على الحياة، مُلك مدرستهم نفسها، ولا يبحثون عنه، ولا يحاولون الحفاظ عليه.

ولكن الآن ولله الحمد بدأت تباشيرُ ذلك حيث جَذبت مجموعةُ «الكلمات» العلماءَ والمعلمين معا إلى الأنوار.

* * *

[الحاجة إلى الحقائق الإيمانية ماسة]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

حمداً لله وشكراً له بما لا يتناهى من الحمد والشكر، إذ جعل ولاية إسبارطة مدرسةَ الزهراء والجامع الأزهر والذي كان هدف خيالي منذ مدة. فأقلامكم تُغني رسائلَ النور عن المطبعة ونشرُكم بالرونيو هذا العدد الكبير من النسخ المضبوطة المتسمة بالتوافق في وقت قصير أثبت دعواي الذي قلته صباحا. ثم أتى «أمين» بهذه النسخ -ثمرات رياض الجنة- قبيل الظهيرة. والدعوى هي أن الحقائق الإيمانية التي تخدمها رسائل النور هي أجلّ من كل شيء، والحاجة إليها على أشدها في الوقت الحاضر، ولكن الملحدون أماتوا قلوبَهم وأطاشوا نفوسَهم بالأهواء، فينكرون الحاجة إلى حقيقة الإيمان، فيقولون: إن الذي يحرك أهل الدين والعلم نابع من مقاصد دنيوية وحاجاتها. وهكذا يتهمونهم ويعرّضونهم لظلم شديد بموجب ذلك الاتهام. إن إسكات هؤلاء الملحدين التعساء إسكاتا تاما وفعليا يتطلب وجود مضحّين لا تُشبع حاجاتِهم إلى الحقائق الإيمانية أعظمُ مشاغل الدنيا، بل حتى أضرارُها الجسيمة لا تشغلهم عنها.

– تُرى هل هناك أحد من هذا القبيل؟

– نعم، وها هي ولاية إسبارطة وحواليها أمامكم…

* * *

[نفس أمارة ثانية]

مسألة دقيقة كُتبتْ تنبيها لأحد إخواننا ممن لم يرَ تقصيره، نرسلها لكم علّها تنفعكم كذلك.

رأيت -في وقت ما- لدى عدد من الأولياء العظام، ممن نجوا من أوضار نفوسهم الأمارة بالسوء مجاهدات نفسية، وشكايات منها. فكنتُ أحار في الأمر كثيرا، ولكن بعد مدة طويلة رأيت أن هناك نفسا أمارة معنوية -غير دسائس النفس الأمارة الحقيقية- هي أشد عصيانا من الأولى وأكثر نفورا من الطاعة، وأكثر إدامة للأخلاق الذميمة، هي النفس الثانية.

وهي مزيج من الهوس والمشاعر والطبائع، وهي موغلة في الأعصاب والعروق، وهي الحصن الأخير الذي تحتمي به النفسُ الأمارة، وهي التي تتولى القيام بوظيفة النفس الأمارة السيئة السابقة -التي تزكّت منها- فتجعل المجاهدة تستمر إلى نهاية العمر.

وأدركتُ حينها أن أولئك الأفذاذ الميامين ما كانوا يشكون من النفس الأمارة الحقيقية، بل من نفس أمارة مجازية. ثم شاهدت أن الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي أيضا يخبر عن هذه النفس المجازية.

ولما كانت حواس هذه النفس الأمارة الثانية عديمة الشعور، عمياءَ لا تبصر، فلا تَفهم أقوال العقل ولا تدرك نصائح القلب، ولا تُعير لها سمعا كي تنصلح وتدرك تقصيراتها، لذا لا ترتدع عن السيئات إلّا بلطمات التأديب وصفعاتها وبالآلام، أو بالتضحية التامة بحيث يضحي المرءُ بمشاعره وحواسه كلِّها للهدف الذي يصبو إليه فيترك أنانيته كليا، بل كلَّ ما يملكه لذلك الهدف، كما تركه طلاب النور الخواص.

وفي هذا العصر العجيب، تتفق النفسان الأمارتان -الحقيقيةُ والمجازيةُ- معا بتلقينات رهيبة، حتى تدفعا الإنسانَ ليَدخل في السيئات والآثام طوعا وبرغبةٍ منه، تلك السيئات التي ترتعد من شناعتها الكائنات.

حتى إنني في غضون دقيقة واحدة، وبضيق قليل جدا فَوَّتُّ حسنةً عظيمة جدا. وقد حدث أيضا ضمن مجاهدة معنوية عظيمة خلال عشر دقائق، عندما كان أحدُهم وهو في صفي يخترق صفوف أعدائي ويشقهم شقا كمن يرميهم بمدافع ثقيلة عظيمة. فتحيّنَتْ تلكما النفسان الأمارتان فرصةَ الغفلة موقتا، إذ شَعرتُ بميلٍ للتفوق وبأثَرة مظلمة إلى أقبح رياء وحسد بدلا من الشكر والحمد العظيمين حيث قلت: «لِمَ لمْ أرم القذائف أنا؟».

فألف شكر وشكر للبارئ الكريم سبحانه أن رسائل النور ولاسيما رسائل «الإخلاص» أزالت -كليا- دسائسَ كلتا النفسين وضمدت الجراحات التي ولدتاها، مثلما أزالت الحالاتِ التي حدثت في دقيقة واحدة وفي عشر دقائق إزالة تامة والحمد لله. فعرفتُ تقصيري -تلك المعرفة التي هي استغفار معنوي- ونجوت بفضله تعالى من العذاب والآلام المضمَرة التي هي جزاء معجل لذلك الخطأ.

* * *

قلق ساور قلبي فجأة

أبينه لكم:

لقد شعرتُ وأدركت أن أهل الضلالة لعجزهم عن صد السيوف الألماسية لرسائل النور يريدون زعزعة رابطة الطلاب الوثيقة مستفيدين من عروق واهية نابعة من اختلاف المشارب أو المشاعر مستغلين متطلبات العيش ولوازمه والغفلة التي تخيّم في الربيع. إياكم وإياكم أن تجد الفرقةُ فرجةً فيما بينكم. احذروا؛ فالإنسان لا يخلو من خطأ. إن باب التوبة مفتوح. فإذا ما دفعتكم النفسُ والشيطان إلى الاعتراض على أخيكم وانتقاده على حق، قولوا:

إننا مكلفون بالتضحية بحياتنا وكرامتنا وسعادتنا الدنيوية في سبيل الحفاظ على التساند الذي هو الرابطة الوثقى لرسائل النور، فضلا عن مثل هذه الأمور الجزئية. فوظيفتُنا التضحية بكل ما يمتّ بصلة بالدنيا والأنانية، لما تكسبنا رسائل النور من نتائج جليلة.

وبهذا تُسكتون النفسَ الأمارة. وإن دار حول مسألةٍ نقاشٌ ونزاع، فشاوروا بعضَكم بعضا. لا تتشددوا، أوغلوا برفق، الناسُ ليسوا سواسية في المشارب. ينبغي أن يتسامح بعضُكم مع البعض الآخر في الوقت الحاضر.

سلامنا إلى الإخوة جميعا فردا فردا.

* * *

[لا تفسحوا المجال للانتقاد]

إخوتى الأعزاء الأوفياء!

حذار حذار.. لا تفسحوا المجال لانتقاد بعضكم البعض الآخر، فيستغلَّ أهل الضلالة اختلاف مشاربكم وعروقكم الضعيفة وحاجاتكم المعيشية. صونوا آراءكم من التشتت بإقامة الشورى الشرعية بينكم، اجعلوا دساتير رسالة الإخلاص نصب أعينكم دائماً. وبخلاف هذا فإن اختلافاً طفيفاً في هذا الوقت يمكن أن يُلحق أضراراً بليغة برسائل النور.

* * *

[ما الذي يمنعنا عن السياسة؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد أتاني اليوم صلاح الدين ومسؤول من الأمن (المَباحث) يتعقبه، دخل عليّ من ورائه.

قلت لذلك الجاسوس الحكومي:

إن رسائل النور -ونحن الذين نتلقى الدرس منها درسا كاملا- لن نجعلها أداةً للدنيا قاطبة ناهيك عن سياستها، ونحن لا نتدخل بدنيا أهل الدنيا، فمن البلاهة توقّع الأضرار منا، وذلك:

أولا: أن القرآن الكريم قد منَعنا من السياسة، لئلا تسقط -في نظر أهل الدنيا- الحقائقُ التي هي بنفاسة الألماس إلى مستوى القطع الزجاجية التافهة.

ثانيا: إن الشفقة والضمير والحقيقة تمنعنا من السياسة. لأنه لو كانت نسبة المنافقين الملحدين الذين يستحقون العقاب اثنين من عشرة، فهناك سبعٌ أو ثمان من الأبرياء من أقاربهم وذويهم. وهناك الأطفال والعوائل والشيوخ والمرضى. فإذا نزلت المصيبةُ والبلاء فإن أولئك الأبرياء الثمانية سيسقطون في أتون المصيبة. ولربما سيلحق بالمنافقَين الاثنين والملحدَين ضرر طفيف. ولهذا فإن ما في ماهية رسائل النور من الشفقة والرحمة والحق والحقيقة قد حالت دون الدخول في السياسة بوسائل الإخلال بالإدارة والنظام فضلا عن أن نتائجها مشكوك فيها.

ثالثا: إن هذا الوطن وهذه الأمة والحكومة -مهما كان شكلها- فهي بحاجة ماسة إلى رسائل النور. فينبغي لأعتى الملحدين منهم أن يميل إلى دساتيرها المتسمة بالدين والحق ناهيك عن الخوف منها والعداء لها، اللهم إلّا إذا كانت خيانة فاضحة للأمة والوطن والحاكمية الإسلامية. لأن هناك خمسة أسس ضرورية لإنقاذ هذه الأمة وهذا الوطن في حياتها الاجتماعية والسياسية ونجاتها من الفوضى والإرهاب ومن المخاطر العظيمة:

الأول: الرحمة. الثاني: الاحترام. الثالث: الأمن والثقة. الرابع: اجتناب المحرمات والتمييز بين الحرام والحلال. الخامس: الطاعة وترك التسيب.

وهكذا فرسائل النور عندما تنظر إلى الحياة الاجتماعية تُحقق هذه الأسس الخمسة وتثبّت بها ركائز النظام في البلاد.

ألَا فليعلم الذين يتعرضون لرسائل النور، أنّ تعرضهم هذا إنما هو عداء -في سبيل الفوضى والإرهاب- للوطن والأمة والنظام.

هذا ما قلته باختصار لذلك الجاسوس الحكومي. وقلت له: قل هذا لمن أرسلك هنا. وقل لهم أيضا: إن الذي لم يراجع الحكومة لتأمين راحته طوال ثماني عشرة سنة.. والذي لا علم له بالحرب الدائرة التي قلبت العالم رأسا على عقب منذ أحد عشر شهرا.. والذي يستغني عن أن يَقبل إيجاد علاقةِ صداقةٍ مع من يشغل مراتب رفيعة في الدولة. فالذي يتوجس خيفةً من مثل هذا الرجل ويساوره الشكوك وكأنه سيتدخل بأمور دنياهم ومن ثم مضايقته وشدّ الخناق عليه، ماذا يعني عمله هذا؟ وما المصلحة فيه؟ وأي قانون يجيز هذا؟ حتى البلهاء يعرفون أن التعرض له جنون وبلاهة! قلنا له هذا، ثم غادرنا.

* * *

[لا تنشغلو بلسعات البعوض]

إخواني الأعزاء!

لا داعي إلى درس وتوجيه جديد، إذ شاهدتُ بين رسائلكم رسائل «الإخلاص» هذه المرة. فأحيلكم إلى دروس تلك الرسائل. إلّا أنني أنبّه إلى ما يأتي:

لما كان مسلكُنا يستند إلى الإخلاص، ومبنيا على الحقائق الإيمانية فإننا مضطرون -وفق مسلكنا- إلى عدم التدخل في أمور الحياة الاجتماعية والحياة الدنيوية، مالم نضطر إليها. وعلينا التجرد والابتعاد عن تلك الحالات التي تؤدي إلى التنافس والتحيّز والتنازع.

فأسفا، وألف أسف، لأهل العلم ولأهل التقوى الضعفاء الذين يتعرضون -في الوقت الحاضر- إلى هجومِ ثعابين مرعبة، ثم يتحججون بهفوات جزئية شبيهة بلسع البعوض، فيعاوِنون -بانتقاد بعضهم البعض- تلك الثعابينَ الماردة، ويُمدّون المنافقين الزنادقة بأسبابٍ لتدميرهم وتحطيمهم، بل يساعدونهم في هلاك أنفسهم بأيدي أولئك الخبثاء.

يَذكر أخونا المخلص جدا «حسن عاطف» في رسالته: أن عالما واعظا شيخا قد اتخذ طورا يُلحق الضرر برسائل النور، حيث حاول التعرض لها بالتهوين من شخصي الضعيف، بحجة تَركي لسنة نبوية (إطلاق اللحية) علما أن ذلك الترك مبني على عذرين مهمين.

أولا: ليعلم ذلك الشخص -واعلموا أنتم كذلك- أنني خادمُ رسائل النور، ودلّالُ ذلك الدكان. أما رسائل النور فهي تفسير حقيقي للقرآن الكريم وهي وثيقة الصلة به، ذلك الكتاب الجليل المرتبط بالعرش الأعظم، لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي الشخصية إلى الرسائل.

ثانيا: بلّغوا ذلك العالم الواعظ عني السلام. فإنني أقبَل انتقاده لشخصي واعتراضه عليّ بتقدير وبرحابة صدر. وأنتم بدوركم لا تسوقوا ذلك العالم الفاضل ولا أمثاله من العلماء إلى المناقشة والمناظرة. ولو حدَثَ تعدّ وتجاوز علينا، فلا تقابلوه حتى بالدعاء عليهم. إذ إن ذلك المتجاوز أو المعترض أيا كان، هو أخونا من حيث الإيمان لأنه مؤمن. حتى لو عادانا، فلا نستطيع أن نعاديه بمثل عدائه، حسب ما يرشدنا إليه مسلكُنا. لأن هناك أعداء شرسين وحيّات لاذعة ونحن لا نملك سوى النور، لا الصولجان. والنورُ لا يؤلم، بل يلاطف بضيائه، ولاسيما الذين هم ذوو علم فلا تثيروا غرورَهم العلمي إن كانوا على غرور وأنانية، بل استرشِدوا ما استطعتم بدستور الآية الكريمة: ﴿وَاِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (الفرقان:72).

ثم إن ذلك الشخص المحترم، كان داخلا في دائرة رسائل النور، واشترك في استنساخ الرسائل، فهو إذن ضمن تلك الدائرة، فاصفحوا عنه حتى لو كان يحمل خطأ فكريا.

فليس مثل هذا الشخص الفاضل من ذوي الدين والتقوى المنسوبِين إلى الطرق الصوفية، بل حتى من المؤمنين المنسوبين إلى فرق ضالة، لا ينبغي أن نثير معهم نزاعا وخصاما في هذا العصر العجيب، بل لا نجعل نقاطَ الاختلاف والنزاع موضعَ نقاش مع المؤمنين بالله واليوم الآخر حتى لو كانوا من النصارى.

هذا ما يقتضيه هذا العصر العجيب، وما يقتضيه مسلكنا الذي نسلكه، وما تقتضيه خدمتنا المقدسة.

ولأجل الحيلولة دون ظهور عوائق اجتماعية وسياسية أمام انتشار رسائل النور في العالم الإسلامي، ينبغي لطلاب رسائل النور اتخاذ سلوك المصالحة. إياكم وإياكم أن تتعرضوا لصلاة الجماعة والجمعة للعلماء، فلا تنتقدوا المشتركين فيها. أما قول الإمام الرباني: «لا تدخلوا مواضع البدع» فالمقصود منه لا ثواب فيها، وليس معناه بطلان الصلاة، لأن قسما من السلف الصالحين قد صلّوا خلف يزيد والوليد. ولكن إذا كان المرء يتعرض للكبائر في أثناء ذهابه إلى المسجد وإيابه منه، فالأولى أن يظل في معتكفه.

يذكر أخونا في رسالته عن إخواننا الجدد الشجعان الثابتين. فنحن نقبلهم بكل مهجنا وأرواحنا. ولكن الداخلين في دائرة رسائل النور لأجل أن يقدروا شجاعتهم الشخصية حق قدرها يبذلون شجاعتهم في ثبات لا يتزعزع ومتانة لا تلين وترابط لا ينفصم مع إخوانه. فيجب تحويل تلك الشجاعة الشخصية التي هي بحكم قطع زجاجية متكسرة إلى ألماس التضحية الصدّيقية الناشدة للحقيقة.

نعم، إن أهم أساس في مسلكنا بَعد الإخلاص التام هو الثبات والمتانة. وبهذه المتانة حدثت وقائع كثيرة أثبتت أن أمثال هؤلاء الذين نذروا حياتهم في خدمة النور يقابل كلٌّ منهم مائة شخص، فالشخص الاعتيادي الذي لا يتجاوز عمره الثلاثين قد فاق أولياءً يتجاوزون الستين من العمر.

ثم إن شخصا حتى لو كانت شجاعته حسنة، فإنه بعد دخوله جماعة متساندة، لا يستطيع أن يستعمل شجاعته تلك، حفاظا على راحة جماعته وصيانةً لعدم زعزعتهم، فلابد من العمل وفق الحديث الشريف: «سيروا على سير أضعفكم». ويلزم عدم الخوض في مسائل النـزاع، وعدمُ طَرق مسائل القبعة والأذان واستعمالِ عناوين الدجال والسفياني مع الغرباء، حيث يُسبب هذا اتخاذَ العلماءِ وأهلِ السياسة تجاه رسائل النور موقف المجابهة والتعدي عليها. فالحذرُ هو الألزم.. والواجب ضبط النفس، حتى إن عدم الأخذ بالحذر ولو جزئيا يؤثر إلى هاهنا.

وإن رسائل النور ليست دائرة واحدة، بل لها طبقات كالدوائر المتداخلة. فهناك طبقة الأركان والمالكين والخواص والناشرين والطلاب والموالين وأمثالها من الطبقات.

فمن لم يكن أهلا للدخول في طبقة الأركان لا يُطرد خارج الدائرة، بشرط عدم موالاته لتيار يخالف رسائل النور، والذي ليست له ميزات الخواص يمكن أن يكون طالبا، بشرط عدم الدخول في مسلك مضاد، والذي يعمل بالبدعة يمكن أن يكون صَديقا بشرط عدم موالاته قلبا لها.

ولهذا لا تُخرجوا أحدا من جراء خطأ طفيف خارج الدائرة، لئلا يلتحق بصف الأعداء. ولكن لا يُشرَك هؤلاء في التدابير الدقيقة التي يتخذها أركان رسائل النور ومالكوها.

* * *

[طلاب النور يُفضلون الخدمة على القطبية]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن حادثتين وقعتا في اليومين السابقين أوردتا إلى الخاطر مسائل عدة منها:

أولاها: يكتب أخونا صلاح الدين من أنقرة: لقد بدأوا بالتعدي على أهل الطرق الصوفية. وهناك اعتقالات في أنقرة وفي الشرق حول هذه المسألة. وطلابُ رسائل النور محفوظون في كل جهة بالعناية الربانية، فإخلاصهم المتين وترابطهم الوثيق وأخذهم بالحذر تُديم عليهم تلك العناية الربانية.

ثانيها: يشكو الناس كلهم في هذه الأيام من الضيق الذي ينتابهم، وكأن فساد الهواء المعنوي قد أورث مرضَ ضيقٍ مادي شامل. حتى سرى فيّ هذا المرض يوما. وحيث إن رسائل النور دواء لكل ما ينتابنا، فإن المنشغلين بها إما لا ينتابهم ذلك المرض أو يمسهم مسا طفيفا.

…….

رابعها: لقد شاهدتُ في بعض الرسائل المرسلة أوصافا مفرطة بحق أستاذهم، ونظرت إلى نفسي فرأيتها لا تستحق حتى زكاةَ تلك الأوصاف، وليس من حقي امتلاكها. فقلت: تُرى ما المصلحة والفائدة التي يحصل عليها إخواني هؤلاء الناشدون للحق في غلوّهم في حسن الظن واستمرارِهم عليه مع تنبيهاتي المستمرة لهم؟.

فخطر على القلب:

إن هؤلاء، وبلدتهم ولاية إسبارطة وحواليها يرون يُمْنَ حسن ظنهم العظيم اقتداءً بالأولياء من أمثال عثمان الخالدي وشكري طوبال، فلم يبالغوا إذن بالنظر من هذه الزاوية فقد شاهدوا حقيقةً. ولكن كما أن الكشفيات تحتاج إلى تأويل والرؤى إلى تعبير، فالأحكام الخاصة إذا عُمِّمت يظهر خطأٌ في جهة. وكذلك هؤلاء؛ قد أَعطوا الفائدة التي أسداها الشخصُ المعنوي لرسائل النور لهم ولبلدتهم إلى أحد ممثلي ذلك الشخص المعنوي وهو أخوكم هذا الذي دعوه «الأستاذ». فعمموا حادثة تلك البلدة ونظروا إليها حادثة عامة فأظهروا غلوا في حسن الظن.

السادس: قبل حوالي ثلاثة أيام استمعت إلى الكلمة الثانية والعشرين أثناء تصحيحها، ورأيت أن فيها: ذكراً كلياً، وفكراً واسعاً، وتهليلاً كثيراً، ودرساً إيمانياً قوياً، وحضوراً بلا غفلة، وحكمة سامية، وعبادة فكرية رفيعة وأمثالها من الأنوار. وأدركتُ الحكمة في قيام قسم من الطلاب بكتابة الرسائل أو قراءتها أو الاستماع إليها بنية العبادة، فباركتُ عملهم وصدّقتهم.

* * *

رسائل متفرقة (8)

 [لِمَ ننشغل برسائل النور وحدها؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إنني في هذا الشهر المبارك شهر رمضان في الوقت الذي أحتاج فيه إلى نسيان الدنيا وإلى عدم النظر إلى الأمور الآفاقية الخارجية إلّا أنهم -مع الأسف- ألجأوني إلى النظر إليها أحيانا. نسأله تعالى إن يجعل هذا النظر نوعا من العبادة حيث إن نيتنا فيه الخدمة الإيمانية.

نعم، كما أنهم يتعرضون لكم فإنهم بأساليب مختلفة يُشعرون تعرّضهم لنا. ولكن شكرا لله تعالى إن تعدّيهم علينا يؤدي إلى خلاف مقصودهم، فيُعين فتوحات رسائل النور.

وقد ذكر الطالب البطل «نظيف» أن اعتراض الشيخ في إسطنبول قد أصبح وسيلة لفتوحات رسائل النور وسطوعها، وأن الاعتداء على حقوقنا، في أمور طفيفة هنا وهناك تورث مثل هذه النتيجة.. ولكن وجدوا في الوقت الحاضر وسيلةً لا تخطر على بال لترويع بعض العلماء الضعفاء وأهل التصوف وإلقاءِ الفتورِ في قلوبهم تجاه رسائل النور.

فهم يقولون: إن سعيداً لا يقتني كتباً أخرى، بمعنى أنه لا تعجبه تلك الكتب بل لا تعجبه حتى كُتُبُ الإمام الغزالي فلا يجلب إليه مؤلفاته.

فبهذه الكلمات العجيبة التي لا معنى لها يكدّرون أذهان الناس. ألَا إن الذين يروّجون مثل هذه الإشاعات إنما هم أهل الزندقة، ولكن يجعلون العلماء الساذجين وبعضاً من أهل التصوف وسيلة لذلك.

ونحن نقول تجاه هذا: حاش لله مائة مرة حاش لله… إن مهمة رسائل النور وطلابها هي الحفاظ على مسلك أستاذهم حجة الإسلام الإمام الغزالى، والذودُ عنه ما وسعهم وإنقاذه من هجمات أهل الضلالة.. وهو أستاذي الوحيد الذي يربطني بالإمام علي رضي الله عنه، ولكن في زمانهم لم يكن هجوم الزندقة الرهيبة يزعزع أركان الإسلام -كما في هذا العصر-. فلا يحصل بسرعة على الأسلحة التي استعملها أولئك العلماء المحققون الأجلاء، والمجتهدون العظام حسب عصورهم في المناظرات والمناقشات العلمية والدينية، بل يحتاج إلى وقت، ولا تُقهر أعداء هذا الزمان قهراً تاماً. إلّا أن رسائل النور باستلهامها القرآن المبين قد وجدت أسلحة يمكن الحصول عليها بسرعة، وهى قوية نافذة، وفي الوقت نفسه تمزق صفوف العدو وتجعلهم شذر مذر، لذا لا تُراجع مصانعَ أسلحةِ أولئك الأفذاد السامين الميامين. لأن القرآن الكريم الذي هو مصدرهم جميعاً ومنبعهم ومرجعهم وأستاذهم قد أصبح أستاذاً كاملاً لرسائل النور. فضلاً عن ذلك فالوقت ضيق ونحن ضعفاء، فلا نجد متسعاً من الوقت كي نستفيد من تلك الآثار النورانية. علاوة على ذلك فإن هناك مئات الأضعاف من أمثال طلاب رسائل النور ينشغلون بتلك الكتب وهم يؤدون تلك الوظيفة ونحن أودعناها لهم. وإلّا فنحن نحب تلك الآثار الطيبة الميمونة لأساتذتنا السامين أولئك بقدر ما نحب أرواحنا وكياننا، ولكن لكل منا دماغ واحد ويد واحدة ولسان واحد، وتجاهنا ألوف المتعدين والوقت ضيق. وحيث إننا شاهدنا آخِر سلاح أوتوماتيكي أمامنا وهو براهين رسائل النور، اضطررنا إلى الاكتفاء بذلك السلاح والاعتصام به.

* * *

[ما يسوق إلى الرياء وما يمنع منه]

إخوتي الأعزاء الخالصين المخلصين ويا رفقائي الحقيقيين الجادين في خدمة القرآن!

لمناسبة انتشار رسالة «الإخلاص» حوالينا وفي ولاية إسبارطة ولمناسبة حدوث حادثتين طفيفتين، ورد خاطر قوي إلى القلب. ستُكتب ثلاث نقاط تخص الرياء:

أولاها: إن الرياء لا يدنو من الفرض والواجب والشعائر الإسلامية واتباعِ السنة النبوية الشريفة واجتنابِ الحرام. فإظهار هذه الأمور ليس من الرياء قطعا، إلّا إذا كان الشخص قد جُبل على الرياء مع ضعف شديد في الإيمان. بل إن إظهار العبادات التي تمس الشعائر الإسلامية أجزلُ ثوابا من إخفائها بكثير، كما بيّنها حجة الإسلام الإمام الغزالي رضي الله عنه.

وعلى الرغم من أن إخفاء سائر النوافل له أثوبة كثيرة فإن النوافل المتعلقة بالشعائر الإسلامية ولاسيما في مثل هذه الأوقات التي راجت فيها البدع، وكذا إظهارُ التقوى التي هي ترك الحرام ضمن هذه الكبائر المنتشرة، لها أثوبة عظيمة أكثر من إخفائها، ناهيك أن يتقرب منها الرياء.

النقطة الثانية: هناك أسباب عديدة تسوق الإنسان إلى الرياء. منها:

السبب الأول: ضعف الإيمان؛

إن الذي لا يفكر بالله يعبد الأسباب ويتخذ وضع الرياء بحبّه إظهار نفسه للناس. فطلابُ رسائل النور لا يعيرون أهمية ولا قيمة للأسباب ولا للناس من حيث العبودية كي يقعوا في الرياء في عبوديتهم بإظهارها لهم. وذلك لأنهم يتلقون درسا إيمانيا تحقيقيا قويا من رسائل النور.

السبب الثاني: إن الحرص والطمع يسوقان الإنسان -من زاوية الفقر والضعف الإنساني- إلى جلب توجّه الناس وتلبّس أوضاعٍ متكلَّفة للرياء والظهور.

ولما كان طلاب النور يحصلون على عزة الإيمان باسترشادهم بدروس رسائل النور كالاقتصاد والقناعة والتوكل على الله والرضى بقسمته، فإنها بإذن الله تمنعهم عن الرياء والعجب والتنازل لمنافع الدنيا.

السبب الثالث: إن حرص الإنسان على الشهرة، وحبِّ الجاه، وطلبِ نيل المقامات، والتفوقِ على الأقران وأمثالها من الأحاسيس والمشاعر، وكذا التظاهر بمظهر حسن رفيع وتقمّص طور أشخاص عظام لا يليق به، وجلب أنظار الناس وإعجابهم نحوه بما هو فوق حدّه وطاقته، وما شابهها من أنواع التصنع والتكلف في الأعمال.. كلها تسوق إلى الرياء.. ولكن لما كان طلاب رسائل النور قد حوّلوا «أنا» إلى «نحن» أي تركوا الأنانية ودخلوا ضمن دائرة الشخصية المعنوية للجماعة ويسعون في أعمالهم باسم تلك الشخصية، أي يقولون «نحن»

بدلا من «أنا».. وكما قد نجا أهلُ الطرق من الرياء بوسائلِ قتل النفس الأمارة والأخذِ بقاعدةِ: «الفناء في الشيخ» و«الفناء في الرسول».. فإن إحدى تلك الوسائل هي «الفناء في الإخوان»، أي إذابة الشخصية الفردية في حوض الشخصية المعنوية لإخوانه وبناء أعماله على وفق ذلك، أقول: إنه كما قد نجا أهل الحقيقة بتلك الوسائل من ورطة الرياء، ينجو بإذن الله طلاب النور بهذا السر أيضا.

النقطة الثالثة: إنه لا تُعد من الرياء والعجب قط تلك الأطوارُ والأوضاع الرفيعة التي يقتضيها مقام أداء الواجب الديني، وجعلُ الناس يتقبلونه قبولا حسنا. اللهم إلّا إذا كان الشخص يسخّر تلك الوظيفة الدينية طوعَ أنانيته ويستغلها لأغراضه الشخصية.

فإمام الجامع، يجهر بالأذكار، كجزء من واجبه في إقامة الصلاة وأداء الأذكار، ويُسمِعها الآخرين، وهذا لا رياء فيه قط، ولكن إسماعها الناس خارج نطاق واجبه، ربما يداخله الرياء، فإن إخفاءها أكثر ثوابا من الجهر بها.

لذا فإن طلاب النور الحقيقيين، أثناء أدائهم لواجب نشر الوعي الديني، وأثناء قيامهم بعباداتهم اتباعا للسنة النبوية، وأثناء التزامهم بالتقوى التي هي اجتناب الكبائر.. إنما يُعدّون مكلّفين مأمورين في سبيل خدمة القرآن. فنسأل الله تعالى ألّا يداخل أعمالَهم تلك، الرياءُ. إلّا من دخل ضمن دائرة رسائل النور لغرض آخر غير خدمة القرآن.

* * *

[حول وظائف السيد المهدي]

.. إن الذي تنتظره الأمة وسيأتي في آخر الزمان، له مهام ثلاثة، وإن أهم وظيفة من هذه الوظائف الثلاث وأعظمَها وأجلّها هي نشر الإيمان التحقيقي وإنقاذ الإيمان من الضلالة..

أما وظيفته الثانية: فهي تنفيذ الشريعة الغراء وتطبيقها، فبينما لا تَعتمد الوظيفة الأولى على القوة المادية بل إن سنَدَها هو القوة المعنوية من إخلاص ووفاء وقوة العقيدة، فإن هذه الوظيفة تحتاج إلى قوة مادية عظيمة مرهوبة الجانب، وسلطةٍ ذات شأن، كي يتمكن من تنفيذها.

أما وظيفته الثالثة: فهي خدمة الإسلام بإعلان الخلافة الإسلامية مستندا إلى الوحدة الإسلامية، والاتفاق مع الروحانيين النصارى -الذين يلتحقون به خدمة للإيمان- فهذه الوظيفة يمكن تطبيقها بسلطة عظيمة وقوة هائلة وملايين الفدائيين المضحين.

إن الوظيفة الأولى أسمى وأعلى من الوظيفتين التاليتين بدرجات، إلا أنهما يبدوان في نظر عامة الناس ولاسيما العوام، أسطع وأبهر وأوسع منها لما لهما من جاذبية.

خلاصة الكلام: إن إطلاق اسم «المهدي» إلى أي شخص في الوقت الحاضر، يورِد إلى الذهن الوظائفَ الثلاث دفعة واحدة، فيحصل الخطأ، وقد يجرح الإخلاصَ.. وتضعف قوة الحقائق لدى العوام شيئا ما، وتنقلب اليقينيات المدعمة بالبراهين إلى الظن الغالب للقضايا المقبولة، فلا يَظهر لدى الحائرين من المؤمنين التغلبُ المبين على الضلالة العنيدة والزندقة المتمردة. وعندها يبدأ أهل السياسة بإثارة المخاوف والشكوك ويشرع قسم من العلماء بالاعتراض..

* * *

[تعديل حسن الظن المفرط]

كُتِبَ لمناسبة تعديل حسن الظن المفرط لعالم فاضل نحو الأستاذ لعل فيه فائدة لكم.

إلى العالم الفاضل، والأخ العزيز الصادق، حشمت أفندي

لـقـد قـرأنـا بتقدير و إعجاب رسالتكم الكريمة حول المجدِّد، ونقلناها إلى أستاذنا وهو يقول:

نعم، إنه ينبغي لهذا العصر من مجدد له شأنه ليقوم بتجديد الدين والإيمان، وتجديد الحياة الاجتماعية والشريعة، وتجديد الحقوق العامة والسياسة الإسلامية. ولكن أهم تلك الوظائف، هو التجديد في مجال المحافظة على الحقائق الإيمانية. فهي أجلّ وأعظم تلك الوظائف الثلاث. لذا تبقى دوائر «الشريعة» و«الحياة الاجتماعية والسياسية» في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة بالنسبة لدائرة الإيمان.

هذا وإن الأهمية البالغة التي وردت في الحديث الشريف حول تجديد الدين، إنما هي باعتبار التجديد في الحقائق الإيمانية، ولكن نظرا لأن أفكار عامة الناس، والذين حصروا همّهم في الحياة الدنيا تتوجه أول ما تتوجه إلى الحياة الاجتماعية الإسلامية والسياسة الدينية التي تبدو أكثر أهمية من غيرها وأوسع وأعظم مدى، لما لها من جاذبية وهيبة في السلطة والحكم. فترى أن هؤلاء ينظرون بتلك العدسة ومن تلك الزاوية إلى الأمور ويفسرونها في ضوئها.

ثم إنـــه يبدو بعيدا جــدا، بـل يكاد يكون غير ممكن اجتماعُ هذه الوظائف الثلاث كلها في شــــخص واحد، أو في جماعة واحدة، في هذا العصر، وعلى الوجه الأكمل، ومن دون أن تعيق إحداها الأخرى. بل قد لا تجتمع أصلا تلك الوظائف إلا في «السيد المهدي» الـــذي يـمـثــل الجماعة النـوارنـيـة لآل البـيـت الـنـبــوي في آخــر الزمــان، وفـي الشـــخص المعنوي لجماعته.

