مقدمة الأستاذ إحسان قاسم الصالحي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هذه السيرة الذاتية

الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لعل القارئ الكريم يشاركني الإحساس بأن كتابة سيرة الحياة ولا سيما «السيرة الذاتية» من الكتابات الصعبة التي ينأى عنها كثير من الكتّاب، لما لها من التـزامات وأساليب ومقتضيات خاصة بـها. ومع هذا فقد تـناول كثير من الكتاب والباحثين حياة الأستاذ النُّورْسِيّ الحافلة بالأحداث، بأساليب شتى، منهم من التـزم السرد التاريخي فحسب وآخرون فضّـلوا الأسلوب الروائي ومنهم من اختار الأسلوب العلمي الأكاديمي وهكذا.

وأول من أقدَم على كتابة تاريخ حياة الأستاذ ابنُ أخيه وتلميذه المخلص عبدالرحمن ونشره في كتيب في سنة 1919م.

وفي بداية الخمسينيات نشر طلاب النور الجامعيون بآلة الاستنساخ -الرونيو- وبالحروف العربية كتاباً بعنوان «وتشرق الشمس من تركيا على عالم العلم والعرفان». وأعقب ذلك ما كتبه الأديب التركي الشهيـر «أشرف أديب» عن حياة الأستاذ في سلسلة من المقالات في مجلته «سبيل الرشاد».

ثم قام طلاب الأستاذ النُّورْسِيّ ممن درسوا عليه ولازموه ملازمة الظل في السجون والمنافي، بكتابة تاريخ حياة أستاذهم وهو مازال بينهم، ثم عرضوا عليه ما كتبـوه، فأقرّ عملهم بعد قيامه بحذف كل ما فيه إطراء أو إشادة لشخصه. وبعد الحذف والتشذيب نشروه في سنة 1958 تحت اسم «تاريخجهءِ حياة» (أي تاريخ الحياة).

وقد برز بعد ذلك باحثون في هذا الميدان وكتبوا باللغة التركية أبحاثهم ودراساتهم، وغدت تلك الدراسات مصادر لا يستغنى عنها لدى الكتابة عن حياة الأستاذ، نخص منهم بالذكر الأخَوَين الكريمين «عبد القادر بَادِلّلي» و«نجم الدين شاهين أر»؛ فكتب الأول «حياة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ بصورة مفصلة» ([1])(Bediuzzaman Said-i Nursi, Mufassal Tarihce-i Hayatı) في ثلاثة مجلدات؛ وكتب الآخر: «جوانب مجهولة من حياة بديع الزمان»(Bilinmeyen Taraflariyle B.S.Nursi) ([2]) و«الشهود الأواخر» (Son Şahitler) في أربعة مجلدات. وقد ضم كل منهما إلى مؤلفاتهما الوثائق التاريخية والمستمسكات الرسمية والعلمية بعد أن تجشما عناء الأسفار الطوال في سبيل الحصول على المعلومات من منابعها الأصلية.

بيد أني في أثناء سيري في ترجمة «كليات رسائل النور» لاحظتُ، بل لمستُ لمس اليد أن الأستاذ النُّورْسِيّ قد سجّل أغلب الأحداث التي مرّت به أو مرّ بـها، بل حتى خواطره ومعاناته النفسية والروحية، ونظراته وآراءه وتحليلاته للأحداث، سجلها كلها في الرسائل إلا أنه نثرها نثراً بين ثناياها وضمّها بين فقراتها وعباراتها مستخدماً إياها وسائل في خدمة الإيمان وتحقيقِه في القلوب وترسيخِه في العقول. فلم تعد تلك الذكريات ذكريـات تاريخية عابرة، وإنما أصبحت أحداثاً متفاعلة مع الحياة والإيمان، وكذلك وسائلَ ودلائل وإشارات إلى مباحث الإيمان.

ومن هنا فقد آثرتُ أن أتبع منهجاً متميزاً في كتابة هذه السيرة، وهو التقاط تلك المتناثرات والمبثوثات من الخواطر والأحداث من بين سطور «كليات رسائل النور» البالغةِ ثمانية مجلدات ثم ترتيبها وتنظيمها حسب تسلسلها التاريخي.

ولعل السبب الأساس في اختيار هذا النمط الصعب من الكتابة هو جعل القارئ الكريم يواجه الأستاذ النُّورْسِيّ مباشرة ويستمع إليه بنفسه من دون أن يكون لي دخل في الأمر، وذلك لئلا أتدخل في مشـاعر القارئ وأحاسيسه، حيث إن الكاتب مهما حاول التجرد والموضوعية فإنه قد يضفي شيئاً من إعجابه بكلمات المدح والثناء على ما كتب وسجل.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أي مصدر من المصادر لا يرقى في مصداقيته مهما كان صائباً وصادقاً إلى ما سجّله الأستاذ النُّورْسِيّ عن نفسه.

وعلاوة على ذلك، أحببت أن أضع بين يدي القارئ الكريم باللغة العربية أكبر كمية ممكنة من المباحث والخواطر والأحداث والوثائق الصائبة، وفي الوقت نفسه أرفع عن كاهل الباحثين الذين يرغبون في كتابة حياة الأستاذ النُّورْسِيّ عناء البحث والتنقيب.

ولهذا فقد جعلت متن الكتاب كله من كلام الأستاذ نفسه مع فقرات من كتاب «تاريخجهء حياة» الذي أقرّه بنفسه، ونظمت كلها حسب التسلسل التاريخي. بينما أوردت في الهوامش ما يعزز المتن ويوضحه مما اقتبسته من المصادر التركية، بل أضفت في بعض المواضع ما سمعتُه مباشرة من تلاميذ الأستاذ النُّورْسِيّ الأحياء من أمثال: «مصطفى صونغور» و«بايرام يوكسل» و«محمد فرنجي» وآخرين، وما سمعه الباحثون ممن شاهدوه، فانتقيت من هذه المشاهدات والخواطر ما تَأيّد من قبل شهود كثيرين أو ما تواتروا عليه.

ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من محاسن ومثالب، فمن جملة محاسنه إعطاء القارئ أصدق تاريخ حياة للأستاذ النُّورْسِيّ وأنزهه حيث لا نُقحم أنفسنا في إبداء رأي أو تأويل عبارة مما يجعل البحث عن الأستاذ النُّورْسِيّ تعبيراً عن نفسه وليس تعبيراً عما يختلج في صدورنا من دواعي الإعجاب والانبهار الذي يستحقه، فلا دخل لي فيه من شيء إلّا التنـظيم والترتيب. لذا يظل القارئ حرّ التفكير بعيداً عن أحاسيس الكاتب ومشاعره من بداية الكتاب إلى نـهايته. فضلاً عن وجود كمية وافرة من المعلومات والخواطر بين يديه.

ولكن مع هذا هناك نقص سيلمسه القارئ في هذا الأسلوب، وهو أن الفقرات المأخوذة من كلام الأستاذ في رسائل النور أومن تاريخ حياته الذي أقرَّه، في صياغتين متباينتين، فمرة ترد بصيغة المتكلم وأخرى بصيغة الغائب. ولهذا اضطررت إلى وضع عنـاوين صغيرة أو جمل قصيرة وربما كلمة واحدة بين الفقرات بين معقوفين [ ] كي لا تنقطع سلسلة أفكار القارئ الكريم.

ولعل عملنا هذا لرأب الصدع ورفع النقص يكون وسيلة لدفع القارئ إلى إعمال الذهن وقراءة ما بين السطور والقيام بالتركيب والتحليل، متجاوزاً القراءة العابرة. فيكون عند ذلك من جملة المحاسن وليس من المثالب.

ولا شك أن البحث قد أخذنا للتطرق إلى خُطَب الأستاذ النُّورْسِيّ ومقالاته ومؤلفاته ورسائله ومرافعاته في المحاكم وغيرها من الأمور. لذا لجأتُ إلى أخذ نموذج واحدٍ أو بضع فقرات فحسب من النصوص الأصلية، مع ذكر مواضعها في الهامش ليتشوق القارئ إلى مراجعة النص الكامل في موضعه ولئلا نحرمه من مصاحبة الأستاذ النُّورْسِيّ بالإقتباسـات المطولة. وتسهيلاً للأمر وضعنا في مستهل بعض الفصول تمهيداً نلخص فيه ما سبق من الأحداث ليعينه على الربط وتذكّر تسلسل الأحداث.

ومما أعاقني في البحث هو تأريخ الحوادث، حيث يرد تارة حسب التقويم الرومي -الذي كان مستعملاً رسمياً في أواخر الدولة العثمانية- وتارة بالتاريخ الهجري وأخرى بالميـلادي. فاضطررت إلى تحويل التواريخ الموجودة في المصادر إلى التقويم الميلادي والهجري مما سبّب وجود بعض الاختلافات في الأشهر دون السنين.

وقد أشركتُ معي إخوةً أعزاء في ترجمة بعض المباحث، واقتبست كثيراً من كتاب: «ذكريات عن سعيد النُّورْسِيّ» من ترجمة ابني الحبيب «أُسيد». كما استفدت من الخرائط الموجودة في كتاب: /The Author of the Risale-i Nur Bediuzzaman Said Nursi/ للأخت الفاضلة «شكران واحدة» مترجِمةِ «كليات رسائل النور» إلى اللغة الإنكليزية. حفظهم الله جميعاً وأثابهم ثواباً جزيلاً.

وبعد الانتهاء من عملي وجدت أستاذ الأدب العربي الأخ الكريم «فاروق رسول يحيى» مترجم «كليات رسائل النور» إلى اللغة الكردية، بجنبى، مُعيناً لي بملاحظاته القيّمة وتصحيحاته الدقيقة. فجزاه الله عنا خيراً.

وكلّي أمل أن يحظى هذا العمل بالقبول عند الله سبحانه وتعالى مع اعترافي بنقائصـه وهفواته النابعة من قصر باعي في هذا الميدان. وأسأله تعالى أن يقيّض لهذا العمل في قابل الأيـام من هو جدير به فيتناوله كما وصفه الأخ الحبيب «أديب إبراهيم الدباغ» في رسالته إليّ حيث قال:

«أخي الحبيب!

ذكرت في رسالتك أنك تنوي كتابة سيرة ذاتية للأستاذ النُّورْسِيّ مستخلصة من تراثه الفكري والإيماني، وهو بلا شك عمل جيد سيتوِّج أعمالك العظيمة في التحقيق والتأليف والتـرجمة. لذا أقدِّر أنه سيكون مؤلّفاً متميزاً سيُحدث -أو ينبغي أن يُحدث- من التأثير في أوساط المثقفين والمفكرين ما هو أهله، ويلفت انتباههم بقوة إلى هذا الإمام الجليل وإلى تراثه الفكري العظيم.

أخي الحبيب!

أرجو ألّا تعتبرني فضولياً! فبحق الأخوّة التي بيننا أدعوك إلى أن تنأى بالكتاب عن أن يكون عادياً وتقليدياً. فالرجل الذي تترجم له لم يكن في يوم من الأيام عادياً أو تقليدياً في كل ما كتب وترك من تراث.

فالتأنّي التأنّي -أخي الكريم- لا تتعجل أبداً، فالكتاب الذي أتمنى من صميم قلبي أن تكتبه لا ينبغي أن يكون أكاديمياً بارداً فتقتله البرودة في مهده، صحيح إن العـلمية مطلوبة والحقائق تفرض نفسها فرضاً على المؤلف، ولكن لا بد للحقيقة من أن يتناولهـا قلم حارٌ وإلّا ظلت باردة غير قادرة على التحريك والتحفيز. فأنت -يا عزيزي- تتناول بقلمك شخصية حارة ملتهبة، تتفجر حيوية، وتتدفق أفكاراً حارة لاهبـة، فليكن قلمك مغموساً بهذا اللهب الإيماني النوراني لكي يلهب الأفكار وينير القلوب. ولربما سأكون إلى جانبك يوماً لأسهم معك في كتابة بعضٍ من فصوله…»([3])

والله نسأل أن يحقق رغبة أخي الكريم بل رغبتنا جميعاً ويهيئ لهذا العمل من هو أهل له ويوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلِّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

إحسان قاسم الصالحي


[1]() وقد رمزت لهذا المصدر بـ(ب).

[2]() وقد رمزت له بـ(ش).

[3]() وقد حقق المولى الكريم أمنيته الصادقة لخلوص نيته فكان إلى جانبي حيث قرأ الكتاب قراءة متفحصة وأبدى ملاحظاته السديدة قبل أن يغادرنا لتولي مهامه أستاذاً للأدب العربي في جامعة داغستان الخاصة.

تقديم الأخ الفاضل مصطفى صونغور

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تقديم الأخ الفاضل مصطفى صونغور

مَن بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ الذي انتشرت دعوته في أنحاء العالم برسائله المسماة بـ«رسائل النور» والبالغة أكثر من مائة وثلاثين رسالة، وبجماعته «طلاب النور» الذين يتدارسون هذه الرسائل وينشرونها في آفاق الأرض فتُقرأ في تركيا، في مدنها كلها بل في أقضيتها وقراها، كما تُقرأ في أنحاء شتى من العالم الإسلامي والإنساني. فأحيا -في هذا العصر- روح طلب العلم من خلال التزود من دروس علمية إيمانية في ميدان واسع سعة العالم، حيث تُرجمت هذه الرسائل إلى مختلف لغات العالم علاوة على ترجمتها إلى اللغة العربية، وتناولها الناس بلهفة بالغة حتى وصلت إلى مناطق قصيّة من آسيا الوسطى وروسيا، فأصبحت وسيلة لإخراج ما لا يعد ولا يحصى من الناس، من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الضلالة إلى الهداية، ووهبت لهم سعادة أبدية خالدة.. وهكذا تزداد بفضل الله سعة دائرة هذه الدعوة الإيمانية يوماً بعد يوم؟

فمَن هذا النُّورْسِيّ، وكيف كانت حياته، وما دعوته، وما آثاره ومؤلفاته، وما هدفه ومقصده..؟ إن الكتب المؤلفة حول حياته الحافلة بالأحداث، تجيب عن هذه الأسئلة جميعها. وإن كتاب «تاريخ حياة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ» الذي أعدّه طلابه الذين كانوا في صحبته ويعاونونه في أموره، والذي أقرّه بعد تصحيحه وتشذيبه، منتشر في أوساط الناس ومتداول بين أيديهم، وقد أضاف إليه المؤلف نفسه أجزاءً من رسالة «الآية الكبرى» ورسالة «المناجاة» وأجزاء من رسائل أخرى كثيرة وأوضح في مكاتيبه أن هذا الكتاب بقيمة عشرين مجموعة من رسائل النور، وهو الآن في طور الترجمة إلى اللغة العربية كما أن قسما كبيرا منه ترجم إلى اللغة الإنكليزية.

والآن يقدم المترجم المحترم إحسان قاسم الصالحي هذه «السيرة الذاتية» بأسلوب متميز وبمنهج أصيل حقا، وذلك لقيامه بجمع المتون الأصلية من كلام الأستاذ نفسه والمستخلصة من كليات رسائل النور كلها ومن «تاريخ حياة الأستاذ». وبهذا تحرز هذه «السيرة الذاتية» أهمية بالغة وتضفي رونقاً جديداً وجمالاً آخر إلى بحث تاريخ حياة الأستاذ.

إن هذا الفقير إلى الله تعالى العاجز قد حظي -برحمة من الله تعالى- بنعمة ملازمة الأستاذ النورسي -مع إخوته الآخرين- لأكثر من السنين العشر الأخيرة من حياته المباركة. فباسم أولئك الإخوة وبلسانهم أحاول عرفاناً بالجميل وتحقيقاً لرغبة المترجم المحترم إحسان قاسم، أن أتناول بعض المسائل باختصار شديد حيث إن رسائل النور قد ذكرتها.

ولا بد أن نذكّر أننا لكي نستطيع أن نوفى حقّ التعبير عن أهمية رسائل النور ونقدرها حق قدرها، ينبغي التفكير في فترة تأليفها وكتابتها ونشرها أولاً:

بدأ تأليف رسائل النور بعد نفي الأستاذ النُورسي من مدينة «وان» في شرقي الأناضول، إلى «بارلا» في غربي الأناضول وذلك عقب حركة «الشيخ سعيد بيران». هذه الفترة هي بداية تنفيذ إجراءات شديدة لاستبداد مطلق، دام ربع قرن من الزمان.

نعم، إن المنظمات الإلحادية السرية كانت تستهدف إزالة الشعائر الإسلامية ورفعها الواحدة تلو الأخرى وطمس روح الإسلام في الأمة التركية التي رفعت راية الإسلام طوال ستة قرون بل منذ عهد العباسيين. ولتحقيق هدفهم هذا بدأوا بتنفيذ خطة «تنشئة جيل يقوم بنفسه بعد ثلاثين سنة بإزالة القرآن ونـزعه من القلوب». وفعلاً بدأوا بتنفيذ خطتهم هذه ونجحوا في قطع روابط هذه الأمة بالإسلام وسعوا لها بشتى الوسائل.

فالقضية إذن ليست قضية جزئية موضعية، بل هي قضية كلية عامة شاملة تتعلق بإيمان الملايين من أبناء الجيل المقبل، وتتعلق بالحياة الأبدية لشعب كامل، شعب الأناضول حيث شهدت تلك الفترة تحولات رهيبة ودمارا فظيعا وعداء شرسا للإسلام والقرآن، ومسخا للتاريخ المجيد لهذه الأمة البطلة. حتى دفعت تلك المنظمات الإلحادية الجيل الناشئ -ولا سيما طلاب المدارس- إلى نسيان ماضي أجدادهم المليء بالجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، وذلك بكلام براق في الظاهر لكي يقطعوا صلتهم بالإسلام، حتى هيأوا جواً ملائماً لإقرار نظام إلحادي سافر.

فينبغي إذن وضع تلك الأيام الحالكة القاسية الرهيبة نصب العين لدى دراسة دعوة الأستاذ النُورسي وخدمته للقرآن والإيمان. ولعل بعض الإشارات الغيبية المتعلقة بالعنايات الإلهية التي رافقت دعوة رسائل النور، والتوفيق الرباني الذي لازم مؤلفها ليست لشخص المؤلف بذاته وإنما لأهمية هذه الخدمة القرآنية في تلك الأوقات العصيبة.

يعلل الأستاذ هذه الأهمية فيقول: «من المعلوم أن دقيقة واحدة تكون ذات أهمية تقابل ساعة كاملة وأنها تثمر من النتائج ما تنتجه تلك الساعة، وربما ما ينتجه يوم كامل، بل قد تكون بمثابة سنين. ويحدث أحياناً أن تكون ساعة واحدة لها من الأهمية وتعطي من النتائج ما لسنة من العمر بل العمر كله.

فمثلاً: إن الذي يستشهد في سبيل الله في دقيقة واحدة يفوز بمرتبة الأولياء، وإن مرابطة ساعة واحدة في ثغر المسلمين عند اشتداد البرد وصولة الأعداء الرهيبة، قد تكون لها من الأهمية ما لسنة من العبادة.

وهكذا الأمر في رسائل النور؛ إذ إن سبب الاهتمام الذي نالته رسائل النور نابع من أهمية الزمان نفسه.. من شدة الهدم الذي أحدثه هذا العصر في الشريعة المحمدية والشعائر الأحمدية.. ومن فتنة آخر الزمان الحالية التي استعاذت منها الأمة الإسلامية منذ القدم.. ومن زاوية إنقاذ إيمان المؤمنين من صولة تلك الفتن.

نعم، لقد تزعزعت قلاع الإيمان التقليدية وتصدعت أمام هجمات هذا العصر الرهيب، ونأى الإيمانُ عن الناس وتستر بحجب وأستار، مما يستوجب على كل مؤمن أن يملك إيماناً تحقيقياً قوياً جداً كي يمكّنه من المقاومة والثبات وحده تجاه هجوم الضلالة هجوماً جماعياً.

فرسائل النور تؤدي هذه الوظيفة، في أحلك الحالات وأشدها رهبة، وفي أحوج الأوقات وأحرجها، فتنجز خدماتها الإيمانية بأسلوب يفهمه الناس جميعاً. وقد أثبتت أعمق حقائق القرآن والإيمان وأخفاها ببراهين قوية، حتى أصبح كل طالبِ نورٍ وفيٍّ صادق يحمل في قلبه الإيمان التحقيقي كأنه قطب مخفيّ من أقطاب الأولياء وركيزة معنوية للمؤمنين، وذلك لخدماته الإيمانية في القرية أو القصبة أو المدينة التي يقيم فيها. ورغم أنهم غير معروفين وغير ظاهرين ولا يلتقيهم أحد فقد صار كل منهم بعقيدته المعنوية القوية كضابط شجاع في الجيش يبعث مدداً معنوياً إلى قلوب أهل الإيمان فيبث فيهم وينفخ روح الحماس والشجاعة».

ويقول أيضاً: «إن رسائل النور تفسير للقرآن الكريم وهى وثيقة الصلة به، ذلك الكتاب الجليل المرتبط بالعرش الأعظم، لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي الشخصية إلى الرسائل».

إن هذه «السيرة الذاتية» المعدّة من كلام الأستاذ النورسي إذ تقدم لأنظار القارئ الكريم سيرة حياة الأستاذ، تقدم في الوقت نفسه مسلكه ومشربه ومنهجه في الدعوة إلى القرآن والإيمان، كل ذلك من كلام الأستاذ نفسه. ونحن هنا نذكر بعض ما يتعلق بأسلوب دعوة الأستاذ ومنهجه أيضاً من خلال ما كان يتطرق إليه في أثناء الدروس النورية أيام حضورنا بقربه، وفي فترات انشغالنا بنشر الرسائل -بفضل الله- طوال السنوات العشر الأخيرة من حياته.

ونؤكد فنقول: إن هناك الكثير مما سمعناه من الأستاذ كنا نكتمه لأنه يتعلق بنا أو بي خاصة، ولكن بعد مدة تبين أن تلك الأمور مذكورة أيضاً في الرسائل.. وكنت أحار من هذا كثيراً. وحتى إنني سألت السيد «محمد فيضي» الذي لازم الأستاذ في قسطوني ثماني سنوات، فقلت: ما سر إطلاق الأستاذ عليكم اسم «كاتب السر» فأجاب مبتسماً: «لم يهمس الأستاذ في أذني شيئاً خارج ما كتبه في الرسائل». بمعنى أن هذه الرسائل عبّرت عن كل شيء فليس لدينا شيء خارجها.

أورد لذلك مثالاً: كنا ذات يوم في «بارلا» مع الأستاذ -أنا وجَيلان وزبير- في بيت مدير الناحية السابق. فقال لي الأستاذ: «تعال أنت وجَيلان إليّ». فدخلنا غرفته وهو منهمك بقراءة الأوراد القدسية للشاه النقشبند، ووقفنا منتظرَين أيّ أمر كان. فسألَنا: «هل قرأتم رسالة «الآية الكبرى»؟» فأجبنا: «نعم قرأناها». فقال: «أتعلمون مَن ذلك السائح الذي جال في العصور وفتش في طبقات الكائنات، ومن ذلك الروح النشط الذي ساح في آفاق العالم؟». قلنا -في أنفسنا- «نعم، أنتم ذلك السائح الذي جال في آفاق العالم». ثم قال: «انصرفوا». فخرجنا.

كنت أذكر هذه الخاطرة كذكرى لطيفة من الأستاذ، ولكن عندما قرأت يوماً الفقرة التي هي في بداية المقام الثاني لرسالة «الحجة الزهراء» تبيّن لي أن هناك نماذج كثيرة مثل هذا النموذج. بمعنى أن معظم الذكريات والخواطر التي نوردها موجودة في الرسائل، والفقرة هي:

إن سائح الدنيا في رسالة «الآية الكبرى» الذي سأل جميع الكائنات وأنواع الموجودات في أثناء بحثه عن خالقه، ووجدانه له، ومعرفته إياه، فعرّفه بثلاث وثلاثين طريقاً وببراهين قاطعة بدرجة علم اليقين وعين اليقين، فإن السائح نفسه قد ساح بعقله وقلبه وخياله في أجواء طبقات العصور والأرض والسماوات، دون أن يصيبه تعب أو نصب، بل ما زال يسيح ليشفى غليله حتى ساح في أرجاء الدنيا الواسعة كلها فبحث في جميع نواحيها -كمن يسيح في مدينة-، مستنداً بعقله أحياناً إلى حكمة القرآن وتارة إلى حكمة الفلسفة كاشفاً بمنظار الخيال أقصى الطبقات إلى أن رأى الحقائق كما هي في الواقع، فأخبر عن قسم منها في تلك الرسالة «الآية الكبرى».

وسأذكر خاطرة أو خاطرتين جديرتين بالذكر:

كنت قد خرجت توا من سجن «صامسون» في بداية سنة 1954، وكان الأستاذ في «أميرداغ» حيث أتى إليها من «إسبارطة» أواسط سنة 1935 واستأجر بيتا فأقام في تلك المدرسة النورية الثالثة، فكنا مع الإخوة طاهري وزبير وجيلان وبيرام، في غرفة من البيت، فدخل علينا الأستاذ يوما قبيل العشاء وقال: «خطر على قلبي أمر: سأعلمكم اللغة العربية، وسنبدأ بـ«المثنوي العربي النوري» صباح غد». وفعلا بدأ في اليوم التالي بتدريسنا المثنوي العربي النوري كان الدرس يدوم على الأغلب ثلاث ساعات أو أربع ساعات وأحيانا بل نادرا يطول إلى خمس ساعات. كان يقرأ علينا باللغة العربية ويوضح ويشرح المعنى بالتركية. ولا يخفى ما للمثنوي العربي النوري من أهمية حيث يمثل منشأ رسائل النور وأصولها، وقد درّسنا الأستاذ «المثنوي» مرتين. ودرّسنا كذلك «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» العربية.

والحقيقة أننا لا نستطيع أن نعبر عن مدى استفادتنا من تلك الدروس ومدى استمدادنا الغذاء الروحي والمعنوي منها. فتلك الأيام كانت حقا أسعد أيام حياتنا، إذ كنا نذهب معا إلى «بارلا» وإلى جبل «جام» والدروس مستمرة لا تتوقف، علما بأننا نكاد لا نستوعب الدرس كله في الأيام الأولى لعدم إتقاننا اللغة العربية ولكننا كنا نستفيد ونستفيض من الدرس كمن فهمه كله، إذ كنا نستمع إلى الأستاذ وكأن على رؤوسنا الطير ونرتشف أقواله وكلامه ارتشاف الرحيق ونستسيغه استساغة الظمآن للماء العذب السلسبيل ونتنفسه تنفس الهواء العليل بعد طول تعب وعناء.. وحقا إن أرواحنا وعقولنا ولطائفنا قد استمدت دروسا كثيرة من الأستاذ فنشكر الله تعالى ونحمده حمدا لا نهاية له، وهذا من فضل ربي.

قضينا أياماً على جبل جام وعلى قمة شجرة الصنوبر التي كانت موضع تأمل الأستاذ. وبعد مضى سنتين أتى «حسني» أيضا الذي خدم رسائل النور في «أورفة» واشترك معنا في الدرس.

نعم، لا يمكنني نسيان ذكريات تلك الأيام الجميلة التي مرت مع الأستاذ، وأذكر لهذه المناسبة بأن الأستاذ كان يبقينا في صحبته أحيانا وأحيانا أخرى يرسلنا إلى أنقرة وإسطنبول وأورفة وغيرها من المدن لخدمة رسائل النور وذلك اعتبارا من سجن أفيون سنة 1948 حتى سنة 1950، أما بعد هذه السنة فقد أخَذَنا في معيّته واستخدَمَنا في معاونة شؤونه فحسب. وظل الأخ «عبد الله يكن» من قبل في معية الأستاذ وخدمته طوال سنتين أيضاً، وهناك آخرون ظلوا معه وفي خدمته. وقد درّسنا «كليات رسائل النور» التركية منها والعربية، وأمر بطبع «المثنوي العربي النوري» بآلة الاستنساخ -الرونيو- وإرساله إلى مختلف أنحاء العالم. فكانت الرسائل تطبع في أنقرة سنة 1956، وتأتي المَلازِم وتُقرأ في الدروس ويتابعها الأستاذ من النسخة الأصلية التي هي بالحروف العربية ثم يأمر بمباشَرة الطبع. ثم التحقتْ إسطنبول أيضاً بفعاليات الطبع والنشر فطبعت «اللمعات، إشارات الإعجاز، المثنوي العربي النوري، عصا موسى، تاريخ الحياة، الشعاعات، وسكة التصديق الغيبي، مع عدد من الرسائل الصغيرة».

وكنا نقرأ يوميا عقب صلاة الفجر من تلك الرسائل وأحياناً بعد الصلوات الأخرى. فأسس الأستاذ بهذا أصول دراسة رسائل النور وهي التي عليها الجماعة في الوقت الحاضر.

وهكذا مرت السنوات حتى اقتربنا من سنة 1960 فنُشرت «الملاحق» ومحاورات الأستاذ في مجالسه عند زياراته لكل من بارلا وأميرداغ وأسكي شهر وأغردير وإسبارطة وغيرها. نذكر من تلك الخواطر:

قال الأستاذ يوماً: «عندما كنت في «وان» خصص الوالي طاهر باشا غرفة لي في الطابق العلوي من مضيفه فكنت أبيت هناك وقد حفظت آنذاك ما يقرب من تسعين كتاباً في الحقائق، وكنت أعيد ما حفظته في ذاكرتي ثلاث ساعات يومياً فأكمله كل ثلاثة أشهر. فيا إخواني إني أشكر الله كثيراً على تكراري لتلك المحفوظات حيث أصبحتْ وسيلة للعروج إلى حقائق القرآن الكريم. ثم بلغت القرآن الكريم وشاهدت أن كل آية كريمة منه تحيط بالكون إحاطة تامة، وبعد ذلك أغناني القرآن عن غيره».

وقد ذكر الأستاذ في «اللمعة الثلاثين» ما يؤيد هذه الخاطرة من أن حجب بعض الآيات قد انكشفت أمامه لدى شرحه للأسماء الحسنى: «الفرد، الحي، القيوم، الحكم، العدل، القدوس» حيث قال: «لقد تراءت في أفق عقلي نكتة من النكات الدقيقة.. وتجل من تجليات نور الاسم الأعظم «الحي» أو أحد نوريه أو أحد أنواره الستة، وذلك في شهر شوال عندما كنت في سجن «أسكي شهر» فلم أتمكن أن أثبتها في حينه ولم أستطع أن أقتنص ذلك الطائر السامي، ولكن بعدما تباعد ذلك القبس الوضيء اضطررت إلى الإشارة إليه بوضع رموز ترمز إلى أشعة تلك الحقيقة الكبرى وذلك النور الأعظم».

وأقصد من عرض هذه الأمثلة تأييد ما ذكره الأستاذ النورسي من «أن رسائل النور تفسير معنوي للقرآن الكريم ومعجزة معنوية له».

