الفصل الثالث الهجر الجميل

الفصل الثالث الهجر الجميل

سنة 1923م/1340 هـ

التوجه إلى «وان»

«توجهت إلى مدينة «وان». وهناك قبل كل شيء ذهبت إلى زيارة مدرستي المسماة بـ«خُورْخُورْ» فرأيت أن الأرمن قد أحرقوها مثلما أحرقوا بقية البيوت الموجودة في «وان» أثناء الاحتلال الروسي.. صعدت إلى القلعة المشهورة في «وان» وهي كتلة من صخرة صلدة تضم تحتها مدرستي الملاصقة لها تماماً، وكانت تمرّ من أمامي أشباح أولئك الأصدقاء الحقيقيين والإخوة المؤنسين من طلابي في مدرستي الذين فارقتهم قبل حوالي سبع سنوات خلت، فعلى إثر هذه الكارثة أصبح قسم من أولئك الأصدقاء الفدائيين شهداء حقيقيين وآخرون شهداء معنويين، فلم أتمالك نفسي من البكاء والنحيب.. صعدت إلى قمة القلعة وارتقيتها وهي بعلو المنارتين ومدرستي تحتها، وجلست عليها أتأمل، فذهب بي الخيال إلى ما يقرب من ثماني سنوات خلَتْ وجال بي في ذلك الزمان، لما للخيال من قوة ولعدم وجود ما يحول بيني وبين ذلك الخيال ويصرفني عن ذلك الزمان، إذ كنت وحيداً منفرداً.

شاهدت تحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثماني سنوات حتى إنني كلّما كنت أفتح عيني أرى كأن عصراً قد ولّى ومضى بأحداثه. رأيت أن مركز المدينة المحيطة بمدرستي -الذي هو بجانب القلعة- قد أحرق من أقصاه إلى أقصاه ودمّر تدميراً كاملاً. فنظرت إلى هذا المنظر نظرة حزن وأسى.. إذ كنت أشعر بالفرق الهائل بين ما كنت فيه وبين ما أراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه المدينة.. كان أغلب الذين يعمّرون هذه البيوت المهدّمة أصدقائي، وأحبّة أعزّاء عليّ.. فلقد توفّي قسم منهم بالهجرة من المدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جميعاً برحمته. حيث دُمّرت بيوت المسلمين في المدينة كليّاً ولم تبق إلّا محلة الأرمن، فتألمت من الأعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين أرتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره…- رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلّا أنني لم أكن أفهم معناها تماماً:

لَوْ لَا مُفَارَقَةُ الأحْبَابِ مَا وَجَدَتْ لَهَا الْمَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلاً

أي إن أكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.

نعم، إنه لم يؤلمني شيء ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغم والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة تكفي لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت بعيني لوحة الفراق الحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمرّ بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..

عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الأماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فأصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة أمام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يخدعون أنفسهم، فالوضع هذا يبيّن بداهة أن الدنيا لا محالة فانية، وأن الإنسان فيها ليس إلّا عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله أهل الحقيقة:

«لا تنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكّارة.. فانية..».

ورأيت كذلك أن الإنسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه كما أن له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن أبكي بعينيّ لشيخوختي -باعتبار وجودي- كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بحاجة إلى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة الشبيهة بالميتة.

لقد ورد في الحديث الشريف أن مَلَكاً ينادي كل صباح: «لِدُوا للمَوتِ وَابنُوا للخَرَاب» كنت أسمع هذه الحقيقة، أسمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فإن خيالي منذ عشرين سنة يذرف الدموع أيضاً كلّما مرّ على ذلك الحال. نعم إن دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمّرت آلاف السنين، واكتهال المدينة التي تحتها خلال ثماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانمائة سنة، ووفاة مدرستي -أسفل القلعة- التي كانت تنبض بالحياة والتي كانت مجمع الأحباب.. تشير إلى وفاة جميع المدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة المعنوية لجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد أصبحت شاهدة قبرها. ورأيت أن طلابي -رحمهم الله جميعاً- الذين كانوا معي في تلك المدرسة -قبل ثماني سنوات- وهم راقدون في قبورهم، رأيتهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والحزن حتى بيوت المدينة المدَمَّرة، بل حتى جدرانها المنهدّة وأحجارها المبعثرة.

نعم، إنني رأيت كُل شيء وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت أنني لا أستطيع أن أتحمّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب إليهم في قبورهم أو عليّ أن أنسحب إلى مغارة في الجبل منتظراً أجلي، وقلت مادام في الدنيا مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لا يمكن أن يُصبر عليها، ولا يمكن أن تقاوم، وهي مؤلمة ومحرقة إلى هذه الدرجة، فلا شك أن الموت أفضل من هذه الحياة، ويرجح على مثل هذه الأوضاع التي لا تطاق.. لذا ولّيت وجهي سارحاً بنظري إلى الجهات الست.. فما رأيت فيها إلّا الظلام الدامس، فالغفلة الناشئة من ذلك التألم الشديد والتأثر العميق أرتنى الدنيا مخيفة مرعبة، وأنها خالية جرداء وكأنها ستنقض على رأسي. كانت روحي تبحث عن نقطة استناد وركن شديد أمام البلايا والمصائب غير المحدودة التي اتخذت صورة أعداء ألدّاء. وكانت تبحث أيضاً عن نقطة استمداد أمام رغباتها الكامنة غير المحدودة والتي تمتد إلى الأبد. فبينما كانت روحي تبحث عن نقطة استناد، وتفتش عن نقطة استمداد، وتنتظر السلوان والتسرّي من الهموم والأحزان المتولدة من الفراقات والافتراقات غير المحدودة والتخريبات والوفيات الهائلة، إذا بحقيقة آية واحدة من القرآن الكريم المعجز وهي: ﴿سَبَّحَ لِلّٰهِ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهُوَ الْعَز۪يزُ الْحَكيم ﴿1 لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ يُحْي۪ وَيُميتۚ وَهُوَ عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَد۪يرٌ﴾ (الحديد:1-2) تتجلى أمامي بوضوح وتنقذني من ذلك الخيال الأليم المرعب، وتنجيني من ألم الفراق والافتراق، فاتحةً عيني وبصيرتي. فالتفتُّ إلى الأثمار المعلقة على الأشجار المثمرة وهي تنظر إلى مبتسمة ابتسامة حلوة وتقول لي: «لا تحصرنَّ نظرك في الخرائب وحدها.. فهلّا نظرت إلينا، وأنعمت النظر فينا..».

نعم، إن حقيقة هذه الآية الكريمة تنبّه بقوة مذكّرةً وتقول: لِمَ يُحزنك إلى هذا الحدّ سقوط رسالة عامرة شيّدت بيد الإنسان الضيف على صحيفة مفازة «وان»، حتى اتخذت صورة مدينة مأهولة؟ فلِمَ تحزن على سقوطها في السيل الجارف المخيف المسمّى بالاحتلال الروسي الذي محا آثارها وأذهب كتابتها؟ إرفع بصرك إلى الباري المصوّر وهو ربّ كل شيء ومالكه الحقيقي، فناصيته بيده، وإن كتاباته سبحانه على صحيفة «وان» تُكتب مجدداً باستمرار بكمال التوهج والبهجة وإن ما شاهدته من أوضاع في الغابر والبكاء والنحيب على خلو تلك الأماكن وعلى دمارها وبقائها مقفرة إنما هو من الغفلة عن مالكها الحقيقي، ومن توهم الإنسان -خطأً- أنه هو المالك لها، ومن عدم تصوره أنه عابر سبيل وضيف ليس إلّا..

فانفتح من ذلك الوضع المحرق، ومن ذلك الخطأ في التصور بابٌ لحقيقة عظيمة، وتهيأت النفسُ لتقبلها -كالحديد الذي يدخل في النار لِيلين ويعطى له شكل معين نافع- إذ أصبحت تلك الحالة المحزنة وذلك الوضع المؤلم ناراً متأججة ألانت النفس، فأظهر القرآن الكريم لها فيض الحقائق الإيمانية بجلاء ووضوح تام من خلال حقيقة تلك الآية المذكورة حتى جعلها تقبل وترضخ».

وهجرتُ السياسة

«وقد مرت عليَّ حادثة جديرة بالملاحظة:

رأيت ذات يوم رجلاً عليه سيماء العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الأمر إلى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول أمور سياسية، بينما رأيته قد أثنى -في الوقت نفسه- على منافق يوافقه في الرأي السياسي!. فأصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت بالله مما آلت إليه السياسة وقلت: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة».

ومنذئذٍ انسحبت من ميدان الحياة السياسية.

« سؤال: لِمَ لا تهتم إلى هذا الحد بمجريات السياسة العالمية الحاضرة.. نراك لا تغيّر من طورِكَ أصلاً أمام الحوادث الجارية على صفحات العالم. أفترتاح إليها أم أنك تخاف خوفاً يدفعك إلى السكوت؟

الجواب: إن خدمة القرآن الكريم هي التي منعتني بشدة عن عالم السياسة بل أنستني حتى التفكر فيها. وإلّا فإن تأريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما أراه حقاً. ثم ممَّ يكون خوفي؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل، إذ ليس لي أهل وأولاد أفكر فيهم، ولا أموال أفكر فيها، ولا أفكر في شرف الأصالة والحسب والنسب. ورحم الله من أعان على القضاء على السمعة الاجتماعية التي هي الرياء والشهرة الكاذبة، فضلاً عن الحفاظ عليها..

فلم يبق إلّا أجلي، وذلك بيد الخالق الجليل وحده. ومن يجرؤ أن يتعرض له قبل أوانه. فنحن نفضل أصلاً موتاً عزيزاً على حياة ذليلة.

ولقد قال أحدهم مثل سعيد القديم؛

 ونحن أُناسٌ لا تَوَسّطَ بَيْننا  لنا الصَدْرُ دونَ العالَمينَ أو القبرُ

إنما هي خدمة القرآن تمنعني عن التفكر في الحياة الاجتماعية السياسية، وذلك أن الحياة البشرية ما هي إلّا كركب وقافلة تمضي، ولقد رأيت بنور القرآن الكريم في هذا الزمان أن طريق تلك القافلة الماضية أدت بهم إلى مستنقع آسن، فالبشرية تتعثر في سيرها فهي لا تكاد تقوم حتى تقع في أوحال ملوثة منتنة.

ولكن قسماً منها يمضي في طريق آمنة.

وقسم آخر قد وجد بعض الوسائل لتنجيه -قدر المستطاع- من الوحل والمستنقع.

وقسم آخر وهم الأغلبية يمضون وسط ظلام دامس في ذلك المستنقع الموحل المتسخ.

فالعشرون من المائة من هؤلاء يلطخون وجوههم وأعينهم بذلك الوحل القذر ظناً منهم أنه المسك والعنبر، بسبب سُكرهم. فتارة يقومون وأخرى يقعون وهكذا يمضون حتى يغرقوا.

أما الثمانون من المائة، فهم يعلمون حقيقة المستنقع ويتحسسون عفونته وقذارته إلّا أنهم حائرون، إذ يعجزون عن رؤية الطريق الآمنة.

وهكذا فهناك علاجان اثنان إزاء هؤلاء:

أولهما: إيقاظ العشرين منهم المخمورين بالمطرقة.

وثانيها: إراءة طريق الأمان والخلاص للحائرين بإظهار نور لهم -أي بالإرشاد-.

فالذي أراه أن ثمانين رجلاً يمسكون بالمطرقة بأيديهم تجاه العشرين بينما يظل أولئك الثمانون الحائرون البائسون دون أن يُبصروا النور الحق، وحتى لو أبصروا فإن هؤلاء لكونهم يحملون في أيديهم عصا ونوراً معاً فلا يوثق بهم. فيحاور الحائر نفسه في قلق واضطراب: تُرى أيريد هذا أن يستدرجني بالنور ليضربني بالمطرقة؟. ثم حينما تتحطم المطرقة بالعوارض أحياناً، يذهب ذلك النور أيضاً أدراج الرياح أو ينطفئ.

وهكذا، فذلك المستنقع هو الحياة الاجتماعية البشرية العابثة الملوثة الغافلة الملطخة بالضلالة.

وأولئك المخمورون هم المتمردون الذين يتلذذون بالضلالة.

وأولئك الحائرون هم الذين يشمئزون من الضلالة ولكنهم لا يستطيعون الخروج منها، فهم يريدون الخلاص ولكنهم لا يهتدون سبيلاً.. فهم حائرون.

أما تلك المطارق فهي التيارات السياسية، وأما تلك الأنوار فهي حقائق القرآن فالنور لا تثار حياله الضجة ولا يقابل بالعداء قطعاً، ولا ينفر منه إلّا الشيطان الرجيم.

ولذلك، قلت: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة» لكي أحافظ على نور القرآن. واعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقياً مطرقة السياسة جانباً.

ورأيت أن في جميع التيارات السياسية -سواءً الموافقة منها أو المخالفة- عشاقاً لذلك النور.

فالدرس القرآني الذي يُلقى من موضع طاهر زكي مبرأ من موحيات أفكار التيارات السياسية والانحيازات المغرضة جميعها، ويُرشد إليه من مقام أرفع وأسمى منها جميعاً، لا ينبغي أن تحجم عنه جهة، ولا يكون موضع شبهة فئة، مهما كانت. اللهم إلّا أولئك الذين يظنون الكفر والزندقة سياسة فينحازون إليها. وهؤلاء هم شياطين في صورة أناسي أو حيوانات في أجساد بشر.

وحمداً لله فإنني بسبب تجردي عن التيارات السياسية لم أبخس قيمة حقائق القرآن التي هي أثمن من الألماس ولم أجعلها بتفاهة قطع زجاجية بتهمة الدعاية السياسية. بل تزيد قيمة تلك الجواهر القرآنية على مرّ الأيام وتتألق أكثر أمام أنظار كل طائفة».

« سؤال: لِمَ يتجنب سعيد الجديد تجنباً شديداً و إلى هذا الحد من السياسة؟

الجواب: لئلا يضحّي بسعيه وفوزه لأكثر من مليارات من السنين لحياة خالدة، من جراء تدخل فضولي لا يستغرق سنة أو سنتين من حياة دنيوية مشكوك فيها. ثم إنه يفر فراراً شديداً من السياسة، خدمةً للقرآن والإيمان والتي هي أجلّ خدمة وألزمها وأخلصها وأحقّها. لأنه يقول:

إنني أتقدم في الشيب، ولا علم لي كم سأعيش بعد هذا العمر. لذا فالأولى لي العمل لحياة أبدية. وهذا هو الألزم. وحيث إن الإيمان وسيلة الفوز بالحياة الأبدية ومفتاح السعادة الخالدة، فينبغي إذاً السعي لأجله. بيد أني عالم ديني، مكلف شرعاً بإفادة الناس، لذا أريد أن أخدمهم من هذه الناحية أيضاً. إلّا أن هذه الخدمة تعود بالنفع إلى الحياة الاجتماعية والدنيوية، وهذه ما لا أقدر عليها، فضلاً عن أنه يتعذر القيام بعمل سليم صحيح في زمن عاصف، لذا تخليت عن هذه الجهة وفضّلت عليها العمل في خدمة الإيمان التي هي أهم خدمة وألزمها وأسلمها. وقد تركت الباب مفتوحاً ليصل إلى الآخرين ما كسبته لنفسي من حقائق الإيمان وما جربته في نفسي من أدوية معنوية، لعلّ الله يقبل هذه الخدمة ويجعلها كفّارة لذنوب سابقة.

وليس لأحد سوى الشيطان الرجيم أن يعترض على هذه الخدمة، سواءً كان مؤمناً أو كافراً أو صدّيقاً أو زنديقاً، لأن عدم الإيمان لا يشبهه أمر، فلربما توجد لذة شيطانية منحوسة في ارتكاب الظلم والفسق والكبائر إلّا أن عدم الإيمان لا لذة فيه إطلاقاً، بل هو ألم في ألم، وعذاب في عذاب، وظلمات بعضها فوق بعض.

وهكذا فإن ترك السعي لحياة أبدية، وترك العمل لنور الإيمان المقدس، والدخول في ألاعيب السياسة الخطرة وغير الضرورية، في زمن الشيخوخة إنما هو خلاف للعقل ومجانبة للحكمة لشخص مثلي لا صلة له مع أحد، ويعيش منفرداً، ومضطراً إلى التحري عن كفارات لذنوبه السابقة، بل يعدّ ذلك جنوناً وبلاهة، بل حتى البلهاء يفهمون ذلك.

أما إن قلت: كيف تمنعك خدمة القرآن والإيمان عن السياسة؟

فأقول: إن الحقائق الإيمانية والقرآنية ثمينة غالية كغلاء جواهر الألماس، فلو انشغلت بالسياسة، لخطر بفكر العوام: أيريد هذا أن يجعلنا منحازين إلى جهة سياسية؟ أليس الذي يدعو إليه دعاية سياسية لجلب الأتباع؟ بمعنى أنهم ينظرون إلى تلك الجواهر النفيسة أنها قطع زجاجية تافهة، وحينها أكون قد ظلمت تلك الحقائق النفيسة، وبخست قيمتها الثمينة، بتدخلي في السياسة.

فيا أهل الدنيا! لِمَ لا تَدَعونَني وشأني، وتضايقونني بطرق شتى؟»

« قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟.

الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب عشر السنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها، فذهبت محاولته أدراج الرياح، إذ رأى أن تلك الطريق ذات مشاكل، ومشكوك فيها، وأن التدخل فيها فضول -بالنسبة إليّ- فهي تحول بيني وبين القيام بأهم واجب، وهي ذات خطورة، وأن أغلبها خداع وأكاذيب. وهناك احتمال أن يكون الشخص آلة بيد الأجنبي دون أن يشعر. وكذا فالذي يخوض غمار السياسة إما أن يكون موافقاً لسياسة الدولة أو معارضاً لها، فإن كنت موافقاً فالتدخل فيها بالنسبة إليّ فضول ولا يعنيني بشيء، حيث إنني لست موظفاً في الدولة ولا نائباً في برلمانها، فلا معنى -عندئذٍ- لممارستي الأمور السياسية وهم ليسوا بحاجة إليّ لأتدخل فيها، وإذا دخلت ضمن المعارضة أو السياسة المخالفة للدولة، فلا بد أن أتدخل إما عن طريق الفكر أو عن طريق القوة؛ فإن كان التدخل فكرياً فليس هناك حاجة إليّ أيضاً، لأن الأمور واضحة جداً، والجميع يعرفون المسائل مثلي، فلا داعي إلى الثرثرة. وإن كان التدخل بالقوة، أي بأن أُظهر المعارضة بإحداث المشاكل لأجل الوصول إلى هدف مشكوك فيه، فهناك احتمال الولوج في آلاف من الآثام والأوزار، حيث يُبتَلى الكثيرون بجريرة شخص واحد. فلا يرضى وجداني الولوج في الآثام وإلقاء الأبرياء فيها بناء على احتمال أو احتمالين من بين عشرة احتمالات، لأجل هذا فقد ترك سعيد القديم السياسة ومجالسها الدنيوية وقراءة الجرائد مع تركه السيجارة».

سنة 1925م/1342 هـ

اعتقال ونفي

«عندما كنت منشغلا بإلقاء دروس في حقائق القرآن على طلابي في مدينة «وان» كانت حوادث «الشيخ سعيد» ([1]) تقلق بال المسؤولين في الدولة. وعلى الرغم من ارتيابهم من كل شخص، لم يمسوني بسوء، ولم يجدوا عليَّ حجة مادمت مستمراً في خدمة القرآن. ولكن ما إن قلت في نفسي: «ما لي وللآخرين!» وفكرت في نفسي فحسب، وانسحبت إلى جبل أرك لأنزوي في مغاراته الخربة، وأنجو بنفسي في الآخرة، إذا بهم يأخذونني من تلك المغارة  وينفونني من ولاية شرقية إلى أخرى غربية، إلى بوردور».

فبينما كان يقضي حياته في تلك المغارة في معتكفه على جبل أرك إذا بالثورة تندلع في الولايات الشرقية، فطلب منه قائد الثورة الشيخ سعيد استغلال نفوذه لإمداد الثورة إلا أنه رفض المشاركة وكتب رسالة إليه جاء فيها:

«إن ما تقومون به من ثورة تدفع الأخ لقتل أخيه ولا تحقق أية نتيجة، فالأمة التركية قد رفعت راية الإسلام وضحّت في سبيل دينها مئات الألوف بل الملايين من الشهداء فضلاً عن تربيتها ملايين الأولياء، لذا لا يستل السيف على أحفاد الأمة البطلة المضحية للإسلام، الأمة التركية وأنا أيضاً لا أستله عليهم».

[وعلى الرغم من الموقف الواضح للأستاذ النُّورْسِيّ من الثورة اعتقلته الحكومة مع رؤساء العشائر والمشايخ وأصحاب النفوذ في الولايات الشرقية، حتى وإن لم يكن لهم أي ضلع أو أي دور في هذه الحركة ونفتهم إلى غربي الأناضول]..

ومع هذا داهمت المفرزة العسكرية المغارة التي كان الأستاذ بديع الزمان منـزوياً فيها للعبادة، وأظهر قائدها تصرفاً قاسياً وخشناً تجاه الأستاذ، وكان رد فعل الأستاذ رداً قوياً وشجاعاً، وتكهرب الجو فجأة. وسرعان ما أخذوه معهم. وبعد أن مشوا مدة أقتربَ منهم بعض طلاب الأستاذ وبعض الأهلين وتحدثوا معه باللغة المحلية «بالكردية». وتوسلوا إليه ألّا يذهب مع الجندرمة مبدين استعدادهم لتهريبه إلى مكان آخر، أو إلى أي بلد إسلامي آخر، ولكنه لم يقبل وقال لهم إنه يذهب مع المفرزة بكامل رغبته، وأن الجنود هم بمثابة طلابه، ونصحهم بالرجوع إلى بيوتهم بسكون ولا داعي إلى القلق.  وهكذا حال دون حدوث مجابهة بين الأهالي والحكومة تراق فيها الدماء بسببه.

خاطرة في إسطنبول

«حينما أتيت إسطنبول منفياً، وقد كنت ذا علاقة مع دار الحكمة الإسلامية التابعة لديوان المشيخة الإسلامية حيث عملت فيها لخدمة القرآن، سألت: ما وضع المشيخة الإسلامية؟

ولكن وا مصيبتاه! فقد تلقيت جواباً ارتعدت روحي وقلبي وفكري منه وبكت بكاءً مراً، إذ أصبحت تلك الدائرة التي استنارت بأنوار الشريعة بمئات السنين، إعدادية البنات وموضع اللهو واللعب، وعندها غشيتني حالة روحية محزنة كأن الدنيا هدّمت على رأسي، فما حيلتي فلا حول لي ولا قوة ولا كرامة لي ولا ولاية لأدفع المصيبة، فتوجهت يائساً من كل شيء إلى أعتاب الألوهية أُطلقُ الآهات والزفرات. والتحقتْ بها آهاتُ وحسرات مَن احترقت أفئدتهم مثلي. ولا أتذكر هل استمددت لدعواتنا دعاء الشيخ الكيلاني وهمته أم لا؟ ولا جرم أن دعاءه وهمته هي التي ألهبت آهاتنا وأشعلتها فأحترق تلك الليلة  قسم من المشيخة التي كانت مقراً للأنوار منذ القدم إنقاذاً لها من الظلمات.

فتأسف الجميع إلّا أنا ومن مثلي ممن احترق فؤاده، حمدنا الله تعالى».

[ثم غادر إسطنبول بالباخرة التي مرت بإزمير فأنطاليا، ومن هناك أُخذ إلى بوردور]

 سنة 1926م/1343هـ

نفي إلى «بُورْدُورْ»

«كان المسؤولون في هذه المدينة يراقبون المنفيين مراقبة شديدة، وكان على المنفيين إثبات وجودهم بحضورهم مساء كل يوم لدى الشرطة إلا أنني وطلابي المخلصين استُـثْنِينَا من هذا الأمر ما دمت قائماً بخدمة القرآن، فلم أذهب لإثبات الحضور ولم أعرف أحداً من المسؤولين هناك. حتى إن الوالي شكا من عملنا هذا لدى «فوزي باشا»  عند قدومه إلى المدينة، فأوصاه: «احترموه! لا تتعرضوا له!». إن الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامة العمل القرآني ليس إلّا».

«وقبل تسع سنوات عندما أصرّ عليّ قسم من رؤساء العشائر المنفيين معي إلى «بوردور» على قبول زكاتهم كي يحولوا بيني وبين وقوعي في الذل والحاجة لقلة ما كان عندي من النقود، فقلت لأولئك الرؤساء الأثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً إلّا أنني أملك الاقتصاد، وقد تعودت على القناعة، فأنا أغنى منكم بكثير. فرفضتُ تكليفهم المتكرر الملح.. ومن الجدير بالملاحظة أن قسماً من أولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الدَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، إلّا أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني -ولله الحمد- ببركة الاقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم يُرق مني ماء الوجه، ولم يدفعني لعرض حاجتي إلى الناس، ولم يفسد عليّ ما اتخذته دستوراً لحياتي وهو «الاستغناء عن الناس»».

[ويظل في هذه المدينة سبعة أشهر، ويؤلف في هذه الفترة رسالة «المدخل إلى النور» يذكر في مقدمتها:]

إن هذه الرسالة مناظرة بين سعيد القديم وسعيد الجديد، تضم بين دفتيها ثلاثة عشر درساً من الحقائق الإيمانية التي هي بمرتبة الشهود المسكتة للنفس الأمارة، فهي أقرب إلى علم اليقين، نبعت مباشرة من القرآن المعجز البيان. هذا وإن المخاطب في جميع تلك الدروس سعيد الجديد…

إلى «إسبارطة»

يقول الأستاذ: «حينما استولت عليَّ الرغبة في إنقاذ نفسي وإصلاح آخرتي، وفترتُ عن العمل للقرآن -مؤقتاً- جاءتني العقوبة بخلاف ما كنت أقصده وأتوقعه، أي نُفيتُ من «بوردور» إلى منفى آخر.. إلى إسبارطة.

جئت إلى مدينة مباركة -قبل تسع سنوات- كان الموسم شتاءً فلم أتمكن من رؤية منابع الثروة وجوانب الإنتاج في تلك المدينة، قال لي مُفتيها رحمه الله: إن أهالينا فقراء مساكين. أعاد قوله هذا مراراً. أثّر فيّ هذا القول تأثيراً بالغاً مما أجاش عطفي، فبت أسترحم وأتألم لأهالي تلك المدينة فيما يقرب من ست سنوات. وبعد ثماني سنوات عدتُ إليها وهي في أجواء الصيف، وأجلت نظري في بساتينها فتذكرت قول المفتي رحمه الله فقلت متعجباً: «سبحان الله! إن محاصيل هذه البساتين وغلالها تفوق حاجة المدينة بأسرها كثيراً، وكان حرياً بأهاليها أن يكونوا أثرياء جداً! بقيت في حيرة من هذا الأمر.. ولكن أدركت بحقيقة لم تخدعني عنها المظاهر، فهي حقيقة أسترشد بها في إدراك الحقائق، وهي: أن البركة قد رفعت من هذه المدينة بسبب الإسراف وعدم الاقتصاد. مما حدا بالمفتي رحمه الله إلى القول: إن أهالينا فقراء ومساكين، برغم هذا القدر الواسع من منابع الثروة وكنوز الموارد.

نعم، إنه ثابت بالتجربة وبالرجوع إلى وقائع لا تحد بأن دفعَ الزكاة، والأخذ بالاقتصاد سببان للبركة والاستزادة. بينما الإسراف ومنع الزكاة يرفعان البركة.

توليت هناك العمل للقرآن العظيم كذلك.. ولكن بعد مرور عشرين يوماً على الخدمة القرآنية كثرت عليَّ التنبيهات من بعض المتخوفين، حيث قالوا: ربما لا يحبذ مسؤولو هذه البلدة عملك هذا! فهلَّا أخذت الأمر بالتأني والتريث؟!.. سيطر عليَّ الاهتمام بخاصة نفسي وبمصيري فحسب، فأوصيت الأصدقاء بترك مقابلتي وانسحبت من ميدان العمل.. وجاء النفي مرة أخرى.. فنفيت إلى منفى ثالث.. إلى «بارلا».


[1]  يذكر الملا حميد الذي لازم الأستاذ النورسي في «وان» وجبل «أرَك» هذا الحوار ذا المغزى العميق الذي جرى بين الأستاذ النورسي وحسين باشا وهو شيخ عشيرة «حيدران» عيّنه السلطان عبد الحميد الثاني برتبة ميرآلاي إبان إنشاء القوات الحميدية في شرقي الأناضول. وأحرز انتصارات باهرة على القوات الروسية والأرمنية وكبّدهم خسائر فادحة، فرفعته حكومة الاتحاد والترقي والسلطان رشاد إلى رتبة أمير اللواء، وقد ساعد على إنشاء مدارس في شرقي البلاد قبل الحرب العالمية، اشتهر بعدالته وتوقيره العلماء، وعقد مع الأستاذ النورسي عقد أخوة أخروية، وعلى الرغم من عدم تدخله في ثورة الشيخ سعيد پيران نفي مع غيرهم إلى قيصري ولكنه لم يتحمل حياة المنفى فهرب إلى سورية بعد سنتين وظل فيها سنة حتى جاءه المدعو «مدني» وأقنعه بالعودة إلى البلاد مدعياً أن الحكومة أصدرت قراراً بالعفو العام عن المنفيين. ولدى العودة مع إبنيه وفي أثناء أدائهم الصلاة أرداهم قتيلاً. رحمهم الله.

       يقول الملا حميد: «كنا مع الأستاذ في جبل أرك في صومعة خربة.. وذات يوم أتى حسين باشا مع اثنين من مرافقيه لزيارة الأستاذ، وبعد أن ربطوا أفراسهم بالأشجار الموجودة في باب الصومعة الخربة دخلوا على الأستاذ وجثوا أمامه في أدب جمّ وقبلوا يده. كان حسين باشا طويل القامة مهيب الهيئة متقلداً شارات وميداليات خاصة بالباشوات في ذلك الوقت. أخرج منديلاً فيه ما يقدر بنصف كيلو من الذهب ووضعه في موضع في الأرض. فسأله الأستاذ: «وما ذلك؟»

       قال: «فداك روحي، إنها زكاتي جئت بها إليكم، أخرجتها من خالص أموالي!»

       الأستاذ: «ألم تجد أحداً ممن حولك، من أقربائك، من قريتك، حتى أتيت بها إلى هاهنا؟»

       حسين باشا: «سيدي إن أقاربي ومن حولي كلهم أغنياء، لا فقير فيهم، فرأيت أنكم مستحقوها».

       الأستاذ: «لا يجوز نقل الزكاة. فلِمَ أتيت بها وتجاوزت كثيراً من القرى والأرياف!»

       حسين باشا: «يا سيدي! أرجو أن تقبل بضع قطع منها في الأقل وأنفقها على من معك من الطلاب».

       الأستاذ: «كلا لا يمكن هذا.. لا حاجة لي إلى الزكاة»..

       وهكذا ردّها ولم يقبلها وبعد قليل خاطبه حسين باشا قائلاً: «سيدي أودّ أن أستشيركم في أمر خاص، أرجو أن تأذن لطلابك بالخروج. لأني أريد أن أتحدث معكم حديثاً خاصاً».

       الأستاذ: «لا يمكن.. فهؤلاء، جزءٌ من كياني، لا يفارقونني. أوضح ما عندك».

       حسين باشا: «سيدي أرجو أن تأذن لنا بالثورة (مع الشيخ سعيد) فنحن مستعدون».

       الأستاذ: «لِمَ تقومون بالثورة؟ إن كان لزيد وعمرو ذنب فما ذنب غيرهما.. بل ستراق دماء المسلمين».

       حسين باشا: «لقد أهلكَنا الروس وقتلونا وأبادوا أموالنا وذرارينا، بينما ظل شرفنا مصاناً دون أن يمسّه أحد بسوء. ولكن الآن أصبح ديننا مهدداً وشرفنا معرضاً للهتك. فائذن لنا بالعصيان، فجنودنا المشاة والفرسان على أهبة الاستعداد».

       وبعد أن أوضح حسين باشا الأمر والحوادث المؤلمة، والأستاذ مطرق ومستغرق في التفكير، رفع الأستاذ رأسه وقال بكل لطف ولين: أيها الباشا تعال لنستشر ديوان أحمد الجزري ونفتحه متفائلين به. أتقبل ما يقوله الجزري؟

       الباشا: «نعم!»

       فاخرج الأستاذ الديوان من جيبه وفتحه متفائلاً به وإذا بهذا البيت أمامهم:

       هن زي ببف دَيري فه تين، قصدا كنيشتي هن دكن    نه ي زي فانم نه ي زي وانم من دَرَي خمار بس

       ويعني: منهم من يرجع من طريق الكنيسة ويدخل الإسلام ومنهم من يعود إلى معبد اليهود فيتهود، أما أنا فلست = من هؤلاء ولا من هؤلاء..

       قال الأستاذ: «أرأيت يا باشا. فأنا الآن لست منكم ولا منهم».

       حسين باشا: «يا أستاذ لقد أوهنت عزيمتي وأضعفت همتي. فلو عدت إلى عشيرتي سيقولون، جبن الباشا فتخلى عن العصيان».

       قال الأستاذ: «نعم، وليقولوا: جبن وخاف ولا يقولوا أراق الدم».

       وعندما ودّع الباشا الأستاذ كرّر عليه الأستاذ ثلاث مرات: لا ترق الدم يا باشا.. لا ترق الدم.. لا ترق الدم..

       وعاد حسين باشا إلى عشيرته وفرّق قواته، لذا لم تحدث أية حادثة في منطقة «وان».( ب) 1 ص 557.

الفصل الثاني في أنقرة

الفصل الثاني

في أنقرة

سنة 1922م/1340هـ

الدعوة إلى أنقرة

«حينما تبدلت نشوة «سعيد القديم» وابتساماته إلى نحيب «سعيد الجديد» وبكائه، وذلك في بداية المشيب، دعاني أرباب الدنيا في «أنقرة» إليها، ظناً منهم أنني «سعيد القديم» فاستجبت للدعوة. حيث أرسل مصطفى كمال رسالتين برقيتين بالشفرة إلى صديقي تحسين بك الذي كان سابقاً والياً على مدينة «وان» يستدعيني إلى «أنقرة» لكي يكافئني على قيامي بنشر رسالة «الخطوات الست» فذهبت إليها،  سنة 1338(1922م) وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلّا أنني أبصرتُ -خلال موجة الفرح هذه- زندقة رهيبة تدب بخبث ومكر، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من أعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسُورِ هذه الآية الكريمة  من هذا الغول الرهيب الذي يريد أن يتعرض لأركان الإيمان، فكتبت برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وأفكارها من نور هذه الآية الكريمة لإثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة «يَنِي كُون» في أنقرة.. إلّا أنني لم ألمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها إلى أذهان الناس. وسبب ذلك كونه مختصراً ومجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة المهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت أوهام ذلك الإلحاد واستشرت في صفوف الناس مع الأسف الشديد…

«أجل، إن الهدف الذي كان يصبو إليه بديع الزمان منذ نعومة أظفاره والأمل الذي كان يحدوه وهو في طريقه إلى أنقرة هو حصول صحوة إسلامية تعم العالم الإسلامي، هذه الروح العظيمة توضحت في مباحثاته مع مئات العلماء في شرقي الأناضول قبل مجيئه إلى إسطنبول بل توضحت أكثر عند قدومه إليها حتى حيّر السياسيين. ولم تغادره هذه المسؤولية الجسيمة والمهمة الثقيلة والشوق الدائم قط. فكان يأمل أن يكون الإعلان عن الحرية والمشروطية في خدمة الشريعة الغراء، ويكون ذلك تباشير سعادة الأناضول والعالم الإسلامي قاطبة، حتى إنه ألقى الخطب في ضوء ذلك الأمل وكتب المقالات بغية تحقيقه، وظهر ذلك أيضاً في مؤلفاته ولاسيما في «سنوحات، لمعات وغيرها» مما ألفه في تلك المرحلة. وكان لا يتواني من التصريح أن أعظم صوت مدوٍ في المستقبل هو صوت القرآن العظيم.

ولكن سقوط الدولة العثمانية التي أخذت على كاهلها خدمة الإسلام بعد العباسيين، وطوال ما يقرب من ألف سنة هزّ العالم الإسلامي هزاً عنيفاً. فأصبح أعداء الإسلام الألداء مستولين على مركز الخلافة وبدؤوا باجتثاث جذور الإسلام من الأعماق. إلّا أن القدرة الإلهية تجلت بإحسانه سبحانه وتعالى على بديع الزمان ليحمل الراية في مثل هذه الظروف الحالكة الحرجة». «فأتى أنقرة أملاً من أن يحظى بشيء لصالح الإسلام من المسؤولين فيها وليقدم معاونته لهم، إذ كما كانت حرب التحرير حرباً إيمانية لطرد الأعداء إلى خارج البلاد بعون الهي كان يأمل أن تستند الحكومة الجديدة إلى القرآن مباشرة في دفع عجلة الأمور في البلاد وتجعل وحدة العالم الإسـلامي مرتكزاً لها وتظهر الحضارة الإسلامية الكامنة في حقيقة الإسلام بأجلى مظاهرها مادةً ومعنىً» ولكن «عندما وصل أنقرة واستقبل استقبالاً حافلا من قبل المسؤولين -من نواب ووزراء- والأهلين، شاهد ما لم يأمله، حيث لمس عدم الاهتمام بالدين في البرلمان وعدم اكتراثهم بالشعائر الإسلامية، فدعاهم ببيانٍ إلى ضرورة العبادة ولاسـيما الصلاة ووزع البيان على أعضاء المجلس وقرأه على مصطفى كمال الجنرال كاظم قره بكر».