فلله الحمد بما لا يتناهى من الحمد؛ أَنْ دفَعَ الشخصَ المعنوي لطلاب رسائل النور وحقيقتها -في هذا العصر- لأداء وظيفة التجديد من حيث المحافظة على الحقائق الإيمانية.

وهي منذ عشرين سنة تؤدي تلك الوظيفةَ المقدسة بنشرياتها المؤثرة والفاتحة للقلوب صادّةً صولاتِ الزندقة القوية الرهيبة وغاراتِ الضلالة منقِذة إيمانَ مئات الألوف من أهل الإيمان. والشاهدُ على ذلك أكثر من أربعين ألفا من الشهود.

يقول أستاذنا:

لا ينبغي أن يكون شخصي العاجز الضعيف موضعَ النظر وتحميلُ كاهلي هذا الثقل العظيم بما يفوق حدي بألوف المراتب. وهو يخصكم بالسلام، ونحن بدورنا نخصكم بالسلام ومن له علاقة برسائل النور هناك.

من طلاب رسائل النور

أمين، فيضي، كامل

* * *

[يد القدر ويد الإنسان في الحادثة]

إنه قاعدة أساس في رسائل النور؛ أن في كل حادثة يدَ الإنسان ويدَ القدر معا، ولكن الإنسان يَظلم حيث ينظر إلى السبب الظاهري، بينما القدرُ يعدِل لأنه يرى السبب الخفي لتلك المصيبة.

ولقد ثبت بتجاربَ أن يد العناية الإلهية ورحمتَه تعالى موجودة في كل المصائب التي نزلت برسائل النور لحد الآن.

* * *

[فتوى أمين الفتوى]

إن السيد «علي رضا» أكبر علماء إسطنبول وأكثرهم تحريا وبحثا والذي تولى في أغلب الأوقات منصب مفتي الأنام، وهو أمين الفتوى السابق، بعد ما شاهد «الشعاع الأول» المتضمن للإشارات القرآنية ورسالة «الآية الكبرى» وأمثالها من الرسائل قال للحافظ أمين وهو من طلاب رسائل النور القديرين:

«لقد خدم بديع الزمان الدين الإسلامي أعظم خدمة في هذا الزمان، وإن مؤلفاته صائبة جدا، ولم يتيسر لأحد إخراجُ أثر كهذا في مثل هذا الزمان الجدب، إذ تَرَك الدنيا ونَبَذَها. وهو قمين بالتهنئة والتبريك بكل الوجوه. وإن رسائل النور مجدِّدة للدين. نسأله تعالى أن يوفقه للخير. آمين».

وقد دافع عن عدم إطلاق اللحية لدى البعض ساردا قصة سلطان العلماء من آباء جلال الدين الرومي ثم قال:

«ولبديع الزمان أيضا بمثل هذا اجتهادٌ بلا شك، فالمعترضون لا يملكون الحق..»

وأمر العالم مصطفى: اكتب ما قلته:

«أخصّ سلامي الكامل لبديع الزمان مع الاحترام والتوقير له. وأنا في دعاء مستمر لكم لتكملوا مؤلفاتكم. لا تتألموا من تعرضكم لانتقاد بعض علماء السوء، إذ «الأشجار المثمرة تُرشَق بالأحجار لنيل الثمار»، مثلٌ مشهور. استمروا في جهادكم. نسأله تعالى أن يوفقكم في مقصودكم عاجلا. وفي أمانة الله وحده وحفظه.

علي رضا

أمين الفتوى السابق

هكذا قضى عالم جليل ومدقق فاضل وصاحب الكلام في هذا الزمان من حيث الشريعة والقرآن الكريم. فعلى طلاب رسائل النور ألّا يبوحوا باسم ذلك العالم -أخذا بالحذر- وعدم الإعلان عنه، بل يضموه في أدعيتهم.

سلامنا إلى جميع الإخوة.

* * *

[أسس العمل مع المعترضين]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما..

لمّا كان أولياء الله الصالحون لا يمكنهم أن يعرفوا الغيب -إن لم يلهمهم الله سبحانه تعالى- حيث لا يعلم الغيب إلّا الله؛ فإن أعظم وليّ صالح لا يستطيع أن يَطَّلِعَ على حقيقةِ وواقع الحال عند ولي آخر، بل ربما يعاديه لعدم علمه بحقيقته، وما حدث فيما بين بعض العشرة المبشرين بالجنة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، خير دليل على هذا. وهو يعني أن وليين اثنين إذا ما أنكر أحدهما على الآخر، فإن ذلك لا يسقطهما من مقام الولاية ومنـزلتها، إلّا إذا كان هناك أمر يخالف ظاهر الشريعة مخالفة كلية.

فاتباعاً لدستور الآية الكريمة: ﴿وَالْكَاظِمينَ الْغَيْظَ وَالْعَافينَ عَنِ النَّاسِ (آل عمران:134)، وحفاظاً على إيمان المؤمنين من التصدع، وذلك بالمحافظة على حسن الظن القائم بينهم وبين شيوخهم أو رؤسائهم، وبناء على ما يلزم من إنقاذ الأركان من طلاب النور المخلصين من سَورة الغضب المضرة -مع كونها محقة- على اعتراضات باطلة، واجتناباً لما يستفيد منه أهل الإلحاد من هذه الخصومة بين طائفتين من أهل الحق بجرح الطائفة الأولى بسلاح الأخرى واعتراضاتها وتهوين شأن الثانية بدلائل الأولى ثم دحرهما معاً..

فعلى طلبة النور -حسب الأسس المذكورة-: ألّا يواجهوا المعارضين بالحدة والتهور، ولا يقابلوهم بالمِثل. بل عليهم أن يكتفوا بالدفاع عن أنفسهم فحسب، مع إظهار روح المصالحة، والإجابة بوضوح عن نقاط الاعتراض، حيث إن الأنانية في عصرنا هذا قد تطاولت واشرأبت بعنقها حتى أصبح كل شخص لا يريد أن يذيب أنانيته -التي هي كقطعة ثلج بطول قامته- ولا يرغب في تغييرها، بل يسوّغ لنفسه ويراها معذورة دائماً. وها هنا ينشأ النـزاع والخصومة ويكون موضع استفادة أهل الباطل والضلال على حساب أصحاب الحق وأهله.

إن حادثة الاعتراض في إسطنبول تومئ إلى أن بعض العلماء المعجبين بمشربهم والأنانيين من المتصوفة وبعض المرشدين وأهل الحق ممن لم يقتلوا نفوسهم الأمارة بالسوء ولم ينجوا من ورطة حب الجاه سيعترضون على رسائل النور وطلابها، حفاظاً على رواج مشربهم ومسلكهم، وتوجّه أتباعهم إليهم. بل هناك احتمال قوي أن تكون المقابلة شديدة.. فعند وقوع مثل هذه الحوادث، علينا بالتأني، وضبطِ النفس، والثبات، وعدم الولوج في العداء، وعدم التهوين من شأن رؤساء الطائفة المعارضة…

فلو افترض -فرضاً محالاً- أن اعتراضاً على رسائل النور ورد حتى من القطب الأعظم ومن مكة المكرمة، فإن طلاب رسائل النور يَثبتون ولا يتزعزعون، بل يتلقون اعتراضَ ذلك القطب الأعظم على صورةِ التفاتةٍ كريمة وتحية وسلام. ويحاولون كسب توجهه وتقبيلَ يده وإيضاحَ مدار الاعتراض على أستاذهم العظيم.

* * *

[مرض العصر]

نعم، يا إخوتي!

إنه في خضم التيارات الرهيبة والحوادث المزلزلة للحياة والعالم؛ ينبغي أن يكون الإنسان على ثبات وصلابة لاتُحد بحدود، وضبط للنفس لانهاية له، واســـتعداد دون حدود للتضحية.

إن تفضيلَ المؤمنين الحياة الدنيا على الآخرة مع إيمانهم بالآخرة ومعرفتها حق المعرفة، وترجيحَ قطع زجاجية تافهة على الألماس الثمين مع معرفة وعلم بها ورغبة فيها، وذلك بسيطرة دوافع الحس العمياء التي لا تبصر العقبى، وترجيح لذة آنية حاضرة على رطل من لذات صافية آجلة.. إن هذا مرض مخيف أصاب هذا العصر بل هو مصيبة من مصائبه، وبلية من بلاياه، وهو مضمون إشارة الآية الكريمة:

﴿يَسْتَحِبُّونَ الْحَيٰوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْاٰخِرَةِ (إبراهيم:3).

ومن جراء هذه المصيبة يقع المؤمنون الحقيقيون أحيانا في خطأ جسيم كموالاتهم أهل الضلالة. نسأله تعالى أن يجنّب أهل الإيمان وطلاب رسائل النور من شر هذه المصيبة. آمين.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[رزق طالب العلم]

لقد اقتنعت قناعة تامة بعد حوالي ألف من التجارب أنني في اليوم الذي أكون في خدمة رسائل النور أشعر بانكشاف وانبساطٍ وفرح وبركة في قلبي وفي بدني وفي دماغي وفي معيشتي حسب درجة تلك الخدمة. وقد شعرت من إخوتي الكثيرين -سواءً هنا أم هناك- بالحالة نفسها ومازلت أشعر بها. وكثيرون يعترفون قائلين: «إننا نشعر بها أيضاً». حتى إنني أعتقد -كما كتبته لكم في السنة الماضية- أن السر في عيشي الكفاف وما يقيم الأود قد كان من تلك البركة.

وقد روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: «أنا ضامنُ رزقِ طالب العلم الخالص؛ لأن في رزقه بركة وسعة».

ولما كانت هذه هي الحقيقة، وأن طلاب رسائل النور قد أظهروا الأهلية التامة لعنوان «طالب العلم» في هذا الزمان، فلا ينبغي التخلي عن خدمة رسائل النور تجاه هذا القحط والجوع المنتشر، مع إدراك أن أفضل علاج لهذا هو الشكر والقناعة والارتباط بصفة الطالب لرسائل النور، وعدمُ ترك الخدمة بحجة الضرورة لهاثاً وراء متطلبات العيش.

نعم، إن هموم العيش هذه قد أحاطت بالناس كلهم من كل جهة. وأهلُ الضلالة يستغلون هذا الوضع. ويجد أهل الدين أنفسهم معذورين قائلين: ماذا نعمل، إنها ضرورة. لذا فعلى طلاب رسائل النور مواجهةُ بلاء الجوع والضرورة برسائل النور أيضا. فوظيفة كل طالب ليس هو إنقاذَ إيمانه وحده بل هو مكلّف أيضا بالحفاظ على إيمان غيره، ولا يكون ذلك إلّا بالاستمرار الجاد في الخدمة.

لقد كتبنا لكم: لا تواجهوا المعارضين بالعداء. بل اتخِذوا طور الصداقة مع أهل التقوى وأهل العلم قدر المستطاع. وعليكم الأخذ بهذا: لا تُقحِموا في صفوفكم من يمكن أن يسبب ضررا برسائل النور ويمس صلابة طلابها، لأن أمثال هؤلاء إن لم ينضموا إلى الدائرة بنية خالصة ربما يورثون الفتور. وإن كانوا يحملون أنانية وحبا للذات يكسرون صلابة طلاب رسائل النور ويجلبون أنظارهم إلى خارج رسائل النور ويشتتون أفكارهم. يلزم في الوقت الحاضر اليقظة التامة والأخذ بالحذر…

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[معجزة معنوية]

إن رسائل النور ليست طريقة صوفية بل حقيقة، وهى نور مفاض من الآيات القرآنية ولم تُستقَ من علوم الشرق ولا من فنون الغرب، بل هي معجزة معنوية للقرآن الكريم خاص لهذا الزمان.

* * *

[تتبع أخبار الحرب]

جواب لسؤال ورد من قبل طلاب رسائل النور

سؤال: لقد سألناكم في السنة الماضية: ها قد مرت خمسون يوما ولم تلتفتوا إلى التيارات الجارية في العالم ولم تسألوا عنها، وقد أجبتم لنا في حينه. ولكن رغم أن ذلك الجواب كان حقيقة وكافيا، إلّا أنه كان من المفروض أن تنظروا إلى تلك التيارات ولو قليلا من زاوية انتشار رسائل النور والعمل لها وإفادة العالم الإسلامي. أفلا يدفعكم الفضول إلى الاهتمام بها والسؤال عنها من هذه الزاوية؟

الجواب: إن الإنسان الذي يخوض غمار هذه الحرب الطاحنة يمثل أصدق تمثيل الآية الكريمة ﴿كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب:72) لذا لا يجوز النظر إلى المظالم المحيّرة فضلا عن موالاة تلك التيارات وتتبع أخبارها والاستماع إلى دعاياتهم الكاذبة الخدّاعة ومشاهدة معاركها بأسىً وحزن. لأن الرضى بالظلم ظلم، وإذا ما مال إليه يكون ظالما. وإذا ما ركن إليه ينال زجر الآية الكريمة ﴿وَلَا تَرْكَنُٓوا اِلَى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ (هود:113).

نعم، لأن هذه الحرب المدمرة ليست لأجل إحقاق الحق وإرساء الحقيقة ولا لأجل إعلاء شأن الدين وإقرار العدالة، بل تستند إلى العناد والعصبية القومية والمصلحة النوعية وإشباع أنانية النفس، فتُرتكب مظالمُ شنيعة ومآسي أليمة لم يُر مثيلها في العالم.

والدليل على ذلك: إفناء الأبرياء من أطفال وعوائل وشيوخ ومرضى بالقنابل المدمرة بحجة وجود جندي أو اثنين من جنود الأعداء فيما بينهم.. واتفاق أعتى المستبدين من البرجوازيين مع الفوضويين والإرهابيين الذين هم المتطرفون من الاشتراكيين والشيوعيين وإهدار دماء ألوف بل ملايين من الأبرياء.. والاستمرار في هذه الحرب الضارة للإنسانية جمعاء.. وردّ الصلح والسلام.. لذا فإن الإسلام والقرآن الكريم بريئان بلا شك من مثل هذه الحروب المدمرة التي لا تنسجم مع أي قانون كان من قوانين العدالة ولا مع الإنسانية ولا مع أي دستور كان من دساتير الحقيقة وقوانين الحقوق. ولا يتنازلان ولا يتذللان لمعاونة أولئك؛ لأن فرعونية رهيبة ومصلحية عجيبة تستحوذان فيهم بحيث لا يمدّون يد العون إلى القرآن والإسلام، بل يحاولون جعلهما آلتين طيعتين في سبيل مآربهم. فلا شك أن أحقية القرآن تأبى الاستناد إلى سيوفِ ظالمين كهؤلاء. بل الفرض على أهل القرآن والواجب عليهم الاستناد إلى قدرة رب العالمين ورحمته بدلا من الاستناد إلى قوة عُجنت بدماء ملايين الأبرياء.

ولما كان الإلحاد يسحق أهل الدين مستندا إلى إحدى القوتين المتصارعتين وأن الانحياز إلى التيار المخالف للزندقة يبدو كوسيلة للنجاة من جَورهم، إلّا أن التجارب أثبتت أن ذلك الانحياز -في الوقت الحاضر- يولد أضرارا كثيرة دون أن يجدي نفعا.

ثم إن الزندقة تدور -بسبب النفاق- حيث دارت مصلحتُها، إلى أي جهة كانت. وتجعل صديقَك حليفها وتدفعه إلى معاداتك. فتبقي الآثام التي اكتسبتَها من الانحياز ثقيلة في عنقك.

وحيث إن وظيفة طلاب رسائل النور هي الإيمان، لا تهمهم الأمور الجارية في الحياة ولا يدفعهم الفضول إلى النظر إليها بلهفة.

وبناء على هذه الحقيقة: فليَ الحق ألّا أنظـر إليها طوال ثلاث عشرة سنة وليس ثلاثة عشر شهرا فحسب. فلقد نظرتم أنتم إليها فماذا كسبتم غير الآثام؟ وماذا فقدتُ أنا ولم
أنظر إليها؟

السؤال الثاني:

ما السبب و ما وجه التخصيص لطلاب رسائل النور الخواص، أنهم ضمن الطائفة المعرّفة بالآية الكريمة ﴿الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ في سورة الفاتحة، وضمن الطائفة المجاهدة في آخر الزمان المعرّفة في الحديث الشريف «لا تزال طائفة من أمتي» وأنهم فرد من أفراد المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿اِلَّا الَّذينَ اٰمَنُوا..الخ، من سورة العصر.؟

الجواب: السبب هو أن رسائل النور قد كشفت وحلّت ما يقرب من مائةٍ من طلاسم الدين وأسراره ومُعَمَّيَاتِ الحقائق القرآنية. بحيث إن الجهل بطلسم وسرّ يوقع الكثيرين في الشبهات والشكوك ولا ينجون من الريوب. بل قد يفقدون إيمانَهم، أما الآن وبعد فكّ تلك الأسرار وحلّ تلك المغاليق لا يجرؤ الملحدون على الظهور والغلَبة ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وقد أشرنا إلى قسم منها في المكتوب الثامن والعشرين (العنايات السبع). وستُجمع تلك الطلاسم بإذن الله في مجموعة مستقلة.

* * *

رسائل متفرقة (7)

[حقيقة تقطع دابر الاعتراضات]

إخوتي الأعزاء الأوفياء طلاب رسائل النور!

لقد اضطررت إلى بيان حقيقة تقطع دابر الاعتراضات التي تضر بالضعفاء من طلاب رسائل النور بمثل اعتراض الشيخ الذي لا يخطر على بال.

أكرر مرة أخرى ما قلته لأحدهم: إنه لمن الأسف والعجب والحيرة أن يضيّع أهلُ الحقيقة القوةَ الخارقة في الاتفاق، فيُغلَبون على أمرهم، بينما يتفق أهلُ النفاق والضلالة -رغم اختلاف مشاربهم- للحصول على قوة ذات أهمية في الاتفاق. ومع أنهم لا يتجاوزون عشرة بالمائة إلاّ أنهم يغلِبون التسعين بالمائة من أهل الحقيقة.

وإن أكثر ما يثير العجب ويزيد الحيرة هو أننا بينما كنا ننتظر العون الكبير والحث العظيم منهم -وهم المكلفون بهذه المعاونة إسلاميا ومسلكا وأداءً للواجب الديني- نجدهم لا يمدون يدَ المعاونة إلينا، بل بدأ الشيخ بالاعتراض بناء على فهم خطأ بما يورث الفتور لدى طلاب رسائل النور مستندا إلى أهمية موقعه الاجتماعي. فاعترض على إيضاحات تخص حقيقة.

إنني لا أعرف أية مسألة قد اعتُرض عليها ولأية آية كريمة تخص. ولعلها تخصّ مسألة من رسالة الإشارات القرآنية المسماة بـ«الشعاع الأول» الذي اتخذناه رسالة خاصة جدا وسرية.

فأخوكم هذا العاجز يبين لذلك الصديق الفاضل القديم ولأهل العلم ولكم كذلك ما يأتي: إن سعيدا الجديد -بفيض القرآن المبين- يذكر من البراهين المنطقية والحقيقية الكثيرة التي تخص الحقائق الإيمانية بحيث لا يلجئ علماءَ الإسلام إلى التسليم وحدَهم بل حتى أعتى فلاسفة أوروبا العنيدين أيضا.

إنه من شأن القرآن الكريم وإعجازه العظيم ومن مقتضى البلاغة المعجزة للسان الغيب، أن تَرِد فيه رموزٌ وإيماءات لجلب الأنظار إلى رسائل النور -التي هي معجزته المعنوية في هذا الزمان- بمثل إخبارات الإمام علي رضي الله عنه والشيخ الكيلاني (قدس سرّه) الواردة بِطَرزٍ إشاريّ ورمزيّ حول أهمية رسائل النور وقيمتها.

نعم، ففي سجن «أسكي شهر» وفي وقت رهيب حيث كنا أحوج ما نكون إلى سلوان قدسي خطر على القلب ما يأتي: إنك تبين شهوداً من كلام الأولياء السابقين على أحقية رسائل النور وقبولها بينما بمضمون الآية الكريمة: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ﴾ (الأنعام:59). فإن صاحب الكلام في هذه المسألة هو القرآن الكريم. فهل يَقبل القرآن الكريم ويرضى بـرسائل النور؟ وكيف ينظر إليها؟

واجهتُ هذا السؤال العجيب، واستمددت من القرآن الكريم، وإذا بي أشعر في ظرفِ ساعةٍ أن رسائل النور فردٌ داخل ضمنِ كليّةِ المعنى الإشاري الذي يمثل طبقة واحدة من طبقات التفرعات للمعنى الصريح لثلاث وثلاثين آية كريمة، وعرفتُ قرينة قوية على دخولها في ذلك المعنى وتخصيصها، فشاهدتُ قسماً منها بشيء من الوضوح وقسماً آخر مجملاً. فلم تبق في قناعتي أيّة شبهة وشك ووهم ووسوسة. وأنا بدوري دوّنتُ قناعتي القاطعة تلك وأعطيتها إخوتى الخواص على شرط سرّيّتها بنية الحفاظ على إيمان أهل الإيمان برسائل النور. فنحن لا نقول في تلك الرسالة: إن المعنى الصريح للآية الكريمة هو هذا، حتى يقول العلماء: فيه نظر! ولم نقل فيها: إن كلية المعنى الإشاري هي هذه. بل نقول: إن تحت المعنى الصريح للآية الكريمة طبقاتٍ متعددة من المعاني، إحدى هذه الطبقات هي المعنى الإشاري والرمزي. فهذا المعنى الإشاري أيضاً هو كليّ له جزئيات في كل عصر. فـرسائل النور فردٌ في هذا العصر من أفرادِ كليةِ طبقة المعنى الإشاري ذاك. وقد جرى بين العلماء منذ القدم دستور حساب الجُمّل والجفر -حساب الأبجدية- لإيجاد القرائن والحجج، فهذا الطرز من الحساب لا يخدش الآية الكريمة ولا يجرح معناها الصريح، بل قد يكون وسيلة لبيان إعجاز القرآن وعظمة بلاغته. فلا اعتراض على هذه الإشارات الغيبية، إذ الذي لا يستطيع إنكار ما لا يعد ولا يحصى من استخراجات أهل الحقيقة من الإشارات القرآنية التي لا تحصى، لا ينبغي له أن ينكر هذا بل لا يمكنه ذلك.

أما استغراب ذلك المعترض واستبعاده ظهورَ مثل هذا السفر النفيس -رسائل النور- من رجل اعتيادي غير ذي بال، فإنه إذا ما فكّر بالدليل على عظمة القدرة الإلهية التي تخلق شجرةً ضخمة من بُذيرة الصنوبر. فلاشك أنه يضطر إلى قبول ظهور مثل هذا الأثر، ممن هو في العجز المطلق والفقر المطلق وفي ظرف الحاجة الشديدة مثل هذا الوقت دليلا على الرحمة الإلهية الواسعة.

إني أُطَمئنكم وأُطمئن المعترضين -بالشرف الرفيع لرسائل النور- أن هذه الإشارات وإخبارات ورموز الأولياء ذات الإيماءات قد ساقتني دائما إلى الشكر والحمد لله وإلى الاستغفار من ذنوبي. ولم يحصل أنْ أورثتْ ما يمكن أن يكون مدار فخر وغرور وأنانية للنفس الأمارة بالسوء في أي وقت كان. ولا في أية دقيقة كانت. وأثبتُّ ذلك بترشحات حياتي الماثلة أمامكم منذ عشرين سنة.

وفضلا عن هذه الحقيقة فإن الإنسان لا يخلو من القصور والنسيان والسهو، فلي ذنوبٌ كثيرة أجهلها. وربما قد تَدَخَّل فكري وأوجد أخطاءً في الرسائل.

ولكن هذا المعترض لا يبالي بتغير الحروف القرآنية المقدسة إلى حروف أخرى ناقصة، وقيامهم بوضع ترجمة بشرية ناقصة للقرآن الكريم ومحرّفة ومملوءة بالتأويلات الفاسدة لأهل الضلالة والتي خدشت معاني الآيات الصريحة للقرآن… لا يبالي بهذا ولكنه يركّز نظرَه على شخص ضعيف مظلوم بيّنَ نكتةً إعجازية ليقوّي بها إيمانَ إخوته، فيعترضُ عليه بما يورث الفتور لخدمة الإيمان. علما أن نقطة اعتراضه لا يمكن أن يَعترض عليها من كان يملك ذرة من الإنصاف.

وإنه لمن دواعي حيرتي وعجَبي أنّ ذلك المعترض الفاضل هو تلميذُ أستاذٍ من أساتذتي القديرين في السلسلة العلمية وهو «الشيخ فهيم». وهو أحد طلاب الإمام الرباني رضي الله عنه الذي أرتبطُ به أشد ارتباط، فكان عليه أن يسعى أكثر من غيره لمعاونتي بكل ما لديه من قوة، دون الالتفات إلى ذنوبي وحياتي الماضية المتداخلة المضطربة وإلى انفعالاتي، إلّا أن اعتراضه مع الأسف قد أورث -كما سمعنا- الفتورَ لدى بعض أصدقائنا الضعفاء، وسلّم بيد أهل الضلالة ما يشبه الحجة.

إننا ننتظر من ذلك الشيخ الفاضل تلافيَ سوء الفهم هذا والسعيَ لتعميره، ونأمل معاونته لنا بدعواته ونصائحه البليغة المؤثرة. علاوة على ذلك أُبين ما يأتي:

في هذا الوقت الذي يبدو في الظاهر انحسارُ وتقهقر تلك المشارب والمسالك الحقة القوية جدا -والتي ينضوي تحت لوائها الملايينُ من المؤمنين المستعدين لكل تضحية- أمام الهجوم العنيف لهذه الضلالة. تحمّلتْ رسالة النور جميع تلك الهجمات، وحملت على عاتقها الأعباءَ كافة فشقّت طريقَها سابقةً الجميعَ في طريق الإيمان. لذا، لا يمكن أن تُسنَد هذه الرسائلُ إلى رجل عاجز نصف أمّي قضى حياته بين المنفى والسجن وتحت رقابة سلطات الدولة، وقيامُها بتنفير الناس من حوله بالدعايات المغرضة. فمثل هذا الرجل لا يمكن أن يكون مالكا لها. ولا يمكن أن يفتخر بها أو يدّعيها، فهي ليست نابعةً من ذكائه ومهارته، بل هي معجزةٌ من معجزات القرآن الكريم لهذا الزمن وهبَتها الرحمةُ الإلهية. وكل ما في الأمر أن هذا الرجل وآلافا من أصدقائه قد مدّوا أيديهم إلى تلك الهدية الغالية النفيسة، فوقع الخيار عليه في بيانها.

والدليل على أن الرسائل ليست من بنات أفكاره أن هناك من الرسائل ما قد كُتبت في ست ساعات وأخرى في ساعتين، وبعضها في ساعة واحدة وأخرى في عشر دقائق.

فأنا أقسم أنه لو كان لي حدّة ذكاء سعيد القديم وقوة حافظته لَمَا تمكنتُ أن أكتب في عشر ساعات ما كُتب آنذاك في عشر دقائق ولا يمكنني أن أكتب في يومين ما كُتب في ساعة.

فالرسالة التي تبحث في ماهية «أنا» (الذات الإنسانية) والتي كُتبت في ست ساعات لا يمكن أن تُكتب لا من قِبَلي ولا من قبل الفلاسفة والعباقرة الباحثين، في ستة أيام. وهكذا.

فنحن إذن مع أننا مفلسون ليس لنا شيء. إلّا أننا أصبحنا خدّاما ودلالين في معرض أغلى المجوهرات.

نسأل المولى الكريم أن يوفقنا وجميع طلاب رسائل النور -بفضله وكرمه- في هذه الخدمة بإخلاص تام. آمين.

* * *

بيان موجز لإعجاز القرآن([1])

رأيت في الماضي فيما يرى النائم: أنني تحت جبل «آرارات». انفلق الجبل على حين غرة، وقذف صخورا بضخامة الجبال إلى أنحاء العالم، فهزّ العالم وتزلزل.

وفجأةً وقف بجنبي رجل، قال لي: بيِّن بإيجازٍ ما تعرفه مجملا من أنواع الإعجاز.. إعجازِ القرآن.

فكرتُ في تعبير الرؤيا، وأنا ما زلت فيها وقلت:

إن ما حدث هنا من انفلاق مثالٌ لما يحدث في البشرية من انقلاب، وسيكون هدى القرآن بلا ريب عاليا ومهيمنا في هذا الانقلاب. وسيأتي يوم يبين فيه إعجازه.

أجبتُ ذلك السائل قائلا: إن إعجاز القرآن يتجلى من سبعة منابع كلية، ويتركب من سبعة عناصر.

المنبع الأول: سلاسة لسانه من فصاحة اللفظ؛ إذ تنشأ بارقة بيانه من جزالة النظم، وبلاغة المعنى، وبداعة المفاهيم، وبراعة المضامين، وغرابة الأساليب. فيتولد نقش بياني عجيب، وصنعة لسان بديع، من امتزاج كل هذه في نوع إعجاز لا يملّ الإنسان من تكراره أبدا.

أما العنصر الثاني: فهو الإخبار السماوي عن الغيوب في الحقائق الغيبية الكونية والأسرار الغيبية للحقائق الإلهية. فمن أمور الغيب المنطوية في الماضي، ومن الأحوال المستترة الباقية في المستقبل تنشأ خزينة علم الغيوب. فهو لسان عالم الغيوب يتكلم مع عالم الشهادة في أركان «الإيمان» يبينها بالرموز، والهدف هو نوع الإنسان، وما هذا إلّا نوع من لمعة نورانية للإعجاز.

أما المنبع الثالث فهو: أنَّ للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده.

لفظه: يتضمن احتمالات واسعة ووجوها كثيرة بحيث إن كل وجهٍ تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسر التشريع.

في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء وأذواق العارفين ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها. ففي دلالاته شمولٌ وفي معناه سعة.

فما أوسع هذا الميدان إن أطللت من هذه النافذة!.

الاستيعاب في الأحكام: هذه الشريعة الغراء قد اُستنبطتْ منه، إذ قد تضمن طرازُ بيانه جميعَ دساتير سعادة الدارين، ودواعي الأمن والاطمئنان، وروابطِ الحياة الاجتماعية، ووسائل التربية، وحقائق الأحوال.

استغراق علمه: لقد ضم ضمن سُورِ سُوَرِه العلومَ الكونية والعلوم الإلهية، مراتبَ ودلالاتٍ ورموزا وإشارات.

في المقاصد والغايات: لقد راعى الرعايةَ التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، فحافظ على الميزان.

وهكذا الجامعية الباهرة في إحاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الأحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات.

أما العنصر الرابع: فإفاضته النورانيةَ حسب درجة فهمِ كلِّ عصر، ومستوى أدب كل طبقة من طبقاته وعلى وفق استعدادها ورتب قابليتها.

فبابُه مفتوح لكل عصر ولكل طبقة من طبقاته، حتى كأن ذلك الكلام الرحماني ينـزل في كل مكان في كل حين.

فكلما شاب الزمان شبّ القرآنُ وتوضحت رموزه، فذلك الخطيب الإلهي يمزق ستار الطبيعة وحجاب الأسباب فيفجّر نورَ التوحيد من كل آية، في كل وقت. رافعا راية الشهادة شهادة التوحيد على الغيب.

إن علو خطابه يلفت نظر الإنسان ويدعوه إلى التدبّر؛ إذ هو لسان الغيب يتكلم بالذات مع عالم الشهادة.

يُخلَص من هذا العنصر: أن شبابيته الخارقة شاملة محيطة، وأنسيته جعلته محبوب الإنس والجان، وذلك بالتنـزلات الإلهية إلى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنـزيل.

أما المنبع الخامس: فنُقولُه وأخبارُه في أسلوب بديع غزير المعاني، فينقل النقاط الأساس للأخبار الصادقة كالشاهد الحاضر لها. ينقل هكذا لينبّه بها البشر.

ومنقولاته هي الآتية: أخبار الأولين وأحوال الآخرين وأسرار الجنة والجحيم، حقائق عالم الغيب، وأسرار عالم الشهادة، والأسرار الإلهية والروابط الكونية. تلك الأخبار المشاهَدة شهود عيان حتى انه لا يردّها الواقع ولا يكذّبها المنطق بل لا يستطيع ردّها أبدا ولو لم يدركها.

فهو مَطمَح العالم في الكتب السماوية، إذ يَنقل الأخبار عنها مصدّقا بها في مظان الاتفاق، ويبحث فيها مصححا لها في مواضع الاختلاف.

ألا إنه لمعجزة هذا الزمان أن يصدر مثل هذه الأمور النقلية من «أميّ»!

أما العنصر السادس: فهو أنه مؤسس دين الإسلام ومتضمنه. ولن تجد مثل الإسلام إن تحريت الزمان والمكان، لا في الماضي ولا في المستقبل. إنه حبل الله المتين، يمسك الأرض لئلا تفلت، ويديرها دورانا سنويا ويوميا. فلقد وَضع وَقارَه وثقله على الأرض، وساسها وقادها وحال بينها وبين النفور والعصيان.

أما المنبع السابع: فإن الأنوار الستة المفاضة من هذه المنابع الستة يمتزج بعضها مع بعض، فيَصدر شعاعُ حُسنٍ فائق، ويتولد حدس ذهني، وهو الوسيلة النورانية.

والذي يصدر عن هذا: ذوق، يُدرَك به الإعجاز.

لساننا يعجز عن التعبير عنه، والفكر يقصر دونه.

فتلك النجوم السماوية تُشاهَد ولا تُستمسك.

طوال ثلاثة عشر قرنا من الزمان يحمل أعداءُ القرآن روح التحدي والمعارضة..

وتولدت في أوليائه وأحبائه.. روحُ التقليد والشوق إليه.

وهذا هو بذاته برهان للإعجاز، إذ كُتبت من جراء هاتين الرغبتين الشديدتين ملايينُ الكتب بالعربية، فلو قورنتْ تلك الملايينُ من الكتب مع القرآن الكريم، لقال كلُّ من يشاهد ويسمع، حتى أكثرُ الناس عامية، دونك الذكي الحكيم:

إنَّ هذه الكتب بشرية.. وهذا القرآن سماوي.

وسيحكم حتما:

إنَّ هذه الكتب كلها لا تشبه هذا القرآن ولا تبلغ شأوه قطعا.

لذا فإما أنه أدنى من الكل. وهذا معلوم البطلان وظاهر بالبداهة.

إذن فهو فوق الكل.

ولقد فتح أبوابه على مصراعيه للبشر ونشر مضامينه أمامهم طوال هذه المدة الطويلة. ودعا لنفسه الأرواح والأذهان.

ومع هذا لم يستطع البشرُ معارضتَه، ولا يمكنهم ذلك. فلقد انتهى زمن الامتحان.

إن القرآن لا يقاس بسائر الكتب ولا يشبهها قطعا.