وأورد خاطرة أخرى مثالاً للحقائق المذكورة: كنت أنا وزبير مع الأستاذ في غرفة في بستان على حافة بحيرة بارلا «أغردير» وذلك في ربيع سنة 1954 فقال الأستاذ: «قبل ثلاثين سنة تقريبا وفي هذا الموسم حيث تتفتح أزاهير أشجار اللوز، كنت أتجول هنا -مشيرا إلى الأشجار والبساتين- وإذا بالآية الكريمة: ﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰىۚ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ﴾ (الروم:50) تَرِدُ إلى خاطري، وفتح الله عليّ هذه الآية في ذلك اليوم فكنت أسير وأتجول وأتلوها بصوت عال حتى قرأتها أربعين مرة، وفي المساء ألفت رسالة الحشر (الكلمة العاشرة) مع الحافظ توفيق الشامي -أي أمليت عليه الرسالة وكتبها-.

وينقل المرحوم خلوصي يحيى كيل، الطالب الأول للنور، أن الأستاذ قال له: «كانت مائتا آية كريمة تمدني عندما كنت أؤلف الكلمة العاشرة».

وقال الأستاذ نفسه: «إنني لا أقول هذا الكلام الذي يخص «الكلمات» تواضعا، بل بيانا للحقيقة وهي: أن الحقائق والمزايا الموجودة في «الكلمات» ليست من بنات أفكاري ولا تعود إليّ أبدا وإنما للقرآن وحده، فلقد ترشحتْ من زلال القرآن حتى إن الكلمة العاشرة (رسالة الحشر) ما هي إلا قطرات ترشحت من مئات الآيات القرآنية الجليلة وكذا الأمر في سائر الرسائل بصورة عامة».

وأكد الأستاذ في كثير من مكاتيبه أنه لا يملك الرسائل ولا يمكن له أن يمتلكها فهي ملك القرآن. نورد واحدة منها إذ يقول: «ولو بلغ صوتي أرجاء العالم كافة لقلت بكل ما أوتيت من قوة: إن «الكلمات» جميلة رائعة وإنها حقائق وهي ليست مِنّي بل هي شعاعات التمعت من حقائق القرآن الكريم. فلم أجمّل أنا حقائق القرآن بل لم أتمكن من إظهار جمالها، وإنما الحقائق الجميلة للقرآن هي التي جملت عباراتي ورفعت من شأنها».

وهناك إيضاح في رسالة «المعجزات القرآنية»، يخص ما ذكر أعلاه وهو: «أن أصدق دليل على سمو القرآن الكريم وعلوه، وأوضح برهان على كونه صدقا وعدلا وأقوى علامة على إعجازه هو أن القرآن الكريم قد حافظ على التوازن في بيانه التوحيد بجميع أقسامه مع جميع مراتب تلك الأقسام وجميع لوازمه، ولم يخل باتزان أي منها.. ثم إنه قد حافظ على الموازنة الموجودة بين الحقائق الإلهية السامية كلها.. وجمع الأحكام التي تقتضيها الأسماء الإلهية الحسنى مع الحفاظ على التناسب والتناسق بين تلك الأحكام.. ثم إنه قد جمع بموازنة كاملة شؤون الربوبية والألوهية.

هذه «المحافظة والموازنة والجمع» خاصية لا توجد قطعا في أي أثر كان من آثار البشر، ولا في نتاج أفكار أعاظم المفكرين كافة، ولا توجد قط في آثار الأولياء الصالحين النافذين إلى عالم الملكوت، ولا في كتب الإشراقيين الموغلين في بواطن الأمور، ولا في معارف الروحانيين الماضين إلى عالم الغيب، بل كل قسم من أولئك قد تشبث بغصن أو غصنين فحسب من أغصان الشجرة العظمى للحقيقة، فانشغل كليا مع ثمرة ذلك الغصن وورقه، دون أن يلتفت إلى غيره من الأغصان، إما لجهله به أو لعدم التفاته إليه، وكأن هناك نوعا من تقسيم الأعمال فيما بينهم.

نعم، إن الحقيقة المطلقة لا تحيط بها أنظار محدودة مقيدة، إذ تلزم نظرٌ كليّ كنظر القرآن الكريم ليحيط بها، فكل ما سوى القرآن الكريم -ولو تَلقّى الدرس منه- لا يرى تماماً بعقله الجزئي المحدود إلا طرفاً أو طرفين من الحقيقة الكاملة فينهمك بذلك الجانب ويعكف عليه، وينحصر فيه، فيخل بالموازنة التي بين الحقائق ويزيل تناسقها إما بالإفراط أو التفريط».

يُفهم من هذه الفقرة، ومن كلام الأستاذ نفسه أن رسائل النور لكونها تفسيرا للقرآن الكريم قد أخذت لُميعة من هذه الخاصية المعجزة الجامعة الكلية. نورد مثالا واحدا فقط لذلك: «إنك تقول -يا أخي- في رسالتك: إن المفسرين قالوا لدى تفسيرهم ﴿رَبِّ الْعَالَمين أن هناك ثمانية عشر ألف عالم، وتستفسر عن حكمة ذلك العدد؟

أخي إنني الآن لا أعلم حكمة ذلك العدد، ولكني أكتفي بالآتي: إن جمل القرآن الحكيم لا تنحصر في معنى واحد، بل هي في حكم كلي يتضمن معاني لكل طبقة من طبقات البشرية، وذلك لكون القرآن الكريم خطابا لعموم طبقات البشر. لذا فالمعاني المبينة هي في حكم جزئيات لتلك القاعدة الكلية، فيذكر كلُّ مفسر، وكل عارف بالله جزءاً من ذلك المعنى الكلي ويستند في تفسيره هذا إما إلى كشفياته أو إلى دليله أو إلى مشربه، فيرجح معنى من المعاني. وقد كشفت طائفة في هذا أيضا معنى موافقا لذلك العدد.

فمثلا يذكر الأولياء في أورادهم ويكررون باهتمام بالغ قوله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِۙ ﴿19 بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ (الرحمن:19-20) ولهذه الآية الكريمة معان جزئية ابتداء من بحر الربوبية في دائرة الوجوب وبحر العبودية في دائرة الإمكان، وانتهاء إلى بحرَي الدنيا والآخرة، وإلى بحرَي عالم الشهادة وعالم الغيب، وإلى البحار المحيطة في الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، وإلى بحر الروم وبحر فارس، والبحر الأبيض والأسود، وإلى المضيق بينهما الذي يخرج منه السمك المسمى بالمرجان، وإلى البحر الأحمر وقناة السويس، وإلى بحار المياه العذبة والمالحة، وإلى بحار المياه الجوفية العذبة المتفرقة والبحار المالحة التي على ظهر الأرض المتصل بعضها ببعض مما يسمى بالبحار الصغيرة العذبة من الأنهار الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات، والبحار المالحة التي تختلط معها.

كل هذه الجزئيات موجودة ضمن معاني تلك الآية الكريمة، وجميع هذه الجزئيات تصح أن تكون مرادة ومقصودة، فهي معان حقيقية للآية الكريمة ومعان مجازية لها.

وهكذا فإن ﴿الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمين أيضا جامعة لحقائق كثيرة جدا مثلما ذكر، وإن أهل الكشف والحقيقة يبينونها ببيانات متباينة حسب كشفياتهم. وأنا أفهم من الآية الكريمة الآتيَ: إن في السماوات ألوفا من العوالم، ويمكن أن يكون كل نجم في مجموعته عالما بذاته، وإن كل جنس من المخلوقات في الأرض أيضا عالم بذاته، حتى إن كل إنسان عالم صغير. فكلمة «ربّ العالَمين» تعني: أن كل عالم يدار ويربى ويدبر شؤونه بربوبيته سبحانه وتعالى مباشرة».

وأورد خاطرة من أستاذنا: كنا في إسبارطة، نتدارس في رسائل النور درسا إيمانيا، والأستاذ جالس على سريره ويتابع الدرس في رسالة بالحروف العربية، وإذا به يعتدل ويخرج نظارته ويتوجه إلينا قائلا: أنتم شباب، ذاكرتكم قوية، أما أنا فقد شبت وكلّت ذاكرتي ولكنى أقسم لكم بالله إنني استفدت من هذا الدرس وكأنني أقرأه لأول مرة، علما أنني قد قرأته لحد الآن عشرة آلاف مرة. وبعد بضعة أيام قال: «أوَ قد قلت لكم قبل أيام كذا وكذا. إن هذه الدروس لا حد للرقي فيها لأنها من فيض القرآن الكريم».

كان الأستاذ حريصا على صرف الأنظار عن شخصه إلى رسائل النور، فكان يقول: إن رسائل النور درس قرآنيّ يوافق فهم هذا العصر. وقد علق لوحة على ظهر الباب الخارجي لمحل إقامته في كل من إسبارطة وأميرداغ، وكان يستقرئها لكل زائر له. يقول فيها «لم تدع رسائل النور حاجة إليّ فما من رسالة من ملايينِ نسخها التي تطالعونها إلا تستفيدون فوائد أفضل من مقابلتي بعشرة أضعاف».

ويقول في موضع آخر: «أما من حيث العمل للقرآن الكريم، فلقد وهب لي الله سبحانه وتعالى برحمته إخوانا ميامين في العمل للقرآن والإيمان، وستُؤدَى تلك الخدمة الإيمانية عند مماتي في مراكز كثيرة بدلا من مركز واحد، ولو أسكت الموت لساني فستنطلق ألسنة قوية بالنطق بدلا عنى وتديم تلك الخدمة».

ويقول أيضاً: «إن خدماتي وأحداث حياتي قد أصبحت في حكم بذرة لكي تكون مبدأ لخدمة إيمانية، قد منحت العناية الإلهية منها في هذا الزمان شجرة مثمرة برسائل النور النابعة من القرآن الكريم».

وعندما تُذكر العناياتُ الربانية لدى تأليف رسائل النور في أيامها الأولى يقول: «سمعت من أحد الأولياء -قبل مدة- أنه قد استخرج من الإشارات الغيبية لأولياء سابقين ما أورثه القناعةَ بأن نورا سيظهر من جهة الشرق ويبدد ظلمات البدع. ولقد انتظرت طويلا ظهور مثل هذا النور، ومازلت منتظرا له. بيد أن الأزاهير تتفتح في الربيع، فينبغي تهيئة السبل لمثل هذه الأزاهير المقدسة.. وأدركنا أننا بخدمتنا هذه إنما نمهد هذه السبل لأولئك الكرام النوارنيين». والحمد لله تعالى، فقد تفتحت تلك الأزاهير وتسنبلت وأثمرت ثمارا نورانية وستثمر بإذن الله!

والآن لمناسبة هذه «السيرة الذاتية» ندرج أدناه ما سجله الأخَوانِ الفاضلان محمد فيضي وأمين جايجي حول حياة الأستاذ وهما اللذان لازما الأستاذ في أثناء إقامته في قسطموني إذ يقولان: «إننا نسجل قناعتنا إلى الذين يريدون أن يتعرفوا على الشخصية المعنوية لأستاذنا:

إن بديع الزمان سعيد النورسي قد نال من خزينة حقائق القرآن الكريم، حقائق عظيمة ومعارف جليلة، بحظوته بتجليات اسم الله «النور» واسم الله «الحكيم»، وأظهَرَ تلك الحقائق القرآنية إلى أنظار البشرية تحدثا بنعمة الله عليه. وقد تخلق بالأخلاق المحمدية متجاوزا برازخ النفس والهوى، حتى برز في هذا العصر مثالا فريدا مجسما لمكارم الأخلاق. فأمضى حياته حاملا همة عالية واطمئنانا راسخا وعفة تامة مع نكران ذات صادق تتحير منه العقول. كل ذلك بما وهبه المولى الكريم من صفاء قلب وتوكل كامل وقناعة تامة، فنرى البساطة الكاملة في عيشه وملبسه بل في كل حاله وطوره. حتى لا تراه يحمل ذرة من محبة الدنيا وميل إليها.

وقد حافظ على عزة العلم حفاظا تاما، ولم يعرض افتقاره لغير الله، وكان هذا أعظم دستور له في حياته، فأدبر عن الدنيا رغم إقبالها عليه. ونحن على يقين من أن هذه المحافظة والملازمة للنـزاهة والعفة هي من العناية الإلهية له فما كان يأخذ صدقات وزكوات، بل يدفع حتى إيجار البيت بنفسه. ثم كان أستاذنا يكره كراهية شديدة التكلف والتصنع والتعظيم، ويأمر طلابه بالابتعاد عن التكلف قائلا: «إن التكلف منهي عنه شرعا وحكمةً، لأنه يسوق إلى تجاوز الحد المعروف، والمتكلفون لا ينجون من التظاهر والتفاخر والرياء الثقيل، وكل ذلك يفسد الإخلاص».

ثم كان في غاية التواضع؛ يتجنب بشدة دواعي التفوق على الآخرين والتميز عنهم. وكان يعامل جميع الناس بالحسنى ولا سيما الشيوخ والأطفال والفقراء ويشملهم بالرفق والمحبة الأخوية واللين في المعاملة. فكانت المحبة والبشاشة الممتزجة بنور الوقار تتلمع من وجهه الطليق دائماً، فلا نرى فيه غير آثار الأُلفة والأنس مع الهيبة والجلال، نعم كان مبتسما على الدوام، وأحيانا تظهر عليه المهابة والصرامة بحيث ينعقد لساننا عنده ولا نتفوه بشيء.

أما كلامه، فكان قليلاً وموجزاً، لم نر منه ذما قط، وما كان يقبل أن يغتاب عنده أحد، بل كان يستر الهفوات والأخطاء، ويُحسن الظن بالآخرين حتى لا يدع أحدا ينقل إليه كلام سوء كأن يقول: إن فلانا قد قال بحقك كذا وكذا، فيرد ويقول: «كلا.. هذا غير صحيح، فإن ذلك الشخص لا يقول شيئاً كهذا قطعاً». ويسكت القائل.

وكان له قدم راسخ في محاسبة النفس والمجاهدة. فلم يحقق رغبات نفسه وحظوظها، حتى إنه ما كان يأكل إلا ما يسد الرمق ولا ينام إلا قليلا ويقضى الليل في عبادة خاشعة تلفت الأنظار، وكان هذا دأبه مهما تبدلت المواسم، ولم نر منه أنه ترك التهجد قطعا ولا أوراده ومناجاته، حتى في أوقات مرضه. وحينما ظل لا يتمكن من الإفطار طوال ستة أيام في شهر لشدة ما كان يعانيه من المرض، لم يدع عبادته وتهجده، حتى كان جيرانه في حيرة من أمر عباداته وخشوعه وتضرعه ليلاً -صيفاً وشتاءً- وكانوا ينصتون إلى مناجاته النابعة من قلب مجروح.

كان أستاذنا يراعي أمور الطهور والنظافة المطلوبة شرعا مراعاة شديدة، ويظل على وضوء دائم، ويراعي الزمن فلم يصرف وقته سدى أبدا، فإما نراه يؤلف رسائل النور أو يصححها أو يقرأ الأوراد والأذكار أو يستغرق في عبادة التفكر والتأمل في آيات الله. وكان هذا دأبه في الحل والترحال؛ إذ كنا نخرج معه أيام الصيف إلى الغابة البعيدة، فكان يصحح في الطريق أو يستمع إلى ما نقرؤه من الرسائل أو يدرسنا شيئاً من أحد مؤلفاته القديمة.. وهكذا.. فما كنا نشعر بسأم ولا تعب مع الأستاذ حتى ولو كان الدرس من الصباح إلى المساء، ومشيا على الأقدام.

كان أستاذنا يقول: «منذ عشرين سنة لم أقتن ولم أقرأ غير كتاب الله ورسائل النور». لذا كان يفضل العمل لرسائل النور التي هي تفسير للقرآن على أي شيء آخر. تُرى ما حاجة من أفاض الله على قلبه من فيض قرآنه المجيد إلى غيره؟

نعم، لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على أستاذنا في أثناء تأليف رسائل النور قدرة بلاغية عجيبة وقابليةَ كلامٍ بديع قد لا يوفق إليها الكثيرون. فتلك الرسائل ألفت في حالات من الاغتراب والمرض والمراقبة والضيق بل ضمن ظروف لا تطاق، ولكن بتوفيق من الله سبحانه، وإسعافا للمؤمنين، ورغم جميع المشاكل والمعوقات، ألفت تلك الرسائل في الجبال والوديان والفيافى والبساتين، بعيدا عن أنظار المراقبة وأحيانا دون أن يكون لديه كاتب يعينه. وهكذا فالعناية الإلهية قد أحاطت بأستاذنا إحاطة خارقة في أثناء تأليفه الرسائل، فالحمد لله والشكر له وحده، إذ فتح الله سبحانه أمامه الكائنات كتابا واضحا ووهب له قدرة مطالعته بالكشف والشهود حتى بلغ مرتبة حق اليقين، فهذه الآثار ليست إلا حصيلة توفيق رباني، إذ بيّن فيها حقائق القرآن الكريم ومعارفه بما فيها الآيات التشريعية والآيات الكونية.

ففي الوقت الذي ينبغي أن يكون هذا «السعيد» المسعود موضع فخر واعتزاز بما بيّن للبشرية بنور القرآن المبين طريق العروج إلى أعلى مراتب المعرفة الإلهية، برسائل النور، قام أهل الشقاء بنقيض ذلك فتجرّأوا على تسميمه مرات ومرات. وربما كان ذلك من مقتضيات الحكمة الإلهية حيث تنـزل المصائب والبلايا على ورثة الأنبياء والصالحين كما هو ثابت في الحديث الشريف «أشَدّ الناسِ بَلاءً الأنبيَاءُ ثُم الصّالحُونَ ثم الأمثلُ فالأمثل». حتى رماه الصبيان بالحجارة حينما خرج من بيته يوما في قسطموني قاصداً الوضوء من النبع، ولكنه تحمل وتجمل بالصبر، ولم يحمل في صدره غير السلامة وفي قلبه غيرَ الطهر لأولئك الصبيان، فلم يغضب ولم يحقد عليهم بل دعا لهم بالخير وقال: «لقد أصبح هؤلاء سببا لكشفي سرا من أسرار آية جليلة في سورة «يس». ثم أصبح أولئك الصبيان بفضل الله وبركة الدعاء لهم، بعد ذلك يهرولون إلى أستاذنا أينما رأوه ويقبلون يده ويرجون منه الدعاء.

إن لأستاذنا مالا يعد ولا يحصى من خوارق الأحوال، وفي مقدمتها تأليف رسائل النور. نعم إننا نعترف أن أستاذنا كان يقرأ خواطر قلوبنا، أدق وأكثر منا. وكثيرا ما كان ينبهنا إليه، ثم ننتبه. فعندما كنا نذهب مع أستاذنا إلى الجبل، نراه أحيانا يقوم فورا ويأمرنا بالقيام قبل أن يحين موعد العودة إلى البيت فنستفسر عن السبب فيقول: لنعد إلى المدينة بسرعة، إنهم ينتظروننا لخدمة رسائل النور. وفعلا لدى عودتنا نجد أن أحد طلاب النور ينتظرنا لأمر مهم، أو يخبرنا الجيران أن أحداً قد سأل عنكم وتردد إلى البيت كثيرا ثم مضى إلى طريقه.

وذات يوم أعطت السيدة «آسيا» -وهى من نسل العاشق الصغير أحد طلاب مولانا خالد قدس سره- جبة مولانا خالد والتي كانت تحتفظ بها منذ سنوات طويلة، أعطتها إلى «فيضي». وإذا بأستاذنا يأمر «أمين» بغسلها، ويبدأ هو بالشكر والحمد لله تعالى و«فيضي» يحار من الأمر إذ يرد إلى خاطره أن هذه السيدة قد أعطتني هذه الجبة منذ عشرين يوما، فلماذا يريد الأستاذ امتلاكها من دوني؟. وبعد مدة يلتقي السيدةَ آسيا فتقول له: لقد قلت لك ما قلت حول الجبة لكي يقبلها الأستاذ -فدته أرواحنا- فهي له، لعلمي أنه لا يقبل الهدايا إذا أرسلتها إليه مباشرة. نعم، إن قبول أستاذنا تلك الجبة علامة على انتقال مهمة التجديد إليه بعد مولانا خالد. فقد ورد في الحديث الشريف «إنّ الله يَبعثُ على رَأسِ كلّ مائة سَنة مَن يُجدّد لهذه الأمة دينها» فإن ولادة مولانا خالد سنة 1193 وولادة أستاذنا 1293.

كان الأستاذ كثيراً ما يلاطفنا ويقول ستجازَون، وتعاقَبون.. وتدخلون السجن، وفعلا لا يمضى زمن طويل حتى يتحقق ما قاله الأستاذ لنا.

وكذلك حدث قبل سجن دنيزلي؛ إذ قال: «منذ مدة لم أبق في مكان أكثر من ثماني سنوات. وقد مضت على مجيئي إلى هنا ثمانُ سنوات، فإما سأموت هذه السنة أو أُنقل إلى مكان آخر». فأشار بهذا إلى مغادرته لقسطموني.

وذات يوم قال: «احذروا حذرا شديدا.. إنني أشعر أن هجوما عنيفا يشن على رسائل النور من جهات عدة». وفعلا لم يمض كثيرُ وقتٍ حتى ظهرت حادثة اعتراض شيخ عالم في إسطنبول على مسألة في إحدى رسائل النور وقيام السيد علي رضا -رحمة الله عليه- وهو أمين الفتوى بالرد عليه، وتصديقِه أحقيةَ رسائل النور.

وكان أستاذنا يقول: «ليحذر أهل الدنيا من التعرض لرسائل النور ومهاجمتها، فإنهم يكونون بذلك سببا لنـزول المصائب والآفات، حيث تعد الرسائل صدقة من نوع الكلمة الطيبة، والصدقة تدفع البلاء»..

وقبل حادثة سجن دنيزلي قال لنا: «هناك خطة رهيبة ضد رسائل النور، ولكن أبشروا فإن العناية الإلهية ستمدنا. إذ لما فتحتُ اليوم «الحزب الأعظم للأوراد القرآنية» قابلتني الآية الكريمة: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَاِنَّكَ بِاَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ (الطور:48) وتقول لي ضمنا: تَدبّر فيّ، فتدبرت فيها ورأيت أنها تبشرنا بإحدى معانيها الإشارية، مشيرة إلى مصيبة السجن ثم النجاة منه».. كان هذا قبل قرار براءتنا من سجن دنيزلي بتسعة أشهر، فأظهر لنا جوهرة من كنوز تلك الآية الجليلة وكشف عن نكتة إعجاز فيها وبشرنا نحن الضعفاء وأدخل السرور في قلوبنا. والخلاصة: مهما قلنا ومهما كتبنا، ولا سيما نحن الضعفاء فقد وهب له المولى الكريم أوصافا متميزة في دعوته. فيا سعادة من هو في خدمة رسائل النور التي هي تفسير قيّم للقرآن الكريم، ويا حظ من تلقى دروسه منها. نسأل الله سبحانه أن يحشرنا مع أستاذنا بديع الزمان وكنـز العلوم والعرفان وعلّامة العصر الذي نشر حقائق الإيمان والقرآن طوال وجوده في مدينتنا قسطموني، وبذل كل ما في وسعه لننال السعادة، ونسأله تعالى أن نكون معه يوم الحشر الأعظم ويأخذنا بيده الحانية المنورة الطيبة إلى حضرة الرسول الأكرم ﷺ.. إن شاء الله.»

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

العاجز مصطفى صونغور

الخادم

لخادم القرآن بديع الزمان

سعيد النُّورْسِيّ

الدعاء

ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «الملاحق».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النُّورْسِيّ

رسائل متفرقة (9)

إلى رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء

رجل على شفير القبر، جاوز الثمانين وابتُلي بأمراض عديدة، شيخ غريب ضعيف، يقول: أريد أن أبيّن لكم حقيقتين:

أولاهما: أننا نبارك تعاونكم الوثيق مع العراق والباكستان بملء أرواحنا ووجداننا، فلقد أكسبتم بهذا التعاون الفرحَ والانشراح لهذه الأمة وسيكون بإذن الله مقدمة لإقرار الأمان والسلام بين أربعمائة مليون مسلم، ويضمن السلام العام للبشرية قاطبة. هذا ما أحسستُه في روحي ورأيته لزاما عليّ أن أكتب إليكم هذه الحقيقة، حيث وردت إلى قلبي في الصلاة وأذكارها.

إنني كما يعلم الجميع تركت الدنيا والسياسة منذ أكثر من أربعين سنة، إلّا أن الذي دفعني إلى بيان هذا الإخطار القلبي والعلاقة القوية التي شعرت بها هو: تأثير رسائل النور -التي كَشفت منذ خمسين سنة عن أقصر طريق لإنقاذ الإيمان، والمعجزة المعنوية للقرآن الكريم في هذا العصر- في البلدان العربية والباكستان أكثر من أي بلاد أخرى، حتى وَرَدَنا خبرٌ مفاده أن طلاب النور في تلك الأماكن يزيدون ثلاثة أضعاف على ما ثبتته المحاكمُ هنا. لذا اضطرت روحي إلى بيان ومشاهدة هذه النتيجة العظيمة وأنا على عتبة القبر.

ثانيتها: لقد ظهرتْ أضرار النعرة القومية والعنصرية في عهد الأمويين، كما فرّقت الناس شرّ فرقة في بداية عهد الحرية وإعلان الدستور، حيث تأسست النوادي والتكتلات، كما استغلت إثارة النعرة القومية مجدداً للتفريق بين الإخوة العرب النجباء وبين الأتراك المجاهدين، فعّم الاضطراب وسُلبت راحة الناس.

علماً أن الإضرار بالناس بأعمال سلبية هو فطرة القومية والعنصرية التي فطروا عليها. والأتراك مسلمون في أنحاء العالم كافة فقوميتهم مزجت بالإسلام لا يمكن فصلهم عنه. فالتركي يعني المسلم. حتى إن غير المسلم منهم لا يكون تركياً. وكذلك العرب فإن قوميتهم مزجت بالإسلام أيضا وينبغي هكذا. فقوميتهم الحقيقية هي الإسلام وهو حسبهم. ألَا إن العنصرية ودعوى القومية خطر عظيم. نسأل الله أن يدفع تعاونُكم مع العراق والباكستان أضرار هذه الدعوى الخطرة ويُكسب الأتراك أربعمائة مليون من الإخوة بدلا من خمسة ملايين من العنصريين. ويكسب في الوقت نفسه صداقة ثمانمائة مليون من النصارى وسائر الأديان الأخرى المحتاجين إلى إقرار السلام.

ثالثا: قبل خمسة وستين عاماً أخبرني والٍ من الولاة أنه قرأ في الصحف: إن وزير المستعمرات البريطاني خطب وبيده نسخة من المصحف الشريف قائلاً: «إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين ما دام هذا الكتاب بيدهم، فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود أو نقطع صلة المسلمين به».

وهكذا دأبت المنظمات المفسدة الرهيبة على تحقيق هاتين الخطتين: إسقاط شأن القرآن الكريم من أعين الناس، وفصلهم عنه. فسعوا في هذا المضمار سعياً حثيثاً للإضرار بهذه الأمة المنكوبة البريئة المضحية.

وقد قررتُ قبل خمس وستين سنة أن أجابه هذه المؤامرات الخطرة مستمداً القوة من القرآن العظيم، فألهمني قلبي طريقاً قصيراً إلى الحقيقة، وإنشاءَ جامعة ضخمة. فمنذئذ نسعى لإنقاذ آخرتنا.

وإحدى ثمراتها أيضاً إنقاذ حياتنا الدنيوية من الاستبداد المطلق، والنجاة من مهالك الضلالة. وإنماء علاقات الأخوة بين الأقوام الإسلامية. وقد وجدنا وسيلتين في هذه السبيل:

الوسيلة الأولى: رسائل النور التي تقوي وشائج الأخوة الإيمانية بتقوية الإيمان. والدليل على ذلك تأليفها في وقت الظلم والقسوة الشديدة، وتأثيرها البالغ في أنحاء العالم الإسلامي وفي أوروبا وأمريكا -في الوقت الحاضر- وغلبتها على المخِلّين بالنظام والفلسفة الملحدة، وظهورها على المفاهيم الإلحادية السارية كالفلسفة الطبيعية والمادية مع عدم جرحها من قِبَل أية محكمة أو لجنة خبراء. وسيتبنى أمثالُكم بإذن الله ممن كَشفوا عن مفتاح الأخوة الإسلامية، هذه الرسائلَ التي تُمثل نوراً من أنوار القرآن الكريم وينشرها في العالم الإسلامي كله.

الوسيلة الثانية: قبل خمس وستين سنة أردت الذهاب إلى الجامع الأزهر باعتباره مدرسة العالم الإسلامي، لأنهل فيه العلوم. ولكن لم يُكتب لي نصيب فيه، فهداني الله إلى فكرة وهي: أن الجامع الأزهر مدرسة عامة في قارة إفريقيا، فمن الضروري إنشاء جامعة في آسيا على غراره، بل أوسع منه بنسبة سعة آسيا على إفريقيا. وذلك لئلا تُفسد العنصرية الأقوامَ في البلدان العربية والهند وإيران والقفقاس وتركستان وكردستان، وذلك لأجل إنماء الروح الإسلامية التي هي القومية الحقيقية الصائبة السامية الشاملة فتنال شرف الامتثال بالدستور القرآني: ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ ﴾ (الحجرات:10).

وكذلك لتتصافح العلوم النابعة من الفلسفة مع الدين، وتتصالحَ الحضارة الأوروبية مع حقائق الإسلام مصالحة تامة، ولتتفق المدارس الحديثة وتتعاون مع المدارس الشرعية في الأناضول.

لذا بذلت جهدي كله لتأسيس هذه الجامعة في مركز الولايات الشرقية التي هي وسط بين الهند والبلاد العربية وإيران والقفقاس وتركستان، وسميتها «مدرسة الزهراء». فهي مدرسة حديثة ومدرسة شرعية في الوقت نفسه. فمثلما بذلت جهدي في سبيل إنشاء هذه الجامعة بذلته في سبيل نشر رسائل النور.

هذا وإن السلطان «رشاد» رحمه الله هو أول من قدّر أهمية إنشاء هذه الجامعة، فخصص عشرين ألف ليرة ذهبية لإنجاز بنائها فقط. وحينما رجعتُ من الأسر في الحرب العالمية الأولى وافق مائة وثلاثة وستون نائباً -من بين مائتين- في البرلمان ووقّعوا على تخصيص مائة وخمسين ألف ليرة -بقيمة الليرة الثمينة آنئذٍ- للغرض نفسه. وكان مصطفى كمال من ضمنهم. وهذا يعنى أنهم أولوا أهمية لإنشاء هذه الجامعة أكثر من أي شيء آخر. بل حتى وقّع ذلك القرارَ المتغربون من النواب الذين لا يهمهم أمر الدين من قريب أو بعيد والذين قطعوا صلتهم بالأعراف الإسلامية سوى اثنين منهم حيث قالا: نحن بحاجة إلى الحضارة الغربية أكثر من حاجتنا إلى الجمع بين العلوم الدينية والحديثة.