«كان من تأثير هذا البيان أن استقام على إقامة الصلاة ستون نائباً، حتى إن الغرفة التي كانوا يؤدون فيها الصلاة لم تعد تسعهم فاتخذوا غرفة أوسع منها لإقامة الصلاة».

[وفيما يلي نص البيان]:

خطاب إلى مجلس الأمة

بسمِ الله الرّحمنِ الرّحِيمِ

﴿اِنَّ الصَّلٰوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِن۪ينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ (النساء:103)

يا أيها المبعوثون! إنكم لمبعوثون ليوم عظيم.

أيها المجاهدون! ويا أهل الحل والعقد!

أرجو أن تعيروا سمعاً إلى مسألة يُسديها إليكم هذا الفقير إلى الله في بضع نصائح وفي عشر كلمات:

أولاً: إن النعمة الإلهية العظمى في انتصاركم هذا تستوجب الشكر، لتستمر وتزيد، إذ إن لم تُستقبل النعمة بالشكر تزول وتنقطع. فمادمتم قد أنقذتم القرآن الكريم من إغارة العدو -بفضل الله تعالى- فعليكم إذن الامتثال بأمره الصريح وهو الصلاة المكتوبة، كي يظل عليكم فيضهُ وتدوم أنواره بمثل هذه الصورة الخارقة.

ثانياً: لقد أبهجتم العالم الإسلامي بهذا الانتصار، وكسبتم ودّهم وإقبالهم عليكم، ولكن هذا الودّ والتوجّه نحوكم إنما يدومان بالتزام الشعائر الإسلامية؛ إذ يحبكم المسلمون ويودّونكم لأجل الإسلام.

ثالثاً: لقد توليتم قيادة مجاهدين وشهداء في هذا العالم وهم بمثابة أولياء صالحين، فمن شأن أمثالكم من الغيارى السعيُ والجدّ لامتثال أوامر القرآن الكريم لنيل صحبة أولئك النورانيين، والتشرف برفقتهم في ذلك العالم. وإلّا فستضطرون إلى التماس العون والمدد من أبسط جندي هناك، في حين أنتم قادة هنا. فهذه الدنيا بما فيها من شهرة وشرف لا تستحق أن تكون متاعاً ترضي كراماً أمثالكم، ولا تكون لكم غاية المنى ومبلغ العلم.

رابعاً: إن هذه الأمة الإسلامية مع أن قسماً منهم لا يؤدون الصلاة، إلّا أنهم يتطلعون أن يكون رؤساؤهم صالحين أتقياء حتى لو كانوا هم فسقة. بل إن أول ما يبادر أهل كردستان -الولايات الشرقية- مسؤوليهم هو سؤالهم عن صلاتهم؛ فإن كانوا مقيمين لها، فبها ونِعمَت ويثقون بهم، وإلّا فسيظل الموظف المسؤول موضع شك وارتياب رغم كونه مقتدراً في أداء واجباته. ولقد حدثتْ في حينه اضطرابات في عشائر «بيت الشباب» فذهبتُ لأستقصي أسبابها، فقالوا: إن كان مسؤولنا «القائمقام» لا يقيم الصلاة ويشرب الخمر، فكيف نطيع أوامر أمثال هؤلاء المارقين من الدين؟ هذا علماً أن الذين قالوا هذا الكلام هم أنفسهم كانوا لا يؤدون الصلاة، بل كانوا قطاع طرق!.

خامساً: إن ظهور أكثر الأنبياء في الشرق وأغلب الفلاسفة في الغرب رمزٌ للقدر الإلهي بأن الذي يستنهض الشرق ويقوّمه إنما هو الدين والقلب، وليس العقل والفلسفة.. فمادمتم قد أيقظتم الشرق ونبهتموه، فامنحوه نهجاً ينسجم مع فطرته. وإلّا فستذهب مساعيكم هباءً منثوراً، أو تظل سطحية موقتة.

سادساً: إن خصومكم وأعداء الإسلام الإفرنج -ولاسيما الإنكليز- قد استغلوا ولا يزالون يستغلون إهمالكم أمور الدين، حتى أستطيعُ أن أقول: إن الذين يستغلون تهاونكم هذا يضرون بالإسلام بمثل ما يضرّ به أعداؤكم فينبغي لكم باسم مصلحة الإسلام وسلامة الأمة تحويل هذا الإهمال إلى أعمال. ولقد تبيّن لكم كيف لاقى زعماء الاتحاد والترقي نفوراً وازدراءً من الأمة في الداخل رغم ما بذلوه من تضحية وفداء وعزم وإقدام حتى كانوا سبباً -إلى حدٍ ما- في هذه اليقظة الإسلامية، وذلك لعدم اكتراث قسم منهم بالدين وبشعائره، بينما المسلمون في الخارج قد منحوهم التقدير والاحترام لعدم رؤيتهم تهاونهم وإهمالهم في الدين.

سابعاً: على الرغم من تمكن عالم الكفر في الإغارة على العالم الإسلامي منذ مدة مديدة فإنه لم يتغلب عليه دينياً مع جميع إمكاناته وقدراته ووسائله الحضارية وفلسفته وعلمه ومبشريّه. فبقيت الفِرَق الضالة جميعها -في الداخل- أقلية محكومة. لذا ففي الوقت الذي حافظ الإسلام على صلابته ومتانته بأهل السنة والجماعة لن يتمكن تيار بدعي مترشح من الجانب الخبيث للحضارة الأوروبية، أن يجد سبيلاً إلى صدر العالم الإسلامي. أي إن القيام بحركة انقلابية جوهرية لا يمكن أن تحدث إلّا بالانقياد لدساتير الإسلام، وإلّا فلا. علماً أنه لم يحدث مثل هذه الحركة في السابق، ولو كانت قد حدثت فلقد تلاشت سريعاً وأفَلَت.

ثامناً: ليس بالإمكان القيام بعمل إيجابي بنّاء مع التهاون في الدين، حيث اقتربت الحضارة القرآنية من الظهور وأوشكت الحضارة الأوروبية الضالة المسؤولة عن ضعف الدين على التمزق والانهيار. أما القيام بعمل سلبي فليس الإسلام بحاجة إليه، كفاه ما تعرض له من جروح ومصائب.

تاسعاً: إن الذين يولونكم الحب قلباً وروحاً، ويثمنون خدماتكم وانتصاراتكم في حرب الاستقلال هذه، هم جمهور المؤمنين، وبخاصة طبقة العوام، وهم المسلمون الصادقون. فهم يحبونكم بجد، ويعتزون بكم بصدق، ويساندونكم بإخلاص، ويقدّرون تضحياتكم، ويمدّونكم بأضخم ما تنبه لديهم من قوة. وأنتم بدوركم ينبغي لكم الاتصال بهم والاستناد إليهم اتباعاً لأوامر القرآن الكريم ولأجل مصلحة الإسلام، وإلّا فإن تفضيل المتجردين من الإسلام والمبتوتي الصلة بالأمة من مقلدي أوروبا المعجبين بها، وترجيحهم على عامة المسلمين منافٍ كلياً لمصلحة الإسلام؛ وسيولي العالم الإسلامي وجهه إلى جهة أخرى طلباً للمساعدة والعون.

عاشراً: إن كان في طريقٍ تسعة احتمالات للهلاك، واحتمال واحد فقط للنجاة، فلا يسلكها إلّا مجنون طائش لا يبالي بحياته.. ففي أداء الفرائض الدينية نجاة بتسع وتسعين بالمائة، علما أنه لا يستغرق -هذا الأداء- إلّا ساعة واحدة في اليوم، مقابل ما قد يمكن أن يكون احتمال ضرر واحد فقط يصيب الدنيا ومن حيث الغفلة والكسل. بينما إهمال الفرائض وتركها فيه احتمال تسع وتسعين بالمائة من الضرر مقابل واحد بالمائة من احتمال النجاة من حيث الغفلة والضلالة.. فيا ترى أي مسوّغٍ وأيّ مبرر يمكن ابتداعه في ترك الفرائض الذي يصيب ضرره الدين والدنيا معاً؟ وكيف تسمح حميّة الفرد ونخوته بذلك التهاون؟

إن تصرفات هذه القافلة المجاهدة من أعضاء هذا المجلس العالي بالغة الأهمية، إذ إنها سوف تُقلّد.. فالأمة إما أنها تقلّد أخطاءهم أو تنتقدها، وكلاهما مليء بالأضرار والأخطار. لذا فإن تمسكهم بحقوق الله وتوجههم لأداء الفرائض يتضمن حقوق العباد أيضاً.

إن عملاً جاداً لا ينجز مع أولئك الذين يرضون بأوهام براقة نابعة من سفسطة النفس ووسوسة الشيطان ويصمّون آذانهم عن البلاغ المبين والبراهين الساطعة بالتواتر والإجماع.. ألا إن الحجر الأساس لهذا الانقلاب العظيم يجب أن يكون متيناً صلداً.

إن الشخصية المعنوية لهذا المجلس العالي قد تعهدت معنى «السلطنة» بما تتمتع به من قوة، فإن لم يتعهد -هذا البرلمان- معنى «الخلافة» وكالةً أيضاً ولم يقم بامتثال الشعائر الإسلامية ولم يأمر الآخرين بالقيام بها، أي إذا أخفق في تقديم «معنى الخلافة» ولم يستوف حاجة الأمة الدينية -هذه الأمة التي لم تفسد فطرتها والمحتاجة إلى الدين أكثر من حاجتها لوسائل العيش- والتي لم تَنس حاجتها الروحية تحت كل ضغوط المدنية الحاضرة ولهوها، فإنها تضطر إلى منح معنى الخلافة إلى ما ارتضيتموه -تماماً- من اسم ولفظ. فتمنح له القوة والإسناد أيضاً لإدامة ذلك المعنى. والحال أن مثل هذه القوة التي ليست بيد المجلس ولا تأتي عن طريقه تسبب الانشقاق، وشق عصا الطاعة يناقض أمر القرآن الكريم الذي يقول:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَميعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران:103).

إن هذا العصر عصر الجماعة، إذ الشخصية المعنوية -التي هي روح الجماعة- أثبتُ وأمتن من شخصية الفرد، وهي أكثر استطاعة على تنفيذ الأحكام الشرعية؛ فشخصية الخليفة تتمكن من القيام بوظائفها استناداً إلى هذه الروح المعنوية. إن الشخصية المعنوية تعكس روح العامة فإن كانت مستقيمة فإن إشراقها وتألقها يكون أسطع وألمع من شخصية الفرد، أما إن كانت فاسدة فإن فسادها يستشري وفق ذلك. فالشر والخير محددان في الفرد، بينما لا يحدهما حدود في الجماعة. فإياكم أن تمحقوا المحاسن التي نلتموها تجاه الخارج بإبدالها شروراً في الداخل.

أنتم أعلم بأن أعداءكم الدائمين وخصومكم يحاولون تدمير شعائر الإسلام، مما يستوجب عليكم إحياء هذه الشعائر والمحافظة عليها. وإلّا فستُعينون -بغير شعورٍ منكم- العدو المتحفز للانقضاض عليكم.

إن التهاون في تطبيق الشعائر الدينية يفضي إلى ضعف الأمة، والضعف يُغرى العدو فيكم ويشجعه عليكم ولا يوقفه عند حدّه.

حسبنا الله ونعم الوكيل.. نعم المولى ونعم النصير.  

مع رئيس الجمهورية

على الرغم من قراءة البيان إلى النواب إلّا أنه سبّب نقاشاً مع مصطفى كمال.. حيث قال له أمام ما يقرب من ستين نائباً: «إننا لا شك بحاجة إلى عالم قدير مثلكم، فقد دعوناكم إلى هنا للاستفادة من آرائكم السديدة، فاستجبتم الدعوة، إلا ان أول عمل قمتم به هو كتابة أمور حول الصلاة فبذرتم الخلاف فيما بيننا».

فأجابه بأجوبة شافية ثم قال له محتداً مشيراً بإصبعه إليه: «باشا.. باشا.. إن أعظم حقيقة في الإسلام -بعد الإيمان- هي الصلاة، والذي لا يصلي خائن، وحكم الخائن مردود».

فاضطر الباشا إلى كظم غيظه وإلى إعطاء بعض الترضية له.

يقول: «فقد عرض عليّ -مصطفى كمال- تعييني في وظيفة الواعظ العام في الولايات الشرقية براتب قدره ثلاثمائة ليرة في محل الشيخ السنوسي  وذلك لعدم معرفة الشيخ اللغة الكردية. وكذلك تعييني نائباً في مجلس المبعوثان (المجلس النيابي) وفي رئاسة الشؤون الدينية مع عضوية في «دار الحكمة الإسلامية»، وكان يريد بذلك إرضائي وتعويضي عن وظيفتي السابقة..

ولكني عندما لاحظت أن قسماً مما جاء من الأخبار في المتن الأصلي لرسالة «الشعاع الخامس» ينطبق على شخص شاهدته هناك، فقد اضطررت إلى ترك تلك الوظائف المهمة، إذ اقتنعت بأن من المستحيل التفاهم مع هذا الشخص أو التعامل معه أو الوقوف أمامه، فنبذت أمور الدنيا وأمور السياسة والحياة الاجتماعية، وحصرت وقتي في سبيل إنقاذ الإيمان فقط..

ولما سألني بعض الموظفين المرموقين: «لماذا لم تقبل ما عرضه عليك مصطفى كمال حول جعلك واعظاً عاماً ومسؤولاً عن عموم «كردستان» والولايات الشرقية بدلاً عن الشيخ السنوسي براتب قدره ثلاثمائة ليرة ذلك، لأنك لو كنت قبلت هذا العرض منه لكنت سبباً في إنقاذ أرواح مئات الآلاف من الرجال الذين ذهبوا ضحية الثورة؟».

قلت لهم جواباً على سؤالهم هذا: «بدلاً من قيامي بإنقاذ عشرين أو ثلاثين سنة من الحياة الدنيوية لهؤلاء الرجال، فإن رسائل النور كانت وسيلة وسبباً لإنقاذ ملايينِ السنين للحياة الأخروية لمئات الآلاف من المواطنين، أي إنها قامت بعمل يكافئ أضعاف تلك الخسارة بآلاف المرات، فلو أنني قبلت ذلك العرض لما ظهرت رسائل النور التي تحمل في طياتها سر الإخلاص والتي لا تكون تابعاً لأي أحد ولا وسيلة استغلال لأي شيء كان. حتى إنني قلت لأصدقائي المحترمين في السجن: لو أن الحكام الموجودين في أنقرة الذين آلمتْهم صفعات رسائل النور الشديدة فحكموا عليّ بالشنق، ثم استطاعت رسائل النور أن تنقذ إيمانهم وأن تنقذهم من الإعدام الأبدي، فاشهدوا بأنني أصفح عنهم من كل قلبي «.

وحيث إنه أدرك الفتنة التي بدأت تعم العالم الإسلامي، والتي استعاذت منها الأمة منذ ألف وأربعمائة سنة وشاهد مَن هم مسعرو نارها.. تناقش مع مصطفى كمال في أحد الأيام طوال ساعتين وأفهمه أن القيام بإزالة الشعائر الإسلامية ابتغاءَ الحصول على شهرة لدى أعداء الإسلام دمار وأيّ دمار لهذه الأمة وفساد للبلاد والعباد، فإن كان لا بد من انقلاب فليكن بالاستناد إلى القرآن الكريم وجعله دستوراً للدولة الحديثة.

من أقواله في المحاكم

«إننا لسنا مع زعيم أصدر حسب هواه أوامر باسم القانون ونفذها بقوة لتحويل «جامع أياصوفيا» إلى دار للأصنام، وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات، لسنا معه فكراً ولا موضوعاً، ولا من حيث الدافع ولا من حيث النتيجة والغاية. ولا نجد أنفسنا ملزمين بقبول أمر كهذا.

يقول: «ولما اعترضت بكلمات قاسية على ذلك الشخص المعروف الذي تولى رئاسة الحكومة بأنقرة، لم يقابلني بشيء، بل آثر الصمت. إلّا أن بعد موته أظهرت حقيقةُ حديث شريف خطأه -كنت قد كتبته قبل أربعين سنة- فتلك الحقيقة والانتقادات التي كانت فطرية وضرورية واتخذناها سرية، وعامة غير خاصة على ذلك الشخص قد طبقها المدعى العام بحذلقة على ذلك الشخص، وجعلها مدار مسؤولية علينا. فأين عدالة القوانين التي هي رمز الأمة وتذكارها وتجل من تجليات الله سبحانه من محاباة شخص مات وانقطعت علاقته بالحكومة.

إنه ضروري جداً لصالح الأمة ولنفع البلاد أن تحافظ الحكومة عليّ حفاظاً تاماً وتمدّ يد المعاونة إليّ. إلّا أنها تضيق الخناق عليّ، مما يومئ إلى أن الذين يحاربونني هم منظمة الزندقة السرية وقسم من منظمة الشيوعية الذين التحقوا بهم، هؤلاء قد قبضوا على زمام الأمر في عدد من المناصب الرسمية المهمة في الدولة، فيهاجمونني ويجابهونني. أما الحكومة فإما أنها لا تعرفهم أو تسمح لهم. ويا ترى أي ذنب وأي جريرة في أن تنتقد أو تضمر عدم المحبة لرجل حوّل جامع أياصوفيا الذي هو مبعث الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرة الساطعة لخدماتها وجهادها في سبيل القرآن، وهدية تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان وجعل مقر المشيخة الإسلامية العامة ثانوية للبنات؟.

إن تعصب المدعي العام لمصطفى كمال وصداقته له -وهو يشغل مثل هذا المقام- أدّى إلى أسئلة واعتراضات غير قانونية وغير ضرورية وخاطئة مما ساقني إلى تقديم هذه الإيضاحات الخارجة عن الصدد، وأنا أبين هنا أحد أقواله كمثال على كلامه المشوب بالمزاج الشخصي الخارج عن القانون.

قال: ألم تندم من قلبك على ما أوردته في «الشعاع الخامس»؟ ذلك لأنك قمت بإهانته وتحقيره عندما قلت عنه: إنه أصبح مثل قربة الماء من كثرة شربه الخمر والشراب؟

وأنا أقول جواباً على تعصبه الذميم والخاطئ تماماً الناشئ من صداقته له:

لا يمكن إسناد شرف انتصار الجيش البطل إليه وحده، ولكن تكون له حصة معينة فقط من هذا الانتصار. فمِن الظلم ومن الخروج على العدالة بشكل صارخ إعطاء غنائم الجيش وأمواله وأرزاقه إلى قائد واحد.

وكما قام ذلك المدعي العام البعيد عن الإنصاف باتهامي لكوني لا أحب ذلك الشخص ذا العيوب الكثيرة، إلى درجة أنه وضعني موضع الخائن للوطن، فإنني أتهمه أيضاً بعدم حبه للجيش، ذلك لأنه عندما يعطي إلى صديقه ذاك كل الشرف وكل المغانم المعنوية فإنه يكون بذلك قد جرد الجيش من الشرف، بينما الحقيقة هي وجوب توزيع الأمور الإيجابية والحسنات والأفضال على الجماعة وعلى الجيش، أما الأمور السلبية والتقصيرات والتخريبات فيجب توجيهها إلى القيادة وإلى الرأس المدبر وإلى الممسك بزمام الأمور. ذلك لأن وجود أي شئ لا يتحقق إلا بتحقق جميع شرائطه وأركان وجوده، والقائد هنا شرط واحد فقط من هذه الشروط. أما انتفاء أي شيء وفساده فيكفي له عدم وجود شرط واحد أو فساد ركن واحد فقط. لذا يمكن عزو ذلك الفساد إلى الرأس المدبر وإلى الرئيس لأن الحسنات والأمور الجيدة تكون عادة إيجابية ووجودية. فلا يمكن حصرها على من هم في رأس الدولة. بينما السيئات والتقصيرات عدمية وتخريبية ويكون الرؤساء هم المسؤولين عنها. ومادام هذا هو الحق وهو الحقيقة، فكيف يمكن أن يقال لرئيس عشيرة قامت بفتوحات: «أحسنت يا حسن آغا»؟ وإذا غُلبت تلك العشيرة، وجّهت إلى أفرادها الإهانة والتحقير؟.. إن مثل هذا التصرف يكون مجانباً للحق تماماً ومعاكساً له.

وهكذا فإن ذلك المدعي العام الذي قام باتهامي قد جانب الحق والحقيقة وجانب الصواب، ومع ذلك فهو بزعمه قد حكم باسم العدالة».

أما قضية الصفعة الموجهة من رسائل النور إلى مصطفى كمال فقد عرفتْ بها ست محاكم وكذلك المراجع الرسمية في «أنقرة» فلم يعترضوا عليها وأصدروا قرارهم بتبـرئتنا وأعادوا لنا جميع كتبنا ومن ضمنها «الشعاع الخامس». ثم إن قيامي بإظهار سيئاته ليس إلّا من أجل صيانة كرامة الجيش. أي إن عدم محبة شخص فرد ليس إلّا من أجل كيل الثناء إلى الجيش بكل حب.

ولو فرضنا أن قائداً رهيباً وعبقرياً استطاع بذكائه أن ينسب لنفسه جميع حسنات الجيش، وأن ينسب سيئاته وسلبياته الشخصية للجيش، فإنه يكون بذلك قد قلل عدد الحسنات التي هي بعدد أفراد الجيش إلى حسنة شخص واحد، وعندما نسب سيئاته وأخطاءه إلى الجيش يكون قد كثّر هذه السيئات بعدد أفراد الجيش، وهذا ظلم مخيف ومجانب للحقيقة، لذا فقد قلت للمدعي العام في إحدى محاكماتي السابقة عندما هاجمني لكوني وجهت صفعة تأديب لذلك الشخص عندما قمت قبل أربعين سنة بشرح حديث نبوي، قلت للمدعى العام: حقاً إنني أقلل من شأنه بإيراد أخبار من الأحاديث النبوية، إلّا أنني أقوم في الوقت نفسه بصيانة شرف الجيش وحفظه من الأخطاء الكبيرة، وأما أنت فتقوم بتلويث شرف الجيش الذي يعد حامل لواء القرآن، وقائداً مقداماً للعالم الإسلامي، وتلغي حسناته لأجل صديق واحد لك. فخضع ذلك المدعى العام للإنصاف، بإذن الله، ونجا من الخطأ. ومع أن الرئيس الكبير حرض بعض أفراد وزارة العدل وموظفيها مدفوعاً إلى ذلك بأوهامه وبحقده الشخصي، إلا أن رسائل النور بُرئت من تهمة تشكيل أية جمعية وأية طريقة صوفية».

[وقال في المحكمة أيضاً]:

«أجل، إن رجلاً دافع بكل شدة وصلابة دفاعاً مؤثراً ودون خوف أو وجل أمام المحكمة العرفية العسكرية التي انعقدت بسبب أحداث 31 مارت، وفي مجلس المبعوثان دون أن يبالي بغضب مصطفى كمال وحدّته.. كيف يتهم هذا الشخص بأنه يدير سراً خلال ثماني عشرة سنة ودون أن يشعر به أحد مؤامرات سياسية؟ إن من يقوم بمثل هذا الاتهام لا شك أنه شخص مغرض.

مادام مصطفى كمال نفسه لم يستطع أن يكسر هذا العناد، ومادامت محكمتان ومحافظ ثلاث ولايات لم يكسروه فمن أنتم حتى تحاولوا مثل هذه المحاولة العقيمة، ولماذا تحاولون هذا عبثاً مع أنها لا تأتي بخير للأمة ولا لهذه الحكومة؟.

[وفي رسالة له إلى طلابه:]

إن في تأخير مسألتنا هذه خير، والخير فيما اختاره الله. لأن محبة ذلك الرجل الميت الرهيب يُلقَّن في جميع المدارس والدوائر الحكومية وفي أوساط الشعب عامة. وستؤثر هذه الحالة تأثيراً أليماً وفجيعاً جداً في العالم الإسلامي وفي المستقبل».

اعتراضه على رئيس الجمهورية ([1])

«إن السبب الأساس لهجوم الحاقدين عليّ هو أنهم يريدون سحقي متذرعين بمودّتهم وموالاتهم لمصطفى كمال. وأنا أقول لأولئك الحاقدين:

لقد قلت في حق شخص مات وانتهى أمره وانقطعت علاقته بالحكومة: إنه سيظهر في آخر الزمان شخص يلحق الأضرار بالقرآن الكريم. قلته قبل ثلاثين سنة استنباطاً من حديث شريف. ثم أظهر الزمان أن ذلك الرجل هو مصطفى كمال. وإن الحاقدين الذين يوالونه يعذبونني بحجج واهية منذ عشرين سنة، حيث إنني لا أُسند إلى مصطفى كمال -خلافاً للحقيقة- شرف هذا الجيش ومجد انتصاراته الذي تحدّى العالم ببطولته وتفانيه في الحق منذ خمسمائة سنة.

نعم، وكما أثبتُّ في المحكمة: أن الشرف والحسنات والغنائم المادية والمعنوية تسند إلى الجماعة وتوزع عليهم، بينما تسند الذنوب والإجراءات الخاطئة إلى الرئيس. ففي ضوء هذه القاعدة الحقيقية، فإن أمجاد الجيش والشرف الذي أحرزه بانتصاراته -ولا سيما الضباط الأشاوس الذين تولوا إدارته- لا تسند إلى مصطفى كمال، وإنما الأخطاء والذنوب والنقائص هي التي تُسند إليه وحده. فالذين يتهمونني بعدم محبتى له إنما يقومون بإهانة كرامة الجيش وثلم شرفه، لذا أنظر إلى هؤلاء أنهم خونة الأمة؛ وإني على استعداد لإثبات هذه الحقيقة لأولئك العنيدين الموالين له كما أثبتّها أمام المحكمة.

إنني أكنّ حباً لأفراد الجيش المقدام وضباطه الذين يعدون بالملايين والذين هم جيش هذه الأمة الطيبة وأسعى لصيانة عزته وكرامته وتوقيره ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؛ بينما معارضيّ الحاقدون الذين يواجهونني يهوّنون ضمناً من شأن ملايين الأفراد بل يعادونهم في سبيل محبة شخص واحد.

نعم، لقد أدركنا بأمارات عديدة أن الذي يحرّض الحاقدين عليّ بالهجوم، هو معارضتي لمصطفى كمال، وعدم مودّتي له. أما الأسباب الأخرى فهي حجج واهية ومجرد اختلاق. ولهذا اضطررت إلى أن أقول لأولئك المعارضين:

لقد استدعاني مصطفى كمال إلى أنقرة لأجل تكريمي وجعلي واعظاً عاماً لجميع الولايات الشرقية. فذهبت إلى أنقرة، إلّا أن المواد الثلاث الآتية جعلتني أتخلّى عن محبته ومودته. فعانيت العذاب طوال عشرين سنة في حياة الانزواء ولم أتدخل في أمورهم الدنيوية.

المادة الأولى: لقد أظهر بأفعاله أنه هو الذي أخبر عنه الحديث الشريف الوارد حول ظهور شخص في آخر الزمان يسعى للإضرار بالأعراف الإسلامية. وفسرت هذا الحديث الشريف قبل ست وثلاثين سنة، ثم ظهر معناه مطابقاً في هذا الشخص. وله إيضاح في المادة الثالثة في دفاعاتي أمام المحكمة.

المادة الثانية: إن وجود شيءٍ ما وتعميره وحياته قائم بوجود جميع أركان ذلك الشيء أو شروطه، بينما عدمه وتخريبه وموته يكون بفساد شرط واحد. هذه قاعدة حقيقية حتى أصبحت مضرب الأمثال في ألسنة الناس: «التخريب أسهل من التعمير».

فبناء على هذه القاعدة الرصينة فإن النقائص الفاضحة والدمار الرهيب الظاهر نابعة من أخطاء ذلك القائد، أما الانتصارات الباهرة فهي صادرة من بطولة الجيش. فبينما ينبغي أن تُسند السيئات إليه وتُمنح الحسنات إلى الجيش، إلّا أن الأمر أصبح بخلاف هذا كلياً، إذ تُسند حسنات الجماعة إلى من في رأس الأمر ويسند شر ذلك الشخص إلى الجماعة. وهذا ظلم شنيع.

المادة الثالثة: إن إسناد حسنات الجماعة وانتصارات الجيش إلى القائد الآمر، وإعطاء ذنوب ذلك الآمر إلى الجماعة بأكملها يعني التهوين من شأن ألوف الحسنات وجعلها حسنة واحدة، وجعل الخطأ الواحد ألوف الأخطاء؛ إذ كما أن فوجاً من الجيش لو قتلوا عدواً شرساً فإن كل فرد من أفراد ذلك الفوج يُمنحون مرتبة المجاهد، ولكن لو أعطي آمرهم فقط تلك الرتبة فإن ألف رتبة من رتب «المجاهد» تنـزل إلى رتبة واحدة فقط. فلو حصلت جريمة قتل نتيجة خطأ ارتكبه قائد ذلك الفوج ثم أُسندت هذه الجريمة إلى الفوج كله، فإن تلك الجريمة الواحدة تتضاعف وتكون في حكم ألوف الجرائم، فيصبح ألف جندي مثلاً مسؤولين عنها، ومستحقين العقاب عليها.

كذلك الأمر هنا؛ فإن الأخطاء الجسيمة واضحة أمام الأعين، فإن لم تسند إلى ذلك الرجل الميت الذي ارتكبها، وأحيلت إلى جيش عظيم كريم أظهر جهاده في سبيل إحقاق الحق في العالم أجمع وصدّق بسيوفه ودمائه شهادة عزته وكرامته وإعلائه لراية القرآن منذ خمسمائة سنة بل منذ ألف سنة، فإن تلك الذنوب تزداد إلى الألوف بعدد أركان ذلك الجيش. فيلطخ الماضي المجيد لذلك الجيش ويشوهه تشويهاً رهيباً مسوّداً تاريخه بلون قاتم مما يجعل جيش هذا العصر مسؤولاً ويذوب خجلاً أمام الجيش البطل للعصور السابقة. وكذلك لو أسندت الانتصارات الباهرة والمفاخر المستحصلة الحاضرة إلى رجل واحد فإنها تبقى جزئية، وتصبح الحسنات والمجاهدات التي هي بعدد الأركان والأفراد في حكم شخص واحد. وينطفئ ذلك الضياء الساطع ويزول ولا يصبح كفارة للذنوب.

فلأجل هذه الأسباب تركتُ مودّة ذلك الرجل، وكسبت مودة ذلك الجيش الذي خدمتُ في صفوفه خدمة فعلية مؤثرة، وفي زمان دقيق حرج، وسعيت برسائل النور للمحافظة على شرف ذلك الجيش الذي هو أسمى ألف مرة من أي شخص كان».

حالته الروحية في أنقرة

«ذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمّة قلعة أنقرة، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثّلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة، ومن شيخوخة الدنيا. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط. ([2])

فحينما نظرت إلى اليمين الذي هو الماضي باحثاً عن نور ورجاء، بدت لي تلك الجهة من بعيد على هيئة مقبرة كبرى لأبي وأجدادي والنوع الإنساني، فأوحشتني بدلاً من أن تسلّيني.

ثم نظرت إلى اليسار الذي هو المستقبل مفتشاً عن الدواء، فتراءى لي على صورة مقبرة كبرى مظلمة لي ولأمثالي وللجيل القابل، فأدهشني عوضاً من أن يؤنسني.

ثم نظرت إلى زمني الحاضر بعد أن امتلأ قلبي بالوحشة من اليمين واليسار، فبدا ذلك اليوم لنظري الحسير ونظرتي التاريخية على شكل نعش لجنازة جسمي المضطرب كالمذبوح بين الموت والحياة.

فلما يئست من هذه الجهة أيضاً، رفعت رأسي ونظرت إلى قمة شجرة عمري، فرأيت أن على تلك الشجرة ثمرة واحدة فقط، وهي تنظر إليّ، تلك هي جنازتي، فطأطأت رأسي ناظراً إلى جذور شجرة عمري، فرأيت أن التراب الذي هناك ما هو إلّا رميم عظامي، وتراب مبدأ خلقتي قد اختلطا معاً وامتزجا، وهما يُداسان تحت الأقدام، فأضافا إلى دائي داء من دون أن يمنحاني دواءً.

ثم حوّلتُ نظري على مضض إلى ما ورائي، فرأيت أن هذه الدنيا الفانية الزائلة تتدحرج في أودية العبث وتنحدر في ظلمات العدم، فسكبتْ هذه النظرة السمَّ على جروحي بدلاً من أن تواسيها بالمرهم والعلاج الشافي.

ولما لم أجد في تلك الجهة خيراً ولا أملاً، ولّيت وجهي شطر الأمام ورنوت بنظري بعيداً، فرأيت أن القبر واقف لي بالمرصاد على قارعة الطريق، فاغراً فاه، يحدق بي، وخلفه الصراط الممتد إلى حيث الأبد، وتتراءى القوافل البشرية السائرة على ذلك الصراط من بعيد. وليس لي من نقطة استناد أمام هذه المصائب المدهشة التي تأتيني من الجهات الست، ولا أملك سلاحاً يدفع عني غير جزء ضئيل من الإرادة الجزئية. فليس لي إذن أمام كل أولئك الأعداء الذين لا حصر لهم، والأشياء المضرة غير المحصورة، سوى السلاح الإنساني الوحيد وهو الجزء الاختياري. ولكن لما كان هذا السلاح ناقصاً وقاصراً وعاجزاً، ولا قوة له على إيجاد شيء، وليس في طوقه إلّا الكسب فحسب، حيث لا يستطيع أن يمضي إلى الزمان الماضي ويذبّ عني الأحزان ويسكتها، ولا يمكنه أن ينطلق إلى المستقبل حتى يمنع عنّي الأهوال والمخاوف الواردة منه، أيقنت ألّا جدوى منه فيما يحيط بي من آلام وآمال الماضي والمستقبل.

وفيما كنت مضطرباً وسط الجهات الست تتوالى عليّ منها صنوف الوحشة والدهشة واليأس والظلمة، إذا بأنوار الإيمان المتألقة في وجه القرآن المعجز البيان، تمدني وتضئ تلك الجهات الست وتنورها بأنوار باهرة ساطعة ما لو تضاعف ما انتابني من صنوف الوحشة وأنواع الظلمات مائة مرة، لكانت تلك الأنوار كافية ووافية لإحاطتها.

فبدّلتْ -تلك الأنوار- السلسلة الطويلة من الوحشة إلى سلوان ورجاء، وحولّت كل المخاوف إلى أنس القلب، أمل الروح الواحدة تلو الأخرى.

نعم، إن الإيمان قد مزق تلك الصورة الرهيبة للماضي وهي كالمقبرة الكبرى، وحوّلها إلى مجلس منوّر أنوس وإلى ملتقى الأحباب، وأظهر ذلك بعين اليقين وحق اليقين…

ثم إن الإيمان قد أظهر بعلم اليقين أن المستقبل الذي يتراءى لنا بنظر الغفلة كقبر واسع كبير ما هو إلّا مجلس ضيافة رحمانية أعدّت في قصور السعادة الخالدة.

ثم إن الإيمان قد حطّم صورة التابوت والنعش للزمن الحاضر التي تبدو هكذا بنظر الغفلة، وأشهدني أن اليوم الحاضر إنما هو متجر أخروي، ودار ضيافة رائعة للرحمن.

ثم إن الإيمان قد بصّرني بعلم اليقين أن ما يبدو بنظر الغفلة من الثمرة الوحيدة التي هي فوق شجرة العمر على شكل نعش وجنازة أنها ليست كذلك، وإنما هي انطلاق لروحي -التي هي أهل للحياة الأبدية ومرشحة للسعادة الأبدية- من وكرها القديم إلى حيث آفاق النجوم للسياحة والارتياد.

ثم إن الإيمان قد بيّن بأسراره؛ أن رميم عظامي وتراب بداية خلقتي، ليسا عظاماً حقيرة فانية تداس تحت الأقدام، وإنما ذلك التراب باب للرحمة، وستار لسرادق الجنة.

ثم إن الإيمان أراني بفضل أسرار القرآن الكريم أن أحوال الدنيا وأوضاعها المنهارة في ظلمات العدم بنظر الغفلة، لا تتدحرج هكذا في غياهب العدم -كما ظنّ في بادئ الأمر- بل إنها نوع من رسائل ربانية ومكاتيب صمدانية، وصحائف نقوش للأسماء السبحانية قد أتمّت مهامها، وأفادت معانيها، وأخلفت عنها نتائجها في الوجود، فأعلمني الإيمان بذلك ماهية الدنيا علم اليقين.

ثم إن الإيمان قد أوضح لي بنور القرآن أن ذلك القبر الذي أحدق بي ناظراً ومنتظراً ليس هو بفوهة بئر، وإنما هو باب لعالم النور، وأن ذلك الطريق المؤدي إلى الأبد ليس طريقاً ممتداً ومنتهياً بالظلمات والعدم، بل إنه سبيل سوي إلى عالم النور، وعالم الوجود وعالم السعادة الخالدة.. وهكذا أصبحت هذه الأحوال دواء لدائي، ومرهماً له، حيث قد بدت واضحة جلية فأقنعتني قناعة تامة.

ثم إن الإيمان يمنح ذلك الجزء الضئيل من الجزء الاختياري الذي يملك كسباً جزئياً للغاية، وثيقة يستند بها إلى قدرة مطلقة، وينتسب بها إلى رحمة واسعة، ضد تلك الكثرة الكاثرة من الأعداء والظلمات المحيطة، بل إن الإيمان نفسه يكون وثيقة بيد الجزء الاختياري. ثم إن هذا الجزء الاختياري الذي هو السلاح الإنساني وإن كان في حد ذاته ناقصاً عاجزاً قاصراً، إلّا أنه إذا استعمل باسم الحق سبحانه، وبذل في سبيله ولأجله، يمكن أن ينال به -بمقتضى الإيمان- جنة أبدية بسعة خمسمائة سنة. مَثَلُ المؤمن في ذلك مثل الجندي إذا استعمل قوته الجزئية باسم الدولة فإنه يسهل له أن يؤدي أعمالاً تفوق قوته الشخصية بألوف المرات.