إذ نـزل في عشرين سنة ونيف نجما نجما -لحكمة ربانية- لمواقع الحاجات نـزولا متفرقا متقطعا. ولأسبابِ نـزول مختلفة متباينة، وجوابا لأسئلة مكررة متفاوتة، وبيانا لحادثات أحكام متعددة متغايرة، وفي أزمانِ نـزولٍ مختلفة متفارقة، وفي حالاتِ تَلَقٍّ متنوعة متخالفة، ولأفهامِ مخاطبين متعددة متباعدة، ولغايات إرشاداتٍ متدرجة متفاوتة.

وعلى الرغم من هذه الأسس فقد أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني.

وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر: لأنك إذا سمعت كلاما من أحدٍ فإنك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه؛ فالأسلوب مرآة الإنسان.

أيها السائل المثالي!

لقد أردت الإيجاز، وها قد أشرتُ إليه.

وإن شئت التفصيل، فذلك فوق حدّي وطوقي. أتَقدِرُ الذبابة على مشاهدة السماوات؟

وقد بيّن كتاب «إشارات الإعجاز» واحدا من أربعين نوعا من ذلك الإعجاز، ولم تفِ مائةُ صفحة من تفسير لبيانِ نوع واحد.

بل أنا الذي أريد منك التفصيل، فقد تفضّل المولى عليك بفيضٍ من إلهامات روحية.

لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الأهواء والنـزوات والدهاء

شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء.

إذ الحالة التي ترضى الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتُطَمئنهم، لا تَسرّ أصحابَ الأهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة، ولا تسلّيهم. فبناءً على هذه الحكمة؛

فإن ذوقا سفيها سافلا، تَرعرَع في حمأة الشهوة والنفسانية، لا يستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلا.

فالأدب الحاضر؛ المترشح من أدبِ أوروبا، عاجز عن رؤيةِ ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع أن يجعل معياره محكّا له.

والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون أن يحيد عنها:

ميدان الحماسة والشهامة..

ميدان الحسن والعشق..

ميدان تصوير الحقيقة والواقع..

فالأدب الأجنبي:

في ميدان الحماسة؛

لا ينشد الحق، بل يلقّن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده جَور الظالمين وطغيانهم.

وفي ميدان الحسن والعشق؛

لا يعرف العشقَ الحقيقي، بل يغرز ذوقا شهويا عارما في النفوس.

وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع؛

لا ينظر إلى الكائنات على أنها صنعة إلهية، ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها.. لذا يكون تلقينه عشقَ الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكِّن حبَّها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منه بسهولة.

ثم إن ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئا عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضا، ولربما يهدئها وينوّمها.

وفي حسبانه أنه قد وجد حلا، وكأن العلاج الوحيد هو رواياته. وهي:

في كتابٍ.. ذلك الحي الميت.

وفي سينما.. وهي أموات متحركة.

وفي مسرح.. الذي تُبعث فيه الأشباح وتُخرج سراعا من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!

هذه هي أنواعُ رواياته.

وأنّى للميت أن يهب الحياة!..

وبلا خجل ولا حياء!.. وَضَعَ الأدب الأجنبي لسانا كاذبا في فم البشر.. وركّب عينا فاسقة في وجه الإنسان.. وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة.

فمن أين سيعرف هذا الأدبُ؛ الحُسنَ المجرد.

حتى لو أراد أن يُري القارئ الشمسَ؛ فإنه يذّكره بممثلة شقراء حسناء.

وهو في الظاهر يقول: «السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالإنسان»..

ثم يبين نتائجها المضرة..

إلاّ أنه يصورها تصويرا مثيرا إلى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، إذ يضرم في الشهوات، ويهيج النـزوات. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشيء.

أما أدب القرآن الكريم:

فإنه لا يحرك ساكن الهوى ولا يثيره، بل يمنح الإنسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق إلى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبدا.

فهو لا ينظر إلى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعةً إلهية، صبغة رحمانية، دون أن يحيّر العقول.

فيلقّن نور معرفة الصانع..

ويبين آياته في كل شيء..

والأدبان.. كلاهما يورثان حزنا مؤثرا. إلّا أنهما لا يتشابهان.

فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب، وفقدان المالك. ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ؛ إذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملؤه بالآلام والهموم حتى يغدو العالَم مليئا بالأحزان، ويلقي الإنسان وسط أجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولا مالك! فيظل في مأتمه الدائم.. وهكذا تنطفئ أمامه الآمال. فهذا الشعور المليء بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الإنسان، فيسوقه إلى الضلال وإلى الإلحاد وإلى إنكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة إلى الصواب، بل قد لا يعود أصلا.

أما أدب القرآن الكريم: فإنه يمنح حزنا ساميا علويا، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم… ينظر إلى الكائنات؛ على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة بدلا من طبيعة عمياء. بل لا يذكرها أصلا، وإنما يبين القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلا من قوة عمياء.

فلا تلبس الكائناتُ صورةَ مأتم موحش، بل تتحول -أمام ناظريه- إلى جماعة متحابّة، إذ في كل زاوية تجاوب. وفي كل جانب تحابب. وفي كل ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق.

هذا هو شأن الحزن العاشقي.

وسط هذا المجلس يستلهم الإنسان شعورا ساميا، لا حزنا يضيق منه الصدر.

الأدبان.. كلاهما يعطيان شوقا وفرحا.

فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون أن يمنح الروح شيئا من الفرح والسرور.

بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به إلى المعالي.

وبناءً على هذا السر: فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو وما يُلهي.. فحرّمت بعض آلات اللهو، وأباحت أخرى.

بمعنى: أن الآلة التي تؤثر تأثيرا حزينا حزنا قرآنيا وشوقا تنزيليا، لا تضر. بينما إن أثرت في الإنسان تأثيرا يتيميا وهيّجت شوقا نفسانيا شهويا. تحرم الآلة.

تتبدل حسب الأشخاص هذه الحالة..

والناس ليسوا سواء

* * *

[الكسب المعنوي الجماعي]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن الدليل القاطع على أن كل طالب صادق لرسائل النور سيكسب ذلك الكسب الخارق النابع من سرّ ليلة القدر، والتي يَكسب فيها المرء ثلاثا وثمانين سنة من عمر معنوي، ومن سر الإخلاص والتساند والاشتراك في الأعمال الأخروية الجارية بين طلاب رسائل النور، هو الاحتمال القوي أن لا يكسب ذلك الكسبَ الخارق واحدٌ أو اثنان أو عشرة أو عشرون، بل مئات ضمن دائرة النور التي تضم أربعين ألفا بل مائة ألف من المؤمنين الحقيقيين الخالصين. فبسرّ الإخلاص وبدستور الاشتراك في الأعمال الأخروية نتوجه نحن وأنتم كذلك إلى هذه الحقيقة -حقيقة ليلة القدر- فنفترض أنفسنا ضمن جميع الإخوة وكل منّا يتكلم باسم الجميع في هذا الشهر المبارك، فنقول بصيغة الجمع: أجرنا، ارحمنا، واغفر لنا، ووفقنا، واهدنا، واجعل ليلة القدر في هذا الشهر شهر رمضان خيرا في حقنا من ألف شهر. وننوي في كل دعاء ضمن «نا» (ضمير الجمع) جميعَ إخواننا. وعليكم معاونة أخيكم هذا الضعيف بالذات في وظيفته المرهقة بتلك النية الخاصة.

* * *


[1] ملاحظة المترجم:

 وضع الأستاذ النُّورْسِيّ ضمن ملحق قسطموني ثلاث قطع من رسالة «اللوامع» وهي: «كل الآلام في الضلالة»، و«بيان موجز لإعجاز القرآن»، و«برهانان عظيمان للتوحيد» وذلك حسب قاعدته المذكورة في خاتمة رسالةِ «قطرة من بحر = التوحيد» من المثنوي العربي النوري، حيث يقول:

 «لأني أرى القرآن منبع كل الفيوض، وما في آثاري من محاسن الحقائق ما هو إلّا من فيض القرآن، فلهذا لا يرضى قلبي أن يخلو أثر من آثاري من ذكر نُبَذٍ من مزايا إعجاز القرآن».

 ولما كانت رسالة «اللوامع» قد نُشرت ملحقة بمجموعة «الكلمات» نكتفي هنا بإدراج إحدى تلك القطع الثلاث وهي: «بيان موجز لإعجاز القرآن». ومن شاء فليراجع القطعتين الأخريين في «اللوامع».

رسائل متفرقة (6)

 [لِمَ ينظرون إليك كأنك سياسي؟]

جواب لسؤال طرحه طلاب النور الذين يلازمون «الأستاذ» ويعاونونه في شؤونه.

سؤال: نحن نقوم بمعاونتكم في شؤونكم منذ مدة طويلة، فلم نر منكم اهتماما بالدنيا وتوجها إلى الحياة الاجتماعية والسياسة. فشغلكم الشاغل دروس الإيمان والآخرة. ولقد أدركنا أنكم على هذا الوضع منذ ثماني عشرة سنة خلت. فلماذا إذن ساقوكم إلى المحكمة وأثاروا الناس في إسبارطة دون داعٍ. ولم يجدوا في مائةٍ من رفقائكم أية علاقة تمس الدنيا والسياسة إلّا حجة واهية تُخجلهم وتخجل محكمتهم إلى الأبد -بعد تحقيقات دامت أربعة أشهر- فحكموا على بضعة أشخاص بين المائة ببضعة أشهر. ثم إنكم لستّ سنوات وأكثر تحت مراقبة المخفر وأمام نظره فجميع أحوالكم ظاهرة دائما أمام المخفر من شبابيك غرفتكم. وإلى ما قبل شهرين أو ثلاث يترصدونكم سرا وعلنا وتحرّوا غرفتكم عدة مرات، لينفّروا عنكم الأصدقاء. فلماذا ينظرون إليكم نظرَ سياسي قدير مثير للقلاقل؟ فنحن حائرون من هذه الحالة فضلا عن تألمنا منها، ولم تتيسر زيارتكم بحرّية إلا منذ شهور فقط. حيث كنا سابقا نأتي خفية وبخوف. نرجو إيضاح هذه المسألة.

الجواب: وأنا في حيرة وعجب مثلكم بل أكثر منكم. فالجواب الواضح لسؤالكم هذا موجود في «اللمعة السابعة والعشرين» وهي لمعة الدفاع أمام المحكمة، وفي «المكتوب السادس عشر».

والآن أُبين باختصار أساسين اثنين:

الأساس الأول: إن من مقتضى وظيفة المسؤولين عن النظام والإدارة وشرطة الأمن، حفاظ مسلكنا والحث عليه، ناهيك عن الوقوع في الشكوك والريوب والأوهام، لأن الحجر الأساس لوظيفتهم الاحترام والرحمة ومعرفة الحلال والحرام. ويمكن أن يسود الأمن والنظام في الحياة الاجتماعية بدساتير الطاعة والانقياد. فرسائل النور تحقق هذه الأسس لدى نظرها إلى الحياة الاجتماعية، وقد ظهرت نتيجتُها فعلا. وحيث إن أهم مركزين لرسائل النور هما إسبارطة وقسطموني، فإن ضباط الأمن إذا ما دققوا بإنصاف سيرون معاونة رسائل النور الواضحة لهم، وذلك قياسا بسائر الولايات.

ثم إنه رغم كثرة طلاب رسائل النور، ورغم ما في أيديهم إلى هذا الحد من القوة والحق، لم يمسّوا الأمن والنظام بشيء، بل لم يخلّ ألف طالب منهم بالحياة الاجتماعية بقدر ما يخل به عشرة أشخاص آخرين. وإن هذا الأمر مشاهد لمن كان له قلب غير فاسد.

إن حكمة هذه المسألة هي أن الإيمان والشريعة والحياة ثلاث مسائل عظيمة في العالم الإسلامي والإنساني. وأعظم هذه الثلاثة هي الحقائق الإيمانية. ولأجل ألّا تكون هذه الحقائق الإيمانية القرآنية أداة لتيارات أخرى ولقوىً أخرى، وللحيلولة دون التهوين من شأن الحقائق القرآنية التي هي بقيمة الألماس إلى قيمة قطع زجاجية متكسرة، ولأجل الإيفاء بالخدمة المقدسة التي هي إنقاذ الإيمان إيفاءً تاما ينفر طلاب رسائل النور الخواص الصادقون نفورا شديدا من السياسة.

حتى إن أخاكم هذا -وأنتم تعلمون- ومنذ ثمانية عشر عاما لم أُراجع الحكومة ولو لمرة واحدة وذلك لئلا أمسّ السياسة والحياة الاجتماعية رغم حاجتي إليها. وهذه الشهور التسعة التي خلَت لم أسأل ولو لمرة واحدة عمّا يدور على الكرة الأرضية من اضطرابات وقلاقل ولم أهتم بها ولم أرغب في معرفتها ولم أحاول أن أدير البحث حولها. حتى إنني لم أعرف لحد الآن هل انتهت الحرب أم لا ومن هم المحاربون عدا الإنكليز والألمان؟ وأنتم أعلم بهذا.

وأنتم المرافقون لي تعلمون كذلك، أنني لم أستمع إلى الراديو الذي يُسمَع من غرفتي منذ ثلاث سنوات -عدا مرتين- ذلك الجهاز الذي حوّل الناس إلى ثرثارين وحائرين غافلين، ولم أسأل عنه. فالذين يتعرضون لمسلك هذا الرجل الذي لا علاقة له بهذه الأوضاع إلى هذه الدرجة ولا ينظر إليها قطعا، ومن ثم تساورهم الشكوك حوله ويترصدونه ويضايقونه، كم هم بعيدون عن الإنصاف! يصدّق ذلك حتى أبعدهم عن الإنصاف.

المسألة الثانية:

إخواني! تعلمون أننا نهرب -في مسلكنا- من الأنانية والغرور وحب الذات والتطلع إلى نيل المقامات المتسترة بالشهرة، نهرب منها هروبنا من السم القاتل، ونتجنب كثيرا من كل ما يشعر بتلك الحالات.

فعلى سبيل المثال: لقد شاهدتم هنا بأم أعينكم طوال سبع سنوات وأدركتم بتحقيقاتكم وتتبعاتكم منذ عشرين سنة؛ أنني لا أريد إحراز احترام ونيل مقام لشخصي. ولقد نهرتُكم عن ذلك بشدة، وأستاء منكم إن منحتموني منـزلةً تفوق حدّي. فلا أقبل إلّا صفة طالب لرسائل النور -التي هي معجزة معنوية للقرآن الحكيم في هذا الوقت- مرتبطٍ بها ارتباط تسليم لها وتصديق بها. والحمد لله والشكر له.

لذا فحتى البلهاءُ يدركون كم هو تافه ولا يعنى شيئا مساورةُ الشكوك والريوب أذهانَ أهل الحكومة والإدارة وأفراد الأمن، تجاه الذين اجتنبوا -إلى هذا الحد- الأنانيةَ والغرور والرياء المتستر تحت الصيت والشهرة وجعلوا هذا التجنب دستورا لحياتهم.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[انتصار رسائل النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء الثابتين!

إن انتصار المبتلين انتصارا معنويا ببراءتهم في المحكمة، لم يُدخل السرور والفرح في قلوبنا نحن وحدنا، بل أبهج أيضا جميعَ أهل الإيمان في البلاد، لأن هذه البراءة فتحت المجالَ لإطلاق نشر رسائل النور. فلقد اضطررنا إلى اتخاذ الحيطة والحذر لحد الآن، وذلك خشية المصادرة. فكنت أعاني من الصعوبات الجمّة في إخفاء الرسائل في غضون السنوات الثماني عشرة التي مرت ولاسيما في هذه السنوات الست هنا. وكنا نعاني جميعا من القلق والاضطراب على الرسائل.

فشكرا لله تعالى وحمدا وثناءً له بعدد حروف رسائل النور. فإن ظهورها المعنوي وتغلّبها في هذه المرة وهتكها لأستار الظلم والظلمات هيأ الأوساط لفتوحات واسعة وأجر عظيم بتعب قليل. فلقد أصبح هذان الشهران لفترة التوقف وسيلةً لانتشار رسائل النور بطراز آخر في أوسع محيط كما حدث في السجن.

نهنئكم يا إخوتي ولاسيما المبتَلين وبخاصة «الحافظ محمد» ونقول لهم: حمدا لله على السلامة. إن المحكمة التي زجت مائة من الأشخاص في الحبس ولمائة يوم لأجل رسالة واحدة وهي رسالة «الحجاب» لم تستطع أن تزج في السجن شخصا واحدا ليوم واحد ومعه مئات من الرسائل أمثالِ تلك الرسالة، وما ذلك إلّا من إخلاصكم الخارق وصلابتكم التي لا تتزعزع وترابطكم الوثيق.

فقد ثبت لنا هذا قطعا ولم تبق لدينا أي شبهة فيه. ليرضَ الله عنكم أبدا. آمين.

* * *

[الحلول بين طلاب النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

نهنئكم بحلول الشهور الثلاثة المباركة التي تُكسبكم أكثر من ثمانين سنة من العمر المعنوي ولاسيما ليلة الرغائب -ليلة الجمعة الأولى من رجب- فإن لبراءتكم من المحكمة وظهوركم عليهم معنىً قد أوقع الظالمين في حيرة.

ولقد غيّروا خطتهم هنا؛ إذ بدأوا باسم الصداقة بالحلول بين طلاب رسائل النور الخواص -تاركين الهجوم العدائي- ليحملوهم على التخلف عن خدمة رسائل النور، فيوجِدون لهم مشاغل الوظائف أو يرفعون من مرتّبهم ويحوّلونهم إلى وظائف أخرى أو أية مشغلة أخرى.

فهناك وقائع كثيرة أمثال هذه هنا، يبدو أن هذا التعرض أكثر ضررا من ناحية.

* * *

[الرسائل بالحروف اللاتينية]

لقد دخلت رسالة مؤثرة من رسائل النور إلى المدرسة الإعدادية هنا، إذ سمحنا -بإذن معنوي- أن تكون بالحروف اللاتينية وبالآلة الطابعة، والرسالة تتضمن: الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين، واسمَي «العدل والحكم» من اللمعة الثلاثين، ورسالة الطبيعة -إلى الخاتمة- والآية الكبرى من المقام الأول إلى المرتبة الثامنة عشرة -مما سوى مرتبتَي الوحي والإلهام-. واجعلوا كذلك من هذه القِطَع الأربع من الرسائل مجلدا واحدا وبالحروف الجديدة واقذفوها قنبلة عظيمة على رؤوس أهل الإلحاد.

ولما كنت في هذه السنة في شدة العجز والضعف والشيخوخة، أرجو من إخوتي الشباب أن يعينوني معنويا بدعواتهم في هذه الشهور الثلاثة المباركة.

تحياتي إلى الإخوة جميعا فردا فردا وندعو لسلامتهم في الدارين.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[التقوى والعمل الصالح]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد فكرت -في هذه الأيام- في أسس التقوى والعمل الصالح، اللذَين هما أعظم أساسين في نظر القرآن الكريم بعد الإيمان.

فالتقوى هي ترك المحظور والاجتناب عن الذنوب والسيئات. والعمل الصالح هو فعل المأمور لكسب الخيرات.

ففي هذا الوقت الذي يتسم بالدمار -الأخلاقي والروحي- وبإثارة هوى النفس الأمارة، وبإطلاق الشهوات من عقالها.. تصبح التقوى أساساً عظيماً جداً بل ركيزة الأسس، وتكسب أفضلية عظيمة حيث إنها دفع للمفاسد وترك للكبائر، إذ إن «درء المفاسد أولى من جلب المنافع» قاعدة مطردة في كل وقت.

وحيث إن التيارات المدمرة أخذت تتفاقم في هذا الوقت، فقد أصبحت التقوى أعظمَ أساس وأكبر سد لصد هذا الدمار الرهيب. فالذي يؤدي الفرائض ولا يرتكب الكبائر، ينجو بإذن الله، إذ التوفيق إلى عمل خالص مع هذه الكبائر المحيطة أمر نادر جداً، وإن عملاً صالحاً ولو كان قليلاً يغدو في حكم الكثير ضمن هذه الشرائط الثقيلة والظروف العصيبة.

ثم إن هناك نوعاً من عمل صالح ضمن التقوى نفسها، لأن ترك الحرام واجب والقيام بالواجب ثوابه أكثر من كثير من السنن والنوافل، ففي مثل هذه الأزمان التي تهاجِم الذنوب والسيئات الإنسانَ من كل جانب يكون اجتنابُ أثمٍ واحد مع عمل قليل، بمثابة تركٍ لمئات من الآثام -التي تترتب على ذلك الإثم- وقيامٍ بمئات من الواجبات.

هذه النقطة جديرة بالاهتمام، ولا تحصل إلّا بالنية الخالصة وبالتقوى وقصد الفرار من الآثام والذنوب، ويغنم المرء بها ثواب أعمال صالحة نشأت من عبادة لم يَصرِف فيها جهداً.

إن أهم وظيفة تقع على عاتق طلاب النور خدامِ القرآن الكريم، في هذا الوقت هي اتخاذُ التقوى أساساً في الأعمال كلها، ثم التحركُ وفقها أمام تيار الدمار الرهيب المهاجم والآثام المحيطة بهم، إذ يواجه الإنسانُ ضمن أنماط الحياة الاجتماعية الحاضرة مئاتٍ من الخطايا في كل دقيقة، فالتقوى هي التي تجعل -دون ريب- الإنسانَ كأنه يقوم بمئات من الأعمال الصالحة، وذلك باجتنابه تلك المحرمات.

من المعلوم أن عشرين شخصاً في عشرين يوماً لا يستطيعون بناء عمارة واحدة؛ في حين يستطيع أن يهدمها شخص واحد في يوم واحد. لذا فالذي يقوم بالهدم والدمار ينبغي أن يقابَل بعشرين ممن يبنون ويعمِّرون تلك النواحي، بيد أننا نرى العكس. فالألوف من الهدامين لا يقابلهم إلا معمِّر واحد وهو رسائل النور. فمقاومة خدام القرآن الكريم وحدهم تلك التخريباتِ المريعةَ إنما هي عمل خارق جداً. فلو كانت هاتان القوتان المتقابلتان على مستوى واحد من القوة، لكنت ترى في التعمير والبناء -الروحي والأخلاقي- خوارقَ وفتوحات عظيمة جداً.

ولنضرب مثلاً واحداً فقط: إن أعظم ركيزة في الحياة الاجتماعية هي توقير الصغير للكبير ورحمة الكبير للصغير، إلا أننا نرى أن هذا الأساس قد تصدع كثيراً، حتى إننا نسمع أخباراً مؤلمة جداً، وحوادث مفجعة جداً تجاه الآباء والأمهات، تقع من جراء خراب هذا الأساس الراسخ.

ولكن بفضل الله فإن الرسائل القرآنية أينما حلت قاومت الدمار، وحالت دون تهدم هذا الأساس الاجتماعي المتين، بل حاولت تعميره.

فكما يعيث يأجوج ومأجوج في الأرض الفساد بخراب سد ذي القرنين، فإن فسـاداً أبشع من فساد يأجوج ومأجوج قد دبّ في العـالم وأحاطه بظلمات الإرهاب والفوضى وعمت الحياة والأخلاق مظالم شنيعة وإلحاد شنيع.. فظهر الفساد في البر والبحر، نتيجة تزلزل السد القرآني العظيم، وهو الشريعة المحمدية الغراء.

لذا فإن الجهاد المعنوي لطلاب النور ضد هذا التيار الجارف يُعدّ -بإذن الله- جهاداً عظيم الثواب، إذ فيه قبس من جهاد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين يثابون بعملٍ قليل ثواباً عظيماً.

فيا إخوتي الأعزاء! في مثل هذه الأوقات العصيبة، وأمام هذه الأحداث الجسام، فإن أعظم قوة لدينا -بعد قوة الإخلاص- هي قوة «الاشتراك في الأعمال الأخروية» إذ يَكتب كلٌ منكم في دفتر أعمال إخوته حسناتٍ كثيرة مثلما يُرسل بلسانه الإمدادَ والعون إلى قلعة التقوى وخنادقها. وإن أخاكم الفقير والعاجز هذا «السعيد» الذي اشتدت عليه غارات الهجوم من كل جهة، هو أحوج ما يكون إلى مساعدتكم في هذه الأشهر الثلاثة المباركة، وفي هذه الأيام المشهودة. ولا أستبعد هذا منكم قط، فأنتم أهل لهذا السعي، وأنتم الأبطال الأوفياء المشفقون على حال أخيكم، وأنا أطلب منكم هذا الإمداد المعنوي بكل جوارحي ومن صميم روحي.

وبدوري سأشرك الطلاب في دعواتي وحسناتي المعنوية، بل ربما أدعو لكم في اليوم أكثر من مائة مرة باسم طلاب النور، بشرط الالتزام بالإيمان والوفاء، وذلك دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية.

* * *

[ترك فضول النفس]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لمناسبة مجيء فرقة من الجيش إلى هذه الجهات أمس قال لي أمين: إن صلة روسيا قد انقطعت عن القفقاس. علما أنني لم أكن أعرف استمرار الروس في الحرب ولم أرغب في معرفته. فقطعتُ عليه الكلام. إلّا أن قلبي أظهر اهتماما بالموضوع.

وفي هذا اليوم عند ما كنت في الصلاة وفي الأذكار التي أعقبتْها، ورد إلى القلب معنىً؛ أن الصراع الدائر في الكرة الأرضية بين التيارات المتحاربة ستميل إحداها إلى الإسلام والقرآن ورسائل النور وإلى مسلكنا لا محالة. فينبغي النظر إليه من هذه الزاوية. وعلى الرغم من أن الأسباب الداعية إلى عدم النظر إليه -والتي كتبتها في رسالتين سابقتين- كافية للقلب والعقل، إلّا أنها لا تُشبع النفس المتلهفة للحوادث.

وخطر على القلب في الأذكار نفسها، أن سببه المهم هو تنبّهُ شعور الانحياز عند النظر إليه، حيث إن نظر المنحاز كليلٌ عن ذنوب من يميل إليه. فيرضى بظلمه بل قد يبتهج ويفرح ويرحّب به. والحال «كما أن الرضا بالكفر كفر كذلك الرضا بالظلم ظلم». فلاشك أن في هذا الصراع القائم على الكرة الأرضية مظالمَ ودمارا تبكي من هوله السماواتُ، إذ تَضيع وتفنى حقوقُ كثير من الأبرياء والمظلومين، لأن دستور المدنية الدنيّة الظالم هو: أنه يُضحَّى بالفرد لأجل الجماعة، ولا يُنظر إلى الحقوق الجزئية من أجل سلامة الأمة. وقد فتح هذا الدستورُ ميدانَ مظالمَ شنيعةٍ لم يُر مثلها حتى في القرون الأولى. بينما العدالة الحقيقية للقرآن المبين أنه لا يُفدى بحق الفرد لأجل الحفاظ على الجماعة، فالحق حق، لا ينظر إلى كثيره وقليله.

فهذا هو القانون السماوي والعدالة الحقة. لذا فالذين ينشغلون بحقائق القرآن كطلاب رسائل النور إن لم تكن هناك ضرورة فلا ينظرون إلى تلك الأمور لإشباع الفضول وحده، دون أن يجنوا فائدة ما. ولا يليق بهم الانشغال فكريا بمتابعة أعمال ذلك التيار، على أمل أن يخدم الإسلام والقرآن في النتيجة! حيث إن النتيجة لم تحصل، فلا داعي إلى تشجيع تخريباتهم الظالمة. وبهذا تبعت النفسُ العقلَ والقلبَ وتركتْ فضولَها… نعم، هكذا فهمتُ.

المسألة الثانية:

إن إحراز رسائل النور النصرَ في إسبارطة والغلبةَ فيها قد فاجأ الزنادقةَ وأذهلهم، لذا قام بعض هؤلاء الزنادقة المتمردين والمعاندين -ممن يحملون الروح الخبيثة وأفكارَ ذلك الشخص الذي ولّى ومات- سترا لهزيمتهم هذه بالهجوم على القرآن وعلى الرسول ﷺ من طرف خفي في مؤلّفٍ نشَرَه، واستعمل فيه هذا -المتسمى بالإسلام- كلمات ممجوجة غير لائقة -كالتي وردت في المناظرة مع الشيطان وحزبه- إذ جمع ما قاله أمثاله من اليهود والفلاسفة الملحدين والمتمردين في أوروبا وزنادقتها منذ سالف العصور من افتراءات على القرآن والرسول الكريم ﷺ.

ولأجل إسماع المسلمين الساذجين والذين لم يطّلعوا على رسائل النور مثلَ هذه الأمور وإراءتهم لها، فقد سلك هذا الزنديق بحذلقة وخبث مسلكا أخفى زندقته إخفاءً دقيقا بحيث سبق الشيطانَ في شيطنته. وتألمت كثيرا جدا من هذا، وقد وردت في رسالة أخينا صبري: أن الخُدَعَ والشباكات التي ينصبها الملحدون العنيدون -تجاه تيار رسائل النور- واهية جدا بل أوهن من بيت العنكبوت. فتلك الأستار الشيطانية التي يتسترون بها ضعيفة لا تقاوِم أبدا وستُهتَك أمام النور وتتمزق.. إن ما كتبه الزنديق العنيد المتمرد والروح الخبيثة للرجل الميت، هو لصالح القومية التركية في الظاهر، إلّا أنه في الحقيقة قد نشر كتابه هذا للتهوين من الشأن العظيم والمرتبة الرفيعة للقرآن الكريم والرسول الكريم ﷺ، ألا خابَ ظنُّه، فلا يمكنه أن يكون كبيت العنكبوت تجاه المعجزات القرآنية والمعجزات الأحمدية بل يذوب ويتلاشى. ولكن يا للأسف وألف أسف وأسف! إنه يضر ضررا بالغا بالذين لم يطلعوا على رسائل النور كما أن الذين اطلعوا عليها قد يدفعهم الفضول فيقولون: تُرى ماذا فيه؟ فيعكرون صفو قلوبهم. وفي الأقل يورث الشكوك والأوهام.

فعلى طلاب رسائل النور الأبطال أن يكونوا متيقظين تجاه هذه الأمور ويزيدوا من نشاطهم، إذ الانشغال بالأمور الفاسدة فسادٌ أيضا، لذا أختصر هذه المسألة.

فحذار من الاهتمام به وإثارة الفضول لدى الناس. وليُعْلم أنه مؤلَّف تافه سوى ما فيه من الأسماء المباركة ومعاني بعض الآيات الكريمة. وافهموا مدى تجاوز هذا الشخص حدّه من المثال الآتي:

مثال: إن نظر أبله إلى مجلس بعيد جدا يحضره علماء مدققون متخصصون، يدققون كتابا ويتلقون الدرس من أستاذ قدير. فإذا ما أصدر هذا الأبله حكمه منتقدا هذا المجلس وهؤلاء العلماء، فإن عمله هذا هذيان ليس إلّا.

اللّهم احفظ أهل الإيمان وطلاب رسائل النور من أمثال هؤلاء. آمين

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[عاونونا بأدعيتكم]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إنه بعد تغلّب ثباتكم العظيم وإخلاصكم التام وبعد دفع تلك المصيبة، فقد غَيّر أهلُ الدنيا خططهم في المجابهة؛ إذ بدأوا -بمكايد الزنادقة- بتحشيد قواهم المادية والمعنوية في هذه المناطق تجاهنا خفية، فهم يتحركون بدقة متـناهيـة ويحاولون بشـيطنة خبيثة للإخلال بالتساند والترابط الوثيق الذي هو القوة الحقيقية لطلاب رسائل النور. ففي الوقت الذي أعادوا إليكم الرسائل يحيكون مؤامرات خفية بخبث. وعلى الرغم من أننا نُعدّ شعبة منكم فإنهم يحسـبوننا كأننـا الأصل والمركز، لذا يُجرون علينا دسائسـهم بشكل مكثف، ولكن الحافظ الحقيقي هو رب العالمين. وبإذنه تعالى لن يقدروا على إلحاق أي ضرر كان.. ولكن عاوِنونا يا إخوتي بأدعيتكم الخالصة في أيام الشهور المباركة ولياليها المباركة.

ولا شيء يُذكر هنا.. ولكن عليكم بالحذر قدر المستطاع…

* * *

[حوار مع فريق من الشباب]

جاءَني -ذات يوم- فريق من الشباب، يتدفقون نضارةً وذكاءً، طالبين تنبيهاتٍ قويةً وإرشاداتٍ قويمةً تقيهم من شرورٍ تتطاير من متطلبات الحياة ومن فتوّة الشباب ومن الأهواء المحيطة بهم.

فقلت لهم بمثل ما قلته لأولئك الذين طلبوا العون من رسائل النور:

اعلموا أن ما تتمتعون به من ربيع العمر ونضارة الحياة ذاهبٌ لا محالة، فإن لم تُلزموا أنفسكم بالبقاء ضمن الحدود الشرعية، فسيضيع ذلك الشباب ويذهب هباءً منثورا، ويَجرّ عليكم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة بلايا ومصائبَ وآلاما تفوق كثيرا ملذات الدنيا التي أذاقكم إياها.. ولكن لو صرفتم ربيع عمركم في عِفّة النفس وفي صَوْنِ الشرف وفي طاعة ربكم بتربيته على الإسلام، أَداءً لشكر الله تعالى على ما أَنْعَمَ عليكم من نعمة الفتوة والشباب، فسيبقى ويدوم ذلك العهدُ معنىً، وسيكون لكم وسيلة للفوز بشباب دائم خالد في الجنة الخالدة.

فالحياة، إن كانت خاليةً من الإيمان، أو فَقَدَ الإيمانُ تأثيرَه فيها لكثرة المعاصي، فإنها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جدا تُذيق الآلامَ والأحزان والهموم أضعافَ أضعاف تلك المتع والملذات، ذلك لأن الإنسان -بما مُنح من عقل وفكر- ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل فضلا عما هو عليه من زمان حاضر، حتى إنه يتمكنُ من أن يذوق لذائذ تلك الأزمنة ويَشعر بآلامها، خلافا للحيوان الذي لا تعكر صَفْوَ لذتِه الحاضرةِ الأحزانُ الواردة من الماضي ولا المخاوفُ المتوقعة في المستقبل، حيث لم يُمنح الفكرَ.

ومن هنا فالإنسان الذي تَردَّى في الضلالة وأَطبقتْ عليه الغفلةُ تَفسد متعتُه الحاضرة بما يَردُه من أحزان من الماضي، وما يرِدُه من اضطرابٍ من القلق على المستقبل. فتتكدر حياتُه الحاضرة بالآلام والأوهام، سـيَّما الملذاتُ غير المشروعة، فهي في حكم العسل المسموم تماما.

أَي إنّ الإنسان هو أَدنى بمائة مرة من الحيوان من حيث التمتع بملذات الحياة. بل إن حياة أرباب الضلالة والغفلة، بل وجودهم وعالَمهم، ما هو إلّا يومُهم الحاضر، حيث إنّ الأَزمنة الماضية كلَّها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فترِدهم من هناك حوالكُ الظلمات..!

أما الأزمنة المقبلة فهي أيضا معدومة بالنسبة إليهم، وذلك لعدم إيمانهم بالغيب. فتملأُ الفراقاتُ الأَبدية -التي لا تنقطع- حياتَهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل جاحدين بالبعث والنشور.