وأنا بدوري أجبتهم بالآتي:

لنفرض فرضاً محالاً أنكم لستم بحاجة إلى ذلك، ولكن ظهور أكثر الأنبياء في آسيا والشرق وظهور أكثر الحكماء والفلاسفة في الغرب يدل على أن الذي يدفع آسيا إلى الرقيّ الحقيقي هو الشعور الديني أكثر من العلوم والفلسفة. فإن لم تأخذوا بهذا القانون الفطري وأهملتم الأعراف الإسلامية بحجة التغرب وأسستم الدولة على الإلحاد، فأنتم مضطرون أيضاً إلى الانحياز إلى الإسلام -لصالح الوطن والأمة- إقراراً للسلام في الولايات الشرقية الواقعة بين أربع دول كبرى.

وأورد لكم مثالاً واحداً من بين ألوف الأمثلة:

حينما كنت في مدينة «وان» قلت لأحد طلابي الأكراد الغيورين: لقد خدم الأتراكُ الإسلامَ كثيراً، فكيف تراهم؟ قال: إني أفضّل تركياً مسلماً على شقيقي الفاسق، بل أرتبط به أكثر من ارتباطي بوالدي، لخدمته الإيمان خدمة فعلية.

ومرت الأيام والسنون، ودخل ذلك الطالب -أيام أسري- المدرسةَ الحديثة في إسطنبول. ثم قابلته بعد عودتي فلمست أنّ عِرق القومية الكردية قد تحرك فيه من جراء الدعوى العنصرية التركية لدى بعض معلميه. فقال لي: إنني أفضل الآن كردياً فاسقاً مجاهراً بل ملحداً على تركي صالح.. ثم جلست معه بضع جلسات فأنقذته بإذن الله، فاقتنع أن الأتراك هم جنود أبطال لهذه الأمة.

فيا أيها النواب السائلون!

إن في الشرق حوالي خمسة ملايين من الأكراد وحوالي مائة مليون من الإيرانيين والهنود وسبعين مليوناً من العرب وأربعين مليوناً من القفقاس، فهؤلاء جميعاً تربطهم الأخوة وحسن الجوار وحاجة بعضهم إلى البعض الآخر.

فأنا أسألكم! أيّهما أكثر ضرورة: الدرس الذي يتلقاه الطالب في مدرسة «وان» الجامعة بين الشعوب والأمم، أم الدرس الذي يفرق بين تلك الشعوب ويجعله يحصر تفكيره بقومه فقط وينكر أخوّة الإسلام، ويبذل جهده لتعلم العلوم الفلسفية دون اعتبار للعلوم الإسلامية، ألا تكون حاله كحالة الطالب الثانية؟

وعقب هذا السؤال قام المتغربون من النواب والمتحللون من الأعراف الإسلامية بتوقيع القرار. ولا أرى داعياً لذكر أسمائهم.. سامحهم الله، لقد توفوا..

إن هذه الجامعة حجر الأساس لإحلال السلام في الشرق الأوسط وقلعته الحصينة وستثمر فوائد جمة لصالح هذه البلاد والعباد بإذن الله.

إن العلوم الإسلامية ستكون أساساً في هذه الجامعة، لأن القوى الخارجية المدمّرة قوى إلحادية، تمحو المعنويات، ولا تقف تجاه تلك القوى المدمرّة إلّا قوة معنوية عظيمة، تنفلق على رأسها كالقنبلة الذرية.

وحيث إنكم ترون أنفسكم مضطرين إلى استشارة أمريكا وأوروبا في هذه المسألة إلّا أن لي الحق أيضا أن أدلي برأيي فيها حيث قضيت خمسا وخمسين سنة من عمري لتحقيقها. بل ننتظر ذلك منكم باسم الأمة جميعا.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

الدرس الأخير حول العمل الإيجابي البنّاء

الذي ألقاه الأستاذ النُّورْسِيّ قبل وفاته على طلبة النور

«إخواني الأعزاء!

إن وظيفتنا هي العمل الإيجابي البنّاء وليس السعي للعمل السلبي الهدام. ومهمتنا القيام بالخدمة الإيمانية ضمن نطاق الرضى الإلهي دون التدخل بما هو موكول أمره إلى الله. إننا مكلفون بالتجمل بالصبر والتقلد بالشكر تجاه كل ضيق ومشقة تواجهنا وذلك بالقيام بالخدمة الإيمانية البناءة التي تثمر الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي.

أقول متخذا من نفسي مثالا: إنني لم أنحن تجاه التحكم والتسلط منذ القدم. وهذا ثابت بكثير من الحوادث. فمثلا: عدم قيامي للقائد العام الروسي، وكما أنني لم أعر أية أهمية على أسئلة الباشوات في ديوان المحكمة العسكرية العرفية الذين كانوا يهددوني بالشنق والإعدام. وطوري هذا تجاه القواد الأربعة تُبين عدم قبولي للتحكم والتسلط، إلّا أنني قابلت المعاملات الشائنة بحقي منذ ثلاثين سنة الأخيرة بالرضى والقبول، ذلك من أجل السعي للعمل الإيجابي والاجتناب عن السعي للعمل السلبي لئلّا أتدخل بما هو موكول أمره إلى الله، بل قابلتها بالرضى والصبر الجميل اقتداءً بنبي الله جرجيس عليه السلام وبالصحب الكرام الذين قاسوا كثيرا في غزوة بدر وغزوة أحد.

فمثلا: إنني لم أدعُ حتى على المدعي العام الذي اتخذ علينا القرار الجائر رغم أنني قد أثبتُّ أخطاءه البالغة واحدا وثمانين خطا. لأن المسألة الأساسية في هذا الزمان هو الجهاد المعنوي، وإقامةُ السد المنيع أمام التخريبات المعنوية، وإعانةُ الأمن الداخلي بكل ما نملك من قوة.

نعم، إن في مسلكنا قوةً، إلّا أننا لم نقم باستعمالها إلّا في تأمين الأمن الداخلي. لذا قمت طوال حياتي بتحقيق الأمن الداخلي اتباعا لدستور الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الإسراء:15) (أي لا يجوز معاقبة إنسان بجريرة أخيه أو أحبائه). إن هذه القوة لا يمكن استعمالها إلّا ضد الهجمات الخارجية. إن وظيفتنا -وفق دستور الآية الكريمة المذكورة- هي الإعانة على ضمان الأمن الداخلي بكل ما نملك من قوة. لهذا السبب لم تشتعل نار الحروب الداخلية المخلة بنظام الأمن الداخلي في العالم الإسلامي إلّا بنسبة واحد من الألف. وهذا كان من جراء الاختلاف في الاجتهاد. إن أعظم شرط من شروط الجهاد المعنوي هو عدم التدخل بالوظيفة الإلهية. أي بما هو موكول إلى الله. بمعنى أن وظيفتنا الخدمةُ فحسب، بينما النتيجة تعود إلى رب العالمين، وأننا مكلفون ومرغمون في الإيفاء بوظيفتنا.

وأقول كجلال الدين خوارزم شاه: «إن وظيفتي هي الخدمة الإيمانية، أما النصر أو الهزيمة فمن الله سبحانه». وإنني قد تلقيت درس التقلد بالإخلاص التام من القرآن الكريم.

أجل، يستوجب مجابهة الهجمات الخارجية بالقوة، لأن أموال العدو وذراريه تكون بمثابة غنيمة للمسلمين. أما في الداخل فالأمر ليس هكذا. ففي الداخل ينبغي الوقوف أمام التخريبات المعنوية بشكل إيجابي بناء، بالإخلاص التام. إن الجهاد في الخارج يختلف عما هو في الداخل. وقد أحسن إليّ المولى سبحانه وتعالى بملايين من الطلاب الحقيقيين. فنحن نقوم بالعمل الإيجابي البناء بكل ما نملك من قوة في سبيل تأمين الأمن الداخلي. فالفرق عظيم بين الجهاد الداخلي والخارجي في الوقت الحاضر.

وهناك مسألة أخرى في غاية الأهمية. وهي أن متطلبات المدنية الدنية (الدنية بالنسبة لأحكام القرآن الكريم) في يومنا هذا قد زيّدت الحاجاتِ الضرورية من الأربعة إلى العشرين. فجعلتِ الحاجاتِ غير الضرورية بمثابة الحاجات الضرورية بالإدمان والاعتياد والتقليد. فتجد من يفضل الدنيا على الآخرة رغم إيمانه بها لانهماكه بالأمور المعاشية والدنيوية ظنا منه أنها ضرورة.

قبل أربعين سنة أرسل إلي قائد عام عددا من الضباط وحتى بعضَ العلماء الأئمة من أجل أن يعيدوني شيئا إلى الأمور الدنيوية. فقالوا: «نحن الآن مضطرون». أي إننا مضطرون في تقليد بعض الأصول الأوروبية وموجبات المدنية حسب القاعدة المعروفة: «إن الضرورات تبيح المحظورات». قلت لهم: إنكم منخدعون تماما؛ لأن الضرورة النابعة من سوء الاختيار لا تبيح المحظورات. فلا يجعل الحرام بمثابة الحلال. بينما إن لم تنبع من سوء الاختيار، أي إن لم تأت الضرورة عن طريق الحرام فلا ضير. فمثلا: إذا سكر شخص بسوء اختياره بشربه الحرام، ثم اقترف جريمة وهو سكران، فإن الحكم يجري عليه ولا يكون بريئا بل يعاقب. ولكن إذا قام طفل مختل العقل بقتل شخص ما -وهو في حالة الاختلال- فهو معذور ولا يعاقب. لأنه لم يقترف الجريمة بإرادته. وهكذا قلت للقواد والأئمة: أيّ الأمور تُعد ضرورية مما سوى الأكل والعيش؟. فالأعمال النابعة من سوء الاختيار والميول غير المشروعة لا تكون عذرا لجعل الحرام حلالا. فإذا أدمن الإنسان نفسه على شيء كمتابعته للأفلام في السينما وارتياده المسرح والرقص بكثرة، وهذه الأمور ليست ضرورية قطعا، بل نابعة من سوء الاختيار، لذا لا تكون كافية لجعل الحرام حلالا. وحتى القانونُ الإنساني قد أخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار، وميز بين الضرورة القاطعة غير الداخلة ضمن إطار الاختيار والأحكام الناشئة من سوء الاختيار. إلا أن القانون الإلهي قد فرق بينهما بشكل أساس وثابت راسخ ومحكم.

إخواني! لا تهاجموا بعض العلماء الذين ظنوا بعضَ إلجاءات العصر ضرورة، وركنوا إلى البدع. لا تصادموا هؤلاء المساكين الذين ظنوا الأمر «ضرورة»، بدون علم وعملوا وفقها. ولهذا فنحن لا نقوم باستعمال قوتنا في الداخل. فلا تتحرشوا بهم وإن كان المعارضون لنا من العلماء الأئمة. إنني قد تحملت وحدي المعارضات كافة، ولم أفتر مقدار ذرة قط. ووفّقت في تلك الخدمة الإيمانية بإذن الله. فالآن رغم وجود ملايين من طلبة النور، فإنني أسعى بالعمل الإيجابي وأتحمل جميع مظالمهم وإهاناتهم وإثاراتهم.

إننا لا نلتفت إلى الدنيا، فإذا ما نظرنا إليها فنحن لا نسعى إلى ما سوى لمعاونتهم فيها. فنحن نعاونهم في تأمين الأمن بشكل إيجابي. وبسبب هذه الحقائق وأمثالها نحن نسامحهم حتى لو عاملونا بالظلم.

إن نشر رسائل النور قد أورث قناعة تامة بأن الديمقراطيين يساندون الدين ولا يخالفونه. لذا فإن التعرض للرسائل يكون ضد منفعة الوطن والملة.

كانت هناك رسالة خاصة سرية قد منعتُ نشرها، ووصيتُ تلاميذي بنشرها بعد وفاتي، إلّا أن المحاكم قد عثرت عليها وطالعتها بدقة ثم قضت بالبراءة. وأيدت محكمةُ التمييز هذه البراءة. وأنا بدوري أذِنتُ بنشرها من أجل تأمين الأمن الداخلي والحيلولة دون أن يمس خمسا وتسعين بالمائة من الأبرياء ضرر، وقلت: يمكن نشرها بالاستشارة…

المسألة الثالثة:

يسعى الكفر المطلق حاليا لنشر جهنم معنوي رهيب، بحيث يلزم أن لا يقترب منه أي إنسان في العالم أجمع. ولكن أحد أسرار كون القرآن الكريم «رحمة للعالمين» هو: مثلما أنه رحمة للمسلمين جميعا، فهو رحمة لجميع الكفار أيضا وبني آدم أجمع، حيث يورثهم احتمالَ وجود الآخرة ووجود الله سبحانه، فيخفف عنهم بهذا الاحتمال شيئا من الجحيم المعنوي الذي يكتوون بناره في هذه الحياة الدنيا. وهذا سر دقيق من أسرار كون القرآن رحمة للخلق أجمعين. إلاّ أن قسم الضلالة من العلم والفلسفة، أي غيرَ المتوافق مع القرآن الكريم والمنحرفَ عن الصراط السوي قد بدأ بنشر الكفر المطلق على طراز الشيوعيين، فبدأ بتطعيم أفكارهم المولدة للفوضى والإرهاب ونشرها بوساطة المنافقين والزنادقة وبوساطة قسم من السياسيين الكفرة. علما أن الحياة لا يمكن أن تسير بدون دين. ومبدأُ «لا حياة لأمة بلا دين» تشير إلى هذه النقطة. إذ لا يمكن العيش-في حقيقة الحال- بالكفر المطلق. ولهذا فإن إحدى المعجزات المعنوية للقرآن الحكيم أنه قد منح هذا الدرس لطلاب رسائل النور ليكونوا سدا أمام الكفر المطلق والإرهاب في هذا القرن. وحقا إن الرسائل أدت دورها. نعم، إن هذا الدرس القرآني هو الذي وقانا من هذا التيار الجارف الذي استولى على الصين ونصف أوروبا ودول البلقان وأقام سدا أمام هذا الهجوم. وهكذا وُجد حل سليم أمام هذا الخطر الداهم.

إذن لا يمكن لمسلم أن يخرج عن الإسلام ويتنصّر أو يتهود أو يكون بلشفيا… لأن النصراني إذا أسلم فإن حبَّه لعيسى عليه السلام يزداد أكثر. واليهودي كذلك يزداد حبه لموسى عليه السلام بعد دخوله للإسلام. ولكن المسلم إذا ارتد وحل ربقته من سلسلة الرسول محمد ﷺ وتخلى عن الدين الحنيف فلا يمكن له أن يدخل أي دين آخر بل يكونُ إرهابيا. ولا يبقى في روحه أيّ نوع من الكمالات. بل يتفسخ وجدانه، ويكون بمثابة سم قاتل للحياة الاجتماعية.

لذا نشكر الله عز وجل أن قد بدأ بالانتشار درسٌ من دروس القرآن المعجز لينقذ هذا العصر باسم رسائل النور بين ملة الترك والعرب باللغة التركية والعربية. وقد تحقق أنها مثلما أنقذت قبل ست عشرة سنة إيمانَ ستمائة ألف شخص. فإنها الآن قد تجاوزت هذا العدد إلى الملايين من الناس. وكما أن رسائل النور أصبحت وسيلة لإنقاذ الإنسانية من الإرهاب -شيئا ما- أصبحت وسيلة للتآخي والوحدة بين الأخوين الجليلين للإسلام وهما العرب والترك، وكذلك أصبحت وسيلة لنشر الأحكام الأساسية للقرآن الكريم حتى بتصديق أعدائها.

فمادام الكفر المطلق يقف حائلا أمام القرآن الكريم في هذا العصر، وأن الكفر يُضمر في ثناياه في هذه الحياة الدنيا جهنما معنوية تفوق جهنم نفسها، حيث إن الموت لا يمكن قتله، بل تشهد كل يوم ثلاثون ألفا من الجنائز على استمرارية الموت، فإن هذا الموت هو بمثابة جهنم معنوية تفوق عذاب جهنم نفسها عشرات المرات لمن وقع في الكفر المطلق أو لمن يساند الكفر المطلق، نظرا لأنه يفكر في الموت أنه إعدام أبدي له ولأحبائه الذين مضوا والآتين معا، لأن كل شخص كما يكون سعيدا بسعادة أحبائه، يتعذب بعذابهم. فالذي يكفر بوجود الله تمحى عنده جميع تلك السعادات، وتحل العذاب محلها. لذا هناك حل وحيد في هذا العصر ليزيل هذا الجحيم المعنوي من قلب الإنسان؛ ألا وهو القرآن الحكيم، وأجزاء رسائل النور التي هي المعجزة المعنوية للقرآن الكريم والتي كتبت وفق أفهام أبناء هذا العصر.

نحن الآن نشكر الله عز وجل، إذ قد شعر-إلى حد ما- أحدُ الأحزاب السياسية هذا الأمر فلم يقم بمنع هذه المؤلفات. ولم يمنع نشر رسائل النور التي تُثبت بأن الحقائق الإيمانية تذيق أهل الإيمان جنة معنوية في هذه الدنيا. بل سمح بنشرها وتخلى عن مضايقة ناشريها.

إخواني! إن مرضي قد اشتد كثيرا، ولعلي أتوفى قريبا، أو أُمنع من المكالمة كليا -كما كنت أمنع أحيانا منها- لذا فعلى إخوتي في الآخرة أن يتجاوزوا عن الهجوم على أخطاء بعض المخطئين المساكين، وليعدّوها من قبيل «أهون الشرين». وليقوموا بالعمل الإيجابي دائما. لأن العمل السلبي ليس من وظيفتنا. ولأن العمل السلبي في الداخل لا يُغتفر. ومادام قسم من السياسيين لا يُلحقون الضرر برسائل النور، بل يتسامحون قليلا. لذا انظروا إليهم كأهون الشرين. ومن أجل التخلص من أعظم الشر فلا تمسوهم بضرر بل حاولوا أن تنفعوهم.

وإن الجهاد المعنوي في الداخل هو العمل ضد التخريبات المعنوية، وإنه ليس ماديا قط.. وإنما يستوجب القيامَ بخدمات معنوية. لذا فكما لم نتدخل بأمور أهل السياسية، فلا يحق لأهل السياسة أن ينشغلوا بنا.

فمثلا: لقد سامحت عن جميع حقوقي وعفوت عن حزب من الأحزاب السياسية رغم مقاساتي منه ألوفا من المضايقات والسجون منذ ثلاثين سنة. فقد أصبحتْ جميع تلك المشقات والمضايقات وسيلةً لخلاصِ خمسة وتسعين بالمائة من المساكين من أن يسقطوا في مضايقات ومظالم واعتراضات.حيث أُسنِد الذنب إلى خمسة بالمائة من ذلك الحزب، بحكم الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الإسراء:15). فلا يحق إذن لذلك الحزب الذي عادانا القيام بالشكوى منا بأي وجه كان.

حتى إن المدعي العام الذي طالب في إحدى المحاكم -من جراء الأوهام الخاطئة لبعض المخبرين والجواسيس- بإنـزال الحكم علينا نحن السبعين متهما، مستندا إلى سوء فهمه وعدم تدقيقه، وبإسناد معنى خطأ لقسم من رسائل النور، فسعى بالحكم علينا بهذه الأخطاء التي كانت تنوف على ثمانين خطا، كما أثبتنا أخطاء تلك الأخطاء، وكان أحد إخوانكم الذي تعرض أكثر من غيره لمثل تلك الهجمات الظالمة، مسجونا وقد شاهد طفلةً صغيرة من خلال نافذة السجن فسأل عنها فقيل له إنها ابنة ذلك المدعي العام، فلم يقم حتى بالدعاء على ذلك المدعي العام لأجل تلك الطفلة البريئة المسكينة. ولعل تلك المشقات والاضطرابات التي ألقاها علينا المدعي العام انقلبت إلى رحمة، نظرا لأنها أصبحت وسيلة لنشر رسائل النور تلك المعجزة المعنوية.

إخواني! ربما أموت قريبا. فإن لهذا العصر مرضا داهما، وهو الأنانية وحب النفس، واشتهاءُ قضاءِ حياة جميلة في ظل مباهج وزخارف المدنية الجذابة وأمثالها من الأمراض المزمنة. إن أول درس من دروس رسائل النور الذي تلقيته من القرآن الكريم، هو التخلي عن الأنانية وحب النفس، حتى يتم إنقاذ الإيمان بالتقلد بالإخلاص الحقيقي. ولله الحمد والمنة، فقد برز في الميدان كثيرون ممن بلغوا ذلك الإخلاص الأعظم الحقيقي. فهناك الكثيرون ممن يضحون بأنانيتهم وبمنصبهم وجاههم في سبيل أصغر مسألة إيمانية… وحتى قد أُخفِتَ صوت لأحد طلاب النور وهو الضعيف المسكين من قِبَل الرحمة الإلهية عندما أصبح أعداؤه أصدقاء له وكثر الخطاب معه. ويتألم من أنظار من ينظر إليه بنظر تقدير واستحسان. إضافة إلى أنه يتضايق من المصافحات كأنه يتلقى الصفعات. فسئل عنه «ما حالك؟ فما دام لك أصحاب يتجاوزون الملايين، فلماذا لا تحافظ على احترامهم لك وتوقيرهم إياك؟»

فأجاب قائلا: مادام الإخلاص التام هو مسلكنا، فبمقتضى الإخلاص التام لا بد من التضحية والفداء ليس بالأنانية فحسب، بل لو منحت سلطنةُ الدنيا لوجب تفضيل مسألة إيمانية واحدة باقية على تلك السلطنة. لذا فقد فَضَّل نكتة دقيقة قرآنية في آية واحدة أو في حرف منها في الحرب، وفي الخط الأمامي بين قنابل مدافع الأعداء فأمر طالبه المسمى بـ«حبيب»: أن «أخرج الدفتر» أملى عليه تلك النكتة وهو يمتطي صهوة جواده. أي إنه لم يترك حرفا واحدا ونكتةً واحدة من القرآن الكريم مقابل قنابل الأعداء بل فضلها على إنقاذ حياته.

فسألنا ذلك الأخ: «من أين تلقيت هذا الإخلاص العجيب». فقال: من نقطتين:

الأولى: إن في غزوة بدر التي هي من أعظم الغزوات الإسلامية، وَضع قسم من المجاهدين أسلحتهم ووقفوا لأداء الصلاة جماعة، بينما القسم الآخر وقفوا مسلحين حذرين، ثم التحقوا بالصلاة كسبا لثواب الجماعة كما أمر به رسول الله ﷺ. فمادامت هذه الرخصة موجودة في الحرب. ومادام ثواب الجماعة رغم كونه سنة قد فضّل على أكبر حادثة في الدنيا لأجل رعاية تلك السنة النبوية فنحن نستلهم من الرسول الأعظم ﷺ هذه النكتة الصغيرة ونتبعها بروحنا وأنفسنا.

الثانية: إن الإمام عليا رضي الله عنه قد طلب من الله سبحانه وتعالى في أماكن كثيرة من قصيدته «البديعية» ولاسيما في أواخرها حاميا يحميه من طروء الغفلة في خشوعه عند وقوفه في الصلاة، فطلب من الرب الجليل عفريتا من الجن ليحميه مما يمكن أن يُحدثه الأعداء من خلل في اطمئنانه وخشوعه في الصلاة.

إن أخاكم هذا المسكين الضعيف الذي قضى صفوة عمره في الأنانية في هذا الزمان، قد تلقى هاتين النكتتين الصغيرتين من سيد الكونين الذي هو سبب خلق الأفلاك، ومن الذي هو أسد الإسلام. وفي زماننا هذا قد أعطى هذا المسكين الضعيف أهمية لأسرار القرآن ولم يعر سمعا لحماية نفسه من الأعداء في الحرب، فبيّن نكتة واحدة فقط من حرف واحد من القرآن الكريم».

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

رسائل متفرقة (8)

نكتة توحيدية في لفظ «هو»

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما…

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد شاهدتُ -مشاهدةً آنية- خلال سياحة فكرية خيالية، لدى مطالعة صحيفة الهواء من حيث جهته المادية فقط، نكتةً توحيدية ظريفة تولدت من لفظ «هو» الموجود في «لا إله إلّا هو» وفي ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ ورأيت فيها أن سبيلَ الإيمان سهلٌ ويسير إلى حد الوجوب بينما سبيلُ الشرك والضلالة فيه من المحالات والمعضلات إلى حد الامتناع.

سأبين بإشارة في منتهى الاختصار تلك النكتةَ الظريفة الواسعة الطويلة.

نعم، إن حفنة من تراب، يمكن أن تكون موضعَ استنبات مئات من النباتات المزهرة إنْ وُضعتْ فيها متعاقبةً. فإن أُحيل هذا الأمر إلى الطبيعة والأسباب يلزم؛ إما أن تكون في تلك الحفنة من التراب مئاتٌ من المصانع المصغرة المعنوية، بل بعدد الأزهار.. أو أن كلَّ ذرة من ذرات تلك الحفنة من التراب تعلم بناءَ تلك الأزهار المتنوعة وتركيبها بخصائصها المتنوعة وأجهزتها الحيوية، أي لها علمٌ محيط وقدرة مطلقة بما يشبه علم الإله وقدرته!!.

وكذلك الهواء الذي هو عرشٌ من عروش الأمر والإرادة الإلهية؛ فلكلِّ جزء منه، من نسيم وريح، بل حتى للهواء الموجود في جزء من نَفَس الإنسان الضَّئيل عندما ينطق بكلمة «هو» وظائفُ لا تعد ولا تحصى.

فلو أُسندت هذه الوظائف إلى الطبيعة والمصادفة والأسباب؛ فإما أنه أي الهواء يحمل بمقياس مصغر مـراكزَ بثٍ واستقبال لجميع ما فـي العالم من أصـوات ومكالمات في التلغراف والتلفون والراديو مع ما لا يحد من أنواع الأصوات للكلام والمحادثات، وأن يكون له القدرة على القيام بتلك الوظائف جميعِها في وقت واحد.. أو أن ذلك الجزءَ من الهواء الموجود في كلمة «هو»، وكلَّ جزء من أجزائه وكل ذرة من ذراته، لها شخصياتٌ معنوية، وقابليات بعدد كل مَن يتكلم بالتلفونات وجميع مَن يبث من البرقيات المتنوعة وجميع مَن يذيع كلاما من الراديوات، وأن تَعلَم لغاتِهم ولهجاتهم جميعا، وتُعَلِّمَه في الوقت نفسه الذراتِ الأخرى، وتنشرَه وتبثه. حيث إن قسما من ذلك الوضع مشهود أمامنا، وأن أجزاء الهواء كلها تحمل تلك القابلية.. إذن فليس هناك محال واحد في طريق الكفر من الماديين الطبيعيين بل محالات واضحة جلية ومعضلات وإشكالات بعدد ذرات الهواء.

ولكن إن أُسند الأمر إلى الصانع الجليل، فإن الهواء يصبح بجميع ذراته جنديا مستعدا لتلقي الأوامر. فعندئذٍ تقوم ذراتُه بأداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد، بإذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستنادها إليه سبحانه، وبتجلي قدرة صانعها تجليا آنيا -بسرعة البرق- وبسهولةِ قيام ذرة واحدة بوظيفة من وظائفها وبيُسرِ تلفظِ كلمة «هو» وتموج الهواء فيها. أي يكون الهواءُ صحيفةً واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لا تحصر لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراتُه بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القَدَر، لذا يكون الأمر سهلا كسهولة حركة ذرة واحدة.

رأيت هذه الحقيقة بوضوح تام وبتفصيل كامل وبعين اليقين عندما كنت أُشاهد عالم الهواء وأُطالع صحيفته في سياحتي الفكرية وتأملي في «لا إله إلّا هو» و ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ وعلمت بعلم اليقين أن في الهواء الموجود في لفظ «هو» برهانا ساطعا للوحدانية مثلما أن في معناه وفي إشارته تجليا للأحدية في غاية النورانية وحجة توحيدية في غاية القوة، حيث فيها قرينةُ الإشارة المطلقة المبهمة لضمير «هو» أي إلى مَن يعود؟ فعرفت عندئذٍ لماذا يكرر القرآنُ الكريم وأهلُ الذكر هذه الكلمة عند مقام التوحيد.

نعم، لو أراد شخص أن يضع نقطة معينة -مثلا- على ورقة بيضاء في مكان معين، فإن الأمر سهل، ولكن لو طُلب منه وضع نقاط عدة في مواضع عدة في آن واحد فالأمر يستشكل عليه ويختلط. كذلك يرزح كائن صغير تحت ثقل قيامه بعدة وظائف في وقت واحد. لذا فالمفروض أن يختلط النظام ويتبعثر عند خروج كلمات كثيرة في وقت واحد من الفم ودخولها الأذن معا..

ولكني شاهدتُ بعين اليقين، وبدلالة لفظ «هو» -هذا الذي أصبح مفتاحا وبمثابة بوصلة- أن نقاطا مختلفة تعد بالألوف، وحروفا وكلماتٍ توضع -أو يمكن أن توضع- على كل جزء من أجزاء الهواء الذي أَسيح فيه فكرا، بل يمكن أن توضع كلها على عاتق ذرة واحدة من دون أن يَحدث اختلاط أو تشابك أو ينفسخ النظام، علما أن تلك الذرة تقوم بوظائف أخرى كثيرة جدا في الوقت نفسه، فلا يلتبس عليها شيء، وتحمل أثقالا هائلة جدا من دون أن تبدي ضعفا أو تكاسلا؛ فلا نراها قاصرةً عن أداء وظائفها المتنوعة واحتفاظها بالنظام؛ إذ تَرِد إلى تلك الذرات ألوفُ الألوف من الكلمات المختلفة في أنماط مختلفة وأصوات مختلفة، وتخرج منها أيضا في غاية النظام مثلما دخلت، دون اختلاط أو امتزاج ودون أن يُفسد إحداها الأخرى. فكأن تلك الذرات تملك آذانا صاغية صغيرة على قدّها، وألسنةً دقيقة تناسبها فتَدخل تلك الكلماتُ تلك الآذانَ وتخرج من ألسنتها الصغيرة تلك.. فمع كل هذه الأمور العجيبة فإن كل ذرة -وكل جـزء من الهواء- تتـجــول بحـريـة تامـة ذاكرةً خالقَها بلسان الحال وفي نشوة الجذب والوجد قائلة: «لا إله إلّا هو» و ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ بلسان الحقيقة المذكورة آنفا وشهادتها.

وحينما تَحدث العواصفُ القوية وتدّوي أهازيجُ الرعد، ويتلمع الفضاءُ بسنا البرق، يتحول الهواء إلى أمواج ضخمة متلاطمة.. بيد أن الذرات لا تفقد نظامها ولا تتعثر في أداء وظائفها، فلا يمنعها شغلٌ عن شغل.. هكذا شاهدت هذه الحقيقة بعين اليقين.

إذن، فإما أن تكون كلُّ ذرة -وكل جزء من الهواء- صاحبةَ علم مطلق وحكمة مطلقة وإرادة مطلقة وقوة مطلقة وقدرة مطلقة وهيمنة كاملة على جميع الذرات.. كي تتمكن من القيام بأداء هذه الوظائف المتنوعة على وجهها.. وما هذه إلّا محالات ومحالات بعدد الذرات وباطل بطلانا مطلقا. بل حتى لا يذكره أي شيطان كان..