وكما أن الإيمان يمنح الجزء الاختياري وثيقة، فإنه يسلب زمامه من قبضة الجسم الذي لا يستطيع النفوذ في الماضي ولا في المستقبل، ويسلمه إلى القلب والروح، ولعدم انحصار دائرة حياة الروح والقلب في الزمن الحاضر كما هو في الجسد، ولدخول سنوات عدة من الماضي وسنوات مثلها من المستقبل في دائرة تلك الحياة، فإن ذلك الجزء الاختياري ينطلق من الجزئية مكتسباً الكلية. فكما أنه يدخل بقوة الإيمان في أعمق أودية الماضي مبدداً ظلمات الأحزان، كذلك يصعد محلقاً بنور الإيمان إلى أبعد شواهق المستقبل مزيلاً أهواله ومخاوفه».

الخلاصة

وهكذا لما أراد الرئيس استمالته ليستفيد من نفوذه في شرقي البلاد، وعرض عليه أن يكون نائباً في البرلمان، مع الاحتفاظ بعضوية دار الحكمة الإسلامية، ويتولى منصب الواعظ العام في شرقي البلاد بدلاً من الشيخ السنوسي مع تخصيص مسكن فاخر (فِيلَا) له وأمثالها من العروضات… فإن بديع الزمان شاهَدَ أوصاف ما ورد في حديث شريف حول أشخاص آخر الزمان «الدجال والسفياني» -والذي أوّله قبل عهد الحرية في إسطنبول- وتيقن أنه لا يمكن مجابهة أولئك الأشخاص إلّا بأنوار إعجاز القرآن وليس بمسالك السياسة… لذا ردّ جميع عروضات مصطفى كمال وغادر أنقرة بعد أن بيّن وجهة نظره في الحكومة الجديدة للنواب الذين حضروا لتوديعه وألحّوا عليه بالبقاء في أنقرة متعاوناً مع الحكومة الجديدة.


[1]  ذيل العريضة المقدمة إلى رئيس الجمهورية اضطررت إلى كتابتها (المؤلف)

[2]  وردت هذه الحالة الروحية على صورة مناجاة إلى القلب باللغة الفارسية، فكتبتها كما وردت، ثم طبعت ضمن رسالة (حباب) في أنقرة. (المؤلف).

الفصل الأول مولد سعيد الجديد

الفصل الأول

مولد سعيد الجديد

ملاحظة

يجد القارئ الكريم أننا استرجعنا التسلسل التاريخي إلى سنة 1919م، وذلك ليسهل عليه متابعة هذه الفترة التي تبدأ بعد عودة الأستاذ النُّورْسِيّ من الأسر والتي تمثل مراحل المخاض لظهور «سعيد الجديد» الذي وضعت على كاهله مهمة دعوة الإيمان والقرآن في أحلك فترة مرت بها الأمة. وفي الحقيقة أننا لو استرجعنا سيرته من بدايتها لشاهدنا أن القدر الإلهي قد ساق سعيداً الطفل منذ نعومة أظفاره وهيأه لحمل هذه الأمانة؛ فنرى اللقمة الحلال ومخايل النبوغ منذ صباه، وانكشاف مواهبه عن ذكاء حاد، وقوة ذاكرة مذهلة، مع الإباء والشمم، وتشرفه ببشارة الرسول ﷺ واغترافه العلوم بشتى أنواعها، وسلوكه مسلك الزهد والورع، وانقلابه الفكري لدى سماعه بمؤامرة خبيثة تحاك حول القرآن الكريم وتوجهه الكلي نحوه، ثم جهاده الفعلي لإنقاذ دولة الخلافة آنذاك وما أعقبه من مكابداته النفسية في الأسر، وصحوته الروحية هناك وعودتها بعد فكاكه من الأسر ثم ما حدث في وجدانه من تحول عظيم بنذير الشيخوخة والتفكر بالموت وتوحيد قبلة توجّهه إلى القرآن الكريم بعد قراءته لكتاب الشيخ الكيلاني والإمام الرباني، وظهور بوادر تحول هائل في حياته حتى رغب في الانزواء عن الناس فانسحب إلى تل يوشع ودخل مسلك التفكر والتأمل نافضاً ما علق في فكره من لوثات الفلسفة فكتب معاناته النفسية وانقلابه الروحي وانكشافه القلبي في «مثنويّه» حتى اكتمل سعيداً جديداً في طريق قرآني هو: العجز والفقر والشفقة والتفكر، علماً أنه لم ينس واجبه في التبليغ في هذه الفترة إذ تصدى لدسائس الإنكليز وسعى سعياً حثيثاً في أنقرة لتوجيه دفة الانقلاب لصالح الإسلام إلا أنه شاهد علامات الدجال والسفياني على من بيده السلطة فتيقن أنه لا يمكن المواجهة إلا بإعجاز القرآن فاعتزل أمور السياسة كلياً متوجها إلى «وان» ليستعد لحمل الأمانة الثقيلة.. وهكذا نشاهد كيف أمرّته العناية الإلهية من مرحلة إلى أخرى لينصرف «سعيد الجديد» كلياً إلى مهمة إنقاذ الإيمان.

سنة 1919م/1336هـ

عودة الصحوة الروحية

«عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي «عبد الرحمن» في قصر على قمة «ﭼاملجة» في إسطنبول. ويمكن أن تعتبر هذه الحياة التي كنت أحياها حياة مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لأنني قد نجوت من الأسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة أمامي في «دار الحكمة الإسلامية» وبما يناسب مهنتي العلمية، وأن الشهرة والصيت والإقبال عليّ تحفّ بي بدرجة لا استحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من إسطنبول «جاملجة»، وكل شيء بالنسبة لي على ما يرام، حيث إن ابن أخي «عبد الرحمن» -رحمه الله- معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحّ وخادم وكاتب معاً، حتى كنت أعدّه ابناً معنوياً لي.

وبينما كنت أحس بأني أسعد إنسان في العالم، نظرت إلى المرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في الأسر في جامع «قوصتورما» تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وأفكر مدققاً في تلك الحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت أظنها أنها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه، إلّا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الأثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حميم، يُعدّ من أوفى الأصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر لي على بال.. كل ذلك أدى إلى النفرة والامتعاض من الحياة الدنيا، فقلت لقلبي: ياتُرى هل أنا منخدع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون إلى حياتنا التي يُرثى لها من زاوية الحقيقة نظر الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جميع هؤلاء الناس؟ أم أنا في طريقي إلى الجنون، لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانين بلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أرى أولاً فناءَ ما أرتبط به من الأشياء المعرّضة للفناء والزوال!

ثم التفتّ إلى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وقد تشبثت بالأشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخَتْ من أعماقها:

مادمتُ فانية جسماً فأي فائدة أرجوها من هذه الفانيات؟

وما دمتُ عاجزة فماذا أنتظر من العاجزين؟..

فليس لدائي دواء إلّا عند الباقي السرمدي، عند القدير الأزلي.

فبدأت أبحث وأستقصي.. راجعت أول ما راجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبحث فيها عن السلوة والرجاء. ولكن كنت -ويا للأسف- إلى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني -ظناً خطأ جداً- أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدر الرقي والتكامل ومحور الثقافة وتنوّر الفكر، بينما تلك المسائل الفلسفية هي التي لوثت روحي كثيراً، بل أصبحت عائقة أمام سموي المعنوي». ([1])

إزالة العوائق عن طريق القلب

«قد شاهدتُ ازدياد العلم الفلسفي في ازدياد المرض، كما رأيت ازدياد المرض في ازدياد العلم العقلي. فالأمراض المعنوية توصِلُ إلى علوم عقلية، كما أن العلوم العقلية تولّد أمراضاً قلبية. إذ حينما سار «سعيد الجديد» في طريق التأمل والتفكر، انقلبت تلك العلوم الأوروبية الفلسفية وفنونها التي كانت مستقرة إلى حدٍّ ما في أفكار «سعيد القديم» إلى أمراض قلبية، نشأت منها مصاعب ومعضلاتٌ كثيرة في تلك السياحة القلبية. فما كان من «سعيد الجديد» إلّا القيام بتمخيض فكره والعمل على نفضه من أدران الفلسفة المزخرفة ولوثات الحضارة السفيهة. حيث إن سعيداً القديم والمفكرين، قد ارتضوا بقسم من دساتير الفلسفة البشرية، أي يقبلون شيئاً منها، ويبارزونها بأسلحتها، ويعدّون قسماً من دساتيرها كأنها العلوم الحديثة فيسلّمون بها. ولهذا لا يتمكنون من إظهار القيمة الحقيقية للإسلام على تلك الصورة من العمل، إذ يطعّمون شجرة الإسلام بأغصان الحكمة التي يظنونها عميقة الجذور. وكأنهم بهذا يقوّون الإسلام. ولكن لما كان الظهور على الأعداء بهذا النمط من العمل قليلاً، ولأن فيه شيئاً من التهوين لشأن الإسلام،فقد تركتُ ذلك المسلك. وأظهرت فعلاً أن أسس الإسلام عريقة وغائرة إلى درجة لا تبلغها أبداً أعمق أسس الفلسفة، بل تظل سطحية تجاهها..

ففي المسلك السابق؛ تُظن الفلسفة عميقة، بينما الأحكام الإسلامية ظاهرية سطحية، لذا يُتشبث بأغصان الفلسفة للحفاظ على الإسلام. ولكن هيهات! أنّى لدساتير الفلسفة من بلوغ تلك الأحكام».

انتصار القلب

«وبينما كنت في هذه الحالة، إذا بحكمة القرآن المقدسة تسعفني، رحمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبحانه، فغسلتْ أدران تلك المسائل الفلسفية، وطهرت روحي منها -كما هو مبين في كثير من الرسائل- إذ كان الظلام الروحي المنبثق من العلوم الفلسفية، يغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فأينما كنت أتوجه بنظري في تلك المسائل فلا أرى نوراً ولا أجد قبساً، ولم أتمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء نور التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريم الذي يلقن «لا إله إلا هو» فمزّق ذلك الظلام وبدده. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنّا هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك بما أخذاه من تعليمات وتلقياه من دروس من أهل الضلالة والفلسفة. فبدأت المناظرة النفسية في هذا الهجوم حتى اختتمت ولله الحمد والمنّة بانتصار القلب وفوزه».

نذير الشيخوخة وتذكّر الموت

«حينما أفقت على صبح المشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت إلى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر سعياً من علٍ إلى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي المصري:

بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

فجسمي الذي هو مأوى روحي بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الأيام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة إلى الدنيا بدأت أوثاقها تنفصم وتنقطع. فدب فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لا يحصى من الأحبة والأصدقاء، فأخذت أبحث عن ضماد لهذا الجرح المعنوي الغائر، الذي لا يرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لم أستطع أن أعثر له على علاج، فقلت أيضاً كما قال نيازي المصري:

حكمة الإله تقضي فناء الجسد          والقلب توّاق إلى الأبد

لهف نفسي من بلاء وكمـد           حار لقمان في إيجاد الضمد

وبينما كنت في هذه الحالة إذا بنور الرسول الكريم ﷺ الذي هو رحمة الله على العالمين، ومثالها الذي يعبّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، وإذا بشفاعته، وبما أتاه من هدية الهداية إلى البشرية، يصبح بلسـماً شافياً، ودواءً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويـبدل ذلك اليأس القـاتم الذي أحاطني إلى نور الرجاء الساطع.

وحينما وطأتْ قدماي عتبة الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدّها قد اعتلّت أيضاً فاتفقت الشيخوخة والمرض معاً على شن الهجوم عليّ، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنّي. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدت أن عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلما صاح نيازي المصري:

 ذهب العُمر هباءً، لم أفز فيه بشيء

ولقد جئتُ أسير الدرب، لكنْ

 رحل الرّكبُ بعيداً

 وبقيتْ

 ذلك النائي الغريب

وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً أطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!

كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، وأسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من أعماقي أطلب إمداد العون، وضياء الرجاء.. وإذا بالقرآن الحكيم المعجز البيان يمدّني، ويسعفني، ويفتح أمامي باب رجاء عظيم، ويمنحني نوراً ساطعاً من الأمل والرجاء يستطيع أن يزيل أضعاف أضعاف يأسي، ويمكنه ان يبدد تلك الظلمات القاتمة من حولي.

نعم، إنني مصداق لما قيل:

وعينيَ قد نامت بليلِ شبـيبـتي  ولم تنتبه إلّا بصبح مَشيب

إذ أشد أوقات انتباهي في شبيبتي رأيته الآن أعمقَ طبقات نومي!…

فحينما خالط بعض شعرات رأسي البياض الذي هو علامة الشيخوخة، وكانت أهوال الحرب العالـمية الأولى وما خلفه الأسر لدى الروس من آثار عميقة في حيـاتي عمّقت فيّ نوم غفلة الشباب. وتلا ذلك استقبال رائع عند عودتي من الأسر إلى إسطنبول، سواء من قبل الخليفة أو شيخ الإسلام، أو القائد العام، أو من قبل طلبة العلوم الشرعية، وما قوبلت به من تكريم وحفاوة أكثر مما أستحق بكثير.. كل ذلك ولّد عندي حالة روحية فضلاً عن سكرة الشباب وغفلته، وعمّقتْ فيّ ذلك النوم أكثر، حتى تصورت معها أن الدنيا دائمة باقية، ورأيت نفسي في حالة عجيبة من الالتصاق بالدنيا كأنني لا أموت.

ففي هذا الوقت، ذهبت إلى جامع بايزيد في إسطنبول، وذلك في شهر رمضان المبارك لأستمع للقرآن الكريم من الحفاظ المخلصين ([2]) فاستمعت من لسان أولئك الحفاظ ما أعلنه القرآن المعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الإنسان وزواله، ووفاة ذوي الحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريمة: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران:185).

نفذ هذا الإعلان الداوي إلى صماخ أذني مخترقاً وممزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في أعماق أعماق قلبي.

خرجت من الجامع، فرأيت نفـسي لبضـعة أيام، كأن إعصـاراً هائلاً يضـطرم في رأسي بما بقي من آثار ذلك النوم العميق المستقر فيّ منذ أمد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البحر المضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت أنظر إلى المرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تخاطبني قائلة: انتبه!.

نعم، إن الأمور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت أن الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً بأذواقه يقول لي: الوداع! وأن الحياة الدنيا التي كنت أرتبط بحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت أتشبث بها، بل كنت مشتاقاً إليها وعاشقاً لها، رأيتها تقول لي: الوداع! الوداع! مشعرة إياي، بأنني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها – أي الدنيا – هي الأخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل.

وانفتح إلى القلب من كلية هذه الآية الكريمة ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ ومن شموليتها ذلك المعنى الذي يتضمنها، وهوأن البشرية قاطبة إنما هي كالنفس الواحدة، فلا بد أنها ستموت كي تبعث من جديد، وأن الكرة الأرضية كذلك نفسٌ فلا بد أنها سوف تموت ويصيبها البوار كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الخلود، وأن الدنيا هي الأخرى نفسٌ وسوف تموت وتنقضي كي تتشكل بصورة «آخرة».

فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت أن الشباب الذي هو مدار الأذواق واللذائذ ذاهب نحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الأحزان، وأن الحياة الساطعة الباهرة لفي ارتحال، ويتهيأ الموت المظلم المخيف -ظاهراً- ليحل محلها.

ورأيت الدنيا التي هي محبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة ويُظن أنها دائمة، رأيتها تجري مسرعة إلى الفناء. ولكي أنغمس في الغفلة وأخادع نفسي ولّيت نظري شطر أذواق المنـزلة الاجتماعية ومقامها الرفيع الذي حظيت به في إسطنبول والذي خُدعت به نفسي وهو فوق حدي وطوقي من حفاوة وإكرام وسلوان وإقبال وإعجاب.. فرأيت أن جميعها لا تصاحبني إلّا إلى حد باب القبر القريب منى، وعنده تنطفئ.

ورأيت أن رياءً ثقيلاً، وأثرة باردة وغفلة مؤقتة، تكمن تحت الستار المزركش للسمعة والصيت، التي هي المثل الأعلى لأرباب الشهرة وعشاقها، ففهمت أن هذه الأمور التي خدعتني حتى الآن لن تمنحني أي سلوان، ولا يمكن أن أتلمس فيها أي قبس من نور.

ولكي أستيقظ من غفلتي مرة أخرى وأنتبه منها نهائياً، بدأت بالاستماع كذلك لأولئك الحفاظ الكرام في «جامع بايزيد» لأتلقى الدرس السماوي للقرآن الكريم.. وعندها سمعت بشارات ذلك الإرشاد السماوي من خلال الأوامر الربانية المقدسة في قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذ۪ينَ اٰمَنُوا﴾ (البقرة: 25).

وبالفيض الذي أخذتُه من القرآن الكريم تحريت عن السلوة والرجاء والنور في تلك الأمور التي أدهشتني وحيّرتني وأوقعتني في يأس ووحشة، دون البحث عنها في غيرها من الأمور. فألف شكر وشكر للخالق الكريم على ما وفقني لأن أجد الدواء في الداء نفسه، وأن أرى النور في الظلمة نفسها، وأن أشعر بالسلوان في الألم والرعب ذاتهما.

فنظرت أول ما نظرت إلى ذلك الوجه الذي يُرعب الجميع ويُتوهم أنه مخيف جداً.. وهو وجه «الموت» فوجدت بنور القرآن الكريم، أن الوجه الحقيقي للموت بالنسبة للمؤمن صبوح منور، على الرغم من أن حجابه مظلم والستر الذي يخفيه يكتنفه السواد القبيح المرعب. وقد أثبتنا وأوضحنا هذه الحقيقة بصورة قاطعة في كثير من الرسائل وبخاصة في «الكلمة الثامنة» و«المكتوب العشرين» من أن الموت ليس إعداماً نهائياً، ولا فراقاً أبدياً، وأنما هو مقدمة وتمهيد للحياة الأبدية وبداية لها. وهو إنهاء لأعباء مهمة الحياة ووظائفها ورخصة منها وراحة وإعفاء، وهو تبديل مكان بمكان، وهو وصال ولقاء مع قافلة الأحباب الذين ارتحلوا إلى عالم البرزخ.. وهكذا، بمثل هذه الحقائق شاهدت وجه الموت المليح الصبوح. فلا غرو لم أنظر إليه خائفاً وجلاً، وإنما نظرت إليه بشيء من الاشتياق -من جهة- وعرفت في حينها سراً من أسرار «رابطة الموت» التي يزاولها أهل الطرق الصوفية.

ثم تأملت في «عهد الشباب» فرأيت أنه يُحزن الجميع بزواله، ويجعل الكل يشتاقون إليه وينبهرون به، وهو الذي يمر بالغفلة والآثام، وقد مرّ شبابي هكذا! فرأيت أن ثمة وجهاً دميماً جداً بل مسكراً ومحيراً تحت الحلة القشيبة الفضفاضة الملقاة عليه، فلو لم أكن مدركاً كنهه لكان يبكيني ويحزنني طوال حياتي الدنيا، حتى لو عمرت مائة سنة حيال بضع سنين تمضي بنشوة وابتسامة، كما قال الشاعر الباكي على شبابه بحسرة مريرة:

فيا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً فأُخبرَه بما فَعلَ المَشيبُ

نعم، إن الذين لم يتبينوا سر الشباب وماهيته من الشيوخ يقضون شيخوختهم بالحسرة والنحيب على عهد شبابهم كهذا الشاعر. والحال أن فتوة الشباب ونضارته إذا ما حلت في المؤمن المطمئن الحصيف ذي القلب الساكن الوقور، وإذا ما صُرفت طاقة الشباب وقوته إلى العبادة والأعمال الصالحة والتجارة الأخروية، فإنها تصبح أعظم قوة للخير وتغدو أفضل وسيلة للتجارة، وأجمل وساطة للحسنات بل ألذها.

نعم، إن عهد الشباب نفيس حقاً وثمين جداً، وهو نعمة إلهية عظمى، ونشوة لذيذة لمن عرف واجبه الإسلامي ولمن لم يسئ استعماله. ولكن الشباب إن لم تصحبه الاستقامة، ولم ترافقه العفة والتقوى، فدونه المهالك الوبيلة، إذ يصدّع طيشه ونزواته سعادة صاحبه الأبدية، وحياته الأخروية، وربما يحطم حياته الدنيا أيضاً. فيجرعه الآلام غصصاً طوال فترة الهرم والشيخوخة لما تنعم به من مذاقات ولذائذ في بضع سنين.

ولما كان عهد الشباب لا يخلو من الضرر عند أغلب الناس، فعلينا إذن نحن الشيوخ أن نشكر الله شكراً كثيراً على ما نجّانا من مهالك الشباب وأضراره. هذا، وإن لذات الشباب زائلة لا محالة، كما تزول جميع الأشياء. فلئن صُرف عهد الشباب للعبادة، وبذل للخير والصلاح لكان دونه ثماره الباقية الدائمة، وعنده وسيلة الفوز بشباب دائم وخالد في حياة أبدية.

ثم نظرت إلى «الدنيا» التي عشقها أكثر الناس، وابتُلُوا بها، فرأيت بنور القرآن الكريم أن هناك ثلاث دنىً كلية قد تداخل بعضها في البعض الآخر:

الأولى: هي الدنيا المتوجهة إلى الأسماء الإلهية الحسنى، فهي مرآة لها.

الثانية: هي الدنيا المتوجهة نحو الآخرة، فهي مزرعتها.

الثالثة: هي الدنيا المتوجهة إلى أرباب الدنيا وأهل الضلالة فهي لعبة أهل الغفلة ولهوهم.

ورأيت كذلك أن لكل أحد في هذه الدنيا دنيا عظيمة خاصة به، فهناك إذن دنىً متداخلة بعدد البشر. غير أن دنيا كل شخص قائمة على حياته الشخصية، فمتى ما ينهار جسم شخص فإن دنياه تتهدم وقيامته تقوم. وحيث إن الغافلين لا يدركون انهدام دنياهم الخاصة بهذه السرعة الخاطفة؛ فهم يفتنون بها، ويظنونها كالدنيا العامة المستقرة من حولهم.

فتأملت قائلاً: لا شك أن لي أيضاً دنيا خاصة -كدنيا غيري- تتهدم بسرعة فما فائدة هذه الدنيا الخاصة إذن في عمري القصير جداً؟!.. فرأيت بنور القرآن الكريم أن هذه الدنيا -بالنسبة لي ولغيري- ما هي إلّا متجر مؤقت، ودار ضيافة تملأ كل يوم وتخلى، وهي سوق مقامة على الطريق لتجارة الغادين والرائحين، وهي كتاب مفتوح يتجدد للبارئ المصور، فيمحو فيه ما يشاء ويثبته بحكمة. وكل ربيع فيها رسالة مرصعة مذهّبة، وكل صيف فيها قصيدة منظومة رائعة، وهي مرايا تتجدد مظهرة تجليات الأسماء الحسنى للصانع الجليل، وهي مزرعة لغراس الآخرة وحديقتها، وهي مزهرة الرحمة الإلهية، وهي مصنع موقت لتجهيز اللوحات الربانية الخالدة التي ستظهر في عالم البقاء والخلود. فشكرتُ الله الخالق الكريم أجزل شكر على خلقه الدنيا بهذه الصورة. بيد أن الإنسان الذي مُنح حباً مقبلاً إلى وجهَيِ الدنيا الحقيقيَين المليحين المتوجهين إلى الأسماء الحسنى وإلى الآخرة، أخطأ المرمى وجانب الصواب عندما استعمل تلك المحبة في غير محلها، فصرفها إلى الوجه الفاني القبيح ذي الغفلة والضرر حتى حق عليه الحديث الشريف «حب الدنيا رأس كل خطيئة»».

سنة 1921م/1339هـ

إرشاد القرآن الكريم

«بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلةُ عليّ مرة أخرى طوال سنتين من حياتي في إسطنبول، حيث الأجواء السياسية وتياراتها صرفت نظري عن التأمل في نفسي، وأحدثت تشتتاً في ذهني وفكري.

فحينما كنت جالساً ذات يوم في مقبرة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وعلى مرتفع مطلّ على وادٍ سحيق، مستغرقاً في تأمل الآفاق المحيطة بإسطنبول، إذا بي أرى كأن دنياي الخاصة أوشكت على الوفاة، حتى شعرت -خيالاً- كأن الروح تنسل منها انسلالاً من بعض نواحيّ. فقلت: تُرى هل الكتابات الموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعتني إلى هذا الخيال؟

أشحتُ نظري عن الخارج وأنعمت النظر في المقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي: أن هذه المقبرة المحيطة بك تضم مائة إسطنبول! حيث إن إسطنبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى أنت وحدك من حكم الحاكم القدير الذي أفرغ جميع أهالي إسطنبول هنا، فأنت راحل مثلهم لا محالة..!

غادرت المقبرة وأنا أحمل هذا الخيال المخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في محفل جامع أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه والتي كنت أدخلها مراراً في السابق فاستغرقت في التفكير في نفسي: «إنما أنا ضيف! وضيف من ثلاثة أوجه؛ إذ كما أنني ضيف في هذه الغرفة الصغيرة، فأنا ضيفٌ كذلك في إسطنبول، بل أنا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى المسافر أن يفكر في سبيله ودربه.

نعم، كما أنني سوف أخرج من هذه الغرفة وأغادرها، فسوف أترك إسطنبول ذات يوم وأغادرها، وسوف أخرج من الدنيا كذلك».

وهكذا جثمت على قلبي وفكري وأنا في هذه الحالة، حالةٌ أليمة محزنة مكدّرة. فلا غرو إنني لا أترك أحباباً قليلين وحدهم، بل سأفارق أيضاً آلاف الأحبة في إسطنبول، بل سأغادر إسطنبول الحبيبة نفسها وسأفترق عن مئات الآلاف من الأحبة كما أفترق عن الدنيا الجميلة التي ابتلينا بها.

ذهبتُ إلى المكان المرتفع نفسه في المقبرة مرة أخرى، فبدا لي أهالي إسطنبول جنائز يمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الأفلام السينمائية، فقد كنت أتردد إليها أحياناً للعبرة! فقال لي خيالي: ما دام قسم من الراقدين في هذه المقبرة يمكن أن يظهروا متحركين كالشخوص السينمائية، ففكّر في هؤلاء الناس كذلك، إنهم سيدخلون هذه المقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن.

وبينما كنت أتقلب في تلك الحالة المحزنة المؤلمة إذا بنور من القرآن الحكيم وبإرشاد من الشيخ الكيلاني قدس سرّه يقلب تلك الحالة المحزنة ويحولها إلى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكّرني النور القادم من القرآن الكريم ونبهني إلى ما يأتي:

«كان لك صديق أو صديقان من الضباط الأسرى عند أسرك في «قوصترما» في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان إلى إسطنبول. ولو خَيّرك أحدهما قائلاً: أتذهب إلى إسطنبول أم تريد أن تبقى هنا؟ فلا جرم أنك كنت تختار الذهاب إلى إسطنبول لو كان لك مسكة من عقل، بفرح وسرور حيث إن تسعمائة وتسعة وتسعين من ألف حبيب وحبيب لك هم الآن في إسطنبول، وليس لك هنا إلّا واحد أو اثنان، وهم بدورهم سيرحلون إلى هناك. فالذهاب إلى إسطنبول بالنسبة لك إذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت إليها، ألم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نجوتَ من بلد الأعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدمت إسطنبول الزاهية الجميلة، كأنها جنة الدنيا! وهكذا الأمر حيث إن تسعاً وتسعين من مائة شخص ممن تحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتحلوا إلى المقبرة. تلك التي تبدو لك موحشة مدهشة، ولم يظل منهم في هذه الدنيا إلّا واحد أو اثنان، وهم في طريقهم إليها كذلك. فوفاتك في الدنيا إذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وإنما هي وصال ولقاء مع أولئك الأحبة الأعزاء.

نعم، إن أولئك -أي الأرواح الباقية- قد تركوا مأواهم وعشهم المندرس تحت الأرض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالم البرزخ».

وهكذا ذكّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الحقيقة إثباتاً قاطعاً كلٌ من القرآن الكريم، والإيمان، بحيث مَن لم يفقد قلبه وروحه، أو لم تغرقه الضلالة لا بد أن يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيّن هذه الدنيا بأنواع ألطافه التي لاتحد وبأشكال آلائه التي لا تُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريمة الرؤوف، حفيظاً حتى على الأشياء الصغيرة الجزئية جداً -كالبذور مثلاً- ذلك الصانع الكريم الرحيم، لا بد -بل بالبداهة- لا يُفني هذا الإنسان الذي هو أكمل مخلوقاته وأكرمها وأجمعها وأهمّها وأحبها إليه، ولا يمحوه بالفناء والإعدام النهائي، بلا رحمة وبلا عاقبة -كما يبدو ظاهراً- ولا يضيّعه أبداً.. بل يضع الخالق الرحيم ذلك المخلوق المحبوب تحت التراب الذي هو باب الرحمة موقتاً، كي يعطي ثماره في حياة أخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الأرض.

وبعد أن تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك المقبرة عندي مؤنسة أكثر من إسطنبول نفسها، وأصبحت الخلوة والعزلة عندي أكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة، مما حدا بي أن أجد مكاناً للعزلة في «صَاري يَرْ» على البسفور. وأصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه أستاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه «فتوح الغيب»، وصار الإمام الرباني رضي الله عنه  كذلك بمثابة أستاذ أنيس ورؤوف شفيق بكتابه «مكتوبات» فأصبحت راضياً كلياً وممتنّاً من دخولي المشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الحضارة البراقة ومتعها الزائفة، ومن انسلالي من الحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرت الله على ذلك كثيراً».

أزمة روحية حادة

«ففي سنة 1339هـ مررت بأزمة روحية حادة، واعتراني قلق قلبيّ رهيب وانتابنى اضطراب فكرى مخيف. فاستمددت حينها من الشيخ الكيلاني مدداً قوياً جداً، فأمدني بهمته وبكتابه «فتوح الغيب» حتى جاوزت ذلك القلق والاضطراب».


[1]  اللمعات، اللمعة السادسة والعشرون، الرجاء الحادي عشر. لا بد أن نذكّر «أن الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، هي الفلسفة المضرة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأن قسم الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتعين الأخلاق والمثل الإنسانية، وتمهّد السبل للرقي الصناعي، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمة لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك؛ لذا لا تتصدى رسائل النور لهذا القسم من الفلسفة.

    أما القسم الثاني من الفلسفة، فكما أصبح وسيلة للتردي في الضلالة والإلحاد والسقوط في هاوية المستنقع الآسـن للفلسفة الطبيعية، فإنه يسوق الإنسان إلى الغفلة والضلالة بالسفاهة واللهو. وحيث إنه يعارض بخوارقه التي هي كالسحر الحقائق المعجزة للقرآن الكريم، فإن رسائل النور تتصدى لهذا القسم الضال من الفلسـفة في أغلب أجزائها وذلك بنصبها موازين دقيقة، ودساتير رصينة، وبعقدها موازنات ومقايسات معززة ببراهين دامغة. فتصفعها بصفعاتها الشديدة، في حين أنها لا تمس القسم السديد النافع من الفلسفة». الملاحق، ملحق أميرداغ 1.

[2]  وللأستاذ النورسي خواطر قيّمة في جامع بايزيد جديرة بالتذكير، لم ندرجها هنا خشية الإطالة، نذكر منها: بيانه الإعجاز في «ن» نعبد، لدى إثباته أنه لا يمكن ترجمة القرآن ترجمة حقيقية. (المكتوبات، المكتوب التاسع والعشرون، القسم الأول). ومحاورة مع الشيطان، لدى إثباته أن القرآن الكريم كلام الله (المكتوبات، المكتوب السادس والعشرون).

الفصل الرابع في فريضة الجهاد

الفصل الرابع

في فريضة الجهاد

1915م/1334هـ

تشكيله فرقة المتطوعين

«في أثناء الحرب العالمية الأولى كنت مع الشهيد المرحوم الملا حبيب، نندفع بالهجوم على الروس في جبهة «باسينلر». فكانت مدفعيتهم تواصل رمي ثلاث قذائـف علينا في كل دقيقة أو دقيقتين، فمرّت ثلاث قذائف من على رؤوسنا تـماماً وعلى ارتفاع مترين. وتراجع جنودنا القابعون في الخندق. قلت للملا حبيب للتجربة والامتحان:

ما تقول يا ملا حبيب؟ لن اختبئ من قنابل هؤلاء الكفار. فقال: وأنا كذلك لن أتخلف عنك ولن أفارقك. فوقعت الثانية على مقربة منا. فقلت للملا حبيب واثقاً من الحفظ الإلهي لنا: هيا نتقدم إلى الأمام! إن قذائف الكفار لا تقتلنا، نحن لن نتدنى إلى الفرار والتخلف.

وكذا الأمر في معركة «بتليس» وفي الجبهة الأمامية منها، فقد أصابت ثلاث طلقات للروس موضعاً مميتاً مني وثقبت إحداها سروالي ومرت من بين رجليّ. كنت أحمل حينها -في تلك الحالة الخطرة- حالة روحية تترفع عن النـزول إلى الخندق، حتى قال القائد «كَل علي» والوالي «ممدوح» من الخلف: لينسحب، أو ليدخل الخندق فوراً! ورغم قولهم هذا، وقولي: قذائف الكفار لا تقتلنا، وعدم اكتراثي بالحذر والحيطة، فلم أحاول الحفاظ على حياتي البهيجة أيام شبابي تلك».

وهكذا «بعد أن أدّى بديع الزمان فريضة الجهاد في جبهة القفقاس «قائداً لفرق الأنصار» على أفضل وجه حيث حظي بتقدير القائد العام أنور باشا وقواد الفرق وإعجابهم، انسحب إلى مدينة «وان» حيث كانت القوات الروسية متجهة نحوها.

وفي أثناء إخلاء الحكومة مدينة «وان» من أهاليها لإنقاذهم من هجوم القوات الروسـية عليها، قرر بديع الزمان مع قسم من طلابه الدفاع عن المدينة حتى الشهادة محتمين بقلعتها، إلّا أنه بانسحاب الوالي والقائمقام والأهلين والجيش نحو «بتليس» هجم فوج من فرسان القازاق الروسية على «وَسْطَان» فكان ملا سعيد وقلة من طلابه وما يقارب الأربعين من الجنود -الذين لم ينسحبوا بعد- يصدونهم، حتى حالوا دون سقوط أطفال الأهلين وأموالهم بيد العدو. فتمكن الأهلون جميعاً من النجاة أثناء الانسحاب دون أن ينال العدو منهم شيئاً.

ولأجل قذف الرعب في قلوب المهاجمين القازاق تظاهر هو وطلابه أنهم يحتلون تلاً يطل عليهم، مما أوحى إليهم أن مدداً عسكرياً ضخماً قد أتاهم، فحدّ بذلك من تقدم القازاق، فكان سبباً في عدم استيلاء الروس لقصبة «وسطان».

وفي أثناء تلك المعارك كان يعود إلى الخندق ويملي على طالبه النجيب «الملا حبيب» تفسير «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» بل كان يملي أحياناً وهو على صهوة جواده أو في خط الدفاع الأول حتى أتمّ القسم الأعظم من ذلك التفسير الجليل».

من المقدمة التي كتبها لإشارات الإعجاز

«لقد تم تأليف تفسير «إشارات الإعجاز» في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى على جبهة القتال بدون مصدر أو مرجع. وقد اقتضت ظروف الحرب الشاقة وما يواكبها من حرمان أن يُكْتب هذا التفسيـر في غاية الإيجاز والاختصار لأسباب عديدة.

وقد بقيت الفاتحة والنصف الأول من التفسير على نحو أشد إجمالا واختصارا:

أولاً: لأن ذلك الزمان لم يكن يسمح بالإيضاح، نظراً إلى أن سعيداً القديم كان يعبّر بعبارات موجزة وقصيرة عن مرامه.

ثانياً: كان «سعيد» يضع درجة إفهام طلبته الأذكياء جداً موضع الاعتبار، ولم يكن يفكر في فهم الآخرين.

ثالثاً: لما كان يبيّن أدق وأرفع ما في نظم القرآن من الإيجاز المعجز، جاءت العبارات قصيرة ورفيعة.

بيد أنني أجَلت النظر فيه الآن بعين «سعيد الجديد». فوجدت أن هذا التفسير بما يحتويه من تدقيقات، يعدّ بحق تحفة رائعة من تحف سعيد القديم بالرغم من أخطائه وذنوبه.

ولما كان -أي سعيد القديم- يتوثب لنيل مرتبة الشهادة أثناء الكتابة، فيكتب ما يعنّ له بنية خالصة، ويطبق قوانين البلاغة ودساتير علوم العربية، لم أستطع أن أقدح في أي موضع منه، إذ ربما يجعل الباري عز وجل هذا المؤلَّف كفارة لذنوبه ويبعث رجالاً يستطيعون فهم هذا التفسير حق الفهم.

ولولا موانع الحرب العالمية، فقد كانت النيّـة تتجه إلى أن يكون هذا الجزء وقفاً على توضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن، وأن تكون الأجزاء الباقية كل واحد منها وقفاً على سائر أوجه الإعجاز.