ولكن إذا ما أصبح الإيمان حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الأزمنة الماضية واستضاءت الأزمنة المقبلة، وتجدان البقاءَ وتمدان روحَ المؤمن وقلبَه من زاوية الإيمان، بأَذواق معنوية سامية وأَنوار وجودية باقية، بمثل ما يمدّهما الزمن الحاضر.

هذه الحقيقة موضحة توضيحا وافيا في «الرجاء السابع» من رسالة «الشيوخ» فليُراجع.

هكذا الحياة.. فإن كنتم تريدون أَنْ تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فأحيوا حياتَكم بالإيمان وزيِّنوها بأداء الفرائض، وحافِظوا عليها باجتناب المعاصي.

أما حقيقة الموت التي تُطلعنا على أهوالها الوفياتُ التي نشاهدها كل يوم في كل مكان، فسأبينها لكم في مثال، مثلما بينتُها لشبان آخرين من أمثالكم:

تصوروا ههنا -مثلا- أعوادا نُصبت أمامكم للمشنقة، وبجانبها دائرةٌ توزع جوائزَ سخيةً كبرى للمحظوظين.. ونحن الأشخاص العشرة هنا سنُدعى إلى هناك طوعا أو كرها. ولكن لأَنَّ زمان الاستدعاء مخفي عنّا، فنحنُ في كل دقيقة بانتظار مَن يقول لكلٍ منا: تعالَ.. تَسلَّمْ قرار إعدامك، واصعد المشنقة!. أو يقول: تعالَ خذ بطاقة تربحك ملايين الليراتِ الذهبيةِ.!

وبينا نحن واقفون منتظرون، إذا بشخصين حضرا لدى الباب. أحدهما امرأة جميلة لعوب شبه عارية تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تقدّمها إلينا تبدو أنها شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.

أما الآخر فهو رجل وقور كيّس -ليس خِبا ولا غِرّا- دخل على إثْرِ تلك المرأة وقال: لقد أتيتكم بِطلْسمٍ عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، إذا قرأتم الدرس ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشنقة، وتتســلَّمون -بهذا الطلســم- بطاقةَ تلك الجائــزةِ الثمينة.. فها أنتم أُولاء تــرون بأُم أَعينكم أَن مَن يأكل تلك الحلوى، يتلوّى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة.

أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع أنهم محجوبون عنّا، ويَبدون أنهم يصعدون منصّة المشنقة إلّا أَنَّ أكثر من ملايين الشهود يخبرون بأَنهم لم يُشنَقوا، وإنما اتخذوا أَعواد المشنقة سُلّما للاجتياز بسهولة ويسر إلى دائرة الجوائز.

فهيا انظروا من النوافذ، لتروا كيف أَنَّ كبار المسؤولين المُشرِفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأَعلى صوتهم قائلين:

«إنّ أَصحاب ذلك الطِّلْسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز.. اعلموا هذا يقينا كما رأيتم بعين اليقين أُولئك الذاهبين إلى المشنقة، فلا يساوِرنَّكم الشكُّ في هذا، فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار».

وهكذا على غرار هذا المثال:

فإنَّ مُتع الشباب وملذاته المحظورةَ شرعا كالعسل المسموم.. وَغَدَا الموتُ لدى الذي فقَدَ بطاقةَ الإيمان التي تُربحه السعادةَ الأَبدية كأَنَّه مشنقة، فينتظر جَلّادُ الأَجل الذي يُمكن أَنْ يحضر كلَّ لحظة -لخفاء وقته عنا- ليقطع الأعناق دون تمييز بين شاب وشيخ.. فيُرديه إلى حفرة القبر الذي هو باب لظلماتٍ أَبدية كما هو في ظاهره..

ولكن إذا ما أَعرض الشاب عن تلك الملذات المحظورة الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحا، وبادر إلى الحصول على ذلك الطلسم القرآني وهو الإيمان وأَداءُ الفرائض، فإنَّ مائةً وأربعةً وعشرينَ ألفا من الأنبياء عليهم السلام، وما لا يُعدُّ ولا يُحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشّرون بالاتفاق مظهرين آثارَ ما يخبرون عنه بأَنَّ المؤمن سيفوز ببطاقة تُكسبه كنوزَ السعادة الأَبدية.

حاصل الكلام: إن الشباب سيذهب حتما وسيزول لا محالة؛ فإن كان قد قضى في سبيل الملذات ونشوة الطيش والغرور؛ فسيورث آلاف البلايا والآلام والمصائب الموجعة سواء في الدنيا أو الآخرة.

وإن كنتم ترومون أن تفهموا بأن أمثال هؤلاء الشباب سيؤول حالُهم في غالب الأمر إلى المستشفيات، بسبب تصرفاتهم الطائشة وإسرافاتهم وتعرضهم لأمراض نفسية.. أو إلى السجون وأماكن الإهانة والتحقير، بسبب نـزواتهم وغرورهم.. أو إلى الملاهي والخمّارات بسبب ضِيْقِ صدورهم من الآلام والاضطرابات المعنوية والنفسية التي تنتابهم.. نعم، إنْ شئتم أنْ تتيقنوا من هذه النتائج فاسأَلوا المستشفياتِ والسجونَ والمقابرَ.. فستسمعون بلا شك من لسان حال المستشفيات الأَنّات والآهات والحسرات المنبعثة من أمراض نَجَمَتْ من نـزوات الشباب وإسرافهم في أمرهم.. وستسمعون أيضا من السجون صيحات الأسى وأصوات الندم وزفرات الحسرات يطلقها أولئك الشبان الأَشقياء الذين انساقوا وراءَ طيشهم، وغرورهم فتلقّوا صفعة التأديب لخروجهم على الأَوامر الشرعية، وستعلمون أيضا أَنَّ أكثرَ ما يُعذَّب المرءُ في قبره -ذلك العالم البرزخي الذي لا تهدأ أبوابُه عن الانفتاح والانغلاق لكثرة الداخلين فيه- ما هو إلّا بما كسبت يداه من تصرفات سيئة في سِنِيِّ شبابه، كما هو ثابت بمشاهدات أهلِ كشفِ القبورِ، وشهادةِ جميع أهل الحقيقة والعلم وتصديقهم.

واسألوا -إنْ شئتم- الشيوخَ والمرضى الذين يمثلون غالبية البشرية، فستسمعون أنَّ أكثريتهم المطلقة يقولون:

«وا أَسَفَى على ما فات! لقد ضيّعنا ربيعَ شبابنا في أمور تافهة، بل في أمور ضارة! فإياكم إياكم أَنْ تُعيدوا سيرتَنا، وحَذارِ حَذارِ أن تفعلوا مثلَنا!».

ذلك لأَنَّ الذي يُقاسي سنواتٍ من الغمِّ والهمِّ في الدنيا، والعذابَ في البرزخ، ونارَ سَقَرَ في الآخرة، لأجل تمتع لا يدوم خمسَ أو عَشْرَ سنوات من عمر الشباب بملذات محظورة.. غيرُ جدير بالإشفاق، مع أَنَّه في أَشدّ الحالات استدرارا للشفقة والرثاء؛ لأَنَّ الذي يرضى بالضرر وينساق إليه طوعا، لا يستحق الإشفاق عليه ولا النَظرَ إلى حاله بعين الرحمة، وِفْقَ القاعدة الحكيمة: «الراضي بالضرر لا يُنظر له».

حفظنا الله وإياكم من فتنة هذا الزمان المغرية ونجّانا من شرورها.. آمِينَ

* * *

رسائل متفرقة (5)

 [الحاجة إلى رسائل النور]

إن مباشرة هؤلاء الشيوخ الطيبين الأميين بالكتابة بعد تجاوزهم الأربعين من العمر. وتفضيلَهم لها على أي شيء آخر لأجل خدمة رسائل النور، وكذا تلقّي أولئك الأطفال الأبرياء الدرس من رسائل النور، وما استنسخوه من رسائل…

إن سعي هؤلاء جميعا سعيا جادا في هذا الزمان لَيبين بوضوح أن رسائل النور فيها من الذوق المعنوي والنور الجاذب بحيث تعجز الوسائل المستعملة في المدارس لحث التلاميذ على القراءة والكتابة أمام هذا الذوق والانشراح والسرور الذي تمنحه رسائل النور، حتى تدفعُ أولئك الأطفال والشيوخ إلى هذا العمل الجاد.

وكذا تُبين هذه الحالة: أن رسائل النور تترسخ ولن يقتلعها أي شيء كان بفضله تعالى بل ستدوم إلى الأجيال المقبلة بإذنه تعالى.

إن سعي هؤلاء الشيوخ الأميين ضمن دائرة رسائل النور كهؤلاء التلاميذ الأطفال الأبرياء، وقسمٍ من الرعاة، وفي هذا الزمان بالذات وتحت هذه الظروف العصيبة، وتفضيلَهم ذلك السعي على أي شيء آخر يبين أن الحاجة إلى رسائل النور في هذا الزمان أكثر من الحاجة إلى الخبز، بحيث إن الفلاحين والرعاة يرون الحاجة الضرورية في حقائق رسائل النور أكثر من الحاجات الدنيوية الضرورية.

* * *

[ما تُكسبه رسائل النور طلابَها]

حقيقة كُتبت لإخواني في قسطموني بعثتها إليكم علّها تفيدكم:

إن الذي تطلبه رسائل النور ثمنا لما تُكسبه طلابَها الصادقين الثابتين من مغانم ومكاسب عظيمة جدا ومن نتائج عظيمة جليلة هو؛ الوفاء الخالص الكامل والثبات الدائم الذي لا يتزعزع.

نعم، إن الإيمان التحقيقي الذي يمكن أن يُكسَب خلال خمس عشرة سنة تُكسبه رسائلُ النور في خمسة عشر أسبوعا وإلى بعضهم في خمسة عشر يوما. يَشهد على هذا عشرون ألفا من الشهود بتجاربهم في غضون عشرين سنة. وكذا تُكسب رسائلُ النور كلَّ طالب من طلابها ثوابَ ألوف الدعوات الخالصة المقبولة التي تَلهج بها ألسِنَةُ الطلاب كل يوم، وكذا الأعمال الصالحة التي أنجزها ألوفٌ من أهل الصلاح والتقوى، وذلك حسب دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية.

والدليل على أنها تجعل كل طالب حقيقي صادق ثابت من حيث العمل في حكم ألوف الأشخاص ما ورد من الإخبارات الثلاثة ذاتِ الكرامة عن الإمام علي رضي الله عنه وكراماته الغيبية وكذا بشــارات الشيخ الكيلاني (قُدس سره) وتقديره للعاملين، وإشارات القرآن المبين من أن أولئك الطلاب الخالصين يكونون من أهل الســعادة ومن أهل الجنة. فتلك الإشـــارات والبشــارات دليل وأيّ دليل. نعم، إن كســبا كهذا يســتحق ذلك الثمن بلا شــك.

وما دامت الحقيقة هي هذه، فينبغي للقريبين من دائرة رسائل النور من أرباب العلم وأهل الطريقة وأصحاب المشارب الصوفية الانضمامُ إلى تيار النور، ليمدّوه بما لديهم من رأسمال سابق، والسعيُ لتوسيع دائرته وحثُّ طلابه وبثُّ الشوق في نفوسهم، وإذابةُ الأنانية وإلقائها كقطعة ثلج في حوض الماء السلسبيل للجماعة ليغنم ذلك الحوض الكوثري كاملا. وإلّا فمن يفتح نهجا جديدا ويسلك طريقا آخر، يضرّ هذه الجادة القرآنية المستقيمة القويمة من دون أن يشعر، ويتضرر هو بنفسه أيضا، بل قد يكون عملُه نوعا من العون للزندقة دون شعور منه.

حذار.. حذار.. أيها الإخوة من أن تقذفكم التيارات الدنيوية ولاسيما السياسية منها ولاسيما التيارات التي تلفت الأنظار نحو الخارج، إلى التفرقة، إذ تجعلكم بعد ذلك عاجزين ضعفاء أمام الفرق الضالة المتحدة… فحذار أن يجري فيكم حُكم ذلك الدستور الشيطاني والعياذ بالله: «الحب في السياسة والبغض في السياسة» بدلا من الدستور الرحماني «الحب في الله والبغض في الله» إذ عندها تعادون أخا لكم هو في الحقيقة كالملاك وتُولُون الحب لرفيق في السياسة وهو كالخناس، وتبدون الرضا لظلمه، وتشاركونه في جنايته ضمنا. فحذار حذار من هذا!

نعم، إن السياسة الحاضرة تفسد القلوب، وتدع الأرواح الحساسة في عذاب. فالذي يروم سلامة القلب وراحة الروح عليه أن يترك السياسة.

نعم، إن كل إنسان في الوقت الحاضر، على الكرة الأرضية قاطبة، له نصيبه من المصائب الجارية إما قلبا أو روحا أو عقلا أو بدنا، ويعاني من العذاب والرهق ما يعاني، ولاسيما أهل الضلالة والغافلين؛ حيث إنهم غافلون عن الرحمة الإلهية الشاملة والحكمة السبحانية الكاملة.

فمن حيث إنسانيتُهم وعلاقتهم بالبشرية يتعذبون بالآلام الرهيبة المفجعة التي تعانيها البشرية في الوقت الحاضر، فضلا عن آلامهم أنفسهم، ذلك لأنهم قد تركوا وظائفهم الحقيقية وأمورهم الضرورية وأعاروا سمعهم بلهفة إلى مالا يعنيهم من صراعات سياسية وشؤون آفاقية، وحوادثَ خارجة عن طوقهم، ويتدخلون فيها حتى جعلوا أرواحهم حائرة وعقولهم ثرثارة، وسلبوا من أنفسهم الإشفاق والرثاء عليهم، حسب قاعدةِ «الراضي بالضرر لا يُنظر له» أي من يرضى لنفسه بالضرر لا يستحق النظر إليه برحمة. فلا يُرثى لهم ولا يُشفق عليهم، فهم الذين قد سببوا نزول البلاء بهم.

إنني أخال أنه في خضم هذه الأهوال والحرائق التي نشبت في الكرة الأرضية لايَقدر على الحفاظ على سلامة قلبه وراحة روحه إلاّ أهلُ الإيمان وأهل التوكل والرضى الحقيقي، ومنهم أولئك الذين انضموا إلى دائرة رسائل النور بوفاء تام. فهم مصانون من تلك الأهوال أكثرَ من غيرهم. وذلك لأنهم يرون أثر الرحمة الإلهية وزبدَتها ووجهَها في كل حادثة وفي كل شيء، لمشاهدتهم الأمور بمنظار نور دروس الإيمان التحقيقي الذي تلقوه من رسائل النور. فهم يشاهدون في كل شيء كمال الحكمة الإلهية، وجمال عدالتها، لذا يجابهون المصائب -التي هي من إجراءات الربوبية الإلهية بالبشر- بالتسليم التام لأمر الله فيبدون الرضى به، ولا يقدّمون شفقتهم على الرحمة الإلهية كي يقاسوا العذاب والألم.

وهكذا بناء على هذا، فالذين يريدون تذوق السعادة واللذة حتى في الحياة الدنيوية -فضلا عن الحياة الأخروية- يمكنهم أن يجدوها في دروس رسائل النور الإيمانية والقرآنية.

تنبيهان نابعان من خاطرتين وردتا في هذه الأيام:

الأول: لقد فكرت في السيدات اللائي انتسبن إلى رسائل النور في هذه المدينة، إنهن ثابتات لا يهزّهن شيء كغيرهن من السيدات. وإذا بهذا الحديث «عليكم بدين العجائز» أُخطر على قلبي: أي عليكم باتباع الدين الخالص والعقيدة الراسخة التي لدى العجائز في آخر الزمان.

نعم، إن العجائز من السيدات ضعيفاتٌ وذوات حسّ مرهف وعطف وحنان، لذا فهن أكثر حاجة من غيرهن إلى ما في الدين من سلوان ونور يفيض بالشفقة، وإلى التفاتة رحمانية تتقطر بالرحمة، وإلى نقطة استناد ونقطة استمداد، الموجودة كلها في الدين. فالثبات الكامل من مقتضى فطرتهن. لذا فإن رسائل النور التي تفي بتلك الحاجة إيفاءً تاما في الوقت الحاضر، تجد الانشراح في أرواحهن وتستقر في قلوبهن أكثر من أي شيء آخر.

التنبيه الثاني: لقد جاءني أشخاص مختلفون عديدون في هذه الأيام، حسِبتُهم قد أتوني لأمور الآخرة. ولكن فهمت أنهم قد أتوني للاستشارة والدعاء لهم بالتوفيق في أمور التجارة، أو يراجعوننى لرفع الكساد وعدمِ التوفيق في أعمالهم ولينجوا من الخسارة والأضرار.

ففكرت، ماذا أعمل مع هؤلاء وماذا أقول لهم؟ فخطر على القلب فجأة: لا تكن أبلَهَ، ولا تتكلم ببلاهة، فتَدَعهم في بلاهتهم. لأن الذي أُلقيتْ عليه مهمةُ تحضيرِ مضاداتٍ لسموم الثعابين وهو منهمك بدفعها عن الناس، لو تَرك مهمته وسعى لمعاونة مَن هو بين الثعابين ومعرّض لهجمات الذباب -مع وجود معاوِنين له كثيرين- إنما هو أبله بلا شك. والذي يستنجد به أبله أيضا. وتلك المحاورة أيضا محاورة بلهاء.

نعم، إن الأضرار الطفيفة الموقتة للحياة الدنيوية الفانية القصيرة بالنسبة للحياة الأخروية الخالدة إنما هي كلسع الذباب. بينما أضرار الحياة الأخروية هي كلدغ الثعابين.

* * *

[مسائل ستة أشخاص]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد كلمات القرآن وحروفه.

إخوتي الأعزاء الأوفياء الميامين. ويا إخواني الأقوياء النشطين الثابتين في خدمة القرآن!

لقد أصبح ستة أشخاص -النجار أحمد في البدء وآخرهم أنا- مدارا لمسائل، كلٌّ على حده بناء على إخطار معنوي.

الأول: في رسالة النجار أحمد وهو الفعال والنشط جدا من طلاب رسائل النور ومدرستِها يذكر أنه:

أتى صبي صغير بريء يبلغ العاشرة من العمر من قرية على مسافة يومين تاركا قريته وماله، وَوُفِّق إلى كتابة رسائل النور، مع أنه لم يسبق له الكتابة من قبل. فكما أن هذا كرامة لرسائل النور فهو زهرة خارقة لطيفة للمدرسة النورية.

نعم، ونحن نقول أيضا: كما أن انفتاح الأزهار الجميلة في شتاء مادي قارس، قدرةٌ إلهية خارقة. فإنّ تفتّح ألفِ زهرة لطيفة جميلة وثمارِ الجنة في شجرة ساو -أي قرية ساو- في الشتاء المعنوي الرهيب لهذا العصر لاشك أنه معجزةُ رحمة وكرامة عناية ربانية لهذه البلدة، وإكرامٌ إلهيّ خارق لطلاب النور. نحن نعتقد هكذا ونتضرع إليه تعالى ونتوجه له بالشكر العميم.

وجاء في رسالة النجار أحمد: إن الطلاب النشطين في القرية يذكّرون بالطلاب المضحين القدماء الناشئين في المدارس الشرعية القديمة، مما منحنا وطلاب النور سرورا بالغا.

إنه لجميل جدا تلك المعاونةُ المعنوية التي تقدمها سيدات المدرسة النورية وطالباتها بأورادهن القرآنية وأذكارهن وبدعواتهن لأصحاب الأقلام الساعية للاستنساخ. وفي هذا إرشاد للسيدات في هذه المناطق.

ليرضَ الله أبدا عنهم وعنهن وعن جميع طلاب تلك المدرسة وعن أستاذهم.

الشخص الثاني ومسألته: قال لي يوما أحد طلبة النور من الشباب الحافظ للقرآن الكريم مثل ما يقوله الكثيرون: يزداد عندي مرض النسيان يوما بعد يوم؛ فماذا أفعل؟

قلت: لا تنظر نظر الحرام ما استطعت. لأن «النظر الحرام يورث النسيان» كما يروى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه.

نعم، إن النظر الحرام كلما ازداد بين المسلمين ثارت شهواتُهم النفسانية، فيتولد منها الإسراف والإفراط، حتى قد يضطر المرء إلى الاغتسال عدّة مرات في الأسبوع الواحد، مما ينجم عنه ضعفٌ في قوة الحفظ كما هو معلوم لدى الطب. ومما جعل انتشار مرض النسيان هذا عاما شاملا للجميع هو شيوع التبرج والتكشف في هذا العصر ولاسيما في بلدان المناطق الحارة، مما سبّب كثرةَ النظر الحرام الذي يولد الإسراف والإفراط. حتى تجد الجميع يشكون من النسيان، كل على قدر إصابته به.

ولعل طرفا من تأويل الحديث الشريف الذي أنذر عن نزع القرآن الكريم من الصدور في آخر الزمان، يتحقق بازدياد هذا المرض. بمعنى أن هذا المرض سيشتد وطؤه، ويحُول دون حفظ القرآن الكريم، فيتحقق عندئذ تأويل الحديث. ولا يعلم الغيب إلّا الله.

الشخص الثالث ومسألته: إنه شخص ذو علاقة وطيدة معنا يشكو مرَّ الشكوى في أغلب الأوقات طالبا العون وقائلا: لا أستطيع أن أصبح رجلا بمعنى الكلمة بل فسدتُ وتضعضعت كلما مرّ الزمان فلا أستطيع أن أرى نتائج خدماتي المعنوية.

ونحن نقول له: إن هذه الدنيا دار عمل وليس موضع أخذ الأجرة، فثواب الأعمال الصالحة وثمراتُها وأنوارُها تُمنح في البرزخ والآخرة. وإن جلبَ تلك الثمرات الباقية إلى هذه الدنيا وطلبَها في هذه الدنيا يعنى جعل الآخرة تابعة لهذه الدنيا. وعندها ينثلم إخلاص تلك الأعمال الصالحة ويذهب نورُها.

نعم، إن الثمرات لا تُطلب ولا تُنوى قلبا، بل يُشكر عليها إذا ما مُنحت للحث.

نعم، إن هذا العصر -كما ذكر في بضع رسائل- قد غرز حبَّ الحياة الدنيوية في الإنسان وأجراه في عروقه فجرحه جروحا بالغة، حتى إن شيخا هرما وعالما وتقيا صالحا يطلب أذواق الحياة الأخروية في الدنيا لجريان حكم الأذواق الحياة الدنيوية فيه أولا.

الرابع: شخص له علاقة مَعَنا يشكو كالكثيرين، أنه فقد أذواقه وأشواقه التي كان يجدها في أوراده سابقا عندما كان منتسبا إلى الطرق الصوفية. والآن يغلب عليه النوم والضيق. فقلنا له:

كما أن الفساد الذي يعتري الهواء يُولِد ضيقا في الإنسان ولاسيما فيمن له حساسية في الصدر كذلك يُفسد الهواء المعنوي أحيانا، ولاسيما في هذا العصر الذي ابتعد عن المعنويات، ولاسيما في البلدان التي شاعت فيها الأهواء النفسانية والشهوية، ولاسيما بعد انقضاء الشهور الثلاثة المحرمة والشهور الثلاثة المباركة التي يتصفى فيها الهواء المعنوي بصحوة العالم الإسلامي وتوجُّهِ عموم الناس إلى الله. وبانقضاء تلك الشهور وتوقف ذلك التوجه العام تجد الضلالاتُ الفرصةَ سانحة، للتأثير على إفساد الهواء، تحت مضايقات الشتاء، وانكسار تسلط الحياة الدنيوية والأهواء النفسانية، فيغلب على الإنسان النومُ والنعاس بدلا من الشوق والذوق لدى قراءة مثل هذه الأوراد القدسية في أثناء انحسار الشوق الأخروي لدى أهل الإيمان والإسلام ولاسيما بمجيء الربيع وانكشاف الحياة الدنيوية.

بيد أن الأعمال الصالحة والأمور الأخروية التي ترافقها المشقات والمصائب والمضايقات -رغم فقدها للأذواق- هي أسمى وأجزل ثوابا، حسب مضمونِ «خير الأمور أحمزها» لذا ينبغي للإنسان الشكر مسرورا ومتجملا بالصبر لأمله في زيادة الثواب من خلال ذلك الضيق والمشقات.

الخامس: يبرر أحد طلاب النور عدمَ سعيه لرسائل النور لازدياد هموم العيش.

فقلنا له: لأنك لا تسعى لرسائل النور ازدادت عليك همومُ العيش. لأن كل طالب في هذه المناطق يعترف -وأنا كذلك أعترف- أنه كلما سعينا لرسائل النور وجدنا السهولة في الحياة والانشراح في القلب واليسر في المعيشة.

السادس: هو هذا السعيد الضعيف. إن ما ينشرح له كل الناس ويرغبون به ويطلبونه من الاحترام والتوقير والمحبة والمجالسة -خارج نطاق رسائل النور- ثقيل عليّ وأتألم منه ويولِد فيّ الإزعاج.

وأظن أن المزايا الرفيعة لرسائل النور والخصال الراقية جدا لشخص طلابها المعنوي لو وضعت -تلك المعاني الضخمة كالجبال- على كاهلِ شخص ضعيف عاجز مثلي قد بالغ في سلوك طريق العجز، فإنه ينسحق تحتها وينقبض من تلك الأمور.. هكذا فهمتُ.

الراجي دعواتكم والمشتاق إليكم

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[العلاج الوحيد: رسائل النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لا تتألموا من حادثة التعرض لنا التي وقعت حديثا. لأن رسائل النور تحت العناية الإلهية. وثبت بتجارب عديدة، أنه لم يحدث لحد الآن أن نجت طائفةٌ من الطوائف العاملة في خدمات جليلة بمشقات قليلة مثلنا…

اعلموا وليعلم أولئك أيضا؛ كما أن الصدقة تدفع البلاء فإن رسائل النور وسيلةٌ لدفع الآفات السماوية من الأناضول ورفعِها ولاسيما من إسبارطة وقسطموني.

نعم، إن رسائل النور سبب من أسباب نجاة الأناضول من مهالك الكرة الأرضية وعقابها. وكأنها سفينة نوح عليه السلام بحيث جعلت الأناضول في حكم «الجودي». لأن الطغيان الناشئ من ضعف الإيمان يجلب المصيبة العامة على الأكثر. فرسائل النور التي تقوّي الإيمان أصبحت وسيلة لدى الرحمة الإلهية لدفع تلك المصيبة العامة خارج دائرتها. فهؤلاء، أهل الدنيا وأهل الأناضول، عليهم ألّا يتعرضوا لرسائل النور حتى ولو لم ينخرطوا فيها. فلو تعرضوا لها فعليهم أن يفكروا بنشوب الحرائق وحدوث الطوفان وانتشار الطاعون المنتظر قريبا، وليعودوا إلى رشدهم.

ولما كنا لا نتعرض لدنياهم فهناك احتمال قوي في نزول البلايا عند تعرضهم -إلى هذا الحد وبلا مبرر- لآخرتنا.

ألا فليعلم أهل السياسة علما قاطعا رغم أننا لا علاقة لنا بهم: أن العلاج الوحيد لإنقاذ الأمة في هذه البلاد وفي هذا العصر من الفوضى والإرهاب ومن التردي المريع والتدني الرهيب هو أسس رسائل النور.. وليعلم أولئك الأبرياء -وأستاذهم- الذين تعرضوا لمضايقات من جراء هذه الحادثة أن الذي يرابط تحت ظروف صعبة، ينال ثواب عبادة سنة، وأنّ ساعةَ تفكّرٍ إيمانيّ حقيقي في حكم سنة من الطاعة. فنسأله تعالى أن تنال مضايقاتهم مثل هذا الثواب. لذا عليهم أن يقابلوا أمثال هذه الحوادث بالفرح والسرور بدلا من القلق والتألم.

* * *

[خدمتنا تسعى لإنقاذ النظام والأمن]

جاءني موظف مسؤول له علاقة معنا ومع السياسة ومنشغل بمراقبتنا كثيراً.

فقلت له: إنني لم أراجعكم منذ ثماني عشرة سنة، ولم أقرأ صحيفة واحدة من الصحف، وها قد مرت ثمانية شهور لم أسأل ولو مرة واحدة عما يحدث في العالم، ولم أستمع إلى الراديو الذي يُسمع هنا منذ ثلاث سنوات. كل ذلك كي لا يَلحق ضرر معنوي بخدمتنا السامية.

والسبب في ذلك هو أن خدمة الإيمان وحقائقِ الإيمان هي أجلّ من كل شيء في الكون، فلا تكون أداة لأي شيء كان؛ فإن خدمة القرآن الكريم قد منعتنا كلياً من السياسة؛ حيث إن أهل الغفلة والضلالة في هذا الزمان الذين يبيعون دينهم للحصول على حطام الدنيا ويستبدلون بالألماس القطعَ الزجاجية المتكسرة، يحاولون اتهام تلك الخدمة الإيمانية بأنها أداة لتيارات قوية خارج البلاد وذلك للتهوين من شأنها الرفيع.

فأنتم يا أهل السياسة والحكومة! لا تنشغلوا بنا بناءً على الظنون والأوهام، بل عليكم أن تذللوا المصاعب لنا وتسهّلوا الطريق أمامنا، لأن خدمتنا تؤسس الأمن والاحترام والرحمة، وتسعى لإنقاذ النظام والأمن والحياة الاجتماعية من الفوضى والإرهاب. فخدمتنا ترسي ركائز وظيفتكم الحقيقية وتقويها وتؤيدها.

* * *

[حول آثار سعيد القديم والجديد]

لقد اطلعت في هذه الأيام على الرسائل التي أتى بها «صلاح الدين» من إسطنبول وهي: «حَبة، قطرة، شمة، حباب» وأمثالها من الرسائل باللغة العربية. فرأيت أن الحقائق التي شاهَدها مباشرةً سعيدٌ الجديد في سيره القلبي هي بمثابة نَوىً لرسائل النور. علما أن هذه الرسائل -علاوة على «شعلة وزهرة»- هي أجزاء عربية من رسائل النور. ولكن ذُكرتْ فيها الحقائق بعبارات موجزة وبالعربية لأنها تخاطب نفسي بالذات فلـم يُتخذ غيرها بنظر الاعتبار. وقد قدّرها بإعجاب واستحسـان في ذلك الوقت كلٌّ من شيخ الإسلام وأعضاءِ دار الحكمة الإسلامية وكبار علماء إسطنبول. فهذه الرسائل لأنها من آثار سعيد الجديد فهي أجزاء من رسائل النور. أما آثار سعيد القديم فإن كتاب «إشارات الإعجاز» يتبوأ موقعا مهما فيها.

ثم إن رسالة «اللوامع» التي اشترك السعيدان في تأليفها بين هلالَي شهر رمضان، والتي اتخذت شكلا شبيها بالمنظوم -خارج إرادتي- هي الأخرى يمكن أن تدخل ضمن رسائل النور. إلّا أنني -مع الأسف- لم أتمكن من الحصول ولو على نسخة منها حيث نفدت نسخها المطبوعة لكثرة الإقبال عليها.

وكذا فإن لسعيد القديم رسالة «قزل إيجاز» في المنطق وهي مترشحة من رسالة «تعليقات» غير المطبوعة، وهي رسالة بديعة في المنطق حتى تحير منها العلماء الفطاحل فساقتهم إلى الإعجاب والاهتمام. فرأيت أنها جديرة بلفت أنظار العلماء من طلاب رسائل النور إليها وبيان مدى ارتباطها برسائل النور. إلّا أنها عميقة الغور جدا، وقد درّست «فيضي» منها في هذه الأيام. ولربما سيكتب «فيضي» ذلك الدرس بالتركية في الأيام المقبلة لإفادة الآخرين.

* * *

[دور الجوع في فتنة آخر الزمان]

إخوتى الأعزاء الأوفياء الثابتين ووارثيَّ الحقيقيين!

لقد أُخطر على قلبي في هذه الأيام -باسم طلاب رسائل النور- سؤال معنوي في غاية الأهمية والقلق. ثم أدركت أن أكثر ألسنة أحوال طلاب رسائل النور تسأل السؤال نفسه وستسأله. وفجأةً ورد جوابٌ إلى الخاطر قلته لفيضي، فقال: في الأقل نسجله مجملا.

والسؤال المقلق هو: يفهم من الروايات أن الجوع سيؤدي دورا مهما في فتنة آخر الزمان هذه، وأن أهل الضلالة يحاولون بهذا التجويع إغراق أهل الإيمان الضعفاء الجائعين في متطلبات هموم العيش حتى يُنَسُّوهم مشاعرهم الدينية أو يجعلوها في المرتبة الثانية
أو الثالثة.

ولما كان لأهل الإيمان وللأبرياء من حيث القدر الإلهي وجهُ رحمةٍ ووجهُ عدالة في كل شيء، حتى في عذاب القحط. تُرى بأي طرز تكون هذه الرحمة والعدالة في هذا الأمر؟ ومن أية جهة يستفيد أهلُ الإيمان ولاسيما طلاب رسائل النور من هذه المصيبة -من حيث الإيمان والآخرة- وكيف يتصرفون معها ويقاومونها؟

الجواب: إن أهم سبب لهذه المصيبة هو العصيان النابع من كفران النعمة وعدمِ الشكرِ وعدم تقدير النعمة الإلهية حقَّ قدرها. لذا فإن العادل الحكيم لأجل إراءة اللذة الحقيقية لنعَمه ولاسيما الأغذية منها ولاسيما ما يخص الحياة ولاسيما النعمة الكبرى: الخبز.. ولبيان أهميته العظيمة ودرجته الفائقة من حيث النعمة، فإنه سبحانه يَسوق الناس إلى الشكر الحقيقي -وفقا لحكمته تعالى- فتنـزل هذه المصيبة بالذين لا يشكرون ربهم ولا يراعون الرياضة الدينية في شهر رمضان. فعدلُه سبحانه وتعالى محض الحكمة.

إن مهمة أهل الإيمان وأهل الحقيقة ولاسيما طلاب رسائل النور هي السعي لجعل بلاء الجوع هذا وسيلة الالتجاء إلى الله والندم على الذنوب والتسليم لأمر الله، كالجوع الذي يصيب المرء عند مزاولته الرياضة الدينية في شهر رمضان، والحيلولة دون فتح السبيل أمام التسول والسرقة والفوضى بحجة الضرورة، والسعي لدفع الزكاة إلى أولئك الفقراء الجائعين الذين لا يرأف بحالهم قسمٌ من الأغنياء وبعض أهل المرتّبات، فيستمعوا لرسائل النور ويرأفوا بحالهم بشعورهم بهذا الجوع الاضطراري.. وجعل الشباب تلك الحادثة لصالحهم بدلا من أن تكون بلاءً عليهم وذلك باسترشادهم برسائل النور فيستفيدوا منها استفادة الغيارى، حيث تَحدّ المصيبةُ من طغيان نفوسهم وتَحول بينهم وبين نزواتها وأذواقها الدنيئة، حتى يدخلوا حظيرة الطاعة والخيرات، وينسحبوا -إلى حدٍ ما- من الذنوب والفحش بعدما أطغوا نفوسَهم بالأطعمة اللذيذة فأفقدوها وعيَها وساقوها إلى الطغيان والهوى الدنيء.. وأن ينظر أهلُ العبادة والصلاح إلى هذا البلاء النازل بهم كرياضة شرعية في هذا الوقت الذي أصبح أغلبُ الناس جياعا واختلط المال الحرام بالحلال اختلاطا شديدا حتى استحال تمييز أحده عن الآخر وأصبح بمثابة الأموال المشبوهة، فيقنعوا بمقدار الضرورة من الإعاشة العامة -التي يشترك فيها الجميع ضمنا- ليكون حلالا. فيقابلوا القدر الإلهي بالرضا بدلا من الشكوى.