لذا فإن البداهة تقتضي، بل هو بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين: أن صحيفة الهواء هذه إنما هي صحيفة متبدلة يكتب الخالقُ فيها بعلمه المطلق ما يشاء بقلم قُدرته وقَدَره الذي يحركه بحكمته المطلقة، وهي بمثابة لوحةِ محوٍ وإثبات في عالم التغيّر والتّبدل للشؤون المسطّرة في اللوح المحفوظ.

فكما أن الهواء يدل على تجلي الوحدانية بهذه الأمور العجيبة المذكورة آنفا، وذلك لدى أداء وظيفة واحدة من وظائفها وهي نقل الأصوات، ويبين في الوقت نفسه بيانا واضحا محالات الضلالة التي لا تحصر، كذلك فهو يقوم بوظائف في غاية الأهمية وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس، كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والدافعة والضوء.. وفي الوقت نفسه يدخل إلى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤديا هناك مهماتهِ الحياتية بإتقان، وفي الوقت عينه يقوم بنقل حبوب اللقاح -أي وظيفة تلقيح النباتات- وهكذا أمثال هذه الوظائف الأساسية لإدامة الحياة؛ مما يُثبت يقينا أن الهواء عرشٌ عظيم يأتمر بالأمر الإلهي وإرادته الجليلة. ويُثبت أيضا بعين اليقين أن لا احتمالَ قطعا لتدخل المصادفة العشواء والأسباب السائبة التائهة والموادِّ العاجزة الجامدة الجاهلة في الكتابة البديعة لهذه الصحيفة الهوائية وفي أداء وظائفها الدقيقة. فاقتنعْتُ بهذا قناعة تامة بعين اليقين، وعرفتُ أن كـل ذرة وكل جزء من الـهواء تقول بلســان حالها: «لا إله إلّا هو» و ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ .

ومثلما شاهدت هذه الأمور العجيبة في الجهة المادية من الهواء بهذا المفتاح، أعني مفتاح «هو»، فعنصر الهواء برمته أصبح أيضا كلفظ «هو» مفتاحا لعالم المثال وعالم المعنى؛ إذ قد علمتُ أن عالم المثال كآلة تصوير عظيمة جدا تلتقط صورا لا تعد ولا تحصى للحوادث الجارية في الدنيا، تلتقطها في آن واحد بلا اختلاط ولا التباس حتى غدا هذا العالم يَضم مشاهد عظيمة وواسعة أُخروية تَسَع ألوف ألوف الدُنى، تعرض أوضاع حالات فانية لموجودات فانية وتظهر ثمار حياتها العابرة في مشاهد ولوحات خالدة تُعرض أمام أصحاب الجنة والسعادة الأبدية في معارض سرمدية مذكِّرةً إياهم بحوادث الدنيا وذكرياتهم الجميلة الماضية فيها.

فالحجة القاطعة على وجود اللوح المحفوظ وعالم المثال ونموذجِها المصغر هو ما في رأس الإنسان من قوةٍ حافظة وما يملك من قوةِ خيال، فمع أنهما لا تشغلان حجم حبة من خردل إلّا أنهما تقومان بوظائفهما على أتم وجه بلا اختلاط ولا التباس وفي انتظام كامل وإتقان تام، حتى كأنهما يحتفظان بمكتبة ضخمة جدا من المعلومات والوثائق. مما يُثبت لنا أن تينك القوتين نموذجان للّوح المحفوظ وعالم المثال.

وهكذا لقد عُلم بعلم اليقين القاطع أن الهواء والماء ولا سيما سائل النُطف، واللذان يفوقان الترابَ في الدلالة على الله -الذي أوردناه في مستهل البحث- صحيفتان واسعتان يكتب فيهما قلمُ القدَر والحكمةِ كتابة حكيمة بليغة، ويجريان فيهما الإرادة وقلم القدر والقدرة. وأن مداخلة المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والأسباب التائهة الجامدة في تلك الكتابة الحكيمة محال في مائة محال وغير ممكن قطعا.

ألف ألف تحية وسلام إلى الجميع.

* * *

[من معاني «التشهّد»]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما

إخوتي الأعزاء الصادقين الأبرار!

لقد ارتأينا أن نبين لكم خلاصة الدرس الذي ألقيناه على أركان مدرسة الزهراء، بناء على رغبتهم.

وموضوعه هو: أن الرسول الأكرم فخر الكائنات وثمرة خلق العالم ﷺ قد قال ليلة المعراج في الحضرة الإلهية باسم جميع الكون بدل السلام:

«التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله» قالها، باسم البشرية جمعاء، بل باسم جميع ذوي الحياة، بل باسم عموم المخلوقات.. وأن الأمة الإسلامية تردد هذا الكلام المبارك يوميا مرات ومرات في صلواتهم لما فيه من معنى كلي.. وينال كل مؤمن -مهما كانت مرتبته في الإيمان- حظه من هذا الكلام.

ولقد ذكرنا -فيما سبق- ما في عنصر الهواء من خوارق القدرة الإلهية لدى بياننا أن الراديو نعمة إلهية، وذلك في حاشية بحث (نكتة توحيدية في لفظ «هو»)..

فلأجل كل هذا خطر على القلب: أن العبادة التي يؤديها المؤمن في هذه الدنيا القصيرة، وفي عمر قصير، والتي يثاب عليها بملك باق واسع أوسع من الدنيا في السعادة الأبدية، إنما هي عبادة كلية، ولكأن دنياه الخاصة بكاملها تؤدي معه العبادة أيضا، حيث يثاب بقدر دنياه الخاصة.. هكذا تفهم من إشارات القرآن، كما هو مذكور في رسالة «الحجة الزهراء» في المقام الثاني لدى بحث العلم الإلهي.

فعندما كنت أقرأ في التشهد «التحيات..» خطرت معانيها الكلية على روحي فتحولت فجأة -في خيالي- عناصرُ دنياي الخاصة من تراب وماء وهواء و نور، إلى أربعة ألسن كلية ذاكرة. كل منها يذكر بأحواله: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله» بملايين بل ببلايين بل بما لا يعد ولا يحصى من المرات.

هكذا رأيته في خيالي:

أحد هذه العناصر هو «التراب».. هذا التراب أصبح لسانا ذاكرا، وكلُّ ذي حياة غدا كلمة ذات حياة ناطقة بـ«التحيات.. لله».

وذلك: أن حفنة من تراب يمكن أن تكون موضع استنبات معظم النباتات.. فإما أن فيها من المصانع المعنوية -بمقياسٍ مصغر جداً- ما تتمكن من توليد تلك النباتات، وبعدد يفوق عدد المصانع التي نصبها الإنسان في العالم.. وهذا محال في محال، أو أن ذلك الاستنبات يحصل بقدرةِ قدير مطلق، وبعلمه المحيط وإرادته الشاملة.

فعنصر التراب إذن ينال بهذا دلالة على الله بجميع ذراته وأجزائه؛ لذا يردد: «التحيات لله». أي يقول: «إن الحياة الموهوبة لجميع الأحياء من الأزل إلى الأبد خاصة لذات الله المقدسة سبحانه وتعالى».

وكذا العنصر الآخر لدنياي الخاصة -كما هو لدنيا الآخرين- وهو «الماء». رأيته قد أصبح كذلك لسانا كليا يلهج بأحواله و بجميع ذراته الكلمة المباركة: «المباركات» وينشرها في أرجاء الكائنات كلها بملايين بل ببلايين بل بما لا يعد ولا يحصى من المرات. ولاسيما خدمته في إنماء الأحياء وإعاشتها، حيث الوظائف التي تقوم بها قطرات الماء ولاسيما في إنماء النطف والنوى والبذور وتنبيهها لأداء وظيفتها الفطرية.. وقيام تلك المخلوقات الصغيرة الجميلة البديعة، وتلك الصغار المباركة بأوضاعها اللطيفة بوظائف عظيمة وفي منتهى الإتقان والانتظام حتى يستنطق جميع ذوي الشعور فيقولوا من إعجابهم: «بارك الله.. ما شاء الله» ويرددها بما لا يعد ولا يحصى من المرات..

فأداء تلك الوظائف على ذلك الوجه المتقن يتطلب حتما أن يكون لكل ذرة من ذرات الماء من العلم ما لألفِ ألفِ أفلاطون! ومن الحكمة والإرادة ما لألفِ ألف لقمان الحكيم!. وهذا محال في محال بعدد ذرات الماء!..

فإذن لا تتم تلك الأمور المتقنة إلّا بقدرةِ قديرٍ ذي جلال وبإرادته، وبرحمة رحمن رحيم وبحكمته.

فتلك الأحياء الصغيرة المباركة التي أَظهرت تلك المعجزات التي لا تعد ولا تحصى تردد إذن بألسنة أحوالها جميعا وبعددها الكلمة الكلية: «المباركات.. لله».

ومن هنا فقد قال ثمرة خلق العالم رسولنا الأكرم ﷺ في ليلة المعراج متكلما باسم جميع المخلوقات:

«المباركات.. لله»، وقدم في الحضور الإلهي جميع «المباركات» التي لا يحصرها العد، أي «إن جميع هذه الحالات اللطيفة والأوضاع البديعة، والإتقان والإبداع، التي تدفع كل ناظر إلى أن يقول من إعجابه: «بارك الله.. ما شاء الله».. جميعها خاصة لقدرة الله الجليلة وحدها».

وكذا عنصر «الهواء» وهو الثالث في دنيا كل أحد.. فإن كل ذرة من ذرات قبضة صغيرة منه، حتى لو كانت بمقدار كلمةِ «هو» تحمل في طيات وظائفِها -كمركز للاستلام والنقل- جميعَ الأدعية وجميع الصلوات وجميع التضرعات وجميع العبادات والتي تعبر عنها جميعا بـ: «الصلوات». فيصبح الهواء لسانا كليا ذاكرا بأحواله بعدد ذراته التي لا تعد ولا تحصى جميعَ تلك الكلمات وتقدمها إلى خالقها العظيم. لذا فقد قال الرسول الكريم ﷺ: «الصلوات لله» باسم جميع تلك الذرات معبرا عن ذلك المعنى الكلي، وقدّمها إلى الحق سبحانه وتعالى. أي: «إن جميع الأدعية والتضرعات التي يتضرع بها المضطرون والشكر والحمد على النعم، والعبادات والصلوات كلها خاصة لخالق كل شيء، لله وحده».

لأنه كما ذكر في البحث المذكور آنفا: إما أن ذراتِ قبضةِ هواء -بقدر كلمة «هو»– تتقن اللغات جميعها، وتَرى مواضع من يتكلمون بها، وتسمع كل ما هو قريب أو بعيد، وتجيد لفظةَ كل لهجة ومخارج كل حرف، مع وظائف أخرى كثيرة، من دون اختلاط ولا تشوش. بمعنى أنها تكون مالكة لقدرة مطلقة وإرادة مطلقة!. وهذا محال في محال بعدد ذرات الهواء!

أو أن كل ذرة من تلك الذرات تدل على الصانع الحكيم يقينا و تشهد على جميع صفاته الجليلة بلا ريب، بل كأنها تسع -بمقياس مصغر- جميعَ شهادات العالم على الصانع الجليل. أي إن الصلوات التي قُدمت بعدد الذرات، والتي تعبر عنها بـ «الصلوات لله» قد قدمها الرسول الكريم ﷺ ليلة المعراج بهذا المعنى الكلي إلى الله سبحانه وتعالى.

وكذا عندما تقال الكلمة الطيبة: «الطيبات» تصبح النار والنور، أي عنصر النور المادي والمعنوي -بحرارة أو بدونها- لسانا كليا ذاكرا يردد: «الطيبات لله» يرددها بما لا يحد من ألسنة أحواله.

أي: «إن جميع الكلمات الطيبة، والمعاني الزكية، وبدائع الحسن والجمال، وتجليات الأسماء الحسنى الأزلية المتلمعة على خد الكائنات وجميع سنا الجمال الزاهي المُشاهَد على المخلوقات والكائنات بإيمان المؤمنين وفي طليعتهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحون والأصفياء العاملون.. وجميع الأقوال الطيبة الجميلة النابعة من إيمان المؤمنين وتحميداتهم وتشكراتهم وتهليلاتهم وتسبيحاتهم وتكبيراتهم المتعالية صاعدة إلى العرش الأعظم بدلالة الآية الكريمة: ﴿اِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (فاطر:10).. فجميع هذه الكلمات الطيبات المتوجهة إلى
العرش الأعظم، مع جميع أشكال الجمال والحسن والطيب التي لا تحد والناشئة من أحد أجمل الوجوه الثلاثة للدنيا، وهي وجهها المرآة المتوجهة إلى الأسماء الحسنى، مع ما لا يحد من الحسنات والخيرات والثمرات المعنوية المزروعة في الوجه الثاني للدنيا وهي مزرعة الآخرة.. كل هذه «الطيبات» خاصة بكاملها لله وحده.. القدير المطلق، سلطان الأزل والأبد.

فهذا المعنى الكلي، وبلسان العبودية الكلية للنار والنور قدّمه سيد الكون رسولنا الأكرم ﷺ بهذه الكلمة الطيبة: «الطيبات.. لله» باسم جميع المخلوقات، إلى المعبود ذي الجلال سبحانه، إذ يحمل النور المادي والمعنوي من الشهادات والدلالات -الجزئية والكلية- على الله سبحانه ما لا يحصره العد.

نعم، إن النور والنار -كما هو الحال في التراب والهواء والماء- يدلان بالبداهة دلالة قاطعة وبالضرورة وبتلك النماذج على أن الأسباب كلها ليست الّا حجبا، والتأثير والإيجاد كله إنما هو من القدير ذي الجلال.

حيث إن النور -كالحياة والوجود تماما- ينال الوجود بصدوره مباشرة من القدرة الإلهية، فلا تتوسط الأسباب الظاهرية حجابا دونه في أية جهة كانت. ومن هنا فإنه يدل على الأحدية ضمن الواحدية، أي: يشير بوظيفة جزئية صغيرة جدا إلى دليل واسع كلي للأحدية – كما أثبت ذلك في (نكتة في لفظ «هو» مع هوامشها باختصار)-.

وسنذكر هنا مثالين اثنين فقط من بين ملايين الملايين من الأمثلة:

المثال الأول:

هو ما يظهر على صورة علم في جزء من ومضة نور معنوي، في دماغ إنسان يملك قوة حافظة لا تتجاوز حجم ظفر، هذا الشخص أدرج في دماغه كلمات تسعيـن كتابا، ويتم قراءة هذا الجزء فقط من حافظته في ثلاثة أشهر بمعدل ثلاث ساعات يومياً، ويمكنه أن يراجع ويخرج من تلك الحافظة ما يشاء ومتى يشاء مما شاهده وسمعه وما تراءى أمامه من صور ومعان وكلمات أعجب بها أو تحير منها أو رغب فيها.. مع جميع الصور والأصوات طوال عمره الذي ناهز الثمانين.. كل ذلك مجموعة في صحيفة تلك الحافظة. لذا يرى أن تلك الحافظة كأنها مكتبة ضخمة نسقت فيها المحفوظات منتظمة مرصوفة.

فهذه الحافظة التي لا تشغل حجم حبة من خردل تكتب فيها و تحفظ تلك الأحوال كلها، فلها إذن سعة كسعة البحر، ونور كلي، وضياء معنوي محيط بالشيء كضياء الشمس المحيط، وصحائف كبيرة واسعة سعة سطح الأرض.. وما هذا إلّا محال في محال، بل محال بمئات الألوف من المحالات.

فلا بد إذن ولا شك أن هذه الحافظة الصغيرة جدا قد وضعها العليم المطلق العلم في دماغ الإنسان بعلمه وحكمته وقدرته، وخَلَقها أنموذجا مصغرا ليشير ويشهد على اللوح المحفوظ الذي هو صحيفة قدره وقدرته.

المثال الثاني: الجزئي والأنموذج المصغر جدا: هو الكهرباء. فبعد أن خبر أحدهم المصباح الكهربائي ودقق فيه النظر، رأى أن الذرات والمواد الموجودة في مئات المفاتيح الكهربائية وأسلاكها ومراكزها، جامدة لا تملك شعورا، ولا حركة ذاتية. ومع هذا تمحو ظلمات كانت تشغل عشرات الكيلومترات، بعد أقل من تماس بسيط، ويملأ مكانها نوراً في أقل من نصف ثانيه! فذهاب هذه الظلمات المشــاهدة فجأة ومجيء نور مشاهَد بقدرها بدلا منها لاشك أنـه ليس خيالا، فأما أن التماس الحاصل في تلك الذرات الجامدة الفاقدة للشعور يحمل قوة لا حد لها ونورا لا منتهى له بحيث تتمكن تلك الذرات من أن تمد يدها إلى مئات الكيلومترات، فتزيلَ منها الظلام وتملأَه بالنـور.. وهذا محال لا يمكن أن يقنع به حتى السوفسطائي ولو حاولت معه الشــياطين جميعا والملحدون والماديـون قاطبة..([1]) أو حصل ذلك بقدرة القدير المطلق، علام الغيوب، وبحكمة العليم النافذ حكمه في الكون كله، فتستفيض الأنوار من اسمه «النور» فهو «نور النور، وخالق النور، ومدبر النور».

وعلى غرار هذين المثالين هناك ما لا يحد من الأمثلة والنماذج.

وهكذا فكما تُقدِّم الكائناتُ جميعَ ما فيها من أنوار، وحسن وجمال، وطيبات، وكلمات طيبة، وخيرات وكمالات إلى الذات الجليلة بلسان حال عنصر النور بـ: «الطيبات لله» فإن نتيجة خلق الكائنات وسببَ خلق الكون ﷺ قد قال أيضا بذلك المعنى الكلي في ليلة المعراج: «الطيبات لله» باسم جميع موجودات الكون التي بعث إليه.

فالرسول الأعظم ﷺ -بعدد ذرات الأنام- بعد أن قال هذه الكلمات الجميلة الأربع بدلا من السلام في ليلة المعراج، قابله الرب الجليل سبحانه وتعالى -كما هو موضح في رسائل النور- بقوله: «السلام عليك أيها النبي» دليلا على رضاه وقبوله منه ما قدم من تحيات، وإشارة منه سبحانه إلى أمته – بأمر معنوي – أن يقولوا مثله؛ «السلام عليك أيها النبي»… وعند ذلك قال الرسول ﷺ مباشرة: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» جاعلا من ذلك السلام الإلهي المقدس سلاما عاما شاملا لنفسه ولامته ولأمثاله من الأنبياء -عليهم السلام- ولجميع المخلوقات، حيث هو المبعوث إليهم جميعا.

فما تقوله أمته ﷺ في كل صلاة: «السلام عليك أيها النبي» ما هو الا امتثال لما في ذلك السلام الإلهي المقدس من أمر. وهو في الوقت نفسه بيعة مع الرسول ﷺ، و تجديد يومي لبيعته، أي الرضى به رسولا والطاعة والانقياد لما جاء به، وهو في الوقت نفسه تهنئة و تحية لرسالته.. وشكرانٌ يقدمه العالم الإسلامي أجمع يوميا لما بشّرهم به من سعادة أبدية.

نعم، إن كل إنسان يتألم من زوال وجوده، كما يتألم من خراب بيته، ويتألم أشد الألم بدمار بلده، بل يتجرع قلبه آلاما وغصصا بفراق أحبائه ووفاتهم، بل يتحرق وجدانه وروحه حتى كأنه في جهنم معنوية كلما تفكر بزوال دنياه الخاصة -وهي بكبر الدنيا- ودمارها نهائيا في الختام. لذا فكل إنسان راشدٍ -أي ما لم يكن فاقد القلب والروح والعقل- يدرك بلا شك أن ما أتى به الرسول الكريم ﷺ من بشرى عظيمة سارة، مما رآه رؤيةَ عينٍ وبصرٍ في ليلة المعراج من سعادة أبدية، ومن تنعم أهل الإيمان في جنة خالدة، ومن عدم فناء أحباء الإنسان الذين يرتبط بهم بعلاقة، ومن لقائهم الحتمي بعضهم بعضا بعد زوالهم.. أقول: سيدرك هذا الإنسان مدى ما تحمله تلك البشرى السارة والهدية البهيجة من فرح وانشراح، ويدرك أيضا سبب استقبال عالم الإسلام تلك الهدية الغالية بقولهم: «السلام عليك أيها النبي» كما يقوله كل موجود معنىً وبلسان هذه الحقيقة، إذ تتحول صحائف الكائنات إلى كتابات صمدانية بتلك الهدية المعنوية، وتتظاهر القيمة الحقيقية للمخلوقات وكمالاتها برسالته. وما «السلام عليكم» الذي تتبادله الأمة الإسلامية كسنة نبوية وشعيرة للإسلام إلّا شعاع من تلك الحقيقة العظمى.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] إنه لأجل الخداع والتمويه ليس إلّا يضعون اسماً على بعض الحقائق العظيمة الجليلة، وكأن تلك الحقيقة قد عُلمت وفهمت، فيجعلونها أمراً عاديا مألوفا.

 فمثلا: إن قولهم: «هذا ما يسمى بقوة الكهرباء» يُبدون به إظهار تلك الحقيقة العظيمة والدقيقة أمرا عادياً مألوفاً، علما أنه قد لا تكفي صفحات لبيان حكم تلك المعجزة البديعة للقدرة الإلهية. لذا فبمجرد وضع اسم وإطلاق عنوان على تلك الحقيقة تُستر حِكَمها الكلية وتختفي ماهيتها وعظمتها، وتغدو من الأمور العادية. وقد يقيمون مكان تلك الحقيقة العظيمة أحد مظاهرها البسيطة، وعندها يسندون ذلك الأثر البديع إلى قوة عمياء ومصادفة عشواء، وطبيعة موهومة، فيتردون في هاويةِ جهلٍ أجهلَ من أبي جهل.

  إن القوانين سنن الله الجارية في الكون والتي هي عناوين لنواميس الإرادة الإلهية، قد أَطلق البشرُ على إحدى تلك القوانين اسم «الكهرباء»، وذلك لعجزه عن إدراك ماهيتها، فجعل بهذا الإطلاق ما في التنوير من معجزة قدرة خارقة أمرا عاديا بسيطا وكأنه شيء معلوم لدى الجميع.

 وهكذا يجعلون أمثال هذه المعجزات البديعة للقدرة الإلهية أموراً عادية مألوفة بمجرد إطلاق اسم عليها كقوة الكهرباء.(المؤلف)

رسائل متفرقة (7)

 [وصية]

لقد كان منذ القدم دأبُ أستاذنا ألّا يتذلل أمام أعظم الرؤساء، حفاظاً على عزة العلم، بل ما كان يقبل هدايا أحد من الناس دون مقابل. والآن وقد أصبح يرفض الهدايا -التي لا ضير من قبولها لدى أهل العلم- بحجة المرض الذي ضعّفه أشدّ الضعف، بل يرفض حتى ما نقدّمه له نحن الذين نقوم بخدمته ولو كان شيئا صغيراً، فنراه يتمرض إن تناوله. فاقتنعنا أنه أُخطر إلى قلبه مَنعه من إخلال قاعدته التي اتخذها طوال حياته، وهي ألّا تكون رسائل النور أداة لأي شيء كان، حفاظا على الإخلاص التام. ونحن الآن في موسم عيد لرسائل النور حيث تنتشر في الأرجاء كافة. لكننا نجد أن أستاذنا يتضجر من المحاورة ويمتعض من النظر إليه والمصافحة حتى من أخص طلابه وإخوانه.

وشاهدناه يقول في هذه الأيام المباركة للعيد السعيد: «اجعلوا قبري في مكان مخفي غاية الإخفاء، ويلزم ألّا يعرف موضعه أحدٌ عدا واحد أو اثنين من طلابي فقط. هذه وصيتي إليكم؛ فالحقيقة التي منعتني عن المحاورة والمسامرة في الدنيا تمنعني بلاشك بعد وفاتي».

ونحن بدورنا سألنا أستاذنا: إن الذي يزور القبر يقرأ سورة الفاتحة ويُثاب عليها. فما الحكمة من منعكم زيارة قبركم؟ فأجاب: إن الغفلة الناشئة من الأنانية وحب الذات في هذا العصر العصيب تدفع الناس إلى أن يُولوا اهتمامهم إلى مقام الميت وشهرته الدنيوية في أثناء زيارتهم القبور، مثلما عمل الفراعنة في الزمن الغابر على تحنيط موتاهم ونصب التماثيل لهم ونشر صورهم رغبة في توجيه الأنظار إليهم، فتوجهت الأنظار إلى المعنى الاسمي -أي لذات الشخص- دون المعنى الحرفي -أي لغيره-.. وهكذا فإن قسماً من أهل الدنيا في الوقت الحاضر يولون توجههم إلى شخص الميت نفسه وإلى مقامه ومنـزلته الدنيوية بدلاً من الزيارة المشروعة لكسب رضاء الله ونيل الثواب الأخروي كما كانت في السابق.

لذا أُوصي بعدم إعلام موضع قبري حفاظا على سر الإخلاص ولئلا أجرح الإخلاص الذي في رسائل النور. فأينما كان الشخص سواء في الشرق أو الغرب وأيا كان فإن ما يقرأه من «الفاتحة» تبلغ إلى تلك الروح.

* * *

[الحيلولة دون وصول حزب الشعب إلى السلطة]

سألنا أستاذنا:

لماذا تعمل على الحفاظ على الحزب الديمقراطي؟ فأجابنا بالآتي:

إذا سقطت حكومةُ الحزب الديمقراطي، فسيتولى السلطةَ حزب الشعب الجمهوري، أو حزب الأمة. والحال أن الجنايات التي ارتكبها الفاسدون من الاتحاد والترقي والقسم الأعظم من الإجراءات التي نفّذها رئيسُ الجمهورية الأول بموجب معاهدة سيفر، طوال خمس عشرة سنة تحت ضغوطٍ ومكايدَ سياسية كثيرة، كل هذه الأمور حُمّلت على حزب الشعب الجمهوري، لذا فإن هذه الأمة التركية العريقة لن تُمكِّن بإرادتها ليتولى حزبُ الشعب السلطة، ذلك لأن حزب الشعب إذا تولى السلطة فإن القوة الشيوعية ستحكم في البلاد تحت اسم الحزب نفسه، علما أن المسلم يستحيل عليه أن يكون شيوعيا، بل يُصبح إرهابيا فوضويا، ولا موضع لمقارنة المسلم بالأجنبي.

ولأجل الحيلولة دون وصول حزب الشعب إلى السلطة والذي يشكّل خطرا رهيبا على حياتنا الاجتماعية وعلى الوطن، أعمل على المحافظة على الحزب الديمقراطي باسم القرآن والوطن والسلام.

* * *

[لذة الجنة في الدنيا]

باسمه سبحانه

هذه الرسالة تخص مـا يحققه الإيمان في حياتي من لذة الجنة حتى في الدنيا.

إنني لم أشاهد والدتي الرؤوفة منذ التاسعة من عمري، فلم أحظ بتبادل الحوار اللطيف معها في جلساتها، فبتّ محروماً من تلك المحبة الرفيعة.

ولم أتمكن من مشاهدة أخواتي الثلاث منذ الخامسة عشرة من عمري، حيث ذهبن مع والدتي إلى عالم البرزخ. فبتّ محروماً من كثير من ألطاف الرحمة والاحترام التي تشيع في أجواء الجلسات الأخوية الطيبة اللذيذة في الدنيا.

ولم أشاهد أيضاً أخويّ من ثلاثة إخوة منذ خمسين سنة -رحمهم الله- فبتّ محروماً من السرور المنبثق من الأخوّة الودود والشفقة العطوف في مجالسة أولئك الأعزاء المتقين العلماء.

وعندما كنت أتجول اليوم مع أبنائي المعنويين الأربعة الذين يعاونونني في شؤوني، أُخطر على قلبي بيقين جزءٌ من بذرة الجنة التي ينطوي عليها الإيمان، مثلما أظهرتها رسائل النور.

وحيث إنني قضيت حياتي عزباً فلم أنجب الأولاد. لذا بتّ محروماً من مَذاقات محبتهم البريئة ومن ابتهاجهم وانشراحهم.

ومع كل هذا ما كنت أشعر بهذا النقص قط، حيث أنعم سبحانه وتعالى عليّ في هذا اليوم معنىً في منتهى الذوق واللذة فضمد جراحاتي الأربعة المذكورة من جهات ثلاث:

الأولى: إنه عوضاً عن اللذة الآتية من العطف الخاص لوالدتي، أحسن الرحيم سبحانه وتعالى عليّ، بأُلوف من الوالدات اللائي يستفدن من رسائل النور استفادة تفوق المعتاد ويتذوقن منها أذواقاً روحية خالصة، بـمثل ما جاء في الحديث الشريف «عليكم بدين العجائز» المذكور في رسائل النور.

وعوضاً عن السرور والبهجة والعطف الأخوي الناشئ من مجالسة أخواتي الثلاث -رحمهن الله- أحسن المولى الكريم عليّ بالألوف من السيدات والشابات، وجعلهن سبحانه وتعالى في موضع أخوات لي، فأستفيد من دعواتهن وتعلقهن بـرسائل النور ألوفاً من الفوائد والثمرات المعنوية والمسرات الروحية، وهناك أمارات عديدة على صدق هذا القسم الثاني يعرفها إخوتي.

وعوضاً عن حرماني من العون المادي والمعنوي الذي كان يمدني به في الدنيا أخَوايَ المرحومان ومن عطفهما ورأفتهما، فقد أحسن سبحانه وتعالى برحـمته عليّ بمئات الألوف من إخوة حقيقيين مضحين في خدمة رسائل النور يحملون عطفاً خالصاً ويـمدّون إليّ يد العون بل يفدون رأسمال حياتهم الأخروية فضلاً عن حياتهم الدنيوية.

وعوضاً عن حرماني من أذواق العطف والحنان النابعة من الأولاد -حيث لا أولاد لي في الدنيا- أنعم سبحانه وتعالى عليّ بمئات الألوف من الأولاد الأبرياء، من حيث استفادتهم من رسائل النور مستقبلاً. فحوّل سبحانه وتعالى هذه العواطف الثلاث والشفقة الرؤوفة الجزئية إلى مئات الألوف منها.

وفيما يخص هذا القسم هناك أمارات كثيرة جدا. حتى يعلم من يعاونني في أموري من الإخوة أن الأطفال في «أميرداغ» و«بولفادين» يتعلقون بي ويُبدون من الاحترام والارتباط أكثر مما يبدونه لوالديهم.

فأمثلة هذا كثيرة جدا بتحويله سبحانه وتعالى هذا الذوقَ واللذة والاحترام المتسم بالرأفة من هذا العطف الجزئي الشخصي إلى صور الألوف من العواطف الكلية والرأفة العمومية.