ولو ضمت الأجزاء الباقية حقائقَ التفسير المتفرقة في الرسائل لأصبح تفسيراً بديعاً جامعاً للقرآن المعجز البيان.

ولعل الله يبعث هيئة سعيدة من المنورين تجعل من هذا الجزء ومن «الكلمات» و«المكتوبات» الست والستين، بل المائة والثلاثين من أجزاء رسائل النور مصدراً، وتَكتُب في ضوئه تفسيراً من هذا القبيل…

ثم إني بينما كنت منتظراً ومتوجهاً لهذا المقصد بتظاهر هيئة كذلك -وقد كان هذا غاية خيالي من زمان مديد- إذ سـنح لقلبي من قبيل الحس قبل الوقوع تقرّب زلزلة عظيمة، فشرعتُ -مع عجزي وقصوري والإغلاق في كلامي- في تقييد ما سنح لي من إشارات إعجاز القرآن في نظمه وبيان بعض حقائقه، ولم يتيسر لي مراجعة التفاسير، فإن وافقها فبِها ونِعْمَتْ وإلّا فالعُهدة عليّ.

فوقعتْ هذه الطامة الكبـرى.. ففي أثناء أداء فريضة الجهاد كلما انتهزتُ فرصة في خط الحرب قيدتُ ما لاح لي في الأودية والجبال بعبارات متفاوتة باختلاف الحالات. فمع احتياجها إلى التصحيح والإصلاح لا يرضى قلبي بتغييرها وتبديـلها؛ إذ ظهرتْ في حالة من خلوص النية لا توجد الآن، فأعرضها لأنظار أهل الكمال لا لأنه تفسير للتنـزيل، بل ليصير -لو ظفر بالقبول- نوعَ مأخذٍ لبعض وجوه التفسير. وقد ساقني شوقي إلى ما هو فوق طوقي، فإن استحسنوه شجعوني على الدوام. ومن الله التوفيق».

وقد أعجب بهذا التفسير القائد العام أنور باشا  إعجاباً كبيراً إلى درجة أنه هرع إلى اسـتقباله بكل احترام -وهذا ما لم يفعله مع أحد- وقرر إعطاء الورق اللازم لطبع هذا الكتاب لكي تكون له حصة من شرف تلك الهدية ومن ثوابها، هدية الحرب، كما ذُكر جهاد مؤلف الكتاب في الحرب بكل خير وبكل تقدير…

إنقاذ ما يمكن إنقاذه

وفي خضم تلك المعارك الدامية استشهد ما يقارب العشرين من طلابه النجباء، أما طالبه الكاتب «ملا حبيب» فبعد أن أدّى واجباً عسكرياً مع «خليل باشا» في جبهة «وان» استشهد في «وسطان».

وكان الفدائيون الأرمن يذبّحون أطفال المسلمين في عدد من المناطق وكان المسلمون يقابلونهم بالمثل في ذبح أطفال الأرمن. ولكن ما إن جُمع ألوف من أطفال الأرمن في المنطقة التي كانت تحت إمرة بديع الزمان حتى أمر الجنود: «لا تتعرضوا لهؤلاء الأطفال بشيء»، ثم أطلق سراحهم جميعاً دون أن يمس أحدهم بسوء، فعادوا إلى عوائلهم التي كانت خلف الخطوط الروسية. هذا السلوك كان درساً قيماً وعبرة للأرمن مما دفعهم إلى الإعجاب بأخلاق المسلمين.

وعلى إثر هذه الحادثة تخلى فدائيو الأرمن عن عادتهم في ذبح أطفال أهالي القرى التي احتلتها القوات الروسية حيث قالوا: «إن ملا سعيد لم يذبح أطفالنا بل سلّمهم إلينا فنحن كذلك نفعل بأطفال المسلمين مثله». فتعاهدوا على ذلك، أي إن بديع الزمان أصبح سبباً في إنقاذ الآلاف من الأطفال الأبرياء من كلا الجانبين.

وبعد مدة استولى الروس على مناطق «وان» و«مُوش» وفي أثناء هجومهم بثلاث فرق على «بتليس» قال الوالي «ممدوح بك» والقائد «كَل علي» لبديع الزمان:

نحن مضطرون إلى الانسحاب إذ لا نملك سوى فوج من الجنود وحوالي ألفين من المتطوعين تحت إمرتكم. فقال لهم بديع الزمان:

«بمعنى أن الأهلين الذين التجأوا إلينا من حوالينا وأهالي بتليس نفسها وأموالهم وأطفالهم ستكون تحت سيطرتهم، فنحن إذن مضطرون إلى مقاومتهم والدفاع عن المنطقة حتى الموت».

فقالوا: «إن الجنود يحاولون تحويل ثلاثين مدفعاً من مدافعنا إلى الجبهة الأخرى لـ«موش» بعد سقوطها، فإن استطعت أن تستخلص تلك المدافع بما لديك من المتطوعين، نستطيع نحن عند ذلك من الدفاع لبضعة أيام أخرى لكي ينجو الأهلون».

فقال بديع الزمان: «إما أن أموت أو آتيكم بتلك المدافع». فتسلّم قيادة ثلاثمائة متطوع واتجه ليلاً إلى صوب «نُورْشِين» حيث سحبت المدافع إليها. وأشاع جواسيسه بين الجنود الروس القازاق الذين كانوا يتولون حراسة تلك المدافع أن قائد المتطوعين الذي دافع عن «بتليس» ومعه ثلاثة آلاف من جنوده ومع القائد موسى بك المشهور مع ألف من جنوده سيأتون لتخليص المدافع.. فما إن أُشيع هذا الخبر المبالَغ فيه حتى توقف قائد القازاق من التقدم. فوزّع بديع الزمان جنوده المتطوعين على المدافع وسحبوها إلى «بتليس» حتى إنه خلّص آخر مدفع بنفسه مع اثنين ممن معه.

وهكذا حقق استخلاص ثلاثين مدفعاً من يد العدو وأرسلها إلى بتليس. فتمكن الجنود والمتطوعون من الثبات تجاه العدو بتلك المدافع لبضعة أيام أخرى، حتى نجا الأهلون جميعاً مع أموالهم وذراريهم.

ومما يروى عن الفدائيين الأرمن أنهم اشتهروا بكتمان السر وعدم إفشائه مهما بلغ بهم التعذيب حتى لو كُبّ أحدهم على الجمر وتفجرت عيونه. ومع هذا كان الروس يقولون: «إن متطوعي بديع الزمان تفوقوا على فدائيي الأرمن في بسالتهم، حتى تمكنوا من سحق القازاق».

كان بديع الزمان دائم الحركة في خط الدفاع الأول، خط النار لبث الروح المعنوية والشجاعة والإقدام للجنود، وما كان يحتمي بالخندق. وعندما كان على صهوة جواده يندفع يميناً وشمالاً في الصف الأمامي في خط النار، إذ بخاطر يخطر على قلبه ويحفر في روحه فيخاطب نفسه:

إذا استشهدتُ الآن احذر أن يكون في موقعك هذا وأنت متقدم الجميع في خط النار شيء من حب الظهور الذي يثلم الإخلاص، الذي هو أحد أسس مرتبة الشهادة.. وعقب هذا الخاطر عاد إلى الخندق مباشرة ولم يعقب وانضم إلى أخلّائه.

وبعد نجاة الوالي والقائد گل علي والأهلين بانسحابهم ليلاً مع المتطوعين والجنود، ظل بديع الزمان مع عدد من المتطوعين في «بتليس» لإنقاذ الذين عجزوا عن الهجرة. وما إن تبدد الظلام حتى رأوا أنفسهم تجاه فوج من جنود العدو فاستشهد كثيرون ممن معه، ومنهم ابن أخته «عُبيد» ولم ينج إلّا هو وأربعة من طلابه باختراقهم صفوف العدو بشكل خارق.

فخاطب من معه مسلياً لهم: لا نستعمل سلاحنا إلّا عندما يجابهنا العدو بعدد غفير، فلا نبيع أنفسنا رخيصة. ولا نطلق ما لدينا من طلقات على واحد أو اثنين من العدو.

الأسر

«لقد أحاطتني أوضاع مخيفة جداً في تلك الحرب العالمية، حتى تمزقت المسودة الأولى لإشارات الإعجاز بيد العدو حيث أصابتني أربع قذائف دفعة واحدة، وجُرحت في إحداها، وانكسرت ساقي، فبقيت في الماء والطين أربعاً وثلاثين ساعة منتظراً الموت، ومحاصراً من قبل العدو. فهذا الوقت يعدّ أحلك أوقاتي اليائسة وأشدها رهبة».

وإنها لعناية إلهية أن الجنود الروس لم يعثروا عليهم رغم البحث المستديم ورغم أنهم كانوا في وضع يرون الروس. فقال لطلابه الفدائيين: أصدقائي.. لا تقفوا في مواضعكم هكذا، اتركوني وشأني. فإني أسامحكم، اسعوا لإنقاذ أنفسكم.

فأجابوه: لا نتركك قطعاً وأنت في هذا الوضع. فلنستشهد ونحن في خدمتكم.

وهكذا ظلوا مع أستاذهم حتى أسَرَهُم الروس.([1])

ثم سيقوا إلى وان، جلفا، تفليس، كيلو غريف، قوصتورما. وظل في الأسر سنتين ونصف السنة تقريباً حتى تمكن من الفرار وعاد إلى إسطنبول سنة 1336هـ.

[يسجل عبدالمجيد تاريخ الأسر لدى استنساخه «إشارات الإعجاز» وانسكاب الحبر بالآتي:]

هذا النقش الغريب في هذا المبحث العجيب وقع توافقاً حينما نسخته في دياربكر بدار جودت بك في تسعة عشر من شباط عصر ليلة الجمعة صادف سـقوط بتليس وأسارة المؤلف «بديع الزمان» تلك الليلة فكأن حصول هذا النقش على هذه الصحيفة في تلك الليلة إشارة -والله أعلم- إلى إراقة دماء مَن في معية المؤلف من الطلبة وأسْرِه في تلك الليلة في بتليس. اهـ..

ذكريات من أيام الأسر

«عندما كنت أسيراً في روسيا، كانت الشمس لا تغرب أسبوعاً في مكان قريب منا، حتى كان الناس يخرجون لمشاهدة المنظر الغريب للغروب.

وقد كنا في قوصتورما، في روسيا، مع تسعين من ضباطنا الأسرى في ردهة واحدة، وكنت أُلقي عليهم أحياناً الدرس. وذات يوم حضـر القائد الروسي وشاهد الموقف وقال: إن هذا الكردي قائد المتطوعين قد ذبح كثيراً من جنودنا، ويأتي الآن ويلقى دروساً سياسية هنا، لا يمكن هذا، أمنعه قطعاً.

ولكن بعد يومين قال: يبدو أن دروسكم غير سياسية، بل دينية وأخلاقية. استمر عليها فسمح بإلقاء الدرس.

وعلى الرغم من أن الروس كانوا ينظرون إليّ بصفة قائد للمتطوعين الأكراد والظالم الذي يذبح الأسرى والقازاق، إلّا أنهم لم يمنعوني من إلقاء الدروس، فكنت أُلقيها على معظم زملائي الأسرى من الضباط البالغ عددهم تسعيـن ضابطاً، حتى إن القائد الروسي استمع مرة إلى الدرس، فحسبه درساً سياسياً، لجهله باللغة التركيـة، ومنعني مرة واحدة فقط ولكنه سمح لي بعد ذلك. ثم إننا جعلنا غرفة في الثكنة التي كنا فيها مسجداً لأداء الصلاة جماعةً، وكنت أؤم الجماعة، ولم يتدخلوا في ذلك قط، ولم يمنعونا من الاختلاط والاتصال بعضنا مع البعض ولم يقطعوا عنا المراسلات.

ولما كنت مع تسعين من ضباطنا -في الحرب العالمية السابقة- أسرى معتقلين في ردهة طويلة، في شمالي روسيا، كنت لا أسمح بالضوضاء والصخب بإسداء النصح لهم، إذ كانوا يحترمونني بما يفوق قدري بكثير، ولكن على حين غرة أثار الغضبُ الناشئ من توتر الأعصاب والانقباض المستولي على النفوس مناقشاتٍ حادة. فقلت لبضعةٍ منهم: «اذهبوا إلى حيث الضجيج والصياح، وساندوا المبطل دون المحق». وقد قاموا بدورهم. فانقطع دابر المناقشات الضارة.

ثم سألوني: «لِمَ قمت بهذا العمل الباطل؟».

قلت لهم: «إن المحقّ يكون منصفاً ويضحي بحقه الجزئي في سبيل راحة الآخرين ومصلحتهم التي هي كثيرة وكبيرة. أما المبطل فهو على الأغلب مغرور وأناني لا يضحي بشيء، فيزداد الصخب!»».

سجية تحير العقول

[يروي أحد الشهود هذه الحادثة قائلاً:]

عندما جُرحت وأُسـرتُ في موضع «بتليس» في الحرب العالمية الأولى، وقع بديع الزمان أيضاً في اليوم نفسه أسيراً. فأُرسل إلى أكبر معسكر للأسرى في سيبريا، وأُرسلتُ إلى جزيرة «نانكون» التابعة لـ«باكو».

ففي يوم من الأيام عندما يزور نيقولاي نيقولافيج المعسكر المذكور للتفتيش -يقوم له الأسرى احتراماً- وعندما يمر من أمام بديع الزمان لا يحرك ساكناً ولا يهتم به، مما يلفت نظر القائد العام، فيرجع ويمر من أمامه بحجة أخرى، فلا يكترث به أيضاً. وفي المرة الثالثة يقف أمامه، وتجري بينهما المحاورة الآتية بوساطة مترجم:

– أمَا عرفني؟

– نعم أعرفه إنه نيقولاي نيقولافيج، خال القيصر والقائد العام لجبهة القفقاس.

– فلمَ إذَن قَصَد الإهانة؟

– كلا! معذرة. إنني لم أستهن به، وإنما فعلت ما تأمرني به عقيدتي.

– وبماذا تأمره عقيدته؟

– إنني عالم مسلم أحمل في قلبي الإيمان، فالذي يحمل الإيمان في قلبه أفضل ممن لا يحمله. فلو أنني قد قمت له احتراماً لكنت إذن قليل الاحترام لعقيدتي. ولهذا لم أقم له.

– إذن فهو بإطلاقه صفة عدم الإيمان عليّ يكون قد أهانني وأهان جيشي وأهان أمتي والقيصر فلتشكّل حالاً محكمة عسكرية للنظر في استجوابه.

وتتشكل محكمة عسكرية بناء على هذا الأمر، ويأتي الضباط الأتراك والألمان والنمساويون للإلحاح على بديع الزمان بالاعتذار من القائد الروسي وطلب العفو منه، إلّا أنه أجابهم بالآتي: «إنني راغب في الرحيل إلى دار الآخرة والمثول بين يدي الرسول الكريم ﷺ، فأنا بحاجة إلى جواز سفر فحسب للآخرة، ولا أستطيع أن أعمل بما يخالف إيماني…»

وتجاه هذا الكلام يُؤْثِر الجميع الصمت منتظرين النتيجة.

وتنهي المحكمة أعمالها بإصدار قرار الإعدام بموجب مادة إهانة القيصر والجيش الروسي. وتحضر مفرزة يقودها ضابط روسي لأخذه إلى ساحة الإعدام. ويقوم بديع الزمان إلى الضابط الروسي قائلاً له بابتهاج: اسمحوا لي خمس عشرة دقيقة فقط لأؤدي واجبي.

فيقوم إلى الوضوء.. وأثناء أدائه الصلاة، يحضر نيقولاي نيقولافيج ويخاطبه: «أرجو منك المعذرة؛ كنت أظن أنكم قمتم بعملكم هذا قصد إهانتي، فاتخذت الإجراءات القانونية بحقكم، ولكن الآن أدركت أنكم تستلهمون هذا العمل من إيمانكم، وتنفذون ما تأمركم به عقيدتكم. لذا أبطلت قرار الحكم بحقكم. إنكم تستحقون كل تقدير وإعجاب لصلاحكم وتقواكم. أرجو المعذرة فقد أزعجتكم. وأكرر رجائي مراراً: أرجو المعذرة».

إن هذه العزة الدينية، وهذه السجية الرفيعة التي هي قدوة حسنة للمسلمين جميعاً أخبرني عنها أحد أصحابه في معسكر الأسر، وهو برتبة نقيب، وكان شاهد عيان للحادثة.

وأنا ما إن عرفت هذا حتى اغرورقت عيناي بالدموع دون اختيار مني…

صحوة روحية ومدد قرآني

«كنت أسيراً أثناء الحرب العالمية الأولى في مدينةٍ قصيةٍ، في شمال شرقي روسيا تدعى «قوصترما». كان هناك جامع صغير للتتار على حافة نهر «فولغا» المشهور.. كنت ضجراً من بين زملائي الضباط الأسرى، فآثرت العزلة، إلّا أنه لم يكن يسمح لي بالتجوال في الخارج دون إذن ورخصة، ثم سمح لي بأن أظل في ذلك الجامع بضمانة أهل حيّ التتار وكفالتهم، فكنت أنام فيه وحيداً، وقد اقترب الربيع، وكانت الليالي طويلة جداً في تلك البقعة النائية..

كان الأرق يصيبني كثيراً في تلك الليالي الحالكة السواد، المتسربلة بأحزان الغربة القاتـمة، حيث لا يُسمع إلّا الخرير الحزين لنهر «فولغا»، والأصوات الرقيقة لقطرات الأمطار، ولوعة الفراق في صفيـر الرياح.. كل ذلك أيقظني -مؤقتاً- من نوم الغفلة العميق..

ورغم أنني لم أكن أعدّ نفسي شيخاً بعدُ، ولكن من يرى الحرب العالمية يشيخ، حيث يشيب من هول أيامها الولدان، وكأن سراً من أسرار الآية الكريمة ﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ ش۪يبًا﴾ (المزمل:17) قد سرى فيها. ومع أنني كنت قريباً من الأربعين إلّا أنني وجدتُ نفسي كأنني في الثمانين من عمري..

في تلك الليالي المظلمة الطويلة الحزينة، وفي ذلك الجو الغامر بأسى الغربة، ومن واقعي المؤلم الأليم، جثم على صـدري يأس ثقيل نحو حياتي وموطني، فكلما التفتُّ إلى عجزي وانفرادي انقطع رجائي وأملي. وإذ أنا في تلك الحالة جاءني المدد من القرآن الكريم.. فردد لساني: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ﴾ (آل عمران:173). وقال قلبي باكياً: «أنا غريب.. أنا وحيد.. أنا ضعيف.. أنا عاجز.. أنشد الأمان.. أطلب العفو.. أخطب العون.. في بابك يا إلهي». أما روحي التي تذكرت أحبابي القدامى في بلدي، وتخيلت موتي في هذه الغربة، فقد تمثلت بأبيات نيازي المصري :

مررت بأحزان الدنيا، وأطلقت جناحي

للحرمان

طائراً في شوق، صائحاً في كل لحظة:

صديق!.. صديق..!

على أي حال.. فقد أصبح «عجزي» و«ضعفي» في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب إلى عتبة الرحمة الإلهية، وشفيعين لدى الحضرة الإلهية، حتى إنني لا أزال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد أيام قليلة. وأقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشياً على الأقدام إلّا في عام كامل، ولم أكن ملمّاً باللغة الروسـية. فلقد تخلصت من الأسر بصورة عجيبة محيّرة، بفضل العناية الإلهية التي أدركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت إسطنبول ماراً بـ«وارشو» و«فينا». وهكذا نجوت من ذلك الأسر بسهولة تدعو إلى الدهشة، حيث أكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيـرين، بحيث لم يكن لينجزها أشجع الأشخاص وأذكاهم وأمكرهم وممن يلمّون باللغة الروسية».

سنة 1918م/1336هـ

العودة من الأسر

«كان هناك استقبال رائع عند عودتي من الأسر إلى إسطنبول سواء من قبل الخليفة أو شيخ الإسلام، أو القائد العام، أو من قبل طلبة العلوم الشرعية، وقوبلتُ بتكريم وحفاوة أكثر مما أستحق بكثير…»

في دار الحكمة الإسلامية

وقد رأت حكومة الاتحاد والترقى بالإجماع أنه -يقصد نفسه- أوفق شخص لتبليغ الحكمة الإسلامية إلى حكماء أوروبا بشكل مؤثر. [إذ يقول]: فلبثت في إسطنبول لخدمة الدّين في «دار الحكمة الإسلامية» حوالي ثلاث سنوات.

[ويصف ابن أخيه عبد الرحمن، حالة عمه بعد عودته من الأسر:]

«بعد ما عاد عمي من الأسر سنة 1334رومي (1918م) عيّن في دار الحكمة الإسلامية دون رضاه، ولم يشارك في اجتماعاتها، لما كان يحس من حاجة ماسة إلى الراحة بعد أن قاسى ما قاسى في أيام الأسر. فأرسل عدة مرات طلباً يرجو فيه إعفاءه من العضوية، إلّا أن طلبه رفض. ولهذا باشر بالدوام وكنت أراقب حالاته، فما كان يأخذ من المرتّب المخصص له سوى ما يقيم أوده، وعندما يُستفسر عن سبب ذلك كان يقول: «أريد أن أعيش كالسواد الأعظم، فهم يتداركون معيشتهم بهذا القدر من المبلغ، ولا أريد أن أتبع الأقلية المسرفة». وبعد أن يضع المبلغ المخصص لحد الضرورة يدفع الباقي إليّ قائلاً: «احفظ هذا». ولكني كنت أصرفه دون علمه مستنداً إلى شفقته الواسعة. ولكن قال لي يوماً: «لا يحل لنا هذا المال، لأنه ملك الأمة، فلِم صرفته؟ فقد عزلتك عن صرف المال، ونصبتُ نفسي بدلاً عنك».

مرت الأيام وخطر له أن يطبع ما ألّفه من رسائله الاثنتي عشرة، فدفع ما ادّخره من مرتّبه إلى مصاريف الطبع ووزع الرسائل مجاناً سوى رسالة أو رسالتين. وعندما سألته: لِمَ لا يبيع مؤلفاته، قال: لا يجوز لي من هذا المرتّب إلّا حدّ الضرورة. والباقي للأمة، فأنا بدوري أعدت المال إلى أهله».

«وقد صرفت كثيراً من مرتّبي الذي كنت قد قبضته وأنا في دار الحكمة الإسلامية وادخرت قليلاً منه لأداء فريضـة الحج. وقد كفتني تلك النقود القليلة ببركة القناعة والاقتصـاد، فلم يرق مني ماء الوجه. وما زالت بقية من تلك النقود المباركة موجودة.

حيث ما قبلت مرتّباً إلاّ لمدة سنتين تقريباً عندما كنت عضواً في «دار الحكمة الإسلامية» وهذا أيضاً صرفته لطبع كتبي وتوزيعها مجاناً على الناس، فرددت بضاعتهم إليهم».([2])

ودار الحكمة الإسلامية تابعة للمشيخة الإسلامية العامة للدولة العثمانية، وكانت لا تضم إلّا كبار العلماء الأفاضل، كمحمد عاكف،  وإسماعيل حقي إزميرلي، وحمدي ألماليلي، وأمثالهم.

[ولكن لما سئل في زمن احتلال إسطنبول:]

– لِمَ لم تستطع «دار الحكمة الإسلامية» القيام بواجبها على الوجه الأتم؟

أجاب: إن عدم قيامها بالخدمة -في الوقت الحاضر- أفضل خدمة لها، وعدم نشاطها اعظم نشاط لها، لأن قوة الأجانب الحاكمة حالياً تشد الخناق على كل حركة ونأمة ونشاط ليست في صالحها. ولقد شـاهدنا أن من قاموا بنشاط أكرهوا على الدعاء للكفار ودفعوا إلى إصدار فتوى بجواز قتل المجاهدين، ففي خضم هذه العاصفة الهوجاء لم تُستغل دار الحكمة أداة طيعة، حيث قوة الأجنبي -التي هي المانع القوي لنشاطها- قد مدت الفساد وشجعته بكل قوة.

والسبب الثاني هو أن أعضاء دار الحكمة غير قادرين على الامتـزاج فيما بينهم، بل حتى على الاختلاط، فلكل منهم مزايا خاصة به، ولم تتولد بينهم روح الجماعة، إذ «أنا» كلٍّ منهم قوي إلى حد لا ينخرق ولا يتمزق كي يتحول إلى «نحن» لذا اضطلعوا في مساعيهم بدستور المشاركة فيما أهملوا دستور التعاون. فالمشاركة في الماديات تعظم النتائج وتجعلها فوق المعتاد، بينما تصغرها بل تجعلها بسـيطة وقبيحة في المعنويات. أما دستور التعاون فهو خلاف هذا تماماً إذ يكون في الماديات وسيلة لنتائج جليلة بالنسبة للشخص، ولنتائج صغيرة جداً بالنسبة للجماعة. بينما في المعنويات تصعد النتائج إلى حيث الأمور الخارقة.

ثم إن انتقاداتهم صارت شديدة عنيفة جداً، لا يقاومها فكر، بل يتشتت أمامها ويضمحل. لأنه أحياناً يضيع الحق لدى التنقيب عن «الأحق» فإن كان الاتفاق في الحق اختلافاً في الأحق يكون الحق أحق من الأحق. ففي أثناء تحرى الأحق هناك تسامح لوجود الباطل. أي يكون الحَسن أحياناً أحسن من الأحسن.

«وقد كانت تيارات بعيدة عن روح الإسلام تحاول التدخل في أمور دار الحكمة الإسلامية ولا سيما الأجنبية منها، فكان بديع الزمان يقف أمام هذه التيارات صلباً كالجبال متصدياً للفتاوى الخاطئة بلا تردد، إذ كان الموت نصب عينيه دائما».

[نورد منها جوابه الآتي للفتاوى الصادرة من المشيخة الإسلامية ضد حركة التحرير في الأناضول:]

«إنها ليست فتوى خالصة، بل فتوى تتضمن القضاء. لأن الذي يميز الفتوى عن القضاء كون موضوعها عاماً وغير معيَّن، فضلاً عن أنها غير ملزمة، بينما القضاء معيَّن مُلزم. فكل من يطّـلع على الفتوى -المذكورة- يجدها معيَّنة، يفهم المراد منها بالضـرورة، وأصبحت ملزمة حيث إن سوق عوام المسلمين ضد الحركة سبب واضح فيها. فمادامت هذه الفتوى تتضمن القضاء، والاستماع إلى كلا الخصمين ضرورة في القضاء، فكان ينبغي أن تُستجوَب حركة التحرير في الأناضول لتبدي ما لديها من مدّعيات ودعاوى، وبعد الاستماع إليها من قبل السياسيين والعلماء وتقييمها وفق المصلحة الإسلامية يمكن إصدار الفتوى، إذ حصل انقلاب في بعض الحقائق، حيث استبدلت الأضداد أسماءها ومواقعها، فتطلق العدالة على الظلم، والبغي على الجهاد، والحرية على الأسر».

[واقترح لإصلاح الأوضاع في دار الحكمة الآتي:]

«إن استخدام أي شيء في غير موضعه يكون مآله التعطل، ولا يبين أثره المرجو منه. فدار الحكمة الإسلامية التي أنشئت لغاية عظيمة، إذا خرجت من طورها الحالي أشركت في الشورى مع رؤساء الدوائر الأخرى في المشيخة وعُدّت من أعضائها، واستُدعي لها نحو من عشرين من العلماء الأجلاء الموثقين من أنحاء العالم الإسلامي كافة، عندها يمكن أن يكون هناك أساس لهذه المسألة الجسيمة».


[1] T. Hayat, ilk hayatı بعد أن انكسرت ساق الأستاذ اجتمعنا حوله حالاً وأخذناه إلى جدول ماء مسقف. ووضعنا عدداً من بنادقنا في جدول الماء ومددنا ساقه عليها، حتى أخذ قسطاً من الراحة. ثم توجه إلينا قائلاً: إخوتي لقد حكم عليّ القدر بالأسر، انظروا إلى أمر نجاة أنفسكم. فما إن قال هذا حتى أجهشنا بالبكاء، وقلنا: إلى أين نذهب أيها الأستاذ، فهل يمكن أن نتركك وأنت على وضعك هذا، ألم يبق لنا شرف وغيرة، فلئن متنا أو بقينا أحياء فليكن ذلك في خدمتك.

   وهكذا مضت علينا أربع وثلاثون ساعة من الوقت ونحن في ذلك الموضع، والبردُ الشديد يهلكنا فالثلوج تغطى كل مكان والجوع يفتك بنا -منذ ثلاثة أيام- فضلاً عن الأرق الشديد، والخوف يلفنا من كل جانب…

  وأخيراً قررنا أن يذهب أحدنا -وهو عبدالوهاب الذي يعرف شيئاً من الروسية- لإبلاغ الروس عن موضعنا… وفعلاً تم ذلك فأخذ الروس الأستاذ ممتداً في سدية على أكتافهم ونحن حوله (ب) 1/320 عن خاطرة علي جاويش باختصار.

[2]  الملاحق، ملحق أميرداغ 1؛ المكتوبات، المكتوب السادس عشر.

     يقول ابن أخيه «عبد الرحمن» في رسالة بعث بها إلى عَمه عبدالمجيد:

     «إنني محتار من أحوال عمّي (سعيد) فقد أطفأ عندي جميع الآمال الدنيوية، فالحكومة تعطيه مرتّباً جيداً، وأنا أقوم بادّخار ما يفضل عن مصاريفنا، وقد ألف كتباً عدة واستدعاني مرة قائلاً: اذهب واستدع مدير المطبعة الفُلانية. ذَهبت، وعندما قدّم مؤلفاته إلى المدير قال لي: يا عبدالرحمن! هات ما ادخرته من نقود، وادفعها للسيد المدير فنفذت له ما أراد، وعندما ذهب المدير امتلأت عيناي بالدموع، ولكنّي بدأت أعزي نفسي قائلاً:

   هذه الكتب ستطبع وستباع، وإن النقود سترجع وسأدخرها. ولكن بعد عدة أيام أرسلني مرة أخرى لاستدعاء المدير، وفي هذه المرة قال للمدير: أرجو أن تكتب على كتبي بأنها توزع مجاناً على الأمة الإسلامية».

   عندما خرج المدير شعرتُ بأن الرابطة الروحية التي كنت أحسها تجاه عمي الكبير قد تزحزحت، ولم أستطع أن أتمالك نفسي عن البكاء. فقلت له: يا عمي! كنتُ أدّخر بعض النقود لكي أقوم بتعمير بيتنا الذي خربته الحرب، والآن فقد قتلت ذلك الأمل.. أيجوز ذلك؟ وابتسم عمي قائلاً لي: «يا ابني.. يا عبد الرحمن! إن الحكومة كانت تعطينا مرتّباً كبيراً وليس لي أن آخذ منه الّا كفاف النفس، أما ما زاد عن ذلك، فيجب إعادته إلى بيت المال، لذا فإنني قمت بإعادته إلى المسلمين، ولا أعتقد بأنك ستفهم هذا، ولكن اعلم بأن الله إن شاء فسيعطيك بيتاً في أي مكان كان من هذا الوطن».(ش) 185-187عن مجلة أهل السنة 2/41 في 1/11/1948.

الفصل الثالث بداية الانعطاف التاريخي

الفصل الثالث

بداية الانعطاف التاريخي

سنة 1908م/1326هـ

إعلان المشروطية وماهيتها

«المشروطية: مجلّى وتفسير لآيتي ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْاَمْرِ﴾ (آل عمران:159).. ﴿وَاَمْرُهُمْ شُورٰى بَيْنَهُمْ﴾ (الشورى:38) فهي المشورة الشرعية.. فقوة ذلك الوجود المنور هو الحق.. وحياته هي العدالة.. وقلبه هي المعرفة.. ولسانه هي المحبة.. وعقله هو القانون لا الشخص.. إن روح المشروطية أن تكون القوة في القانون، والأمر والنهي في يد الحق، والمرء خادماً.. إذ المشروطية هي حاكمية الأمة، والحكومة ليست إلّا خادمة. ولئن صدقت المشروطية فالقائمقام والوالي ليسا رؤساءَ بل خدّاماً مأجورين».

«مشروطية» و«حرية» شرعيتان أو «استبداد جديد»

«إن أصحاب الأفكار الفاسدة، يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل ألّا نشاهد مرة أخرى تلك الاستبدادات التي دفنت في حفر الماضي ولا تلك المظالم التي جرت في سيل الزمان، أريد أن أقيم سداً حديداً بين الماضي والحاضر وذلك بإيضاح تاريخ حياة الحرية. وهو كالآتي:

إن هذا الانقلاب لو أعطى الحريةَ التي ولّدها لأحضان الشورى الشرعية لتـربيها فستُبعث أمجاد الماضي لهذه الأمة قوية حاكمة. بينما لو صادفت تلك الحرية الأغراض الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها.

يا أبناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيراً سيئاً كي لا تفلت من أيديكم، ولا تخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر.([1]) ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة.

والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ما كان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من الحرية والعدالة والمساواة على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت.

«ففي بداية إعلان الحرية، أرسلتُ ما يقارب من خمسين أو ستين برقية إلى العشائر القاطنين في شرقي البلاد، وذلك بوساطة ديوان رئاسة الوزارة. كان مضمون تلك البرقيات:

«إن المسألة التي سمعتموها وهي المشروطية والقانون الأساسي ما هي إلّا العدالة الحقة والشورى الشـرعية. تلقَّوْها بقبول حسن. اسعوا للحفاظ عليها؛ لأن سعادتنا الدنيوية في المشروطية. فلقد قاسَينا الأمرَّين من الاستبداد أكثر من الآخرين».

وقد أتت من كل مكان إجابات إيجابية لهذه البرقيات. بمعنى أنني قمت بتنبيه الولايات الشرقية ولم أتركهم غافلين، يستغفلهم استبداد جديد..»

وقمت بإلقاء خطب عدة على العلماء عامة وعلى كثير من طلاب الشريعة، وذلك في كل من جامع أياصوفيا وبايزيد والفاتح والسليمانية، وبينتُ العلاقة الحقيقية بين حقائق الشريعة والمشروطية. وأوضحت أن الاستبداد المتعسف لا صلة له بالشريعة الغراء، وأن الشريعة قد أتت لهداية العالم أجمع كي تـزيل التحكم الظالم والاستبداد..

وقد قلت: «إن المسلك الحقيقي للشريعة إنما هو حقيقة المشروطية المشروعة».بمعنى أنني رضيت بالمشروطية بالدلائل الشرعية، وليس كما رضي بها بعض دعاة المدنية الغربية، إذ قبلوها تقليداً وفهموها خلافاً للشريعة. فلم أتنازل عن الشريعة ولم أُعطها أتاوة لشيء.

إذ لما ارتقت المشروطية الشرعية عرش الأفكار، هزّت الحبل المتين للملّية، فاهتز بدوره الإسلام -وهو العروة الوثقى- وعرف كل مسلم أنه ليس هملاً سائباً، بل مرتبطاً بالآخرين بالمنفعة المشتركة والحسّ المجرد، فالمسلمون جميعاً مرتبطون كالعشيرة الواحدة.

إن أوروبا تظن أن الشريعة هي التي تمدّ الاستبداد بالقوة وتعينه. حاش وكلا.. إن الجهل والتعصب المتفشـيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمل ظناً خاطئاً من أن الشريعة تعين الاستبداد. لذا تألمت كثيراً من أعماق قلبي على ظنهم السيء هذا بالشريعة، فكما أنني أكذّب ظنهم فقد رحّبت بالمشروطية باسم الشريعة قبل أي شخص، ولكني خشـيت من أن يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من أعماقي، وبكل ما أوتيت من قوة في خطاب أمام المبعوثيـن «النواب».. في جامع أياصوفيا وقلت: افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقوها على أساسها، ولقّنوها الآخرين على هذه الصورة كي لا تلوثها اليد القذرة لاستبداد جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشيء الطيب المبارك ترساً لأغراضه الشخصية. قيّدوا الحرية بآداب الشرع لأن عوام الناس والجاهليـن يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد أن ظلوا أحراراً سائبين بلا قيد وشرط. ولتكن قبلتكم في صلاة العدالة على المذاهب الأربعة كي تصحّ صلاتكم، لأنني قد أعلنت دعوىً: وهو أنه يـمكن استخراج حقائق المشروطية صراحة وضمناً وإذناً من المذاهب الأربعة. ثم إن سبب افتتاني بمحبة معنى المشروطية هو أن المدخل الأول لتقدم آسيا والعالم الإسلامي في المستقبل هو المشروطية المشروعة والحرية التي هي ضمن نطاق الشريعة، وأن مفتاح حظ الإسلام وسعده ورقيه موجود في الشورى التي في المشروطية؛ حيث قد انسحق -لحد الآن- ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين تحت أقدام الاستبداد المعنوي للأجانب، وحيث إن الحاكمية الإسلامية مهيمنة الآن في العالم ولا سيما في آسيا، فإن كل مسلم يكون مالكاً لجزء حقيقي من الحاكمية. وإن الحرية هي العلاج الوحيد لإنقاذ ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين من الأسر. فحتى لو تضرر هنا -بفرض محال- عشـرون مليوناً من الناس في أثناء إرساء الحرية، فليكن ذلك فداءً، إذ نأخذ ثلاثمائة بدفع عشرين.

وا أسفى! إن العناصر والقوميات الموجودة عندنا مختلطة اختلاط أجزاء الهواء، ولم تمتزج امتزاج أجزاء الماء. وستمتزج تلك العناصر والقوميات بالإسلام الذي يفعل فعل التيار الكهربائي فيهم، وسيأتي بإذن الله مزاج العدالة المنصفة المتـولدة من حرارة نور المعارف الإسلامية، فلتعش المشروطية المشروعة، ولتدم الحرية النيّرة المسترشدة بتربية حقيقة الشريعة.