تحياتي إلى الإخوة جميعا والمبتلَين منهم خاصة وأدعو الله لهم بالسلامة.

* * *

[الالتحاق برسائل النور]

لقد أتى واعظ مشهور من إسطنبول لزيارتي إلّا أنه عاد دون أن يتمكن من المقابلة. فها هي صورة رسالة أُرسلت إلى أحدهم، لعل هناك أشخاصا -كهذا الشخص- محتاجون إلى ذلك الخطاب.

إن طلاب رسائل النور الذين مروا بإسطنبول أخبرونا عن همتكم ونشاطكم ووعظكم المؤثر، فهم يرغبون في رؤيتكم ضمن دائرة رسائل النور وأنتم الشخص الثابت الخالص، وأنا كذلك أرغب بجد في أن أراكم ضمن دائرة رسائل النور.

تعلمون أن ألِفَينِ إذا ما كانتا متفرقتين لا تكون قيمتهما إلّا اثنتين، بينما إذا اتّحدتا على خط واحد متكاتفتين تكون قيمتهما إحدى عشرة. فالخدمة الإيمانية التي تهيئونها بنصائحكم السديدة المؤثرة إذا ظلت وحدها فمن الصعب أن تقاوِم الهجماتِ المتحدة في الوقت الحاضر. بينما إذا التحقت بخدمة رسائل النور فستكون -كتلكما الألفين- قيمتها إحدى عشرة بل أَلفا ومائة وإحدى عشرة وفي قوتها. وستقاوم الضلالات المتفقة المواجهة لها.

* * *

[الشخص المعنوي]

إن هذا الزمان -لأهل الحقيقة- زمانُ الجماعة، وليس زمانَ الشخصية الفردية وإظهارِ الفردية والأنانية. فالشخص المعنوي الناشئ من الجماعة هو الذي ينفّذ حكمُه ويصمد تجاه الأعاصير. فلأجل الحصول على حوض عظيم، ينبغي للفرد إلقاء شخصيته وأنانيته التي هي كقطعة ثلج في ذلك الحوض وإذابتُها فيه. وإلّا فستذوب حتماً تلك القطعةُ من الثلج، وتذهب هباءً وتفوت الفرصة من الاستفادة من ذلك الحوض أيضاً.

إنه لمن العجب وموضع الأسف أن يضيِّع أهل الحق والحقيقة القوةَ العظمى في الاتفاق بالاختلاف فيما بينهم، بينما يتفق أهل النفاق والضلالة للحصول على القوة المهمة فيه -رغم اختلاف مشاربهم- فيغلبون تسعين بالمائة من أهل الحقيقة مع أنهم لا يتجاوزون العشرة بالمائة.

* * *

[شجاعة المضحين]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

الآن وقبل عشر دقائق أتاني شخصان بشجاعة وغيرة، وهما أميّان. قد جلب أحدهما الآخر إلى دائرة رسائل النور. فقلت لهما: إنه مقابل ما تمنح هذه الدائرةُ من نتائج عظيمة لكم يستدعي وفاءً لا يتزعزع وصلابة لا تلين. فإن أساس خدمة النور التي يظهرها أبطالُ إسبارطة هو وفاؤهم الخارق وصلابتهم الشديدة، وأن قوة الإيمان وخصلة الإخلاص هي سبب هذه الصلابة والمتانة. والسبب الثاني، الشجاعة الفطرية.

وقلت لهم: أنتم معروفون بالشجاعة والنُبل، وتُظهرون البسالة والتضحية لأمور دنيوية تافهة. فلاشك أنكم تحافظون على وفائكم في الخدمة السامية لرسائل النور ومقابلَ النتائج الأخروية التي لا تثمّن بإظهاركم صلابة الرجال الغيورين وشجاعةَ المضحين الفدائيين. قلت لهم هذا وقبلوه ورضوا به.

* * *

رسائل متفرقة (4)

 [ختمة جماعية]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أولا: نبارك لكم ليلة نصف شعبان وشهر رمضان المقبل، ونسأله تعالى أن يجعل ليلة القدر خيرا لكم ولنا من ألف شهر، ويُدخلها هكذا في سجل أعمالنا.

وقد عزمنا على أن ندعو حتى العيد بهذا الدعاء: «اللهم اجعل ليلة القدر في شهر رمضان خيرا من ألف شهر لنا ولطلبة رسائل النور».

ولقد قمنا بتوزيع أجزاءِ مصحفين شريفين على كل طالب من طلاب النور الخواص هنا، بحيث يقرأ كلٌّ منهم يوميا جزءا مخصصا له. وبهذا تُختَم كل يوم -من أيام شهر رمضان المبارك- ختمتان للقرآن الكريم، في مجلس معنوي واسع جدا يضم إسبارطة وقسطموني معا، يتوسطهما طلاب رسائل النور حيث يتصور كلٌّ منهم نيّةً جميعَ الطلاب معه. نسأله تعالى أن يوفقنا في ذلك.

* * *

[الاشتراك في الأعمال الأخروية]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بقدر حاصلِ ضربِ عاشراتِ دقائقِ ليلة القدر في حروف القرآن.

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أولا: أهنئكم بحلول شهر رمضان المبارك بملء روحي ووجداني وأبتهل إلى أرحم الراحمين تعالى أن يستجيب لدعواتكم التي ترفعونها في هذا الشهر المبارك.

ثانيا: إن شهر رمضان لهذه السنة له أهمية جليلة للعالم الإسلامي عامة ولطلاب النور أيضا بمضمون دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، ذلك الدستور الأساسي الجاري بين طلاب رسائل النور. فإنّ دخول ما يكسبه كلُّ طالب من حسنات إلى دفتر حسنات إخوانه كاملةً، هو مقتضى ذلك الدستور والرحمة الإلهية. لذا تكون مغانمُ الحسنات عظيمة جدا وكلية لمن يدخل دائرة رسائل النور بصدق وإخلاص، حيث يغنم كلُّ واحد منهم ألوفا من الحصص. نسأله تعالى أن يجعل ذلك الاشتراك كالاشتراك في الأموال الدنيوية -ولكن بدون انقسام ولا تجزئة- اشتراكًا كاملا بدخولها كاملة في دفتر حسنات إخوانه كدخول ضياءِ مصباح في ألوف المرايا. بمعنى أن طالبا من طلاب النور الصادقين إذا ما غنم حقيقةً ليلةَ القدر وتمكّن من كسب المرتبة الرفيعة لشهر رمضان المبارك، نأمل أملا عظيما من سعة رحمته تعالى أن يملّك سبحانه جميعَ الطلاب الصادقين تلك الغنيمة.

* * *

[النساء في طريق النور]

إخوتى الأعزاء الأوفياء الأبطال الميامين!

أولا: إن كل أخ من إخواننا الخواص في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، بمثابة الملائكة المالكين لأربعين ألف لسان، أي له أربعون ألف لسان معنوي -أي بعدد الإخوة- وذلك بالدستور الأساس، وهو دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، لذا فإن ما يدعون أو ما سيدعون من دعوات في هذا الشهر المبارك، نرجو من رحمته تعالى أن يكون مقبولا بعدد تلك الألسنة. فهنيئا لكم شهركم هذا شهر رمضان الحامل لهذه الماهية الفاضلة.

ثانيا: كان المفروض أن يكون الجواب كتابا كاملا لرسائلكم في هذه المرة، تلك الرسائل المتعددة المؤثرة السارة الحاملة للبشارات، إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك فلا تتألموا من الجواب المقتضب…

فلله الحمد ألف ألف مرة، إن الأمهات المباركات في تلك القرية وسيداتها -قرية ساو- قد عرفن رسائل النور ويقدرنها حق قدرها. فلقد أبكتني -وأبكتنا جميعا- بكاءَ فرح وسرور التضحيةُ التي بذلتها أولئك السيدات العزيزات أخواتي في الآخرة المخلصات في نشر رسائل النور.

من المعلوم أن أهم أساس في مسلك رسائل النور هو الشفقة. وحيث إن السيدات هن معدن الشفقة ومنبعها، فقد كنت أنتظر -منذ مدة- أن تُفهَم ماهية رسائل النور في عالم النساء، والحمد لله فإن السيدات هنا وحوالينا يعملن عملا جادا وبشوق وفعالية أكثر من الرجال، فأظـهرن أنهن حقا أخواتٌ مباركات في قرية ساو. فهذان الأمران الظاهران فأل حسن في أن رسائل النور ستسطع وتنور وتفتح قلوب أولئك السيدات معادن الشفقة.

ثم إن الرعاة الشجعان لقرية ساو الذين ينقلون في جعبهم رسائل النور ليستكتبوها، قد أبدوا تضحية وبسالة كأولئك السيدات هناك. مما يثير الهمم ويبث الشوق في هذه المناطق أيضا.

إننا نرغب في معرفة أسماء أولئك السيدات والرعاة كي يدخلوا بأسمائهم الخاصة ضمن الطلاب الخواص…

* * *

[حادثتان لهما مغزى]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أبين لكم حادثتين لطيفتين لهما مغزى وبشارة:

أولاها: [مقابلة الذنوب المهاجمة]

تنبيه يحمل بشرى وردت من خاطرة يائسة، حيث ورد على خاطري في هذه الأيام ما يأتي:

إن الذي يختلط بالحياة الاجتماعية، ما إن يمس شيئا إلّا ويجابَه بالآثام والذنوب في أغلب الأحوال. فالذنوب تحيط بالإنسان من كل جهة. تُرى كيف تقابِل العبادةُ الخاصة للإنسان وتقواه الخاصة هذه الذنوبَ جميعَها؟ تأملتُ في هذا التفكير اليائس، حيث تذكرت أوضاع طلاب رسائل النور المندمجين في الحياة الاجتماعية، وفكرت في الوقت نفسه في إشاراتٍ قرآنية وبشاراتِ الإمام علي والشيخ الكيلاني حول نجاة طلاب رسائل النور وكونهم من أهل السعادة.

فقلت في قلبي: كيف يقابل طالبُ النور بلسان واحد هجماتِ ذنوبٍ تَرِد من ألف جهة، وكيف يتغلب عليها، وكيف ينجو منها؟ فأخذتني الحيرة. فخطر على قلبي تجاه هذه الحيرة ما يأتي:

إنه حسب الدسـتور الأسـاس الجاري بين طلاب رسـائل النور الحقيقيين الصادقين، وهو الاشتراك في الأعمال الأخروية، وبسر التساند والترابط الخالص، فإن كل طالب خالصٍ صادقٍ لا يتعبد بلسان واحد بل بعدد ألسنة إخوانه جميعا، فيستغفر ربه بعدد تلك الألسنة، ويقابِـل الـذنوبَ المهاجمة من ألـفِ جهةٍ بألــوفِ ألـوفٍ من الألسنة المستغفِرة العابدة.

إن طالبا خالصا حقيقيا متقيا، يعبد ربه بأربعين ألف من ألسنة إخوته -كالملائكة المسبّحة بأربعين ألف لسان- سيكون أهلا للنجاة بإذن الله، ويكون من أهل السعادة بفضل الله ويصبح مالكا لعبادة رفيعة كلية بالوفاء الخالص حسب درجته وبالعمل الجاد ضمن دائرة رسائل النور وبالتزام التقوى واجتناب الكبائر.

فلأجل ألّا يُفوت هذا الربح العظيم ينبغي السعي الحثيث في التقوى والإخلاص والوفاء.

ثانيتها: [جبة مولانا خالد]

عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر وجدت موانع حالت دون قيام أحد من الأساتذة بوضع العمامة ولفّها على رأسي وإلباسي الجبة، كدليل على الشهادة العلمية، كما كانت العادة جارية سابقا. فما كان لبس الجبة الخاصة بالعلماء والكبار يلائم سني الصغير…

ثانيا: كان العلماء في ذلك الوقت، قد اتخذوا موقف المنافس لي أو التسليم التام فلم يتمكنوا أن يتقلدوا طور الأستاذ. وحيث إن عددا من الأولياء العظام قد ارتحلوا من الدنيا، لذا لم يجد أحد في نفسه الكفاءة ليُلبسنى الجبة أو يضع على رأسي العمامة.

فمنذ خمسين سنة كان من حقي هذه العلامةُ الظاهرة لنيل الشهادة وهى لبس الجبة وتقبيلُ يد أحد الأساتذة وقبولُه أستاذا.. ولكن تقديم جبة مولانا خالد النقشبندي من بُعد مائة سنة مع العمامة الملفوفة بها وإرسالها إليّ في هذا العام بأسلوب غريب جدا لكي ألبسها، قد أورثني قناعة ببعض الأمارات. فأنا ألبس تلك الجبة المباركة التي يبلغ عمرها مائة سنة وأشكر ربي بمئات الألوف من الشكر والحمد.([1])

* * *

[مسألتان وردتا إلى القلب]

لقد وردت في هذه الأيام مسألتان دقيقتان إلى القلب، لم أستطع تدوينهما، إلّا أننا بعد فوات ذلك الأوان نشير إشارة فقط إلى تلك الحقائق المهمة:

أولاها: [إلى المتكاسل في أذكار الصلاة]

لقد قلت لأحد إخواننا الذي أظهر تكاسلا وفتورا في قراءة الأذكار بعد الصلاة:

إن تلك الأذكار والأوراد عقب الصلاة هي سنة نبوية مطهرة وطريقة محمدية شريفة، وهي أوراد الولاية الأحمدية، فأصبحت أهميتُها من هذه الزاوية عظيمة.

ثم وضّحت حقيقة هذا القول بهذا الشكل: مثلما أن الولاية الأحمدية التي انقلبت إلى الرسالة هي فوق جميع الولايات قاطبة، فإن طريقة تلك الولاية الكبرى وأذكارها عقب الصلاة هي فوق سائر الطرق والأوراد بالدرجة نفسها. ثم انكشف هذا السر كما يأتي:

كما أن كل ذاكر في حلقة الذكر، أو في ختمة الذكر في المسجد. يشعر برابطة روحية، تربطه بمن حوله، فيحسون جميعا بحالة روحية نورانية، فإن ذا القلبِ اليقظ يحس إحساسا روحيا كلما سبّح بـ«سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله..» بعد الصلاة، أنه في حلقة ذكر مع مائة مليون من المسبّحين الذاكرين، كأنهم بين يدي الرسول ﷺ، الذي يترأس تلك الحلقة الذاكرة المترامية الأطراف.

فبهذه الأحاسيس الشاعرة بالعظمة والهيبة والرفعة والعلو يكرر المؤمن: «سبحان الله.. سبحان الله».

ثم إنه عندما يردد «الحمد لله.. الحمد لله..» بأمر معنوي صادر من ذلك السيد الكريم ﷺ فإنه يتأمل ويفكر في عظمة تلك الكلمة: (الحمد لله) المنطلقة من صدور مائة مليون من المردِّدين في تلك الحلقة الواسعة الشاسعة، فيشترك معهم بقوله: «الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله..».

وهكذا، مع كلمة «الله أكبر.. الله أكبر..» ومع «لا إله إلّا الله.. لا إله إلّا الله» ثلاثا وثلاثين مرة، حيث يختم الذكر..

وبعد إتمام هذه الأذكار اللطيفة بتلك المعاني والتأمل الأخوي يتوجه إلى سيد الحلقة الذاكرة وهو الرسول الكريم ﷺ حاملا معه تلك المعاني المذكورة مع إخوانه في حلقة الذكر قائلا: ألف ألف صلاة وألف ألف سلام عليك يا رسول الله.

أجل، هكذا أحسست، وهكذا فهمت، بل هكذا رأيت خيالا، لذلك أقول: إن الأذكار عقب الصلاة، لها أهمية كبرى.

المسألة الثانية: [لِمَ تُفضَّل الدنيا على الآخرة؟]

إن خاصية هذا العصر هي أنها تجعل المرء يفضّل بعلمٍ الحياةَ الدنيا على الحياة الباقية. حتى أصبح تفضيل الزجاج القابل للكسر على الألماس الباقي عن علم، يجري وكأنه دستور وقاعدة عامة.

فكنت أحار من هذا حيرة شديدة، ولكن أُخطر على قلبي في هذه الأيام الآتي:

كما أنه إذا اشتكى عضو من الجسد تداعى له سائرُ الجسد تاركا قسما من وظائفه، كذلك جهاز الحرص على الحياة والحفاظ عليها والتلذذ بالحياة وعشقها، المندرج في فطرة الإنسان قد جُرح في هذا العصر فبدأ يُشغل سائرَ اللطائف به، لأسباب عديدة محاولا دفعَها إلى نسيانِ وظائفها الحقيقية.

فلو كان هناك حفل بهيج جذاب حافل بالسفاهة والسكر لانجذب إليه حتى الذين لهم مقامات رفيعة والنساء المحجبات العفيفات كما ينجذب الأطفال والسائبون، فيشتركون معا بجاذبيةِ ذلك الحفل تاركين وظائفهم الحقيقية.

كذلك الحياة الإنسانية في هذا العصر ولاسيما الحياة الاجتماعية؛ فقد اتخذت وضعا مخيفا ولكن ذات جاذبية، وحالةٍ أليمة ولكن تثير اللهفة والفضول، بحيث تجعل عقلَ الإنسان وقلبه ولطائفه الرفيعة تابعةً لنفسه الأمارة بالسوء حتى تحوّم كالفراش حول نار تلك الفتنة وترديها فيها.

نعم، هناك في حالات الضرورة رخصة شرعية في تفضيل الحفاظ على الحياة الدنيوية وترجيحها مؤقتا على بعض الأمور الأخروية. ولكن لا يمكن تفضيلها بناء على ضرر لا يلحقه هلاك ولأجل حاجة فحسب، فلا رخصة في هذا. والحال أن هذا العصر قد غرز حبَّ الحياة الدنيوية في عروق الإنسان، حتى إنه يترك أمورا دينية ثمينة جدا كالألماس لحاجة صغيرة تافهة، أو لئلا يصيبه ضررٌ دنيوي اعتيادي.

نعم، إن هذا العصر الذي رُفعت منه البركةُ من جراء الإسراف المتزايد وعدمِ مراعاة الاقتصاد، ومن عدم القناعة مع الحرص الشديد، فضلا عن تزايد الفقر والحاجة والفاقة وهموم العيش، مما سبب جروحا بليغة في تطلع الإنسان للعيش وفي نزوعه لحفظ الحياة، علاوة على تشعب متطلبات الحياة المرهقة، زد على ذلك استمرار أهل الضلالة بتوجيه كل الأنظار إلى الحياة.. كل ذلك عمّق تلك الجروح حتى دفع الإنسان ليفضّل أدنى حاجة من حاجات الحياة على مسألة إيمانية عظيمة.

نعم، إنه لا يصمد تجاه هذا المرض العجيب لهذا العصر العجيب ولسقمه الرهيب إلّا رسائل النور الناشرة لأدوية القرآن المبين التي لها فعل المضاد للسموم. ولا يمكن أن يقاوِم هذا المرضَ العضال إلّا طلابُ رسائل النور الأقوياء الثابتون الذين لا يتزعزعون، الخالصون الصادقون المضحون.

ولهذا ينبغي الإسراع إلى الالتحاق بدائرة النور والالتزام بها مع كامل الوفاء والثبات والجدية والإخلاص والثقة، حتى يمكن الخلاص من آثار ذلك المرض العجيب الرهيب.

تحياتنا إلى الإخوة جميعا فردا فردا مع الدعاء لهم بالخير.

يا إخوتي! إن فعالياتكم ونشاطكم وثباتكم هي بمثابة النابض المحرك لدائرة رسائل النور بحيث تحفزوننا على الحركة والعمل هنا، وفي أماكن أخرى كثيرة. ليرضَ الله عنكم أبدا. آمين آمين ألف ألف آمين.

* * *

[الآلام في اللذائذ الظاهرية]

لمناسبة الرسالة التي كتبتُها لكم قبل بضعة أيام حول غلبة الحياة الدنيوية على الحياة الدينية ظهر معنىً دقيق جدا لقلبي، قد لا يُعبّر عنه بالقلم. ولكني سأشير إليه إشارة في غاية الاختصار:

إنني شاهدت أن ما يخدع أهل الضلالة في هذا العصر العجيب ويجعلهم سكارى ثملين، هو أن ما يتلذذون به من أوضاع فانية لذةً ظاهرية هو في الحقيقة في منتهى الألم. بينما شعرت -بما لا أتمكن من التعبير عنه- أن أهل الإيمان والهداية يتلذذون لذة علوية في نفس الموضع من تلك الأمور والأوضاع الفانية. فلقد أثبتت رسائل النور في مواضع عدة؛ أن كل شيء معدومٌ لأهل الضلالة سوى الحال الحاضرة، لذا فكل شيء بالنسبة إليهم مليء بالآم الفراق، بينما الماضي والمستقبل وما فيهما موجودان منوَّران لأهل الإيمان.

ولقد شاهدت أن الأوضاع الموقتة الفائتة لأهل الدنيا معدومة في ظلمات الفناء المطلق، بينما تلك الأوضاع نفسها موجودة لأهل الهداية، لأنني تذكرت بحسرةٍ الأوضاعَ الموقتة التي مرّت عليّ، وهي أوضاع تحمل لذائذ وأهميةً وشأنا فاشتقت إليها. ولكن ما إن ورد على ذهني أن تلك الأوضاع الطيبة فنيَت في الماضي، إذا بنور الإيمان يذكّرني: أنها باقية من نواحٍ عدة رغم فنائها الظاهرى، لأن تلك الأوضاع جلوات اسم الله الباقي سبحانه، فهي باقية في دائرة العلم الإلهي والألواحِ المحفوظة والألواحِ المثالية. فالعلاقات التي تربطنا بتلك الأوضاع يورثها نور الإيمان بقاءً ووجودا فوق الزمان. فيمكنك مشاهدة تلك الأوضاع من نواحٍ عديدة كثيرة وكأنها سينما معنوية كثيرة بل يمكنك الدخول فيها. فقلت: «مادام الله موجودا فكل شيء موجود إذن». هذا الكلام الذي أصبح مضرب المثل يمثل حقيقةَ: «من كان لله تعالى كان له كل شيء، ومن لم يكن له، كان عليه كل شيء فكل شيء معدوم له».

بمعنى أن الذين يفضلون درهما من لذة تحمل آلاما وحسرات وظلمات على أضعافها من اللذائذ التي لا تحمل ألما في الموضع نفسه، لاشك أنهم سيقابلون -بما يخالف مقصودهم- الألم في موضع اللذة.

* * *

[خدمة الإيمان فوق كل شيء]

إن طلاب رسائل النور الحقيقيين يرون خدمة الإيمان فوق كل شيء. بل حتى لو مُنحوا درجة القطبية يرجّحون عليها خدمة الإيمان حفاظا على الإخلاص.

نحن طلاب رسائل النور؛ وظيفتُنا الخدمةُ، خدمةُ الإيمان والقرآن، وعدمُ التدخل في أمور الله، وعدم بناء خدمتنا على تلك الأمور الذي يومئ إلى ما يشبه التجربة والاختبار. فضلا عن أننا نهتم بالنوعية دون الكمية.

لقد أدت أسباب رهيبة منذ سالف الزمن إلى تدهور الأخلاق واستحبابِ الدنيا على الآخرة وتفضيلِها عليها في كل شيء. فضمنَ هذه الأحوال المحيطة، فإن فتوحات الإيمان التي تكسبها رسائل النور حتى الآن، وكسرَها لصولة الزنادقة وهجوم الضلالة، وإنقاذَها إيمانَ مئات الألوف من الناس المنكوبين، وتربيتَها مئاتٍ بل ألوفَ المؤمنين الحقيقيين الذين يعادل كلٌّ منهم مائة ألفٍ من غيرهم، أثبتت إثباتا قاطعا بحوادث واقعية -وستثبت بإذن الله في المستقبل- إخبار المخبر الصادق ﷺ وصدّقته تصديقا فعليا. وقد ترسخت في العروق إلى درجة لا يمكن لأي قوة كانت أن تجتثها بإذن الله من صدر الأناضول، حتى يأتي بإذنه تعالى في آخر الزمان أصحابُها الحقيقيون في الدائرة الواسعة للحياة، أي السيد المهدي وطلابه، فيوسّعون تلك الدائرةَ وتتسنبل البذورُ المزروعة، فنشاهد نحن ذلك المشهد من قبورنا ونشكر ربنا.

* * *

[ورطة المتدينين]

إن هذا العصر العجيب الذي أثقل كاهل الإنسان بالحياة الدنيوية بما كثّر عليه من متطلبات الحياة وضيّق عليه مواردَها، وحوّل حاجاته غير الضرورية إلى ضرورية بما ابتلاه من تقليد الناس بعضهم بعضاً، ومن التمسك بعادات مستحكِمة فيهم، حتى جعل الحياة والمعاش هي الغاية القصوى والمقصد الأعظم للإنسان في كل وقت.

فهذا العصر العجيب أسدل بهذه الأمور حجاباً دون الحياة الدينية والأخروية والأبدية، أو في الأقل جَعَلها أمراً ثانوياً أو ثالثياً بالنسبة له. لذا جوزي الإنسان على خطئه هذا بلطمة قوية شديدة حوّلت دنياه إلى جحيم لا تطاق. وهكذا يتورط المتدينون أيضاً في هذه المصيبة الرهيبة، ولا يشعر قسم منهم أنهم قد وقعوا في الورطة.

وأذكر مثالاً: رأيت عــدداً من الأشـــخاص -من أهــل التقوى- يَرغبـون في الـديــن ويحبون أن يقيموا أوامره كي يوفقوا في حياتهم الدنيوية ويفلحوا في أعمالهم. حتى إن منهم من يطلب الطريقة الصوفية لأجل ما فيها من كرامات وكشفيات؛ بمعنى أنه يجعل رغبته في الآخرة وثمارها تَكِئَةً ومرتبة سُلّمٍ للوصول إلى أمور دنيوية، ولا يَعلم هذا أن الحقائق الدينية التي هي أساس السعادة الدنيوية كما هي أساس السعادة الأخروية، لا تكون فوائدُها الدنيوية إلّا مرجِّحة ومشوقة، فإذا ارتقت تلك الفائدة إلى مرتبة العلة لِعَمَلِ البر، فإنها تبطله، وفي الأقل يفسد إخلاصه، ويُذهب ثوابه. وقد ثبت بالتجربة أن أفضل منقذ مِن ظلم هذا العصر المريض الغادر المشؤوم ومن ظلماته الدامسة؛ هو النور الذي تشعه رسائل النور بموازينها الدقيقة وموازناتها السـديدة. يشهد على صدق هذا أربعون ألف شاهد.

بمعنى أن القريبين من دائرة رسائل النور إن لم يدخلوها، فهناك احتمال قوي لهلاكهم.

نعم، إن هذا العصر قد جعل حتى المسلمين يستحبّون الحياة الدنيا ويرجّحونها على الآخرة على علم منهم ورغبة فيهم، كما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿يَسْتَحِبُّونَ الْحَيٰوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْاٰخِرَةِ (إبراهيم:3).

* * *

[مصير الأبرياء من الكفار في البلايا]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

لقد مسّ مسّاً شديداً مشاعري وأحاسيسي المفرطة في الرأفة والعطف ما أصاب الضعفاء المساكين من نكبات وويلات ومجاعات ومهالك من جراء هذه الطامة البشرية التي نزلت بهم وفي هذا الشتاء القارس… ولكن على حين غرة نُبّهتُ إلى أن هذه المصائب وأمثالها تنطوي على نوع من الرحمة والمُجازاة -حتى على الكافر- بحيث تهوّن تلك المصيبةَ، فتظل هيّنة بسيطة بالنسبة إليهم. وأصبح هذا التنبيه مرهماً شافياً لإشفاقي المؤلم على الأطفال والعوائل في أوروبا وروسيا، رغم أنني لم أتلق شيئاً عن أوضاع الدنيا وأخبار الحرب منذ بضعة أشهر.

نعم، إن الذين نزلت بهم هذه الكارثة العظمى -التي ارتكبها الظالمون- إن كانوا صغاراً وإلى الخامسة عشرة من العمر، فهم في حكم الشهداء، من أي دين كانوا. فالجزاء المعنوي العظيم الذي ينتظرهم يهوّن عليهم تلك المصيبة. أما الذين تجاوزوا الخامسة عشرة من العمر، فإن كانوا أبرياء مظلومين، فلهم جزاء عظيم ربما ينجيهم من جهنم، لأن الدين -ولاسيما الإسلام- يُستر بستار اللامبالاة في آخر الزمان، وأن الدين الحقيقي لسيدنا عيسى عليه السلام سيحكم ويتكاتف مع الإسلام. فيمكن القول بلا شك: إن ما يكابده المظلومون من النصارى المنتسبين إلى سيدنا عيسى عليه السلام والذين يعيشون الآن في ظلمات تشبه ظلمات «الفترة»، وما يقاسونه من الويلات تكون بحقهم نوعاً من الشهادة، ولاسيما الكهول وأهل النوائب والفقراء والضعفاء المساكين الذين يقاسون النكبات والويلات تحت قهر المستبدين والطغاة الظالمين.

وقد بلغني من الحقيقة أن تلك النكبات والويلات كفارة بحقهم من الذنوب النابعة من سفاهات المدنية وكفرانها بالنعم، ومن ضلالات الفلسفة وكفرها، لذا فهي أربح لهم مائة مرة.

وبهذا وجدتُ السلوان والعزاء من ذلك الألم المعذِّب النابع من العطف المتزايد، فشكرتُ الله شكراً لا نهاية له.

أما أولئك الظالمون الذين يسعّرون نار تلك الفتن والنكبات، أولئك السفلة من شياطين الأنس والجبابرة الطغاة الذين ينفذونها إشباعاً لمنافعهم الشخصية، فهم يستحقون ذلك العذاب المهين، فهو بحقهم عدالة ربانية محضة.

ولكن إن كان الذين يقاسون تلك النكبات هم ممن يهرعون إلى نجدة المظلومين، ويكافحون في سبيل تحقيق راحة البشرية والحفاظ على الأسس الدينية والمقدسات السماوية والحقوق الإنسانية، فلا بد أن النتائج المعنوية والأخروية لتلك التضحيات الجسام كبيرة جداً بحيث تجعل تلك الويلات بحقهم مدار شرف واعتزاز لهم بل وتُحبّبها إليهم.

* * *

[العمل لأسس الإسلام أولى]

إخوتي!

لقد أرسلت في هذه الأيام برفقة طلابي الأعزاء رسالتين تخصان «الرموز الثمانية» أرسلتهما إلى مكان ما، إلّا أن الطريق انسدّ، فلم تُرسَلا. فكررت مطالعتهما بدقة.

وساءلتُ فكري: تُرى لماذا أُسدل الستار أمام هذا المسلك الذي يتسم بالتوافقات والذوق والجمال والاهتمام واللطف-بحساب الجُمّل بالأبجدية والجفر- ووُجّهنا إلى سلوك طريق آخر واستُعملنا فيه؟ فأُخطر علـى قلبي فجأةً: إن الانشغال بذلك المسلك الذي يفتح مغاليق تلك الأسرار الغيبية يُلحق الضرر بالعمل لأسس الإسلام. فهذا العمل هو أهم من ذلك المسلك وأثمن منه وأقوم، وهو محور الحاجة العامة ويَسد الحاجة الماسة للجميع بالعمل لأسس الإسلام، وهو خدمةُ خزينةِ الحقائق الإيمانية والاستفادة منها. ولهذا وُجّهنا إلى سلوك هذا الطريق، لأن الانشغال بذلك المسلك يجعل المرء يَدَع أعظم المقاصد وأجلّها -وهي الحقائق الإيمانية- في درجة تالية.

* * *

[المقصد الأول هو الحقائق الإيمانية]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لمناسبة تلقي أحد إخوتنا الصادقين المدققين في هذه الأيام صفعةَ تأديب طفيفة من جراء عدم أخذه بالحذر، ولمناسبة استفسار «فيضي» و«أمين» وأخذهما الحيرة من اتخاذي طور عدم الرغبة في تلقي أي خبر عن أحوال العالم وأخبار السياسة والحرب وعدم الاهتمام بها في غضون هذه الشهور الأربعة رغم علاقتي بها بِقَدَر آلاف الأشخاص.. فأقول: لهذه المناسبات، لزم أن أبحث ولو جزئيا عن حقيقة طالما بحثت عنها وبينتها كثيرا. وهي الآتية:

بينما ينبغي أن تكون الحقائق الإيمانية أول مقصد وأسبقه في هذا الزمان، وأنْ تبقى سائر الأمور في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، وفي الوقت الذي ينبغي أن تكون خدمة الحقائق الإيمانية برسائل النور أجلّ وظيفة، وموضعَ اهتمامٍ ولهفة، ومقصودةً بالذات، إلّا أن أحوال العالم الحاضرة ولاسيما الحياة الدنيوية ولاسيما الحياة الاجتماعية والحياة السياسية خاصة وأخبار الحرب العالمية بالأخص -التي هي تجل من تجليات غضب الله النازل عقاباً لضلالة المدنية الحاضرة وسفاهتها- والتي تستميل الناس إلى جانبها وتهيّج الأعصاب والعروق حتى تدخل إلى باطن القلب، بل حتى مكّنتْ فيه الرغباتِ الفاسدة المضرة بدلاً من الحقائق الإيمانية الرفيعة النافعة. فهذا العصر المشؤوم قد غرز الناس بهذه الأمور ومازال، ولقّحهم بأفكاره ومازال، بحيث جعل العلماءَ الذين هم خارج دائرة رسائل النور، بل بعضَ الأولياء يُنـزلون حكمَ الحقائق الإيمانية إلى الدرجة الثانية والثالثة بسبب ارتباطهم بتلك الحياة السياسية والاجتماعية منجرفين مع تلك التيارات، فيُولُون حبهم للمنافقين الذين يبادلونهم الفكر نفسه، ويعادون من يخالفهم الرأي من أهل الحقيقة بل من أهل الولاية وينتقدونهم. حتى جعلوا المشاعر الدينية تابعة لتلك التيارات.

فتجاه هذه المهالك العجيبة التي يحملها هذا العصر، فإن خدمة رسائل النور والانشغالَ بها قد أسقطا من عيني التياراتِ السياسية الحاضرة، إلى درجة لم أهتم في غضون هذه الشهور الأربعة بأخبار هذه الحرب ولم أسأل عنها.