فلقد استشعرتْ أرواحُ هؤلاء الأطفال الأبرياء بحس مسبق -كما هو في بعض ذوي الأرواح المباركة- أن رسائل النور ستربيهم تربية الوالدين في الدنيا وستصونهم من البلايا.. لذا يُظهرون احتراما وتوقيرا لخادم النور أكثر مما يظهرونه لوالديهم. حتى إن طفلة لا تتجاوز عمرها ثلاث سنوات أتتني مهرولة إليّ مخترقة الأشواك، علما أنني لا أعرفها. ولكثرة ما في «بولفادين» من الأطفال الأبرياء المحبوبين ما كنا نخلص منهم ونحن نقطعها بالسيارة. بل حتى في كل مكان رغم أنهم لم يسمعوا عني شيئا ولم يشاهدوني، فإن إظهارهم هذا العطف والحنان نحوي أكثر مما يبدونه لوالديهم جعلني أرى في الإيمان بذرة الجنة حقا -بالنسبة لي- حتى من حيث جسمي وهواي.

* * *

إشارة قصيرة إلى حقيقة مهمة

هناك إشارات لقسم من الأحاديث الشريفة: أن حقائق الإيمان تبدو بوضوح أكثر لدى النساء في آخر الزمان، حتى يتمكنّ من وقاية أنفسهن -إلى حد- من مهالك الضلالة في ذلك الوقت. كما أن هناك حثا على الاقتداء بالعجائز في آخر الزمان، كما هو في الحديث: «عليكم بدين العجائز».

وهذا يعنى أن النساء اللاتي هن بطلات الشفقة ورائدات الحنان والعطف، يحُول إخلاصهن النابع من تلك السجية دون مهالك الضلالة المتمرغة بالتصنع والرياء في ذلك الوقت، فيظللن محتفظات بإسلامهن.

وهناك حديث آخر فيه: أن «أبا البنات مرزوق»، بمعنى أن في آخر الزمان، يكثر الإناث من الأطفال، ويكنّ طيبات، يبارك الله في أرزاقهّن.

كنت أجهل في السابق سرّ هذا الحديث الشريف وأمثاله، ولكني ولله الحمد فهمت مؤخرا شيئا من أسراره، أشير إليه في غاية الاختصار:

أن أطفال الإنسان ليسوا كصغار الحيوانات، إذ بينما تَقدِر هذه الصغار على الاعتماد على أنفسها في غضون شهرين أو ثلاثة، يحتاج طفل الإنسان إلى حماية ورعاية مكللة بالرحمة والرأفة، تستغرق عشر سنوات أو أكثر.

وبناء على هذا، لزم دوام شفقة الوالدات على أطفالهن وحمايتهم حماية جادة، وهي سجية فطرية مغروزة في الإنسان خلافا للحيوان. أما في الرجال فقد أدرجت الحكمة الإلهية في فطرتهم سجية الشرف والغيرة، ليتمكنوا من القيام بمعاونة الوالدات الضعيفات والأطفال العاجزين.

وضمن هذه السجية (الشرف) أدرجت بطولة نادرة خالصة لا تقبل العوض والمقابل، ولكن -في الوقت الحاضر- دبّ فيها شيء من الفساد، فضعفت على أثرها تلك البطولة في معظم الناس. إلاَ أن السجية الفطرية لدى النساء -وهي الشفقة والحنان- لم تفسد.

فالنساء بهذه السجية الفطرية يؤدين خدمات جليلة بين المسلمين في آخر الزمان، فتلك الأحاديث الشريفة تشير رمزا إلى أهمية هذه السجية الفطرية ودورها في المجتمع، وكيف أنها تكون ركيزة ضمن دائرة الإسلام.

* * *

[موافقة السنة في الزواج]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما…

جواب عن سؤال ورد في صحف نشرت في بلدان خارجية.

«لِمَ بقيت أعزبَ خلافا للسنة النبوية؟»

لقد قرأنا رسالتكم أستاذنا الذي يعاني أشد حالات المرض، فقال لنا:

لو لم أكن في حالة شديدة من المرض لكنت أكتب جوابا مفصلا لهؤلاء الإخوة الفاضلين الطيبين، إلّا أن حالتي الصحية المتردّية لا تسمح لي بذلك. فاكتبوا في غاية الاختصار، في بضع نقاط، جوابا لأولئك الإخوة المخلصين البررة ولرفقائي في خدمة القرآن:

أولا: في الوقت الذي يلزم لصد هجوم زندقة رهيبة تُغيـر منذ أربعين سنة، فدائيون يضحّون بكل ما لديهم، قررتُ أن أضحي لحقيقة القرآن الكريم لا بسعادتي الدنيوية وحدها، بل -حتى إذا استدعى الأمر- بسعادتي الأخروية كذلك، فلأجل أن أتمكن من القيام بخدمة القرآن على وجهها الصحيح بإخلاص حقيقي ما كان لي بد من ترك زواج الدنيا الوقتي -مع علمي بأنه سنة نبوية- بل لو وُهب لي عشر من الحور العين في هذه الدنيا، لوجدت نفسي مضطراً إلى التخلي عنهن جميعاً، من أجل تلك الحقيقة، حقيقة القرآن. لأن هــذه المنظمات الملحدة الرهيبة تشن هجمات عنيفة، وتدبر مكايد خبيثة، فلا بد لصدها من منتهى التضحية وغاية الفداء، وجَعْلِ جميع الأعمال في سبيل نشر الدين خالصة لوجه الله وحده، من دون أن تكون وسيلة لشـيء مهما كان.

ولقد أفتى علماء منكوبون وأناس أتقياء لصالح البدع، أو ظهروا بمظهر المُوالين لها، من جراء همومِ عيشِ أولادهم وأهليهم، لذا يقتضي منتهى التضحية والفداء، ومنتهى الثبات والصلابة وغاية الاستغناء عن الناس، وعن كل شيء، تجاه الهجوم المرعب العنيف على الدين، ولا سيما بعد إلغاء دروس الدين في المدارس وتبديلِ الأذان الشرعي ومنع الحجاب بقوة القانون؛ لذا تركت عادة الزواج الذي أعلم أنها سنة نبوية لئلا ألج في محرمات كثيرة، ولكي أتمكن من القيام بكثير من الواجبات وأداء الفرائض. إذ لا يمكن أن تُقترف محرماتٌ كثيرة لأجل أداء سنة واحدة. فلقد وَجَد علماء أدوا تلك السنة النبوية أنفسَهم مضطرين إلى الدخول في عشر كبائر ومحرمات وتركِ قسم من السنن والفرائض، في غضون هذه السنوات الأربعين.

ثانيا: إن الآية الكريمة: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ (النساء:3) والحديث الشريف «تَناكحُوا تَكثُروا..» وأمثالهما من الأوامر، ليست أوامر وجوبية ودائمية، بل استحبابية مسنونة، فضلا عن أنها موقوفة بشروط لا بد من توافرها، وقد يتعذر توافرها للجميع وفي كل وقت. ثم إن الحديث الشريف «لا رهبَانِية في الإسلام» لا يعني أن الانزواء والعزوبة -كما هو لدى الرهبان- محرمتان مرفوضتان لا أصل لهما. بل هو حث على الانخراط في الحياة الاجتماعية كما هو مضمون الحديث الشريف «خَيرُ النَّاس أنفَعهُم للنَّاس». وإلّا فإن ألوفاً من السلف الصالحين قد اعتزلوا الناس موقتاً، وآثروا الانزواء في المغارات لفترة من الزمن، واستغنوا عن زينة الحياة الدنيا الفانية وجردوا أنفسهم عنها، كي يقوموا ببناء حياتهم الأخروية على الوجه الصحيح. فما دام الكثيرون من السلف الصالحين تركوا الدنيا وزينتها بلوغاً إلى كمال باق وخاص بشخصهم، فلا بد أن من يعمل لأجل سعادة باقية لكثير جداً من المنكوبين، ويحول بينهم وبين السقوط في هاوية الضلالة، ويسعى لتقوية إيمانهم، خدمةً للقرآن والإيمان خدمة حقيقية، ويثبت تجاه هجمات الإلحاد المغير من الخارج والظاهر في الداخـل، أقـول لا بـد أن الــذي يقوم بهذا العمل العام الكلي -وليس عملا خاصاً لنفسه- تاركاً دنياه الآفلة، لا يخالف السنة النبوية بل يعمل طبقا لحقيقة السنة النبوية.

ثم إنني أتمنى أن أغنم ذرة واحدة من هذا الكلام الصادق الصادر من الصديق الأكبر رضي الله عنه: «ليكبر جسمي في جهنم حتى لا يبقى موضع لمؤمن».. ولأجله آثر هذا السعيد الضعيف العزوبةَ والاستغناء عن الناس طوال حياته كلها.

ثالثاً: لم نقل لطلاب النور: «تخلوا عن الزواج، دعوه للآخرين» ولا ينبغي أن يقال لهم هذا الكلام. ولكن الطلاب أنفسهم على مراتب وطبقات. فمنهم من يلزم عليه ألّا يربط نفسه بحاجات الدنيا قدر المستطاع في هذا الوقت، وفي فترة من عمره، بلوغاً إلى التضحية العظمى والثبات الأعظم والإخلاص الأتم، وإذا ما وجد الزوجة التي تعينه على خدمة القرآن والإيمان، فبها ونعمت. إذ لا يضر هذا الزواج بخدمته وعمله للقرآن. ولله الحمد والمنة، ففي صفوف طلاب النور كثيرون من أمثال هؤلاء، وزوجاتهم لا يقصرن عنهم في خدمة القرآن والإيمان، بل قد يفقن أزواجهن ويسبقنهم لما فطرن عليه من الشفقة التي لا تطلب عوضاً، فيؤدين العمل بهذه البطولة الموهوبة لهن بإخلاص تام.

هذا وإن المتقدمين والسابقين من طلاب النور أغلبهم متزوجون، وقد أقاموا هذه السنّة الشريفة على وجهها، ورسائلُ النور تخاطبهم قائلة: اجعلوا بيوتكم مدرسة نورية مصغرة، وموضع تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد الذين هم ثمارُ تطبيقِ هذه السنة، على الإيمان، فيكونوا لكم شفعاء يوم القيامة، وأبناءَ بررة في هذه الدنيا، وعندها تتقرر هذه السنة الشريفة فيكم حقاً. وبخلافه لو تربي الأولاد على التربية الأوروبية وحدها -كما حدث خلال ثلاثين سنة خلت- فإن أولئك الأولاد يكونون غير نافعين لكم في الدنيا -من جهة- ومدّعين عليكم يوم القيامة، إذ يقولون لكم: «لِمَ لم تنقذوا إيماننا؟» فتندمون وتحزنون من قولهم هذا، يوم لا ينفع الندم، وما هذا إلا مخالفة لحكمة السنة النبوية الشريفة.

* * *

رسائل متفرقة (6)

[اعتراض ولي عظيم]

باسمه سبحانه

إخوتي الأعزاء!

حصلتُ على مؤلَّف مطبوع لسعيد القديم «المناظرات» ونظرت إليه بلهفة وإنعام نظر. فوردتْ إلى القلب هذه الفقرة الآتية:

أولاً: إن هذا المؤلَّف الذي طبع في مطبعة «أبو الضياء» سنة 1329 (1913م) هو الدرس الذي ألقاه سعيد القديم بين عشائر الأَرتُوش ولاسيما عشائر «كَوْدَان ومَامْخُورَان»، لأجل إفهام الشورى الشرعية للعشائر فهماً صائباً وحَملِهم على قبولها، وذلك في السنة الثالثة من عهد الحرية، ولكن لم أحصل على هذا المؤلّف مع الأسف رغم بحثي عنه منذ ثلاثين سنة، إلّا أن أحدهم حصل على نسخة منه فأرسلها إليّ.

طالعت الكتاب بإمعان وبعقل سعيد القديم وبسانحات سعيد الجديد، فأدركت أن سـعيداً القديم شعر بحسّ عجيب مسبَق -قبل الوقوع- الوقائعَ المادية والمعنوية التي تَحدُث الآن، فقد شعر بها قبل حوالي أربعين سنة؛ إذ إنه شـاهد ما وراء ستار العشائر الكردية، الخونةَ الذين جعلوا هذا الزمان قناعاً لهم وهم الملحدون الجاهلون الحقيقيون والرجعيون الذين يحاولون تحت ستار الوطنية إرجاع هذه الأمة إلى عاداتها السابقة قبل عهد الإسلام. فتكلم سعيد القديم معهم بشدة وحاورهم بعنف.

ثانياً: قرأت الصفحات التي يبدو فيها أن بين المستمعين لدرسي ذاك وليّا عظيما -دون علمي به- فقد اعترض اعتراضاً شديداً في ذلك المقام إذ قال: «أنت تغالي وتُفرط، إذ تُظهر الخيال عينَ الحقيقة وتُهيننا بظنك أننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان والفساد يستشري وسينقلب من سيء إلى أسوأ».

وكان الجواب في الكتاب: لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدان تأخر وتدنٍ. فهل الأمر هكذا؟ فها أنذا آليتُ على نفسي ألّا أخاطبكم، فأدير إليكم ظهري وأتوجه بالخطاب إلى القادمين في المستقبل:

أيا من اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة، يستمع إلى كلمات النـور بصمت وسكون، ويلمحنا بنظر خفي غيبيّ.. أيا من تتسمّون بـ«سعيد وحمزة، وعمر وعثمان وطاهر ويوسف وأحمد وأمثالهم!» إنني أتوجه بالخطاب إليكم:

ارفعوا هاماتكم وقولوا: «لقد صدقت» وليكن هذا التصديق ديْناً في أعناقكم. إن معاصريّ هؤلاء وإن كانوا لا يعيرون سمعاً لأقوالي، لندعهم وشأنهم، إنني أتكلم معكم عبـر أمواج الأثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي -المسمّى بالتاريخ- إلى ذرى مستقبلكم الرفيع. ما حيلتي، لقد استعجلت وشاءت الأقدار أن آتي إلى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم، ستأتون إليها في ربيع زاهر كالجنة، إن ما يزرع الآن ويستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهيرَ يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا.. أنكم إذا جئتم لتَعبروا إلى سفوح الماضي، عوجوا إلى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة القلعة. (أي كما ذكر في الرجاء الثالث عشر من رسالة «الشيوخ» أنه بوفاة مدرسة «خُورْخور» التي هي تحت قلعة «وَانْ» الصلدة والتي هي مدرسة ابتدائية لمدرسة الزهراء، وغلقِ المدارس الشرعية في الأناضول كافة الدال على وفاتها، توفيت جميع المدارس، وكأن قلعة «وان» صارت شاهداً لقبرها العظيم. فيا أيها المُقبلون بعد ثلاثمائة سنة، ازرعوا على قمة هذه القلعة زهرة مدرسة نورية). أي ابنوا جسمَ مدرسة الزهراء التي تعيش روحاً ضمن هيئة واسعة، ولم تُبعث جسما. علما أن سعيدا القديم قد قضى معظم حياته في سبيل تحقيق تلك المدرسة. وقد سجّل حقائق مهمة في مؤلَّفه ذاك سواء في تأسيسها أو في فوائدها.

وإنه لفأل حسن بعد انكسارِ حدّةِ الاستبداد الرهيب «سنة 1950» الذي دام خمساً وعشرين سنة، والذي أنهى حياة المدارس الشرعية، قرارُ وزير المعارف «توفيق إيلري» على إنشاء مدرسة الزهراء في «وان» باسم جامعة الشرق، واستصوب رئيسُ الجمهورية «جلال بايار» -من حيث لم يحتسب- قرار الوزير وجعله ضمن قائمة المسائل المهمة. وهذا ما كان يتمناه سعيد قبل أربعين سنة، وسيتحقق بإذن الله.

نبيّن هنا ثلاث حقائق لإيضاح جواب سعيد القديم الذي قاله قبل خمس وأربعين سنة.

الحقيقة الأولى:

لقد شعر سعيد القديم بحس مسبَق بحادثتين عجيبتين. ولكن كان يقتضي التعبيرَ كما في الرؤى الصادقة. إذ لو نظر أحدُهم إلى شيء أبيض من خلال ستار أحمر فإنه يراه أحمر، فسعيد القديم كذلك نظر إلى تلك الحقيقة من خلال ستار السياسة الإسلامية فأبدلت صورةُ الحقيقة شكلَها شيئا ما. وقد عرف ذلك الوليُّ الصالح الحاضر في المجلس خطأَ سعيد القديم فاعترض عليه من تلك الجهة.

وتلك الحقيقة قسمان:

القسم الأول: سيظهر نورٌ ساطع عظيم في المملكة العثمانية، حتى كان سعيد يبشر به طلابه قبل عهد الحرية ولمرات عديدة مسرّيا عنهم، وأن ذلك النور سيحقق السعادة لهذا الوطن رغم التخريبات والفساد المشاهَد. وهكذا أظهرت رسائلُ النور -بعد أربعين سنة- تلك الحقيقة حتى للعيون المطموسة.

فلقد عبّر سعيد القديم عما استشعره من منافعِ ذلك النور الجليلة الواسعة وبنوعيتها الراقية، فكأن ذلك النور سيظهر في المملكة العثمانية كلها مشاهدا إياه من خلال السياسة من دون أن يأخذ بنظر الاعتبار كمية النور القليلة وسعته الضيقة.

فكان سعيد القديم محقا إلى حدٍ ما كما أن ذلك الولي محقٌّ ومصيب في اعتراضه برؤيته الدائرة الضيقة واسعة.

لأن دائرة رسائل النور الضيقة واسعةٌ جدا من حيث إنقاذها الإيمان. حيث إنها تنقذ الحياة الأبدية. فمليون من طلابها في حكم المليار. أي إن محاولة إسعاد ألفٍ من الأشخاص في الآخرة أفضل بكثير من إسعاد مليار من الأشخاص في حياتهم الدنيوية والمدنية، وأوسع منها معنى، فذلك الذي شاهده سعيد القديم بذلك الحس المسبَق الشبيه بالرؤيا الصادقة.
أي إن ذلك النور الضيق سيحيط بالمملكة العثمانية كلها.

ولعل الله سيجعل تلك الدائرة الواسعة منوَّرة بنمو ما تزرعه رسائلُ النور من بذور نورانية. وعندها تتبين صحةُ تعبيره الخطأِ.

الحقيقة الثانية:

كان سعيد القديم يخبر طلابه -في مؤلفاته القديمة وفي إفادة المرام لإشارات الإعجاز- ويقول لهم مكرراً: ستحدث زلزلة اجتماعية بشرية عظيمة، زلزلة مادية ومعنوية، وسيغبطونني على اعتكافي وانزوائي وبقائي عزباً.

حتى إنه في السنة الأولى من عهد الحرية سأل الشيخُ بخيت -مفتى الديار المصرية- سعيدا القديم: ما تقول في حق هذه الحرية العثمانية والمدنية الأوربائية؟ فأجابه سعيد:

«إن الدولة العثمانية حاملة بدولة أوروبائية وستلد يوما ما، وإن أوروبا حاملة بالإسلامية وستلد يوما ما».

فقال له الشيخ الجليل: وأنا أصدّق ما يقوله. ثم قال لمن حوله من العلماء: لا أناقش هذا ولا أتمكن أن أغلبه.

فلقد شاهدنا الولادةَ الأولى، أنها سبقت أوروبا في بُعدها عن الدين بربع قرن.

أما الولادة الثانية: فستظهر بعد حوالي ثلاثين سنة بإذن الله. ستظهر في الشرق والغرب دولة إسلامية.

الحقيقة الثالثة:

كان سعيد القديم -والجديد- يخبر بحس مسبق وبإصرار بالغ وبتكرار عن حادثة عظيمة معنوية ومادية وظهور زلزال اجتماعي بشري رهيب مدمّر في الدولة العثمانية. والحال أنه رأى بذلك الحس ما في الدائرة الواسعة جدا في دائرة ضيقة. ورغم أن الزمان صدّقه بالحرب العالمية الثانية تصديقا تاما، فهو يعبّر عن رؤيته تلك الدائرة الواسعة في المملكة العثمانية بالآتي:

رغم أن الدمار الذي ولّدته الحرب العالمية الثانية واسع جدا فإنه ضيق بالنسبة للدمار الذي حصل في الدولة العثمانية، حيث إنه متوجه إلى الحياة الدنيوية والمدنية الزائفة. بينما الذي حصل في الدولة العثمانية دمارٌ للحياة الباقية والسعادة الدائمة. فهذا الدمار زلزلة إسلامية أفظع وأرهب من حيث المعنى من تلك الحرب. وبهذا يصحِّح ما سها عنه سعيدٌ القديم ويعبّر  عن رؤياه الصادقة ويُظهر للعيون حسَّه المسبق. ويردّ في الوقت نفسه اعتراض ذلك الولي الفاضل الذي يبدو حقا، بإثباته أن الحس المسبق لسعيد القديم أحقّ منه.

* * *

[التضحية الصديقية]

نشرت كلٌّ من صحيفة بويوك جهاد (الجهاد الأكبر) و«سبيل الرشاد» ما أعلنتُه، وهو: أنني لا أجعل خدمة الإيمان والدين ورسائل النور أداةً للسياسة الدنيوية، ولاسيما للوصول إلى كمالات معنوية ومقامات رفيعة، كذلك لا أجعلها وسيلة لبلوغ ما يهش له الناس من سعادة أبدية ونجاة من النار، بل هي خالصة لوجه الله ولابتغاء مرضاته وحده وتنفيذا لأمره سبحانه. وما ألجأني إلى هذا الأمر إلّا الإخلاص الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية للنور، علّني أحظى بذرّةٍ من التضحية السامية التي كان الصدّيق الأكبر رضي الله عنه يتحلى بها، حيث قال: «أسأله تعالى أن يكبر جسمي ليملأ جهنم حتى لا يبقى موضع لمؤمن، أُعذب عوضا عنهم». فأنا أرضى كذلك بدخول النار لأُنقذ بضع أشخاص منها بالإيمان.

ومن المعلوم أن العبادة لا تؤدّى طمعا في الجنة ولا خوفا من النار، بل للأمر الرباني وابتغاء مرضاته سبحانه.

* * *

[حول تحضير الأرواح]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما.

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد تحقق بأمارات كثيرة وحوادث عديدة أن أعداء طلاب النور يدبّرون خططا شتى ليحملوا بعض طلابِ رسائل النور الخواص على التخلي عن خدمة النور أو التراخي والتخاذل عن العمل، وذلك بكشف ما لديهم من عِرق ضعيف.

نبين أدناه أنموذجين اثنين ليكونا موضع عبرة وعظة:

الأنموذج الأول:

هو لفت نظر عدد من طلاب رسائل النور الخواص المرتبطين ارتباطا قويا بخدمة النور، وصرفُ تفكيرهم إلى جهةٍ غير الخدمة، بإشغالهم بمشارب روحانية ذات أذواق، مما يفتتّ صلابتهم ويوهن ارتباطهم الوثيق، أو بإشغالهم بتلقي الأخبار عن الأموات، المسمى بتحضير الأرواح، وهو مخابرة مع الجن، أو بإشغالهم بالتنبؤ عن أخبار مستقبلية كما كان لدى الكهان السابقين، فكأنهم يتصلون مع أولياء عظام أو حتى مع الأنبياء عليهم السلام، ويُجرون معهم ما يشبه المحاورة.. وأمثال هذه الأمور.

ولما كانت هذه المسألة (تحضير الأرواح والتنبؤ بالغيب) آتيةً من الأجانب ونابعةً من الفلسفة فقد تؤدى إلى أضرار جسيمة بالمؤمنين، حيث يمكن استعمالها استعمالا سيئا، إذ لو كان فيها صدقٌ واحد ففيها عشرةُ أكاذيب. ولا محكَّ ولا مقياسَ لتمييز الصدق عن الكذب. وبهذه الوسيلة يُلحق الجن -الذين يُعينون الأرواح الخبيثة- الضررَ بقلب المنشغل بها وبالإسلام أيضا؛ ذلك لأنها إخبارات تنافي حقائقَ الإسلام وتعارض عقائدَه العامة مع أنها تزاوَل باسم أمور روحية معنوية، حيث يوحون بأنهم أرواحٌ طيبة مع أنهم أرواح خبيثة، بل إنهم يسعون للإخلال بالأسس الإسلامية، أو يتفوهون بكلمات مقلّدين أسماء أولياءٍ عظام، وبهذا يستطيعون تغيير الحقيقة والتمويه على السذج الذين يكونون ضحية خداعاتهم..

فلو قالت جلوة الشمس التي تُشاهَد في قطعة زجاج صغيرة -متكلمة باسمها- إن ضيائي يستولي على الدنيا وحرارتي تحمي كل شيء، وأنا أكبر بمليون مرة من الكرة الأرضية. كم يكون كلامُها خلافا للحقيقة!

فالنبي الذي في مقامه الحقيقي الرفيع كالشمس الساطعة، لا يمكن أن تتكلم جلوتُه باسمه، لدى تحضير الأرواح أو التنبؤ بالمستقبل. ولو تكلمتْ باسم النبي لكان كلامُها مخالفا كليا بمئات الأضعاف. فلا يمكن قياسُ ظهورِ جلوة جزئية لدى تحضير الأرواح أو التنبؤِ بالمستقبل أصلا وقطعا بالماهية السامية الرفيعة لصاحب الوحي الذي هو كالشمس المعنوية، لذا لا يمكن جلبُ تلك الحقيقة العظمى قطعا، بل إن جلبها سوءُ أدب وإهانةٌ وعدمُ احترام ليس إلّا، وإنما يمكن الرقي بالسير والسلوك للتقرب من ذلك المقام الرفيع والحظوة بالمحاورة والمجالسة مع تلك الشمس الحقيقة كما حدث لجلال الدين السيوطى وأولياء آخرين. مع العلم أن هذا الرقي هو مجالسة ومحاورة مع ولايته ﷺ -كما أثبتته رسائل النور- ولا يكون هذا إلّا حسب قابلياتهم ووفق استعداداتهم الذاتية. ولكن حقيقة النبوة لكونها أرفع وأسمى وأعلى بكثير من الولاية، فإن المحاورة التي تُنال بالرقي الروحي أو بوساطة تحضير الأرواح والتلقي منها، لا تبلغ حقيقةَ المحاورة والتلقي من النبي تلقيا حقيقيا بأي جهة كانت، ولا يكون محورا للأحكام الشرعية قطعا.

إن تحضير الأرواح المتأتي من الإيغال في دقائق الفلسفة، وليس من الدين، حركةٌ تخالف الحقيقة وتنافي الأدبَ اللائق والاحترام الواجب. لأن جلب أرواح مَن هم في أعلى عليين وفى المقامات السامية المقدسة إلى مائدة تحضير الأرواح، موضع الأكاذيب واللعب واللهو، في أسفل سافلين إنما هو إهانة عظيمة وعدم توقير محضٌ وسوء أدب. بل الحقيقة عينُها والأدب المحض والاحترام اللائق هو أن يحصل ما حصل للأفذاذ من أمثال جلال الدين السيوطي وجلال الدين الرومي والإمام الرباني بالسمو الروحاني -بالسير والسلوك- إلى مرتبة القربية لأولئك الأشخاص السامين والاستفاضة منهم.

إن الشيطان والأرواح الخبيثة لا تتمثل في الرؤى الصادقة، بينما في تحضير الأرواح يمكن أن تتكلم الأرواح الخبيثة باسم نبي من الأنبياء مقلِدةً له خلافا للأحكام الشرعية والسنة النبوية الشريفة. فإن كان هذا التكلم مخالفا للأحكام الشرعية والسنة النبوية فهو دليل قاطع على أن المتكلم ليس هو من الأرواح الطيبة وليس حنيفا مسلما ومؤمنا، بل هو من الأرواح الخبيثة، يقلّد على هذه الصورة.

ثانيا:

إن طلاب النور ليسوا بحاجة إلى مزيد من الإرشادات في مثل هذه الأمور حاليا، إذ رسائل النور قد بَيّنت حقيقة كل شيء، ولم تعد هناك حاجة إلى إيضاحات أخرى. فحسبُهم رسائل النور. وعلى الذين هم خارج طلاب رسائل النور ألّا يعيروا سمعا إلى مثل هذه التلقينات المخالفة للأحكام الشرعية والسنة النبوية، سواء عن طريق تحضير الأرواح أو عن غيرها. وهذا هو الألزم لهم. وبخلافه يحدث خطأ جسيم.

تنبيه:

إن هذا النقد الشديد الوارد في هذه الرسالة حول المحاورة مع الأرواح منصبٌّ على تلك الحركة النابعة من الفلسفة والعلم والتي تسمى تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي والتنبؤ بالمستقبل، والتي اتخذت شكل الأمور الروحية والمعنوية. بمعنى أن هذا النقد القوي ليس موجها إلى التصوف وأهل الطريقة والنابع من الإسلام، وفيه ما يشبه المخابرة مع الأرواح، التي أُسيءَ استعمالها -إلى حد ما- بدخول مَن ليس أهلا فيها، ومع هذا ربما يكون لتلك المخابرة ضرر من جهة البعض إلّا أنها ليست خادعة ولا يُقصد منها الإضرار بالإسلام. فضلا عن هذا إن هذا المشرب الآتي من الأجانب هو مناف للطريقة الصوفية ويخالف الإسلام أيضا كما أنه يحاول هدم مسلك التصوف، ويهوّن من شأنه حتى يجعله أمرا اعتياديا.

ألاَ فليحذر أولئك المتصوفة الذين لم يحظَوا بعدُ -لضعفهم- باتباع السنة النبوية اتباعا كاملا، فلا يحاولوا التشبه بأولئك.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

حقيقة تخص حياتنا الاجتماعية أُخطرت على القلب

توجد على أرض الوطن أربعة أحزاب: الأول: حزب الشعب الجمهوري، والآخر: الحزب الديمقراطي، والآخر حزب الأمة، وآخر حزب الاتحاد الإسلامي.

إن حزب الاتحاد الإسلامي يستطيع أن يأخذ بناصية الحكم متى ما كان ستون إلى سبعين بالمائة منه تامّ التدين لئلا يحاول جعلَ الدين أداة للسياسة. بل ربما يُسخّر السياسة في سبيل الدين. ولكن يلزم ألّا يتولى هذا الحزبُ الحكمَ حاليا، لأنه سيضطر إلى استغلال الدين في إمرة السياسة لمجابهة جرائم السياسة الحالية وشرورها. حيث إن التربية الإسلامية قد أصابها الوهَن والخلل منذ زمن بعيد.