وأقول بلا فخر: «نحن المسلمين الحقيقيين ننخدع ولكن لا نخدع، ولا نتنـزّل للخداع لأجل حياة دنيوية، لأننا نعلم «إنما الحيلة في ترك الحيل». ولكن لأنني قد عاهدت المشروطية الحقيقية المشروعة سأصفع الاستبداد إن قابلته في أي لباس كان، حتى لو كان لابساً ملابس المشروطية أو تقلّد اسمها. وفي اعتقادي أن أعداء المشروطية هم أولئك الذين يشوّهون صورتها بإظهارها مخالفة للشريعة وأنها ظالمة، فيكثرون بهذا أعداء الشورى أيضاً. علماً أن القاعدة هي: «لا تتبدل الحقائق بتبدل الأسماء»».

لقاء مع مفتي الديار المصرية  

«في السنة الأولى من عهد الحرية سأل الشيخ بخيت -مفتى الديار المصرية- سعيداً القديم:

ما تقول في حق هذه الحرية العثمانية والمدنية الأوروبائية؟

فأجابه سعيد: «إن الدولة العثمانية حاملة بدولة أوروبائية وستلدها يوماً ما، وإن أوروبا حاملة بالإسلام وستلده يوماً ما».

فقال له الشيخ الجليل: «وأنا أصدّق ما يقوله».

ثم قال لمن حوله من العلماء: «لا يُناظَر هذا الشاب، ولا أتمكن من غلبته».

فلقد شاهدنا الولادة الأولى، أنها سبقت أوروبا في بُعدها عن الدين بربع قرن.
أما الولادة الثانية فستظهر بعد حوالي ثلاثين سنة بإذن الله. ستظهر في الشرق والغرب دولة إسلامية».

خطاب إلى الحرية

«أيتها الحرية الشرعية!

انكِ تنادين بصوت هادر، ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة، توقظين بها كردياً بدوياً مثلي نائماً تحت طبقات الغفلة، ولولاكِ لظللتُ أنا والأمة جميعاً في سجن الأسر والقيد.إنني أُبشّرك بعمر خالد. فإذا ما اتخذتِ الشريعةَ التي هي عين الحياة، منبعاً للحياة، وترعرعتِ في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فإنني أزف بشرى سارة أيضاً بأن هذه الأمة المظلومة سـتترقى ألف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها، وإذا ما اتخذتك الأمة مرشدة لها، ولم تلوّثك بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد أخرَجَنا إذن مَن له العظمة والمنة من قبـر الوحشة والاستبداد، ودعانا إلى جنة الاتحاد والمحبة….

إن هذا الاتحاد، اتحاد القلوب والمحبة الموجهة للامة كافة، وهي معدن السعادة والحرية، قد أنعم بها المولى الكريم علينا مجاناً، بينما الأمم الأخرى قد ظفروا بها بعد دفع الملايين من جواهر النفوس الغالية.

إن صدى الحرية والعدالة ينفخ نفخ إسرافيل فيبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا القومية الرفيعة وأخلاقنا الإسلامية الحميدة، حتى يرن صماخ الكرة الأرضية المجذوبة جذبة المولوي، ويهيج الأمة جميعاً ويهزها هزّ المجذوب.

وإياكم يا إخوان الوطن أن تقضوا عليها بالموت مرة أخرى بالسفاهات والإهمال في الدين.

إن القانون الأساسي المؤسس على هذه الشريعة الغراء قد أصبح ملك الموت لقبض أرواح جميع الأفكار الفاسدة والأخلاق الرذيلة والدسائس الشيطانية والتزلفات الدنيئة. فيا إخوة الوطن! لا تعيدوا الحياةَ لتلك الرذائل بالإسرافات ومخالفة الشريعة والملذات المحرمة…

وبخلافه فإن تفسير الحرية والعمل بها على أنها التحرر من القيود والانغمار في السفاهات والملذات غير المشروعة والبذخ والإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء اتباعاً لهوى النفس.. مماثل لمن يتحرر من أسر سلطان واحد ويدخل في استبداد حقراء سافلين كثيرين. فضلاً عن أن هذا النمط من الحرية يُظهر أن الأمة غير راشدة ومازالت في عهد الصبوة وليست أهلاً للحرية. فهي سفيهة إذن تستحق الحجر عليها، بالرجوع إلى الاستبداد السابق البائد…

وبناء على ما سبق لاينبغي أن ننخدع، بل نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: «خذ ما صفا دع ما كدر» وفي ضوئها سنأخذ من الأجانب -مشكورين- كل ما يعين على الرقي المدني من علوم وصناعات. أما العادات والأخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيراً لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة.

فنحن لو أخذنا منهم المدنية -بسوء حظنا وسوء اختيارنا- بما يوافق الهوى والشهوات -كالأطفال- تاركين محاسنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجلات، إذ كيف إذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا ما يكون لنا أن نتجمل بمساحيق التجميل!..

ينبغي لنا الإقتداء باليابانيين في المدنية، لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا. وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الإسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالإسلام…

نحن على أمل عظيم أن تثمر مزرعة الأناضول ورومَلي شباناً غيارى. فلا جرم أن الممالك العثمانية محل ظهور الأنبياء، ومهد الدول الحضارية، ومشرق شمس الإسلام. فإذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الإنسانية بغيث الحرية، فإنها تتحول إلى شجرة طوبى من الأفكار النيرة وتمتد أغصانها إلى كل جهة، وسيجعل الشرق مشرقاً للغرب، إن لم تفسد وتنخر بالكسل والأغراض الشخصية…

إن الشريعة الغراء تمضي إلى الأبد لأنها آتية من الكلام الأزلي. والبرهان الباهر عليه هو أن الشريعة تتوسع وتنمو نمو الكائن الحي أي بنسبة نمو استعداد الإنسان وتشربه من نتائج تلاحق الأفكار وتغذيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من أغصان شجرة استكمال العالم.

فالحرية والعدالة والمساواة التي كان يرفل بها خير القرون والخلفاء الأربعة، ولاسيما في ذلك الوقت، دليل على أن الشريعة الغراء جامعة لجميع روابط المساواة والعدالة والحرية الحقة. فآثار سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما وصلاح الدين الأيوبي دليل وأي دليل على هذا الادعاء.

ومن هنا فإني أقرر أن سبب تأخرنا وتَدَنّينا وسوء أحوالنا إلى الآن ناتج مما يأتي:

1- عدم مراعاة أحكام الشريعة الغراء.

2- تصرفات بعض المداهنين تصرفاً عفوياً.

3- التعصب المقيت في غير محله سواءً لدى عالم جاهل أو جاهل عالم!

4- تقليد مساوئ المدنية الأوروبية تقليداً ببغائياً -بسوء حظنا أو سوء اختيارنا- مما ولّد تركنا لمحاسن المدنية التي تستحصل بمشكلات ومصاعب.

فلو قام الموظفون خير قيام بوظائفهم وسعى الآخرون حسب الظروف المحيطة وما يتطلبه الزمان الحاضر، فلن يجد أحد متسعاً من الوقت للسفاهة؛ ولو انهمك أي منهما بها فلا يكون إلّا جرثومة خطرة في جسم المجتمع…

كما أن الجسم محال أن يتحلل إلى ذرات دفعة واحدة كذلك تشكّله من ذرات دفعة واحدة وبصورة فجائية محال أيضاً. لذا فإن فصل الموظفين السابقين من جسم الدولة ووضع آخرين جدد في مواضعهم متعذر وإن لم يكن محالاً. علماً أن الدولة ستنبذ الموظفين الذين ينطوون على خبث دفين لا يمكن إصلاحه، بينما باب التوبة مفتوح لمن يمكن إصلاحه ما لم تطلع الشمس من مغربها. فهؤلاء يجب الاستفادة من تجاربهم، إذ إشغال مواضعهم الوظيفية يحتاج إلى أربعين سنة أخرى. وإلّا فإن إطالة اللسان بالسوء إلى الجميع وإهانتهم يجعل هذا الاتحاد، اتحاد الأمة العظيم، معرّضاً لوباء وبيل من أفكار فاسدة وأخلاق سيئة…»

مع عمانوئيل كراصو  

حاول اليهودي المعروف «عمانوئيل كراصو» أن يجتمع ببديع الزمان في إطار محاولات التأثير فيه ولم يمانع من مقابلته. ولكن هذا اليهودي سرعان ما قطع الاجتماع وتركه هرباً من تأثيـر شخصية بديع الزمان إذ قال وهو لا يكاد يصدق نفسه:

لقد كاد هذا الرجل العجيب أن يزجّني في الإسلام بحديثه.

موقفه من جون تورك

[كان الأستاذ النُّورْسِيّ يحسن الظن بالطيبين منهم بادئ الأمر كما هو واضح في محاورته العشائر]:

«س: كنا نسمع سابقاً وإلى الآن أن أكثر أفراد «جون تورك» هم من الماسونيين، الذين يعادون الدين.

ج: لقد ألقى الاستبداد هذه التلقينات إبقاءً لنفسه، ومما يسند هذا الوهم ويقوّيه عدم مبالاة بعضهم بالدين. لكن اطمئنوا، إن قصد من لم ينضم منهم إلى الماسونية، ليس الإضرار بالدين، بل نفع الأمة وتأمين سلامتها، ولكن البعض منهم يفرطون في الهجوم على التعصب المقيت الذي لا يليق بالدين. ويبدو أنكم تطلقون على الذين سبق منهم خدمات للحرية والمشروطية أو الذين ارتضوا بهما اسم «جون تورك». فاعلموا أن قسماً من أولئك هم مجاهدو الإسلام، وقسماً منهم فدائيو سلامة الأمة، فالذين يشكلون القسم الأعظم منهم والعقدة الحياتية لهم هم من غير الماسونيين ويمثلون أكثرية الاتحاد والترقي. فهناك علماء ومشايخ في صفوف «جون تورك» بقدر عشائركم.. رغم وجود زمرة من الماسونيين المفسدين السفهاء فيهم، وهم قلّة قليلة لا يتجاوزون عشرة بالمائة منهم، بينما التسعون بالمائة الباقية منهم مسلمون ذوو عقيدة أمثالكم ومعلوم أن الحكم للأكثرية.. فأحسنوا الظن بهم، إذ إن سوء الظن يضركم ويضرهم معاً.

س: لِمَ تحسن الظن -كلما أمكنك ذلك- بحكومة المشروطية وأفراد «جون تورك» غير الملحدين؟.

ج: لأنكم تسيئون الظن بهم كلما تيسّر لكم ذلك، فأنا أحسن الظن بهم، فإن كانوا بمثل ما أقول فبها ونِعمَت، وإلّا فأنا أرشدهم إلى الصواب كي يسلكوه.

س: ما رأيك في الاتحاد والترقي؟.

ج: مع أنني أثمّن قيمتهم إلّا أنني أعترض على الشدّة التي يزاولها سياسيوهم وأهنئ في الوقت ذاته واستحسن -إلى حدٍّ ما- فروعهم وشعبهم الاقتصادية والثقافية ولاسيما في الولايات الشرقية.

إن سعيداً القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة «الاتحاد والترقي» مال إلى حكومتها ولاسيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقف تقدير وإعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك إلّا بما كان يحس به من إحساس مسبق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبمـا يخالف مشربه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن فتحول إلى مخيض لا قيمة له. فعاد «سعيد الجديد» إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيداً القديم.

وقد كنت أرى -في بداية عهد الحرية- ملحدين داخلين ضمن الاتحاديين يقولون:

إن في الإسلام والشريعة المحمدية دساتير قيمة شاملة نافعة جداً وجديرة بالتطبيق للمجتمع البشري ولاسيما للسياسة العثمانية. فكانوا ينحازون إلى الشريعة المحمدية بكل ما لديهم من قوة، فهم من هذه النقطة مسلمون، أي يلتزمون الحق ويوالونه، مع أنهم غير مؤمنين، بمعنى أنهم أهل لأن يدعون: «مسلمون غير مؤمنين».

أما الآن فهناك مَن يعتقد بنفسه الإيمان، فيؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، إلّا أنه يوالى التيارات المناهضة للشريعة والموافقة للأجانب، تحت اسم المدنية. ولما كان لا يلتزم بقوانين الشريعة الأحمدية التي هي الحق والحقيقة ولا يواليها موالاة حقيقية، فيكون إذن مؤمناً غير مسلم. ويصح القول: كما أن الإسلام بلا إيمان لا يكون سبباً للنجاة كذلك الإيمان بلا إسلام -على علم- لا يصمد ولا يمنح النجاة».

مطاليبه من الاتحاد والترقي

أ. إنشاء مدرسة الزهراء

ب. الصدق والأمانة وضمان مستقبل العلماء

إن لي دعوى أبحثها مع الخواص، ولي مسألة مهمة مع الحكومة، مع الأشراف، مع أولئك الذين ليسوا من الماسونيين من جماعة الاتحاد والترقي.

يا طبقة الخواص! نحن العوام ومعاشر أهل المدرسة الدينية نطالبكم بحقنا!..

نريد أن تصدقوا قولكم بفعلكم، ولا تعتذروا بقصور غيركم، ولا تتواكلوا فيما بينكم وتتكاسـلوا في خدمتنا الواجبة عليكم، وأن تتداركوا فيما فاتنا بسببكم، وأن تستمعوا إلى أحوالنا وتستشيروا حاجاتنا، وأن تستفسروا عن أوضاعنا، وتَدَعوا لَهوَكم جانباً!..

الحاصل: أننا نطلب ضمان مستقبل العلماء في الولايات الشرقية ونطلب نصيبنا من معنى «الاتحاد» و«الترقي» لا من الاسم، فنطلب ما هو هيّن عليكم وعظيم عندنا.

ج. إنشاء مجلس شورى للاجتهاد

بينا نرى الوزارة تستند أصلاً إلى ثلاثة مجالس شورى -وقد لا توفي هذه المجالس حاجاتها الكثيرة- نجد أن المشيخة قد أودعت إلى اجتهاد شخص واحد، في وقت تعقدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في أدق الأمور، فضلا عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الأفكار وتدني الأخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا.

من المعلوم أن مقاومة الفرد تكون ضعيفة أمام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من أحكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية.

وبينما كانت الأمور بسيطة والتسليم للعلماء وتقليدهم جارياً كانت المشيخة مودعة إلى مجلس شورى -ولو بصورة غير منتظمة- ويتركب من شخصيات مرموقة، أما الآن وقد تعقدت الأمور ولم تعد بسيطة وارتخى عنان تقليد العلماء واتباعهم.. أقول: كيف يا ترى يكون بمقدور شخص واحد القيام بكل الأعباء؟

ولقد أظهر الزمان أن هذه المشيخة الإسلامية -التي تمثل الخلافة- ليست لأهل إسطنبول خاصة أو للدولة العثمانية، وإنما هي مؤسسة جليلة تعود للمسلمين عامة. فوضعها الحالي المنطفئ لا يؤهلها للقيام بأعباء إرشاد إسطنبول وحدها ناهيك عن إرشاد العالم الإسلامي! لذا ينبغي أن تؤول هذه المشيخة إلى درجة ومنـزلة تتمكن بها كسب ثقة العالم الإسلامي فتكون كالمرآة العاكسة لمشاكل المسلمين. وتغدو منبعاً فياضاً للاجتهادات والأفكار. وعندها تكون قد أدت مهمتها حق الأداء تجاه العالم الإسلامي.

لقد طالبت بهذه الفكرة  أعضاء «تركيا الفتاة» إبان إعلان الدستور، فلم يوافقوا عليها، وبعد مضي اثنتي عشرة سنة طالبتهم بها أيضاً فقبلوها ولكن المجلس النيابي قد حل. والآن أعرضها مرة أخرى على نقطة تمركز العالم الإسلامي.

معارضة الاتحاد والترقي وعدّ محبتهم غير مشروعة

إن خطأ أعضاء تركيا الفتاة نابع من عدم معرفتهم بأن الدين أساس الحياة. فظنوا أن الأمة شيء والإسلام شيء آخر وهما متمايزان! ذلك لأن المدنية الحاضرة أوحـت بذلك واستولت على الأفكار بقولها: «إن السعادة هي في الحياة نفسها». إلّا أن الزمان أظهر الآن أن نظام المدنية فاسد ومضر. والتجارب القاطعة أظهرت لنا أن الدين حياة للحياة ونورها وأساسها. إحياء الدين إحياء لهذه الأمة. والإسلام هو الذي أدرك هذا. إن رقي أمتنا هو بنسبة تمسكها بالدين، وتدنيها هو بمقدار إهمالها له، بخلاف الأديان الأخرى. هذه حقيقة تاريخية، قد تنوسيت.

س: كنتَ تعارض الاتحاد والترقي، إلّا أنك تسكت عليهم الآن.

قلت: لكثرة هجوم الأعداء عليهم.

إن هدف الهجوم الذي يشنه الأعداء هو العزم والثبات اللذان يتحلّون بهما وعدم كونهم وسيلة لتنفيذ مآرب الأعداء في تسميم أفكار المسلمين. وهذا من حسناتهم. إنني أرى أن الطريق طريقان؛ ككفتي الميزان. خفة إحداهما تولد ثقل الأخرى. فأنا لا أصفع «أنور»  بجانب «أنترانيك»، ولا أصفع «سعيد حليم»  بجانب «فنـزيلوس»  وفي نظري أن الذي يصفعهما سافل منحط.

نعم، إنني عارضت شعبة -الاتحاد والترقي- المستبدة هنا، تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيّز وسببت التفرقة بين الناس وأوجدت الفرق والأحزاب القومية، وتسمّت بالمشروطية بينما مثلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطخت اسم الاتحاد والترقي.

ولقد كان تسعون بالمائة من هذه الحركة موجهة ضد الاتحاد والترقي وضد استبدادهم ودكتاتوريتهم.

لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد. إلّا أنها الآن تعادي الحياة بأكملها. فإن كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق؛ فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.

ومع هذا فإن القدر الإلهي يعذبني بالأيدي الظالمة لأهل الدنيا هؤلاء، وذلك بسبب ما لا يستحقونه من ميلي إليهم، وفق القاعدة: «إن نتيجة محبة غير مشروعة عداوة ظالمة».

وقد كنت أوثر الصمت، لعلمي أني أسـتحق هذا العذاب، حيث إنني قد خدمت بصفة قائد للمتطوعين في الحرب العالمية الأولى، وخضت المعارك، وضحيت بخيرة طلابي وأحبّائي مع نيل تقدير القائد العام للجيش أنور باشا. وسقطت جريحاً، وأُسرت. وبعد مجيئي من الأسر ألقيت بنفسي في المهالك، بتأليفي كتاب «الخطوات السـت» الذي تحديت به الإنكليز وهم يحتلون إسطنبول. فعاونت هؤلاء الأصدقاء الذين ألقوني في عذاب الأسر بغير سبب. وكان هذا جزائي نظير معاونتي لهم، فأذاقني هؤلاء من المصاعب والمتاعب في ثلاثة شهور ما يفوق المصاعب والمتاعب التي قاسيت منها في روسيا طوال ثلاث سنوات.

مواقفه في الفوضى التي ضربت أطنابها عقب إعلان الحرية

«في بداية عهد الحرية «أي إعلان الدستور» تشكلت جمعيات مختلفة للّاجئين وفي المقدمة الروم والأرمن، تحت أسماء أندية كثيرة، وسببت تفرقة القلوب -كما تشتتت الأقوام بانهدام برج بابل، وتفرقوا أيدي سبأ في التاريخ- حتى كان منهم من أصبح لقمة سائغة للأجانب، ومنهم من تردى وضل ضلالاً بعيداً إذ قد عمت الفوضى والإرهاب في الأوساط بما نشرته الصحف من مقالات محرضة، وشروع الفرقاء «الأحزاب» بتسجيل أسماء الفدائيين، وسيطرة الأشخاص الذين قادوا الانقلاب، وسريان الحرية المطلقة إلى الجنود بما ينافي الطاعة العسكرية، وتلقين بعض المهمليـن الجنود ما يظنونه مخالفاً للآداب الدينية. وبعد أن انفرط عقد الطاعة زرع المستبدون والمتعصبون الجهلاء -والذين تنقصهم المحاكمة العقلية في الدين- البذور في ذلك المستنقع الآسن -بظن الإحسان- وظلت السياسة العامة للدولة بيد الجهلاء وأطلق ما يقارب المليون من الطلقات في الهواء وتدخلت الأيادي الداخلية والخارجية…»

تهدئته المشاعر المتهيجة

«لقد شعرت مراراً في اجتماعات ضخمة بالمشاعر المتهيجة لدى الناس، فخشيت أن يخلّ عوام الناس بالنظام وأمن البلاد بمداخلتهم في السياسة، فقمت بتهدئة تلك المشاعر الجياشة بكلام يلائم لسان طالب علم قروي قد تعلم اللغة التركية حديثاً.

فمثلاً: في اجتماع الطلاب في جامع بايزيد، وفي المولد النبوي المقام في أياصوفيا، وفي مسرح الفرح، هدّأتُ -إلى حدٍ ما- ثورة الناس وغضبهم. فلولا تلك الكلمات والخطب لعصفت بهم عاصفة هوجاء».([2])

تهدئته الحمالين

«توجستُ خيفة من أن يُلوّث صفاء القلوب لدى الولايات الشرقية، فيستغل بعضُ دعاة الأحزاب أبناء بلدي الذين يقرب تعدادهم من عشـرين ألف شخص، حيث إنهم يعملون بالحمالة وهم ذوو نفوس طيبة ساذجة غافلة. فتجولت جميع الأماكن والمقاهي التي يوجد فيها الحمالون، وبينت لهم المشروطية في السنة الماضية بقدر ما يستوعبونه. فقلت لهم بهذا المعنى:

إن الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، أما المشروطية فهي العدالة والشريعة؛ فالسلطان إذا ما أطاع أوامر سيدنا الرسول الكريم ﷺ وسار في نهجه المبارك فهو الخليفة، ونحن نطيعه، وإلّا فالذين يعصون الرسول ﷺ ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين.

إن عدونا هو الجهل والضرورة (الفقر الشديد) والاختلاف، وسنجاهد هؤلاء الأعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق. وسنتعاون ونتصادق يداً بيد مع الأتراك وهم إخواننا الحقيقيون الذين كانوا السبب -من جهة- لإيقاظنا من غفلتـنا ودفعنا إلى سبيل الرقي. نعم، نتعاون معهم ومع جميع من يجاورنا، لأن الخصام والعداء فساد أي فساد. فلا نملك وقتاً للخصام. ونحن لا نتدخل بشؤون الحكومة، حيث إننا لا ندرك حكمتها.

ولقد كانت لهذه النصيحة جدوىً وأثر في أولئك الحمالين الذين قاطعوا العمل في إنزال البضائع النمساوية -مثلما أقاطع البضائع الأوروبية قاطبة- حيث تصرفوا تصرفاً يتسم بالعقلانية وبعيداً عن التهور».


[1]  نعم، لقد سقونا عبودية مسمومة جداً باستبداد أرهب وأشد. (المؤلف)

[2]  صيقل الإسلام، المحكمة العسكرية العرفية. إذ كادت الفوضى التي عمت المسرح تنقلب إلى نزاع دموي، بين أنصار جمعية «الاتحاد والترقي» ومعارضيهم، فاعتلى الأستاذ النورسي المنصة وخاطب بصوته الجهوري الحاضرين ودعاهم إلى النظام والإخلاد إلى السكون أولاً ثم بيّن لهم أن عليهم أن يروّضوا أنفسهم على احترام رأي المقابل واحتـرام حرية النقاش، وأن من العار على أمة أعلنت المشروطية ألا تراعي هذا الأمر، ومذكراً إياهم برحابة صدر الرسول ﷺ وقيامه بالمشورة مع أصحابه. واستطاع فعلاً إقرار السكون والهدوء في ذلك الاجتماع الذي كاد ينقلب إلى مذبحة.

الفصل الثاني في آفاق إسطنبول

الفصل الثاني

في آفاق إسطنبول

سنة 1907م/1325هـ

في طريق إسطنبول

في أثناء مجيئي إلى إسطنبول قبل عهد الحرية، اقتنيت بضعة كتب قيّمة تخص علم الكلام فقرأتها بدقة. وبعد مجيئي إليها دعوت العلماء ومدرسي المدارس الدينية إلى المناقشة بإعلاني «اسألوا ما شئتم». إلّا أن الشيء المحير أن المسائل التي طرحها القادمون كنت قد قرأت أجوبتها في طريقي إلى إسطنبول وظلت عالقة في ذهني. وكذا الأسئلة التي طرحها الفلاسفة هي المسائل التي ظلت عالقة في ذهني.

والآن [أي بعد حوالي خمسين سنة] توضح الأمر فأدرك أن ذلك النجاح الباهر وذلك الإعلان وإظهار الإعجاب والفضيـلة التي تفوق حدي بكثير، إنما كان لتهيئة الوسط الملائم لقبول رسائل النور لدى إسطنبول وعلمائها ومعرفة أهميتها.

فلقد دعا العلماءَ وأهل المدارس الحديثة في إسطنبول -قبل إعلان الحرية بستة شهور- إلى المناظرة والمناقشة، والإجابة عن أسئلتهم دون أن يسأل أحداً شيئاً. فأجاب عن جميع استفساراتهم إجابة شافية صائبة.([1])

أسئلة القائد الياباني

«قدمتُ إلى إسطنبول قبل أربعين سنة، أي قبل عام واحد فقط من إعلان الحرية، وكان القائد الياباني العام آنذاك قد وجّه إلى علماء الإسلام بعض الأسئلة الدينية، فوجه علماء إسطنبول هذه الأسئلة إليّ كما طرحوا عليّ أسئلة أخرى عديدة بهذه المناسبة، ومن ضمن هذه الأسئلة ما ورد في أحد الأحاديث الشريفة أنه «يصبح شخص رهيب في آخر الزمان وقد كتب على جبينه: هذا كافر» فقلت: «سيتولى أمر هذه الأمة شخص عجيب، ويصبح وقد لبس قبعة على رأسه، ويُكره الناس على لبسها».

فسألوني بعد هذا الجواب: «ألا يكون من يلبسها آنذاك كافراً؟»

قلت: «عندما تستقر القبعة على الرأس ستقول: لا تسجد، ولكن الإيمان الموجود في الرأس سيرغم تلك القبعة على السجود إن شاء الله، وسيدخلها الإسلام»…

ثم سألوا أسئلة عديدة حول سد ذي القرنين ويأجوج ومأجوج وحول دابة الأرض والدجال وعن نزول عيسى عليه السلام، فأجبت عنها، حتى إن قسماً من هذه الأجوبة أدرج في بعض مؤلفاتي القديمة».([2])

عريضة إلى السلطان عبد الحميد الثاني

بضرورة إنشاء مدرسة الزهراء:

تهمة الجنون

في ختام المناظرات العلمية والمناقشات الرفيعة التي دامت بنجاح باهر أياماً وأسابيع، قالوا: إن هذا الرجل مجنون، لأنه يعلم كل شيء! وسجلوا اسم سعيد المسكين في سجل المجانين فألقوا سعيداً، مجنونَ العلم والمعرفة والوطن والمدنية والإنسانية في مستشفى المجاذيب، وبعثوا من القصر طبيباً ليفحص قواه العقلية في المستشفى. ولكن سعيداً المجنون! بدأ يشرح وضعه وسبب قدومه إلى إسطنبول، قائلاً: إنني لست مصاباً بالمرض بل الأمة والبلاد كلها، وجئت لأداوي أمراضهم؛ فالمنطقة الشرقية هي هي مذ خلقها الله سبحانه، وأهلوها غارقون في مستنقع الجهل، وجئت إلى هنا أملاً في إنقاذهم، ولكن عندما سعيت في هذا الأمر اتُّهمت بالجنون. إنه حقاً من عاشر المجانين يكون مجنوناً، فجئت إسطنبول وأصبحت مجنوناً».

إلى مستشفى المجاذيب

«كنت سابقاً أحسب أن فساد الشرق نابع من تعرض عضوٍ منه للمرض، ولكن لما شـاهدت إسطنبول المريضة وجسستُ نبضها، وشرّحتها، أدركت أن المرض هو في القلب، وسرى منه إلى جميع الجهات. فحاولت علاجه، ولكن أُكرمت بإلصاق صفة الجنون بي! حيث إن وشاية الحاسدين والخصماء، أدت بي أن أساق إلى مستشفى المجاذيب بأمر السلطان عبد الحميد رحمه الله رحمة واسعة».

حواره مع الطبيب

«أيها الطبيب المحترم! استمع أنت، فسأتكلم أنا. أعطيك دليلاً آخر على جنوني! وهو الجواب من دون سؤال! لا شك أنكم ترغبون في الاستماع إلى كلام مجنون غريب. إنني أطلب إجراء الكشف عليّ على صورة محاكمة، وليكن وجدانك هو الحكم. ومن العبث والفضول إلقاء درس في الطب إلى طبيب، ولكن واجب المريض أن يعينه في تشخيص العلة. فأرى من الضروري الاستماع إليّ كيلا يكذّبكم المستقبل. فخذوا هذه النقاط الأربع بنظر الاعتبار:

أولاها: أني ترعرعت في جبال كردستان، فعليكم أن تزنوا أحوالي التي لا تروق لكم بميزان كردستـان لا بميزان إسطنبول الحضاري الأنيق، فلو وزنتم بميزانها فقد وضعتم إذن سداً مانعاً أمامنا نحو إسطنبول التي هي منبع سعادتنا، ويلزمكم سوق معظم الأكراد إلى المستشفى، ذلك لأن الأخلاق المفضـلة -في الأناضول- هي الجسارة، وعزة النفس، والثبات في الدين، وانطباق اللسـان على ما في القلب. بينما الظرافة والرقة وما شابهها من أمور المدنية تعدّ بالنسبة لهم مداهنة وتزلفاً.

ثانيتها: أن أحوالي وأخلاقي مخالفة للناس، كما هو الحال في ملابسي. فاتخِذوا الأمر الواقع والحق محل النظر وموضع الاعتبار، ولا تتخذوا ما روّجه الزمان أو العادات من أخلاق سيئة بتقليد الناس بعضهم بعضاً مقياساً لوزن الأمور. إنني مسلم، ملتزم، ومكلّف بهذا الالتزام والوفاء به من حيث الإسلام. فعليّ أن أفكر فيما ينفع الأمة والدين والدولة ولا أقول ذلك القول الفاسد المميت: «مالي ولهذا.. فليفكر فيه غيري».

ثالثتها: لقد أتى ومضى أشخاص نوادر، كل سبق زمانه، ولكن الناس حملوا أطوارهم على الجنون بادئ بدء، ثم على السحر والخوارق. إن التضاد الموجود بين هاتين النقطتـين إيماء وإشارة إلى التضاد الموجود بين مدَّعَيات الذين حكموا عليّ بالجنون وأدلتهم. إذ قالوا بأفعالهم: إنه مجنون، لأنه يجيب على كل مسألة، ويحلّ كل معضلة! إن الذي يورد مثل هذا الدليل مجنون بلا شك!

رابعتها: أنه من الضروري أن يحتد ويغضب كل من له مزاج عصبي مثلي، لأن الذي يحمل فكراً رفيعاً -أي الحرية الشرعية- منذ خمس عشرة سنة، وأوشك أن يراه فعلاً، إذا به يرى نفسه على خطر وهلاك من حرمان رؤيته -بانقلاب عظيم- كيف لا يحتد ولا يغضب؟

ثم إن وزير الأمن أشد منى حدّة وغضباً فهو أكثر مني جنوناً إذن. علماً أنه لا يَسلَم إلّا واحد من ألف من الناس من هذا الجنون الموقت؛

فكل الناس مجنون ولكن على قدر الهوى اختلف الجنون

فلئن كانت المداهنة والتملق والتزلف وفداء المصلحة العامة في سبيل المصـلحة الخاصة تعدّ من مقتضى العقل.. فاشهدوا أني أقدم براءتي من هذا العقل، مفتخراً بالجنون الذي هو أشبه ما يكون بمرتبة من مراتب البراءة.

وهناك نقاط أربع جلبت الشبهة عليّ، علماً أنني عملتها على علم ولحكمة خفية:

أولاها: شكلي الغريب.

إنني أعلن بملابسي المخالفة للناس استغنائي عن المقاصد الدنيوية… واعتذاري عن عدم مراعـاتي للعادات الجارية في البلاد.. ومخالفة أحوالي وأطواري عن الناس.. وفطرية إنسانيتي بموافقة الظاهر والباطن.. ومحبة ملتي.

ثم إن المعنى الغريب لا بد أن يكون ضمن لفظ غريب ليلفت الأنظار.. ثم إنني أنصح بهذا الشكل الغريب، نصيحة فعلية لتشجيع المصنوعات المحلية.. وأشير به أيضاً إلى ميل التجدد الذي أشعر به في ذاتي وإلى تجدد الزمان في الوقت نفسه.. ثم إنني بايعت السلطان سليم.

ثانيتها: مناظرتي العلماء.

والداعي إليها هو أنني لماّ قدمت إسطنبول شاهدت أن المدارس الدينية لم تتقدم كالمرافق الأخرى في البلاد. وأعزو سبب ذلك إلى إقامة الاستعداد -الذي هو القدرة على الاستنباط من الكتاب- موضع الملكة، ونشوء حالات التعطل، وفقدان الشوق، وضعف الملكة لدى الطلاب الناشئة من عدم إجراء المناظرات العلمية.

ثم إن العلوم الإلهية لا تُكسب كسائر العلوم، حيث إنها علوم مقصودة بالذات، تنتج لذة حقيقية. فلا هي كالعلوم الكونية المثيرة للحيرة والإعجاب ولا هي كعلوم اللهو التي يقضى بها الوقت. لذا يلزم لكسب العلوم الإلهية همّة عالية، أو توغلٌ تام، أو مسابقة بدافع مشوّق، أو تنفيذ قاعدة تقسيم الأعمال. أي يتوغل كل طالب في علوم معينة حسب استعداده، حتى يتخصص فيها ولا يظل سطحياً عابراً، حيث إن لكل علم من العلوم صورة حقيقية، إن فقدت الملكة يغدو بعض أجزائه ناقصة كالصورة الناقصة. أي على الطالب المسـتعد أن يتخذ علماً من العلوم أساساً له، ويأخذ خلاصة من كل علم من العلوم المتعلقة به، لإتمام صورة ذلك العلم. لأن كل خلاصة يمكن عدّها مكملة للصورة الأساس من دون أن تشكل صورة مستقلة.

فيا طلاب العلوم الدينية الذين يسمعون صوتي! لنكن خير خلف لسلفنا الذين بلغوا أوج الكمال، ولنسع في سبيل ذلك كطلاب المدارس الحديثة الذين أصبحوا خير خلف لسلفهم الناقصين. وكنت أريد بالمناظرة أن أنبّه إلى هاتين النقطتين فعلياً.

ثالثتها: لقد طرحت وبينت هذين المفهومين:

أولهما: أن الإسلام الذي يمثل الحضارة الحقة في عصر الرقي والتقدم هذا، لم يترق كالحضارة الحاضرة. وأرى أن أهم سبب في ذلك هو تباين الأفكار وتخالف المشارب بين أهل المدارس الدينية والمدارس الحديثة والزوايا.

فأهل المدرسة الدينية يتهمون أهل المدرسة الحديثة بضعف العقيدة لتأويلهم ظواهر بعض الآيات والأحاديث تأويلاً يفضي إلى غير المراد منها، وهؤلاء يعدّون أولئك غير موثوق بهم لعدم إقبالهم على العلوم الحديثة، في حين ينظر أهل المدارس الحديثة إلى التكايا والزوايا كأنـهم أهل بدعة حيث يبنون رأيهم هذا على ظن باطـل لدى العوام وبعض الجهلاء الذين يعدّون أعمالاً وحركات في الذكر -الذي هو عبادة- أنها من الذكر نفسه، في حين أنها موضوعة للحث وتزييد الشوق، ولا تجوز إلّا إذا كانت مباحة. وقد فتح باب التساهل بتفريط هؤلاء وإفراط أولئك اختلاط بعض البدع مع الذكر. فهذا التباين في الأفكار والتخالف في المشارب قد هزّ الأخلاق الإسلامية هزاً وأخّرها عن ركب المدنية.

وعلاج هذا: تدريس العلوم الدينية في المدارس الحديثة تدريساً حقيقياً.. وتحصيل بعض العلوم الحديثة في المدارس الدينية في موضع الحكمة القديمة التي أصبحت لا ضرورة لها.. وكذا وجود علماء متبحرين في التكايا…

ويؤمَّل أملاً قوياً بعد هذا أن تصبح هذه المرافق الثلاثة جهازاً متناسقاً يقطع المراتب نحو الرقي والتقدم.

الفكر الثاني: أنني استمعت إلى الوعاظ، فلم تؤثر فيّ نصائحهم ووعظهم، فتأملت في السبب، فرأيت أنه فضلاً عن قساوة قلبي هناك ثلاثة أسباب:

1- إنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيراً في تصوير دعاويهم محاولين تزويقها دون إيراد الأدلة الكافية التي لا بد منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة.

2- إنهم عند ترغيبهم بأمرٍ ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، أي لا يميزون بين المهم والأهم.

3- إن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بد أن يكون الكلام موافقاً لحاجات العصر، إلّا أنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.

فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محققين ليتمكنوا من الإثبات والإقناع، وأن يكونوا أيضاً مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة، وأن يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر، وعليهم أيضاً أن يَزنوا الأمور بموازين الشريعة.

رابعتها: قلت: إن ذهني مشوش وعاجز، وقصدت به طروء النسيان على حافظتي وشعوري بضيق في ذهني واستيحاش في طبعي.

ولما كان المجنون لا يقول أنا مجنون، فلا يكون قولي هذا دليلاً على جنوني.