ثم إن طلاب رسائل النور الخواص وهم منهمكون بمهمة نشر الحقائق الإيمانية الثمينة لا ينبغي لهم أن يورثوا الفتور في وظيفتهم المقدسة بمشاهدة لعب الشطرنج للظالمين، ولا يعكّروا صفو أذهانهم وأفكارهم بالنظر إلى لعبهم؛ فلقد وهب لنا سبحانه وتعالى النورَ والمهمة النورانية، وأعطاهم لعباً مُظلِمةً ظالمة، فهم يستنكفون منا ولا يَمُدون يد المعاونة إلينا ولا يرغبون فيما لدينا من أنوار سامية. فمن الخطأ التنـزلُ إلى مشاهدة لعبهم المظلمة على حساب وظيفتنا. فالأذواق المعنوية والأنوار الإيمانية التي هي ضمن دائرتنا كافيتان لنا.

تحياتنا إلى الأخوة جميعا فردا فردا ونهنئهم بعيدهم السعيد.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] لقد أخذت هذه الأمانة المباركة من السيدة «آسيا» وهي طالبة النور المحترمة وأختنا في الآخرة. (المؤلف)

 

رسائل متفرقة (3)

 [تعديل الشفقة المفرطة]

حقيقة تعيد الصواب للمنساقين إلى مسالك البدع والضلالة بشفقتهم المفرطة

لما كانت شفقة الإنسان تجلياً من تجليات الرحمة الربانية، فلا ينبغي تجاوز درجة الرحمة الإلهيــة والمغالاة أكثر من رحمة من هو رحمة للعالمين ﷺ، فلو تجاوزها وغالى بها فإنها ليســت رحمة ولا رأفــة قط، بـل هي مرض روحي وســـقم قلبي يفضي إلى الضـلالـة والإلحاد.

فمثلاً: إن الانسياق إلى تأويل عذاب الكفار والمنافقين في جهنم، وما يترتب على الجهاد وأمثالها من الحوادث -من جراء ضيق شفقة المرء عن استيعابه وعدم تحملها له- إنكار لقِسم عظيم من القرآن الكريم والأديان السماوية وتكذيب له، وهو ظلم عظيم وعدم رحمة في منتهى الجور في الوقت نفسه؛ لأن حماية الوحوش الكاسرة والعطفَ عليها، وهي التي تمزق الحيوانات البريئة، غدر عظيم تجاه تلك الحيوانات البريئة، ووحشية بالغة نابعة من فقدان الوجدان والضمير.

فالتعاطف إذن وموالاةُ أولئك الذين يبيدون حياة ألوف المسلمين الأبدية ويمحونها، ويسوقون مئات المؤمنين إلى سوء العاقبة بدفعهم إلى ارتكاب الذنوب والخطايا، والدعاءُ لأولئك الكفار والمنافقين، رحمةً بهم وعطفاً عليهم لينجوا من العقاب الشديد، لا شك أنه ظلم عظيم وغدر شنيع تجاه أولئك المؤمنين المظلومين.

وقد أثبتتْ رسائل النور إثباتاً قاطعاً: أن الكفر والضلالة تحقير عظيم للكائنات وظلم شنيع للموجودات، ووسيلة لرفع الرحمة الإلهية ونزول المصائب والبلايا، حتى وردت روايات من أن الأسماك التي في قعر البحر تشكو إلى الله ظلم الجناة، لسلبهم راحتها.

ولهذا فالذي يرأف ويعطف على تجرع الكافر صنوف العذاب في النار، يعني أنه لا يرأف ولا يعطف على أبرياء لا يحصيهم العد ممن هم أليق بالرأفة وأجدر بالعطف بل ولا يشفق عليهم، بل يظلمهم ظلماً فاضحاً.

ولكن هناك أمر آخر وهو أن البلاء عندما ينـزل بالمستحقين له، يُبتلى به الأبرياء أيضاً.

وعندها لا يمكن عدم الرأفة بهم. إلّا أن هناك رحمة خفية لأولئك الأبرياء المظلومين الذين تضرروا من ذلك البلاء النازل بالجناة.

ولقد كنت -في وقت ما في الحرب العالمية الأولى- أتألم كثيراً من المظالم والقتل الذي يرتكبه الأعداء تجاه المسلمين ولاسيما تجاه أطفالهم وعوائلهم، وكنت أتعذّب عذاباً يفوق طاقتي -لما فيّ من شفقة مفرطة ورأفة متزايدة- وحينها ورد على القلب فجأة الآتي:

إن أولئك الأبرياء المقتولين يُستشهدون ويصبحون أولياء صالحين، وإن حياتهم الفانية تُبدل إلى حياة باقية، وإن أموالهم الضائعة تصبح بحكم الصدقة فتبدل أموالاً باقية. بل حتى لو كان أولئك المظلومون كفاراً فإن لهم من خزينة الرحمة الإلهية مكافآت كثيرة بالنسبة لهم -مقابل ما عانَوا من البلاء في الدنيا- بحيث لو رفع ستار الغيب فإن ما ينالونه من رحمة ظاهرة يدفعهم إلى أن يلهجوا بـــ«الشكر لله والحمد لله».

عرفتُ هذا، واقتنعت به قناعة تامة، ونجوت بفضل الله من الألم الشديد الناشئ من الشفقة المفرطة.

* * *

[نظرة إلى رسالة «المناظرات»]

لقد ألقيت نظرة إلى رسالة «المناظرات» وذلك بعد مرور خمس وثلاثين سنة على تأليفها، فرأيت فيها وفي أمثالها من مؤلفات «سعيد القديم» أخطاءً وهفوات. إذ ألّف تلك الآثارَ في حالة روحية ولّدها الانقلاب السياسي.([1]) وأنشأتها مؤثرات خارجية وعوامل محيطة به.

إنني أستغفر الله بكل حولي وقوتي من تلك التقصيرات راجيا من رحمته تعالى أن يغفر تلك الخطايا التي ارتكبتُها بنية حسنة وبقصد جميل، لدفع اليأس المخيّم على المؤمنين.

إن أساسين مهمّين يهيمنان على آثار «سعيد القديم» -كهذه الرسالة- والأساسان ذوا حقيقة ولكن، كما تحتاج كشفيات الأولياء إلى تأويل، والرؤى الصادقة إلى تعبير، فإن ما أحس به «سعيد القديم» بإحساس مسبق -أي قبل وقوع الأمر- بحاجة كذلك إلى تعبير، بل إلى تعبير دقيق. إلّا أن إخباره عما توقع حدوثَه، وبيانه تلكما الحقيقتين بلا تأويل ولا تعبير، أدّى إلى ظهور شيء من النقص والقصور وخلاف الواقع فيما أخبر عنه.

الأساس الأول: هو ما زفّه من بشرى سارة للمؤمنين بظهور نورٍ في المستقبل. زفّ هذه البشرى ليزيل بها يأسهم ويرفع عنهم القنوط، فلقد أحسّ بإحساس مسبق أن رسائل النور ستنقذ إيمان كثير من المؤمنين، وستشد أزرهم في زمان عصيب عاصف. إلّا أنه نظر إلى هذا النور، من خلال الأحداث السياسية التي واكَبت الانقلاب وحاول تطبيق ما رآه من نور على واقع الحال من دون تعبير ولا تأويل. فوقع في ظنه أن ذلك النور سيَظهر في عالم السياسة وفي مجال القوة وفي ميدان فسيح. فقد أحسّ إحساسا صادقا إلّا أنه لم يوفّق في التعبير عن بُشراه توفيقا كاملا.

الأساس الثاني: لقد أحس «سعيد القديم» ما أحسّ به عدد من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء؛ بأن استبداداً مريعاً مقبلٌ على الأمة، فتصدّوا له، ولكن هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب، فحسبوا ظل استبداد ليس له إلّا الاسم استبداداً أصيلاً، فهاجموه. فالغاية صحيحة إلّا أن الهدف خطأ.

وهكذا فلقد أحسّ «سعيد القديم» أيضا بمثل هذا الاستبداد المخيف فيما مضى. وفي بعض آثاره توضيحات بالهجوم عليه، وكان يرى أن المشروطية الشرعية وسيلة نجاةٍ من تلك الاستبدادات المرعبة. لذا سعى في تأييدها بالحرية الشرعية والشورى ضمن نطاق أحكام القرآن، آملا أن تدفعا تلك المصيبة.

نعم، لقد أظهر الزمانُ أن دولة تسمى داعيةَ الحرية قد كبّلت بثلاثمائةٍ من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليونٍ من الهنود، منذ ثلاثمائة سنة، وسيطرت عليهم كأنهم ثلاثمائة رجل لا غير، حتى لم تتركهم يحرّكون ساكنا. ونفذّت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذةً آلاف الأبرياء بجريرةِ مجرم واحد. وأعطت لقانونها الجائر هذا اسمَ العدالة والانضباط. فخَدَعت العالَم ودفعته إلى نار الظلم. هذه الدولة غدت مقتدى ذلك الاستبداد القادم في المستقبل.

وفي رسالة «المناظرات» هوامش قصيرة، وملاحظات وردت على صورة طُرف ولطائف، فهي من قبيل الملاطفة مع قسم من طلابه الظرفاء في تأليفه القديم ذاك، إذ قد وضّح لهم الأمور بأسلوب الدرس والإرشاد.

ثم إن زبدةَ هذه الرسالة «المناظرات» وروحَها وأساسها، هي ما في خاتمتها من حقيقةِ إقامةِ «مدرسة الزهراء»، وما هي إلّا المهد الذي سيشهد ظهور «رسائل النور» في المستقبل. فكان يُساق إلى تأسيسها دون إرادة منه. ويتحرى -بحس مسبق- عن تلك الحقيقة النورانية في صورة مادية حتى بدت جهتها المادية أيضا، إذ مَنَح السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك المدرسة، وأُرسيت قواعدُها فعلا، إلّا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.

ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ إلى أنقرة، وسعيت في إنجاز تلك الحقيقة. وفعلاً وافق مائة وثلاثة وستون نائباً في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسة عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن يا للأسف -ألف ألف مرة- سُدّت جميع المدارس الدينية، ولم أستطع أن أنسجم معهم فتأخر المشروع أيضاً.

بيد أن المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائص المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في «إسبارطة» فأظهر «رسائل النور» للوجود. وسيوفق -إن شاء الله- طلاب النور إلى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضا.

إن سعيدا القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة «الاتحاد والترقي» فإنه مال إلى حكومتها ولاسيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير وإعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك إلّا بما كان يحس به من إحساس مسبَق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبما يخالف مشرَبه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول إلى مخيض لا قيمة له. فعاد «سعيد الجديد» إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيدا القديم.

* * *

[حول المؤلفات الأخرى]

إلى إخوتي «الخواص» من طلاب رسائل النور، وهم أصحابها و وارثوها وإلى «الأركان» وهم ركائز رسائل النور وخواص الخواص، أبيّن ما يأتي لمناسبة حادثة وقعت في هذه الأيام:

إن رسائل النور تسد الحاجة التي تخص الحقائق الإسلامية، فلا تدع حاجةً إلى مراجعة مؤلفات أخرى.

ولقد عُلم بتجارب كثيرة قاطعة؛ أن أقصرَ طريق وأسهلَه لإنقاذ الإيمان وتقويته وجعله تحقيقيا هو في رسائل النور.

نعم، إن رسائل النور تقطع ذلك الطريق في خمسة عشر أسبوعا بدلا من خمس عشرة سنة، فتبلغ بالمرء الإيمانَ الحقيقي.

وبينما كان أخوكم هذا الفقير شغوفا بالمطالعة قبل عشرين سنة، حتى كان يطالع -بفهم- كتابا مجلدا أحيانا في يوم واحد، فقد كفاه منذ ما يقرب من عشرين سنة القرآنُ الكريم ورسائل النور المفاضة منه. فلم أحتج حتى إلى كتاب واحد. ولم أحتفظ بأي كتاب عندي.

وعلى الرغم من أن أبحاث رسائل النور تدور حول حقائق متنوعة جدا، فإنني لم أجد حاجة إلى مراجعة أي كتاب كان في أثناء تأليفها منذ عشرين سنة. فلا شك أنكم لا تحتاجون كذلك إلى مؤلفات أخرى وتستغنون عنها أكثر مني بعشرين درجة.

ثم إنني لما كنت قد اعتمدت عليكم وما زلت معتمدا، فلا ألتفت إلى غيركم، ولا أنشغل بسواكم. فينبغي لكم أيضا أن تثقوا برسائل النور وتطمئنوا بها، بل هذا هو الألزم في هذا الوقت.

ثم إنه لمباينة المسلك والمشرب في مؤلفات بعض المؤلفين الجدد في الوقت الحاضر ومسايرتها البدع، فإن إحدى مهمات رسائل النور هي الحفاظ على الحروف والخط القرآني فضلا عن حفاظها على الحقائق الإيمانية تجاه الزندقة. ولقد اشترى أحد الخواص مؤلفات يستعملها بعض العلماء -تحت ستار العلوم الدينية- في إنـزال الضربات القوية على الحروف والخط القرآني، اشتراه لهوى مجهول مع أنه يدرّس الحروف القرآنية. فشعرت -دون علمي به- امتعاضا نحو أولئك الطلاب الخواص وأنا في الجبل. ثم نبهتهم فانتبهوا بفضل الله. نسأله تعالى نجاتهم نجاة تامةً.

إخوتي!

إن مسلكنا دفاعٌ لا اعتداء، ترميم لا تخريب، ونحن محكومون لا حكام. فالذين يتعدّون علينا كثيرون لا يُحصون. ولا شك أن في مسلكهم حقائقَ مهمة هي بضاعتُنا نحن، فلا حاجة لهم إلينا في انتشار تلك الحقائق، فلهم الألوف ممن يقرؤونها وينشرونها. فنحن بسعينا لمعاونتهم تتزعزع كثير من الوظائف التي وُضعت على كاهلنا ونكون وسيلة إلى ضياع ما يجب محافظته من أسس وحقائق رفيعة تخص الطوائف، كلا على حدة.

فمثلا: لقد أُلّفت مؤلفات تهيئ لنوع من العداء للأولياء متخذةً بعض الرخص الشرعية ستارا، وأحداثَ الزمان حجةً، فإن الوظيفة الأساس لرسائل النور -من دون أن تشملها العموم- هي الحفاظ على أساس الولاية الجارية ضمن الحقائق الإسلامية، وأساسِ التقوى، وأساسِ الأخذ بالعزيمة، وأسسِ السنة النبوية الشريفة وأمثالها من الأسس الدقيقة المهمة، فلا يمكن ترك تلك الأسس بحجة الضرورة وحادثات الزمان.

* * *

[تأويل حديث متشابه]

لعدم وضوح المعاني الحقيقية لأحاديث صحيحة تخص نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان وقتله الدجال، فإن قسما من العلماء الظاهريين -أخذاً بظاهر تلك الروايات والأحاديث- قد وقعوا في الشبهات أو أنكروا صحتها، أو ألبسوها معنى خرافيا بما يشبه انتظار صورة محالة، فيضرون عوام المسلمين. أما الملحدون فينشرون أمثال هذه الأحاديث البعيدة عن العقل ظاهرا، فيشنون هجوما على الحقائق الإسلامية مستخِفّين بها.

أما رسائل النور فقد أظهرت -بفيض القرآن- التأويلاتِ الحقيقية لأمثال هذه الأحاديث المتشابهة.

والآن نقدم مثالا واحدا كأنموذج وهو الآتي:

هناك رواية تفيد أن عيسى عليه السلام عند جهاده الدجال وأثناء قتله له يقفز بمقدار عشرة أذرع ليتمكن من ضرب ركبة الدجال بسيفه.

بمعنى أن جسم الدجال أضخم من عيسى عليه السلام بهذه الدرجة. وعلى هذا المعنى يلزم أن يكون طول الدجال عشرة أمثال طول عيسى عليه السلام بل عشرين مثلا.

فالمعنى الظاهري لهذه الرواية مناف لحكمة التكليف الإلهي وحكمة الامتحان، مثلما لا يوافق عادة الله الجارية في البشرية.

والحال أنه ظهر معنى من المعاني الكثيرة لهذه الرواية ولهذا الحديث حتى في هذا الزمان. بما يُسكت الزنادقة الذين يظنونها خرافة -حاش لله- وينبه العلماء الظاهريين المعتقدين الظاهرَ عينَ الحقيقة والذين مازالوا منتظرين تحقّق الحديث، رغم مشاهدتهم لقسم من حقائقه.

نعم، لقد ظهر حتى في هذا الزمان معنى من معانيه الكثيرة، تلك المعاني التي هي عين الحقيقة والانسجام التام مع الواقع.

والمعنى هو الآتي: إن حكومةً تسعى لنشر الدين العيسوي وتحاول الحفاظ على عاداته المستمرة، تحاربها حكومةٌ تعلن مساعدتها رسميا للإلحاد وللبلشفية، لأجل منافعها الخسيسة، بل تسعى للدعاية لها. وحكومة أخرى تنحاز إلى بث الإلحاد بين أوساط المسلمين وفي آسيا عامة لأجل منافعها الخسيسة الفاسدة وتحالِف حكومات دساسة جبارة. فلو تَمثّل الشخصُ المعنوي للحكومة الأولى، وتجسّم الشخص المعنوي للمتحالفين المنحازين للإلحاد، لظهر معنىً من المعاني العديدة لهذا الحديث في هذا الزمان بجهات ثلاث. فإن أحرزت تلك الحكومة الغالبةُ النصرَ نتيجة الحرب ارتفع هذا المعنى الإشاري إلى درجة المعنى الصريح، وإن لم تُحرز النصر تماما فهذا المعنى أيضا هو معنى إشاري موافق.

الجهة الأولى: جماعة الروحانيين المتمسكين بالدين العيسوي الحقيقي، وفي مقابلهم الجماعة التي بدأت تروّج للإلحاد، فإذا ما تجسمت تلكما الجماعتان بصورة إنسان، فإن الجماعة الأولى لا تصبح حتى بقدر طفل أمام إنسان بارتفاع منارة.

الجهة الثانية: حكومة تُعد أفرادها مائة مليون نسمة تعلن رسميا: إنني سأزيل الإلحاد وأحمي الإسلام والمسلمين، تحارب حكومة تحكم أربعمائة مليون ومتحالفة مع الصين وأمريكا -أي بأربعمائة مليون نسمة- هذه الحكومات متحالفة علنا مع البلاشفة. فلو تجسم المحاربون في الحكومة الأولى الذين يُنـزلون ضرباتهم القاصمة بأولئك المتحالفين وتَجَسَّمَ الملحدون والمتحالفون معهم في شخص معنوي آخر، لظهرت صورةُ إنسان صغير تجاه إنسان بارتفاع منارة. هذا وقد ورد في رواية أن الدجال يحكم الدنيا، فهذه الرواية تعني أن الغالبية العظمى تميل إليه. كما هو واقع الآن!

الجهة الثالثة: أن حكومة لا تساوي مساحتها ربع مساحة أوروبا -وهي أصغر القارات الأربع- تحارب منتصرةً حكومةً تسيطر على أغلب بقاع العالم من آسيا وإفريقيا وأمريكا وأستراليا، وإن الحكومة الأولى تستند إلى الدين وفي حلف مع دولة تدّعى الوكالة عن سيدنا عيسى عليه السلام، تجاه التيارات الإلحادية المستبدة، وتنـزل الأولى عليهم بالمظلات. فلو تجسمت الأولى والأخريات وصُوّرت بصورة إنسان -كما كانت الجرائد ترسم الصور «الكاريكاتيرية» لإظهار قوة الدول ومكانة الحكومات- فإن معنى من المعاني العديدة لما يخبر به الحديث الشريف سيظهر مطابقا تماما في جريدة الأرض وفي صحيفة هذا العصر.

حتى إن معنىً إشاريا لما يشير إليه الحديث من نزول شخص عيسى عليه السلام من السماوات هو أن طائفة ممثِّلة لسيدنا عيسى عليه السلام وسالكة سلوكه تنـزل بمظلات من الطائرات كبلاء سماوي -بما لم يُسمع به لحد الآن ولم يُشاهَد قط- خلف الأعداء مما يظهر المعنى المادي لنـزول عيسى عليه السلام.

نعم، إن ما يفيده الحديث الشريف من نزول عيسى عليه السلام ثابت قطعا إلّا أن المعنى الإشاري كما يشير بإعجاز إلى هذه الحقيقة فهو يشير إلى معاني أخرى أيضا.

عندما شرعتُ في كتابة بضعة أسطر حول هذه المسألة -بناء على سؤالِ «فيضي وأمين» وإصرارهما- إنقاذا لإيمان بعض العوام الضعفاء كتّبتْ مطولةً خارج إرادتي. ولم ندرك حكمتها، فتركناها كما هي، لعل فيها حكمة ما. نرجو عفوكم وسماحكم إذ لم نجد متسعا من الوقت لتصحيح هذا البحث وتدقيقه فظل مشوشا.

* * *

[صداقة الأبطال]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد حروفات القرآن..

بارك الله فيكم، وجعلكم سعداء. إن سعيكم الجاد ونشاطكم المستمر يبث الشوق ويثير الهمم هنا وفي أماكن أخرى أيضا. فحمدا لله بما لا يتناهى من الحمد، إن فتوحاتِ رسائل النور تتزايد يوما بعد يوم. فإن أهل الإيمان يشعرون بجروحهم ويضمدونها برسائل النور.

لله الحمد، إن طلاب النور في هذا الزمان الذين حظوا بالإيمان الكامل ضمن السنة الشريفة، قد أخذوا مسلكا يَلفِت إليهم أنظار الأولياء والمرشدين. لذا فإن المرشدين الحقيقيين الذين يَظهرون في كل عصر سيحاولون بلا شك كسب طلاب النور إلى صفهم، إذ لو كسبَ أحدُهم طالبا لرسائل النور فإنه يُنـزله منـزلة عشرين مريد.

أُرسِلُ الحقيقة التي بيّنتُها لـ«فيضي» حول المشقات الحاصلة من خدمة رسائل النور وما فيها من مجاهدة وبذل، تجاه الأذواق والجاذبية المترشحة من الولاية، أرسلها لكم لعل فيها فائدة في تلك المناطق.

بلغوا سلامي إلى إخواني عامة فردا فردا.

أخي فيضي! إن كنت ترغب أن تكون مثيل أبطال ولاية إسبارطة، فعليك أن تُشبههم وتكون مثلهم تماماً. فلقد كان معنا في السجن شيخ عظيم ومرشد مرموق ذو جاذبية من أولياء الطريقة النقشبندية -رحمه الله- جالَسَ ما يقرب من ستين من طلاب النور طوال أربعة أشهر وحاورهم محاورات مغرية لجلبهم إلى الطريقة، إلّا أنه لم يتمكن إلّا من ضم واحدٍ منهم إلى صفه، وبصورة مؤقتة. أما الباقون فقد ظلوا مستغنين عنه وهو الولي الصالح، إذ كفتهم الخدمةُ الإيمانية الرفيعة التي تقدمها رسائل النور، واطمأنوا بها. ولقد فقه أولئك الأبطال بقلوبهم الواعية ورأوا ببصيرتهم النافذة الحقيقةَ الآتية:

إن خدمة رسائل النور هي إنقاذ الإيمان، أما الطريقة والمشيخة فهي تُكسب المرء مراتب الولاية. وإن إنقاذ إيمان شخص من الضلال أهم بكثير وأجزل ثواباً من رفع عشرة من المؤمنين إلى مرتبة الولاية؛ حيث إن الإيمان بمنحه للإنسان السعادة الأبدية يضمن له ملكاً أوسع من الأرض كلها. أما الولاية فإنها توسّع من جنة المؤمن وتجعلها أسطع وأبهر. وكما أن رفع مرتبة إنسان اعتيادي إلى سلطان، أعظمُ من رفع عشرة من الجنود إلى مرتبة القائد، كذلك الثواب في إنقاذ إيمان إنسان من الضلالة أعظمُ وأجزل من رفع عشرة من الناس إلى مرتبة أولياء صالحين. فهذا السر الدقيق هو الذي أبصرته القلوب النفاذّة لإخوانك في إسبارطة، وإن لم تره عقول قسم منهم. ولهذا فضّلوا صداقة شخص ضعيف مذنب مثلي، على صداقة أولياء عظام بل على مجتهدين إن وُجدوا.

فبناء على هذه الحقيقة لو أن قطباً من أقطاب الأولياء أو شيخاً جليلاً كالكيلاني، أتى إلى هذه المدينة وقال لك: «سأرفع مرتبتك إلى مرتبة الولاية في عشرة أيام»، وذهبت إليه تاركاً رسائل النور، فلا تستطيع أن تصادق أبطال إسبارطة.

* * *

[ميزان دقيق في محاورة]

محاورة خطرت على الـقلب، كتبتها لتقويم الإفراط لدى قسم من إخوتي طلاب النور، لتعديل حسن ظنهم بي بما يفوق حدي بكثير

قبل حوالي خمسين سنة جرت بيني وبين أخي الكبير «الملا عبد الله» رحمه الله هذه المحاورة، سأوردها لكم:

كان أخي المرحوم من خواص مريدي الشيخ ضياء الدين قدس سره. وهو من الأولياء الصالحين. وأهلُ الطرق الصوفية لا يرون بأساً في الإفراط في حب مرشدهم والمبالغة في حسن الظن بهم، بل يرضون بهذا الإفراط والمبالغة، لذا قال لي أخي ذات يوم: «إن الشيخ ضياء الدين على علم واسع جداً واطلاع على ما يجري في الكون، بمثل اطلاع القطب الأعظم»، ثم سَرَد الكثير من الأمثلة على خوارق أعماله وعلو مقامه.. كل ذلك ليغريني بالانتساب إليه والارتباط به.

ولكني قلت له: «يا أخي الكريم، أنت تغالي، فلو قابلتُ الشيخ ضياء الدين نفسَه لألزمته الحجة في كثير من المسائل، وإنك لا تحبه حباً حقيقياً مثلي، لأنك يا أخي الكريم تحب ضياء الدين الذي تتخيله في ذهنك على صورة قطب أعظم له علم بما في الكون. فأنت مرتبط معه بهذا العنوان وتحبه لأجل هذه الصفة، فلو رُفع الحجاب وبانت حقيقته، لزالت محبتك له أو قلّت كثيراً؛ أما أنا -يا أخي- فأُحب ذلك الشخص الصالح والولي المبارك حباً شديداً بمثل حبك له، بل أوقره توقيراً يليق به وأجلّه وأحترمه كثيراً، لأنه مرشد عظيم لأهل الإيمان في طريق الحقيقة المستهدية بالسنة النبوية الشريفة. فليكن مقامه الحقيقي ما يكون، فأنا مستعد لأن أضحي بروحي لأجل خدمته الإيمانَ. فلو أُميط اللثام عن مقامه الحقيقي فلا أتراجع ولا أتخلى عنه ولا أقلل من محبتي له، بل أوثق الارتباط به أكثر، وأُوليه محبة أعظم وأبالغ في توقيره. فأنا إذن يا أخي الكريم أُحب ضياء الدين كما هو وعلى حقيقته؛ أما أنت فتحب ضياء الدين الذي في خيالك».([2])

ولما كان أخي المرحوم عالماً منصفا حقاً، فقد رضي بوجهة نظري وقبلها وقدرها.

فيا إخوتي، أيها السعداء المحظوظون الذين يضحون بأنفسهم في سبيل الله. إن مبالغتكم في حسن الظن بشخصي، وإن كان لا يضركم بالذات، إلا أن أمثالكم ممن ينشدون الحق ويرون الحقيقة، ينبغي لهم أن ينظروا إلى الشخص من زاوية خدمته للقرآن الكريم ومدى إنجازه لمهامه نحوه، فلو كُشف النقاب وظهرت أمامكم هويتي الملطخة بالتقصيرات من قمة رأسي إلى أخمص قدمي لأشفقتم عليّ ولتألمتم لحالي. ولكن لئلا أنفّركم من محبة الأخوّة التي تربطنا، ولئلا تندموا عليها فلا تربطوا أنفسكم بما تتصورونه من مقامات تُضفونها عليّ، وهي فوق حدي بكثير. فأنا لست سوى أخ لكم لا غير، وليس في طوقي ادعاء الإرشاد والتوجيه ولا الأستاذية عليكم.. وكل ما في الأمر هو أنى زميلكم في تلقي درس الإيمان. فلا تنتظروا مني همّة ومددا بل أنا المحتاج إلى معاونتكم وهممكم وأرجو دعواتكم المشفقة على تقصيراتي.

ولقد أنعم الله علينا جميعا -بفضله وكرمه- واستخدَمنا في أقدس خدمة وأجلّها وأنفعها لأهل الإيمان.. تلك هي خدمة القرآن. وندَبنا للقيام بها على وفق تقسيم الأعمال فيما بيننا، فحَسْبُنا أستاذيةُ وإرشادُ الشخص المعنوي النابع من سر أخوّتكم واتحادكم.

فما دامت خدمة الإيمان والقرآن أسمى من أية خدمة في هذا العصر، وأن النوعية تفضل الكمية، وأن التيارات السياسية المتحولة المتغيرة وأحداثها المؤقتة الزائلة لا أهمية لها أمام خدمات الإيمان الثابتة الدائمة، بل لا تَرقَى لمقارنتها ولا يمكن أن تكون محورا لها، فينبغي الاطمئنان بما منَحَنا ربُنا سبحانه وتعالى من مرتبة نورانية مفاضة علينا من نور القرآن المبين.

فيا إخوتي الأحبة! الثباتَ الثباتَ، الوفاءَ الوفاءَ… إن طريقنا في السمو والرقي هو الغلو في الارتباط والتساند فيما بيننا والسعي لنيل الإخلاص والأخوة الحقة، بدلا من الغلو في حسن الظن والتطلع إلى مقامات أعلى من حدنا.

* * *

[من وظائف السيد المهدي]

إخوتى الأعزاء!

كتبت لكم الفقرتين الآتيتين قبل يومين تتمة لما كُتب لكم سابقا من جواب حول حسن ظنكم النابع من وفائكم الخالص بما يفوق حدي بكثير جدا. إذ إن الحكمة في جوابي السابق -قبل أسبوع- والذي يجرح إلى حدٍّ ما حسن ظنكم المفرط، لرسالتكم المترشحة من وفائكم الخالص وهممكم العالية هي الآتية:

في هذا العصر تيارات قوية ومسيطرة إلى درجة تستحوذ على كل شيء، وتستولي عليه، و تمتلكه لنفسها، وتسخره لأجلها، فلو أتى ذلك الذي يُنتظر مجيؤه حقا في هذا العصر، فإنني أرى أنه يغيّر هدفَه، ويجرّد نفسه من الأجواء والأحوال الدائرة في عالم السياسة، حفاظا على أعماله من أن تغتصبها تلك التيارات.

ثم إن هناك ثلاث مسائل هي: الحياة.. الشريعة.. الإيمان.

وأن مسألة «الإيمان» هي أهم هذه المسائل الثلاث وأعظمُها في نظر الحقيقة. بيد أن «الحياة» و«الشريعة» تبدوان في نظر الناس عامة وضمن متطلبات أوضاع العالم أهم تلك المسائل. ولما كان تغيير أوضاع المسائل الثلاث كلها دفعة واحدة في الأرض كافة لا يوافق سنة الله الجارية في البشرية، فإن ذلك الشخص المنتظر لو كان موجودا في الوقت الحاضر لاتخذ أعظمَ تلك المسائل وأهمها أساسا له دون المسائل الأخرى، وذلك لئلا تَفقد خدمةُ الإيمان نزاهتَها وصفاءها لدى الناس عامة، ولكي يتحقق لدى عقول عوام الناس -الذين يمكن أن يُستَغفلوا ببساطة- أن تلك الخدمة ليست أداة لأي مقصد آخر.

ثم إن معاول الهدم ومطارق التخريب تعمل منذ عشرين عاما مقترفة أشدَّ أنواع الظلم وأقسى ضروب التعسف لإفساد الأخلاق حتى ضاعت الثقة والوفاء إلى درجة لم يعد يوثق بشخص واحد من كل عشرة أشخاص، بل من كل عشرين شخصا.

فتجاه هذه الحالات المحيرة لابد من ثبات عظيم وصلابة تامة ووفاء خالص وغيرة على الإسلام تفوق كل شيء.. وبخلافه ستبقى خدمةُ الإيمان عقيمةً بائرة، وتكون ضارة. بمعنى أن أخلصَ خدمة وأسماها وأهمها وأولاها بالتوفيق هي الخدمة السامية التي يعمل فيها طلاب رسائل النور.

وعلى كل حال يكفي هذا القدر لهذه المسألة في الوقت الحاضر.

* * *


[1] المقصود إعلان المشروطية، وهي إدارة البلد على النمط الغربي من مجلس نيابي ودستور ووزارة مسؤولة أمام المجلس النيابي.(المترجم).

[2] لأنك تطلب لمحبتك ثمناً غالياً جداً، إذ تفكر أن يقابل محبتك بما يفوق ثمنها مائة ضعف، والحال أن أعظم محبة لمقامه الحقيقي تظل زهيدة جداً. (المؤلف)

 

رسائل متفرقة (2)

[مسألتان]

إخوتي!

لقد أُخطِرتْ إلى قلبي في هذه الأيام مسألتان: إحداهما تخص طلاب النور والأخرى تخص أهل الدنيا. فأكتبهما لكم لأهميتهما.

المسألة الأولى: [أمارتان على حسن الخاتمة]

إن هناك بشارات سامية وقوية -في الشعاع الأول- حول دخول طلاب النور الصادقين الأوفياء القبرَ بحسن الخاتمة، وأنهم سيكونون من أهل الجنة.

كنت أنتظر منذ مدة، دليلا قويا يُسند هذه المسألة العظيمة جدا، وهذه البشارة الكبرى. فلله الحمد والمنة خطرت أمارتان دفعة واحدة على القلب.

الأمارة الأولى: لقد قضى أهل الكشف والتحقيق أن الإيمان التحقيقي كلما ارتقى من علم اليقين إلى حق اليقين يستعصي على السلب، فلا يُسلَب. وقالوا: إن الشيطان لا يستطيع أن يورث أحدا في سكرات الموت إلّا إلقاء الشبهات بوساوسه إلى العقل فحسب. أما هذا النوع من الإيمان التحقيقي، فلا يتوقف في حدود العقل فحسب، بل يسرى إلى القلب وإلى الروح وإلى السر وإلى لطائف أخرى، فيترسخ فيها رسوخا قويا بحيث لا تصل يد الشيطان إليها أبدا. فإيمان أمثال هؤلاء مصون من الزوال بإذن الله.

إن إحدى طرق الوصول إلى هذا الإيمان التحقيقي هو بلوغ الحقيقة بالولاية الكاملة بالكشف والشهود، وهذا الطريق إيمان شهودي يخص أخصّ الخواص.