أما حزب الشعب الجمهوري: فإن جميع الجرائم التي اقترفها طوال ثمان وعشرين سنة، وجرائم غيره، علاوة على سيئات الاتحاد والترقي والماسونيين منهم، قد حُمّلت على هذا الحزب. فعلى الرغم من جميع هذه السيئات فإنه في حكم الغالب على الديمقراطيين من جهة، ذلك لأنه يرشي بعض الموظفين -تحت ستار القانون- رشوة عجيبة ولذيذة حقا، لأن الأنانية تتقوى بنقصان العبادة، فيزداد الداعون إلى فرعونية النفس. ففي مثل هذا الزمان الذي طغت فرعونيةُ النفس، أصبحت الوظيفة الحكومية تورث النفسَ روحَ التسلط والسيادة والفرعونية. علما أنها مجرد قيام بخدمة الآخرين، وقد شعرتُ من طريقة التعامل التي يعاملونني بها، أن هذا الحزب يعطي مرتبة الحاكمية ذات المشاعر اللذيذة العجيبة إلى نفوس قسم من الموظفين، رشوة لهم، فيغلب -في جهة- الديمقراطيين. على الرغم من جميع الجنايات المريعة ومن وجود نشريات الصحف التي لا تنتمي إليه. بينما الوظيفة هي خدمة الآخرين ليس إلّا، حسب الدستور الوارد في الحديث الشريف «سيد القوم خادمهم» إذ القوة إن لم تكن في القانون فإنها تسري إلى الأشخاص، فالاستبداد يكون اعتباطيا بمعنى الكلمة. فلا مناص من أن تستند الديمقراطيةُ وحرية الوجدان إلى هذا الدستور الإسلامي.

أما حزب الأمة: فإن كان المقصود بالأمة، فكرة الأمة الإسلامية التي هي الأساس في الوحدة الإسلامية -والقومية التركية ممتزجة بها- فهي موجودة في معنى الحزب الديمقراطي، وسيضطر هذا الحزب إلى الالتحاق بالديمقراطيين المتدينين.

بيد أن العنصرية التي نعدّها داء السيَلان الغربي، قد سرت فينا سريان الوباء من الغرب ولقّحته أوروبا فينا كي تستطيع أن تمزق العالم الإسلامي. هذا الداء الوبيل يورث حالةً روحية جاذبة، حتى إن كل أمة تحمل رغبة وشوقا بشكل كلي أو جزئي نحوها على الرغم من أضرارها الوخيمة ومهالكها المدمرة.

فلو أحرز هذا الحزب -بسبب استحواذ المدنية الغربية وضعف التربية الإسلامية- نصرا فإن العناصر غير التركية التي تمثل سبعين بالمائة من الأمة ستضطر إلى اتخاذ جبهة مضادة للأتراك الحقيقيين -الذين لا يتجاوزون الثلاثين بالمائة- معارضة لسيادة الإسلام.

حيث إن من أسس القوانين الإسلامية ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164) أي لا يؤاخَذ الشخصُ بجريرة غيره، بينما في العنصرية يجد الشخصُ نفسَه محقا في قتل شقيق الجاني، بل أقاربه، بل حتى أفراد عشيرته. فمثلما لا يُحقق هذا عدالةً، بل يفتح سبيلا إلى ارتكاب مظالمَ شنيعة، علما أن الدستور الإسلامي يقرر أنه لا يُضحّى ببريء واحد لأجل مائة جانٍ. فهذه مسألة مهمة من مسائل البلاد، وخطرة تجاه السيادة الإسلامية.

فمادامت هذه هي الحقيقة، فيا أيها الديمقراطيون المتدينون والذين يحترمون القيَم الدينية! أنتم مضطرون إلى جعل الحقائق الإسلامية ركيزةً لكم فهي أقوى من ناحية جاذبيتها المعنوية والمادية تجاه جاذبيةِ ركائزِ هذين الحزبين وإغرائها. وبخلافه فإن الجرائم التي ارتُكبت بحقّ هذه الأمة منذ القدم تُحمَّل عليكم وإن لم تكونوا قد اقترفتموها، مثلما تُحمَّل على الحزب السابق. وعند ذاك يستغل الحزبُ الشعب الجمهوري العنصريةَ، فيغلبونكم. وهذا احتمال قوىّ، كما شعرتُ به. لذا فإنني قلق باسم الإسلام من هذا الوضع.([1])

* * *

[مواجهة الأستاذ]

باسمه سبحانه

يقول أستاذنا:

إلى جميع إخوتي الأعزاء الراغبين في مقابلتي وزيارتي أبيّن لهم الآتي:

إنني لا أطيق مقابلة الناس ما لم تكن هناك ضرورة، إذ التسمم الحالي، والضعف الذي اعترى جسمي، وكذا الشيخوخة والمرض.. كل ذلك جعلني عاجزاً عن التحدث كثيراً. ولأجل هذا أبلّغكم يقيناً أن كل كتاب من رسائل النور إنما هو «سعيد». فما من رسالة تطالعونها إلّا وتستفيدون فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف، بل تواجهونني مواجهة حقيقية. فلقد قررت أن أذكر في دعواتي وقراءاتي صباح كل يوم أولئك الراغبين في لقائي لوجه الله بديلاً عن عدم استطاعتهم اللقاء، وسأستمر على هذا القرار.

ومنذ شهرين لا يستطيع أستاذنا الكلام حتى مع من يعاونه في أموره، حيث ترتفع حرارته متى ما بدأ بالتكلم. وقد قال بناء على إخطار قلبيّ: إن حكمة هذا هي أن رسائل النور لا تدع حاجة إليّ. فلا داعي للكلام. فضلاً عن أنني قد لا أتكلم إلّا مع عشرين أو ثلاثين من أحبتي فلربما مُنعت من الكلام لئلا يجرح شعور أُلوف الأحبة الآخرين. فليعذرني الإخوة عن اللقاءات الخاصة.

* * *

[أهمية مدرسة الزهراء]

قبل أربع سنوات حينما وكّلني أستاذنا -بسبب مرضه- بمتابعة شؤون رسائل النور في المحاكم بأنقرة، قدّمنا إلى النواب الأفاضل الرسالةَ المرفقة أدناه، ونقدمها الآن لكم ولحضرات النواب الأفاضل مجدداً. والداعي لهذا هو استمرار المسألة نفسها ولاسيما المحاولات الجارية في الشهور الأخيرة لإنشاء الجامعة الجديدة في الولايات الشرقية.

إن الانتشار الواسع لرسائل النور في السنين الثلاثين الماضية، سواء في الداخل أو في الخارج وتأثيرها الجيد في الناس، والسعي المتواصل لإنشاء دار الفنون (الجامعة) في الولايات الشرقية قبل خمس وخمسين سنة، مسألتان مهمتان متعاقبتان متممتان إحداهما للأخرى، وهما موضع اهتمام العالم الإسلامي.

فهذه الأمة ولاسيما أهل الولايات الشرقية وأربعمائة مليون من الأمة الإسلامية وعالم النصرانية المحتاج إلى السلام العالمي تهتم بهاتين النتيجتين العظيمتين والحادثتين الجليلتين؛ حيث إنهما مصدران واسعان لإعلان الإسلام ونشر حقائق القرآن.

ولقد بذل أستاذنا المحترم منذ خمس وخمسين سنة جهوده وبهمة فائقة متوسلاً بوسائل شتى لإنشاء جامعة إسلامية باسم مدرسة الزهراء في شرقي الأناضول على غرار الجامع الأزهر، ودعا للحاجة الماسة إليها. مثلما ورد في تهنئته لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بهذا الخصوص حيث قال:

إن جامعة الشرق ستحرز مقاماً مرموقاً بين المسلمين بفضل ما تتمتع به من موقع مركزيٍّ في العالم الإسلامي. إذ ستبعث وتتجسم فيها الخدمات الدينية الجليلة السامية السابقة والخصال المعنوية الخالدة لألوف العلماء والعارفين والشهداء والمحققين من أجدادنا الراقدين في تلك الولايات، فيؤدون وظائفهم الإيمانية في أوسع ميدان.

أما الدرس الأساس الجدير بأن يكون منهجاً وبرنامجاً لجامعة الشرق فهو رسائل النور التي تفسّر الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، والتي تقيم البراهين العقلية والدلائل المنطقية الإيمانية لإثبات مسائل القرآن العظيم. فقمين بهذه الرسائل أن تكون موضع دراسة في الجامعات والمدارس الحديثة.

إن رسائل النور ظهرت بوساطة طالب من طلاب أساتذة الشرق ومدارسها الدينية المنتشرة في أرجائه كافة والتي فجّرت الينابيع المعنوية الباعثة على الحياة.

فنحن نرجو ونتمنى من الرحمة الإلهية بكل أرواحنا وكياننا أن يتسنم أولئك الأساتذة الأفاضل وظائفهم السابقة مجدداً، فيوسعوا من دائرة أعمالهم الفكرية وخدماتهم القرآنية بالثمار اليانعة المنورة الحالية لجهودهم، فتتهيأ الظروف الحياتية الزمانية والمكانية والسلام العام لتحقيق أمانينا هذه.

نعم، إن رسائل النور التي هي ثمرة واحدة ونتيجة عظيمة كلية لنشاط العلم والمعرفة في الشرق جديرة بأن تلقى اهتمام العاملين للإسلام وهذه الأمة والعالم الإسلامي.

هذا وإن الإقبال على رسائل النور وطلبها في كل من أمريكا وأوروبا وانتشارها هناك تبين أهمية دعوانا هذه.

مصطفى صونغور

* * *


[1] لقد ظهرت نتيجة سن القوانين الاعتباطية وتطبيقها السيء في عهد الحزب السابق، مسألة التيجانية (*)، فضلاً عن تحريضهم وإثارتهم الناس. فلكي لا تقع مغبّة هذه المسألة على الديمقراطيين المتدينين، وللحيلولة دون سقوطهم في نظر العالم الإسلامي أرى أن السبيل الوحيد هي: أنه مثلما أحرز الديمقراطيون عشرة أضعاف قوتهم بإعادة الأذان الشرعي، فإن تحويل «أياصوفيا» إلى وضعه العبادي السابق سيؤثر تأثيراً حسناً جداً في العالم الإسلامي، ويُكسب لأهل هذه البلاد اهتمام العالم الإسلامي وودّهم.. وكذا على الديمقراطيين المتدينين الإعلان رسمياً عن حرية نشر رسائل النور التي لم تجد المحاكمُ فيها طوال عشرين سنة شيئاً ضاراً للبلاد، وقضت خُمس محاكم ببراءتها. وبهذا تضمدون هذا الجرح فتكسبون اهتمام العالم الإسلامي فضلاً عن عدم تحميلكم جرائم ظالمة لغيركم.

     في غضون يوم أو يومين نظرت إلى الأمور السياسية رغم أني تركتها منذ خمس وثلاثين سنة، وذلك لأجل الديمقراطيين المتدينين ولاسيما الأفاضل من أمثال عدنان مندرس.

سعيد النُّورْسِيّ

       نحن طلاب النور شهود على هذه الحقيقة ومصدّقون لها.

جيلان، خليل، عثمان، حمزة، وغيرهم.

———-

(*) وهي أن منتسبي الطريقة التيجانية قد قاموا بحملة كسر هياكل مصطفى كمال في شتى أنحاء تركيا (1950- 1952) وحوكموا من جرائها، وعلى إثرها سُنّ قانون «صيانة مصطفى كمال وانقلاباته». ونفي زعيمهم محمد كمال بلاو أوغلو بعد انتهاء محكوميته إلى جزيرة «بوزجا» للإقامة الإجبارية حتى وفاته سنة 1977.

رسائل متفرقة (5)

 [رسالة إلى رئيس الوزراء]

إخوتي!

لقد أُخطرت على قلبي حقيقةٌ في غاية الأهمية، أبيّنها لكم، وأضعها بين أيديكم، فإن ارتأيتم إبلاغها إلى رئيس الوزراء (عدنان مندرس) والنواب المتدينين فافعلوا.

مقدمة:

إنني لما كنت قد تركت الساحة السياسية الواسعة منذ أربعين سنة وقضيت أكثر أيام حياتي منـزويا عن الناس، ولم انهمك في الحياة الاجتماعية والسياسية لم أستطع رؤية الخطر الداهم في الوقت الحاضر. ولكن في هذه الأيام شعرتُ أن الوسط مهيأ لنـزول ذلك الخطر الجسيم والمصيبة الكبرى بالأمة الإسلامية وبهذه البلاد والحكومة الإسلامية.

فأبيّن ثلاث نقاط -خطرت على قلبي معنويا- لأولئك السياسيين الساعين لصالح الأمة الإسلامية وللاحتكام بالإسلام ولضمان سلامة البلاد، ويحاولون الحفاظ على المجتمع الإنساني.

النقطة الأولى:

طرق سمعي منذ سنتين -رغم أني لا أستمع إلى الجرائد- الاتهام بالرجعية. فتأملت في الأمر بعقلية سعيد القديم وشاهدت: أن أعداء الإسلام المتسترين الذين يجعلون السياسة أداةً للإلحاد، ويجدّون لإرجاع البشرية إلى قانون الجاهلية الرهيبة متقنعين بقناع الدفاع عن الوطن والأمة. هؤلاء يتهمون اتهاما جائرا غادرا أهلَ الإسلام والغيارى على الدين بالرجعية، علما أن دافع الإسلام والغيرة على الدين يدفعهم إلى جعل السياسة أداة طيّعة للدين دون أن يجعلوا الإسلام أداة للسياسة. وإنما يقومون بهذا العمل ليُمدّوا هذه الحكومة بالقوة المعنوية للإسلام وتصبح قوية راسخة بقوّة أربعمائة مليون من إخوانهم الحقيقيين الظهيرين لهم، لكي ينجوَ أهلُ السياسة الحاضرة من التسوّل لدى أبواب ظَلَمة أوروبا.

فهذا الاتهام المجحف يَصِم هؤلاء الغيارى بـ«الرجعية» ويُظهرهم بأنهم يضرون البلاد والعباد. ألَا إن هذا بهتان عظيم واتهام غادر لا حدود له.

هذا وإن هناك نوعين من الرجعية، كلٌّ منهما يستند إلى قانون أساس:

الأول: الرجعية الحقيقية، وهي رجعية سياسية اجتماعية، أصبح قانونها الأساس محورا لكثير من المظالم والسيئات.

الثاني: هو أساس الرقي الحقيقي والعدالة الحقة، ولكن أُطلق عليه -ظلما- الرجعية.

النقطة الثانية:

إن الذين يشنّون هجومَهم على الدين يريدون أن يرجعوا بالبشرية إلى عهود البداوة والجهل بقانون أساس ودستور جارٍ لديهم متسترين باسم المدنية، والذي يفني سعادةَ البشرية وراحتَها و عدالتها وسلامتها. فهم يريدون أن ينفذوا هذا القانون في بلادنا المنكوبة، فيزرعون بذور الشقاق والاختلاف وبلبلة الأفكار بالتحزب وصولا إلى مآرب شخصية وإشباعا للحرص والعناد.

ذلك القانون هو: أنه يؤخذُ بجريرة شخص واحد جميعُ أفراد طائفته وجماعته وعشيرته، فكلهم مسؤولون ومُدانون. فالذنب الواحد يكون بحكم هذا القانون ألوفَ ألوف الذنوب والخطايا. مما يجعل الأخوة والمحبة والمواطنة التي هي ركائز الاتفاق والاتحاد هباءً منثورا.

نعم، إن القوى المعارضة والمعاندة عندما يجابه بعضُها بعضا تُستهلك وتَضعف حتى تصبح بلا قوة. فلا تَقدر بعد ذلك على العمل للأمة والبلاد وفق العدالة حيث إنها ضَعُفت وانهارت نتيجة المجابهة. لذا تضطر إلى دفع نوع من الرشاوى والأتاوات لجلب الملحدين إلى صفها. فتتشبث بذلك القانون الوحشي الجائر تجاه القانون العادل الحق والدستور السماوي المقدس وهو الآية الكريمة ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164) الذي يحقق المحبة والأخوة الصادقة وينقذ الأمة الإسلامية وهذه البلادَ من المخاطر. فلا يكون أحد شريكا في جناية ارتكبها آخر ولو كان أخاه وعشيرته وطائفته وحزبه، إلّا إذا مال إلى تلك الجناية، فيكون مسؤولا عنها في الآخرة وليس في الدنيا.

فما لم يؤخذ هذا الدستور قانونا أساسا فإن المجتمع البشري سيتردى برجعية وحشية إلى أسفل سافلين مثل الدمار الفظيع الذي ولدّته الحربان العالميتان.

ألا ما أشقى أولئك الذين يُطلقون على هذا القانون -قانون القرآن العظيم- اسم الرجعية، ويرضون بقانون وحشي جاهلي وينفّذونه في سياساتهم ويجعلونه ركيزتهم في الإدارة، والذي يُضحَّى فيه بالفرد لأجل الجماعة، ولا تُؤخَذُ حقوقُ الأفراد بنظر الاعتبار لأجل سلامة الوطن، ولا يكترث للمظالم الجزئية لأجل سلامة سياسة الدولة، ويُدمَّر مدينةٌ كاملة وما فيها من مئات الألوف من الأبرياء بجريرة جانٍ واحد. ويجوِّز -هذا القانون- إعدامَ ألف شخص بجناية شخص واحد، ويفرض الضيق والعنت على أُلوف الأبرياء لجرح أصابَ شخصا واحدا.

وحسب هذه الحجة لا يُعبأ بإعدام مائتي شخص بالرصاص مثلما أُفني ثلاثون مليونا من الأشخاص في الحرب العالمية الأولى للسياسة الخاطئة التي ارتكبها ثلاثةُ آلاف شخص. وقس على هذا المنوال أُلوف الأمثلة.

إن لطلاب القرآن وخدّامه إزاء هذه المظالم الفظيعة لهذه الرجعية الوحشية مئات من قوانين القرآن الأساسية من أمثال ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164) التي تحقق العدالة الحقة والاتحاد والأخوة. فإطلاق الرجعية على أهل الإيمان الذين يحققون العدل والأخوة، واتهامُهم بذلك يشبه تفضيلَ ظلمِ «يزيد» الملعون على عدالة «عمر بن الخطاب رضي الله عنه» وكترجيح محاكم التفتيش على عدالة القرآن الكريم العظيمة.

لذا ينبغي لأهل السياسة الذين يسعَون للحفاظ على سلامة هذه البلاد ولحكومتها الإسلامية أن يأخذوا هذه الحقيقة بنظر الاعتبار. وبخلافه فإن التيارات المعارِضة للحكومة وإصرارَها على المعارضة تنهك القوى، فلا تكفي تلك القوةُ الضعيفة لضمان مصالح البلاد وإرساء النظام، ولا تحافظ على كيانها ولو بالاستبداد.

وما هذا إلّا فسحُ المجال لبذر بذور الثورة الفرنسية في هذه البلاد. و هذا مما يستحق القلق عليه.

مادامت تُعطي رشاوى من التنازلات المعنوية لأجل إقرار السياسة الأجنبية مقابل ما يقدمونه من مساعدات تافهة موقتة، بسبب ما نعانيه من الضعف الناشئ من الاختلاف، حتى غدت اللامبالاة تهيمن على أخوّة أربعمائة مليون من المسلمين وعدم الاكتراث بمسلك مليار من الأسلاف العظام، بل رأوا أنفسهم مضطرين إلى دفع مَبالغ ضخمة كمرتّبات للموظفين لأجل عدم الإضرار بإدارة الدولة ونظام البلاد من دون مراعاة لما يعانيه الناس من فقر مدقع.

إن ما يعطيه أربابُ السياسة الحاليون في هذه البلاد من رشاوى إلى الغرب وإلى الأجانب ومن تنازلات سياسية و معنوية، عليهم أن يعطوا عشرة أمثالها بل ينبغي لهم أن يدفعوها لأجل إقرار أخوة أربعمائة مليون من المسلمين والتي ستتشكل على صورة جمهوريات إسلامية متحدة. وذلك لأجل سلامة هذه البلاد والحفاظ على كيان هذه الأمة، وسوف يكون ذلك هدية ضرورية وأتاوة لا ضرر فيها.

فتلك الرشوة الواجبة، الجائزة النافعة جدا بل الضرورية المقبولة هي اتخاذ الدساتير المقدسة منهجا للعمل، تلك الدساتير التي هي أساس التعاون الإسلامي وهي هدايا سماوية من القرآن الكريم توثِق الرابطة بين المسلمين بل هي قانونهم المقدس الأساس وهي: ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ (الحجرات:10)، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَميعًا (آل عمران:103)، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا (الأنفال:46).

ملاحظة: يرد في هذا الموضع من النص التركي «إفادة المرام ومقدمة سورة الفاتحة» من كتاب إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» تراجع في موضعها. – المترجم.

* * *

[لِمَ تركتَ السياسة بعد الاندفاع فيها؟]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما..

إخوتي الأعزاء الأوفياء الصادقين!

أولا: بملء روحي ووجداني أهنئ أعيادكم المعنوية والمادية، السابقة منها واللاحقة وأُبارك لياليكم المباركة الطيبة، وأسأل رحمة المولى القدير وأتضرع إليه تعالى أن يتقبل منكم طاعاتكم ودعواتكم المخلصة.

ثانيا: لقد اضطررت إلى أن أجيب عن سؤالَيهم المهمَّين إجابة خاصة حيث يَرِدان من جهات كثيرة:

سؤالهم الأول: لقد كنتَ سابقا وفي بداية عهد الحرية منهمكا جدا في السياسة ومندفعا إليها بحرارة؛ وها قد مرت أربعون سنة وقد تركت السياسة كليا، فلماذا؟

الجواب: إن القانون الأساس للسياسة البشرية هو: أنه يضحَّى بالأفراد من أجل سلامة الأمة، ويُفدى بالأشخاص حفاظا على الجماعة، ويَرخص كل شيء في سبيل حماية الوطن.

فجميعُ الجرائم البشعة التي ارتُكبت في البشرية إلى الآن إنما ارتكبت بالاستعمال السيء لهذه القاعدة ولهذا القانون الأساس، فلقد تيقنتُ من هذا يقينا قاطعا. فهذا القانون البشري الأساس ليس له حدٌّ معين ولا ضوابط مخصصة، لذا فـقـد مهّـد السبيل للتـلاعب باستعماله بكثرة.

إن الحربَين العالميتين قد نشبتا من سوء استعمال هذا القانون البَشري الأساس، فأبادت نهائيا ما توصلت إليه البشرية من رقي منذ ألف سنة، كما سمح هذا القانون بأخذ تسعين بريئا بجريرة عشرة من الجناة، وأفتى بإبادتهم، كما سمح بتدمير قصَبة كاملة لجريمة مجرم واحد، لأغراض شخصية مستترة تحت اسم المصلحة العامة.

ولما كانت «رسائل النور» قد وضّحت هذه الحقيقة في كثير من أجزائها وفي «الدفاعات» أحيل القارئ الكريم إليها.

وهكذا، ولقد وجدت عوضا عن هذا القانون البشري الأساس الغادر، القانونَ الأساس للقرآن العظيم النازل من العرش الأعظم، وذلك في الآيتين الآتيتين: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164)، ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ اَوْ فَسَادٍ فِي الْاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَميعًاۜ وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَاَنَّمَٓا اَحْيَا النَّاسَ جَميعًا (المائدة:32)؛ فهاتان الآيتان تعلّمان القاعدة الجليلة الآتية: «لا يؤاخَذ أحدٌ بجريرة شخص آخر. ثم إن البريء لا يُضحّى به -حتى من أجل جميع الناس- دون رضاه، ولكن لو ضحّى بنفسه بإرادته وبرضاه فتلك مرتبة الشهادة». هذه القاعدة الجليلة هي التي ترسي العدالة الحقة في البشرية. أُحيلُ تفاصيلها إلى رسائل النور.

سؤالهم الثاني: لقد كنتَ -فيما مضى- في أثناء تجوالك بين العشائر البدوية في شرقي الأناضول تدعوهم إلى التحضر وتحثهم بلهفة وشوق على التمدن والرقي في مجالات حياتهم، فلماذا انسللت -منذ نحو أربعين سنة- من المدنية الحاضرة ووصفتها بأنها دنيّة وليست مدنية وجانبتَ الحياة الاجتماعية وسحبتَ نفسك إلى العزلة والانزواء؟..

الجواب: إن المدنية الحاضرة الغربية، لسلوكها طريقا مناقضا لأسس دساتير السماء، وقيامِها بمناهضتها، فقد طفحَ كيلُ سيئاتها على حسناتها وثقلت كفةُ أضرارها على فوائدها؛ فلقد اضطرب أمنُ الناس واطمئنانهم، وأُقلقوا وأَسِنت سعادتُهم الحقيقية، فاختل ما هو مطلوب من المدنية ومقصود منها. حيث قد حلّت بسببها نوازع الإسراف والسفاهة محل بوادر الاقتصاد والقناعة، واستُمرئتْ ميولُ الكسل والدعة وهُجرت مراعى السعي والعمل. ولقد أَلبستْ -هذه المدنية- البشريةَ المضطربة لباس الفقر المدقع وكسَتها أثواب الكسل والتقاعس الرهيب.

واستنادا إلى ما قامت به رسائل النور من إيضاح الدستور الذي يخاطب به القرآن الكريم في ندائه العُلوي: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُواۚ﴾ (الأعراف:31)، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى﴾ (النجم:39)

فقد أشارت تلك الرسائل-مستضيئة بنور الآيتين المذكورتين- إلى أن سعادة حياة البشرية منوطة بالاقتصاد وعدم الإسراف، وعلى إثارة الهمم للسعي والعمل والكدّ.. وأنه بهذين الشرطين يتم التآلف والوئام بين طبقتي البشرية؛ الخواص والعوام. لذا سأتحدث عن مسألتين لطيفتين، نكتتين قصيرتين وهما الآتيتان:

أولاهما: كان البشر في عهد البداوة تعوزهم ثلاثة أو أربعة أشياء، وكان اثنان من كل عشرة أشخاص يعجزان عن تدارك تلك الأشــياء الثلاثة أو الأربعة. بينما في الوقت الحاضر تحت سطوة المدنية الغربية المستبدة، المتميزةِ بإثارة سوء الاستعمال، والدفع إلى الإسراف، وتهييج الشهوات، وإدخال الحاجات والمطالب غير الضرورية في حكم المطالب والحاجات الضرورية؛ فقد أصبح الإنسان العصري من حيث حبّ التقليد والإدمان مفتقرا إلى عشرين حاجة بدلا من أربع منها ضروريةٍ. وقد لا يستطيع إلّا شخصان من كل عشرين شخصا أن يلبّوا تلك الحاجات العشرين من مصدرٍ حلال بشكل مباح. ويبقى الآخرون الثمانية عشر محتاجين وفقراء. فهذه المدنية الحاضرة إذن تجعل الإنسان فقيرا جدا ومعوزا دائما، ولقد ساقت البشريةَ -من جهة تلك الحاجة- إلى مزيد من الكسب الحرام، وإلى ارتكاب أنواع من الظلم والغبن، وشجعت طبقةَ العوام المساكين على الصراع والتخاصم المستمر مع الخواص، وذلك بهجرها القانون الأساس الذي سنّه القرآن الكريم القاضي بوجوب الزكاة وتحريم الربا والذي يُحقق بواسطتهما توقير العامة للخاصة، ويوفّر بهما شــفقة الخاصة على العامة. فبهجرها ذلك القانون الأساس أرغمت البرجوازيين على ظلم الفقراء وهضم حقوقهم، وأجبرت الفقراءَ على العصيان والتمرد في معاملتهم معهم. فدمّرت سعادة البشرية وراحتها وأمنَها واطمئنانها وجعلتها أثرا بعد عين.

النكتة الثانية: إن ما أنجزته هذه المدنية الحاضرة من خوارق -في ساحة العلم- نِعَمٌ رِبانية تستدعي شكرا خالصا من الإنسان على ما أُنعم عليه، وتقتضي منه كذلك استخداما ملائما لها لفائدة البشرية ومنفعتهم. بيد أننا نرى الآن خلاف ذلك؛ إذ تقود تلك الخوارقُ قسما من الناس -الذين لهم أهمية بالغة في الحياة- وتوردهم موارد الكسل والسفاهة… إذ إنها تذكّي نار الأهواء النفسانية، وتثير كوامن النـزعات الشهوانية، فتُقعِد الإنسان عن الكدّ والسعي وتثنيه عن الشوق إلى العمل، وتسوقه -بعدم القناعة وعدم الاقتصاد- إلى السفاهة والإسراف والظلم وارتكاب المحرمات.

نُورد مثالا على ذلك، مثلما ذكر في رسالة «مفتاح عالَم النور»:

الراديو نعمةٌ إلهية عظيمة على البشرية، فبينما تقتضي شكرا معنويا منّا عليها وذلك باستخدامها لمصلحة البشرية كافة، نرى أربعة أخماس استعمالاتها تُصرَف في إثارة الأهواء النفسانية، وإلى أمور تافهة لا تعني الإنسان في شيء، فتجتث جذورَ شوق الإنسان إلى السعي وتُوقعه في الكسل والإخلاد إلى الراحة والاستمتاع بالاستماع إليها، حتى يدع الإنسانُ وظيفة حياته الحقيقية. وفي الوقت الذي يلزم توجيه قسم من الوسائط والوسائل الخارقة النافعة وصرفُها في تيسير مصالح البشرية الحقيقية واستخدامها في سبيل السعي والعمل لأجل خير البشرية وتوفير حاجاتها الحقيقية وتذليل مشاقها، فقد رأيتُ بنفسي، أنها لا تُصرف إلّا إلى واحد أو اثنين من عشرة في تلبية تلك الحاجات الضرورية وتُساق الثمانية الباقية من العشرة إلى اللهو والاسترسال في إثارة الهوى والاسترخاء والدعة والكسل وقضاء الوقت.

وهناك ألوف الأمثلة على هذين المثالين الجزئيين.

وحاصل الكلام: أن المدنية الغربية الحاضرة لا تلقي السمعَ كليا إلى الأديان السماوية؛ لذا أوقعت البشريةَ في فقرٍ مدقع، وضاعفت من حاجاتها ومتطلباتها، وهي تتمادى في تهييج نار الإسراف والحرص والطمع عندها بعد أن قوّضت أساس الاقتصاد والقناعة، وفتحت أمامها سُبل الظلم وارتكاب المحّرمات. زد على ذلك فقد ألقت -بذلك- الإنسانَ المحتاج المسكين في أحضان الكسل والتعطيل المدمّر، بعد أن شجعته على وسائل السفاهة. وهكذا بددت الشوقَ لديه إلى السعي والعمل، فأضاع الإنسان عمرَه الثمين سدىً باتباعه هوى المدنية الحاضرة وبسيره وراء سفاهتها ولَهوها.

زد على ذلك فقد ولّدت المدنية في ذلك الإنسان المعوز العاطل أمراضا وأسقاما وعللا، إذ أصبحت وسيلةً، إلى انتشار مئات من الأوبئة والأمراض في أرجاء المعمورة. بثتها في الأوساط بسوء الاستعمال والإسراف.

ففضلا عن هذه العلل الثلاثة التي ولّدتها المدنية وهي الحاجة الماسة والميل إلى السفاهة، وكثرة الأمراض المذكّرة بالموت، فإنه بتفشي الإلحاد وتوغله فيها استيقظت البشرية من غفوتها، وإذا بالمدنية تهددّها باستمرار، بإظهار الموت تجاهها إعداما أبديا، فجرّعتها نوعا من عذاب جهنم في الدنيا.

فإزاء هذه المصيبة الرهيبة النازلة بساحة البشرية يداوي القرآن الكريم تلك الجروح الثلاثة البليغة بصحوةِ تلاميذه الذين يربون على أربعمائة مليون تلميذ وبما يضمه من قوانين مقدسة سماوية مثلما عالج علاجا شافيا أدواء البشرية قبل ألف وثلاثمائة سنة، فإنه مستعد لتضميد تلك الجراحات الغائرة بقوانينه الأساسية السامية.. فضلا عن أنه الكفيل بتحقيق سعادة دنيوية وأخروية للبشرية ما لم تقم على رأسها قيامة مفاجئة.. زد على ذلك فإنه يبين لها أن الموت ما هو إلاّ تسريح من الوظيفة وتذكرةُ ترخيصٍ للدخول إلى عالم النور بدلا من كونه إعداما أبديا.. وأن كفة حسنات الحضارة النابعة منه ستتغلب حتما على سيئات المدنية الحاضرة، بل يجعل المدنية سائرة في ركاب تلك القوانين السماوية، تخدمها وتعينها بدلا مما يحدث إلى الآن من تنازل قسم من الدين لقسم من المدنية. ومن دفع أحكام الدين رشوة في سبيل المدنية. كل ذلك يُفهم من إشارات القرآن المعجز البيان ومن رموزه، فترجو البشرية الصاحية الحاضرة ذلك العلاج القدسي من رحمته تعالى وتتضرع إليه وتطلبه.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

18/1/ 1958

[اتخاذ البيت مدرسة نورية]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما…

إخوتي الأعزاء الأوفياء، ويا طلاب النور لمدرسة الزهراء المعنوية!

عندما قدمت إلى إسبارطة طرق سمعي أنه ستفتح مدرسة الوعظ والخطابة والإمامة فيها. فخطر على القلب: فتحُ مدرسة نورية في الأماكن المجاورة من تلك المدرسة، وذلك لجعلها نوعا من مدرسة نورية، إذ إن معظم الذين سيسجلون فيها هم من طلاب النور.

وقد فُهم من مجيء الرجال والنساء زرافاتٍ ووحدانا إلى إسبارطة بعد يومين من مجيئي إليها، وبعد إشاعة الخبر وكأنني سأُلقي درسا عاما للناس، أنه لو فتحت مدرسة نورية شبه رسمية عامة فستكون مكتظة ومزدحمة لتوافد الناس إليها كما توافدوا لمشاهدتنا عند ذهابنا إلى محكمة أفيوُن. ولاحتمال حدوث أمثال هذه التجمعات التي لا معنى لها تركتُ تلك الخاطرة. ولكن خطرت هذه الحقيقة على القلب:

ليحوّل كلُّ شخص بيتَه إلى مدرسة نورية يتدارسون فيها مع أطفاله وأهل بيته، وإن لم يكن له أحد وكان وحيدا فليتخذ مع بضع أفراد من جيرانه أحدَ المساكن مدرسة نورية يتدارسون فيه رسائل النور أو يستمعون لها أو يستنسخونها، وذلك في الأوقات التي يتفرغون فيها عن أعمالهم ومشاغلهم، إذ الانشغال بهذه الرسائل ولو لعشر دقائق يثيب صاحبَه ثواب طالب علم حقيقي، فضلا عن كسبه ثواب خمسة أنوار من العبادات المذكورة في رسالة الإخلاص، علاوة على تحول عاداته ومعاملاته الاعتيادية لمتطلبات معيشته عبادة يُثاب عليها، كما هي الحال لدى طالب العلم. هكذا ورد إلى القلب وأنا بدوري أبيّنه لإخوتي.

الباقي هو الباقي

أخوكم المريض

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[الدروس تنوب عني]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أولا: أقدم مائة ألف شكر وشكر إلى الرب الجليل الذي حقق بكم، أنتم أركان مدرسة الزهراء، الحقيقةَ المعنوية لمدرسة الزهراء، التي كانت هدفَ خيالي وغايةَ حياتي طوال خمس وخمسين سنة.

ثانيا: لقد حُرمتُ من المحاورة مع إخوتي طلابِ النور والمجالسةِ معهم من جراء المرض ولأسباب أخرى. لذا فإنني أُوكل -عوضا عني- الدروسَ التي لقَّنَتها رسائلُ النور سعيدا الجديد في مدرسة القرآن، والدروسَ التي تعلّمها سعيدُ القديم من الحياة الاجتماعية -كالخطبة الشامية وذيولها- فأوكل الكلامَ والمحاورات في تلك الدروس لتُنوبَ عن أخيكم هذا الضعيف المشتاق إليكم في محاوراته.

ثالثا: أقدم تعازي إلى البطل «طاهري» الطالب الخاص الخالص لرسائل النور والناشر لها والذي اتخذ بيتَه مدرسةً نورية صغيرة، وذلك لوفاة والده الذي وهَبه لدائرة النور. وأعزي أقاربَه وذويه وإسبارطة ودائرة رسائل النور سائلا المولى القدير أن يُنـزل الرحمات إلى روحه بعدد حروف رسائل النور…

الباقي هو الباقي

أخوكم المريض

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

رسائل متفرقة (4)

[تحليل سيرة ذاتية]

باسمه سبحانه

إخوتي الصديقين الأعزاء!

أولا: نبارك لكم يوم المولد النبوي الشريف، ونبارك توفيقكم في أعمالكم ونبشركم بانتشار رسائل النور انتشارا مؤثرا في الأوساط بما هو فوق المعتاد. ونهنئ جميع طلاب النور.

ثانيا: في هذه الليلة المباركة خطرَ على قلبي خاطرٌ قوي وهو:

أنه لمناسبة ما كتبه الطلاب الجامعيون في إسطنبول من خوارق عن حياة سعيد القديم وسعيد الجديد في كتاب «تاريخ حياة» تولّد لدى القراء رأيان ونشأت فكرتان هما:

الأول: لقد حصل حسن ظن مفرط لدى الأصدقاء -كما يحصل في الولاية- بما يفوق حدّي بكثير.

الثاني: حصل ظن وشبهة بما هو خارج طوقي بألف مرة لدى المعارضين وأهل الفلسفة، إذ ظنوا وجود دهاء خارق جدا، بل حتى تولّد لدى البعض منهم توهم وجود سحر قوي.

ولقد سُئلتُ في أماكن كثيرة أسئلة تدور حول هذا المعنى، وطلبوا مني جلية الأمر ماديا ومعنويا. وأنا بدوري اضطررت إلى بيان حقيقة ذات مقدمات كثيرة لورود ذلك الخاطر في هذه الليلة.

المقدمة الأولى: إن بذرة شجرة الصنوبر التي هي بحجم حبة الحنطة تكون منشأ لشجرة صنوبر ضخمة. فالقدرة الإلهية تخلق تلك الشجرة العجيبة من تلك البذرة، وقد لا توجد للبذرة إلّا حصة واحدة من مليون حصة من الخلق، حيث سطر فيها قلمُ القدر فهرسا معنويا لتلك الشجرة… فلو لم يسند الأمر إلى القدرة الإلهية للزم وجود مصانعَ تَسَعُ مدينةً كاملة كي تتكون تلك الشجرة العجيبة بأغصانها المتشعبة.

وهكذا فإن إحدى دلائل عظمة الله وقدرته سبحانه هو أنه يخلق من شيء صغير جدا كالذرة، أشياءَ عظيمة عظمة الجبال.

وهكذا بمثل هذا المثال أُعلنُ باقتناع تام وبخالص نيتي ولا أتكلف التواضعَ ونكرانَ الذات فأقول:

إن خدماتي وأحداث حياتي قد أصبحت في حكم بذرة، لكي تكون مبدأ لخدمة إيمانية جليلة، قد منَحت العنايةُ الإلهية منها في هذا الزمان شجرةً مثمرة برسائل النور النابعة من القرآن الكريم.

فأُقسم لكم لتطمئنوا فأقول:

إنني ما كنت أجد في نفسي قابلية ولا مزيّة ولا أهليّة فائقة لتلك الخوارق التي مرت في حياتي، لذا كنت أتقلب في حيرة. بل ما أجد في نفسي كفاءة لتدبير أمورها وارتباطها بعلاقات بالمجتمع فكيف لها بدهاء خارق وولاية خارقة؟

نعم، لقد ظهرت حالاتٌ جَلبت الأنظارَ إليّ، ولكنها كانت خارجة عن إرادتي واختياري، حتى بدت كأنها نوع من جلب الإعجاب، وما كانت إلّا من قبيل عدمِ تكذيبِ حسنِ الظن الذي كان يحمله الناس نحوي.

ولكن لما كنت أجهل الحكمة في عدم كوني في الحقيقة على ما يظنه الناس بي، ولا أفيد شيئا للدنيا، وها قد أصبحتُ موضع توجه الناس بما يفوقني بألف مرتبة ومرتبة، لذا كنت أتلقى هذا الأمر باعتباره خلافا للحقيقة كليا.

ولكن بفضل الله وكرمه، وألف حمد وشكر له، إذ قد أنعم عليّ فهمَ شيء من حكمة ذلك الأمر، في أواخر أيامي بعد قضاء ما يقرب من ثمانين سنة من العمر.

وسأشير إلى شيء منها. وها أنا أبين قسما من عديد نماذجها:

المثال الأول:

إنه حسب الطرق المتبعة في المدارس الدينية ينبغي دراسة العلوم الشرعية مدة خمس عشرة سنة -في الأقل- كي تحرز الحقائق الدينية والعلوم الإسلامية.

ففي ذلك الوقت لم يبدُ على سعيد ذكاء خارق أو قوة معنوية وحدها، بل ظهرت عليه أيضاً حالة عجيبة كانت خارجة عن نطاق استعداده وقابليـاته كلها، بحيث إنه بعد اطلاعه على مبادئ الصرف والنحو خلال سنة أو سنتين، ظهرت عليه الحالة العجيبة، فكأنه أكمل قراءة ما يقرب من خمسين كتابا خلال ثلاثة أشهر، وقد استوعبها وأُجيز عليها وتَسَلَّم الشهادة بإكمالها.

هذه الحالةُ أظهرتْ بعد ستين سنة بوضوح: أن تفسيرا للقرآن الكريم سيظهر ويناول القارئ في فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة أشهر العلومَ الإيمانية، وأن ذلك الضعيف «سعيد» سيكون عاملا له وفي خدمته.

ومن جراء ذلك الوضع تخطُر على البال معانٍ كأنها إشارات غيبية بأنه سيأتي زمانٌ تضمحل فيه المدارس الدينية، لا يمكن نيل العلوم الإسلامية في خمس عشرة سنة بل حتى في سنة واحدة.

الأنموذج الثاني:

إن مناظرة «سعيد» في ذلك الزمن البعيد لعلماءَ أجلاءَ وهو بعدُ في فترة الصبا، وإجابته عن أسئلتهم الغامضة -من دون أن يسأل أحداً- إجابةً صائبة رغم كونـها في أعقد المسائل، هذه الحالة التي ظهرت، أعترف اعترافا قاطعا، وأعتقد جازماً أنها ليست ناشئة من حدة ذكائي، ولا من خارق استعدادي قط؛ فأنا الذي كنت صبياً صغيـراً، مبتلىً بأمور كثيرة، مبتدِئاً بعدُ في العلوم، سارحَ الفكر، ومثيراً للمناقشات، فما كان في طوقي قطعا الإجابةُ على أسئلةِ علماءَ أفذاذ، بل كنت أُغلب في مناقشات صغار العلماء وصغار طلاب العلم، لذا فأنا على اقتناع تام بأن إجاباتي الصائبة تلك، ليست ناشئة من استعدادي ولا من ذكائي.

فلقد كنت طوال السنوات السبعيـن الماضية في حيرة من هذا الأمر، ولكن الآن -بفضل الله وإحسانه- فهمت حكمة منها وهي: أنه ستُمنح شجرةٌ طيبة لعلوم المدارس الدينية التي هي بمثابة بذرة العلوم وسيكون لخادم تلك الشجرة حسّاد ومعارضون كثيرون.

وهكذا فإن قيام أصحاب المشارب والمسالك المختلفة بين المسلمين في هذا الزمان بانتقاد عمل خدام تلك الشجرة (شجرةِ النور) ولاسيما من علماء الدين سواء بسبب المنافسة أو بسبب اختلاف المشارب، فضلا عما تثير رسائل النور كثيراً من عِرق علماء الدين، كما كان دأب أهل السنة والمعتزلةِ سابقًا في دحض بعضهم بعضًا ونشرِ مؤلفاتٍ في تفنيد آراء الآخرين والظهور عليهم.. أقول: بينما كان الأمر لا بد أن يؤول إلى هذا أراد الله سبحانه أن يجري الأمر على خلاف تلك العادة المتبعة منذ القدم. فألْفُ شكر وشكر لله سبحانه. وأنا على اعتقاد جازم أن سبب عدم تأليفهم أيّ كتاب لنقد رسائل النور أو الاعتراض عليها إنما هو: إجابةُ سعيد الصغير إجابة صائبة على علماء عظام، في ذلك الوقت؛ إذ تلك الإجابات السديدة قد فتّت في عضد شجاعتهم وجُرْأتهم، حتى إنهم لم يتصدوا لرسائل النور ولم يعارضوها رغم مخالفتهم لها مشرباً، ورغم ما يحملون من روح المنافسة والغيرة العلميتين.

لذا اقتنعتُ اقتناعا تاماً أن هذه هي حكمة واحدة لعدم قيام العلماء بالاعتراضُ على الرسائل، إذ لو بدأ الاعتراضُ لكان أعداؤنا المتسترون والملحدون ومن يوالونـهم يتخذون ذلك الاعتراض ذريعة مهمة جداً لتهوين شأن رسائل النور وعلماء الدين معا. فالحمد لله حمداً لا حد له، لم يقاوِم رسائلَ النور حتى أولئك العلماءُ الرسميون الذين تعرضت لهم الرسائل كثيراً.

الأنموذج الثالث:

على الرغم من أن سعيداً القديم كان فقير الحال منذ أيام طفولته، كما أن والده كان فقير الحال كذلك، فإن عدم قبوله الصدقات والهدايا من الآخرين، بل عدمَ استطاعته قبولها إلا بمقابل، رغم حاجته الشديدة جدا، وعدمَ ذهاب «سعيد» قط في أي وقت من الأوقات لأخذ الأرزاق من الناس، وعدمَ قبوله الزكاة من أحد -عن علم- كما كانت العادة جارية في كردستان، حيث كانت أرزاق طلاب العلم تدفع من بيوت الأهلين وتسد مصاريفهم من أموال الزكاة… أقول -وإني على قناعة تامة الآن- حكمةُ هذا الأمر هي: عدمُ جعل رسائل النور -التي هي خدمة سامية خالصة للإيمان والآخرة- في آخر أيامي وسيلة لمغانم الدنيا، وعدم جعلها ذريعة لجرّ المنافع الشخصية.

فلأجل هذه الحكمة أُعطيتُ هذه الحالة، حالةُ النفور من تلك العادة المقبولة وتلك السجيةِ غير المضرة، والهروبِ منها، وعدم فتح يد المسألة من الناس. فرضيتُ بالعيش الكفاف وشدة الفقر والضنك. وذلك لئلا يَفسد الإخلاصُ الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية لرسائل النور.

وأشعر كذلك أن في هذا الأمر إشارة فيها مغزى، بأن هذه الحاجة هي التي ستدفع أهل العلم في الأزمان الآتية إلى الانهماك بهموم العيش حتى يُغلبوا على أمرهم.

الأنموذج الرابع:

بينما كان سعيد الجديد يجهد في أن يجنّب نفسَه أيام شيخوخته عن السياسة وأمرِ الدنيا كليا، فإن أهل الدنيا خلافا لكل القوانين والأعراف والإنصاف والوجدان بل خلافا للإنسانية، أنزلوا به أقسى ضربات الظلم الشنيع طوال ثمان وعشرين سنة، فقاسى ذلك الضعيف، سعيد، أمرَّ العذاب، وتَحمَّل أشدَّ العنت منهم، مع أنه ما كان يتحمل أذى الذباب، وذلك بما وهب له سبحانه من الصبر العظيم والتحمل الذي لا مثيل له لأذى الإهانات الشنيعة. وعلى الرغم من مزاجه العصبي ورهافة حسه وعدم التخوف في فطرته، والجرأةَ التي يحملها من إيمانه بحقيقة أن الأجل واحد لا يتغير، فإن صبره وسكوته في حالة في غاية من المسكنة والخوف، بل منحَ الفرح والانشراح لروحه بعد معاناته تلك الأنواع من التعذيب والإهانات.. أقول: إن حكمة واحدة من هذا الأمر هي الآتية كما اقتنعت بها قناعة تامة:

عدمُ جعل رسائل النور -التي تفسّر حقائق القرآن الحكيم الإيمانية- وسيلةً لأي شيء كان -عدا مرضاة الله- إذ قد أشاع أهلُ السياسة شبهة استغلال «سعيد» الدينَ لأجل السياسة، فعُذّب سعيد وسجن… لئلا يكون الدينُ وسيلة للسياسة. ولكن القدر الإلهي لطمَ سعيدا لطماتِ رأفةٍ وشفقة من تحت ستار ذلك الحُكم الظالم لأهل السياسة، لئلا يَفسد الإخلاص الذي استلهمه من رسائل النور قائلا له:

«إياك أن تجعل رسائل النور -التي هي تفسير لحقائق الإيمان- وسيلة لجرّ منافعك الشخصية، بل حتى لكمالاتك المعنوية، واحذر أن تجعلها ذريعة للخلاص من البلايا والأذى والأضرار، وذلك لكي يبقى الإخلاص الحقيقي-الذي هو القوة العظمى لرسائل النور- مصونا من الخلل».

فأنا مقتنع الآن قناعة تامة أن تلك اللطمات كانت لطمات رأفة نزلت بيّ من القدر الإلهي، بل اطمأننت تماما أنه متى ما انصرفتُ لشؤون آخرتي وحدَها، وانشغلت بعباداتي الشخصية وحدَها، تاركا خدماتي لرسائل النور، في هذا الوقت بالذات، يتسلّط عليّ أهلُ الدنيا فيذيقوني العذاب والآلام.

أُحيل إيضاح هذا الأنموذج الرابع إلى الرسالة الأخيرة (الحقيقة هي التي تتكلم) التي تخص بيان السبب في إلقاء أهل السياسة سعيدا في السجون والمعتقلات منعا لاستغلال الدين في أمور السياسة، ومعرفة سعيد بعد ذلك حكمة الأمر بأنها لطمات قدر إلهي رؤوف، وصفحه عنهم بعد ذلك، وكذا معرفته حكمة الصبر الشديد والتحمل الشديد الذي وهبه الله له.

الأنموذج الخامس:

إن هذا المسكين سعيداً، برغم حاجته الشديدة إلى الكتابة وجودة الخط، وانشغاله بها منذ سبعين سنة، واضطراره إلى تصحيح مئتي صفحة في اليوم الواحد أحيانا، لا يملك من الخط ما يتعلمه طفل ذكي في العاشر من العمر في عشرة أيام. هذا الأمر محيّـِر حقاً، إذ لم يكن سعيد محروماً من القابليات كلياً، فضلا عن أن أشقاءه يجيدون الخط وحسن الكتابة.

فأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن حكمة بقائي نصف أُمّي برداءة الخط وأنا في أشد الحاجة إليه هي: أنه سيأتي زمان لا يمكن للقدرات والقوى الشخصية والجزئية أن تقاوِم وتَصُدّ هجوم أعداء رهيبين، فيبحث «سعيد» بحثا حثيثا عن الذين يملكون خطاً جيداً ليشركهم في خدمته فيشكلون معاً آلاف الأقلام التي تحوّل تلك الخدمة الشخصية الجزئية إلى خدمة كلية عامة قوية، إذ يجتمعون حول تلك البذرة، بذرةِ النور، اجتماعَ الماء والهواء والنور، ويمدّون تلك الشجرة المعنوية بالعون. ففضلا عن هذه الحكمة، فإن إذابة أنانيته في حوض الجماعة المبارك كإذابة قالب الثلج نيلا للإخلاص الحقيقي، حكمةٌ أخرى تدفع لخدمة الإيمان.

الباقي هو الباقي

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[لا ذنب في رسائل النور]

إخوتي الأعزاء الصادقين!

نهنئكم من صميم أرواحنا وأعماق قلوبنا بحلول العيد السعيد، وستدركون بإذن الله عيدا يعم العالم الإسلامي كله ذات يوم. إن هناك أمارات كثيرة تبين أن القرآن الحكيم الذي هو منبع جميع القوانين السامية للجماهير المتحدة الإسلامية، سيكون مهيمنا في المستقبل. وسيأتي ذلك اليوم بإذن الله، ذلك العيد الحق للمسـلمين جميعا، بل البشريـة قاطبة.

ثانيا: مما لا ريب فيه أن رسائل النور وطلابها تحت العناية الإلهية وحفظها، إذ رغم الظروف الدقيقة في هذه المرحلة، ورغم القوانين الاعتباطية، ورغم العناد الشديد، وطوال هذه المدة المديدة، لم يتمكنوا أن يلحقوا الضرر بطلاب النور إلّا بنسبةِ واحد في المائة.

فعلى الرغم من خططهم الرهيبة لإشغال ستمائة طالب من طلاب النور النشطين بالمحاكم المتتالية، لم يتمكنوا إلّا على ستة من الطلاب. حتى لم تجد خمس وعشرون محكمة من محاكم العدل شيئا ما في الألوف من رسائل النور وفى الألوف من طلاب النور -كما ذكره بطل النور- خلال تحقيقاتها المتوالية. بل الدليل القاطع على ذلك هو قول الكثير من دوائر العدل أنه: لا ذنب في رسائل النور ولا نجده فيها.

فضلا عن أنني قد تكلمت في كل من محكمة إسطنبول وأفيوُن وأمثالها بما يناقض قوانينهم -التي يمكن استعمالها لأغراض سيئة-، ولم يستطيعوا أن يدينوني.

علاوة على أن رسائل النور التي حطمت القوانين الجائرة للمدنية الأوروبية لم يجدوا فيها ذنبا قط، مما يبين بوضوح أن حقائق رسائل النور قد حملت دوائر العدل على الإنصاف، بظهورها وتغلبها على معارضيها. فالعناية الإلهية تضم رسائلَ النور تحت جناحها، وكيف لا وهى معجزة من معجزات القرآن الكريم. أما هجوم المعارضين والمخالفين عليها، فيكون بإذن الله وسيلة لسطوع رسائل النور وسببا لانتشارها.

* * *

[مع ضباط الأمن]

يقول أستاذنا:

لم يقابلني أحد من مسؤولي الحكومة خلال ثمان وعشرين سنة إلّا وضايقني، ماخلا ضباط الأمن (المباحث) فإنهم لم يضايقوني قطعا، فضلا عن أن بعضهم تصرَّف معي تصرف مدافع وحامٍ. والآن أوضح حكمة هذا التصرف منهم:

لقد تحقق أن رسائل النور وطلابها هم كأفرادِ أمن معنويين، يحاولون الحفاظ على الأمن والنظام في البلاد عن عقيدةٍ، وقد نصبوا حارسا في كل قلبٍ مؤمن بإرشاداتهم ونصائحهم، وشعر ضباط الأمن بهذا شعورا معنويا، فأظهروا لنا في كل وقت وجه الصداقةَ.
وسر هذا هو الآتي:

أن قانونا أســاسيا للقرآن الكريم هـو ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (فاطر:18) فيمنع القرآنُ بموجبه محاولةَ الإخلال بالنظام، وذلك لئلا يتضرر تسعون بالمائة من الناس في أثناء القضاء على عشرة من الجناة. وبناء على هذا السر الدقيق فإنه على الرغم من وجود قوىً معنوية رهيبة تحاول الإخلال بالأمن والنظام، وعلى الرغم من فعالياتهم ونشاطهم في البلاد كافة، بل إن نشاطهم هنا أكثر مما في فرنسا ومصر والمغرب وإيران، لم يستطيعوا الإخلال بالأمن. وما سبب ذلك إلّا ستمائة ألفٍ من نُسَخ رسائل النور وخمسمائة ألف طالبٍ من طلابها وقد أصبحوا كقوة معنوية ساندة للأمن ليصدوا تلك القوى الهدامة الرهيبة.

فضباط الأمن شعروا بهذا، لذا يبدون حالات تتسم بالرحمة والإنصاف والشفقة على رسائل النور خلافا للموظفين الرسميين منذ ثمان وعشرين سنة.

ويقول أستاذنا أيضا:

إنني أقول: إن على أفراد الأمن أن يكونوا أصحاب تقوى ودين فيؤدوا الفرائض ويجنّبوا أنفسهم الخطايا والذنوب، أكثر من العلماء بل من المتصوفة، وهذا ما تقتضيه مهمَّتهم وواجبُهم نظرا للحاجة الشديدة، وذلك ليؤدوا وظائفَهم في سبيل استتباب الأمن والنظام حق الأداء، تجاه الدمار الرهيب الذي يحدثه المخربون المعنويون.

طلاب النور

الذين في صحبته

* * *

الحقيقة هي التي تتكلم

لقد أثبتت رسائل النور أنه قد تنبثق عدالة من بين طيات الظلم، أي قد يتعرض أحدهم إلى الظلم وإلى الحيف فتصيبه نكبة، وقد يُحكم عليه بالحبس ويُرمى به في غياهب السجون.. لا شك أن مثل هذا الحكم ظلم واضح، ولكنه قد يكون سبباً لتجلي العدالة وظهورها، ذلك لأن القدر الإلهي قد يَستخدم الظالم لتوجيه العقوبة إلى شخص استحقها بسبب آخر، وهذا نوع من أنواع تجلي العدالة الإلهية.

وأنا الآن أفكر.. لِمَ أُساق من محكمة إلى محكمة، ومن ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى طوال ثمانيا وعشرين عاماً؟ وما التهمة الموجهة إليّ من قِبَل من ارتضوا لأنفسهم معاملتي بكل هذا التعذيب الظالم؟ أليست هي تهمة استغلال الدين في سبيل السياسة؟ ولكن لِمَ لا يستطيعون إثبات ذلك؟.. ذلك لأنه لا يوجد أي شيء من هذا القبيل في الحقيقة وفي الواقع. فهذه محكمة تقضي الشهور والسنوات في محاولة الحصول على أي دليل يدينني فلا تستطيع، وإذا بمحكمة أخرى تسوقني للتحقيق وللمحاكمة تحت التهمة نفسها، وتقضي بدورها مدة في هذه المحاولة وفي الضغط عليّ، وتعرّضني لأنواع شتى من التعذيب، وعندما لا تحصل على أية نتيجة تتركني، وإذا بمحكمة ثالثة تمسك بخناقي هذه المرة.. وهكذا أنتقل من مصيبة إلى مصيبة، ومن نكبة إلى أخرى. لقد انقضى ثمان وعشرون سنة من عمري على هذا المنوال، وأخيراً أيقنوا عدم وجود أي نصيب من الصحة للتهم المسندة إليَّ؛

وإني أتساءَل: سواء أكان ذلك قصداً أو وهماً فإنني أعلم علم اليقين عدم وجود أية علاقة لي بهذه التهمة، كما أن جميع أهل الإنصاف يعرفون بأنني لست بالرجل الذي يستغل الدين لغاية سياسية، بل إن الذين وجّهوا إليّ هذه التهمة يعرفون ذلك في قرارة نفوسهم. إذن فما السبب في إصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيتُ معرّضاً على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئاً ودون أي ذنب؟ ولماذا لم أستطع التخلص من هذه المصائب؟ ألم تكن هذه الأحوال مخالفة للعدالة الإلهية؟

لقد بحثت عن أجوبة لهذه الأسئلة خلال ربع قرن من الزمن فلم أُوفق في ذلك. ولكني الآن عرفت السبب الحقيقي في قيامهم بظلمي وتعذيـبي. وأنا أقول وكلي أسف:

إن ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي والكمالات الروحية. والآن بدأتُ أفهم هذا وأحس به تماماً، وأنا أشكر الله تعالى آلاف المرات لأنه طوال سنوات طويلة وُضعت موانعُ معنوية وقوية جداً خارج إرادتي لكي لا أتخذ خدماتي الإيمانية وسيلة للترقيات المادية والمعنوية أو من أجل الخلاص من العذاب ومن جهنم أو حتى من أجل سعادتي الأبدية أو من أجل أية غاية أخرى.

لقد أذهلتني هذه الأحاسيس الداخلية العميقة والخواطر الإلهامية، فبينما نرى أن كل فرد له الحق في اكتساب المقامات التي يعشقها، وفي نيل السعادة الأخروية عن طريق الأعمال الصالحة، هذا زيــادة على أنه لا ينتج أي ضرر لأي أحد، ومع هذا فقد رأيت أنني أُمنـع -روحياً وقلبياً- من هذه الأحوال ومن سلوك هذا الطريق. وجُعل نصب عيني أن عليّ ألّا أهتــم -بجانب الفــوز بالرضى الإلهي- إلا بواجـب خـدمـة الإيمان. ذلك لأن الزمن الحالي يحتاج إلى إعطاء نوع من الدرس القرآني الذي لا يكون في خدمة أي غرض آخر للذين لم يتوصلوا بفطرة العبودية الموجودة في أنفسهم إلى الحقائق الإيمانية التي هي فوق كل شيء، وإلى الذين هم بحاجة إلى فهم هذه الحقائق وذلك بأسلوب مؤثر، بحيث يستطيع إنقاذ الإيمان في مثل دنيا الاضطراب هذه التي اختلطت فيها الأمور، ويستطيع إقناع كل أحد حتى المعاندين وبعث الطمأنينة في نفوسهم، وبذلك يستطيع قصم ظهر الكفر المطلق والضلال المتمرد والمعاند وبذلك يهب القناعة الكاملة للجميع.

ولا تحصل مثل هذه القناعة في الظروف الحالية إلّا عندما يكون الدين بعيداً عن كونه وسيلة لأية غاية شخصية أو دنيوية أو أخروية، مادية كانت أو معنوية. وإذا لم يتحقق هذا فإن أي شخص كان مهما بلغ من المراتب المعنوية يقف عاجزاً تجاه التيار الرهيب -المتولد من المنظمات والجمعيات السرية- ضد الدين؛ لأنه لا يستطيع إزالة كل الشكوك والشبهات. ذلك لأن النفس الأمارة للشخص المعاند الذي يرغب في الدخول إلى حلقة الإيمان ستقول له: «إن ذلك الشخص زين لنا هذا بدهائه وبمستواه الرفيع واستطاع بهذا إقناعنا».. يقول هذا ويبقى الشك يساوره.

فللّه الشكر ألوف ألوف المرات ففي طيّ تهمة القيام باستغلال الدين في السياسة قام القدر الإلهي -الذي هو العدل المحض- طوال ثمان وعشرين سنة بمنعي من جعل الدين -دون علمي ودون إرادة مني- آلة لأي غرض شخصي، وذلك باستخدام الأيدي الظالمة للبشر في توجيه الصفعات لي وفي تذكيري وتنبيهي.. هذه الصفعات التي كانت عدلاً محضاً وتحذرني قائلة: إياك إياك! أن تجعل الحقائق الإيمانية آلة لشخصك، وذلك لكي يعلم المحتاجون إلى الحقائق أن الحقائق وحدها هي التي تتكلم، ولكي لا تبقى هناك أوهام النفس ودسائس الشيطان، بل لتخرس وتصمت.

هذا هو سر تأثير رسائل النور في إشعال الحماس في القلوب وفي الأرواح كالأمواج في البحار الواسعة. وهذا هو سر تأثيرها في القلوب وفي الأرواح وليس شيئاً غيره. ومع أن هناك آلافاً من العلماء سجلوا الحقائق التي تتحدث عنها رسائل النور في مئات الآلاف من الكتب، والتي هي أكثر بلاغة من رسائل النور، لم تستطع إيقاف الكفر البواح. فإذ كانت رسائل النور قد وفّقت إلى حدّ ما في مقارعة الكفر البواح تحت هذه الظروف القاسية، فقد كان هذا هو سر هذا النجاح.. ففي هذا الموضوع لا وجود لـ«سعيد»، ولا وجود لقابلية سعيد وقدرته، فالحقيقة هي التي تتحدث عن نفسها.. نعم، الحقيقة الإيمانية هي التي تتحدث.

وما دامت رسائل النور تؤثر في القلوب العطشى إلى الإيمان وإلى نور الحقائق، إذن لا يُفدَى بـسعيدٍ واحد بل بألف «سعيد وسعيد». وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً. أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يوصموني بمختلف التهم والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد عفوت عنهم ذلك وتنازلت عن حقوقي تجاههم.

وأقول للقدر العادل: إنني كنت مستحقاً لصفعاتك العادلة لأنني لو كنت قد سلكت مثل الآخرين طريقاً -هي بذاتها مشروعة ولا ضرر منها- فكرت فيها بشخصي، ولو لم أضح بمشاعري في الفيوضات المادية والمعنوية، لفقدت هذه القوة المعنوية الكبيرة في أثناء تأدية خدماتي من أجل الحفاظ على الإيمان. لقد ضحيت بكل شيء وتحملت كل أذى، وبذلك انتشرَت الحقائق الإيمانية في كل مكان، ونشأ مئات الآلاف -بل ربما الملايين- من طلاب مدرسة النور ونهلوا من معارفها. وهؤلاء هم الذين سيستمرون في هذه الطريق في خدمة الإيمان، ولن يحيدوا عن طريقتي في التضحية بكل شيء مادياً كان أو معنوياً، إذ سيكون سعيهم لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره.

إن الكثيرين من طلابي قد ابتُلوا بشتى أنواع البلايا والمصائب، وتعرّضوا لصنوف العذاب والمتاعب، واجتازوا امتحانات عسيرة بفضل الله. إنني أطلب منهم أن يتجاوزوا -مثلي- عمن اقترف تلك المظالم وهضَم الحقوق، لأن أولئك قد ارتكبوا تلك الأمور عن جهل منهم، والذين آذونا وعذبونا، ساعدوا على نشر الحقائق الإيمانية دون أن يدركوا تجليات أسرار القدر الإلهي.. ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي التمني لهم بالهداية.

أوصي طلابي ألّا يحمل أحد منهم شيئاً من روح الانتقام في قلبه ولو بمقدار ذرة، وأن يسعوا سعياً جاداً لنشر رسائل النور وليرتبطوا بها ارتباطا وثيقاً. إنني مريض جداً.. لا طاقة لي لا في الكتابة ولا في الحديث.. وقد يكون هذا آخر أقوالي.. فعلى طلاب رسائل النور لمدرسة الزهراء ألّا ينسوا وصيتي هذه.

* * *

رسائل متفرقة (3)

 [وفي كل شيء له آية]

إخوتي الصديقين المتفكرين الأعزاء!.

أولا: لقد حصلت لدي القناعة التامة -بناء على أمارات كثيرة- أن الملحدين المتسترين يغررون ببعض الموظفين الرسميين، فيبرزون لهم بإصرارٍ رسالةَ «مرشد الشباب» من بين رسائل ضخمة خاصة بالنور، ويتخذونها موضع اتهام. فيذيقني أولئك عنَتا ومضايقة منذ سنة ونصف السنة.

فلقد تيقنت أن سبب ذلك هو ما في تلك الرسالة من «نكتة توحيدية في لفظ هو» إذ إن هذا البحث قد كَشف سر التوحيد ووضَّحه توضيحا يقطع به دابر الكفر المطلق، ولا يدع مجالا لأية شبهة لدى قسم منهم. ولما لم يجد أولئك الملحدون المتسترون حيلة تجاه هذا البحث القيّم، دبّروا المكايد للحيلولة دون انتشار الرسالة، وحَجبها رسميا.

ولقد ألقيتُ قبل يوم درسا على أركان مدرسة الزهراء، حول نقاط من البحث المذكور، أبيّن لكم ثلاثا منها فقط:

النقطة الأولى: إن وظيفة سامية جليلة من وظائف الهواء، هي كونه وساطة انتشار الكلمات الطيبة، وأقوال الإيمان، ذات الحقائق والمغزى الحكيم، كما تتوضح بالآية الكريمة: ﴿اِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (فاطر:10). وحتى يغدو الهواء صحيفة من صحائف القدرة الإلهية، تتبدل تلك الصحيفة باستنساخِ قلم القدر فيها وانتشارِ تلك الكلمات بإذن إلهي، وذلك لأجل إسماع الملائكة والروحانيات في كرة الهواء كلها حتى صعودها إلى العرش الأعظم.

فما دامت وظيفةُ الهواء المهمة السامية، وحكمةُ خلقه، تكمن في هذا.. وقد أَضحى سطحُ الأرض شبيها بمنـزل واحد، بوساطة الراديو -هذه النعمةِ الإلهية العظيمة التي أُسديت إلى البشرية- فلا شك أن البشرية ستُقدِّم شكرا شاملا عاما لربّها تجاه ما أنعم به عليها من نعمة كبرى، فتجعلُ تلك النعمة -نعمة الراديو- قبل كل شيء وسيلة لنقل الكلمات الطيبة، من قرآن كريم وحقائقه أولا، ومن دروس الإيمان والأخلاق الفاضلة، والكلام النافع الضروري للحياة البشرية.

إذ لولا هذا الشكر -أي إن لم تجد تلك النعمةُ شكرا مثلَ هذا- فستصبح تلك النعمة نقمةً للبشرية؛ إذ كما أن الإنسان محتاج للاستماع إلى الحقائق فهو محتاج أيضا إلى شيء من اللهو والترفيه، ولكن يجب أن تكون حصةُ هذا الترفيه المفرح الخُمْسَ مما ينقله الهواءُ. وبخلافه تقع منافاة لسر حكمة الهواء، حيث يؤدي إلى دفع الإنسان إلى أحضان الكسل وحبّ الراحة والخمول والسفه، ويسوقه إلى عدم إتمامه وظائف ضرورية له وتركها ناقصة غير كاملة.. وعندها ينقلب ما كان نعمةً عظمى إلى نقمةٍ عظمى، بما ثبّط من شوق الإنسان نحو العمل الضروري له.

تأملت في هذا الراديو الصغير الذي أمامي. وقد أتوا به إلى غرفتي لأستمع إلى القرآن الكريم. فإذا هو ماكنة صغيرة ضمن صندوق صغير، فرأيت أن هناك حصة واحدة فقط للكلام الطيب من بين عشر حصص للهو والترفيه، فعلمت أن هذا خطأ يرتكبه الإنسان. وسيُصلح بإذن الله خطأه هذا ويقوّمه في المستقبل. فيجعل الراديو مدرسة إيمانية، وذلك بجعله حصة الكلام الطيب أربعة أخماس جميع الحصص، شكرا عاما تجاه نعمة الراديو هذه، وتوجيه تلك النعمة لصالح حياة الإنسان الخالدة.

النقطة الثانية: لقد ذكر في رسائل النور:

إن من لا يقدر على خَلق الكون لن يقدر على خلق ذرة واحدة، وليس غيرُ خالق الكون الذي يقدر على خلق ذرة في موضعها المناسب ويسوقُها إلى وظيفتها بانتظام.

نذكر حجة جزئية من الحجج الكلية لهذه الجملة:

هذا الراديو بقُربي، هو محفظة لأنواع الكلمات.. وما فيه من جهاز قد لا يحوي إلّا جزءا قليلا من الهواء. لنتأمل في هذا الهواء القليل جدا، فيوضح لنا ما يأتي:

إنه حسب قائمة دار الإذاعة التي بين أيدينا، هناك ما يقرب من مئتي مركز إذاعي، هذه المراكز متفاوتة في القرب والبعد، فقد تبعد عنا ساعة أو سنة.

فلولا وجود قوةٍ لا حدّ لها في كل ذرة من ذرات الهواء، وإرادةٍ لا حصر لها، وعلمٍ تام محيط بلهجات المقرئين في تلك المراكز على الأرض كلها، ولولا وجود بصر حاد محيط يرى أولئك جميعهم، ولولا سمع يقدر على سماع كل شيء في آن واحد، دون أن يشغله شيء عن شيء.. لَمَا أمكن وصول كلمة قرآنية -الحمد لله مثلا- إلى آذاننا في الدقيقة نفسها التي تبث فيها من المركز، بحروفها الكاملة وبلهجتها ولغتها، بل بنبرات صوت المتكلم بها، دون أن يطرأ عليها تغيير. كل ذلك بوساطة تلك الذرات التي في حفنة هواء جهاز الراديو الصغير. فإيصال مختلف كلمات القرآن، بمختلف الأصداء والأصوات من دون تغير ولا خلل، إلى أسماعنا، إنما هو بتلك القدرة المطلقة والصفات المطلقة. ولولاها لمَا وجدتْ ولا ظهرت هذه المعجزة، معجزة القدرة.

أي إن ذرات الهواء، في هذا الجهاز الصغير، لا تنال القيام بتلك الأعمال المعجزة، ولا تُظهر معجزة القدرة، إلّا بقدرةِ مَن هو قدير مطلق، وبإرادته، ومن هو عليم سميع بصير محيط بكل شيء، ومن لا يصعب عليه شيء، بل أعظم شيء كأصغره أمام قدرته..

وبخلاف هذا فإن إسناد هذا الأمر المعجز إلى المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء -التي يُظن وجودُها في موجات الهواء- إنما هو جعلُ كل ذرة من ذرات الهواء، والهواءِ المحيط بالأرض حكيما مطلقا بصيرا بكل شيء، عليما لا يخفى عليه شيء، قادرا على كل شيء!. وما هذا إلّا خرافة ممجوجة ومحالٌ بل محالات بعيدة كل البعد عن منطق العقل..

ألاَ فليأت أهل الضلال، وليروا: ما أبعدَ مذهبهم عن العقل!

النقطة الثالثة: إن الهواء الضئيل جدا الموجودَ في جهاز الراديو الصغير، يؤدي مهمة السندانة لأزاهير الكلمات المعنوية الطيبة. فيظهر من معجزات القدرة الإلهية ما يبين أن كل ذرة منه تثبت وجود الله سبحانه وتعرّفه بذاته المقدسة وصفاته الجليلة.

فلقد ساح الحكماء الفلاسفة، والعلماء الأعلام في جنبات الكون خيالا، ووضعوا ما فيه نصب نظر العقل، ليثبتوا وجوده سبحانه و وحدانيته، بإيراد دلائل واسعة عظيمة، ومن بعد ذلك ينالون معرفة الله الحقة. بينما هناك حقيقة وهي: أن الشمس حالما تشرق، تبيّنها قطعة من زجاج مثلما يبينها سطح البحر، أي كلٌّ منها يشير إلى تلك الشمس. فبناء على هذه الحقيقة، فإن كل ذرة من ذرات هواء هذا الراديو تبيّن بذاتها تجلي التوحيد، وكمال صفاته تعالى. ولقد أثبتت رسائل النور -التي هي لمعة من لمعات الإعجاز المعنوي للقرآن الكريم- هذه الحقيقة بوضوح تام.

لذا لا يجد طالب النور المدققُ ضرورةً إلى قول: «لا موجود إلّا هو» ليحصل على الحضور القلبي الدائم ويتذكر المعرفة الإلهية دائما. كما أنه لا يحتاج أيضا إلى قولِ: «لا مشهود إلاّ هو» كما هو الحال لدى قسم من أهل الحقيقة، لينعم بالحضور القلبي الدائم.. بل تكفيه إطلالة من نافذة الحقيقة السامية:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

وتوضيح هذه العبارة باختصار هو: أن لكل أحد من هذا العالم عالما يخصّه، وكونا خاصا به، أي كأن هناك عوالم وأكوانا متداخلة بعدد ذوي الشعور.. وأن حياة كل أحد هي عمود لدنياه الخاصة به، كما لو كان بيد كل واحد مرآة ووجهها إلى قصر عظيم، فيكون كلٌّ منهم مالكا لذلك القصر في مرآته.

لذا يجد قسم من أهل الحقيقة المعرفة الإلهية ويحصلون على حضور القلب الدائم بإنكار دنياهم الخاصة بهم، وبترك ما سوى الله، فيقولون: «لا موجود إلا هو»..

وقسم آخر من أهل الحقيقة يقولون: «لا مشهود الا هو» بلوغا منهم إلى معرفة الله والحضور القلبي الدائمي. فيزجون دنياهم في سجن النسيان ويسدلون عليها ستار الفناء. فيحصلون على حضور القلب، ويجعلون عمرَهم في حكم نوع من العبادة.

أما في هذا الزمان فإن رسائل النور قد وضّحت بالإعجاز المعنوي للقرآن الحكيم سرّ العبارة الآتية:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

أي إن رسائل النور تبين أنه -ابتداء من الذرات وانتهاء إلى المجرات- هناك نافذة في كل منها تطل على التوحيد، وفي كل منها دلائل وإشارات تدل مباشرة على ذات الواحد الأحد بصفاته الجليلة.

فلقد أشارت إشارات مجملة «نكتة لفظ هو» إلى هذه الحقيقة السامية، حقيقة الإيمان وحضور القلب. بينما أثبتتها رسائل النور إثباتا قاطعا واضحا. في حين بيّنها أهل الحقيقة سابقا بيانا مجملا مختصرا.

بمعنى أن هذا الزمان الرهيب أشد حاجة من أي وقت آخر إلى هذه الحقيقة، حتى أنعم الله على الناس، بوساطة إعجاز القرآن الكريم، وفصّلتها رسائل النور وأصبحت إحدى ناشريها.

الباقي هو الباقي

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[المألوف المعجز]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما

إخوتي الصديقين الأعزاء!

أولا: نهنئكم -ملء كياننا وأرواحنا- بالشهور الثلاثة المباركة التي تُكسب الإنسان ثمانين سنة من عمر معنوي خالد. ونبارك لياليكم الفاضلة، ليلة الرغائب، ليلة المعراج، ليلة البراءة، ليلة القدر راجين من رحمته تعالى أن تتقبل مكاسبَكم المعنوية وأدعيتَكم بحقّ إخوانكم، مباركين خدماتكم الطيبة وتوفيقكم في سبيل نشر النور.

ثانيا: إن مصيبة النسيان التام التي ألمّت بي من جراء التسميم، قد تحولت بفضل الله إلى نعمة ورحمة ومفتاح لكشف عدد من الحقائق. فأُعلمكم بهذا لئلا تتألموا كثيرا على حالي، رغم أني أرجو دعواتكم بكل ما أملك.

نعم، لقد قرأت الآن رسالة «المناجاة» التي هي في مستهل مجموعة «سراج النور» فلاحظت أن كثيرا من الحقائق تتستر تحت حجب الألفة والعادة والاطّراد.

وحيث إن الملحدين من أهل الغفلة وأهل الطبيعة والفلسفة خاصة، لا يرون كثيرا من معجزات القدرة الإلهية المحجوبة تحت حجاب قوانين الله ونواميسه الجارية في الكون، تراهم يسندون حقيقةً جليلة إلى سبب اعتيادي تافه، ويحملونها عليه، فيسدّون بهذا الطريق المؤدي إلى معرفة القدير سبحانه في كل شيء، بل يُعمُون أبصارهم عن النِعم التي وضعها المُنعم في كل شيء، فلا يرونها، ويسدّون أبواب الشكر والحمد.

فمثلا: إن القدرة الإلهية الجليلة مثلما تستنسخ كلمة واحدة مليون بل مليار مرة في آن واحد، وذلك بتجليها على صحيفة الهواء. فكلُّ كلمة طيبة أيضا تستنسخ برمز الآية الكريمة: ﴿اِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (فاطر:10) في كرة الهواء المحيطة بالأرض، وفي آن واحد -في حكم بلا زمان- بقلم القدرة الإلهية. وقد تسترت معجزة عجيبة من معجزات القدرة في كُرة الهواء كأنها لوحةُ محوٍ وإثباتٍ للحقائق المقبولة المعنوية، تسترت بستار الألفة عن أنظار الغافلين منذ زمن آدم عليه السلام.

وقد أثبتت تلك المعجزة نفسها في الوقت الحاضر بوساطة جهاز سَمَّوهُ «الراديو» بحيث إن تجليا للقدرة الأزلية المطلقة التي يضم علما مطلقا وحكمة مطلقة وإرادة مطلقة، حاضرٌ وناظر في كل ذرة من ذرات الهواء. إذ إن الكلمات المختلفة التي لا حدود لها تدخل الأذن الصغيرة للذرة وتخرج من لسانها الدقيق، دون اختلاط أو التباس، لا خلل ولا تحير.

بمعنى أنه إن اجتمعت الأسباب كلها، لم تستطع بحال من الأحوال أن تظهر تجلي القدرة الأزلية في هذه الوظيفة الفطرية لذرة واحدة.. ولمّا كانت الأسباب لا دخل لها مطلقا في إظهار الصنعة البديعة المعجزة في آذان تلك الذرة الصغيرة التي لا تعد وفي ألسنتها الدقيقة التي لا تحصى، فإن أهل الضلال والغفلة يسترونها تحت ستار الألفة والعادة والقانون والاطراد، ويضعون عليها اسما اعتياديا يخدعون به أنفسهم موقتا.

فمثلا: مثلما ذُكر في حاشية ذيل الكلمة الرابعة عشرة، أنه: إذا صنع صَنّاع ماهر مائة أوقية من مختلف الأطعمة، ومائة ذراع من مختلف الأقمشة، من قطعة تافهة لا تتجاوز قلامة أظفر، ثم قال أحدهم: إن هذه الأعمال قد نتجت من تلك القطعة الخشبية التافهة مصادفةً، وبأمور طبيعية، تهوينا من قيمة خوارق صنعة ذلك الصناع الماهر.. كم يكون كلامه هذا هذيانا، وخرافة خرقاء وضلالة بعيدة؟.

كذلك الأمر في شجرة الصنوبر أو التين، وأمثالها من أُلوف بدائع صنع الله الحاوية على معجزات قدرته سبحانه، فتراهم يبرزون حبّة البذرة قائلين: إن هذه الأشجار الضخمة قد نشأت من هذه البذور.

وكذلك الأمر في هذا الجهاز الذي جعل الهواءَ المحيط بالكرة الأرضية ميدانَ محاضرة، وحوّل سطحَ الأرض إلى مدرسة وملتقى دروس المعرفة والعرفان. ويتضمن نعما لا حد لها، ينبغي الشكرَ غير المحدود عليها. وهو أنموذج معجّل لإحسانات إلهية، تُنعَم على البشر في حياته الأخروية الأبدية، وهو دليل لا ريب فيه وهدية رحمانية تُغدَق مباشرة من خزينة الرحمة الإلهية. فإطلاق اسم «الراديو» على هذه الهدية المهداة، وإطلاق اسم الكهرباء وموجاتِ الهواء.. إنما هو إسدال ستارِ الكفران على تلك النعم الإلهية التي تربو على مئات الألوف -كما هو في المثال السابق- بل هو بلاهة لا منتهى لها يقترفها الماديون والضالون، بحيث تفضي بهم إلى جناية غير متناهية، تعرّضهم إلى عقاب غير متناه يستحقونه.

فيا إخوتي:

لقد قرأت هذا اليوم -بنية التصحيح -رسالة «المناجاة» التي هي في مستهل مجموعة «سراج النور»، ولكن لما كانت قوةُ حافظتي قد وهنَت وضعفت نهائيا، فقد رأيتُني كأنني أتيت حديثا إلى الدنيا تجاه تلك الحقائق في «المناجاة» رغم أني في الثمانين من العمر، فلم تعُد تلك العاداتُ المعروفة ستارا وحجابا أمام تأملي، لذا قرأت تلك «المناجاة» بشوق كامل، واستفدت منها استفادة عظيمة بفضل الله، ووجدتُها خارقة حقا، وعلمت أن أعداءنا المتسترين يغررون ببعض الموظفين الرسميين في سبيل مصادرة «سراج النور»، محتجين بما في آخره -من بحث الدجال-، إلّا أن قناعتي أن سببَ ذلك هو رسالة «المناجاة» التي في مستهلها، كما كان سببُ هجوم الملحدين على «مرشد الشباب» بحثَ «نكتة توحيدية في لفظ هو».

ثالثا: نبشركم بكياننا كله يا إخوتي: أن الإخلاصَ التام الذي يتحلى به طلابُ النور والوفاءَ الحقيقي الجاد والتساند الذي لا يتزعزع الذي يحملونه يجعل جميع المصائب التي تنـزل بنا -من حيث الخدمة الإيمانية- نعما عظيمة.. نعم، إن فتوحات النور تتوسع في الخفاء بما ليس بالحسبان ولا يخطر على خيال أحد.

فمثلا: لقد اضطروا إلى دفع مائة ليرة ورقية أجرة للسيارة التي نقلتني من إسبارطة إلى المحكمة المنعقدة هنا (إسطنبول). ثقوا يا إخوتي لو كنتُ أدفع مئتي ليرة لنتائج تخصّ خدمة الإيمان تنشأ من هذه المسألة فقط وتخص «مرشد الشباب» فحسب، أو مما يخصني أنا بالذات، لكنت أعد تلك النقود المصروفة قليلة زهيدة تجاه تلك النتائج الجليلة.. فكيف بالنتائج التي تعود إلى عامة الطلاب والناس عموما والمسائل الكلية!

الباقي هو الباقي

أخوكم المريض الراجي دعاءكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[النظر إلى المخلوقات]

حاشية لرسالة مفتاح عالم النور

في سَفرة بالسيارة ذات يوم، مع طالبَين نوريين جامعيين، كنا نستمع من راديو السيارة الذي لا يرتبط بأي اتصال سلكي، إلى احتفال بالمولد النبوي شريفٍ مُقام في مكان بعيد. قلت لذينك الجامعيين:

إن الدليل على أن تجلي القدرة الإلهية تظهر في «النور» تجليا بديهيا دون حجاب -كتجلي الحياة والوجود- هو: أن الهواء الموجود في هذا الجهاز الصغير، والذي لا يتجاوز حجمُه ظفر الإنسان، هذا الهواء القليل جدا والنور المعنوي الضئيل جدا لا يستمع إلى الكلمات القادمة من هذا المولد النبوي ثم يقولها، وإنما أيضا يستمع إلى أُلوف الكلمات ويُسمعنا جميعَ الكلمات التي تبثها ألوفُ إذاعاتِ العالم، ونسمَعُها بمثل ما نسمع هذا المولد النبوي بوضوح.

بمعنى أن أصغر موجود جزئي يصبح أكبر كلي!

ثم إن هذا الهواء القليل جدا يُنجز من الوظائف بقدر ما ينجزه الهواء المحيط بالكرة الأرضية، أي يكبرُ أصغرُ جزئي بكبر الكرة الهوائية المحيطة… فلو لم يُسند هذا الأمر إلى تجلي القدرة الإلهية لنتجت خرافة عجيبة تحمل من المتناقضات ما لا يسعه خيال، إذ إن انقلاب الشيء إلى ضده محال، فكيف يُصبح هذا الجزئي الذي هو صغير بألوف الدرجات كليا بألوف المرات؟ وكيف يصبح هذا الجامد العاجز الذي لا يشعر بشيء مقتدرا وذا شعور وإدراك و إرادة؟

فهذه خرافة تحمل مئات الخرافات والمتناقضات التي لا مثيل لها.

بمعنى أن الأمر إنما هو بتجلي القدرة الإلهية بالبداهة. والذي يمثل ذلك التجلي الواسع في الهواء عامة يبيّنه معنى الحديثِ الشريف: «إن لله ملكا، له أربعون ألف رأس، في كل رأس أربعون ألف لسان، يسبح أربعين ألف تسبيحة بكل لسان». بمعنى أنه يسبح أربعا و ستين تريلون تسبيحة في اللحظة نفسها.

أي إن الهواء المحيط بالأرض كهذا الملك، أي يكتب على صحيفة الهواء كل كلمة طيبة بعدد تسبيحات هذا الملك.

يقول الهواء المحيط: إن هذا الحديث ينبئ عني وعن الملَك الذي يُشْرِف على أعمالي، لأنه ضمن كلمات الإنسان كلّها والأصوات الأخرى التي لا تحد تَردُ هذه الكلماتُ الطيبة بحروفها دون أي التباس مع أنها تختلط مع بعضها، وبنبرات المتكلم بها، وبصوته المتميز. فليس في الإمكان قطعا إحالة هذا العمل الذي يتم بشعور كلي كامل -هو وظيفة ذرة واحدة مني- إليّ ولا إلى أي سبب من الأسباب.

أي إنه تجلي القدرة الأزلية التي تضم إرادة شاملة لكل شيء وعلما محيطا بكل شيء ليس إلّا، ذلك التجلي العام الشامل لكل شيء، الحاضر والناظر بتجلي الأحدية في كل مكان.

والشهود على هذا يربون على الملايين، أحد أولئك الشهود: الراديو.

إن مضمون ما جاء في الكلمة الثالثة عشرة، لدى المقارنة بين حكمة القرآن وفلسفة الإنسان هو الآتي:

إن الفلسفة التي تَوصَّل إليها الإنسان تحجُب معجزاتِ القدرة الإلهية وخوارقَ رحمته تعالى بستار العاديات، فلا ترى دلائل الوحدانية المضمرة تحت تلك العاديات وتلك النعم الجليلة، ولا تبينها ولا تدل عليها، بينما إذا ما رأت ما هو خارج عن العادة من جزئيات خاصة، تتوجه إليه وتهتم به.

فمثلا: إنها لا ترى معجزة القدرة الإلهية في خلق الإنسان السوي ولا تهتم به، بينما تجلب الأنظار بحيرة واستغراب إلى الإنسان ذي الرأسين أو ذي ثلاثة أرجل الخارج عن القاعدة. فهي تخبئ معجزاتِ القدرةِ الكليةَ العامة تحت ستار العادة، في حين أنها تجعل المواد الخارجة عن وظائفها والجزئية مدارَ عبرةٍ وتأمُّلٍ!.

ومثلا: إنها لا ترى المعجزات في إعاشة صغار الإنسان والحيوانات، بل تعدّها أمرا عاديا فلا تُعير لها بالا، ولكن حشرة نأت عن طائفتها وانعزلت عن أمتها وظلت في قعر البحر ومُدَّت إليها يدُ المعونة بورقة خضراء، وأَخذت تتغذى عليها، أدمعت عيونَ صيادي الأسماك على الحادث هذا، وأعلنوا عنها ببهاء حتى ذكرتها إحدى صحف أمريكا في حينه.

بينما في أصغر حيوان هناك ألوفُ ألوفِ المعجزات أمثال هذه للأرزاق، إذ تتدفق الأثداء بسائل الحياة للصغار. بيد أن الفلسفة البشرية لا ترى تلك المعجزة، معجزة الرحمة والإحسان الإلهي كي تشكر ربها وتؤمن بالرحمن وتقابله بالشكر.

وهكذا فالحكمة القرآنية تمزّق ذلك الحجاب، حجابَ العاديّات المضروبَ على المخلوقات وترشد البشرية إلى تلك المعجزات الكلية والنعم التي يسبغها الله سبحانه على الكائنات قاطبة، فتَعرِف ربها وتسوق الجميع إلى العبودية المكللة بالشكر لله تعالى.

وهكذا فإن أعجب خطأ وأغربَه مما تقترفه الفلسفة البشرية هو: أن الإنسان الذي لا تفي إرادتُه واختيارُه الجزئي لفعل جزئي ظاهري جدا وهو «التكلم» ولا يقدر على إيجاده، وإنما يدفع الهواء إلى مواضع مخارج الحروف، والله سبحانه هو الذي يخلق الكلمات بناء على هذا الكسب الجزئي، ويكتبه بألوف ألوف النسخ في الهواء.

فعلى الرغم من قصر يد الإنسان عن الإيجاد إلى هذا الحد، فإن إعطاء اسم «إيجاد الإنسان» على معجزة قدرة إلهية كلية تعجز جميعُ الأسباب، أسباب الكون دونها خطأٌ جسيـمٌ وأيّ خطأ. يدرك ذلك كلُّ من له ذرة من شعور.

ومثال ذلك هو: أن رجلا عاجزا جعل قانونا إلهيا -يضم مائة ألف من الخوارق- وسيلةً لاستفادة البشر، بكشفه الراديو، بإلهام إلهي، أي بنوع من استجابة دعاء الإنسان الفعلي، كم يكون خطأ قول الإنسان: نعم، إن الراديو قد أوجدَه المخترع الفلاني، وهو الذي أوجدَ القوة الكهربائية. وهناك آخرون يسعون لإيجاد مادة لقراءة ما في دماغ الإنسان!.

نعم، إن الله سبحانه وتعالى قد خلق العالم دار ضيافة تليق بالإنسان، وهيأ له فيها كل ما يحتاجه ويلزمه… وكنوع من متطلبات الضيافةُ يسلم إلى يده -في بعض الأزمان والعصور- نعما ظلت مخفية عنه، وذلك نتيجة دعائه الفعلي الذي هو البحث عن الحقائق والتحري عنها، المتولدُ من تلاحق الأفكار. فبينما يجب على الإنسان أن يشكر ربه تجاه هذه النعم، إذا به يرتكب كفرانا عظيما فينسى أنها منه تعالى، وينظر إليها من إيجاد إنسان اعتيادي عاجز، ويُسندها إلى مهارته بل يُنسي الآخرين كذلك تلك الخوارقَ الناشئة من إحسانٍ عميم يغدق بعلم وإرادة ورحمة وشعور، حيث لا يظهر إلّا سبباَ ومشهدا منه. ويفوّض أمره إلى المصادفة العشواء والطبيعة والمواد الجامدة. وما هذا إلّا فتحٌ لباب الجهل المطلق المنافي للإنسان المكرم المخلوق في أحسن تقويم.

لذا يلزم النظر إلى المخلوقات بالنظر الحرفي لا الاسمي، وفق دستورِ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

وذلك لأجل أن يسمو الإنسان إلى مستوى الإنسان حقا.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَٓا اِلَّا مَا عَلَّمْتَنَاۜ اِنَّكَ اَنْتَ الْعَليمُ الْحَكيمُ

* * *