وقلت أيضاً: إنني درست ثلاثة أشهر فقط بعد كتاب «الإظهار» فهذا الكلام يجلب الشك والريب من جهتين؛ فإما أنه خلاف الواقع.. بينما يصدّق به معظم أهالي كردستان، وإما أنه يومئ إلى المدح والغرور -الذي هو عنصر من عناصر الجنون رغم أنه صدق- كما تقول به أيها الطبيب.

وجوابه: هو جوابي الصائب والذي استلزم التمدح لسؤال سألنيه أحد رجال الدولة.

والآن أظن أن لديكم شكاً في صحة عقلي بعد زوال الشبهة عن شعوري. ويمكن أن يزول ذلك الريب بأدنى محاكمة عقلية؛ إذ إن رجلاً من الأكراد الجاهلين الطليقين الأحرار، إن لم يكن صاحب وفاء لأمة راقية كالألماس، ولم يكن صاحب فكر رفيع، كيف يستطيع أن يستر حيلته وفكره الفاسد طوال هذا الزمان مع تـميّزه عن الآخرين؟ إنني أعدّ الحيلة في ترك الحيل. فإذن قد شعر بقلبه وفاءً خالصاً صافياً يفوق الجميع حتى وجد نفسه في مثل هذه الأحوال.

وقد صدق الشاعر:

وكَم مِنْ عائبٍ قولاً صحيحاً وآفتُه من الفَهمِ السَقيمِ

بمعنى أن فهم أطبائنا هو فهم سقيم.. فهم مجانين بحكم تقاريرهم الطبية، وأن وزير الأمن هو الآخر مجنون لشدة حدّته وغضبه.

أيها الطبيب!

إن كنتَ طبيباً حاذقاً فداو نفسك قبل أن تداويني.

ويا أيها الناظرون إلى كلامي هذا! إن كان فيه ما يجرح شعوركم، أو لا تهضمه معدتكم الضعيفة، فاعذروني لأنني قلته في وقت الجنون حينما كنت بين جدران مستشفى المجاذيب… ولا شك أن تأثير المحيط أمر مسلّم به. لأن «ديوانه را قلم نيست» بمعنى أن القلم رفع عن المجنون. فالأمي الجـاهل أي الحر، والكردي الذي لا يتقن التركية يمكن أن يبين مرامه بهذا القدر. والسلام».

«أستولت على الطبيب الحيرة بعد سماعه هذا الكلام، فأدرك مدى جديته وسعيه الحثيث في خدمة الوطن ونـفع الأهلين في كسب المعرفة، وكيف أنه في قمة الذكاء فكتب تقريراً ضمّنه هذا الكلام: «لا يوجد بين القادمين إلى إسطنبول من يملك ذكاءً وفطنة مثله. إنه نادرة العالم!» وعلى إثر هذا التقرير حلّت الدهشة والهلع في صفوف المسؤولين في القصر، فأصدروا أمراً مستعجلاً بأخذ سعيد فوراً من المستشفى إلى الموقف. وبعثوا مع وزير الأمن «شفيق باشا» أمراً إدارياً يتضمن تخصيص مبلغ قدره ثلاثون ليرة ذهبية مرتّباً شهرياً مع مبلغ من التبرعات وذلك لأجل إبعاده عن إسطنبول».

حواره مع وزير الأمن «شفيق باشا»

وزير الأمن: «السلطان يسلم عليك، كما أمر بصرف مرتّب شهري لك بملبغ ألف قرش وقال إنه سيرتفع إلى ثلاثين ليرة».

فقلت جواباً: «أنا لست متسول مرتّبٍ وإن بلغ ألف ليرة، فأنا لم آت إلى هنا إلّا من أجل أمتي وليس من أجل نفسي، ثم إن ما تحاولون تقديمه لي ليس إلّا رشوة للسكوت!»

الوزير: «أنت تردّ إرادة السلطان، وهذه الإرادة لا تردّ».

قلت جواباً: «إنني أردّها لكي يتكدر السلطان ويستدعيني، عند ذلك أجد الفرصة لقول الحق عنده».

الوزير: «ستكون العاقبة وخيمة».

الجواب: «لو كانت نتيجتها إلقائي في البحر فإن البحر سيكون لي قبراً واسعاً، وإن نفّذ إعدامي فسأرقد في قلب الأمة. علماً بأنني عندما حضرت إلى إسطنبول حضرتها وقد وضعت روحي على راحة كفي فافعلوا بي ما بدا لكم. وأنا أعني ما أقول، لأنني أريد تنبيه أبناء أمتي وذلك خدمة للدولة التي انتسب إليها وليس من أجل جَنْيِ مرتّبٍ. ثم إن الخدمة التي يستطيع أداءها شخص مثلي هي تقديم النصيحة للأمة وللدولة، ولا قيمة لهذه النصيحة إلّا بحسن تأثيرها، ولا يحسن تأثيرها إلّا عندما تكون مخلصة خالية من شوائب الطمع، وهذه لا تكون إلّا عندما تكون دون مقابل وبعيدة عن المنافع الشخصية، لذا فإنني معذور عندما أرفض هذا المرتّب».

شفيق باشا: «إن اقتراحك بنشر المعارف والعلوم في كردستان هو الآن موضع دراسة في مجلس الوزراء».

بديع الزمان: «إذن فلماذا أُجّل بحث المعارف واستُعجل في المرتّب؟ وعلى أي أساس تم هذا؟ لماذا تفضلون المنافع الشخصية على المنافع العامة؟».

اعتراضه على الاستبداد

الاسـتبداد هو التحكم أي المعاملة المزاجية (الاعتباطية) أي الجبر باستناد القوة، أي الرأي الواحد، أي المساعد لتطرق سـوء الاستعمالات، أي المفتوحة أبوابه لتداخل المفاسد، وما هو إلّا أسـاس الظلم، ومـاحـي الإنسانية. وهو الـذي دحرج الإنسان المكرّم إلى أسفل سافلين في السفالة.. وهو الذي أوقع العالم الإسلامي في المذلّة.. وهو الذي أيقظ الأغراض والخصومات.. وهو الـذي سمم الإسلامية.. وهو الذي سرى سمّه في أعصاب العالم الإسلامي.. وهو الذي أوقع الاختلافات المدهشة…».

«هذا وإن الاستبداد المتعسف لا صلة له بالشريعة الغراء، وإن الشريعة قد أتت لهداية العالم أجمع كي تزيل التحكم الظالم والاستبداد».

«وإن الثلاثين سنة التي قضيناها صائمين عن الكلام متجملين بالصبر والتوكل على الله، سننال ثوابها بانفتاح أبواب جنة الرقي، أبواب المدنية التي لا عذاب فيها».

إنه استبداد ضعيف بالنسبة لما سيأتي

«حينما كانت «الحرية» قرينة الجنون، جعل الاستبداد الضعيف مستشفى المجاذيب مدرسةً لي.

والذي يبدو أن الغاية ما كانت استرداد الحرية من السلطان عبد الحميد، بل تحويل استبداد ضعيف وضئيل إلى استبداد شديد وقوي.

وقد رأيت كثيرين يهاجمون «السلطان عبد الحميد» أكثر من هجوم «الأحرار» وكانوا يقولون: إنه على خطأ لقبوله «الحرية» و«القانون الأساسي» قبل ثلاثين سنة.

فما ظنكم بقول من حَسِبَ الاستبداد الذي اضطر إليه السلطان عبد الحميد حريةً، وارتعد من القانون الأساسي الذي هو اسم دون مسمّى! فما قيمة قوله يا تُرى؟.

وكيف لا أعارض مَن ظن الاستبداد السابق حريةً وهاجم القانون الأساسي! ولكن مع أن أولئك كانوا يعارضون الحكومة إلّا أنهم أرادوا استبداداً أشدّ، لهذا كنت أرفضهم وأردّ عليهم.

ولقد أحس «سعيد القديم» ما أحسّه عدد من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء؛ بأن استبداداً مريعاً مقبلٌ على الأمة، فتصدّوا له، ولكن هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب، فحسبوا ظل استبداد ليس له إلّا الاسم استبداداً أصيلاً، فهاجموه. فالغاية صحيحة إلّا أن الهدف خطأ».

دفاع عن السلطان عبد الحميد([3])

«إن السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لا تنفكان وإن كانت وجهة كل منهما مغايرة للأخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الإسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مـليوناً، ومن حيث الخلافة ينبغي أن يكون ركيزة ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وأن يكون موضع إمدادهم وعونهم. وهو السلطان المظلوم.

[أما قولهم:]   لا يمكن بالظلم والجور محو الحرية

ارفع الإدراك إن كنت مقتدراً من الإنسانية!

هذا الكلام الرصين أُثير خطأً في وجه رجل ذي شأن ما كان يليق به مثل هذه الصفعة، بل جدير بهذا الكلام أن يصفع به الوجه الغدار لهذا العصر الحامل لاستبداد رهيب يتستر بهذه الحرية».

رؤيا تخص السلطان عبد الحميد

«رأيت السلطان في عالم المعنى، فقلت له: ابذل زكاة عمرك في الطريق الذي سلكه عمر الثاني -بن عبد العزيز- كي تكسب إقبال الأمة وتوجههم إليك والذي هو معنى البيعة والضرورة اللازمة لرئاسة المشروطية.

قال السلطان: «هب أنني سلكت مسلكه، فهل تستطيعون تقليد أطوار أهل ذلك الزمان؟ وهل لديكم ما لديهم من قوة الإسلام وصفاء القلب والأخلاق الرفيعة؟ قلت: إن ما لدينا من تيقظ الرأي العام واستكمال المبادئ والوسائل لاحتضان الحضارة يسد مسدّ تلك النقاط ويستحصلها متوجهاً نحو الرقي المطلوب».

قال: «وكيف أعمل؟»

قلت: «أظهر حسن نيتك بالمشروطية، إذ لم يُهرق دم في قلب الممالك، إسطنبول. وأنت برأفتك وشفقتك رضيت بها دون إراقة دم. فاجعل قصر يلدز المكروه لدى الناس محبوباً إليهم، وذلك بتنويره بملائكة الرحمة، العلماء العاملين، بدلاً من الزبانية السابقين. وحوّله إلى جامعة إسلامية تحيا فيها العلوم الإسلامية. وارفع من مستوى المشيخة الإسلامية والخلافة إلى ما يليق بهما. وداو -بقدراتك وثرواتك- ضعف الدين الذي أصيبت به الأمة في قلبها والجهل الذي أصيبت به في رأسها. وبذلك ترفعون قصر يلدز إلى أعلى مقام، إلى الثريا.. لتظل الأسرة العثمانية متربعةً على برج الخلافة ناشرة العدالة إلى الأرجاء. وحيث إنك إمام الأمة، اقتصد في الحاجيات الضرورية لتقتدي بك الأمة المسكينة التي عوّدت على الإسراف».

ثم أفقت من النوم، فرأيت أن الرؤيا هي اليقظة والحقيقة، وعالم اليقظة هو الرؤيا».

رسالة خاصة لدفع الشبهات عن السلطان عبد الحميد ([4])

لقد ساور أحد إخواننا المعلمين شبهة في أن أستاذنا قد هاجم السلطان عبد الحميد الثاني ولم يقدّر ذلك السلطان العظيم حق قدره وذلك بما يفهم من خطبه التي ألقاها في بداية عهد الحرية.

الجواب: إننا نجيب عن حقيقة الوضع الذي فهمناه من أستاذنا:

أولاً: إن الدستور الذي سار عليه أستاذنا طوال حياته هو الدستور القرآني والقاعدة الجليلة ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰى﴾ (الأنعام:164) بمعنى أن الأخطاء التي ارتكبتها حكومة ذلك العهد لا تُسند إلى السلطان. ولهذا حمل نحوه حسن الظن، بل سعى -تجاه معارضيه- لتأويل ما اضطر إليه من أخطاء وتقصيرات.

ثانياً: لقد أثنى أستاذنا ثناءً حسناً على الحرية الشرعية بداية عهد الحرية، ودعا الناس في خطبه إليها، وقال للمعارضين لها:

«إن لم تنضبط الحرية بالشريعة فإن ما أطلقتموه من استبداد ضعيف جزئي اضطر إليه شخص، يصبح استبداداً عظيما يوزع على الناس كافة. ويغدو كل شخص مستبداً بذاته، فيتولد عندئذٍ استبداد مطلق، وينقلب الاستبداد الواحد إلى الألوف، بمعنى أن الحرية ستموت ويولد استبداد مطلق».

حتى إن أستاذنا وجّه إلى المحكمة التي نصبت لأجل الإعدامات ما يأتي:

«إن كانت المشروطية تعني مخالفة الشريعة واستبداد جماعة معينة -الاتحاديين- فليشهد الثقلان أني مرتجع».

ثالثاً: لقد شعر أستاذنا بنوع من إحساس مسبق، نجاة العالم الإسلامي الحالي من سيطرة الأجانب وتوجهه إلى الاتفاق على صورة جماهير متحدة إسلامية فكان يتمنى هذا ويتصوره، بل دعا إليه بكل ما أوتي من قوة، لذا قدّر الحرية الشرعية حق قدرها. وقال في خطبه آنذاك: «إن لم تربّ الحرية بالتربية الإسلامية فستموت، ويولد مكانها الاستبداد المطلق».

رابعاً: لقد سمعنا من أستاذنا وعرفنا منه عن كثب أنه كان يعتقد أن السلطان عبد الحميد -من بين السلاطين- في حكم ولي من الصالحين، لوقوفه بصمود تجاه دسائس الأجانب وقواهم، وكونه خليفة معظم العالم الإسلامي، وسوقه العشائر الرحّل في الولايات الشرقية إلى مراقي المدنية والعسكرية بالقوات الحميدية، ومراعاته الشعائر الإسلامية ما استطاع إليها سبيلا وأدائه صلاة الجمعة في المسجد، واتخاذه شيخاْ فاضلا ومرشدا معنوياّ بصورة دائمة في قصره. فضلاً عن حسناته الأخرى.

طلاب النور الملازمون للأستاذ، 1953.


مطاليبه من السلطان

أ. إصلاح أوضاع شرقي الأناضول بإنشاء مدرسة الزهراء

ب. إصلاح القصر

«انطلاقاً من مفهوم الحفاظ على مركز الخلافة وهو مركز المسلمين وموضع رابطتهم، والحيلولة دون ضياعه.. وظناً من كون حضرة السلطان عبد الحميد الثاني على استعداد لاسـتيضاح الأمر والندم على أخطائه الاجتماعية السـابقة.. وأخذاً بالقاعدة الجليلة ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ (النساء:128) لتخفيف الأحداث الحالية التي سارت بعنف وبذرت بذور الفتن والاضطرابات، وتحويلها إلى افضل ما يمكن.. لأجل كل ذلك قلت بلسان الجريدة للسلطان السابق ما يأتي:

اجعل قصر يلدز، ذلك النجم المنخسف، جامعة للعلوم ليرتفع إلى الأعالي كالثريا.

وأسكن فيه أهل الحقيقة وملائكة الرحمة بدلاً من السوّاح وزبانية جهنم ليصبح مبهجاً كالجنة.

وأعد إلى الأمة ما أهدته لك من ثروات في القصر بصرفها في إنشاء جامعات دينية لتزيل الجهل الذي هو داء الأمة الوبيل.

ووطّن الثقة بمروءة الأمة ومحبتها، فهي المتكفلة بإدارتكم السلطانية. دع الدنيا قبل أن تدعك واصرف زكاة العمر في سبيل العمر التالي. إنه ينبغي التفكر في الآخرة وحدها بعد هذا العمر».


[1]  اللمعات، اللمعة الثامنة والعشرون.

    يقول السيد «حسن فهمي باش أوغلو» (الذي أصبح فيما بعد عضواً في هيئة الاستشارة للشؤون الدينية في تركيا): «عندما كنت طالباً في «مدرسة فاتح» زمن المشروطية سمعنا بقدوم شاب إلى إسطنبول اسمه «بديع الزمان» علق لوحة على باب غرفته «في خان الشكرجي» الذي يقيم فيه كتب فيها: هنا تحلّ كل معضلة ويجاب عن كل سؤال من دون توجيـه سؤال لأحد. وقد خطر ببـالي أن صاحب مثل هذا الادعاء لا بد أن يكون مجنوناً، ولكن كثرة الثناء والمديح المتكرر الذي بدأت أسمعه من الناس ومن الطلبة ومن العلماء الذين قاموا بزيارته أثارت في نفسي رغبة كبيرة لزيارته، فقررت أن أختار أصعب الأسئلة لأدق المسائل لأطرحها عليه، وكنت آنذاك أعدّ من الطلبة المتفوقيـن في المدرسة. وفي مساء أحد الأيام تهيأت واخترت من علوم العقائد أدق المواضيع التي تحتاج الإجابة عليه إلى عدة كتب، وذهبت إليه في اليوم التالي ووجهت إليه تلك الأسئلة فكانت أجوبته خارقة ومدهشة وعجيبة فكأنه كان معي يدقق = الكتب البارحة لأن أجوبته كانت تامة وكاملة. أما أنا فقد اطمأننت تماماً وعلمت علم اليقين بأن علمه ليس كسبياً كعلمنا، بل هو علم لدني، ثم أخرج لنا خارطة أوضح عليها مدى أهمية فتح المدارس العلمية وضرورتها في شرقي البلاد التي كانت تدار آنذاك من قبل «القوات الحميدية» فبين عدم كفاية هذا الطراز من الإدارة لتلك المنطقة، كما بين ضرورة إيقاظ هذه المنطقة علمياً وذلك بأسلوب مقنع، وأنه لم يأت إلى إسطنبول إلا من أجل تحقيق هذه الغاية وكان يقول: «إن الدين هو ضياء القلوب، أما العلوم الحديثة فهي نور العقول».

       ويقول الكاتب التركي «ماهر إيز»: «عندما أتى «بديع الزمان» إلى إسطنبول كان شاباً، ويتجول بملابسه المحلية، وكان شخصاً بليغاً ماهراً في الحديث وخطيباً مفوهاً ومن أصحاب الذكاء الخارق الذي أنجبته المنطقة الشـرقية للبلاد، دعا العلماء للمناظرة وتحداهم جميعاً لأنه كان واثقاً من نفسه».

       ويسرد السيد «علي همت بركي» وهو من رؤساء محكمة التمييز السابقين ذكرياته حول وصول «بديع الزمان» إلى إسطنبول فيقول: «كنت آنذاك طالباً في مدرسة القضاة (أي كلية الحقوق) عندما انتشرت إشاعة تقول إن شخصاً اسمه «بديع الزمان» ذا زي غريب جاء من شرقي البلاد وانه يجيب عن أي سؤال كان يوجه إليه، فشعرنا بفضول كبير وذهبنا لرؤيته.. كان جالساً يتناول بالتفنيد والدحض الفلسفة السوفسطائية بأدلة عقلية ومنطقية.. كان جديراً فعلاً بلقب «بديع الزمان» إذ لم يكن هناك حد لمعلوماته في الفلسفة الإسلامية (أي في علم الكلام) وفي علم اللغة». (ش) 83.

[2]  الشعاعات، الشعاع الرابع عشر. والمقصود بالمؤلف القديم: رسالة «محاكمات أو رجتة العلماء»، التي ألّفها في هذه الفترة وضمنها الأجوبة اليـابانية، في المقالة الثالثة منها. وقد فصّل في الشعاع الخامس من مجموعة الشعاعات مباحث الدجال والسفياني وأشراط الساعة الأخرى مع ذكر الأحاديث الشريفة الواردة بحقها

[3]  يذكر مصطفى صونغور: أن الأستاذ بعد ما عانى ما عانى من عهد الحزب الواحد كان يخاطب نفسه قائلاً: أيا سعيد تجرع أذى هذا الاستبداد الرهيب عقاباً لك على إلصاق تهمة الاستبداد بسلطان رؤوف شفيق. (ب) 1/184.

     وينقل أيضاً: قال أستاذنا يوماً بحق المرحوم السلطان عبد الحميد: إن السلطان عبد الحميد ولي من الصالحين. وقد أدخلته ضمن دعواتي الخاصة. فأدعو صباح كل يوم: يارب ارض عن السلطان عبد الحميد خان والسلطان وحيد الدين والأسرة العثمانية الحاكمة. (ب)1 /184.

[4]  يذكر «محسن آلو» أحد طلاب النور الذي لازم الأستاذ النورسي أنه عندما سمع الأستاذ أن أحداً قد نشر كتاباً في إسطنبول يتهجم فيه على السلطان عبد الحميد قال: إن السلطان عبد الحميد كان خليفة ستين مليوناً من المسلمين، وأنا أنظر إليه نظر ولي من الأولياء. ثم نشر رسالة خاصة (ملحقة) بهذا الشأن. «Son Şahidler 4 ص313».

الفصل الأول المولد والنشأة

الفصل الأول

المولد والنشأة

سنة 1877م/1294هـ

هويته الشخصية

«الاسم واللقب: بديع الزمان سعيد..

اسم الوالد: ميرزا.([1])

اسم الوالدة: نورية.([2])

تاريخ الولادة: سنة 1293.

مسقط الرأس: قرية «نُوْرْس» التابعة لناحية «إسباريت» المرتبطة بقضاء «خيزان» من أعمال ولاية «بتليس».

الملة: مسلم.

الشكل: طويل القامة، عسليّ العيون، حنطي اللون.

العلامات الفارقة: بلا.

[وعلاوة على ما سبق سجل في الوثيقة التي أملاها في «دار الحكمة الإسلامية» المعلومات الآتية:]

اسمي: «سعيد»، لقبي: «بديع الزمان» اسم والدي: «ميرزا»

لا أنتسب إلى سلالة معروفة -شافعي المذهب- أحد مواطني الدولة العلية العثمانية.

في مستهل دراستي العلمية درستُ عند أخي عبدالله ما يقارب السنتين في ناحية إسپاريت. ثم انضممت إلى حلقة تدريس الشيخ محمد الجلالي  فأكملت الدروس المقررة كلها، وذلك في قصبة «بايزيد» التابعة لولاية «أرضروم». ثم بدأت بتدريس شتى العلوم في مدينة «وان» طوال خمس عشرة سنة.

وعندما أعلنت الحرب الحاضرة -العالمية الأولى- اشتركت فيها بصفة قائد المتطوعين. ووقعتُ أسيراً بيد الروس في «بتليس» ثم هربت من الأسر وعدت إلى إسطنبول. وأصبحت عضواً في دار الحكمة الإسلامية منذ تأسيسها.

فقدتُ إجازتي العلمية التي أخذتها من الشيخ محمد الجلالي في أثناء الأسر.

لي سبعة عشر مؤلفاً باللغة العربية، هي: إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تعليقات، قزل إيجاز، الخطبة الشامية.

وبقية المؤلفات باللغة التركية وهي: نقطة، شعاعات، سنوحات، مناظرات، محاكمات، طلوعات، لمعات، رموز، إشارات، خطوات ستة، إيكي مكتب شهادتنامه سي [المحكمة العسكرية العرفية] حقيقت جكردكلري [نوى الحقائق].

أتكلم باللغة التركية والكردية كما أقرأ وأكتب باللغة العربية والفارسية».

أسرته

«إنني لم أشاهد والدتي الرؤوفة منذ التاسعة من عمري، فلم أحظ بتبادل الحوار اللطيف معها في جلساتها، فبتّ محروماً من تلك المحبة الرفيعة.

ولم أتمكن من مشاهدة أخواتي الثلاث([3]) منذ الخامسة عشرة من عمري، حيث ذهبن  مع والدتي إلى عالم البرزخ. فبتّ محروماً من كثير من ألطاف الرحمة والاحترام التي تشيع في أجواء الجلسات الأخوية الطيبة اللذيذة في الدنيا.

ولم أشاهد أيضاً أخويّ من ثلاثة إخوة([4]) منذ خمسين سنة -رحمهم الله- فبتّ محروماً من السرور المنبثق من الأخوة الودود والشفقة العطوف في مجالسة أولئك الأعزاء المتقين العلماء.

وعندما كنت أتجول اليوم مع أبنائي المعنويين الأربعة الذين يعاونونني في شؤوني، أُخطر على قلبي بيقين جزءٌ من بذرة الجنة التي ينطوي عليها الإيمان، مثلما أظهرتها رسائل النور.

وحيث إنني قضيت حياتي عزباً فلم أنجب الأولاد. لذا بتّ محروماً من مَذاقات محبتهم البريئة ومن ابتهاجهم وانشراحهم.

ومع كل هذا ما كنت أشعر بهذا النقص قط، حيث أنعم سبحانه وتعالى عليّ في هذا اليوم معنىً في منتهى الذوق واللذة فضمد جراحاتي الأربعة المذكورة من جهات ثلاث:

الأولى: إنه عوضاً عن اللذة الآتية من العطف الخاص لوالدتي، أحسن الرحيم سبحانه وتعالى عليّ، أُلوفاً من الوالدات اللائي يستفدن من رسائل النور استفادة تفوق المعتاد ويتذوقن منها أذواقاً روحية خالصة، بـمثل ما جاء في الحديث الشريف «عليكم بدين العجائز» المذكور في رسائل النور.

وعوضاً عن السرور والبهجة والعطف الأخوي الناشئ من مجالسة أخواتي الثلاث -رحمهن الله- أحسن المولى الكريم عليّ بالألوف من السيدات والشابات، وجعلهن سبحانه وتعالى في موضع أخوات لي، فأستفيد من دعواتهن وتعلقهن بـرسائل النور ألوفاً من الفوائد والثمرات المعنوية والمسرات الروحية، وهناك أمارات عديدة على صدق هذا القسم الثاني يعرفها إخوتي.

وعوضاً عن حرماني من العون المادي والمعنوي الذي كان يمدني به في الدنيا أخَوايَ المرحومان ومن عطفهما ورأفتهما، فقد أحسن سبحانه وتعالى عليّ بمئات الألوف من إخوة حقيقيين مضحين في خدمة رسائل النور يحملون عطفاً خالصاً ويـمدّون إليّ يد العون بل يفدون رأسمال حياتهم الأخروية فضلاً عن حياتهم الدنيوية.

وعوضاً عن حرماني من أذواق العطف والحنان النابعة من الأولاد -حيث لا أولاد لي في الدنيا- أنعم سبحانه وتعالى عليّ بمئات الألوف من الأولاد الأبرياء، من حيث استفادتهم من رسائل النور مستقبلاً. فحوّل سبحانه وتعالى هذه العواطف الثلاث والشفقة الرؤوفة الجزئية إلى مئات الألوف منها».

أخوه عبد المجيد  

«إن أخي عبد المجيد، قد شعر بانهيار واضطراب شديدين بسبب انتقال ابن أخي عبد الرحمن إلى رحمة الله. ولأحوال أليمة وأوضاع محزنة ألـمّت به، كان يأمل مني ما لا أقدر عليه من هـمة ومدد معنوي. ومع أني ما كنت أتراسل معه، إلا أنني بعثت إليـه فجأة بضع رسائل من «الكلمات». كتب إليّ بعد أن قرأها: لقد نجوتُ -والحمد لله- فقد كنت على وشك الجنون، ولكن بفضل الله أخذت كل كلمة من تلك «الكلمات» موقع مرشد لي. ولئن فارقت مرشداً واحداً فقد وجدت -دفعة واحدة- مرشدين كثيرين([5]) فنجوت والحمد لله. وأنا بدوري تأملت في حاله، فعلمت أنه حقاً قد دخل مسلكاً جميلاً وقد نجا بفضل الله من أوضاعه السابقة. وهو من طلابي العاملين المخلصين المضحين.. كان يملك داراً أنيقة جميلة في «وان» وحالته المعاشية على ما يرام، فضلاً عن أنه كان يزاول مهنة التدريس.. فعندما استوجبت خدمة القرآن ذهابي إلى مكان بعيد عن المدينة «وان» على الحدود، أردت استصحـابه، إلا أنه لم يوافق. وكأنه رأى أنه من الأفضل عدم ذهابي أنا كذلك، حيث قد يشوب العمل للقرآن شيء من السياسة وقد يعرّضه للنفي، وفضّل المكوث حيث هو ولم يشترك معنا. ولكن جاءته اللطمة الرحمانية بما هو ضد مقصوده، وعلى غير توقع منه، إذ أُخرج من المدينة وأُبعد عن منـزله الجميل وأُرغم على الذهاب إلى «أرغاني»».

ابن أخته عُبيد

«كان ابن أختي «عبيد» أحد طلابي، قد استشهد بقربي بدلاً عنى، في الحرب العالمية الأولى. فرأيت في المنام رؤيا صادقة عندي: أنني قد دخلت قبره الشبيه بمنـزل تحت الأرض، رغم أنى في الأسر على بعد مسيرة ثلاثة أشهر منه، وأجهل مكان دفنه. ورأيته في طبقة حياة الشهداء. وقد كان يعتقد أنني ميت، وذكر أنه قد بكى عليّ كثيـراً، ويعتقد أنه ما زال على قيد الحياة، إلّا أنه قد بنى له منـزلاً جميلاً تحت الأرض حذراً من استيلاء الروس».

ابن أخيه عبد الرحمن

«لقد تركني ابن أخي «عبد الرحمن» منذ ثماني سنوات، وعلى الرغم من تلوثه بغفلات الدنيا وشبهاتـها وأوهامها فإنه كان يحمل تجاهي ظناً حسناً بما يفوق حدي بكثير. لذا طلب مني أن أسعفه وأمده بما ليس عندي وليس في طوقي من همة. ولكن همة القرآن ومدده قد أغاثه، وذلك بأن أُوصِلَ إليه «الكلمة العاشرة» التي تخص «الحشر» قبل وفاته بثلاثة أشهر. فأدت تلك الرسالة دورها في تطهيره من لوثات معنوية وكدورات الأوهام والشبهات والغفلة، حتى كأنه قد ارتفع إلى ما يشبه مرتبة الولاية، حيث أظهر ثلاث كرامات في رسالته التي كتبها إليّ قبل وفاته، وقد أدرجت رسالته تلك ضمن فقرات المكتوب السابع والعشرين فليراجَع».

نسبه ([6])

«إن الخبراء في محكمة «دنيزلي» قالوا عن طلاب النور -حسب اعتقاد بعضهم-: إذا ادّعى سعيد النُّورْسِيّ أنه المهدي فإن جميع طلابه يصدّقونه برحابة صدر. وأنا قد قلت لهم في المحكمة: إنني لا أستطيع أن أعدّ نفسي من آل البيت حيث إن الأنساب مختلطة في هذا الزمان بما لا يمكن تمييزها، بينما مهدي آخر الزمان سيكون من آل البيت. رغم أنني بـمثابة ابن معنوي لسيدنا علي كرم الله وجهه وتلقيت درس الحقيقة منه، وإن معنىً من معاني آل محمد ﷺ يشمل طلاب النور الحقيقيين، فأعدّ أنا أيضاً من آل البيت، إلّا أن هذا الزمان هو زمان الشخص المعنوي، وليس في مسلك النور -بأية جهة كانت- الرغبة في الأنانية وحب الشخصية والتطلع إلى المقامات والحصول على الشرف وذيوع الصيت، وكل ذلك منافٍ لسر الإخلاص تماماً.

فأنا أشكر ربي الجليل بما لا نهاية له من الشكر أنه لم يجعلني أُعجب بنفسي، لذا لا أتطلع إلى مثل هذه المقامات الشخصية التي تفوق حدي بدرجات لا تعد ولا تحصى، بل لو أُعطيت مقامات رفيعة أخروية فإنني أجد نفسي مضطراً إلى التخلي عنها لئلا أخلّ بالإخلاص الذي في النور. هكذا قلت للخبراء وسكتوا…»

مخايل النبوغ في عهد الصبا

«لقد حدّثتُ خيالي في عهد صباي: أيَّ الأمْرين تُفضّل؟ قضاء عمر سعيد يدوم ألف ألف سنة مع سلطنة الدنيا وأبهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم، أم وجوداً باقياً مع حياة اعتيادية شاقة؟ فرأيته يرغب في الثانية ويضجر من الأولى، قائلاً: إنني لا أريد العدم بل البقاء ولو كان في جهنم!.

وحينما كنت صبياً خُسف القمر، فسألت والدتي: ما هذا الذي حدث للقمر؟.

قالت: ابتلعته الحية!.

قلت: ولكنه يتبين!

قالت: إن الحيات في السماء شفافة كالزجاج تشف عما في بطنها.

كنت أتذكر هذه الحادثة كثيراً وأسائل نفسي: كيف تدور خرافة بعيدة عن الحقيقة إلى هذه الدرجة على لسان والدتي الحصيفة الجادة في كلامها؟.

ولكن حينما طالعت علم الفلك رأيت أن الذين يقولون كما تقول والدتي، قد تلقوا التشبيه حقيقةً واقعيةً؛ لأن الفلكيين شبهوا القوسين الناشئين من تداخل دائرة الشمس، وهي منطقة البـروج ومدار درجاتها، مع دائرة القمر وهي ميل القمر ومدار منازله، شبهوهما تشبيهاً لطيفاً بحيتين ضخمتين، وسموهما تنينين، وأطلقوا على إحدى نقطتي تقاطع تلك الدائرتين «الرأس» والأخرى «الذنب». فحينما يبلغ القمر الرأس والشمس الذنب تحصل حيلولة الأرض -كما يصطلح عليها الفلكيون- أي تقع الأرض بينهما تماماً، وعندها يخسف القمر. أي كأن القمر يدخل في فم التنين، حسب التشبيه السابق.

وهكذا عندما سرى هذا التشبيه العلمي الراقي بمرور الزمن إلى كلام العوام غدا التشبيه تنيناً عظيماً مجسماً يبتلع القمر!.

وفي حوالي التاسعة من عمري وجميع الأهلين وأقاربي ينتسبون إلى الطريقة النقشبندية ويستمدون من شيخ مشهور هناك هو «الغوث الخيزاني» كنت على خلافهم أقول: أيها الشيخ الكيلاني أقرأ لك سورة الفاتحة جد لي ما ضيعتُه من جوز مثلاً أو أي شيء تافه آخر. وإنه لأمر عجيب فوالله لقد أمدني الشيخ بدعائه وهمته ألف مرة. ولهذا ما قرأت من أوراد وأذكار طوال حياتي إلّا وأهديتها أولاً إلى حضرة الرسول الأعظم ﷺ ثم إلى الشيخ الكيلاني، وعلى الرغم من أنني منتسب إلى الطريقة النقشبندية بثلاث جهات فإن محبة الطريقة القادرية ومشربَـها يجري فيّ حكمه دون اختيار مني، إلّا أن الانشغال بالعلم كان يعيق الاشتغال بالطريقة الصوفية.

ومع ذلك كنت أحمل حالة روحية تتسم بالفخر والاعتـزاز، يوم كنت في العاشـرة من عمري، بل حتى أحياناً بصورة حب للمدح والثناء. فكنت أتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبتي.

فكنت أقول لنفسي: ما هذا الظهور والاختيال ولاسيما في الشجاعة، وأنت لا تساوي شروى نقير؟ فكنت حائراً وجاهلاً بالجواب. ولكن منذ شهرين، أجيبت تلك الحيرة، بأن رسائل النور كانت تُشعر بنفسها بحس مسبَق. أما أنت فلست إلّا بذرة صغيرة لا تساوي شيئاً ولكن لإحساسك قبل الوقوع تعدّ تلك العناقيد الفردوسية رسائل النور كأنها ملكك، فتزهو وتتباهى.

أما قريتنا «نورس» فإن أهلها وطلابي القدامى يعرفون أن أهالينا كانوا يحبون المدح والثناء عليهم كثيراً لإظهارهم أنهم السابقون في الشجاعة والإقدام، فيرغبون تقلّد طور البطولة وكأنهم قد فتحوا مملكة كبيرة.

فكنت أعجب من نفسي ومن طورها هذا. والآن عرفت السر بإخطار حقيقي:

أن أولئك النُّورْسِيّين، يتباهون لأن قريتهم «نورس» ستكسب فخراً عظيماً بنور رسائل النور، حتى إن الذين لم يسـمعوا باسم الولاية والناحية سيعرفون تلك القرية باهتمام بالغ. فهؤلاء النُّورْسِيّون يظهرون شكرانهم -بحس مسبق- لتلك النعمة الإلهية على صورة زهو وتباهٍ.

نعم، إنه عندما كان جميع كردستان يتخذ وضع المفتخر المختال بغزارة الطلاب والأئمة والعلماء المتخرجين بهمة وجهود «الشيخ عبد الرحمن تاغي» الشهير والملقب بـ«سيدا» في ناحيتنا «إسباريت» التابعة لقضاء «خيزان» كنت أشعر بينهم أيضاً ضمن تلك المناظرات العالية والهمة العالية والدائرة الواسعة العلمية والصوفية، كأن أولئك العلماء سيفتحون الأرض كلها. فكنت أستمع -وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري- مناقب العلماء القدامى المشهورين والأولياء العظام والسـادة الأقطاب، ويرد إلى قلبي: أن هؤلاء الطلاب العلماء سيفتحون آفاقاً عظيمة في العلم والدين. إذ لو تفوق أحدهم بشيء من الذكاء فالاهتمام يوجّـه إليه، وإن ظهر أحدهم في مسألة لدى مناظرة علمية يفتخر ويزهو كثيراً. فكنت أتحيّر من هذا، إذ كانت عندي تلك المشاعر أيضاً. حتى كان بين شيوخ الطرق الصوفية وضمن دائرتهم في ناحيتنا وقضائنا وولايتنا مسابقة تثير الحيرة لم أقف عليها في مدن أخرى إلى هذا الحد. فإن شئت فاذهب بخيالك إلى مجلس «سيدا» قدّس سره في قرية «نورشين».. وما أظهرت من المدنية الإسلامية بصحبته القدسية، تَـرَ فيها ملوكاً في زي الفقراء وملائكة في زي الأنـاسي. ثم اذهب إلى «باريس» وادخل في لجنة الأعاظم تَـرَ فيها عقارب، تلبسوا بلباس الأناسي، وعفاريت تصوروا بصور الآدميين».

سنة 1885م/1303هـ

خطواته نحو العلم وشيوخه

«أقسم بالله إن أرسخ درس أخذته، وكأنه يتجدد عليّ، إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم أنى قد أخذت دروساً من ثمانين ألف شخص، بل أرى يقينا أن سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور. بمعنى أنى أشاهد درس والدتي -رحمها الله- وتلقيناتها لفطرتي وروحي وأنا في السنة الأولي من عمري، البذور الأساس ضمن الحقائق العظيمة التي أراها الآن وأنا في الثمانين من عمري.

وكانت بداية تحصيل العلم سنة (1885م-1303هـ) بتعلّم القرآن الكريم «حيث ساقته حالته الروحية إلى مراقبة ما يستفيضه أخوه الكبير عبد الله من العلوم فأعجب بمزاياه الراقية وتكامل خصاله الرفيعة بتحصيله العلوم، وشاهد كيف أنه بزّ أقرانه في القرية وهم لا يستطيعون القراءة والكتابة. فدفعه هذا الإعجاب إلى شوق عظيم جاد لتلقي العلم؛ لذا شدّ الرحال إلى طلبه في القرى المجاورة لـ«نورس» حتى حطها في قرية تاغ عند مدرسة الملا محمد أمين أفندي إلّا أنه لم يتحمل المكوث فيها، فتركها.

فعاد إلى قريته «نورس» وهي المحرومة من كتّاب أو مدرسة لتلقي العلم، واكتفى بما يدرّسه له أخوه الكبير «الملا عبد الله» في أثناء زيارته الأسبوعية للعائلة.

وبعد مدة قصيرة ذهب إلى قرية برمس ومن بعدها إلى «مراعي شيخان» -أي شيخ تاغي- ثم إلى قرية نورشين وبعدها إلى قرية خيزان ولرفضه التحكم به تشاجر في قرية «برمس» مع أربعة من الطلاب، حيث اتفق هؤلاء الأربعة على مشاكسته باستمرار مما دفعه إلى المثول بين يدي الشيخ سيد نور محمد شاكياً إليه هؤلاء الأربعة قائلاً باعتزاز: «أيها الشيخ المحترم! أرجو أن تقول لهؤلاء ألّا يأتوا للشجار معي جميعاً فليأتوا مثنى مثنى!».

انشرح الشيخ سيد نور محمد من هذه الرجولة المبكرة في «سعيد الصغير» وقال ملاطفاً: «أنت تلميذي، لن يتعرض لك أحد».

وبعد هذه الحادثة أُطلق عليه «تلميذ الشيخ» فظل في هذه المدرسة مدة، ثم تركها ذاهباً مع أخيه الملا عبد الله إلى قرية «نورشين».

وكان يحق لكل عالم حصل على إجازة العالِمية أن يفتح كتّاباً «مدرسة» في القرية التي يرغب فيها حسبةً لله. وتقع مصاريف الطلاب عليه إن كان قادراً على ذلك، وإلّا فالأهلون يتداركونها من الزكاة والصدقات والتبـرعات. بمعنى أن العالم عليه التدريس مجاناً والأهلون يتعهدون بدفع احتياجات الطلاب ولوازمهم. إلّا أن سعيداً الصغير كان ينفرد من بين الطلاب جميعهم في عدم أخذه الزكاة من أحد».

الإباء والشمم

على الرغم من أن سعيداً القديم كان فقير الحال منذ أيام طفولته، كما أن والده كان فقير الحال كذلك، فإن عدم قبوله الصدقات والهدايا من الآخرين، بل عدم استطاعته قبولها إلا بمقابل، رغم حاجته الشديدة جدا، وعدم ذهاب «سعيد» قط في أي وقت من الأوقات لأخذ الأرزاق من الناس وعدم تسـلمه الزكاة من أحد -عن علم- كما كانت العادة جارية في كردستان، حيث كانت أرزاق طلاب العلم تدفع من بيوت الأهلين وتسد مصاريفهم من أموال الزكاة. أقول إني على قناعة تامة الآن من أن حكمة هذا الأمر هي:

عدم جعل رسائل النور -التي هي خدمة سامية خالصة للإيمان والآخرة- في آخر أيامي وسيلة لمغانم الدنيا، وعدم جعلها ذريعة لجرّ المنافع الشخصية.

فلأجل هذه الحكمة أُعطيتْ لي هذه الحالة، حالة النفور من تلك العادة المقبولة وتلك السجية غير المضرة، والهروب منها، وعدم فتح يد المسألة من الناس. فرضيتُ بالعيش الكفاف وشدة الفقر والضنك. وذلك لئلا يفسد الإخلاص الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية لرسائل النور.

وأشعر كذلك أن في هذا الأمر إشارة فيها مغزى، بأن هذه الحاجة هي التي ستدفع أهل العلم في الأزمان الآتية إلى الانهماك بهموم العيش حتى يُغلبوا على أمرهم.

سنة 1891م/1308هـ

بشارة الرسول الكريم ﷺ

ظل مدة في «نورشين» ثم انتقل إلى «خيزان» ثم ترك الحياة الدراسية وعاد إلى كنف والديه في قرية «نورس» وظل فيها حتى اخضرّ الربيع.

وفي هذه الأثناء رأى فيما يرى النائم: أن القيامة قد قامت، والكائنات بعثت من جديد. ففكر كيف يتمكن من زيارة الرسول الأعظم ﷺ، ثم تذكر أن عليه الانتظار في بداية الصراط الذي يـمرّ عليه كل فرد، فأسرع إليه.. وهكذا مرّ به جميع الأنبياء والرسل الكرام فزارهم واحداً واحداً وقبّل أيديهم وعندما حظي بزيارة الرسول الأعظم ﷺ هوى على يديه فقبلهما ثم طلب منه العلم. فبشّره الرسول ﷺ: «سيوهب لك علم القرآن ما لم تسأل أحداً».

فجّرت هذه الرؤيا شوقاً عظيماً فيه نحو طلب العلم. فاستأذن والده للذهاب إلى ناحية «أرواس» لتلقي العلم من الملا محمد أمين أفندي ولكن عندما أوصى الأخير أحد طلابه بتدريسه شعر سعيد الصغير بأنه قد ترفّع عن تدريسه فثقل عليه الأمر وحزّ في نفسه، حتى إنه اعترض على أستاذه في إحدى الدروس قائلاً: «إنه ليس كذلك.. ياسيدى! ثم ذكّره بترفعه عن تدريسه».

وبعد مدة وجيزة قضاها في «أرواس» قصد مدرسة «مير حسن ولي»، ولما شاهد هناك عدم الاهتمـام بالطلاب الجدد أيضاً ترك سبعةً من دروس الكتب المقررة وبدأ بالكتاب الثامن، ثم ذهب للاستجمام في قصبة وسطان (كَواش) لمدة شهر. ومن بعده توجّه برفقة صديقه «الملا محمد» نحو بايزيد وهي قضاء على الحدود الإيرانية تابعة لولاية «أغري».

الدراسة الحقة

بدأت دراسته الحقة في «بايزيد»، إذ لم يكن قد قرأ حتى الآن سوى مبادئ النحو والصرف، وقد قرأ إلى «الإظهار».

وفي ذلك الوقت لم يبد على سعيد ذكاء خارق أو قوة معنوية وحدها بل ظهرت عليه أيضاً حالة عجيبة كانت خارجة عن نطاق استعداده وقابليـاته كلها، بحيث إنه بعد اطلاعه على مبادئ الصرف والنحو خلال سنة أو سنتين، ظهرت عليه الحالة العجيبة، فكأنه أكمل قراءة ما يقرب من خمسين كتابا خلال ثلاثة أشهر، وقد استوعبها وأُجيز عليها وتسلم الشهادة بإكمالها.

«دامت هذه الدراسة الجادة والمكثفة ثلاثة أشهر على يد الشيخ محمد الجلالي» والغريب أنه أتم قراءة جميع الكتب المقررة للطلاب في شرقي الأناضول، ابتداءً من «ملا جامي»  إذ كان يقرأ من كل كتاب درساً أو درسين وربما إلى عشرة دروس، من دون أن يتم الكتاب ثم يبدأ بغيـره. وعندما استفسر منه أستاذه «الشيخ محمد الجلالي» عن سبب قيامه بهذا العمل -المخالف للعرف السائد- أجاب: «ليس في طوقي قراءة جميع هذه الكتب وفهمها، فهذه الكتب شبيهة بصندوق الجواهر، ومفتاحها لديكم. وكل ما أرجوه منكم إرشادي إلى ما يحتويه هذا الصندوق، أعني ماذا تبحث هذه الكتب، لكي أختار منها ما يوافق طبعي».

وعندما سأله أستاذه: «أيّ من هذه العلوم يوافق طبعك؟» أجاب: «لا أستطيع التمييز بين هذه العلوم، فكلها سواء عندي، فإما أن أفهم جميعها حق الفهم أو لا أفهم
منها شيئا».

كان يقرأ في هذه الشهور الثلاثة يومياً ما يقارب مئتي صفحة أو يزيد من متون أمهات الكتب أمثال: «جمع الجوامع» و«شرح المواقف» و«ابن حجر» مع الفهم التام من دون معونة أحد. إلى حد أنه ما كان يُسـأل سؤالا عن أي علم كان إلّا ويجيب عنه إجابة شافية، فاستغرق في القراءة والدراسة حتى انقطعت علاقته مع الحياة الاجتماعية.

وكان نادراً ما يتكلم، ويقضي معظم أوقاته عند ضريح الشيخ «أحمد الخاني»  الأديب الكردي الشهير وخاصة في الليالي، علماً أن الناس يترهبون من دخوله نهاراً. ولهذا كان الناس يقولون: إنه حظي بفيض من «أحمد الخاني» ويسندون وضعه هذا إلى كرامة الشيخ.

ثم قرر الذهاب إلى بغداد -لزيارة علمائها- وتزيا بزي الدراويش وانطلق يقطع الجبال الوعرة والغابات الكثيفة ليل نهار مشياً على الأقدام، سالكاً مسلك الزهاد، حيث بدأ بمزاولة الرياضة الروحية وممارسة التزهد، حتى هزل يوماً بعد يوم ونحل جسمه ولم يعد يطيق هذا النوع من الرياضـة، إذ كان يكتفي بقطعة من الخبز طوال ثلاثة أيام، سعياً لبلوغ حالة الحكماء الذين ينظرون إلى الرياضة الروحية إنها توقد الفكر.

واتخذ القاعدة النبوية الجليلة «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» دستوراً لحياته من زاوية التصوف الذي وصفه الإمام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» فترك كل ما فيه شبهة، حتى بدأ يقتات على الأعشاب، إلى أن وصل بتليس.

زي العلماء

«عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر وجدت موانع حالت دون قيام أحد من الأساتذة على وضع العمامة ولفِّها على رأسي وإلباسي الجبة، كدليل على الشهادة العلمية، كما كانت العادة جارية سابقاً. فما كان لبس الجبة الخاصة بالعلماء والكبار يلائم سني الصغير..

كان العلماء في ذلك الوقت، قد اتخذوا موقف المنافس لي أو التسليم التام فلم يتمكنوا أن يتقلدوا طور الأستاذ. وحيث إن عدداً من الأولياء العظام قد ارتحلوا من الدنيا، لذا لم يجد أحد في نفسه الكفاءة ليلبسني الجبة أو يضع على رأسي العمامة.

«كان ذلك في «بتليس» عندما توجه إلى الشيخ محمد أمين أفندي وحضر يومين في حلقة درسه، وكلّفه الشيخ أن يلبس زي العلماء «الجبة» ويدع زي الدراويش ولكنه ردّ تكليفه قائلا: «إنني لم أبلغ بعدُ الحُلم، فلا أجدني لائقا بلبس ملابس العلماء، وكيف أكون عالماً وأنا مازلت صبياً؟»».

إلى الأخ الملا عبد الله

ثم ذهب إلى أخيه «الملا عبدالله» في مدينة شيروان فقال له الملا عبد الله:

لقد أنهيتُ كتاب «شرح الشمسية» فما قرأت أنت؟

بديع الزمان: لقد قرأت ثمانين كتاباً!

الملا عبد الله: ماذا تعني؟

بديع الزمان: لقد أنهيت الكتب المقررة كلها بل قرأت كتباً أخرى علاوة عليها.

الملا عبد الله: إذن سأمتحنك.

بديع الزمان: أنا مستعد. سل ما بدا لك!

ثم امتحنه الملا عبد الله بتوجيه الأسئلة إليه، ولما أصغى إلى أجوبته السديدة، قدّر فيه كفاءته العلمية، حتى اتخذه أستاذاً له، مع أن بديع الزمان كان قبل ثمانية أشهر تلميذاً لديه.

[وجرت بينهما في هذه الفترة المحاورة الآتية:]

ميزان دقيق في محاورة

«جرت بيني وبين أخي الكبير الملا عبد الله رحمه الله هذه المحاورة، سأوردها لكم:

كان أخي المرحوم من خواص مريدي الشيخ ضياء الدين  قدس سره. وهو من الأولياء الصالحين. وأهلُ الطرق الصوفية لا يرون بأساً في الإفراط في حب مرشدهم والمبالغة في حسن الظن بهم، بل يرضون بهذا الإفراط والمبالغة، لذا قال لي أخي ذات يوم: «إن الشيخ ضياء الدين على علم واسع جداً واطلاع على ما يجري في الكون، بمثل اطلاع القطب الأعظم!..»، ثم سرد الكثير من الأمثلة على خوارق أعماله وعلو مقامه.. كل ذلك ليغريني بالانتساب إليه والارتباط به.

ولكني قلت له: «يا أخي الكريم، أنت تغالي! فلو قابلت الشيخ ضياء الدين نفسه لألزمته الحجة في كثير من المسائل، وإنك لا تحبه حباً حقيقياً مثلي! لأنك يا أخي الكريم تحب ضياء الدين الذي تتخيله في ذهنك على صورة قطب أعظم له علم بما في الكون! فأنت مرتبط معه بهذا العنوان وتحبه لأجل هذه الصفة، فلو رُفع الحجاب وبانت حقيقته، لزالت محبتك له أو قلّت كثيراً! أما أنا -يا أخي- فأُحب ذلك الشخص الصالح والولي المبارك حباً شديداً بمثل حبك له، بل أوقره توقيراً يليق به وأجلّه وأحترمه كثيراً، لأنه مرشد عظيم لأهل الإيمان في طريق الحقيقة المستهدية بالسنة النبوية الشريفة. فليكن مقامه الحقيقي ما يكون، فأنا مستعد لأن أضحي بروحي لأجل خدمته الإيمانَ. فلو أُميط اللثام عن مقامه الحقيقي فلا أتراجع ولا أتخلى عنه ولا أقلل من محبتي له، بل أوثق الارتباط به أكثر، وأُوليه محبة أعظم وأبالغ في توقيره. فأنا إذن يا أخي الكريم أُحب ضياء الدين كما هو وعلى حقيقته؛ أما أنت فتحب ضياء الدين الذي في خيالك».([7])

ولما كان أخي المرحوم عالماً منصفا حقاً، فقد رضي بوجهة نظري وقبلها وقدرها».

الرجولة المبكرة

«إن مناظرة «سعيد» في ذلك الزمن البعيد لعلماء أجلاء وهو بعدُ في فترة الصبا، وإجابته عن أسئلتهم الغامضة -من دون أن يسأل أحداً- إجابة صائبة رغم كونـها في أعقد المسائل، هذه الحالة التي ظهرت، أعترف اعترافا قاطعا، وأعتقد جازماً أنها ليست ناشئة من حدة ذكائي، ولا من خارق استعدادي قط. فأنا الذي كنت صبياً صغيراً، مبتلىً بأمور كثيرة، مبتدِئاً بعد في العلوم، سارح الفكر، ومثيراً للمناقشات، فما كان في طوقي قطعا الإجابة على أسئلة علماء أفذاذ، بل كنت أُغلب في مناقشات صغار العلماء وصغار طلاب العلم، لذا فأنا على اقتناع تام بأن إجاباتي الصائبة تلك، ليست ناشئة من استعدادي ولا من ذكائي.

فلقد كنت طوال السنوات السبعيـن الماضية في حيرة من هذا الأمر، ولكن الآن -بفضل الله وإحسانه- فهمت حكمة منها وهي: أنه ستُمنح شجرةٌ طيبة لعلوم المدارس الدينية التي هي بمثابة بذرة العلوم وسيكون لخادم تلك الشجرة حسّاد ومعارضون كثيرون.

وهكذا فإن قيام أصحاب المشارب والمسالك المختلفة بين المسلمين في هذا الزمان بانتقاد عمل خدام تلك الشجرة (شجرةِ النور) ولاسيما من علماء الدين سواء بسبب المنافسة أو بسبب اختلاف المشارب، فضلا عما تثير رسائل النور كثيراً من عرق علماء الدين، كما كان دأب أهل السنة والمعتزلةِ سابقًا في دحض بعضهم بعضًا ونشرِ مؤلفاتٍ في تفنيد آراء الآخرين والظهور عليهم.. أقول بينما كان الأمر لا بد أن يؤول إلى هذا أراد الله سبحانه أن يجري الأمر على خلاف تلك العادة المتبعة منذ القدم. فألْفُ شكر وشكر لله سبحانه. وأنا على اعتقاد جازم أن سبب عدم تأليفهم أيّ كتاب لنقد رسائل النور أو الاعتراض عليها إنما هو: إجابةُ سعيد الصغير إجابة صائبة على علماء عظام، في ذلك الوقت. إذ تلك الإجابات السديدة قد فتّت من عضد شجاعتهم وجرأتهم، حتى إنهم لم يتصدوا لرسائل النور ولم يعارضوها رغم مخالفتهم لها مشرباً، ورغم ما يحملون من روح المنافسة والغيرة العلميتين.

لذا اقتنعتُ اقتناعا تاماً أن هذه هي حكمة واحدة لعدم قيام العلماء بالاعتراض على الرسائل، إذ لو بدأ الاعتراض لكان أعداؤنا المتسترون والملحدون ومن يوالونـهم يتخذون ذلك الاعتراض ذريعة مهمة جداً لتهوين شأن رسائل النور وعلماء الدين معا. فالحمد لله حمداً لا حد له، لم يقاوم رسائل النور حتى أولئك العلماء الرسميون الذين تعرضت لهم الرسائل كثيراً».


[1]  وكان والده «الصوفي ميرزا» ورعاً يُضرب به المثل، لم يذق حراماً، ولم يطعم أولاده من غير الحلال. حتى إنه إذا ما عاد بمواشيه من المرعى شد أفواهها لئلا تأكل من مزارع الآخرين.(ش) 54. وقد توفي في العشرينات ودفن في مقبرة قرية «نورس» وشاهد قبره مكتوب عليه «مرزه».

[2]  عندما سئلت والدته: ما طريقتك في تربيـة أولادك حتى حازوا هذا الذكاء النادر؟ أجابت: لم أفارق صلاة التهجد طوال حياتي إلا الأيام المعذورة شرعا. ولم أرضع أولادي إلا على طهر ووضوء. (ب/59).

[3]  وهن: درية: هي والدة «عُبيد» توفيت قبل الحرب العالمية الأولى. وخانم: وهي العالمة الفاضلة التي توفيت في الحج أثناء الطواف سنة 1945 «الشعاعات، الشعاع الحادي عشر، المسألة الحادية عشرة» ومرجان: وهي أصغرهن جميعاً.

[4]  وهم: عبد الله: توفي عام 1914 وهو والد «عبد الرحمن» تلميذ الأستاذ النورسي وابنه المعنوي. ومحمد: توفي سنة1951. وعبد المجيد: توفي سنة 1967. فأبناء السيد ميرزا بالتسلسل هم: درية، خانم، عبد الله، سعيد، محمد، عبد المجيد، مرجان.

[5]  حيث نفي إلى أرغاني ونفي الأستاذ النورسي إلى بوردور. ويقصد بالمرشدين الكثيرين رسائل النور.

[6]  ينقل شهود كثيرون أن الأستاذ النورسي كان قد ذكر في مجالسه الخاصة: أن نسبه ينتهي من جهة الأب إلى الإمام الحسن ومن جهة الأم إلى الإمام الحسين رضي الله عنهما إلا أنه لم يصرح بذلك في رسائله حفاظاً على الإخلاص وتجنبا عن إحراز مقام معنوي في نظر الناس. فمثلاً: «يا أخي إن المنتسب إلى سيدنا علي رضي الله عنه هو أنا، فما أتاني من شئ إلا من سبيله..». «Son Şahitler 1 ص240».

   ومثلا: «يا أخي صالح إنك سيد -من أهل البيت- حقاّ، ونورية كذلك سيدة، ومرزا أيضا سيد». Son Şahitler 3 ص 201 « ومثلا: «إنني سيد -من أهل البيت- ولكن احذر أن تذكر هذا لأحد، فوالدتي حسينية، ووالدي حسني». «Son Şahitler 3 ص 238».

  وقد حقق الباحثون نجم الدين شاهين أر وعبد القادر بادللي، ومحمد ملا زاهد الملازكردي، نسب الأستاذ النورسي وتوصلوا إلى الآتي: «والده: صوفي ميرزا بن علي بن خضر بن ميرزا خالد بن ميرزا رشان، من عشيرة إسباريت. أما والدته: فهي نورية بنت ملا طاهر من قرية «بلكان» التي تبعد عن قرية «نورس» ثلاث ساعات. وهي من عشيرة خاكيف. والعشيرتان من قبائل الأكراد الهكارية».

[7]  لأنك تطلب لمحبتك ثمناً غالياً جداً، إذ تفكر أن يقابل محبتك بما يفوق ثمنها مائة ضعف، والحال أن أعظم محبة لمقامه الحقيقي تظل زهيدة جداً. (المؤلف).

مقدمة

مقدمة([1])

إن الإنسان يحس في قرارة نفسه بالانتقال إلى عالمٍ آخر في أثناء قراءة سيرة العظماء والاستماع إلى مناقبهم السامية واستذكار مواقفهم البطولية، فتحرق النار السامية المنبثقة من تلك الأحاسيس النـزيهة غفلةَ قلبه، وتغمره بالفيض الإلهي. وفي هذا المضمار يسجّل لنا التاريخ رجالاً يصغر أمام عظمتهم العظماء.

وحينذاك تفلت الروح من قبضة طينة الأرض بذكر الموهوبين من أبطال التاريخ وتحلّق في أجواء العوالم الواسعة، وكأن شذى فيوضات ألف طيب تحيط بـها وهي تسلك طريقها بين رياحين رياض الجنان وعبير أزاهيرها.

وفي هذه المقدمة أحس بهذه الحقيقة السامية بكل عظمتها وأدركها بكامل معانيها. وذلك أن هذا الكتاب الذي نقدمه لقرائنا الأحبة بكل صدق وإخلاص، يتناول حياة «فاتح القلوب» الأستاذ العظيم سعيد النُّورْسِيّ عبر عمره الذي يقرب من قرن من الزمان، امتلأت كل صفحة من صفحاته بآلاف الخوارق والبطولات، كما يتناول مضمون رسائله البالغة مائة وثلاثين رسالة، وفضل طلبته الأماجد المتحلين بالإيمان والعلم والإخلاص والصدق، الذين غدوا أسوة حسنة ليس لبلد واحد فحسب، بل للإنسانية جمعاء.

نعم، تُعد المقدمة خلاصة للكتاب وزبدة لفحواه، بينما هذا الكتاب العظيم العميق في شعابه المستوعب كل موضوع من موضوعاته كتاباً مستقلاً بذاته يتأبى تعريف محتوياته في مقدمة تشتمل على صفحات عدة. ولم أعجز وأتحير في كل ما كتبتُ من كتابات منظومة أو منثورة كما عجزت وتحيرت في هذه المقدمة، لذا فالمطلعون على هذا الكتاب والذين يقرؤونه بنشوة عميقة وجذبة سامية، يرون بإعجاب أن بديع الزمان شخصية ممتازة وعالم فريد قد ترعرعَ منذ صغره بشكل غريب تحت عناية إلهية فائقة.

وبعد أن أحدقتُ النظر في هذا العالِم الجليل ودققت كتبه بجدّ وعرفت طلابه عن كثب، وعشت في عالم النور هذا فكراً وشعوراً وروحاً، عرفتُ مدى حقيقة ما قيل:

ليس على اللّه بمستنكَر  أن يجمع العالم في واحد

* * *

إن المرفرفين في حمى هذا القطب الإيماني والمنجذبين إليه لسمو غايته وجليل دعوته وعظمة إيمانه ونصاعة منهجه هم في ازدياد يوماً بعد يومٍ. فكما أن هذه الحادثة الجليلة المبهرة للألباب تغيظ المنكرين وتطفئ جذوة شوقهم، فهي أيضاً تمنح السرور والانشراح والسلوان للمؤمنين وتديم أفراحهم.

يعبر أحد المجاهدين الكبار عن هذه الحادثة الإلهية التي تديم حياتها وحيويتها في القلوب المؤمنة من العروة المعنوية، بأسلوب يسبغ على القلوب وجداً وطمأنينة بما يأتي:

«بينما الابتذال الخلقي المتفشي كطوفان عارم في أيام حالكة السواد بكل جهة وناحية، تكاد تخنق وتكبح كل فضيلة، نرى بسر إلهي سريان فيض الأستاذ بديع الزمان من قلب إلى قلب سريان السيل الذي لا يُقاوم، فنتسلّى وتقوى آمالنا… نعم، لقد أظلمت ليالينا بالسواد الداهم، فانجلاء الصبح إذن قريب.

أجل، إن الذين رأوا فيض هذا النور وتأثيره المنتشر بسر إلهي من قلب إلى قلب بشكل يستحيل مقاومته ومواجهته، في كل أرجاء البلاد، أحاطت بهم الحيرة، وبدءوا يتساءلون: «من هذا الرجل الذي أطبقت شهرته البلاد؟ وما سيرته وآثاره ومنهجه؟ وهل إن ما ينتهجه طريقة صوفية أم جمعية أو تحزب سياسي؟».

ولم ينحصر الأمر على هذا بل بدأت التحريات الحكومية الإدارية والعدلية، والتدقيقات الجادة، وأقيمت المحاكم الطويلة المتعاقبة، وظهر أخيراً أن هذا التجلي الإلهي ليس إلّا «مؤسسة إيمانية علمية» ضاربة أطنابها في عالم القلوب، وبهذا تحقق عدل القدر الإلهي على هذه الصورة: براءة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ ورسائل النور كافة وأُعلن ذلك رسمياً، وسطعت حقيقة القوانين الإلهية الجارية منذ الأزل إلى الأبد ألا وهو غلبة الروح على المادة، وانتصار الحق على الباطل وانهزام الظلمة أمام النور، وانحسار الكفر أمام الإيمان.

يقال: إن أصح معيار وأدق ميزان في صدق أي مصلح يظهر بأية بقعة وجديته وحقيقته، يكمن في ثنايا التغييرات الحاصلة بعد إحرازه النصر في حياته الفردية والاجتماعية والروحية عما كان عليه في أيامه الأولى من دعوته.

فلننظر مثلا للذي ظهر بدعوته متواضعاً، وسيماً، نبيلاً، مضحياً، يُحْتَمى به، وقدوةً ألمعيةً ونموذجاً جاداً ممتازاً متحلياً بالأخلاق الحميدة والفضائل السامية وطاهراً طهر الثلجِ بكل معنى الكلمة، فلننظر إليه بعد وصوله الغاية ونيله النصر وتبوّئه المكانة المرموقة في الأحاسيس والقلوب، أيثبت على نصاعته وطهره، أم يصبح بنشوة الانتصار وسكر الرفعة والعلا متكبراً يخرق الجبال؟.

أجل، إن هذه المرآة هي أصقل المرايا وأجلاها لإظهار الوجهة الأصيلة لماهيةِ وحقيقةِ أصحاب الدعوات وكنه شخصيتهم. والتاريخ يشهد بأحداثه الغابرة أن الأنبياء وفي مقدمتهم إمام المرسلين سيدنا محمد ﷺ ومن ثم خلفاؤه وأصحابه الكرام ومن سار على هديهم واستنار بنورهم من العظماء، هم الأسوة الحسنة والنموذج الأمثل في نيل المنى وكسب القدح المعلّى في معترك هذا الامتحان المذهل.

* * *

يبين الرسول الكريم ﷺ ببلاغته المعجزة في حديثه الشريف «العلماء ورثة الأنبياء» ثقل مهام العلماء ومدى صعوبـة وظيفتهم. ومادام هذا شأنـهم، إذن يستوجب عليهم في تبليغ الحق الأبلج والحقيقة السامية الامتثال بالأنبياء وسلوك طريقهم، مهما تخللها من الموانع، بل مكابدة التوقيف والاعتقال والنفي والسـجن الانفرادي، والتسميم، وحبال المشانق، وما لا يخطر بالبال من أساليب الظلم والتعذيب.

لقد قطع الأستاذ النُّورْسِيّ طوال حياته هذا الطريق الشاق لأكثر من نصف قرن بجهاده المقدس، واجتاز آلاف الموانع كالصاعقة، وأثبت فعلاً أنه بعلمه من «ورثة الأنبياء».

وقد شدّني من الأعماق من بين سعة علمه وسمو أدبه وحميد خلقه وفضائله الكثيرة، سعة إيمانه الثابت ثبات الرواسي الشم والعميق عمق البحار الغور.

فيا إلهي ما أعظمه من إيمان، وما أقواه من إرادة صلبة كالفولاذ، وما أعلاه من صبر لا يعرف النفاد إليه سبيلاً، وما أرفعه من رأس يتأبّى الخضوع للعبيد، وما أعلاه من صوت لا يـخفت ومن أنفاس لا تُخنق بالرغم من المضايقات والتهديدات التي تُرعد حتى الخيال وتُصبغ مشاهد الذكريات بالوجل والخوف!.

انظروا، ماذا يعد الله للمجاهدين في هذه الآية الكريمة: ﴿وَالَّذ۪ينَ جَاهَدُوا ف۪ينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاۜ وَاِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِنين (العنكبوت:69).

أجل، إن المجاهدين الذين باعوا أنفسهم ودنياهم لله في طريق الإيمان والقرآن يبشرهم بالهداية إلى سُبله، ولا شك أن الله لا يخلف وعده إذا تحقق ما يستوجب هذا الوعد الإلهي من الشروط. فتغدو هذه الآية الكريمة مرشداً نورانياً في تحليل شخصية الأستاذ النُّورْسِيّ وسيرته، بحيث نتمكن من رؤية أدق القسمات وأصغر النقاط كأنها حزمة لامعة مضيئة. وحين يكون الإنسان محط نعمة الله في الحفظ والحماية، فلا يكون للخوف والترهيب والحزن والملل والنكوص وأمثالها من الأمور أهمية تذكر. فأية غيوم قاتمة السواد تتمكن من إلقاء ظلها في قلب منوّر بنور الله، وأي أمل فانٍ ومطلب زائل والتفاتة غادية وتوجّه عاجز وغاية تافهة ومغانم سفلية نفسانية تستطيع تسكين وطمأنـة وتسلية روح عبدٍ تحظى بالصلة الربانية وتتشرف بالحضور السبحاني في كل آن ولحظة..

إن بديع الزمان شخصية تـمتاز بعناية ربانية خارقة، لذا غدت السجون، كرياض يشهد من خلالها الآفاق النورانية للعوالم الأبدية، وتعتبر أعواد المشانق ومنصة الإعدام محافل وعظه وكراسي إرشاده، فيلقي من فوقها دروس الصبر والثبات والمتانة والرجولة للإنسانية في سبيل غاية سامية. وتنقلب المعتقلات «مدارس يوسفية»، يدخلها كما يدخل الأساتذة الجامعات لإلقاء الدروس، لأن الموجودين فيها من المسجونين يعدّون تلامذة محتاجين إلى فيضه وإرشاده، ويعتبرُ إنقاذ بضع من المواطنين وإدخالهم إلى حظيرة الإيمان وجعل بعض الجناة إنساناً كالملك سعادةً لا تستبدل بشيء من متاع الدنيا الزائلة.

وإنسان يحمل في قلبه مثل هذا الإيمان والإخلاص ويستشعره في كينونته كل آن، لا بد أنه يدع تأثيـر البريق الكاذب الذي يخلفه مفهوما الزمان والمكان على أبناء الفناء القاصرين العاجزين في عالم الـمادة الكثيف، فينطلق بروحه إلى العالم المعنوي الشاسع آفاقه الفياض بالنور والهدى. وإن ما يسميه ويصفه كبار أقطاب الصوفية من المرتبة الكبـرى، من الفناء في الله والبقاء بالله، ليست هي إلّا نيل هذا الشرف السامي العظيم.

أجل، إن لكل مؤمن حالاً يخصّه من الطمأنينة والحضور والخشوع والتجرد والفيض والاستغراق، والكل ينهل بقدر إيمانه وعلمه وتقواه وبنسبة استفاضته من هذه السكينة الإلهية. ولكن هذا الحال الندي بجماله، والوصال العذب بطراوته وهذه السكينة الفريدة بجدتها دائمة النـزول على أربابِ الإحسان، أولئك المجاهدين العظام المذكورين في الآية الكريمة السابقة. لذا فإنهم لا يقعون في غفلة نسيان المولى الكريم، فيبارزون ويصارعون كالأسود الضواري أنفسهم الأمارة بالسوء طوال حياتهم، وكل لحظة من لحظات عمرهم تسجل أروع ذكريات التكمل والترقي. فإنـهم ينصهرون بكل موجوديتهم وديمومتهم في رضا رب العالمين المتصف بصفات الجمال والجلال والكمال.

لقد بحثنا آنفاً عن عظمة إيمانه الذي ينجذب إليه الأحباب، ويرتعد منه الأعداء، فينبغي البحث أيضاً عن شخصيته ومزاياه وأخلاقه وكمالاته المحيطة به كهالة من نور.

وكما هو معلوم أن لكل عظيم ميّزات معينة تحيط به وله سمات خاصة تميّزه عن غيره، والأستاذ النُّورْسِيّ أيضاً في تكوين شخصيته يمتاز بالصفات الآتية:

التضحية

تعد التضحية من أهم شروط التوفيق والنجاح لدى أصحاب الدعوات. وذلك لأن القلوب تميل والعيون تترقب بكل حساسية رؤية هذه الصفة المهمة، وحياة الأستاذ النُّورْسِيّ تزخر وتجود بأروع أمثلة التضحية والفداء.

وقد سمعتُ من العلامة المرحوم شيخ الإسلام مصطفى صبري كلاماً يصف به التضحية قائلاً: «يقتضي على حملة لواء الجهاد الإسلامي المقدس في هذا العصر العصيب التضحية ليس بحياتهم الدنيوية فحسب بل بحياتهم الأخروية أيضاً».

إنني لم أستسغ هذا الكلام الثقيل في معناه والمشحون في مغزاه والصادر من إنسان عظيم، فأقرنه بكلام المتصوفة وألغازهم التي يطلقونـها في حالة من الاستغراق والنـزعة الروحية، وأخذت على نفسي عهداً ألّا أبوح به لإنسان وألّا أخوض فيه في مجلس. وحينما قرأت الكلام نفسه في ثنايا العبارات الحماسية الهياجة للأستاذ النُّورْسِيّ، أدركت أن مقاييس التضحية تعظم بعظمة الفطاحل. نعم، «وتصغر في عين العظيم العظائم».

أجل، إن المجاهدين الذين يضحون بكل غال ونفيس ويتحملون المآسي الأليمة ويصبرون عليها، لن يتركهم المولى سبحانه على حالهم. وكيف يتركهم وهو المتعال القدوس الكريم في عليائه، وهو أرحم الراحمين. فتعالى الله الجليل علواً كبيراً أن يحرم رحمته وكرمه وعنايته عبدَه المضحي في سبيله.

وهكذا يعدّ بديع الزمان الأنموذج الأمثل لهذا التجرد الفريد؛ قضى عمره الزاخر متجرداً من كل متاع، محروماً من اللذائذ الدنيوية المشـروعة كافةً، فلم يجد الفرصة المتاحة ليتفكر في تكوين حياة عائلية سعيدة يجنح لظلها ويقضي حياة سعيدةً بكنفها. ولكن الله تعالى أحسن إليه إحساناً تعجز الأقلام عن تعريفه ووصف أمدائه.

فأي صاحب أسرة وأي ربِّ بيت أسعدُ اليومَ منه؟ وأي أب يُعدّ أبناؤه بالملايين؟ ويا لهم من أبناء بررة.. وأي معلم وأستاذ تتلمذ وتخرج على يديه هذا العدد الهائل من الطلاب؟.

وستدوم بإذن الله هذه العروة المقدسة ما دامت السماوات والأرض، وتسري كسيل من النور إلى أبد الآباد، فالدعوة الإلهية هذه نبعت من القرآن الكريم وتبلورت في بحر نوره، فمنه تستمد الوجود وبه تحيا.

الرأفة والشفقة

لقد وجد العارف بالله الأستاذ النُّورْسِيّ الحق والحقيقة منذ صغره، أيام لجوئه إلى المغارات للاستماع إلى أنين قلبه وآهاته وإنابة روحه ومناجاتها، حتى ذاق طعم الطاعة ورشف رحيق العبادة واستشم طيب التفكر، واستفاض في التربية الروحية والنفسية فوصل إلى الطمأنينة والسكينة.

وعندما أغار الكابوس الإلحادي وكأنه أمواج ليال مظلمة على العالم الإسلامي ولاسيما على بلدنا في تلك الأيام الخطرة التعسـة، وثب الأستاذ النُّورْسِيّ إلى ساحات الجهاد وثبة الأسد من عرينه، يتأجج وكأنه بركان منفجر، وفدى هذه الدعوة المقدسة بوجوده وكيانه. فغدت كل كلمة من كلماته وكل فكر من أفكاره منـذ ذلك اليوم وكأنها شواظ نار تتقد في القلوب وجمرة تستعر في الأحاسيس والأفكار.

يشبه رجوع الأستاذ النُّورْسِيّ إلى المجتمع للدعوة والإرشاد بعد الخلوة والعزلة والانزواء ما فعله الإمام الغزالي. ولا شك أن الله تعالى يزكّي ويصفي الخلّص من عباده المصطفَينَ الأخيار والمرشدين العظام فترة من الزمان في الخـلوات، ثم يحملهم وظيفة الإرشاد والدعوة، فأنفاس هؤلاء العظماء حين تلامس القلوب تبعث فيها الحياة.

وقد قام الأستاذ النُّورْسِيّ بفتوحات في شعاب الإيمان والإخلاص، كما قام أستاذه الإمام الغزالي قبل تسعمائة سنة بفتوحات في ميادين الأخلاق والفضيلة.

أجل، إن شفقةَ الأستاذ النُّورْسِيّ ورأفته ساقتاه دوماً لميادين الجهاد المرعب هذه، ولنستمع إلى هذه الحقيقة منه: «يقولون: لماذا تجرح فلاناً وعلاناً؟ لا أدري. لم أشعر ولم أتبين مما أرى أمامي من حريق هـائل يتصاعد لهيبه إلى الأعالي يحرق أبنائي ويضرم إيماني، وإذ أنا أسعى لإخماده وإنقاذ إيماني، يحاول أحدهم إعاقتي، فتـزل قدمي مصطدمةً به. فليس لهذه الحادثة الجزئية أهمية تذكر وقيمة أمام ضراوة النار؟ يا لها من عقول صغيرة ونظرات قاصرة!».

الاستغناء

قدم الأستاذ النُّورْسِيّ طوال حياته أروع نماذج الاستغناء عن الناس لمختلف طبقات مجتمعنا، حتى أصبحت تلك النماذج ملاحم تتناقلها الألسن. فاستغنى بكل موجوديته وسعة روحه وشخصيته عما سوى الله استغناءً تاماً، ولاذ إلى كنف رب العالمين واحتسب بسعة خزائن رحمته التي لا تعرف النفاد، واتخذ الاستغناء ليس عادة له فحسب بل مشرباً ومسلكاً ومذهباً ينتهجه عبر سني عمره، ولا يزال ثابت الخُطى كل الثبات في هذا الدرب مهما كلّفه ذلك من المصاعب والمتاعب.

والملفت للنظر أن هذا المسلك لم ينحصر في شخصه، بل انتقل إلى طلابه وأصبح مُناهم وغايتهم المقدسة في الحياة. ولا يمتلك الإنسان نفسه من الشغف بطالب النور المغتسل في بحر النور والمرتشف من نبعه الصافي.

وانظروا كيف يوضح الأستاذ النُّورْسِيّ في المكتوب الثاني من كتابه «المكتوبات» هذه النقطة في ستة أوجه بشعور إيماني وحس علمي.

« الأول: إن أهل الضلال يتهمون العلماء باتخاذهم العلم مغنماً، فيهاجمونهم ظلماً وعدواناً بقولهم: «إنهم يجعلون العلم والدين وسيلة لكسب معيشتهم» فيجب تكذيب هؤلاء تكذيباً فعلياً.

الثاني: نحن مكلّفون باتباع الأنبياء -عليهم السلام- في نشر الحق وتبليغه، وإن القرآن الكريم يذكُر الذين نشروا الحق بأنهم أظهروا الاستغناء عن الناس بقولهم: ﴿اِنْ اَجْرِيَ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ﴾ ﴿اِنْ اَجْرِيَ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ﴾ (هود:29). وإن الآية الكريمة: ﴿اِتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْـَٔلُكُمْ اَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ (يس:21)، تفيد معاني جمّة، ومغزى عميقاً، فيما يخص مسألتنا هذه..».

وما التوفيق الإلهي في انتصارات رسائل النور إلّا ثمرة رجولة الثبات على منهج الرسل عليهم السلام واتخاذهم أسوة. ومن هذا المنطلق استطاع الأستاذ النُّورْسِيّ المحافظة على عزته العلمية التي لا تستبدل بملء الدنيا ذهباً.

وكيف لا يكون فاتحاً للقلوب من لا تعرف قيود الراتب والرتبة وأغلال المقام والثـروة وسلاسل المنافع الـمادية التي يلهث وراءها الناس إلى قلبه سبيلا، وكيف لا تمتلئ القلوب المؤمنة بنوره وفيضه.

الاقتصاد في المعيشة

الاقتصاد إن هو إلا إيضاح وتفسير لمعنى الاستغناء السالف ذكره، وللولوج إلى ديوانه ينبغي الدخول من باب الاستغناء، لذا إن عدّ أحدهما لازماً يعد الثاني ملزوماً له.

ومجاهد أغرّ مثل الأستاذ النُّورْسِيّ المتخذ الأنبياءَ عليهم السلام قدوة ورائداً في التجرد والاستغناء يلازمه الاقتصاد حتى يصبح شيمته الفطرية وخصلته العادية، فيكفيه من القوت اليومي قليلٌ من الحساء وكأسٌ من الماء وقطعة من الرغيف، ذلك أن هذا الإنسان العظيم كما يقول الشاعر الفرنسي الكبير المنصف «لامارتين»: «لا يعيش ليأكل، بل يسد رمقه ليديم الحياة».

فالأستاذ النُّورْسِيّ لم يحصر اقتصاده في المأكل والمشرب والملبس وما إليها من الأمور البسيطة، بل وسّعه بعدم الإسراف بالقيم الـمجردة والأمور المعنوية مثل الفكر والاستعداد والقابلية والوقت والزمن والنفْس والنفَس. وقد ساغ أسلوب هذه المحاسبة الدقيقة التي عاشها طوال حياته وجعلها سجية من سجاياه لطلابه كافة. وعلى هذا يصعب تلقين الأفكار أياً كانت، واستقراءُ الكتب كيفما اتفق لطالب النور. وذلك أن بؤرة قلبه المتضمن لكلمة «احذر!» هي أقوى محافظ له في مسيرته.

وهكذا أثبت النُّورْسِيّ بما أنشأ من رعيل طاهر أنه من نوادر الخلق وأنه مصلح قدير ومرب عليم بمداخل النفس الإنسانية ومساربها، وأضاف صحيفة واسعة مسطورة بنور لامع لتاريخ الاقتصاد.

التواضع والتجرد

هاتان الصفتان لهما تأثير بالغ الأهمية في انتشار رسائل النور في أرجاء المعمورة، لأن الأستاذ النُّورْسِيّ لم يُحِطْ نفسه بهالة «قطب العارفين» ولا برونق «غوث الواصلين»، لذا أحبّته القلوب وَسَعت إليه بكل ودّ ودفءٍ وفتحت أبوابها على مصاريعها لتستقبل غايته السامية استقبالاً. مثلاً: يوجه كثيراً من نصائحه وعظاته ودروسه في الأخلاق والفضائل والحكم والعبر إلى نفسه بشكل مباشر، ويضع نفسه موضع المخاطب الأول الوحيد لخطاباته القوية وكلماته الحادة الكاسحة، فينتشر النور من ذلك المركز إلى القلوب الظامئة للسلوان والأفئدة العطشى للسعادة والطمأنينة، كما تنتشر الأمواج الهائجة من المركز إلى المحيط.

الأستاذ النُّورْسِيّ متواضع وحليم في حياته الشخصية غاية التواضع والحلم، وهو يبذل كل ما في وسعه ليتجنب عن إيذاء الأفراد بل حتى أصغر الأحياء وأدناها. فيعاني ما لا يحصى من المشقات ويتجرع صنوفاً من المآزق ويكابد أنواعاً من المصاعب، شريطة أن لا يُتداخل بإيمانه ويمسّ كتابه المقدس القرآن الكريم مس سوء. إذ عندها ترون أن هذا البحر الساكن قد هاج وتلاطمت أمواجه وفار تنوره بطوفان يلقي الدهشة والحيرة ويستفرغ الفزع والهلع على سواحله، فهو بطل وجندي مغوار يحمي حدود الإيمان، أليس هو خادماً أميناً للقرآن الكريم يذود عنه بكل صدق. يوضح الأستاذ هذه الحقيقة بنفسه كما يلي: «كما لا ينبغي للجندي الخفير الرابض أن يترك سلاحه وإن أتاه القائد العام، وأنا أيضاً جندي من جند القرآن وخادم من خدامه، أصدع بالحق في وجه أعتى العتاة دون أن أطأطئ رأسي أمامه…»

* * *

كنت أتمنى أن أخوض الجانب العلمي والفكري والصوفي والأدبي للأستاذ بديع الزمان قبل استهلالي الكتاب، ولكني أدركت قطعاً أن هذه الموضوعات الشاملة والعميقة في فحواها لا يـمكن حصرها ضمن صفحات، لذا أكتفي بالإشارة إليها بعدة جمل:

علمه

يفيد الشاعر المرحوم «ضيا باشا» في بيت شعر له حقيقة عظمى تنتقل من جيل إلى جيل وهي:

العمل لا الأقوال مرآة الفرد  والأثر هو مقياس رتبة الـرجال

أجل، إن بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ الذي أتحف مكتبة العلم والإيمان «كليات رسائل النور» لشعبنا المسلم، والذي أسس مدرسة نورانية مقدسة في القلوب، شخصيةٌ فريدة ممتازة مستغنية عن البحث والإطناب في مقدرته العلمية، كما تستغني الشمس عن الوصف في رابعة النهار.

غير أنه كما يقول شاعر محروق الفؤاد: الحُسْنُ ما سلب الإرادة…!

إن الباحث عن حياة هذا العملاق وكماله وخُلقه وسجيته المحفوف بالنفحات الإلهية والمهلّ بالتجليات السبحانية في كل لحظة من لحظات حياته، يجد ذوقاً نـزيهاً رفيعاً، وسكينة إلهية سامية. لذا يأخذ بالإسهاب في الكلام ويُسلب الاختيار عنه ولا يتمالك نفسه غير الانسياق وراءها.

لقد بحث الأستاذ النُّورْسِيّ في كليات رسائل النور عن أمهات الموضوعات من الدين والاجتماع والأدب والحقوق والفلسفة والتصوف ووفّق غاية التوفيق فيها. والملفت للنظر أنه خاض عباب المسائل المستعصية المعقدة التي وقع كثيـر من العلماء في تيه منها، وتنكبوا الصراط القويم في حلّها، فوضحها بكل يسر وبشكل قاطع، ووصل إلى ساحل السلامة وأوصل قراء رسائله إليها بسلوكه طريق أهل السنة والجماعة.

فمن هذا المنطلق نكون محظوظين بتقديم كليات رسائل النور لطبقات مجتمعنا كافة بكل أمانـة ورحابة صدر. وهذه الرسائل قطرات براقة من محيط القرآن الكريم وحُزَمُ نورانية من طيف شمس الهداية. لذا تعدّ الوظيفةَ المقدسة الملقاة على كل مسلم غيور السعي لنشر هذه الرسائل لإنقاذ إيـمان الآخرين. فالتاريخ يشهد بأمثلة كثيرة لهداية الأفراد والعوائل والشعوب وما لا تحد من المجتمعات البشريـة ونيلهم السعادة من خلال كتاب واحد.. ويا فرحتاه لذلك الإنسان الذي يكون سبباً لهداية وإيمان أخيه الإنسان..

فكره

من المعلوم أن لكل مفكر نهجاً خاصاً وفكراً متميزاً، وله غاية يسعى لها في حياته الفكرية، وهدف يرتبط به من صميم قلبه ارتباطاً وثيقاً. ولأجل البحث عن فكره واستساغة نهجه وهدفه تسرد مقدمات طويلة. ولكنه من اليسر استخلاص فكر الأستاذ ونهجه وهدفه وغايته في عبارة: «إن الغاية الوحيدة للكتب السماوية والدعوة الفريدة للأنبياء كافة هي: «إعلان ألوهية خالق الكائنات ووحدانيته» واثبات هذه الدعوة العظمى بالدلائل العلمية والمنطقية والفلسفية».

فهل يعني هذا أن للأستاذ النُّورْسِيّ علاقة بالمنطق والفلسفة والعلوم الكونية؟

أجل، إن الأستاذ النُّورْسِيّ هو منطقي عظيم وفيلسوف قدير ما دام المنطق والفلسفة يتصالحان مع القرآن الكريم، وينتهجان صراط خدمة الحق والحقيقة،لأجل إثبات مدى أحقية دعوته العالمية المقدسة. فيأخذ العلمَ بيمينه ليثبت به مرة أخرى أن القرآن الكريم هو كلام الله الأزلي بأسطع الأدلة والبراهين القاطعة.

وكلما تقترب الفلسفة من معنى الحكمة يصبح كل كتابِ حكمةٍ عظيمةً ومؤلفُه حكيماً بارعاً في طريق إثبات وجود الباري الكريم بالصفات المقدسة التي تليق به.

وبسلوك الأستاذ النُّورْسِيّ هذا الصراط العلمي القويم، صراطَ القرآن الكريم النوراني، نال شرف إنقاذ إيمانِ آلاف من طلبة الجامعات. وهو الحائز لميزات علمية وأدبية وفلسفية كثيرة في هذا الجانب.

تصوفه

لقد سألت يوماً عالماً جليلاً من الطريقة النقشبندية، يجهد بكل ما وسعه اتباع الرسول الكريم ﷺ في حركاته كافة: «ما سبب توتر العلاقات بين المتصوفة والعلماء؟».

فقال: «لقد ورث العلماء علم الرسول ﷺ والمتصوفة عملَه، لذا يطلق على من يرث علم الرسول وعمله معاً «ذو الجناحين» وعليه فالمقصود من الطريقة العمل بالعزائم دون الرخص، والتخلق بأخلاق الرسول ﷺ والتـزكية من الأسقام المعنوية كافة والفناء في رضا الله تعالى، والذي يحوز على هذه المرتبة العظمى لا شك أنه من أهل الحقيقة. وهذا يعني أنه قد توصل إلى الغاية المقصودة والمطلوبة من «الطريقة». ولكون نيل هذه المرتبة العظمى لا يتيسر لكل أحد، وضع عظماؤنا قواعد معينة تُوصل إلى الهدف المقصود بيسر وسهولة. والخلاصة: أن الطريقة تدور ضمن دائـرة الشريعة، فالساقط منها يسقط في دائرة الشريعة، أما الذي يخرج من دائرة الشريعة -معاذ الله- فإنه يخسر خسراناً مبيناً».

واستناداً إلى مقولة هذا العالم الجليل، ليس هناك فارق جوهري بين ما انتهجه بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ من الصراط النـوراني والتصوف الحقيقي الذي لا شـائبة فيه. وكلاهما يؤديان إلى رضاء الباري الكريم وبدوره إلى الجنة العالية ورؤية جمال المولى الكريم.

وبناء عليه يستطيع أيّ من إخواننا المتصوفين الذين يستهدفون تلك الغاية النبيلة الأصيلة قراءة كليات رسائل النور بكل ودّ ومحبة دون أيّ مانع يذكر، بل إن رسائل النور قد وسّعت دائرة مراقبة التصوف بالصراط القرآني وأضافت إليها وظيفة التفكر بمثابة ورد مهم.

أجل، إن السالك المنشغل بمراقبة قلبه يفتح بهذا التفكر آفاقاً واسعة أمام نظره وقلبه، فيشاهد ويراقب بفؤاده ولطائفه كافة الكائنات بكل عظمتها، ابتداءً من الذرات إلى السيارات، ويرى بكل وجد في تلك العوالم تجليات أسماء الله تعالى وصفاته الجليلة بألف تجلٍ وتجلٍ، وبهذا يرى ويحس بعلم اليقين وعين اليقين بل بحق اليقين أنه في مسجد لا منتهى له يدخله ما لا تستوعبه الأرقام من الجماعات، الذاكرين خالقهم بكل خشوع وشوق وودّ ونشوة. ويرددون بصوت واحد تتخلله الألحان العذبة والأنغام المنسجمة والإيحاءات المتناسقة بشتى اللغات معاً: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر».

وهكذا يدخل المتبع للسبيل النوراني الإيماني البرهاني الذي افتتحته رسائل النور إلى القرآن والإيمان والعلم مثل هذا المسجد العظيم، ويستفيد الكل بقدر إيمانه وإخلاصه وعلمه من هذا النبع الزاخر.

أدبه

لقد افترق الأدباء والشعراء والمتفكرون والعلماء منذ القدم من حيث اللفظ والمعنى والأسلوب والمحتوى إلى قسمين. فمنهم من اهتم بالأسلوب والإفادة والوزن والقافية فحسب، وضحّوا بالمعنى للأسلوب، وهذا ما ظهر واضحاً في الشعر. أما القسم الآخر فقد رجحوا المحتوى والمعنى ولم يضحوا بالمغزى للفظ والأسلوب.

ولأن الأستاذ عبقريّ فذّ لم يصرف عمره الزاخر المعطاء، بتنسيق الكلمات وتنظيم الألفاظ، بل على العكس من ذلك جعل شغله الشاغل إحياء الحس الديني والشعور الإيماني ومفهوم الفضائل والأخلاق أمنيته ومبتغاه بترسيخها في الأرواح والوجدان والأفكار لتنتقل عبر العصور والدهور للأجيال القادمة. ومن الطبيعي لمثل هذا المجاهد المضحي بكل ما لديه من النَّفَس والحياة لتحقيق هذه الغاية السامية أن لا ينشغل بزخارف اللفظ وشكليات الأسلوب.

ومع هذا يمكن القول: إن الأستاذ من حيث رشاقة الذوق ورهافة الفؤاد وعمق الفكر وبُعد الخيال صاحب ملكة أدبية إبداعية خارقة، لذا ينتهج أسلوباً مميزاً وتعبيراً متغايراً حسب الموضوع؛ فبينما يريد إقناع العقل بالدلائل المنطقية في المواضيع الفلسفية تراه يستعمل التعابير الوجيزة، ولكن عندما يروم الارتقاء بالقلب، والاستعلاء بالروح يأخذ بمجامع النفس؛ فمثلاً: عندما يبحث عن السماء، والشموس، والنجوم، وأنوار الأقمار، ولاسيما عن عالم الربيع وتجليات قدرة الخالق وعظمته في هذه العوالم، يتخذ أسلوبُه لطافة ورقّة، وكأن كل تشبيه من كلامه يستذكر لوحة فنية رائعة محاطة بهالة من أجمل الألوان وأعذبها.. وكل تصوير من تصويراته تنفخ الحياة في عالم مليء بأكبر الخوارق.

ومن هذا السر يمكن لطالب النور الجامعي أن يشبع حسه وفكره وروحه ووجدانه وخياله جميعاً بقراءة كليات رسائل النور. وكيف لا يطمئن ورسائل النور باقة مختارة من جنان القرآن الكريم المستوعب للعوالم والأكوان، ففيها عبير رياض الرحمن المبارك ونفحاته ونوره وضياؤه.


[1]  هذه المقدمة كتبها العالم الفاضل والشاعر التركي الكبير «علي علوي قوروجو» ساكن «المدينة المنورة»، وبعثها إلى الأستاذ النورسي، فأشار بوضعها في بداية كتاب «تاريخ الحياة» باللغة التركية. وقد تفضل مشكوراً الأخ «جميل شانلي» بترجمتها إلى العربية.

أحداث مهمة في حياة النُّورْسِيّ

أحداث مهمة

في حياة بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ

حسب التسلسل التاريخي

سنة 1876-1877م/1294هـ

– ولادته وأيام طفولته.

سنة 1885م/1303هـ

– خطواته الأولى نحو العلم.

– تلقيه العلم في قرية «تاغ».

سنة 1888م/1306هـ

– تَتَلْمُذُهُ على «الشيخ السيد نور محمد».

سنة 1891م/1308هـ

– رؤيا الرسول ﷺ في المنام في حضن والديه.

– الدراسة الحقة لدى الشيخ الجلالي في «بايزيد».

سنة 1892م/1309هـ

– امتحانه العلمي لدى «الملا فتح الله».

– مناظرته للعلماء في «سعرد».

– منحه لقب بديع الزمان.

سنة 1893م/1310هـ

– مكوثه في «شيروان».

سنة 1894م/1311هـ

– انزواؤه في «تيلّو».

– تحدّيه ظلم «مصطفى باشا».

– مناظرته العلماء في الجزيرة.

– ذهابه إلى «ماردين» واهتمامه بالسياسة.

سنة 1895م/1312هـ

– نفيه من ماردين إلى «بتليس».

سنة 1897م/1314هـ

– ذهابه إلى «وان» بدعوة من الوالي.

– اطلاعه على العلوم الحديثة في مضيف الوالي وحفظه لمتون تسعين كتابا.

– اطلاعه على تصريح وزير المستعمرات البريطاني.

– سقوطه من قلعة «وان».

سنة 1899م/1316هـ

– حدوث الانقلاب الفكري

سنة 1906م/1334هـ

– خدمة القرآن

سنة 1907م/1325هـ

– مجيؤه إلى إسطنبول بغية إنشاء مدرسة الزهراء.

– إعلانه عن المناظرة مع العلماء في خان الشكرجي.

– أجوبة القائد الياباني.

– تقديمه طلبا للسلطان عبد الحميد حول إصلاح الأوضاع في المنطقة الشرقية وإنشاء مدرسة الزهراء.

– سوقه إلى مستشفى المجاذيب.

– محاورته الطبيب.

– محاورته مع وزير الأمن «شفيق باشا».

سنة 1908م/1326هـ

– إعلان المشروطية الثانية في 23/7/1908.

– خطابه لشرح المفهوم الصحيح للحرية والمشروطية.

– اجتماعه بـ«عمانوئيل كراصو».

– لقاؤه الشيخ «بخيت».

– ردّه لما كُتب في الصحف.

– تهدئته المشاعر المتهيجة في مسرح الفرح.

– تهدئته الحمالين حول مقاطعة البضائع النمساوية.

سنة 1909م/1327هـ

– تهدئته طلاب الشريعة في ميدان بايزيد في 27/2/1909.

– تأسيس جمعية الاتحاد المحمدي في 5/4/1909 – تنبيهه أرباب الصحافة.

– حادثة 31 مارت 1325 رومي في 13/4/1909م.

– تهدئته الفوضى الناشئة من الأحداث وإرجاعه ثمانية أفواج عسكرية إلى الطاعة.

– سوقه إلى المحكمة العسكرية العرفية بسبب أحداث 31 مارت وبراءته منها.

سنة 1910م/1328هـ

– مغادرته إسطنبول إلى «وان».

– محاورته مع البوليس الروسي في «تفليس».

– تجواله بين العشائر وتأليف رسالة «المناظرات».

سنة 1911م/1329هـ

– ذهابه إلى الشام شتاءً.

– إلقاؤه خطبة في الجامع الأموي.

– عودته إلى إسطنبول عن طريق بيروت، إزمير.

– مرافقته السلطان رشاد في سياحته لرومَلي 7-26/6/1911.

– وضعه الحجر الأساس لمدرسة الزهراء في «وان».

سنة 1913م/1331هـ

– سعيه دون قيام «الشيخ سليم» بالثورة.

– تصديه لعصابات الأرمن.

– تدريبه لطلابه الفدائيين مع الاستمرار في النشاط العلمي في «خورخور».

سنة 1915م/1333هـ

– رؤيا صادقة حول إعجاز القرآن.

– تشكيله فرقة المتطوعين.

– في خضم الحرب مع الروس في جبهة القتال.

سنة 1916م/1334هـ

– تأليفه «إشارات الإعجاز».

– سعيه لإنقاذ الأهالي.

– سقوطه أسيراً بيد الروس في 2/3/1916.

– سوقه إلى «قوصتورما» واستمراره على دروس الإيمان هناك.

– أول صحوة روحية في مسجد للتتار.

سنة 1918م/1336هـ

– هروبه من الأسر وعودته إلى إسطنبول في 17/6/1918.

– تعيينه عضواً في دار الحكمة الإسلامية في 13/8/1918.

سنة 1919م/1337هـ

– خطاب في رؤيا «أيلول» 1919م.

– بقاؤه مع عبد الرحمن في جاملجة.

– تجدد الصحوة الروحية.

سنة 1920م/1338هـ

– احتلال الإنكليز لإسطنبول في 16/3/1920.

– نشره «الخطوات الست» بالتركية والعربية.

– اعتزاله في «صاري ير» بإسطنبول في أواسط 1920م.

– تركه الدوام في دار الحكمة الإسلامية.

سنة 1921م/1339هـ

– جوابه للكنيسة الإنكليكية.

– جوابه للفتوى الصادرة من المشيخة ضد حركة التحرير.

سنة 1922م/1340هـ

– انزواؤه في «تل يوشع» وتحوله إلى سعيد الجديد بانكشاف روحاني وانقلاب قلبي وفكري.

– مجيؤه إلى أنقرة في 19/11/1922.

– تأملاته على قلعتها.

– استقباله من قبل مجلس النواب «المبعوثان» في22/11/1922.

سنة 1923م/1341هـ

– نشره البيان إلى النواب في 19/1/ 1923 نشره لرسالة «حباب» وذيلها.

– مغادرته أنقرة بعد 30/4/1923.

– عودته إلى «وان» بداية حزيران.

سنة 1924م/1342هـ

– قضاؤه سنتين في جبل أرك.

سنة 1925م/1343هـ

– تصدّيه للثورات.

– جوابه للشيخ سعيد بيران «البالوي».

– نفيه من وان في 25/2/1925 إلى بوردور.

سنة 1926م/1344هـ

– نيسان- مايو، يؤتى به إلى إسطنبول.

– نشوب الحريق في المشيخة الإسلامية.

– أخذه إلى «بوردور» عن طريق إزمير أنطاليا.

– تأليفه «المدخل إلى النور» في بوردور.

سنة 1927م/1345هـ

– 1/3/1927 يوم الثلاثاء وصوله إلى بارلا قبل حلول شهر رمضان بثلاثة أيام.

سنة 1929م/1347هـ

– التعدي الأول على مسجده.

سنة 1932م/1350هـ

– مداهمة مسجده في 18/7/1932.

سنة 1934م/1352هـ

– أخذه من بارلا إلى إسبارطة «أواسط الصيف».

سنة 1935م/1353هـ

– أخذ طلاب النور من أماكنهم ووضعهم في التوقيف 25/4/1935.

– مجيء وزير الداخلية في 27/4/1935، وسوق الموقوفين إلى أسكي شهر.

– دفاع الأستاذ وقرار محكمة الجزاء الكبرى في 19/8/1935 بالحكم عليه بسبب «رسالة الحجاب».

سنة 1936م/1354هـ

– الإفراج عنه في 27/3/1936 ونفيه إلى قسطموني للإقامة الإجبارية.

سنة 1943م/1362هـ

– مداهمة بيته ثلاث مرات وتوقيفه في 20/9/1943 وإرساله إلى أنقرة.

سنة 1944م/1363هـ

– محكمة دنيزلي وتدقيق رسائل النور من قبل الخبراء.

– 15/6/1944 إعلان براءة الأستاذ.

– بقاؤه في دنيزلي شهرين.

– إقامته إجبارياً في أميرداغ بأمر من أنقرة في أواخر آب.

– منعه الذهاب إلى المسجد في أميرداغ.

سنة 1948م/1367هـ

– 23/1/1948 سوقه وطلابه إلى محكمة آفيون.

– 6/12/1948 الحكم عليهم.

سنة 1949م/1368هـ

-20/9/1949 إخلاء سبيلهم من سجن آفيون.

-20/11/1949 إعادة الأستاذ إلى أميرداغ في 2/12/1949.

سنة 1950م/1369هـ

– إرساله برقية تهنئة إلى رئيس الجمهورية لمناسبة فوزهم في الانتخابات في 14/5/1950.

– 16/6/1950 رفع الحظر عن الأذان الشرعي، وتهنئته الطلاب والعالم الإسلامي به.

سنة 1951م/1370هـ

-21/2/1951 رسالة إلى الفاتيكان مع إرسال بعض رسائل النور.

-20/11/1951 ذهابه إلى أميرداغ والبقاء فيها أسبوعاً.

-29/11/1951 إلى أسكي شهر والإقامة في فندق يلدز لمدة شهر ونصف الشهر.

– 29/12/1951 إلى إسبارطة.

سنة 1952م/1371 هـ

– 15/1/1952 مجيؤه إلى إسطنبول لحضور محكمة حول «مرشد الشباب» والجلسات في 22/1/1952، 19/2/1952، 5/3/1952.

سنة 1953م/1372هـ

– عودته إلى أميرداغ أوائل نيسان.

– براءته من قضية «مرشد الشباب».

– مجيؤه إلى إسطنبول لأجل الذهاب إلى صامسون للمحكمة. والبقاء فيها ثلاثة أشهر تقريباً.

– مغادرته إسطنبول أواسط الصيف إلى أسكي شهر ومنها إلى أميرداغ ومنها إلى إسبارطة فبارلا.

– سفرات متقطعة بين إسبارطة – بارلا – إسبارطة – أميرداغ وأحياناً أفيون وأسكي شهر.

سنة 1956م/1375هـ

– 23/5/1956 براءة رسائل النور من محكمة آفيون.

سنة 1958م/1377هـ

– قضية أنقرة.

السفرات الوداعية

سنة 1959م/ 1378هـ

– 2/12/1959 من أميرداغ إلى أنقرة والعودة في اليوم التالي إلى أميرداغ.

– 3/12/1959 إلى إسبارطة والعودة بعد 15 يوماً إلى أميرداغ.

– 19/12/1959 إلى قونية والعودة منها إلى إسبارطة ثم إلى أميرداغ.

-20/12/1959 مرة ثانية إلى قونية وتركها بعد صلاة الصبح إلى أميرداغ.

-31/12/1959 من أميرداغ إلى أنقرة.

سنة 1960م/ 1379هـ

– 1/1/1960 إلى إسطنبول.

– 3/1/1960 عودته إلى أنقرة «الدرس الأخير».

– 5/1/1960 مقابلة مراسل صحيفة «تايمس» اللندنية.

– 6/1/1960 ذهابه إلى قونية ومن هناك إلى إسبارطة و«أميرداغ».

– 11/1/1960 عودته إلى أنقرة وتوصية الحكومة ببقائه «إجباريا» في أميرداغ.

– 20/1/1960 من أميرداغ إلى إسبارطة ومنها إلى أفيون وعودته إلى أميرداغ.

– 19/3/1960 من أميرداغ إلى إسبارطة.

– 20/3/1960 بقاؤه في إسبارطة يومين وتوجهه إلى أورفة.

– 21/3/1960 إلى قونية – أطنة – غازي عنتاب.

– 22/3/1960 أهالي أورفة يزورونه.

– 23/3/1960 الساعة الثالثة ليلاً توفاه الله وتغمده برحمته الواسعة.

– 24/3/1960 مراسيم الدفن في أورفة.

– أوائل الشهر السابع نُبش قبره من قبل السلطات وأُخذ جثمانه إلى مكان مجهول.

* * *

 

 

نظرة الأستاذ النُّورْسِيّ إلى سيرته الذاتية

نظرة الأستاذ النُّورْسِيّ إلى سيرته الذاتية

حياتي بذرة لخدمة القرآن

«لقد تحقق لديّ يقيناً أن أكثر أحداث حياتي، قد جرت خارجة عن طوق اقتداري وشعوري وتدبيـري، إذ أُعطي لها سيرٌ معينٌ ووُجّهت وجهةً غريبةً لتنتج هذه الأنواع من الرسائل التي تخدم القرآن الحكيم. بل كأن حياتي العلمية جميعها بـمثابة مقدمات تمهيدية لبيان إعجاز القرآن بـ«الكلمات»([1]) حتى إنه في غضون هذه السنوات السبع من حياة النفي والاغتراب وعزلي عن الناس -دون سبب أو مبـرر وبـما يخالف رغبتي- أُمضي أيام حياتي في قرية نائية خلافاً لـمشربي وعازفاً عن كثير من الروابط الاجتماعية التي ألفتُها سابقاً.. كل ذلك ولّد لي قناعة تامة لا يداخلها شك من أنه تهيئة لي وتحضير للقيام بخدمة القرآن وحده، خدمة صافية لا شائبة فيها.

بل إنني على قناعة تامة من أن المضايقات التي يضايقونني بها في أغلب الأوقات والعنت الذي أرزح تحته ظلماً، إنما هو لدفعي -بِيَد عناية خفية رحيمة- إلى حصر النظر في أسرار القرآن دون سواها. وعدمِ تشتيـت النظر وصرفه هنا وهناك. وعلى الرغم من أنني كنت مغرماً بالمطالعة، فقد وُهبتْ روحي مجانبةٌ وإعراضٌ عن أي كتاب آخر سوى القرآن الكريم.

فأدركت أن الذي دفعني إلى ترك المطالعة -التي كانت تسليتي الوحيدة في مثل هذه الغربة- ليس إلّا كون الآيات القرآنية وحدها أستاذاً مطلقاً لي.([2])

نعم، إن بذرة شجرة الصنوبر التي هي بحجم حبة الحنطة تكون منشأً لشجرة صنوبـر ضخمة؛ فالقدرة الإلهية تخلق تلك الشجرة العجيبة من تلك البذرة، وقد لا توجد للبذرة إلّا حصة واحدة من مليون حصة من الخلق، حيث سَطّر فيها قلمُ القدر فهرساً معنوياً لتلك الشجرة. فلو لم يُسـند الأمر إلى القدرة الإلهية للزم وجود مصانع تَسَعُ مدينة كاملة كي تتكون تلك الشجرة العجيبة بأغصانها المتشعبة.

وهكذا، فإن إحدى دلائل عظمة الله وقدرته سبحانه هو أنه يخلق من شيء صغير جداً كالذرة، أشياء عظيمة عظمة الجبال. وبمثل هذا المثال أُعلنُ باقتناع تام وبخالص نيتي ولا أتكلف التواضع ونكران الذات، فأقول: إن خدماتي وأحداث حياتي قد أصبحت في حكم بذرة، لكي تكون مبدأً لخدمة إيـمانية جليلة، قد منحت العناية الإلهية منها في هذا الزمان شجرة مثمرة برسائل النور النابعة من القرآن الكريم.

فأُقسم لكم لتطمئنوا فأقول: إنني ما كنت أجد في نفسي قابلية ولا مزيّة ولا أهلية فائقة لتلك الخوارق التي مرّت في حياتي، لذا كنت أتقلب في حيرة. بل ما أجد في نفسي كفاءة لتدبير أمورها وارتباطها بعلاقات بالمجتمع فكيف لها بدهاء خارق وولاية خارقة!

نعم، لقد ظهرت حالاتٌ جلبت الأنظار إليّ، ولكنها كانت خارجة عن إرادتي واختياري، حتى بدت كأنها نوع من جلب الإعجاب، وما كانت إلّا من قبيل عدم تكذيب حسن الظن الذي كان يحمله الناس نحوي.

ولكن لما كنت أجهل الحكمة في عدم كوني في الحقيقة على ما يظنه الناس بي، ولا أفيد شيئا للدنيا، وها قد أصبحتُ موضع توجه الناس بما يفوقني بألف مرتبة ومرتبة، لذا كنت أتلقى هذا الأمر باعتباره خلافاً للحقيقة كليا.

ولكن بفضل الله وكرمه، وألف حمد وشكر له، إذ قد أنعم عليّ فهم شيء من حكمة ذلك الأمر، في أواخر أيامي بعد قضاء ما يقرب من ثمانين سنة من العمر…

فمثلاً: إن هذا المسكين سعيداً، برغم حاجته الشديدة إلى الكتابة وجودة الخط، وانشغاله بها منذ سبعين سنة، واضطراره إلى تصحيح مأتي صفحة في اليوم الواحد أحيانا، لا يملك من الخط ما يتعلمه طفل ذكي في العاشر من العمر في عشرة أيام. هذا الأمر محيّـر حقاً، إذ لم يكن سعيد محروماً من القابليات كلياً، فضلا عن أن أشقاءه يجيدون الخط وحسن الكتابة.

فأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن حكمة بقائي نصف أُمّي برداءة الخط وأنا في أشد الحاجة إليه هي: أنه سيأتي زمان لا يمكن للقدرات والقوى الشخصية والجزئية أن تقاوم وتصدّ هجوم أعداء رهيبين، فيبحث «سعيد» بحثا حثيثا عن الذين يملكون خطاً جيداً ليشركهم في خدمته فيشكلون معاً آلاف الأقلام التي تحوّل تلك الخدمة الشخصية الجزئية إلى خدمة كلية عامة قوية، إذ يجتمعون حول تلك البذرة، بذرةِ النور، اجتماعَ الماء والهواء والنور، ويمدّون تلك الشجرة المعنوية بالعون. ففضلا عن هذه الحكمة، فإن إذابة أنانيته في حوض الجماعة المبارك كإذابة قالب الثلج نيلاً للإخلاص الحقيقي، حكمةٌ أخرى تدفع لخدمة الإيمان.([3])

إنني ضمرت ضمور البذرة النابتة، وأعتقد أن الأهمية والقيمة والحيوية والشرف والمنـزلة كلها قد سارت إلى رسائل النور التي نـمت من تلك البذرة، ولأجل ذلك أُظهر قيمة رسائل النور وأهميتها إظهاراً لإعجاز القرآن».([4])


[1] أي كليات رسائل النور.

[2] المكتوبات، المكتوب الثامن والعشرون.

[3] الملاحق، ملحق أميرداغ 2.

[4] الشعاعات، الشعاع الثامن، الرمز الثامن.