أما الطريق الثاني فهو تصديق الحقائق الإيمانية بعلم اليقين البالغِ درجة البداهة والضرورة، وبقوة تبلغ درجة حق اليقين، وذلك بفيض سر من أسرار الوحي الإلهي من جهة الإيمان بالغيب وبطراز برهاني وقرآني يمتزج فيه العقل والقلب معا.

فهذا الطريق الثاني هو أساسُ رسائل النور، وخميرتُها، وروحُها وحقيقتها. نعم، إن طلابها الخواص يشاهدون ذلك، بل إذا ما نظر الآخرون أيضا بإنصاف فإنهم يرون أن رسائل النور تبين استحالة الطرق المخالفة للحقائق الإيمانية، وأنها غير ممكنة وممتنعة.

الأمارة الثانية: إن دعوات خالصة كثيرة جدا ومقبولة تُرفع دوما ليُرزَق طلاب النور الصادقون حسن الخاتمة واكتساب الإيمان الكامل. فهي دعوات كثيرة إلى درجةٍ لا يجد العقلُ مجالا لعدم قبول أيٍّ من في تلك الأدعية.

فمثلا: إن خادما لرسائل النور وطالبا من طلابها يدعو خلال أربع وعشرين ساعة مائة مرة لحسن خاتمة طلاب النور ونيلهم السعادة الأبدية، ويدعو خلال تلك الأدعية ما يقرب من ثلاثين مرة على الأقل في اليوم الواحد، لسلامة إيمانهم وحسن عقباهم ودخولهم القبر بإيمان. فهو يدعو بتلك الأدعية ضمن أكثر الشروط استجابة وقبولا للدعاء.

ثم إن مجموعة الأدعية المرفوعة من قبل الطلاب أنفسهم، وهم يتعرضون -من حيث الإيمان- في هذا الزمان للهجمات من جميع الجهات. تلك الأدعية التي يدعو بها كلٌّ لإخوته الآخرين، والتي يلهجون بها بألسنتهم البريئة لسلامة إيمانهم وإيمان إخوتهم.. أقول إن مجموع تلك الأدعية قوية إلى درجة لا تردّها رحمةُ الرحمن العظيمة وحكمتُه الواسعة. فلو اُفترض ردّ جميع تلك الأدعية وقبول دعاء واحد منها، لكفاه قبولا لدخول كل طالب من الطلاب القبرَ بسلامة الإيمان، ذلك لأن كل دعاءٍ يُرفع من قِبَلهم هو دعاء متوجه إلى الجميع.

المسألة الثانية: [حكمة انهزام الدولة العثمانية]

لقد ظهر في الوقت الحاضر جزء من جواب سعيد القديم الناطق باسم هذا العصر عن السؤال الذي أورده مجلس مثالي روحاني يتشاورون فيما بينهم مصير العالم الإسلامي، وذلك في «حوار في رؤيا» المنشور في كتاب «السانحات» والمطبوع قبل عشرين سنة.

فقد قال ذلك المجلس المعنوي في ذلك الوقت: ما الحكمة في انهزام الدولة العثمانية في هذه الحرب التي انتهت باندحار الألمان؟

وقال سعيد القديم جوابا: لو كنا منتصرين لكنّا نضحي بكثير من المقدسات الدينية في سبيل الحضارة الأوروبية -كما ضُحِّيَت بها بعد سبع سنوات- ولكانت تُطبَّق بالقوة والإكراه وبسهولة تامة النظام المطبق في الأناضول في العالم الإسلامي، ولاسيما في الحرمين الشريفين ويعمم باسم المدنية الأوروبية. ولهذا سمح القدرُ الإلهي بانهزامنا في الحرب بفضل العناية الإلهية حفاظا على تلك الأماكن المباركة.

وبعد مرور عشرين سنة على هذا الجواب تماما سُئلت أيضا في الليل، كالذي في الحوار؛ في الوقت الذي هناك منبع عظبم لنصر سياسي في الأوساط الدولية، وهو البقاء على الحياد و استرجاع المُلك الضائع، وإنقاذ مصر والهند وجلبهما إلى الاتحاد معنا، فما الحكمة من اختفاء هذا المنبع العظيم عن أنظار هؤلاء الأذكياء بل الدهاة حتى سلكوا طريقا ضارا فانحازوا إلى عدو مشكوك في أمره (الإنكليز) مضطرب لا يوثَق به ولا فائدة ولا جدوى من الانحياز إليه.

سئلتُ هذا السؤال، وكان الجواب الوارد من جانب معنوي هو أن الجواب الذي أجبته عن سؤال معنوي قبل عشرين سنة، هو جواب هذا السؤال بالذات أي:

إذا ما التُزم جانب الغالب المنتصر لكان النظام المطبق هنا يُطبَّق في العالم الإسلامي والأماكن المقدسة، ويُنفَّذ هناك باسم المدنية الدنية، ضمن نشوة الانتصار، دونما مقاومة تُذكر. فلأجل سلامة ثلاثمائة وخمسين مليونا من المسلمين، لم يروا هذا الخطأ الظاهر فتصرفوا تصرف العميان.

* * *

[نتائج دنيوية في العمل للنور]

إخوتي الأعزاء الصادقين!

أهنئكم بالعيد السعيد وأثمّن خدماتكم الجليلة وأدعوه تعالى أن يوفقكم فيها، وأشكر خالقي الرحيم شكرا لا يتناهى إذ جعل من إخوة ثابتين مضحين من أمثالكم مالكين لرسائل النور وناشرين لها. فكلما تذكرتُكم امتلأتْ روحي انشراحا وقلبي فرحا، فلا تكون مغادرتي الدنيا موضع أسف، بل أنظر إلى الموت كصديق، لدوام حياتي ببقائكم أنتم، فأنتظر أجَلي دون قلق واضطراب. ليرضَ الله عنكم أبدا… آمين. آمين.

مثلما يَشعر أغلب العاملين من طلاب رسائل النور نوعا من الكرامة والإكرام الإلهيين، يَشعر أخوكم هذا العاجز بأغلب أنواعها وأنماطها، وذلك لشدة حاجته إليها.

وطلابُ النور الموجودون في هذه المناطق يعترفون مُقسمين بالله: أننا كلما انشغلنا في خدمة النور وجدنا السعة في المعيشة والانشراح في القلب، وفرحا غامرا يملأ كياننا. إنني كذلك أشعر بهذا في كياني كله شعورا تاما بحيث تسكت نفسي الأمارة وشيطاني أيضا بحيرة أمام تلك البداهة.

* * *

[الدعاء الشامل]

اعلموا أنني منذ أكثر من سنة أضم في دعائي كلَّ أقرباء طلاب النور المنشغلين برسائل النور من أزواج وأولاد ووالدين. وإن سبب ذلك هو انخراط بعض الأشخاص في دائرة النور مع عوائلهم وأولادهم ومتعلقاتهم.

* * *

[أجدى عمل في الوقت الحاضر]

لقد أنزلت العدالةُ الإلهية بالمدنية الدنيّة التي أهانت الإسلام عذابا أليما ومعنويا أرداها إلى درك الوحوش الجاهلين. فلقد أزالت تلك المخاوفُ المستمرة ملذاتِ وأذواقَ مدنية أوروبا والإنكليز مائة سنة وطيّرت منهم نشوتَهم من الرقي والتسلط على رقاب الآخرين ونشوة الاستيلاء عليهم.

فلقد أذاقتهم العدالة الإلهية ذلك الخوفَ الرهيب، وقذفت على رؤوسهم قنابل الرعب والرهبة والقلق والاضطراب.

إن ألزمَ شيءٍ في مثل هذا الوقت وأجدى عمل وأجدر وظيفة هو إنقاذ الإيمان…

نعم، إن إيمان شخص واحد إنما هو مفتاح ونور لعالم أبدي خالد أوسع من هذه الدنيا. ولهذا فإن رسائل النور تُكسب المتعرضَ إيمانُه للهلاك ملكا أعظم من هذه الكرة الأرضية، وتورثه سلطنة أجدى منها، وتمنحه فتوحات أعظم منها..

* * *

[وظيفة المنتسب إلى رسائل النور]

حادثة تبين كرامة من كرامات رسائل النور لدى استنساخها حوالينا:

طالب للنور وهو شيخ وقور جادّ في عمله، كان يكتب رسالة «الشيوخ». ولما بلغ أواخر الرجاء الحادي عشر، ولدى ذكر وفاة المرحوم «عبد الرحمن» كتب قلمه «لا اله إلّا هو» ونطق لسانه «لا اله إلّا الله» فختم صحيفة حياته بالحسنى، مصدّقا البشارة الإشارية القرآنية بأن طلاب النور تُختم حياتهم بالحسنى ويدخلون القبر بالإيمان. رحمة الله عليه رحمة واسعة.

تنبيه مهم لإخوتي في الآخرة:

يضم هذا التنبيه مادتين:

أولاها: أن أهم وظيفة للمنتسب إلى رسائل النور، كتابتها، ودعوة الآخرين إلى كتابتها، وتعزيز انتشارها؛ فالذي يكتبها أو يستكتبها، يكسب عنوان «طالب رسائل النور»، فيغنم بهذا العنوان حظًا من مكتسباتي المعنوية، ومن دعواتي الخيرة وتضرعاتي التي أدعوها كل أربع وعشرين ساعة بمائة مرة بل تزيد أحياناً. فضلاً عن ذلك يكسب حظاً من مكتسبات معنوية لألوف من إخواني البررة ومن دعواتهم الطيبة التي يدعون الله بها.

وعلاوة على ذلك فإنه بكتابته الرسائل التي هي بمثابة أربعة أنواع من عبادة مقبولة يكسبها بأربعة وجوه.. إذ يقوّي إيمانَه.. ويسعى لإنقاذ إيمان غيره من المهالك.. وينال التفكر الإيماني الذي يكون بمثابة عبادة سنة أحياناً كما ورد في الأثر ويدفع غيره إلى هذا التفكر.. ويشترك في حسنات أستاذه الذي لا يجيد الخط ويقاسي من الأوضاع الشديدة ما يقاسي بمعاونته له.. نعم، يستطيع أن يكسب أمثال هذه الفوائد الجليلة.

إني أقسم بالله أن الذي يكتب رسالة صغيرة لنفسه عن فهمٍ، فكأنما يقدم هدية عظيمة لي. بل كل صحيفة منها تجعلني في امتنان، كما لو تهدى إليّ أوقية من السكر.

المادة الثانية: وا أسفا، إن أعداء رسائل النور من الجن والإنس المارقين الذين لا يؤمنون ولا يؤمَنون يحاولون أن ينـزلوا ضرباتهم الخبيثة الشيطانية بدسائس خفية جدا ووسائل متسترة، لعجزهم عن صدّ قلاع رسائل النور المتينة كالفولاذ وحججها القوية قوة السيوف الألماسية، وذلك لتثبيط همم الكُتّاب والمستنسخين من حيث لا يشعرون وبثِّ الفتور في هممهم وحملِهم على التخلي عن الكتابة. والكتّاب قليلون جدا -ولاسيما هنا- مع شدة الحاجة إليهم، وشدة مراقبة الأعداء المتربصين. وحيث أن قسما من الطلاب لا يستطيعون الصمود، فإنهم يُحرِمون -إلى حد ما- هذه البلدة من تلك الأنوار.

فمن يرغب في محاورتى ومجالستي ومقابلتي في مشرب الحقيقة ما إن يفتح أية رسالة كانت، فإنه لا يقابلني بل يقابل أستاذه الخادم للقرآن. ويستطيع أن يتلقى بذوق خالص درسا في حقائق الإيمان.

* * *

[مسألتان دقيقتان]

أكتب إليكم مسألتين دقيقتين وردتا بتنبيه معنوي.

المسألة الأولى: [ما تولده سذاجة المسلمين]

لقد ورد في التنبيه سببان خاصان في عدم استجابة الدعوات الكثيرة -المرفوعة في شهر رمضان الفائتِ لسلامة أهل السنة والجماعة ونجاتهم- استجابة جلية في الوقت الحاضر.

السبب الأول: أن خاصية هذا العصر العجيبة هي غلو المسلمين في السذاجة وتسامحهم وتجاوزهم عن خطيئات جناة رهيبين، إذ لو رأى أحدُهم حسنة واحدة من شخص ارتكب ألوف السيئات وتعدّى على حقوق ألوف العباد، سواء على حقوقهم المعنوية أو المادية، ينحاز إلى ذلك الظالم لأجل تلك الحسنة الواحدة. وبهذه الصورة يشكّل أهلُ الضلالة والطغيان الأكثرية العظمى من الناس رغم أنهم قلة قليلة جدا، وذلك لموالاة أولئك السذج لهم، ولأجله يُنـزل القدرُ الإلهي المصيبةَ العامة التي تترتب وتنبني على خطأ الأكثرية. بل إن عملهم هذا يُعين على دوام المصيبة واستمرارها، بل على شدّتها. حتى يقولوا هم بأنفسهم: نعم، نحن نستحق هذه المصيبة.

نعم، إن من يعرف قيمة الألماس -كالإيمان والآخرة- ثم يرجّح عليه قطعا من الزجاج -كالدنيا والمال- لضرورة قطعية، فله رخصة شرعية. إلّا أن تفضيله هذا إن كان ناشئا من حاجة بسيطة جدا أو من خوف جزئي، أو من هوى متّبع أو من طمع، فهو خسران بجهالة وبلاهة يستحق لطمة تأديب عليها.

ثم إن التجاوز عن السيئات والعفو والصفح إنما يكون عن حقوق الشخص نفسه. أي له أن يعفو ويصفح عمن تعدّى على حقوقه وليس له العفو والسماح عن الذي يهضم حقوق الآخرين من الجناة والطغاة. إذ يكون شريكا معهم في ظلمهم.

السبب الثاني: لم يؤذن لكتابته.

المسألة الثانية: [تأويل بشرى]

إخوتي!

إن تأويلات الروايات الواردة حول أحداث الساعة المدوّنة في سجن «أسكي شهر» على الرغم من ظهور صدقها وتطابقها، فإن عدم معرفة أهل العلم وأهل الإيمان لتلك التأويلات وعدم مشاهدتهم لها دفعني إلى مباشرة كتابة إيضاح بشأنها وبيانِ الحكمة فيها، وعزمت على ذلك، وكتبتُ ما يقرب من صحيفتين فعلا. ثم أُسدل الستار أمامي، فتأخر البحث.

ففي غضون هذه السنين الخمس توجهتُ إليها ست مرات وكلما توجهت لكتابتها لم أوفّق. إلّا أنه أُخطر على قلبي بيان حادثة تخصني تُعدّ من فرعيات تلك المسألة وهي:

أنني كنت أبشر الناس بأمل قوي وعقيدة جازمة بأنني أرى نورا في المستقبل وأرى ضياءً في الأيام المقبلة، أبشرهم بهذه البشرى لأجل إزالة اليأس المخيّم على أهل الإيمان في بداية عهد الحرية، وقبل ظهور رسائل النور بمدة مديدة. حتى كنت أبشر بها طلابى قبل عهد الحرية. وكنت أصمد أمام الحادثات الرهيبة ببوارق تلك البشرى، كما في رسالة «السانحات»، مثلما ذكره «عبد الرحمن» فيما كتبه من تاريخ الحياة وكنت أتصور ذلك النور-كالآخرين- في محيط واسع وفي دائرة عظمى في عالم السياسة وفي الحياة الاجتماعية الإسلامية. ولكن أحداث العالم كانت تكذّبني وتخيّب أملي الحَسَن في تلك البشرى السارة عن المستقبل.

وعلى حين غرة وردت خاطرةٌ على قلبي أورثت الطمأنينة التامة والقناعة الكاملة وبقطعية تامة. فقد قيل لي: «إن تأويل بشاراتك وإخبارك منذ مدة برؤية نور -والتي كنتَ ترتبط بها بعلاقة جادة وتكررها- وتفسيرها وتعبيرها بحقكم بل بحق عالم الإسلام من حيث الإيمان هو رسائل النور، فهي ضياء، حيث أخذتْ جلّ اهتمامك، بل هي نور ومقدمة وبشرى لما كنتَ تتخيله وتظنه في دائرة واسعة وفي عالم السياسة ولما سيأتي من حالات سعيدة متّسمة بالدين. هذا النور المعجّل تصورتَه تلك السعادةَ المؤجلة فكنتَ تبحث عنه لدى باب السياسة».

نعم، لقد شعرتَ بهذا قبل ثلاثين سنة بحسّ مسبق، فقد كنتَ كمن ينظر إلى موضع أسود من خلال ستار أحمر فكنتَ ترى اللون أحمر. إذن فما شاهدتَه من نورٍ صدقٌ وصواب، ولكن طبّقتَه بشكل خطأ، فقد خدعَتك فتنةُ السياسة.

* * *

[مهمة رسائل النور]

إن رسائل النور لا تعمّر تخريبات جزئية، ولا ترمم بيتا صغيرا مهدما، بل تعمّر أيضا تخريبات عامة كلية، وترمم قلعة عظيمة -صخورها كالجبال- تحتضن الإسلام وتحيط به. وهي لا تسعى لإصلاح قلب خاص ووجدان معين بل تسعى أيضا -وبيدها إعجاز القرآن- لمداواة القلب العام المجروح، وضماد الأفكار العامة المكلومة بالوسائل المفسدة التي هُيئت لها ورُكّمت منذ ألف سنة، وتنشط لمداواة الوجدان العام الذي توجّه نحو الفساد نتيجةَ تحطُّم الأسس الإسلامية وتياراته وشعائره التي هي المستند العظيم للجميع ولا سيما عوام المؤمنين. نعم، إنها تسعى لمداواة تلك الجروح الواسعة الغائرة بأدويةِ إعجاز القرآن والإيمان.

فأمام هذه التخريبات الكلية الرهيبة، والشقوق الواسعة، والجروح الغائرة، ينبغي وجود حجج دامغة وأعتدة مجهّزة بدرجة حق اليقين وبقوة الجبال ورسوخها، ووجودُ أدوية مجرّبة لها من الخواص ما يفوق ألف ترياق وترياق (مضاد للسموم) ولها من المزايا ما يضاهي علاجات لا حدّ لها.

فرسائل النور النابعة من الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم، تؤدي هذه المهمة وفي هذا الوقت أتم أداء، وتحظى في الوقت نفسه بكونها مدار انكشاف لمراتبَ غير محدودة للإيمان ومصدر رقي في مدارجه السامية غير المتناهية.

وعلى هذا المنوال جرت مكالمة طويلة، فسمعتُها كاملة، وشكرت الله كثيرا. أجملتها لكم. ولمناسبة هذه الحادثة أُبيّن لكم حادثة وردت على خاطري في هذه الأيام:

عندما كنت أذكر كلمة التوحيد في ختام أذكار الصلاة ثلاثا وثلاثين مرة وردت هذه الخاطرة على قلبي: أن ساعة التفكر المذكورة في الحديث الشريف: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» موجودة في رسائل النور، فاسعَ للعثور عليها وامتلاكها…

* * *

[نتائج الاهتمام بالأخبار السياسية]

جواب الأستاذ حول سؤال أورده كل من «أمين» و«فيضي»

سؤال: إنكم تذكرون في جوابكم: أن من يتابع بلهفةٍ الحوادثَ الجارية في الأوساط السياسية الواسعة يتضرر من حيث وظائفه في الدوائر الصغيرة الخاصة.. نرجو إيضاحا لهذا؟

يقول أستاذنا:

الجواب: نعم، إن من يولي اهتماما بالغا في هذا الوقت بالصراعات الدائرة في الكرة الأرضية ويتابعها بلهفة وفضول بوساطة الراديو، تلحقه أضرارٌ مادية ومعنوية كثيرة جدا؛ فإما أنه يشتت عقلَه ويصبح أبلها -روحا ومعنى- وإما أنه يشتت قلبَه فيكون ملحدا روحا ومعنىً، وإما أنه يشتت فكره فيغدو أجنبيا روحا ومعنى.

نعم، إني شاهدت رجلا من العوام صاحب تقوى ودين -وآخر ينتسب إلى العلم- قد حزن حزنا شديدا لحد البكاء لانهزام كافرٍ عدوٍ للإسلام منذ القدم، وذلك لكثرة اهتمامه بما لا يعنيه، وفي الوقت نفسه سُرّ سرورا بالغا من تقهقر جماعة السادة من أهل البيت تجاه كافر عنيد!

أليس هذا أعجب مثال للجنون وتشتت العقل، أن يفضّل رجل عامي يتعلق عقلُه بدائرة السياسة الواسعة كافرا عدوا لدودا للإسلام على مجاهد سيد من أهل البيت؟

نعم، إن مسائل السياسة تتعلق -إلى حدٍ ما- بوظيفة العاملين في الشؤون الخارجية وأركان الحرب في الجيش والقادة المسؤولين. أما دفع تلك المسائل إلى رجل عامي ساذج وإثارته بها، وصرفه عما يلزمه من وظائف تجاه شؤون روحه وأمور دينه، بل حتى تجاه شؤونه الشخصية بالذات ولوازم بيته وقريته، ومن ثم جَعله بهذا التلهف والفضول سائبَ الروح، ثرثار العقل، فاقدا لأذواق القلب نحو الحقائق الإيمانية والإسلامية، خائر الشوق إليها.. وكذا إثارة العوام بتلك الاهتمامات التافهة التي تقتل قلوبهم معنىً -بما يشبه تهيئة الجو الملائم للإلحاد- ودفعهم إلى استماع الراديو في شؤون سياسية لا تعنيهم في شيء… أقول: إن كل ذلك لضرر بالغ للحياة الاجتماعية الإسلامية بحيث إن الإنسان كلما فكر بنتائجها الوخيمة المترتبة عليها يقشعر من هولها جلده، ويقف شعره!

نعم، إن كل إنسان له علاقه بوطنه وقومه وحكومته، ولكن من الخطأ الجسيم جَعْل منافع الأمة ومصلحة الوطن والحكومة تابعةً لسياسة مؤقتة لبعض الأشخاص انجرافا لتيارات موقتة، بل تَصوّرها نفسها.. فضلا عن أن حصة كل شخص من تلك الروح الوطنية والقومية وما تترتب عليها من وظائف إن كانت واحدة فإن حصته تجاه وظائف قلبه ومهمات روحه وواجباته الشخصية والبيتية والدينية وغيرها عشرون بل مائة حصة. لذا فإن تضحية هذه العلاقات الجادة والضرورية جدا لأجل تلك الحصة الواحدة من التيارات السياسية غير الضرورية مما لا يعنيه شيئا… أقول: إن لم يكن هذا جنونا فما هو إذن؟

هذا هو جواب أستاذنا الذي ألقاه علينا بسرعة، ونحن بدورنا كتبناه باستعجال. فنرجو غض النظر عن التقصير.

نعم، ونحن بدورنا نصدّق ما يقوله الأستاذ، لأننا قد شاهدنا ما يقوله في أنفسنا وفي أصدقائنا فعلا. حتى ترك بعضُهم صلاة الجماعة -وربما الصلاة نفسها- لأجل الاستماع إلى الراديو الذي يذيع الأخبار في أثناء وقت الصلاة بذاته. حتى إنه باهتمامه الشديد وفضوله البالغ لمتابعة أخبار الحرب -التي هي صفعة قوية متلاحقة على المدنية الحاضرة ولسفاهتها وضلالها ولأهانتها الإسلام- وتلهّفه للشؤون السياسية الدائرة في أوساطها الواسعة تلهفا شديدا والاسترشاد في شؤونه -بالراديو- بآراء أناس تسممت نفوسُهم وحارت عقولُهم، مما أضرّ بعمله المقدس الجليل ضررا جسيما.

                 من طلاب النور   من طلاب النور

                  أمين                   فيضي

* * *

[فساد الهواء المعنوي وعلاجه]

كنت أرى في نفسي وفي طلاب النور القريبين من هنا رهقا، وفتورا في الشوق، بعد انقضاء الأشهر الحرم. ولم أكن أفهم سبب ذلك بوضوح إلّا الآن حيث رأيت أن ما قلته -ظنا- من سبب إنما هو حقيقة. وهي:

كما أن الهواء يؤثر تأثيرا سيئا إن كان فاسدا -فسادا ماديا- كذلك الهواء المعنوي إذا ما فسد -فسادا معنويا- فإنه يؤثر تأثيرا سيئا في كل شخص وحسب استعداده. إنّ توجّه المؤمنين عامة وإقبالهم الجاد في الشهور الثلاثة إلى كسب مغانم أخروية والفوزِ في تجارتها، يصفّي الهواء المعنوي للعالم الإسلامي عامة وينقيه ويجمّله. حتى يتمكن من الصمود تجاه الآفات المهلكة والبلايا الرهيبة. فكل مؤمن يستفيد من ذلك الهواء الصافي الجميل حسب درجته.

ولكن بعد مضي الشهور المباركة تتبدل أوضاعُ السوق الأخروية، وتتفتح أبواب السوق الدنيوية، فيعتري الهممَ والتوجهاتِ شيءٌ من التغير والتبدل، إذ الأبخرة تسمّم الهواء المتصاعد من الأمور التافهة السخيفة، وتفسد ذلك الهواء الجميل. فيتضرر بدوره كلُّ مؤمن حسب درجته.

وعلاج هذا الداء والنجاة منه هو أنه ينبغي النظر إلى الأمور بمنظار رسائل النور، والسعي في الخدمة السامية بجد أكثر وشوق أعظم كلما ازدادت المشكلات. لأن فتور الآخرين وتخلّيهم عن الخدمة مدعاةٌ لإثارة غيرة أهل الهمة وتحفيز شوقهم، إذ يجد نفسه مضطرا إلى حمل شيء من أعبائهم ومهماتهم، بل ينبغي له ذلك.

* * *

[الذنوب في آخر الزمان]

مسألة أُخطرت على القلب فجأة: هناك روايات حول التضخم الرهيب لذنوب المرء في آخر الزمان. فكنت أفكر: هل يمكن أن يرتكب إنسان أضعاف ما يرتكبه شخص واحد من الخطايا والذنوب بألوف المرات؟ ترى أي ذنوب هذه -المجهولة لدينا- حتى تتعرّض للموجودات وتمس الكون فتثير غضبَه وتزيد حدّته، بل تسبب قيام الساعة ودمار
العالم عليهم؟

وها قد رأينا أسبابها المتعددة في الوقت الحاضر:

فمثلا: لقد فُهم من وجوهها المتعددة، بجهاز الراديو الموجود لدي. حيث إن شخصا واحدا يرتكب مليونا من الكبائر دفعةً واحدة بكلمة واحدة يتفوه بها في الراديو، فيُقحم ملايين المستمعين له في الذنوب.

نعم، إن جهاز الراديو ينطق بلسان واحد، إلّا أنه يدفع مئات الألوف من الكلمات في الهواء دفعة واحدة. فبينما ينبغي أن يَملأ هذا الجهاز -الذي هو نعمة إلهية عظمى- ذراتِ الهواء قاطبة، بالحمد والثناء والشكر لله سبحانه وتعالى، إلّا أن سفاهة البشر المتولدة من الضلالة تستعمل هذا الجهاز بما يخالف الشكر والحمد لله. فلا جرم أنه سيعاقب عليها.

نعم، إن المدنية الدنيّة الظالمة قد عوقبت، بكفرانها بالنعمة الإلهية وعدم إيفائها الشكر لله، تجاه ما أنعم عليها سبحانه من الخوارق الحضارية، لصرفها تلك الخوارق إلى الدمار حتى سلبت سعادة الحياة كليا وأردت الناسَ الذين يُعدّون في ذروة الحضارة والمدنية إلى أدنى من دركات الوحوش الضالة، وأذَاقَتهم عذاب جهنم قبل الذهاب إليها.

نعم، إن كون جهاز الراديو نعمة إلهية كلية يقتضي شكرا كليا، ولا يكون ذلك الشكر الكلي إلّا بتلاوته القرآن الكريم باستمرار، كي يوصل إلى مخاطبيه الحاليين دفعة واحدة ذلك الكلامَ الأزلي الصادر من خالق السماوات والأرض، فيصبح كمقرئ سماوي حافظ للقرآن الكريم يملك ألوف الألوف من الألسنة. وبهذا يكون قد أدّى ما عليه من مهمة الشكر والحمد لله، فيديم في الوقت نفسه تلك النعمة المهداة.

* * *

[هل حفظ القرآن أفضل أم استنساخ الرسائل؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن نشاطكم وجهودكم بما يفوق آمالي، ستجعلني في شكر وامتنان لله تعالى إلى آخر رمق من حياتي..

وقد ورد سؤال في رسالتكم هذه المرة: هل حفظ القرآن الكريم أفضل أم استنساخ رسائل النور؟

إن جواب سؤالكم هذا بدهي، لأن أعظم مقام في هذا الكون وفي كل عصر هو للقرآن الكريم. وإن تلاوته وحفظه يفضُل أي عمل آخر ويتقدّم عليه، حيث إن لكل حرف منه حسناتٍ تتراوح من العشرة إلى الألوف.

ولكن لأن رسائل النور براهينُ لحقائق القرآن العظيم الإيمانية وحججه، ولكونها وسيلة إلى حفظ القرآن الكريم وتلاوته، ومفسّرة لحقائقه وموضّحة لها، ينبغي السعي لها أيضا جنبا إلى جنبِ حفظِ القرآن الكريم.

* * *

رسائل متفرقة (1)

[صحبة أهل الحقيقة]

باسم من
 ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (الإسراء:44).

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعدد حروف رسائل النور المكتوبة والمقروءة والمتمثلة في الهواء إلى يوم القيامة.. آمين.

إخوتي الأعزاء الأوفياء الميامين ويا رفقائي الأقوياء المخلصين في خدمة القرآن والإيمان!

حمداً لله بما لا يتناهى من الحمد والشكر، إذ حقق بكم أملي في رسالة «الشيوخ» وادعائي في رسالة «الدفاعات».

نعم، لله الحمد والمنة بعدد الذرات من الأزل إلى الأبد، بما أنعم بكم على رسائل النور بثلاثين من أمثال عبدالرحمن، بل مائة وثلاثين، بل ألفٍ ومائة وثلاثين من أمثاله، كل منهم يقابل ألفاً.

وحيث إنني أرى إخوتي الذين يلازمونني في الخدمة دائماً ولا يغادرون بالي أبداً، يسعون للعمل لرسائل النور ويتبنّونها بجدية تامة ويحافظون عليها ويتوارثونها مثلكم ناشدين الحقيقة، مقدّرين كل شيء حق قدره.. أراهم في موضعي وهم أكثر إخلاصاً منى وأصلب عوداً وأنشط في خدمة القرآن والإيمان.. لذا أنتظر أجلي وقبري وموتي بفرح تام وسرور خالص واطمئنان قلبي كامل.

إنني يا إخوتي أراكم عدة مرات في اليوم، في رسائلكم وفي خدماتكم الجليلة التي لا تغادر ذهني، فأُشبع شوقي وأطمئنه بهذا الأمر. وأنتم كذلك يمكنكم أن تحاوروا وتجالسوا أخاكم هذا الضعيف في الرسائل، حيث الزمانُ والمكان لا يحولان دون محاورات أهل الحقيقة ومحادثاتهم، حتى لو كان أحدهم في الشرق والآخر في الغرب وآخر في الدنيا وآخر في البرزخ؛ لأن الرابطة القرآنية والإيمانية -التي هي بمثابة راديو معنوي- تجعلهم يتحاورون فيما بينهم.

هناك سؤال وارد ممن يملكون الأقلام الألماسية. إنني الآن لا أملك الجواب.
فمتى ما أملكه سيأتيكم بإذن الله.. إن رشدي ورأفت وسليمان و….. ممن لا أستطيع ذكر أسمائهم من إخوتى الأفاضل أرجو ألّا يمتعضوا من عدم محاورتهم محاورة خاصة بالرسالة.

إننا مضطرون إلى اتخاذ الحيطة والحذر بنسبة عظمة خدماتنا وأهميتها وبنسبة قوة المعارضين لها ودسائسهم الشيطانية.

الراجي دعواتكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[زمان الجماعة]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعدد عاشرات دقائق أيام الفراق.

إخوتي الأعزاء الأوفياء ويا رفقائي الأقوياء الفطنين في خدمة القرآن والإيمان!.

إن هذا الزمان، زمان الجماعة، فالأهمية والقيمة تكونان حسب الشخصية المعنوية للجماعة. ولا ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار ماهيةُ الفرد المادية الفردية الفانية، ولا سيما شخص ضعيف مثلي الذي لا حول له ولا قوة، ومنحه أهمية تفوق قيمته ألف درجة، وتحميل كاهله ألوف الأرطال -وهو الذي لا يتحملَ رطلا واحدا- سينسحق -بلا شك- تحت هذا الحمل.

ولله الحمد فإن رسائل النور قد أظهرت -حتى للعميان- بتجارب كثيرة وحوادث عديدة أنها معجزة قرآنية تستطيع أن تنوِّر هذا العصر، بل العصر المقبل. فمهما بالَغتم في مدحها والثناء عليها فهي أهلٌ لها وحقيقٌ بها. إلّا أن ما تُولُونَه لي من اهتمام وحظ في هذا الأمر، لا أجد نفسي أهلا له، ولو واحدا من الألف. بل أجدني فخورا إلى الأبد باسم رسائل النور التي أوْلاها المنعم الكريم نعمةً عظمى بسعيكم الحثيث إلى الأعمال الجليلة واشتراككم الجاد مع طلابها النجباء.

لقد صدّق الشيخ الكيلاني والإمام الغزالي والإمام الرباني وأمثالهم من الأفذاذ، بشخصياتهم القوية وبخدماتهم الجليلة الحديثَ الوارد «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» وبإرشاداتهم السديدة وبآثارهم القيمة. ولكون أن تلك العصور كانت -من جانب- عصور الجهابذة الفريدين، فقد بعث الرب الحكيم أمثالَ أولئك الأشخاص الفريدين النادرين والدهاة السامين، لإسعاف الأمة.

أما الآن فقد بعث المولى الكريم «رسائل النور» التي هي بحكم شخص معنوي، وبعث طلابها الذين هم -بسر التساند والترابط- بحكم الفرد الفريد، إلى هذا العصر، عصر الجماعة، المحاط بالظروف المعقدة والأوضاع الرهيبة، لأجل القيام بتلك المهمة الجليلة.

وبناء على هذا السر الدقيق فإن جنديا مثلي، لا وظيفة له إلّا وظيفة الطليعة لدى مقام المشيرية المثقلة بالمهام الجسيمة.

تحياتى إلى إخوتي جميعا، ولا سيما الخواص، فأحييهم فردا فردا، ولأجلهم -وهم الأعزاء الميامين- أضم أقاربهم ومَن في قراهم ضمن دعواتي لأقاربي وأهل قريتي. هكذا أدعو لهم وأشركهم في مغانمي المعنوية.

* * *

[علاج الوساوس وحكمتها]

إخوتي الأعزاء الأوفياء المضحين!

إن سبب عدم استطاعتي المراسلة معكم هو بقائي تحت ضغط التضييق الشديد والمراقبة المستديمة والعزلة التامة عن الناس. فشكرا لله خالقي الرحيم بما لا يتناهي من الشكر، لما أنعم به عليّ من صبر جميل وتحمّل عظيم حتى فشل قصدهم الخبيث.

إن كل شهر يمر عليّ هنا من شهور فراقي عنكم يعادل سنة من السجن الانفرادي، ولكن بركات دعواتكم الطيبة حولت -بعناية إلهية- كلَّ يوم من أيامي إلى ما يعادل شهرا من العمر السعيد.

فلا تقلقوا على راحتي، إن ألطاف الرحمة الإلهية مستمرة.

أخي صبري! كن صابرا، لا تهتم بمرضك الناشئ من توتر الأعصاب والوهم. واعلم أنه لا ضرر فيه ولا خطورة من ورائه، ومع ذلك أدعو لكم بالشفاء. ذلك لأن الخواطر إن كانت سيئة فاسدة فلا ضرر منها، لأنه؛ كما أن صورةَ النجاسة في المرآة ليست نجسة، وصورةَ الحية لا تلدغ، وصورة النار لا تحرق، كذلك لا ضرر من الخواطر النجسة والقبيحة والكفرية التي تَرِد دون رضى من المرء، وتتمثل في مرايا القلب والخيال دون اختيار منه. فقد تقرر في علم الأصول: أن تصور الكفر ليس كفرا وتخيل الشتم ليس شتما.

أما الخواطر الحسنة فإن تخيّلها وتصوّرها حسنة أيضا لأنها نورانية. ذلك لأن مثال النوراني وصورتَه في المرآة يبعث النور والضياء، فلها خاصيته. بينما مثال الكثيف ميّت لا حياة فيه، فلا تأثير له أيضا.

أما الآلام والأوجاع الروحية، فهي أسواطٌ ربانية تحث على المجاهدة والصبر، إذ تقتضي الحكمةُ الحيلولةَ دون الوقوع في اليأس وكذلك دون البقاء في الاطمئنان والأمان، وذلك بالموازنة بين الخوف والرجاء، مع التجمّل بالصبر والتحلي بالشكر.

لذا فإنه دستور مشهور لدى أهل الحقيقة: أن مدار الترقي هو ورودُ حالة القبض والبسط إلى المنتبهين اليقظين، بتجليات اسمَي الجلال والجمال…

أخي صبري!

إنه ما من ضرر يصيب رسائل النور من جراء أداء وظيفة الإمامة في المسجد، بل أدِّها بنيّة الرخصة، ولا تتورع منها حاليا.

إخوتي!

الحذرَ الحذر! إن المنافقين كثيرون، فلا تبوحوا بورود الرسائل من هنا، لئلا تُصاب خدمةُ رسائل النور بضرر.

إن كثيرا من الحقائق المهمة قد وردت ولم نتمكن من تدوينها، فعادت كما أتت مع الأسف. إنني هنا وحيد ومنعزل كليا.

* * *

[أيّ رسالة أفضل؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء المضحين، ويا رفقائي الجادين الثابتين الصامدين في خدمة القرآن والإيمان!

إنكم مدار سلواني وعزائى في هذه الدنيا، فلقد حققتم آمالي وأمانيّ الكبيرة في حقكم، ليرضَ الله عنكم أبدا.. آمين.

لقد أثمرتْ إرسالياتُكم فوائدَ جمّة هنا ولاسيما «الكلمة العاشرة»، فلو كنتُ قادرا لدفعتُ مقابل كل ورقة منها هدية ثمينة. ولما كنت لم التَق هذه الرسائل منذ مدة، فأيّما رسالة أقرؤها، أقول: هذه أُولاها وأفضلها، ثم أطالع الأخرى وأقول: هذه أحسنها.. وهكذا الرسالة تلو الأخرى حتى اقتنعت قناعة تامة -وتغمرني الحيرة- أن أجزاء رسائل النور لا تفضل إحداها الأخرى، فلكل منها رئاسة في مقامها، ولا غرو فإنها معجزة قرآنية تنوِّر هذا العصر.

إن للمجموعة الكاملة لرسائل النور -التي هي مرشد علمي معنوي مهم لهذا العصر- كراماتٍ مثل كرامات الأشخاص الأفذاد، فهي كرامات تلائمها وتجانس الحقيقة العلمية، فكراماتُها ترد في أنواع كثيرة ولاسيما في إظهار الحقائق الإيمانية، وفي انتشارها، كالكرامات الثلاث الظاهرة لرسالة المعجزات الأحمدية، وككرامة الكلمة العاشرة، والكلمة التاسعة والعشرين والآية الكبرى وأمثالها الكثيرة من الرسائل. فكل منها لها كرامات خاصة بها، تظهر بأمارات كثيرة وحوادث كثيرة، حتى إن وقائعَ عديدةً أورثتني قناعة تامة لا يداخلها الشك من أن المجموعة الكاملة لرسائل النور بمثابة مرشد معنوي لإنقاذ إيمان طلابها عند سكرات الموت.

لقد شاهدت فاقتنعت أن «الحزب الأكبر النوري» مثال واحد لما ورد في الحديث الشريف «تفكر ساعة خير من عبادة سنة» فعزمتُ على أن أرسله إليكم مرفقا بـ«الحزب الأعظم القرآني» ولكن لطول الأخير لم أتمكن من استكتابه. ولما حاولت ترجمة «الحزب الأكبر» فكرت في أن أمثالكم من الإخوة ليسوا بحاجة إلى الترجمة، لذا سأرسله لكم بصورته العربية.

وإن ما أرسلته إليكم من خلاصة «المقام الأول للآية الكبرى» هي أساس هذا «الحزب الأكبر» إذ عندما أُضيفَ بعضُ الفقرات الصغيرة وبعض القيود -من دون اختيار- إذا بتلك الخلاصة تأخذ شكلا آخر، فانبسطتْ وتوسعت وسطعَت براهينُ التوحيد فيها -كما في الآية الكبرى- وزادت معانيها وأورثت انشراحا عظيما لروحي وقلبي وفكري، بحيث إنني كلما قرأت ذلك «الحزب الأكبر» متفكرا ومتأملا -أثناء التعب والسأم- شعرت بذوق لطيف وشوق عظيم.

* * *

[العقل والقلب معا في رسائل النور]

هذه الفقرة كتبتُها جوابا عن سؤال، لعل في بيانها فائدة لكم.

سأل مطالعون بكثرة لكتب الأولياء ودواوين العلماء هذا السؤالَ:

لماذا يجد قارئ رسائل النور إيمانا وإذعانا في قلبه، ويَشعر بشوق دائم ولذة جديدة أكثر بكثير مما يجده في تلك الكتب؟

الجواب: أن قسمًا من مصنفات العلماء السابقين وأغلب الكتب القديمة للأولياء الصالحين تبحث في ثمار الإيمان و نتائجه و فيوضات معرفة الله سبحانه، ذلك لأنه لم يكن في عصرهم تحدّ واضح ولا هجوم سافر يقتلع جذور الإيمان وأسسه، إذ كانت تلك الأسس متينةً ورصينة.

أما الآن فإن هناك هجوما عنيفا جماعيا منظما على أركان الإيمان وأسسه، لا تستطيع أغلبُ تلك الكتب والرسائل التي كانت تخاطب الأفراد وخواص المؤمنين فقط أن تصدّ التيار الرهيب القوي لهذا الزمان، ولا أن تقاومه.

أما رسائل النور، فلكونها معجزة معنوية للقرآن الكريم، فهي تنقذ أسس الإيمان وأركانه، لا بالاستفادة من الإيمان الراسخ الموجود، وإنما بإثبات الإيمان وتحقيقه وحفظه في القلوب وإنقاذه من الشبهات والأوهام بدلائلَ كثيرة وبراهين ساطعة. حتى حكَم كلُّ من يُنعِم النظر فيها؛ بأنها أصبحت ضروريةً في هذا العصر كضرورة الخبز والدواء.

إن الدواوين والمؤلفات السابقة تقول: كن وليا وشاهِد وَارْقَ في المقامات والدرجات، وأبصرْ وتناول الأنوار والفيوضات!.

بينما رسائل النور تقول: كن مَن شئتَ وأبصر. وافتح عينيك فحسب، وشاهد الحقيقةَ وأنقذ إيمانك الذي هو مفتاح السعادة الأبدية.

ثم إن رسائل النور تحاول أولا إقناعَ نفس مؤلّفها ثم تخاطب الآخرين؛ لذا فالدرس الذي أقنع نفسَ المؤلف الأمارة بالسوء إقناعا كافيا وتمكّن من إزالة وساوسها وشبهاتها إزالة تامة لهو درس قوي بلا شك، وخالصٌ أيضا، بحيث يتمكن وحدَه من أن يصد تيار الضلالة الحاضرة التي اتخذت شخصية معنوية رهيبة -بتشكيلاتها الجماعية المنظمة- بل أن يجابهها و يتغلب عليها.

ثم إن الرسائل ليست كبقية مصنفات العلماء تسير على وفق خطى العقل وأدلته ونظراته، ولا تتحرك كما هو الشأن لدى الأولياء المتصوفين بمجرد أذواق القلب وكشوفاته. وإنما تتحرك بخطى اتحاد العقل والقلب معا وامتزاجهما، وتعاون الروح واللطائف الأخرى، فتحلّق إلى أوج العلا وتصل إلى مراقٍ لا يصل إليها نظرُ الفلسفة المهاجمة فضلا عن أقدامها وخطواتها، فتُبيّن أنوارَ الحقائق الإيمانية وتوصلها إلى عيونها المطموسة.

* * *

[حكمة التكرار]

إخوتى الأعزاء الأوفياء حق الوفاء!

لأنتم مدار سلواني وسروري في هذه الدنيا؛ فلولاكم لما تحملت العذاب طوال أربع سنوات. فثباتُكم وصمودُكم منَحاني صبرا قويا وجلَداً أمام العذاب. فلقد وردتْ إلى الخاطر دفعةً واحدة النقاطُ الآتية:

أولاها: إخوتى! إن هذه الزلزلة معجزة قرآنية جلية كانشقاق القمر -حسب اعتقادي-؛ فلقد اضطر أعتى المتمردين إلى الدخول في حالة التصديق.

ثانيتها: منذ القدم لا توجد جماعة كطلاب النور، سَعوا سعيا جادا وقدّموا خدمات جليلة في طريق الحق والحقيقة ثم نجَوا من البلايا والمصائب بأتعاب قليلة، علما أن الذين أدّوا عُشر ما قدمناه من خدمات للإيمان والقرآن قد قاسوا أضعاف أضعاف ما قاسيناه. بمعنى أننا في حالة تدفعنا إلى الشكر والحمد دوما.

ثالثتها: لقد طالعت الرسائل المرسلة إلينا، فرأيت أن عددا من الحقائق قد تكررت لمناسبة المقام؛ إذ تكررت تلك المسائل دون إرادتي بل خلاف رغبتي واختياري، فتضايقتُ من النسيان الذي اعترى ذاكرتي، وفجأة ورد إلى القلب هذا التنبيه: «انظر إلى ختام الكلمة التاسعة عشرة».

فنظرت إليه وهو يتناول بيان الحِكَم الجميلة للتكرارات الواردة في القرآن الكريم، فهذه الحِكم تَظهر أيضا في رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم، فرأيت أن تلك التكرارات منسجمة تماما مع تلك الحِكم، بل هي ضرورية أيضا.

ثم إن كلا من لطفي وعبد الرحمن وعلي الصغير قد طلبوا مني -باسمكم جميعا- شرح «اللمعة التاسعة والعشرين العربية» وترجمتَها إلى التركية إلّا أنه لا يتسع وقتي لأنشغل بها ولا تسمح حالي حاليا بذلك. وسيؤدي تلك الوظيفةَ -إن شاء الله في المستقبل- طالب آخر من طلاب النور.

سؤال: لِمَ لا تصيب زلزلةُ الأرض روسيا، بل تصيب فقط…؟

الجواب: لأن الاستخفاف والكفر بدين منسوخ محرّف يختلف عن الاستخفاف بدين أبدي حق. فهذه الإهانة تثير غضب الأرض وتزلزلها.

* * *

[الرسائل تنتشر بذاتها]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إخوتي الأعزاء الثابتين المضحين الأوفياء!

أولا: أهنئ عيدكم المقبل، راجيا من رحمة الرحمن سبحانه وتعالى أن يجعل دعوات إخواني الميامين في جوف الليالي المباركة وفي أسحارها مباركةً منورةً لي ولأهل الإيمان ولاسيما تلك التي تُرفع من قِبَلهم في الليالي الثابتة قيمتُها بالقَسَم القرآني ﴿وَالْفَجْرِۙ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ

…….

ثالثا: إنني أشعر بأن «لخلوصي» ما يقلقه. فعليه ألّا يقلق، لأن طلاب رسائل النور تحت حماية رحمة الله ونَظَارةِ عنايته. ولما كانت مشقات الدنيا تورث الثوابَ والأجر الأخروي، وأنها عابرةٌ زائلة كذلك، ينبغي أن تقابَل تلك المصائبُ بالثبات والصمود مع التحلي بالصبر الجميل ضمن الشكر.

إنكم جميعا وكذا «خلوصي» داخلون ضمن دعواتي.. فأنتم معي في كل مغانمي ومكاسبي المعنوية.

رابعا: إن رسائل النور تنتشر بذاتها تحت حماية القرآن الكريم والحفظ الرباني.. وهي تتفيض وتتنور أكثر في السر. وإنني على أمل أنكم يا إخواني ستصدّون حادثات الزمان المزلزلة -كما هو دأبكم إلى الآن- وليكن دستورنا دوما «من آمن بالقدر أمِن من الكدر».

* * *

[الدواء المقدس]

إخوتي الأعزاء!

إنني بالمقابل أهنئكم أيضا بالعيد السعيد.

تسألون عن صحتي وراحتي.

إنني أحمد خالقي الكريم حمدا لا يتناهى، إذ أسعفني بالإيمان الذي هو دواء مقدس لكل داء وأغاثني بدواء الرضا بالقضاء النابع من الإيمان بالقدر، مما دفعني إلى الشكر ضمن الصبر، على الرغم من شدة برودة الشتاء هنا، ولاسيما في غرفتي، على الرغم من وحشة الغربة من جهات ثلاث، وضيق الأمراض العصبية الثلاثة، على الرغم من الانفراد التام والعزلة الكاملة، وتعرضي لما لا يُتحمل من المشقات والمضايقات.

* * *

[ناشرو الرسائل]

إخوتي الأعزاء الأوفياء الخالصين!

إنني أحمد ربي الرحيم حمدا لا نهاية له، إذ خَلق من أمثالكم ناشرين لرسائل النور ومحافظين عليها ومالكين لها. وخففَ العبء الثقيل الذي أرهق كاهلَ شخص ضعيف عاجز مثلي.

* * *

[رفض الإفراط]

…..

إنه لا يمكن قبولُ حسنِ الظن المفرط نحوي ومَنحي مقاما وأهمية تفوق حدي ألف درجة، إلّا إذا كان باسم رسائل النور وخدمتها، وكونها داعية ودلّالة إلى جواهر
القرآن الكريم.

نعم، ليس لي حقٌّ قط في قبول مثل هذا الظن الحسن باعتباري الشخصي الذي لا أهمية له إطلاقا.

* * *

[الصدقة تدفع البلاء]

إخوتي الأعزاء الصادقين الثابتين الموقرين!

إن توديعكم كتابة «الفهرس» إلى الشخص المعنوي الناشئ من هيئتكم المتساندة، وعلى صورة توزيع الأعمال فيما بينكم عملٌ جميل جدا. فلقد وجدتم أستاذا حقيقيا ودائميا لكم. فذلك الأستاذ المعنوي أفضل بكثير من أخيكم هذا العاجز. بل لا يَدع حاجة إليه.

إخوتي!

عندما قلقتُ من أجلكم بسبب أخذكم إلى الخدمة العسكرية، ونظرت إلى حادثات الزمان خطر على قلبي ما يأتي:

إن الحضارة الأوروبية المؤسّسة على أسس فاسدة، والتي تدّعى أن كل ما أتاها هو من عندها كادّعاء قارون ﴿قَالَ اِنَّمَٓا اُو۫تيتُهُ عَلٰى عِلْمٍ (القصص:78) فلا تشكرُ ربّها الذي أحسن إليها بفضله وكرمه تعالى، والتي رجحت كفةُ سيئاتها على حسناتها حيث سقطت في الشرك بفكرها المادي الملوث. إن هذه الحضارة تلقّت صفعةً سماوية قوية بحيث أبادت محاصيل مئات السنين من رقيّها وتقدمها، ودمّرتها تدميرا وجعلتها طعمة للنار؛ إذ قد نزلت بالحكومات الأوروبية الظالمة -لإهانتها العالم الإسلامي ومركزَ الخلافة وإقرارِها معاهدة سيـفر- خسارةٌ فادحة وانهزام كلّي بحيث لا تستطيع الخروج من عذاب في الدنيا كعذاب جهنم، بل تضطرب وتصطرخ فيها. أجل إن هذا الانهزام، إنما هو عقاب تلك الإهانة.

هذا، ويقضي أشخاص محترمون هنا حكما قاطعا بأن ولايتَي «إسبارطة» و«قسطموني» وهما مركزا انتشار رسائل النور محفوظتان من الآفات السماوية بالنسبة لسائر الولايات. وأن السبب في ذلك هو ما تُورثه رسائلُ النور من إيمان تحقيقي وقوة في العقيدة والدين. إذ إن أمثال هذه الآفات السماوية تنـزل نتيجة سيئات تنشأ من ضعف الإيمان. فلقد ثبت في الحديث الشريف «الصدقة تدفع البلاء» فتلك القوة الإيمانية أيضا تدفع تلك الآفات حسب درجتها.

* * *

[سعيد صعيد]

يا سعيد! كن صعيدا، في نكران تام للذات، وتركٍ كلي للأنانية، وتواضعٍ مطلق، كالتراب. لئلا تعكر صفو رسائل النور وتقلل من تأثيرها في النفوس.

* * *

مسائل متفرقة

مسائل متفرقة

المسألة الأولى

سؤال: ما حكمة كثرة الصلاة على الرسول ﷺ، وما سرّ ذكر السلام معها؟

الجواب: إن الصلاة على الرسول الكريم ﷺ وحدها طريقُ الحقيقة؛ فهو ﷺ مع أنه قد حظي بمنتهى الرحمة الإلهية قد أظهرَ الحاجة إلى منتهى الصلاة عليه، ذلك لأن الرسول الكريم ﷺ ذو علاقة مع آلام الأمة جميعا، وله حظ بسعاداتهم. ولعلاقته بسعادة جميع الأمة المتعرضة لأحوال لا نهاية لها في مستقبل غير محدود يمتد إلى أبد الآباد، أظهَرَ ﷺ الحاجة إلى منتهى الصلاة عليه.

ثم إن الرسول الكريم ﷺ عبدٌ، وهو رسولٌ في الوقت نفسه، فيحتاج إلى الصلاة من حيث العبودية، ويحتاج إلى السلام من حيث الرسالة، إذ العبودية تتوجه من الخلق إلى الخالق حتى تنال المحبوبية والرحمة، فـ الصلاة تفيد هذا المعنى؛ أما الرسالة فهي بعثة من الخالق سبحانه إلى الخلق، فتطلب السلامة (للمبعوث) والتسليم له، وقبولَ مهمته والتوفيق لإجراء وظيفته. فلفظ السلام يفيد هذا المعنى.

ثم إننا نقول «سيدنا» ونعبّر به: يا رب ارحم رئيسَنا الذي هو رسولُكم إلينا ومبعوثُنا إلى ديوان حضرتكم، كي تسري تلك الرحمةُ فينا.

اللهم صلّ وسلّم على سيدنا محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

المسألة الثانية

جواب قصير لسؤال طويل أورده أحد إخواننا.

إذا قلت: ما هذه الطبيعة التي زلّ إليها أهلُ الضلال والغفلة فدخلوا الكفر والكفران وسقطوا إلى أسفل سافلين بعد أن كانوا في مرتبة أحسن تقويم؟

الجواب: إن ما يطلقون عليه بـ«الطبيعة» هو: الشريعة الفطرية الإلهية الكبرى، التي هي عبارة عن مجموع قوانين عادة الله، التي تبين تنظيم الأفعال الإلهية ونظامها.

من المعلوم أن القوانين أمور اعتبارية، لها وجود علمي، وليس لها وجود خارجي. ولكن الغفلة والضلالة أدت بهم إلى الجهل بالكاتب والنقَّاش الأزلي، لذا ظنوا الكتابَ والكتابة كاتبا، والنقشَ نقاشا، والقانونَ قدرةً، والمِسطَر مصدرا، والنظامَ نظّاما، والصنعةَ صانعا!

فكما إذا دخل إنسان جاهل لم يَرَ الحياة الاجتماعية إلى معسكر عظيم وشاهد حركات الجيش المطردة وفق الأنظمة المعنوية، خُيّل إليه أنهم مربوطون بحبال مادية، أو دخل مسجدا عظيما وشاهد الأوضاع الطيبة المنظمة للمسلمين في صلاة الجماعة أو العيد، تخيل أنهم مربوطون بروابط مادية.. كذلك أهلُ الضلالة الذين هم أجهل من ذلك الجاهل يدخلون هذا الكون الذي هو معسكر عظيم -لمن له جنود السماوات والأرض سلطانِ الأزل والأبد- أو يدخلون هذا العالم الذي هو مسجد كبير للمعبود الأزلي، ثم يذكرون أنظمة ذلك السلطان باسم الطبيعة، ويتخيلون شريعته الكبرى المشحونة بالحِكم غير المتناهية أنها كالقوة أو كالمادة صماءُ عمياءُ جامدة مختلطة.

فلا شك أنه لا يقال عن مثل هذا: إنه إنسان، بل حتى لا يقال له: حيوان وحشي، لأن ما تخيله «طبيعة» يفرِض عليه أن يمنح كلَّ ذرة وكلَّ سبب قوةً قادرة على خلق الموجودات كلها وعلما محيطا بكل شيء، بل عليه أن يمنح كلَّ ذرة وكلَّ سبب جميعَ صفات الواجب الوجود. وما ذاك إلاّ محال في منتهى الضلالة بل هذيان نابع من بلاهة الضلالة.

فـ«الكلمات» ورسائل أخرى قد أردتْ مفهومَ الطبيعة قتيلا في مائة موضع وموضع، وإلى غير رجعة! وكذا «الكلمة الثانية والعشرون» أثبتت هذا الأمر إثباتا قاطعا.

الحاصل: لقد أُثبتت في «الكلمات» إثباتا قاطعا: أن الذي يؤلّه الطبيعة يضطر إلى قبول آلهة غير متناهية لإنكاره الإله الواحد، فضلا عن أن كلَّ إله قادرٌ على كل شيء، وضدُّ كلِّ إله، ومثله.. وذلك لينتظم الكون!. والحال أنه لا موضع للشريك قطعا، بدءا من جناح ذبابة إلى المنظومة الشمسية ولو بمقدار جناح الذباب، فكيف يُتدخل في شؤونه تعالى غيره؟

نعم، إن الآية الكريمة: ﴿لَوْ كَانَ فيهِمَٓا اٰلِهَةٌ اِلَّا اللّٰهُ لَفَسَدَتَاۚ فَسُبْحَانَ اللّٰهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (الأنبياء:22) تقطع أساس الشرك والاشتراك ببراهين دامغة.

* * *

المسألة الثالثة

إن الكفر بذرة لجهنم معنوية، كما أن ثمرته جهنم مادية -كما أُثبت في الكلمة الثانية والثامنة وفي سائر الكلمات- فكما أنه سببٌ لدخول جهنم، فهو سببٌ لوجودها. إذ كما أن حاكما صغيرا بعزة ضئيلة وغيرة قليلة وجلال بسيط لو قال له شرير: لا تقدرُ على عقابي، ولن تقدر. فإنه بلا شك ينشئ لذلك الشرير سجنا ويقذفه فيه حتى لو لم يكن هناك سجن.

كذلك الكافر بإنكاره جهنم، فإنه يَصِم من له منتهى الغيرة والعزة والجلال، ويكذّبه ويتهمه بالعجز والكذب، فيمسّ عزته بشدة ويتعرض لجلاله بسوء. فلا شك لو لم يكن أي سبب لوجود جهنم -فرضا محالا- فإنه سبحانه يخلقها لذلك الكفر المتضمن للاتهام بالعجز والتكذيب إلى هذا الحد، وسيقذف فيها الكافر.

* * *

المسألة الرابعة

إذا قلت: لماذا يتغلب أهلُ الكفر والضلال على أهل الهداية في الدنيا؟

الجواب: لأن اللطائف الإنسانية واستعداداتها التي مُنحت لشراء الألماس الأبدي تُحيلُها بلاهةُ الكفر وسُكرُ الضلالة وحيرةُ الغفلة إلى قطع زجاجية تافهة وبلورات ثلجية سرعان ما تزول. فلا شك أن قِطع الزجاج المتكسر الجمادَ لأنه قد اُشتري بثمن الألماس، يُصبح كأنه أفضل زجاج وأجلى جماد!

كان فيما مضى جوهري ثري، فقدَ عقله وأصبح معتوها، ولما ذهب إلى السوق أخذ يعطي خمس ليرات ذهبية لقطعة زجاجية لا تساوي شيئا. ولما رأى الناس هذا منه، بدأوا يعطونه ما لديهم من زجاج، حتى الأطفال أعطوه بلورات ثلجية لقاء قطعة ذهب.

وكذا، فقد سكِر سلطان في زمن ما، ودخل ضمن الأطفال ظنا منه أنهم وزراء وقواد، وبدأ بإصدار أوامر سلطانية إليهم. سُرّ الأطفال بذلك، وقضى هو لهوا بينهم لطاعتهم له.

وهكذا الكفر بلاهة، والضلالة سُكر، والغفلة حيرة، بحيث يشتري الكافر المتاع الفاني بدلا من الباقي. وهذا هو السر في قوة مشاعر أهل الضلالة. فيشتد العناد والحرص والحسد وأمثالها من الأحاسيس لديهم، حتى ترى أحدهم يعاند -لسنة كاملة- لما لا يساوي دقيقة واحدة من الاهتمام.

نعم، إنه ببلاهة الكفر وسكر الضلالة وحيرة الغفلة تهوي اللطيفةُ الإنسانية التي خُلقت -فطرةً- للأبد والأبدية، فتأخذ أشياء فانية بدلا من الباقية وتعطيها ثمنا غاليا.

وهناك مرض عصبي أو مرض قلبي ينتاب المؤمن أيضا حتى إنه -كأهل الضلالة- يعطي اهتماما لما لا يستحق الاهتمام به. لكن سرعان ما يدرك خطأه فيستغفر ربه ولا
يصر عليه.

* * *

المسألة السادسة «مسالة صغيرة».

إن سبب إطلاق اسم «رسائل النور» على مجموع الكلمات (وهي ثلاث وثلاثون كلمة)، والمكتوبات (وهي ثلاثة وثلاثون مكتوباً)، واللمعات (وهي إحدى وثلاثون لمعة) والشعاعات (وهي ثلاثة عشر شعاعاً) هو أن كلمة النور قد جابهتني في كل مكان طوال حياتي، منها:

أن قريتي اسمها: نورس.

واسم والدتي المرحومة: نورية.

وأستاذي في الطريقة النقشبندية: سيد نور محمد.

وأستاذي في الطريقة القادرية: نور الدين.

وأستاذي في القرآن: نوري.

وأكثر من يلازمني من طلابي من يسمّون باسم نور.

وأكثر ما يوضح كتبي وينورها هو التمثيلات النورية.

وأول آية كريمة التمعت لعقلي وقلبي وشغلت فكري هي ﴿اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۜ مَثَلُ نُورِه كَمِشْكٰوةٍ…﴾ (النور:35).

وأكثر ما حل مشكلاتي في الحقائق الإلهية هو: اسم «النور» من الأسماء الحسنى.

ولشدة شوقي نحو القرآن وانحصار خدمتي فيه فإن إمامي الخاص هو سيدنا عثمان ذو النورين رضي الله عنه.

* * *

 جواب لسؤال حول تغليف الأسنان

جواب لسؤال السيد خلوصي

أكتب لكم مجملا مسألة أو مسألتين شرعيتين:

إن المضمضة سنة في الوضوء وليست فرضا. بينما هي فرض في الاغتسال، فلا يجوز بقاء داخلِ الفم دون غَسل ولو شيئا جزئيا. ولهذا لم يجرأ العلماء على الفتوى بجواز تغليف الأسنان. والإمام أبو حنيفة والإمام محمد رضي الله عنهما لهما فتاوى في جواز صنع الأسنان من الفضة أو الذهب بشرط ألّا يكون تغليفا ثابتا. بينما هذه المسألة منتشرة بحيث أخذت طور البلوى العامة، لا يمكن رفعها.

فوردت إلى القلب فجأةً هذه النقطةُ: إنه ليس في طوقي ولا من حدّي التدخل في مهمة المجتهدين، ولكني أقول على الرغم من عدم ميلي إلى ضرورة عموم البلوى: إذا أوصى طبيب حاذق متدين بتغليف السن، عند ذاك تخرج السن من كونها من ظاهر الفم وتكون بمثابة باطنه. فلا يبطل الاغتسال بعدم غسلها، لأن غلافها يُغسَل فحلّ محلها. فكما يَحِل شرعا غسلُ أغلفة الجرح محل الجرح نفسه لوجود المضرة، فغسل هذا الغلاف الثابت -المبني على الحاجة- يحل محل غسل السن، فلا يبطل الاغتسال. والعلم عند الله.

ولما كانت هذه الرخصة تقع للحاجة، فلا شك أن الذي يقوم بتغليف الأسنان أو حشوها للتجميل لا يستفيد من هذه الرخصة، لأنه لو عمل ذلك بسوء اختياره حتى في حالة الضرورة لا تباح له ذلك. ولكن لو كان قد حدث دون علمه فالجواز للضرورة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[حول رسالة الحشر]

النكتة الثالثة للمسألة الثامنة من المكتوب الثامن والعشرين.

ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

السلام عليكم وعلى والديكم وعلى إخوانكم وعلى رفقائكم في درس القرآن

أخي العزيز!

أولا: لقد سرّني كثيرا رأيكم: أنه لا داعي لما رآه عبد المجيد من أن المبحث الثالث للمكتوب السادس والعشرين، زائد لا داعي له، بناء على حذر في غير محله. علينا أن ندرك أننا نحظى بسر الآية الكريمة: ﴿مِلَّةَ اِبْرٰهيمَ حَنيفًا (البقرة:135). والتي تشير إلى اتباعنا سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي نال ثناء القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ اَخَافُ مَٓا اَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ اَنَّكُمْ اَشْرَكْتُمْ بِاللّٰهِ (الأنعام:81).

ثانيا: يكتب عبد المجيد أن مفتيا -من أهالي مدينة لهم صداقة عامة نحوي- قد أورد انتقادات واهية، بنظرٍ سطحيّ عابرٍ على تفرعاتِ «الكلمة العاشرة». فأجوبة عبد المجيد له كافية، عدا موضعين. إذ هو الآخر قد أجاب جوابا سطحيا في موضعين اثنين حول ذلك السؤال السطحي.

الأول: لقد قال ذلك الفاضل: إن حقائق «الكلمة العاشرة» ليست للمنكرين، لأنها مؤسسة على الصفات الإلهية والأسماء الحسنى. ويقول عبد المجيد في جوابه له: قد حمل المنكرين على الإقرار بالإيمان في الإشارات الأربعة التي تسبق الحقائق، ثم يسرد الحقائق.

والجواب الحقيقي هو الآتي:

إن كل حقيقة من الحقائق -الاثنتي عشرة لهذه الرسالة- تثبت أموراً ثلاثة في آن واحد: وجود واجب الوجود، وأسمائه وصفاته، ثم تبني الحشرَ على تلك الأمور وتُثبته. فيستطيع كل شخص من أعتى المنكرين إلى أخلص المؤمنين أن يأخذ حظه من كل حقيقة، لأنها تلفت الأنظار إلى الموجودات والآثار، وتقول: «في هذه الموجودات أفعال منتظمة، والفعل المنتظم لا يكون بلا فاعل، لذا فلها فاعل. ولما كان الفاعل يفعل فعله بالانتظام والنظام يلزم أن يكون حكيماً عادلاً، وحيث إنه حكيم، فلا يفعل عبثاً، وحيث إنه يفعل بالعدالة فلا يضيّع الحقوق، فلا بد إذن من محشر أكبر ومحكمة كبرى».

وعلى هذا المنوال تسير الحقائق، وتلبس هذا الطراز من التسلسل، وتثبت الدعاوى الثلاث دفعة واحدة. ولأنها مجملة فالنظر السطحي يعجز عن التمييز. علماً أن كل حقيقة منها قد فصلت بإيضاح تام في رسائل أُخر وفي «الكلمات».

الجواب الثاني الناقص الذي أورده عبد المجيد:

لقد أخطأ عبد المجيد لمسايرته السؤال الخطأ لذلك الفاضل ولقبوله الخطأ، لأنه لم يُذكر في حاشية «الكلمة العاشرة» أن الاسم الأعظم هو عبارة عن مرتبة عظمى لكل اسم فقط. بل ذكرنا في مواضع كثيرة: أن الحشر يظهر من الاسم الأعظم ومن المرتبة العظمى لكل اسم. فمع إثبات الرسالة -الكلمة العاشرة- الاسمَ الأعظم، فلكل اسم مرتبة عظمى أيضا بحيث حظي الرسول الأعظم ﷺ بهذه المراتب. فالحشر الأعظم أيضا متوجه إليها.

فمثلا: اسم «الخالق» له مراتب ابتداءً من مرتبة كونه سبحانه وتعالى خالقي إلى المرتبة العظمى في كونه خالقا لكل شيء.

وقد قال ذلك الفاضل الذي ساوره الشك: إن وجود مرتبة عظمى لكل اسم من كلام فلاسفة المتصوفة، قاصدا ردّه. بينما يتغير الاسم بالنسبة للإمام الأعظم أبى حنيفة والإمام الغزالى وجلال الدين السيوطي والإمام الرباني والشيخ الكيلاني وأمثالهم من المحققين الصدّيقين. فقد قال الإمام الأعظم:إن الاسم الأعظم هو: العدل، الحكم.. وهكذا.

على كل حال يكفي هذا القدر لهذه المسألة.

وقد جعلتنى انتقادات ذلك الفاضل ممتنا بثلاث جهات:

أولاها: أنه عجز عن الانتقاد مع إرادته له. مما يبين أن حقائق «الكلمة العاشرة» تستعصي على الجرح والنقد. إلّا ما كان موجها إلى بعض العبارات في الفرعيات.

ثانيتها: نسأل الله تعالى أن تحث تلك الانتقادات همةَ عبد المجيد الفطن الغيور ليصبح رفيق «خلوصي» نشطا نابها أهلا لصداقته.

ثالثتها: أن ذلك الفاضل راغب في الرسائل، ولهذا انتقد، إذ الذي لا يرغب في شيء لا يهتم به، لذا سيستفيد بإذن الله من الرسائل في المستقبل استفادة تامة.

يمكنكم إجمال هذه النكتة إجمالا جيدا وإرسالها إلى ذلك الفاضل، مع تحياتي له وامتناني منه.

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *