قسم من أجوبةِ «سعيد القديم» عن أسئلة طرحتها العشائر قبل خمس وأربعين سنة

[قسم من أجوبةِ «سعيد القديم» عن أسئلة طرحتها العشائر قبل خمس وأربعين سنة].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

س: إن لم يكن على الدين ضرر، فليكن ما يكون ولا نبالي.

ج: الإسلام كالشمس لا ينطفئ سناها بالنفخ، وكالنهار لا يحال ليلًا بإغماض العين. ومن يغمض عينه فلا يجعل الظُلمة إلّا من نصيبه.

تُرى لو فُوّضت حماية الدين إلى رئيسٍ مغلوب على أمره، أو إلى مسؤولين مداهنين، أو إلى فئة من ضباط لا منطق لهم، أيكون أولى، أم يُعتمد على العمود النوراني، ذلك السيف الألماسي، الحاصل من امتزاجِ شراراتِ حمية الإسلام النيرة، ولمعاتِ الأنوار الإلهية التي تشع من عاطفة الإيمان في قلب كل فرد، والتي هي معدن المشاعر الإسلامية الممِدّة لأفكار الأمة العامة؟

فلكم أن تقدّروا أيهما أولى بالاعتماد عليه في حماية الدين؟

نعم، سيَرفع هذا العمود النوراني([1]) حماية الدين على رأس شهامته، وعلى عين مراقبته وعلى كاهل حميته. فها أنتم أولاء تشاهدون أن اللمعات المتفرقة بدأت تتلألأ، وستمتزج رويدًا رويدًا بالانجذاب؛ لأنه قد تقرر في «فن الحكمة» (أي الفلسفة) أَن الشعور الديني ولاسيما الدين الفطري الحق، أَنفذُ كلامًا، وأعلى حُكمًا، وأشد تأثيرًا من كل الأحاسيس والمشاعر.

وخلاصة القول: مَن لم يعتمد على غيره يحاول هو بنفسه. وسأضرب لكم مثلًا: أنتم من البدو، رأس مالكم الغنمُ -وأنتم أعلم بأموركم- فقد عهد كلٌّ منكم قسمًا من أغنامه إلى راعٍ، بينما الراعي كسلان ومُعاوِنه متهاون متكاسل وكلابه جبانة، فإن اعتمدتم عليه ونمتم براحة في بيوتكم، ظلت أغنامكم الوادعة تحت سطوة الذئاب الضارية واللصوص والمصائب والبلايا.. أهذا الأمر أولى أم التفطن إلى عدم كفاءة الراعي لحمايتها، فينطلق كلٌ منكم من مسكنه كالبطل منتبهًا من نوم الغفلة، ساعيًا إلى الحفاظ على الأغنام، فتكونوا ألفًا من الحماة المحافظين بدلًا من راعٍ واحد… فلا يجرؤ عندئذٍ ذئبٌ ولا سارق على الاقتراب من غنمكم؟… أَمَا جَعَل هذا السرُّ أشقياءَ «مامه خوران» تائبين، بل مريدين صوفيين؟… نعم، إن أرواحهم قد تاقت إلى البكاء وصار شخصٌ بنصيحةٍ سببًا لاستجاشتها، فبكوا دمعًا سخينًا بكاء الندامة..

نعم… نعم… أجل.. أجل.! لو سكن طنينُ البعوض وهدأ دويّ النحل فلا تأسوا ولا تحزنوا ولا تخمدْ أشواقُكم أبدًا، فالموسيقى الإلهية العظيمة التي تجعل بنغماتها الكونَ في رقصٍ وانتشاء، وتهز بأشجانها أسرارَ الحقائق، لم تسكن أبدًا ولم تهدأ… بل تستمر قوية عالية هادرة.

إن مَلِك الملوك وسلطانَ السلاطين ملك الأزل وسلطان الأبد ينادي بقرآنه الكريم الذي هو موسيقاه الإلهية، مالئًا الكونَ كله صوتًا صداحًا هادرًا في قبة السماء فانعطفت النغمات المقدسة لذلك النداء السامي متموجة نحو أصداف رؤوس العلماء ومغارات قلوب الأولياء وكهوف أفواه الخطباء وانعكست أصديتها من ألسنتهم سيّالةً، سيارة منوّعة، مختلفة… هزّت الدنيا بشدة موجاتها، فطَبعتْ بتجسّمها كتبَ الإسلام كلها وصيّرتها كأنها وَترٌ من طنبور، وشريط من آلةِ قانون فأَعلن كلُّ وترٍ نوعًا من ذلك الصدى السماوي الروحاني… فمن لم يسمع -أو لم يستمع- بأُذُن قلبه ذلك الصدى الذي ملأ العالم ضياءً، أنّى له أن يصغيَ إلى طنين أمير الدولة ورجاله!

الحاصل: أن مَن يتوجس خيفة على دينه من انقلاب سياسي فليس له نصيب من الدين إلّا «الجهل» -الواهي كبيت العنكبوت- الذي يدفعه إلى الخوف، وليس له إلّا «التقليد» الذي يرميه في أحضان الاضطراب والارتباك… لأنه لما ظن -بالعجز وبفقدان الثقة بالنفس- أن سعادته ليسَ إلاّ في جيب الحكومة، تَصوَّر أن قلبه وعقله كذلك هما في كيس الحكومة. فلا جرم أن يملأه الخوف.

س: لا يقول بعضهم مثلما تقول، بل يقولون: لابد أن يجيء «السيد المهدي» لان الدنيا قد اضطربت وتشوشت لاكتهالها وهرمها، والإسلام قد اهتزّ كيانه بانتعاش المنافع الشخصية وتنفس الأغراض الدنيوية.

ج: لو استعجل السيد المهدي، وأتى، فعلى العين والرأس، فليأتِ حالًا، فقد آن أوانُه، فلقد تهيأ وتمهّد له وضعٌ ملائم حسن، فليس فاسدًا كما تظنون، فالأزهار اليانعة تزدهر في الربيع، ومن شأن الرحمة الإلهية لهذه الأمة أن يجد ذلُّها نهايتَه… ومع هذا فمن قال: ساءَ الزمان كليًا وفسد علينا، مُبديًا ميلًا إلى العهد السابق، فإنه يُسند -من حيث لا يشعر- سيئاتِ العهد السابق الناشئةَ من مخالفة الإسلام إلى الإسلام نفسه، كما هو ظن قسم من الأجانب.

س: مَن هم أولاء المشوِّشون على الأفكار ولا يقدرون «الحرية» و«المشروطية» حق قدرهما؟

ج: جمعية تشكلت برئاسة «الجهل آغا» و«العناد أفندي»، و«الغرض بك»، و «الانتقام باشا» و«التقليد حضرتلرى» و«مسيو الثرثرة»، وهي جمعية من الناس تُشوِّه «الشورى» التي هي منبع سعادتنا وتُكدِّرها… فالمنتسبون إليها -في البشرية- هم الذين لا يضحون بدرهم واحد من حسابهم أعظمَ مصلحة من مصالح الأمة ومنافعها… والذين يرون نفعَهم في إضرار الناس، وبدانتَهم في هزال الآخرين… والذين يفسّرون الأمور دون محاكمة عقلية عـادلة فيطلقون المعاني جزافًا… فبينما تـرى أحدهم لا يكبح جماح نفسه للثأر ولا يضحي بغرضه الشخصي، إذا به يدّعي بغرورٍ استعدادَه لفِداء روحه للأمة… وهم أولاء الذين يحملون أفكارًا غير معقولة أمثالَ تكوين الإمارات (البكلك) أو الحكم الذاتي (المختارية) -التي هي مقدمة طوائف الملوك-، أو الجمهورية بمفهوم الاستبداد المطلق… وهـم أولاء الذين تعرضوا للظلم فامتلأت قلوبُهم غيظًا ورغبة في الثأر حتى لم يستطيعوا أن يهضموا العفو العام والأمن العام وهما من أُولى حسنات «الحرية» و«المشروطية»، فيثيرون الآخرين للإخلال بالأمن ويهيّجونهم للقيام بالاضطرابات كي يتشَفَّوا بإنزال العقوبة بهم، وتأديبهم.

س: لِمَ تفنّد جميعهم وتعدّهم فاسدين، مع أنهم يَبدون ناصحين لنا؟

ج: أروني مفسدًا يقول: أنا مفسد، وما هو إلّا مفسد إلا أنه يتراءى في صورة الحق، أو يرى الباطل حقًا. نعم، ما من أحد يقول: مخيضي حامض..فلا تأخذوا شيئًا إلّا بعد إمراره على المحك، لأن أقوالًا مغشوشة مزيّفة قد كثرت في تجارة الأفكار..حتى كلامي أنا لا تأخذوه على علّاته -بحسن ظنكم- لأنه صادر عني؛ فقد أكون مفسدًا، أو أُفسد من حيث لا أشعر، فعلى هذا تيقظوا! ولا تفتحوا الطريق إلى القلب لكل طارِق. فليظل ما أقوله لكم في يد خيالكم، واعرِضوه على المحك، فإن ظهر أنه ذَهَبٌ فأرسلوه إلى القلب، واحتفِظوه هناك، وإن ظهر أنه نحاس، فاحملوا على عاتق ذلك الكلام المنحوس كثيرًا من الغيبة وشيِّعوه بسوء الدعاء عليّ ورُدُّوه خائبًا إليّ.

س: لِمَ تسئ الظن بحُسن ظننا؟ فالسلاطين والحكومات السابقة ما استطاعوا أن يصرفوك عن الحق ولم يستطع كذلك أعضاءُ «جون تورك» أن يكسبوك إلى صفوفهم، فلمْ تداهنهم، حتى ألقوك في السجن وكادوا يصلبوك، فما رضختَ لهم ولا خنعت أمامهم بل برزتَ بطلًا شهمًا برفضك ما وعدوك من مرتّب ضخم… فأنت إذن بجانب الحق ولا تميل إلّا إليه، ولا تقول ما تقول انحيازًا إليهم.

ج: نعم، إن الذي عرف الحق، لا يستبدله بشيء، لأن شأن الحق رفيع وَسَامٍ، ما ينبغي أن يُضحّى به لأجل أي شيء كان، ولكني لا أقبل حسن ظنكم هذا، لأنكم قد تحسنون الظن بالمفسد أو المحتال. انظروا إلى دليل فكره ونتيجته.

س: كيف نعرف ذلك؟ ونحن جاهلون، نقلّد العلماء أمثالكم؟

ج: إن لم تكونوا من أهل العلم، فإنكم من أهل العقل. بدليل أنني لو تقاسمتُ الزبيبَ مع أحدكم فقد يغبنني بذكائه! فجهلُكم إذن ليس عذرًا… اعلموا أن الأشجار المتشابهة تُميِزها ثمراتُها، لذا تَبَصَّروا في ثمرات أفكاري ونتاجِ أفكارهم، فقد تلألأت في أحدهما السلامة والطاعة، وتَسَتَّر في الآخر الاختلافُ والفساد. سأضرب لكم مثالًا آخر:

تصوّروا نارًا منيرة تتراءى في هذه الصحراء، فأنا أبشركم بأنها نورٌ وليست نارًا، وحتى إن كانت فيها نار فليس إلّا طبقة عليا منها ضعيفة موروثة… فتعالوا إذن لنحط بها ونتحلق حولها ونتفرج عليها ونستضئ بها ونقتبس منها حتى تتلاشى طبقة النار ولنستفد منها. فإن كانت نورًا -كما قلت- فبه، فقد استفدنا، وإن كانت نارًا -كما قالوا- ما ضرّتنا، إذ لم نقتحمها. أما هم فيقولون: «أن النار محرقة» فإن كان نورًا أعمى قلوبَهم وأبصارهم، لأن النور -الذي يظنونه نارًا- هو نور السعادة،([2]) فأينما أشرق لم يُطفأ ولو بصبّ أُلوف القِرَب من دماء ملايين الناس، بل حاول بعض من فينا إطفاءه بضع مرات منذ سنتين إلّا أنهم خابوا.

س: أنت قلت: إنه ليس بنار، ولكن كلامك يشير إلى ناريته..؟!

ج: نعم، النور نار للأشرار.

س: ما تقول لأهل الفضيلة من تلك الزمرة وهم أخيار…؟

ج: هناك كثير من الأخيار يسيئون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا.

س: كيف يَرِد الشرُ من الخير؟.

ج: طلب المحال حماقة ووبال على صاحبه، لأن من كانت بغيته حكومة بريئة معصومة فطلبه محال اعتيادي، إذ لماّ لم يكن الشخص الواحد الآن معصومًا فكيف بالشخص المعنوي (الحكومة) الذي كلُّ ذرة من ذراته مذنبة؟ فمدار النظر إذن هو في ترجُّح حسنات الحكومة على سيئاتها كمًّا أو نوعًا. وأنا أنظر إلى هؤلاء وأعدّهم فوضويين، لأنه لو عاش أحدهم -لا سامح الله- ألف سنة، ورأى الصور الممكنة للحكومات، لما ارتضى كذلك بإحداها، لما في خياله وحلمه من تصّور للحكومة المعصومة، فيولد فيه هذا الحلمُ ميلَ التخريب فيمزق تلك الصور الممكنة.

لذا حتى الفاسدون -في نظرهم- من أعضاء «جون تورك» يعدّونهم زمرة ملعونة فوضوية مشاغبة، فمسلكهم ليس إلّا الإخلالَ بالأمن والإفسادَ.

س: فلمَ لا يجوز أن تكون ضالّتهم العهدَ السابق؟.

ج: إني أبعث إلى سماعكم قانونًا قصير القامة طويل الهمّة، يمكنكم حفظه، فشاوِروه، وهو: «أن تلك الحال محال، فإما هذه الحال وإما الاضمحلال» فالحكومة مسلمة، والأمة التي تحكمها مسلمة، وأس أساس سياستها أيضًا هو الدستور الآتي: أن دين الدولة الإسلام… فوظيفتنا إذن الحفاظ على هذا الأساس ووقايته، لأنه جوهر حياة أمتنا.

س: أتستمر الحكومة في خدمة الإسلام وتقوية الدين بعد الآن؟.

ج: بخ بخٍ وبكل سرور، نعم، فإن هدف الحكومة وإن كان مستترًا وبعيدا -باستثناء بعض الملحدين الجهلة- هو حماية سلسلة الإسلام النورانية وتقوية رابطته التي تجعل ثلاثمئة مليون مسلم -بسرّ الأخوّة الإيمانية- كيانًا واحدًا، إذ إنها هي وحدها «نقطة الاستناد» وهي وحدها «نقطة الاستمداد»… إن قطرات المطر ولمعات النور كلما بقيت متفرقة وظلّت متناثرة، جفّت بسرعة وانطفأت حالًا. فينادينا رب العزة سبحانه قائلًا: ﴿وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران:103) ﴿لَا تَقْنَطُوا (الزمر:53) ليحول بيننا وبين الانطفاء والزوال..

نعم، إن نغماتِ ﴿لَا تَقْنَطُوا وأصداءها تتجاوب من ست جهات: الضرورة، والانجذاب، والتمايل، والتجارب، والتجاوب، والتواتر… تجمع تلك القطرات واللمعات في مصافحة وعناق، وتطوي ما بينها من المسافة مولِّدةً حوضًا من ماء يَبعث على الحياة وضياءً منورًا ينير العالم أجمع. ذلك لأن الدين جمال الكمال، وضياء السعادة، ونمو المشاعر، وسلامة الوجدان.([3])

س: الآن نستفسر عن الحرية، فما هذه الحرية التي تتجاذبها التأويلات وتتراءى فيها الرؤى العجيبة الغريبة؟!.

ج: إن من عاش مع طيفها منذ عشرين سنة حتى تعقبها في الرؤى وترك كل شيء لحبّها يستطيع الإجابة عنها فهو الخبير بوصفها.

س: لقد فسّروا لنا «الحرية» تفسيرًا خاطئًا سيئًا، وكأن الإنسان مهما فعل -في كنف الحرية- من سفاهات ورذائل وفضائح لا يؤاخَذ عليها مادام لم يضرّ بها الناس… هكذا أفهمونا الحرية، أهي كذلك؟!.

ج: إن الذين فسّروها هكذا، ما أعلنوا إلّا عن سفاهاتهم ورذائلهم على رؤوس الأشهاد، فهم يهذرون متذرعين بحجج واهية كالصبيان، لأن الحرية الحسناء ما هي إلّا تلك المتأدبة بآداب الشريعة والمتزينة بفضائلها، وليست تلك التي في السفاهة والرذائل. بل تلك حيوانية وبهيمية وتسلط شيطاني، ووقوع في أسر النفس الأمارة بالسوء.

إن الحرية العامة هي المحصّلة الناتجة من حريات الأفراد، ومن شأن الحرية عدم الإضرار سواء بالنفس أو بالآخرين.

[على أن كمال الحرية، أن لا يَتَفَرْعَنَ، وأن لا يستهزئ بحرية غيره، إن المرادَ حقٌ لكن المجاهدة ليست في سبيلها]([4])

س: كم رأينا من لا يفسّر الحرية كما تفسّرها أنت، مع أن أفعال أعضاء من «جون تورك» تخالفك في التفسير ويناقض قولهم قولك، إذ إن بعضهم يفطرون في رمضان ويشربون الخمر ويتركون الصلاة…

فهيهات أن يصدُق مع الأمة من خانَ الله ولم يصدق في امتثال أمره تعالى؟

ج: أجل، نعم، لكم الحق… ولكن الحمية شيء والعمل شيء آخر، وعندي أن القلب أو الوجدان الذي لم يتزيّن بالفضائل الإسلامية لا تُرجى منهُ الحمية الحقة والوفاء الصادق والعدالة الخالصة. ولكن لأن الصنعة غير الفضيلة، فقد يقوم الفاسق برعي الأغنام رعيًا جيدًا، وقد يصلّح شارب الخمر ساعةً بإتقان حين لا يكون سكرانَ، ولكن وا أسفى على ندرة الذين جمعوا النورَين معًا: نور القلب ونور الفكر، أو بعبارة أخرى الفضيلة والصنعة، فهم نادرون لا يكفون لملء الوظائف، فإذن إما الصلاح وإما المهارة… وإذا تعارضا فالمهارة مرجحة في الصنعة.

واعلموا كذلك أن السفهاء التاركين للصلاة، ليسوا بـ«جون تورك» بل هم «شَين الترك» أي فاسدون، فهم روافض «جون تورك» مثلما أن لكل شيء روافضه، فروافض «الحرية» هم السفهاء.

أيها الأتراك والأكراد! أنـصفوا… هل يُرفَض الحديث الشريف ويُنكَر إذا أوّلَه الرافضي تأويلًا فاسدًا أو عمل بخلافه، أم يُخَطَّأ الرافضي حفاظًا على منزلة الحديث الشريف وكرامته؟.

ألاَ إن الحرية هي: أن يكون المرء مُطلقَ العنانِ في حركاته المشروعة، مصونًا من التعرض له، محفوظَ الحقوق، ولا يتحكم بعضٌ في بعض، ليتجلى فيه نهي الآية الكريمة: ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا اَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّٰهِ (آل عمران:64) ولا يتأمّر عليه غير قانون العدالة والتأدب، لئلا يُفسِد حرية إخوانه.

س([5]): فما لنا إذن نحن معاشر البدو، نحن أحرار منذ القدم، فقد ولدتْ حريتُنا توأمًا معنا، فليفرح بها الآخرون من غيرنا، فالأمر لا يهمّنا.

ج: نعم، إن حب تلك الحرية والشغف بها هي التي جعلتكم تتحملون مشقات البداوة التي لا تطاق، وإن سلوككم المفعم بالقناعة هو الذي أغناكم عن محاسن المدنيّة البرّاقة، فزهِدتم فيها. ولكن أيها البدو! إن ما لديكم من الحرية هو نصفها، والنصف الآخر هو عدم المساس بحرية الآخرين. ثم إن الحرية الممزوجة بالبداوة وبالعيش الكفاف، توجد منها أيضًا في حيوانات الجبال والبراري القريبة منكم. وفي الواقع لو كانت هناك لذة وسلوان لهذه الحيوانات فهي في حريتها تلك…

ولكن أين أنتم من تلك الحرية الإنسانية الساطعة كالشمس وهي معشوقةُ كلِّ روح، وصنو جوهر الإنسانية، وما هي إلّا التي تربّعت على قصرِ سعادةِ المدنية وتزيّنت بحلل المعرفة وحُليّ الفضيلة والتربية الإسلامية.

س: لقد قيل في حق هذه الحرية التي تثني عليها:

[حُرّيّةٌ حَرِيّةٌ بالنار، لأنها تختص بالكفار] فما تقول في هذا القول؟

ج: إن ذلك المسكين الشاعر قد ظن الحرية مسلك البلشفية ومذهب الإباحية. كلّا، بل الحرية بالنسبة للإنسان تولّد العبودية لله سبحانه، وقد رأيت كثيرين يهاجمون على «السلطان عبد الحميد» أكثر من هجومهم على «الأحرار».. وكانوا يقولون: إنه على خطأ لقبوله «الحرية» و«القانون الأساس»([6]) قبل ثلاثين سنة» هكذا! فما ظنكم بقولِ قائل حَسِبَ الاستبداد الذي اضطر إليه السلطان عبد الحميد حريةً، وارتعد من القانون الأساس الذي هو اسم دون مسمّى! فما قيمة قوله يا تُرى؟ هذا ولقد قال مجاهدٌ خدمَ الإسلام عشرين سنة: [حريةٌ عطيةُ الرحمن، إذ إنها خاصية الإيمان].([7])


[1] فلقد أحسّ برسائل النور حتى أجاب عن السؤال بثلاث صفحات. ولكن حُجُب السياسة صبغَتْه بلون آخر. (المؤلف).

[2] وهنا أيضًا قد أحسّ برسائل النور، ولكنه نظر إليها من تحت ستار السياسة فتبدل شكل الحقيقة (المؤلف).

[3] مهلًا، لها إشارات أشبه ما تكون بالشفرات. (المؤلف).

[4] لا تستعجل… الجملة تعني أن صاحب جريدة «الميزان» «مراد» هو محق ورئيس تحرير جريدة «طنين» «حسين جاهد» على خطأ. (المؤلف).

[5] هذا سؤال البدو الرحل الساكنين في الخيم السوداء. (المؤلف).

[6] أي الدستور بالتعبير الشائع حاليًا والذي يعيّن صلاحية الحاكم والحكومة والبرلمان، ويحدد الخطوط الرئيسية لسياسة الدولة وقوانينها.

[7] تعريف جميل. (المؤلف).

مقدمة المترجم

المناظرات

وصفة طبية

لقارة شاسعة عظيمة الجانب… رديئة الطالع

ولدولة مشهورة عريقة المجد… سيئة الحظ

ولأمة عزيزة جليلة القدر… بلا رائد


مقدمة المترجم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.

وبعد: فقد أعلن السلطان عبد الحميد الثاني «المشروطيةَ» في 23/تموز/1908م، وهي تعنى تأسيس النظام البرلماني في الدولة العثمانية التي أصبحت بموجبها الوزارة مسؤولة تجاه البرلمان وليس تجاه السلطان، كما أن صلاحية تشريع القوانين غدت من اختصاص البرلمان، وأطلقت على أثرها حرية العمل السياسي وحرية الصحافة وغيرها..

كانت وجهات نظر الناس عامة والمثقفين خاصة متباينة حول «المشروطية»، إذ بدأت الفئـات المختلفة تفسّر «الحرية» بالشكل الذي يروق لها، فبينما اندفعت فئة في تأييد المشروطية ومناصرتها بشدةٍ بغيةَ جرّها لأغراض سياسية واجتماعية وصـولًا إلى مآربهم في تقويض الدولة العثمانية، إذا بآخريـن يتوجسون خيفةً من هذا الانقلاب الـذي حـدث في نـظـام الدولة، وفي الـوقـت نفسـه وقـف آخـرون مبهوتـيـن لا يـتـقدمـون خطوة ولا يتـأخرون، بينما صفق لها غيرهم من المفتونين بحضارة أوروبا المبهورين ببريقها.. وهكذا اختلفت الآراء..

أما بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ فقد سلك مسلك الاعتدال، مسترشدًا بالنهج الإسلامي السالم من التعصب الذميم الذي يعيق كل تجدد، والمبرأِ عن اللهاث وراء الغرب وتقليده تقليدًا أعمى. فناصر مفهوم «الحرية» و«الشورى» ضمن ما هو واضح في الإسلام، ودافع عن «المشروطية» المحددة بحدود الشرع، فكتب مقالات عديدة في الصحف المحلية آنذاك، وألقى كثيرًا من الخطب في الاجتماعات التي عقدت في الميادين العامة والجوامع، مبيِّنًا مفهوم الحرية والشورى في ضوء الإسلام، ومحذِّرًا من التعصب المقيت والتقليد المشين، إذ شعر بمحاولات خبيثة تعمل في الخفاء لاستغلال «المشروطية» وتوجيهها لمصلحةِ مغرضين مناهضين للإسلام. وحينما كان يبذل وسعه في هذا الميدان لم ينسَ السياسيين والمفكرين والصحفيين، فأجرى معهم لقاءات عديدة ناصحًا ومرشدًا وموضحًا المنهجَ الإسلامي الصحيح الذي فيه خير البلاد وصلاح العباد. ولما أدرك أنه أفرغ جهده في مركز الخلافة (إسطنبول) توجّه إلى شرقي الأناضول سنة 1910م وبدأ بجولة واسعة بين مختلف العشائر الكردية والتركية، وعقد معهم اجتماعات وندوات يُجري فيها مناقشات حول أمور اجتماعية وسياسية، وبين لهم صلاحية «المشروطية» بالمفهوم الإسلامي. واختار معهم أسلوب الحوار السهل المستساغ والقريب إلى الأذهان، على الرغم من أنه قد أَورد جملًا أشبه ما يكون بالشفرات، ولفّع قِسمًا من العبارات بالتشبيهات والمجازات، ووجّه الخطاب أحيانًا إلى الأجيال المقبلة.

كان جلّ اهتمامه منصبًا في تحطيم قيود اليأس وكسرِ أغلال القنوط التي كبّلت الناس، وكان يحاول جهده أن يُشعل بصيص الأمل وبريق الرجاء في نفوسهم. فضلًا عن وضعه لهم موازين شرعية ومنطقية لوزن الأحداث المستحدثة، بعقلية متوازنة إيمانية هادئة، بعيدة قدر الإمكان عن الانفعالات وردود الفعل.

دوّن الأستاذ النُّورْسِيّ هذه المحاورات بالتركية في رسالة طبعها في مطبعة «أبو الضياء» بإسطنبول سنة 1913م، ونَشَرها تحت اسم «بديع الزمانك مناظراتي» (مناظرات بديع الزمان) ثم ترجمها إلى العربية بنفسه ونشرها تحت عنوان «رجتة العوام» أي الوصفة الطبية للعوام. وجاءت هذه الترجمة مبهمة مغلقة العبارات، فاضطر الأستاذ أن يكتب في مقدمتها «معذرة طويلة الأذيال» جاء فيها قوله:

«إن هذه الرسالة العربية ترجمتُها من التركية، التي ترجمتها من الكردية، التي ارتجلتها لأسئلة الأكراد القرويين. فالمترجَم من المترجَم من المرتجل، من أمي (يقصد نفسه) لقرويين، لا يتملّس ولا يخلص من خشونة في المعنى واللفظ».

ولم تتح للأستاذ النُّورْسِيّ أن يعيد النظر في رسالته هذه إلّا بعد خمس وأربعين سنة من تأليفه لها، إذ عصَفتْ أعاصير مدمرة بالأمة الإسلامية عامة والتركية خاصة بعد دخول الدولة العثمانية الحربَ العالمية الأولى ودخولِ الأجانب في البلاد ثم الحروبِ الدامية في طردهم منها، حتى انتهى الأمر إلى إعلان الجمهورية وإلغاء الخلافة، وأعقب ذلك عداءٌ سافرٌ للدين، دام طوال ربع قرن من الزمان بل أكثر. وعانى الأستاذ النُّورْسِيّ في تلك الأيام الحالكة أشد الظلم والعنت، إذ ما كان يَحِل في منفى الّا ويُنفى إلى غيره، ولا يبرَّأ من محكمة إلّا ويدخل أخرى، وهكذا إلى ما بعد سنة 1950م حيث تمكن من إعادة النظر في الرسالة، فشذبها وعلّق عليها بهوامش وحذف ما يقرب من ثلثها من بداية الرسالة وما كان قاصرًا على فترة معينة، أو ما يمكن أن يُساء فهمه. وعندما أُريد نشرُها في سنة 1959 أعاد المؤلف فيها النظر بدقة وأجرى بعض التنقيحات والتعديلات من حذف وإضافة، ونحن بدورنا قمنا بترجمة هذه الطبعة المنقحة.

هذا وقد كتب الأستاذ النُّورْسِيّ إلى طلابه رسالة خاصة بعثها لهم من منفاه «قسطموني» يبين فيها رأيه في مؤلفاتِ «سعيد القديم» عامة وفي هذه الرسالة خاصة، ثم أعقبها برسالة أخرى بعثها لهم من منفاه «أميرداغ». كلتا الرسالتين ذات أهمية في فهم مضامينِ مؤلفات سعيد القديم، وقد ألحقنا رسالة قسطموني بهذه المقدمة ونحيل القارئ الكريم إلى «الملاحق» للاطلاع على الرسالة الأخرى قبل مطالعته مؤلفاتِ سعيد القديم الاجتماعية.

أما عملي في الترجمة والتحقيق، فقد اقتصر على الخطوات الآتية:

1- اعتبار النص التركي الموسوم بـ«Münazarat» المطبوع بدار سوزلر بإسطنبول طبعات عديدة جدًا والذي أقره المؤلف نفسه هو الأساس.

2- مقابلة هذا النص بالطبعة الأولى من الرسالة المطبوعة في سنة 1913م في مطبعة «أبو الضياء» بإسطنبول.

3- مقابلته أيضًا بالترجمة العربية التي قام بها المؤلف نفسه، وهي المنشورة ضمن كتاب «الصيقل الإسلامي» المطبوع بمطبعة النور بأنقرة سنة 1958م.

4- مقابلته أيضًا بنسخة الترجمة العربية المحفوظة في المكتبة الوطنية بإزمير تحت رقم 2262/288/20 دون ذكر اسم المطبعة وسنة الطبع.

5- الاحتفاظ بالعبارات والفقرات العربية الواردة في النص التركي كما هي ووضعها بين قوسين مركنين [ ]. فكل ما بين هذين القوسين هو من عبارات المؤلف نفسه.

6- كتابة هوامشَ لشرحِ ما كان معروفًا آنذاك ويحتاج إليه القارئ اليوم، سواء من الأحداث التاريخية أو مواقع جغرافية أو تعابير سياسية.

7- ثم عزوت الآيات الكريمة التي فيها إلى مواضعها من السور، وكذا خرّجت الأحاديث الشريفة من مظانها من أمهات كتب الحديث الموثوقة.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل. وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

إحسان قاسم الصالحي

* * *

 

رأي المؤلف في مؤلفاته القديمة

نص الرسالة التي بعثها الأستاذ النُّورْسِيّ لطلابه من منفاه (قسطموني) يبيّن فيها رأيه في الأسباب الموجبة لتنقيحه «المناظرات» وعدوله عن شيء مما ذكره فيها من آراء:

لقد ألقيتُ نظرة إلى رسالة «المناظرات»، وذلك بعد مرور خمس وثلاثين سنة على تأليفها فرأيت فيها وفي أمثالها من مؤلفات «سعيد القديم» أخطاءً وهفوات؛ إذ ألّف تلك الآثار في حالة روحية ولّدها الانقلاب السياسي([1]) وأنشأتها مؤثرات خارجية وعوامل محيطة به.

إنني أستغفر الله بكل حولي وقوتي من تلك التقصيرات راجيًا من رحمته تعالى أن يغفر تلك الخطايا التي ارتكبتها بنية حسنة وبقصد جميل، لدفع اليأس المخيِّم على المؤمنين.

إن أساسين مهمين يهيمنان على آثار «سعيد القديم» -كهذه الرسالة -، والأساسان ذوا حقيقة، ولكن كما تحتاج كشفيات الأولياء إلى تأويل، والرؤى الصادقة إلى تعبير، فإن ما أَحس به «سعيد القديم» بإحساس مسبق (أي قبل وقوع الأمر) بحاجة كذلك إلى تعبير، بل إلى تعبير دقيق، إلّا أن إخباره عما تَوقع حدوثه وبيانه تَلكما الحقيقتين بلا تأويل ولا تعبير، أدّى إلى ظهور شيء من النقص والقصور وخلاف الواقع فيما أخبر عنه.

الأساس الأول: هو ما زفّه من بشرى سارة للمؤمنين بظهور نورٍ في المستقبل، زَفّ هذه البشرى ليزيل بها يأسهم ويرفع عنهم القنوط، فلقد أحسّ بإحساس مسبق أن «رسائل النور» ستنقذ إيمانَ كثير من المؤمنين، وستشد أزرهم في زمان عصيب عاصف. إلّا أنه نظر إلى هذا النور، من خلال الأحداث السياسية التي واكبت الانقلاب وحاول تطبيق ما رآه من نور على واقع الحال من دون تعبير ولا تأويل، فوقع في ظنه أن ذلك النور سيظهر في عالَم السياسة وفي مجال القوة وفي ميدان فسيح… فقد أحسّ إحساسًا صادقًا إلّا أنه لم يوفّق في التعبير عن بُشراه توفيقًا كاملًا.

 الأساس الثاني: لقد أحس «سعيد القديم» ما أحسّ به عدد من دهاة السياسة وفطاحل الأدباء؛ بأن استبدادًا مريعًا مقبلٌ على الأمة، فتصدوا له، ولكن هذا الإحساس المسبَق كان بحاجة إلى تأويل وتعبير، إذ هاجموا ما رأوه من ظل ضعيف([2]) لاستبدادات تأتي بعد مدة مديدة وألقت في نفوسهم الرعب، فحسبوا ظل استبدادٍ -ليس له إلّا الاسم- استبدادًا أصيلًا، فهاجموه. فالغاية صحيحة إلّا أن الهدف خطأ.

وهكذا فلقد أحسّ «سعيد القديم» أيضًا بمثل هذا الاستبداد المخيف فيما مضى. وفي بعض آثاره توضيحات بالهجوم عليه، وكان يرى أن المشروطية الشرعية وسيلة نجاةٍ من تلك الاستبدادات المرعبة. لذا سعى في تأييدها بالحرية الشرعية والشورى ضمن نطاق أحكام القرآن، آملًا أن تَدفعا تلك المصيبة.

نعم، لقد أظهر الزمان أن دولة تسمى داعية الحرية، قد كبّلت بثلاثمائة من موظفيها المستبدين ثلاثمائة مليون من الهنود، منذ ثلاثمائة سنة، وسيطرت عليهم كأنهم ثلاثمائة رجل لا غير، حتى لم تتركهم يحركون ساكنًا، ونفذت قانونها الجائر عليهم بأقسى صورة من صور الظلم، آخذةً آلاف الأبرياء بجريرةِ مجرم واحد. وأعطت لقانونها الجائر هذا اسم العدالة والانضباط. فخدعت العالمَ ودفعته إلى نار الظلم. هذه الدولة غدت مقتدَى ذلك الاستبدادِ القادم في المستقبل.

وفي رسالة «المناظرات» هوامش قصيرة، وملاحظات وردت على صورةِ طُرف ولطائفَ، فهي من قبيل الملاطفة مع قسم من طلابه الظرفاء في تأليفه القديم ذاك، إذ قد وضّح لهم الأمور بأسلوب الدرس والإرشاد.

ثم إن زبدة هذه الرسالة (المناظرات) وروحَها وأساسها، هي ما في خاتمتها من حقيقةِ إقامة «مدرسة الزهراء»، وما هي إلّا المهد الذي سيشهد ظهور «رسائل النور» في المستقبل. فكان يُساق إلى تأسيسها دون إرادة منه، ويتحرى -بحس مسبق- عن تلك الحقيقة النورانية في صورة مادية حتى بدت جهتُها المادية أيضًا، إذ مَنح السلطان رشاد تسع عشرة ألف ليرة ذهبية لتأسيس تلك المدرسة، وأرسيت قواعدها فعلًا، إلّا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى حال دون إكمال المشروع.

ثم بعد حوالي ست سنوات ذهبتُ إلى أنقرة، وسعيت في إنجاز تلك الحقيقة، وفعلًا وافق مائة وثلاثة وستون نائبًا في مجلس الأمة من بين مائتي عضو على تخصيص خمسة عشر ألف ليرة ورقية لبناء مدرستنا، ولكن يا للأسف -ألف ألف مرة- سُدَّت جميع المدارس الدينية، ولم أستطع أن أنسجم معهم فتأخر المشروع أيضًا.

بيد أن المولى القدير أسس برحمته الواسعة الخصائصَ المعنوية لتلك المدرسة وهويتها في «إسبارطة» فأظهر «رسائل النور» للوجود. وسيوفق -إن شاء الله- طلابُ النور إلى تأسيس الجهة المادية لتلك الحقيقة أيضًا.

إن سعيدًا القديم على الرغم من معارضته الشديدة لمنظمة «الاتحاد والترقي»([3]) فإنه مال إلى حكومتها ولاسيما إلى الجيش، حيث وقف منهم موقفَ تقديرٍ وإعجاب والتزام وطاعة. وما ذاك إلّا بما كان يحس به من إحساس مسبق من أن تلك الجماعات العسكرية والجمعية الملية سيظهر منهم بعد سبع سنوات مليون من الشهداء الذين هم بمرتبة الأولياء. فمال إليهم طوال أربع سنوات دون اختيار منه، وبما يخالف مشربه. ولكن بحلول الحرب العالمية وخضّها لهم أُفرز الدهن المبارك من اللبن، فتحول إلى مخيض لا قيمة له. فعاد «سعيد الجديد» إلى الاستمرار في جهاده وخالف سعيدًا القديم.

* * *


[1] المقصود إعلان المشروطية.

[2] المقصود: أن الاستبداد الذي كان يمارَس في عهد السلطان عبد الحميد يعدّ ظلًا ضعيفًا للاستبدادات التي حصلت بعد عهده وبعد سقوط الخلافة.

[3] جمعية الاتحاد والترقي: وهي جمعية تشكلت سنة 1888م، كان شعارها «الاتحاد، المساواة، والأخوة» نادت بعزل السلطان عبد الحميد وإقامة حياة برلمانية في البلاد. اتصل بعض أعضائها بالمحافل الماسونية وبالدول الأجنبية، ونجحت أخيرًا في عزل السلطان. وعندما وصلت إلى الحكم أسست حكمًا دكتاتوريًا قاسيًا، ثم ورطت الدولة العثمانية في أتون الحرب العالمية الأولى (بجانب ألمانيا) وبعد أن تمزقت أوصال الدولة العثمانية هرب زعماؤها إلى الخارج.

حوار في رؤيا

حوار في رؤيا

«المعنى وكذا الألفاظ التي ظلت في الخاطر هي نفسها كما جاءت في الرؤيا»

كنت في أيلولِ سنة 1919 أتقلب في اضطراب شديد، من جراء اليأس البالغ الذي ولّدته حوادث الدهر؛ كنت أبحث عن نور بين هذه الظلمات المتكاثفة القاتمة.. لم أستطع أن أجده في يقظة هي رؤيا في منام. بل وجدته في رؤيَا صادقةٍ هي يقظةٌ في الحقيقة.

سأسجل هنا تلك النقاط التي استُنطقتُها وأُجريتْ على لساني من كلام، دون الخوض في التفاصيل. وهي كالآتي:

دخلتُ عالَم المثال في ليلة من ليالي الجمعة. جاءني أحدهم وقال:

يدعوك مجلس موقر مهيب منعقد لبحث مصير العالم الإسلامي، وما آلت إليه حاله.

فذهبتُ، ورأيت مجلسًا منورًا قد حضره السلف الصالحون، وممثلون من العصور؛ من كل عصر ممثل.. لم أر مثيلهم في الدنيا.. فتهيبت، ووقفت في الباب تأدبًا وإجلالًا.

قال أحدهم موجهًا كلامه لي:

يا رجل القدر!.. ويا رجل عصر النكبة والفتنة والهلاك!.. بيّن رأيك في هذا الموضوع. فإن لك رأيًا فيه.

قلت وأنا واقف: سلوني أُجبْ!

قال أحدهم: ماذا ترى في عاقبة هذه الهزيمة التي آلت إليها الدولة العثمانية، وماذا كنتَ تتوقع أن يؤول إليه أمر الدولة العثمانية لو قُدِّر لها الانتصار؟.

قلت: إن المصيبة ليست شرًا محضًا؛ فقد تنشأ السعادة من النكبة والبلاءِ، مثلما قد تفضي السعادة إلى بلاء.. فهذه الدولة الإسلامية التي أخذت على عاتقها -سابقًا- القيامَ بفريضة الجهاد -فرضًا كفائيًا- حفاظًا على العالم الإسلامي وهو كالجسد الواحد، ووضعت نفسها موضع التضحية والفداء لأجله، وحَملت راية الخلافة إعلاءً لكلمة الله وذودًا عن استقلال العالم الإسلامي.. ستعوِّض عما أصابها من مصيبة وستزيلها السعادةُ التي سوف يرفل بها عالم الإسلام؛ إذ عجّلتْ هذه المصيبةُ بعثَ الأُخُوّة الإسلامية ونماءَها في أرجاء العالم الإسلامي، تلك الأخوة التي هي جوهر حياتنا وروحنا. حتى إننا عندما كنا نتألم كان العالم الإسلامي يبكي، فلو أَوغلت أوروبا في إيلامنا لصرخ العالم الإسلامي… فلو متنا فسوف يموت عشرون مليونًا -من العثمانيين الأتراك- ولكن نُبعث ثلاثمائة (أي ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين).

نحن نعيش في عصر الخوارق؛ فبعد مضيّ سنتين أو ثلاث على موتنا سنُرى أحياءً يبعثون.

لقد فَقدنا بهذه الهزيمة سعادة عاجلة زائلة، ولكن تنتظرنا سعادة آجلة دائمة، فالذي يستبدل مستقبلًا زاهرًا فسيحًا بحال حاضرٍ جزئي متغير محدود، لاشك أنه رابح..

وإذا بصوت من المجلس: «بيّن! وَضِّحْ ما تقول!»

قلت: حروب الدول والأمم قد تخلت عن مواضعها لحروب الطبقات البشرية. والإنسانُ مثلما يرفض أن يكون أسيرًا لا يرضى أن يكون أجيرًا أيضًا.

فلو كنا منتصرين غالبين، لكنا ننجذب إلى ما لدى أعدائنا من الاستعمار والتسلط، وربما كنا نغلو في ذلك. علمًا أن ذلك التيار -التيار الاستعماري الاستبدادي- تيار ظالم ومنافٍ لطبيعة العالم الإسلامي، ومباين لمصالح الأكثرية المطلقة من أهل الإيمان، فضلًا عن أن عمره قصير، ومعرَّض للتمزق والتلاشي. ولو كنا متمسكين بذلك التيار لكنا نسوق العالم الإسلامي إلى ما ينافي طبيعته الفطرية.

فهذه المدنية الخبيثة التي لم نرَ منها غير الضرر، وهي المرفوضة في نظر الشريعة، وقد طغت سيئاتُها على حسناتها، تحكم عليها مصلحةُ الإنسان بالنسخ، وتقضي عليها يقظةُ الإنسان وصحوتُه بالانقراض.

فلو كنا منتصرين لكنا نتعهد حماية هذه المدنية السفيهة المتمردة الغدارة المتوحشة، معنىً، في أرجاء آسيا.

قال أحدهم من المجلس: لِمَ ترفض الشريعةُ هذه المدنية؟([1])

قلت: لأنها تأسست على خمسة أسس سلبية:

فنقطة استنادها هي: القوة، وهذه شأنها الاعتداء.

وهدفها وقصدها: المنفعة، وهذه شأنها التزاحم.

ودستورها في الحياة: الجدال والصراع، وهذا شأنه التنازع.

والرابطة التي تربط المجموعات البشرية هي: العنصرية والقومية السلبية التي تنمو على حساب الآخرين. وهذه شأنها التصادم، كما نراه.

وخدمتها للبشرية خدمة فاتنة جذابة هي: تشجيع هوى المنفعة، وإثارة النفس الأمارة، وتطمين رغباتها وتسهيل مطاليبها. وهذا الهوى شأنه إسقاط الإنسان من درجة الملائكية إلى درك الحيوانية الكلبية. وبهذا تكون سببًا لمسخ الإنسان معنويًا.

فمعظم هؤلاء المدنيين لو انقلب باطنهم بظاهرهم لوجد الخيال تجاهه صور الذئاب والدببةِ والحيات والقردة والخنازير.

ولأجل هذا فقد دفعت هذه المدنية الحاضرة ثمانين بالمئة من البشرية إلى أحضان الشقاء، وأَخرجت عشرة بالمئة منها إلى سعادة مموهة زائفة، وظلت العشرة الباقية بين هؤلاء وأولئك، علمًا أن السعادة إنما تكون سعادة عندما تصبح عامة للكل أو للأكثرية؛ بيد أن سعادة هذه المدنية هي لأقل القليل من الناس.

لأجل كل هذا لا يَرضى القرآن الكريم بمدنية لا تَضْمَن سعادة الجميع أو لا تعم الغالبية العظمى.

ثم إنه بتحكم الهوى الطليق من عقاله، تحولتْ الحاجاتُ غير الضرورية إلى ما يشبه الضرورية، إذ بينما كان الإنسان محتاجًا إلى أربعة أشياء في حياة البداوة والبساطة إذا به في هذه المدنية يحتاج إلى مئة حاجة، وهكذا أردَته المدنية فقيرًا مدقعًا.

ثم، لأن السعي والعمل لا يكفيان لمواجهة المصاريف المتزايدة، انساق الإنسان إلى مزاولة الخداع والحيلة وأكلِ الحرام… وهكذا فسد أساس الأخلاق.

وبينما تعطي هذه المدنية الجماعةَ والنوعَ ثروةً وغنى وبهرجة إذا بها تجعل الفرد فقيرًا محتاجًا، فاسد الأخلاق.

ولقد قاءت هذه المدنية وحشيةً فاقت جميع القرون السابقة.

وإنه لجدير بالتأمل، استنكافُ العالم الإسلامي من هذه المدنية، وعدمُ تلهفه لها، وتحرجه من قبولها، لأن الهداية الإلهية في الشريعة الممتازة بخاصية الاستقلال والاستغناء عن الآخرين لا يمكن أن تطعَّم هذه الشريعة بالدهاء الروماني ولا أن تمتزج معها ولا يمكن أن تبلعها أو أن تتبعها.

إن دهاء الرومان واليونان -أي حضارتيهما- وهما التوأمان الناشئان من أصل واحد، قد حافظا على استقلالهما وخواصهما رغم مرور العصور وتبدل الأحوال ورغم المحاولات الجادة لمزجهما بالنصرانية أو إدماجها بهما، فلقد ظل كلٌ منهما كالماء والدهن لا يقبلان الامتزاج، بل إنهما يعيشان الآن بروحهما بأنماط متنوعة وأشكال مختلفة.

فلئن كان التوأمان -مع وجود عوامل المزج والدمج والأسباب الداعية له- لم يمتزجا طوال تلك الفترة، فكيف يمتزج نور الهداية الذي هو روح الشريعة مع ظلماتِ تلك المدنية التي أساسها دهاء روما! لا يمكن بحال من الأحوال أن يمتزجا أو يهضما معًا.

قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟

قلت: أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسسًا إيجابية بَناءة مكانَ تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.

نعم، إن نقطة استنادها هي الحق بدلًا من القوة. والحق من شأنه العدالة والتوازن. وهدفها: الفضيلة بدلًا من المنفعة، والفضيلة من شأنها المحبة والتجاذب.

وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشرية: الرابطة الدينية، والوطنية، والمهنية بدلًا من العنصرية. وهذه شأنها الأخوّة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الأجانب.

ودستورها في الحياة: التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاون من شأنه التساند والاتحاد.

وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكمًا على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى رفعُ الإنسانية إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحدد الهوى وتحدّ من النزعات النفسانية تُطَمئن الروح وتشوّقها إلى المعالي.

بمعنى أننا بانهزامنا في الحرب تبعنا التيار الثاني الذي هو تيار المظلومين وجمهور الناس. فلئن كان المظلومون في غيرنا يشكلون ثمانين بالمئة منهم ففي المسلمين هم تسعون بل خمس وتسعون بالمئة.

إن بقاء العالم الإسلامي مستغنيًا عن هذا التيار الثاني، أو معارضًا له، ظل دون مستند أو مرتكز، وهَدَر جميع مساعيه. فبدلًا من الذوبان والتميع تحت استيلاء المنتصِر، كان عليه أن يتصرف تصرف العاقل فيكيّف ذلك التيارَ إلى طراز إسلامي ويستخدمه، ذلك لأن عدو العدو صديق ما دام عدوًا له، وصديق العدو عدو مادام صديقًا له.

إن هذين التيارين، أهدافهما متضادة، منافعهما متضادة، فلئن قال أحدهما: مُتْ، لقال الآخر: انبعث. فنفعُ أحدهما يسلتزم ضررنا واختلافَنا وتدنينا وضعفَنا مثلما تقتضي منفعةُ الآخر قوتنا واتحادنا بالضرورة.

كانت خصومة الشرق تخنق انبعاث الإسلام وصحوته. وقد زالت وينبغي لها ذلك. أما خصومة الغرب فينبغي أن تدوم لأنها سبب مهم في تنامي الأخوّة الإسلامية ووحدتها.

وإذا بأمارات التصديق تتعالى من المجلس. فقالوا:

نعم، كونوا على أمل؛ إن أعظم صوت مُدَوٍ في انقلابات المستقبل هو صوت الإسلام الهادر.

وسأل أحدهم أيضًا:

إن المصيبة نتيجة جناية، ومقدمة ثواب. فما الذي اقترفتم حتى حَكم عليكم القدر الإلهي بهذه المصيبة، إذ المصائب العامة تنزل لأخطاء الأكثرية؟ وما ثوابكم العاجل؟

قلت: مقدمتها إهمالنا لثلاثة أركان من أركان الإسلام؛ الصلاة، الصوم، الزكاة. إذ طَلب منا الخالقُ سبحانه ساعة واحدة فقط من أربع وعشرين ساعة لأداء الصلوات الخمس فتقاعسْنا عنها، فجازانا بتدريب شاق دائم لأربع وعشرين ساعة طوال خمس سنوات متواليات، أي أَرْغَمَنَا على نوع من الصلاة.. وإنه سبحانه طلب منا شهرًا من السنة نصوم فيه رحمة بنفوسنا، فعزّت علينا نفوسنا فأرغَمَنا على صومٍ طوالَ خمس سنوات، كفّارة لذنوبنا. وإنه سبحانه طلب منا الزكاة عُشرًا أو واحدًا من أربعين جزءًا من ماله الذي أنعم به علينا، فَبَخِلنَا وظلمنا، فأرغَمَنَا على دفع زكاة متراكمة. فـ«الجزاء من جنس العمل».

أما ثوابنا العاجل، فرفعُه سبحانه وتعالى خُمس هذه الأمة المذنبة -أي أربعة ملايين منهم- إلى مرتبة الولاية ومنحُهم درجة الشهادة والمجاهدين. فالمصيبة العامة الناشئة من خطأ العامة أزالت ذنوب الماضي.

فقال أحدهم أيضًا: إن كان آمرًا بخطأٍ ألقى الأمة إلى الهلاك؟

قلت: إن المُصاب يرجو الثواب؛ فإما أن تُعطى له حسنات الأمر الذي ارتكبه خطًا، وهي لا تعدّ شيئًا. أو تعطيه خزينة الغيب. وثوابه في مثل هذه الأمور من خزينة الغيب هي درجة الشهادة والمجاهدين.

رأيت أن المجلس قد استَحسن هذا الكلامَ. وانتبهتُ من النوم من شدة انفعالي. ووجدتُ نفسي في الفراش مشبِّكًا يديّ، يتصبب مني العرق.

وهكذا مضت تلك الليلة.

* * *


[1] إن قصدنا من المدنية هو محاسنها وجوانبها النافعة للبشرية، وليست سيئاتها وآثامها التي يلهث وراءها الحمقى ظنًا منهم أن تلك السيئات حسنات حتى أوردونا الهلاك، ولقد تلقت البشرية صفعتين مريعتين وهما الحربان العالميتان من جراء ما طفحت به كفةُ سيئات المدنية على حسناتها وتغلبت آثامها على محاسنها حتى أبادتا تلك المدنية الآثمة فقاءت دمًا لطخت به وجه الكرة الأرضية كله. نسأل الله أن تَغلب بقوة الإسلام في المستقبل محاسنُ المدنية لتطهّر وجه الأرض من لوثاتها وتَضْمَن السلام العام للبشرية قاطبة. (المؤلف)

دعوة إلى إنشاء مجلس شورى للاجتهاد

دعوة إلى إنشاء مجلس شورى للاجتهاد([1])

قال تعالى:

﴿وَاَمْرُهُمْ شُورٰى بَيْنَهُمْ (الشورى:38) ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْاَمْرِ (آل عمران:159)

يرينا التاريخ أنه: متى ما كان المسلمون متمسكين بدينهم فقد ترقوا بقدر تمسكهم بدينهم، بينما تدنوا كلما بدأ ضعف الدين يدب فيهم. بخلاف ما يحدث لأصحاب الأديان الأخرى؛ إذ متى ما تمسكوا بدينهم فقد أصبحوا كالوحوش الكاسرة ومتى ما ضعف لديهم الدين ترقوا في مضمار الحضارة.

إن ظهور جمهور الأنبياء في الشرق رمزٌ من القدر الإلهي إلى أن المهيمن على شعور الشرقيين هو الدين؛ فما نراه في الوقت الحاضر من مظاهر اليقظة في أنحاء العالم الإسلامي تُثبت لنا أن الذي ينبه العالم الإسلامي وينقذه من الذل والهوان هو الشعور الديني ليس إلّا.

وقد ثبت أيضًا أن الذي حافظ على هذه الدولة المسلمة (العثمانية) هو ذلك الشعور رغم جميع الثورات والمصادمات الدامية التي نشبت في أرجائها.. فنحن نتميز بهذه الخاصية عن الغرب، ولا نقاس بهم.

إن السلطنة والخلافة متحدتان بالذات ومتلازمتان لا تنفكان وإن كانت وجهةُ كل منهما مغايِرةً للأخرى.. وبناء على هذا فسلطاننا هو سلطان وهو خليفة في الوقت نفسه يمثل رمز العالم الإسلامي. فمن حيث السلطنة يشرف على ثلاثين مليونًا، ومن حيث الخلافة ينبغي أن يكون ركيزةَ ثلاثمائة مليون من المسلمين الذين تربطهم رابطة نورانية، وأن يكون موضع إمدادهم وعونهم.

فالوزارة تمثل السلطنة، أما المشيخة الإسلامية فهي تمثل الخلافة. فبينا نرى الوزارة تستند -أصلًا- إلى ثلاثة مجالسِ شورى -وقد لا تفي هذه المجالس بحاجاتها الكثيرة- نجد أن المشيخة قد أُودعت إلى اجتهاد شخص واحد، في وقتٍ تعقّدت فيه العلاقات وتشابكت حتى في أدق الأمور، فضلا عن الفوضى الرهيبة في الآراء الاجتهادية، وعلاوة على تشتت الأفكار وتدني الأخلاق المريع الناشئ من تسرب المدنية الزائفة فينا.

من المعلوم أن مقاومة الفرد تكون ضعيفة أمام المؤثرات الخارجية، فلقد ضُحي بكثير من أحكام الدين مسايرة للمؤثرات الخارجية.

وبينما كانت الأمور بسيطة والتسليمُ للعلماء وتقليدُهم جاريًا كانت المشيخة مودَعة إلى مجلس شورى -ولو بصورة غير منتظمة- ويتركب من شخصيات مرموقة، أما الآن وقد تعقدت الأمور ولم تعد بسيطة وارتخى عنان تقليد العلماء واتّباعِهم.. أقول كيف -يا ترى- يكون بمقدورِ شخصٍ واحد القيامُ بكل الأعباء؟

ولقد أظهر الزمان أن هذه المشيخة الإسلامية -التي تمثل الخلافة- ليست خاصة لأهل إسطنبول أو للدولة العثمانية، وإنما هي مؤسسة جليلة تعود للمسلمين عامة. فوضعها الحالي المنطفئ لا يؤهلها للقيام بأعباء إرشاد إسطنبول وحدها ناهيك عن إرشاد العالم الإسلامي!

لذا ينبغي أن تَؤُول هذه المشيخة إلى درجةٍ ومنزلة تتمكن بها من كسب ثقة العالم الإسلامي فتكون كالمرآة العاكسة لمشاكل المسلمين، وتغدو منبعًا فياضًا للاجتهادات والأفكار. وعندها تكون قد أدت مهمتها حق الأداء تجاه العالم الإسلامي.

لسنا في الزمان الغابر، حيث كان الحاكم شخصا واحدا، ومفتيه ربما شخص واحد أيضًا، يصحح رأيه ويصوبه. فالزمان الآن زمان الجماعة والحاكم شخص معنوي ينبثق من روح الجماعة. فمجالس الشورى تملك تلك الشخصية، فالذي يفتي لمثل هذا الحاكم ينبغي أن يكون متجانسًا معه، أي ينبغي أن يكون شخصًا معنويا نابعا من مجلسِ شورى عالٍ، كي يتمكن من أن يُسمِع صوتَه للآخرين، ويَسُوقَ ذلك الحاكمَ إلى الصراط السوي في أمور الدين، وإلا فسيبقى صوته كطنين الذباب أمام الشخص المعنوي الناشئ من الجماعة، حتى لو كان فردًا فذًا عظيما. فهذا الموقع الحساس يُعَرِّض قوة المسلمين الحيوية إلى الخطر مادام باقيًا على وضعه المنكفئ هذا، حتى يصحُّ لنا أن نقول:

إن الضعف الذي نراه في الدين، والإهمالَ الذي نشاهده في الشعائر الإسلامية، والفوضى التي ضربت أطنابها في الاجتهادات قد تفشت نتيجة ضعف المشيخة وانطفاء نورها، حيث إن الشخص الموجود خارج المشيخة يمكنه أن يحتفظ برأيه إزاء المشيخة المستندة إلى شخص واحد. بينما كلام شيخ الإسلام المستند إلى مجلس شورى المسلمين يجعل أكبرَ داهية يتخلى عن رأيه أو يحصر اجتهاده في نفسه في الأقل.

نعم، إن كل من يجد في نفسه كفاءة واستعدادا للاجتهاد يمكنه أن يجتهد، ولكن لا يكون هذا الاجتهاد موضع عمل إلاّ عندما يقترن بتصديقِ نوعٍ من إجماع الجمهور. فمثل هذا الشيخ -أي شيخ الإسلام المستند إلى مجلس شورى- يكون قد نال هذا السر. فكما نرى في كتب الشريعة أن مدار الفتوى: الإجماع، ورأيُ الجمهور، يلزم الآن ذلك أيضًا ليكون فيصلًا قاطعًا لدابر الفوضى الناشبة في الآراء.

إن الوزارة والمشيخة جناحا هذه الدولة المسلمة، فإن لم يكونا جناحين متساويين متكافئين فلا يدوم لها المضي، وإن مضت المشيخة على وضعها الحاضر فسوف تنسلخ عن كثير من المقدسات الدينية أمام اجتياح المدنية الفاسدة.

«الحاجة أستاذ لكل أمر». هذه قاعدة، فالحاجة شديدة لمثل هذا المجلس الشورى الشرعي، فإن لم يؤسَّس في مركز الخلافة فسيؤسس بالضرورة في مكان آخر.

وعلى الرغم من أن القيام ببعض المقدمات يناسب أن يَسبق تأسيسَ هذا المجلس -كمؤسسة الجماعات الإسلامية وإلحاق الأوقاف بالمشيخة وأمثالها من الأمور- فإن الشروع بتأسيس المجلس مباشرة ثم تهيئة المقدمات له يحقق الغرض أيضًا. فالدوائر الانتخابية -للأعيان والنواب- رغم محدوديتها واختلاط وظائفها قد تكون لها تأثير بالواسطة، رغم أن الوضع يستوجب تأسيس مجلس شورى إسلامي خالص كي يتمكن كفالة المهمة السامية.

إن استخدام أي شيء في غير موضعه يكون مآله التعطل، ولا يبين أثره المرجو منه؛ فدار الحكمة الإسلامية التي أنشئت لغاية عظيمة، إذا خرجت من طورها الحالي وأشركت في الشورى مع رؤساء الدوائر الأخرى في المشيخة وعُدّت من أعضائها، واستُدعي لها نحوٌ من عشرين من العلماء الأجلاء الموثوقين من أنحاء العالم الإسلامي كافة، عندها يمكن أن يكون هناك أساس لهذه المسألة الجسيمة.

لا ينبغي أن نكون مترددين ومتخوفين، فلا نعطي الدنية والرشوة من ديننا بالتخوف والتردد. وتلعينُ المدنية الزائفة بما سببت من ضعف الدين، مما يشجع الخوف ويزيد الضعف ويقوي التأثيرات الخارجية.. فالمصلحة المرجحة المحققة لا تضحَّى لأجل مَضرة موهومة.

* * *


[1] لقد طالبتُ بهذه الفكرة أعضاءَ «تركيا الفتاة» إبان إعلان الدستور، فلم يوافقوا عليها، وبعد مضي اثنتي عشرة سنة طالبتُهم بها أيضًا فقبلوها ولكن المجلس النيابي كان قد حل. والآن أعرضها مرة أخرى على نقطة تمركز العالم الإسلامي. (المؤلف).

هيمنة القرآن الكريم

هيمنة القرآن الكريم

قال تعالى:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَميعًا وَلَا تَفَرَّقُوا (آل عمران:103)

﴿الٓمٓۚ ﴿1﴾ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ فيهِۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ (البقرة:1-2)

أرى أن مردّ ما تبديه الأمة الإسلامية من إهمال وعدم مبالاة نحو الأحكام الفقهية ما يأتي:

إن أركان الدين وأحكامه الضرورية نابعة من القرآن الكريم والسنةِ النبويةِ المفسرةِ له، وهي تشمل تسعين بالمائة من الدين، أما المسائل الخلافية التي تحتمل الاجتهاد فلا تتجاوز العشرة منه.

فالبون إذن شاسع بين أهمية الأحكام الضرورية والمسائل الخلافية.

فلو شَبهنا المسائلَ الاجتهاديةَ بالذهب لكانت الأحكام الضرورية وأركانُ الإيمان أعمدةً من الألماس. تُرى هل يجوز أن تكون تسعون عمودا من الألماس تابعة لعشرة منها من الذهب وأن تدخل تحت حمايتها وتمزج بها؟.

إن الذي يَسوقُ جمهورَ الناس إلى الاتّباعِ وامتثالِ الأوامر، هو ما يتحلى به المَصدَرُ من قدسية، هذه القدسية هي التي تدفع جمهور الناس إلى الانقياد أكثرَ من قوة البرهان ومتانةِ الحجة، فينبغي إذن أن تكون الكتب الفقهية بمثابةِ وسائلَ شفافة -كالزجاج- لِعَرْض قدسيةِ القرآن الكريم، وليس حجابًا دونه، أو بديلًا عنه.

إن ذهن الإنسان ينتقل من الملزوم إلى اللازم وليس إلى لازم اللازم -كما هو مقرر في علم المنطق- ولو انتقل فبقصدٍ غير طبيعي. فالكتب الفقهية شبيهة بالملزوم، والقرآن الكريم هو الدال على تلك الأحكام الفقهية ومصدرُها، فهو اللازم… والصفةُ الملازمة الذاتية للقرآن الكريم هي القدسية المحفِّزة للوجدان. فلأن نظر العامة ينحصر في الكتب الفقهية فحسب، فلا ينتقل ذهنُهم إلى القرآن الكريم إلّا خيالًا، ونادرًا ما يتصورون قدسيته -من خلال نظرهم المنحصر- ومن هنا يعتاد الوجدان التسيبَ، ويتعود على الإهمال، فينشأ الجمودُ.

فلو كان قد بُيِّنَ القرآنُ الكريم ضمن بيان الضروريات الدينية مباشرة لكان الذهن ينتقل انتقالًا طبيعيًا إلى قدسيته، ولأثارت الشوق إلى الاتباع، ولنبهت الوجدان إلى الاقتداء، وعندها تنمو ملكة رهافة المشاعر لدى المخاطب بدلا من صممها أمام حوافز الإيمان وموقِظاته.

فالكتب الفقهية إذن ينبغي أن تكون شفافة لعرض القرآن الكريم وإظهاره، ولا تصبحَ حجابا دونه كما آلت إليه -بمرور الزمان- من جراء بعض المقلدين. وعندئذ تجدها تفسيرًا بين يدي القرآن وليست مصنفات قائمة بذاتها.

إن توجيه أنظار عامة الناس في الحاجات الدينية توجيها مباشرًا إلى القرآن الكريم، خطابِ الله العزيز الساطع بإعجازه والمحاطِ بهالة القدسية والذي يهز الوجدان بالإيمان دائما.. إنما يكون بثلاث طرق:

1- إما إزالة ذلك الحجاب من أمام القرآن الكريم بتوجيه النقد وتجريح الثقة بأولئك المؤلِّفين للكتب الفقهية الذين يستحقون كل الاحترام والتوقير والثقة والاعتماد.. وهذا ظلم فاضح، وخطر جسيم، وإجحاف بحق أولئك الأئمة الأجلاء.

2- أو تحويل تلك الكتب الفقهية تدريجيا إلى كتب يستشف منها فيض القرآن الكريم، أي تصبح تفسيرا له، ويمكن أن يتم هذا باتباع طرق تربوية منهجية خاصة حتى تبلغ تلك الكتبُ إلى ما يشبه كتبَ الأئمة المجتهدين من السلف الصالح أمثالِ «الموطأ» لمالك بن أنس و«الفقه الأكبر» لأبى حنيفة النعمان. فعندئذ لا يُقرأ كتاب «ابن حجر» -مثلًا- بقصدِ ما يقوله ابن حجر نفسه، بل يُقرأ لأجل فهم ما يَأْمُر به القرآن الكريم. وهذا الطريق بحاجة إلى زمن مديد.

3- أو شد أنظار جمهور الناس دوما إلى مستوى أعلى من تلك الكتب -التي أصبحت حجابا- أي شدها باستمرار إلى القرآن الكريم وإظهاره فوقها دائما، مثلما يفعله أئمة الصوفية، وعندها تؤخذ الأحكام الشرعية والضروريات الدينية من منبعها الأساس وهو القرآن الكريم، أما الأمور الاجتهادية التي تَرِد بالواسطة فيمكن مراجعتها من مظانها.

ولا يخفى أن ما يستشعره المرء من جاذبية في كلام الصوفي الحق ومن طلاوة في حديثه غيرُ ما يستشعره في وعظِ عالم في الفقه. فالفرق في هذا نابع من ذلك السر.

ثم إنه من الأمور المقررة، أن ما يوليه عامة الناس من تقدير لشيء وتثمينهم له ليس نابعًا -على الأغلب- مما فيه من كمال، بل مما يشعرون نحوه من حاجة وبما يحسون تجاهه من رغبة؛ فالساعاتي الذي يأخذ أجرةً أكثرَ من عالم جليل مثالٌ يؤيد هذا.

فلو وُجِّهَتْ حاجاتُ المسلمين الدينية كافة شطرَ القرآن الكريم مباشرة، لنال ذلك الكتابُ المبين من الرغبة والتوجه -الناشئةِ من الحاجة إليه- أضعافَ أضعافِ ما هو مشتَّت الآن من الرغبات نحو الألوف من الكتب، بل لكان القرآن الكريم مهيمنا هيمنة واضحة على النفوس، ولكانت أوامرُه الجليلة مطبَّقة منفَّذة كليا، ولَمَا كان يظل كتابا مباركا يُتَبَرك بتلاوته فحسب.

هذا وإن هناك خطرًا عظيمًا في مزج الضروريات الدينية مع المسائل الجزئية الفرعية الخلافية، وجَعْلها كأنها تابعة لها، لأن الذي يرى الآخرين على خطأ -ونفسه على صواب- يدعي: أن مذهبي حق يحتمل الخطأَ والمذهب المخالف خطأ يحتمل الصوابَ!

وحيث إن جمهور الناس يعجزون عن أن يميزوا تمييزًا واضحا بين الضروريات الدينية والأمور النظرية الممتزجة معها، تراهم يعممون -سهوًا أو وهمًا- الخطأ الذي يرونه في الأمور الاجتهادية على الأحكام كلها، ومن هنا تتبين جسامة الخطر.

والذي أراه أن من يخطّئ الآخرين -ويرى نفسه في صواب دائما- مصاب بمرضِ ضِيق الفكر وانحصارِ الذهن الناشئَين من حب النفس. ولاشك أنه مسؤول أمام رب العالمين عن تغافله عن شمولِ خطاب القرآن إلى البشرية كافة.

ثم إن فكر التخطئة هذا، منبعٌ ثر لسوء الظن بالآخرين، والانحيازِ، والتحزب في الوقت الذي يطالبنا الإسلام بحسن الظن والمحبة والوحدة! ويكفيه بُعدًا عن روح الإسلام ما شَقّ من جروح غائرة في أرواح المسلمين المتساندة، وما بثه من فرقة بين صفوفهم، فأبعدَهم عن أوامر القرآن الكريم.

* * *

بعد أن كتبتُ هذه المسألة بفترة قصيرة، تشرفتُ برؤيا الرسول الكريم ﷺ في المنام؛ كنت في حظوةِ مجلسه الجليل في مدرسة دينية، سيعلمني من القرآن درسا. فعندما أتوا بالمصحف الشريف قام الرسول الكريم ﷺ احترامًا للقرآن، فخطر لي آنئذ أن هذا إرشاد للامة لتوقير القرآن الكريم وإجلاله.

ثم حكيت الرؤيا لأحد الصالحين فعبَّره هكذا:

إن هذه إشارة واضحة وبشرى عظيمة إلى أن القرآن الكريم سيحوز ما يليق به من مقام رفيع في العالم أجمع.

* * *

إفادة مرام

إفادة مرام

حينما كنت أتدبّر في بعض الآيات الكريمة خطرت على قلبي نكاتٌ لطيفة، فدوّنتُها على صورة ملاحظات ومذكرات.. فيا قارئي العزيز لا تضجر من أسلوبي الموجز فلست غنيًا بالألفاظ كما لا أحب الإسراف. ولا تعجبني الألفاظ المنمّقة.. خذ من كل شيء أحسنَه. سر على هذه القاعدة. فما لا يعجبك ولا يروق لك دعه لي، ولا تعترض.

سعيد


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اِلَّا الَّذينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ (العصر:3)

سنبين حكمة «الإطلاق» فقط. فالقرآن الكريم يترك «الصالحات» مطلقةً دون قيد يقيّدُها، ومبهمةً دون أن يشخّصها.

وذلك: أن الفضائل والأخلاق، وكذا الحُسن والخير، أغلبُها أمورٌ نسبية، تتغير كلما عبرَت من نوع إلى آخر، وتتباين كلما نزلت من صنف إلى صنف، وتختلف كلما بدّلت مكانًا بمكان، وتتبدل باختلاف الجهات، وتتفاوت ماهيتُها كلما علَت من الفرد إلى الجماعة ومن الشخص إلى الأمة.

فمثلًا: الشجاعة والكرم في الرجل تدفعانه إلى النخوة والتعاون، بينما تسوقان المرأة إلى النشوز والوقاحة وخرق حقوق الزوج.

ومثلًا: إن عزة النفس التي يشعر بها الضعيفُ تجاه القوي، لو كانت في القوي لكانت تكبّرًا، وكذا التواضع الذي يشعر به القويُّ تجاه الضعيف، لو كان في الضعيف لكان تذللًا.

ومثلًا: إن جدّية ولي الأمر في مقامه وقارٌ، بينما لينُه ذلةٌ؛ كما أن جديّته في بيته دليلٌ على التكبر، ولينَه دليل على التواضع.

ومثلًا: إن تفويض الأمر إلى الله في ترتيب المقدمات كسل، بينما في ترتّب النتيجة توكّل؛ كما أن رضا المرء بثمرة سعيه وقسمتهِ قناعةٌ يقوي فيه الرغبة في السعي، بينما الاكتفاءُ بالموجود تقاصرٌ في الهمة.

ومثلًا: إن صفح المرء -عن المسيئين- وتضحيتَه بما يملك عملٌ صالح، بينما هو خيانةٌ إن كان متكلمًا عن الغير -باسم الجماعة- وليس له أن يتفاخر بشيء يخصّه، ولكن يمكنه أن يفخر باسم الأمة من دون أن يهضم حقها.

وهكذا رأيت في كل مما ذكرنا مثالًا، فاستنبط بنفسك؛ إذ القرآن الكريم خطاب إلهي شامل لجميع طبقات الجن والإنس، ولكل العصور، والأحوال والظروف كافة.

وحيث إن الحُسن النسبي والخير النسبي كثير جدًا، فإن إطلاق القرآن إذن في «الصالحات» إيجاز بليغ لإطناب طويل. وإن سكوته عن بيان أنواع الصالحات كلام واسع.

* * *

﴿وَاِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحيمٍ﴾ (الانفطار:14)

العاقبةُ دليل العقاب، الحدس يدل عليه؛ فعاقبة المعصية التي تقع في الدنيا أمارةٌ حدسية على أن عاقبتَها تؤول إلى عقاب؛ لأن أي إنسان كان يرى -حدسًا وبتجربته الخاصة- أن المعصية تنجرّ إلى عاقبة سيئة وخيمة -رغم عدم وجود علاقة طبيعية بينهما- فهذه الكثرة الكاثرة من التجارب الشخصية، والتي تقع في ميدان واسع جدًا، لا تكون نتيجةَ مصادفةٍ قط. فلو أخذنا هذه التجارب الشخصية بنظر الاعتبار، ظهر لدينا أن نقطة الاشتراك بينها هي طبيعة المعصية المستلزمة للعقاب. فالعقاب إذن لازم ذاتي للمعصية.

ولما كان هذا اللازم الضروري يترتب -على الأغلب- في الدنيا على طبيعة المعصية وحدها، فلاشك أن ما لم يترتب عليه في هذه الدنيا سيترتب عليه في الدار الآخرة.

فيا ترى هل هناك أحدٌ لم يمر بتجربة في حياته قال فيها: إن فلانًا قد جوزي بما أساء!.

* * *

﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَٓائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات:13)

أي: لتعارفوا، فتعاونوا، فتحابّوا، لا لتناكروا فتعاندوا فتتعادوا!

إذ كما أن هناك روابط تربط الجندي بفصيله وفَوجه ولوائه وفرقته في الجيش، وله واجب ووظيفة في كلٍّ منها؛ كذلك كل إنسان في المجتمع له روابط متسلسلة ووظائف مترابطة. فلو اختلطت هذه الروابط والوظائف ولم تُعيَّن وتحدَّدْ لَمَا كان هناك تعاون ولا تعارف.

فنمو الشعور القومي في الشخص إما أن يكون إيجابيًا أو سلبيًا:

فالإيجابي ينتعش بنمو الشفقة على بني الجنس التي تدفع إلى التعاون والتعارف.

أما السلبي فهو الذي ينشأ من الحرص على العِرق والجنس الذي يسبب التناكر والتعاند. والإسلامُ يرفض هذا الأخير.

* * *

﴿وَمَا مِنْ دَٓابَّةٍ فِي الْاَرْضِ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهَا﴾ (هود:6).

الرزق ذو أهمية عظيمة كأهمية الحياة في نظر القدرة الإلهية، إذ القدرةُ هي التي تُخرج وتوجِد الرزق، والقَدَر يُلبِسه اللباسَ المعين، والعنايةُ الإلهية ترعاه.

فالقدرة الإلهية -بفعّالية عظيمة- تحوّل العالمَ الكثيف إلى عالم لطيف. ولأجل أن تكسب ذراتُ الكائنات حظًا من الحياة فإنها تعطيها الحياة بأدنى سبب وبحجة بسيطة، وبالأهمية نفسها تُحضِر القدرةُ الرزقَ متناسبًا مع انبساط الحياة.

فالحياة محصَّلَةٌ مضبوطةٌ أي مشاهَدة محدَّدة، أما الرزق فغير محصّل -أي لا يحصل آنيًا- وإنما بصورة تدريجية ومنتشرة تدفع الإنسان إلى التأمل فيه.

ومن وجهة نظر معينة يصح أن يقال: إنه ليس هناك موتٌ جوعًا. لأن الإنسان يموت قبل أن ينتهي الغذاء المدخر على صورة شحوم وغيرها.

أي إن المرض الناشئ من ترك العادة هو الذي يسبب موتَ الإنسان وليس عدم الرزق.

* * *

﴿وَاِنَّ الدَّارَ الْاٰخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُۢ﴾ (العنكبوت:64).

الحياة الحقيقية إنما هي حياة الآخرة، فذلك العالم هو عينُ الحياة، فلا ذرة من ذراتها إلا ونابضة بالحياة، ولا تعرف الموت إطلاقًا.

ودنيانا حيوان أيضًا؛ إذ إن كرتنا الأرضية أشبه ما تكون بكائن حي، لأن آثار الحياة ظاهرة عليها؛ فلو فرضنا أنها صَغُرت بحجم البيضة، أَمَا كانت حيوانًا؟ أو إنْ جرثومة صغيرة كبرت وعظمت عِظَمَ الكرة الأرضية، أمَا كانت تشبهها؟ وحيث إن الكرة الأرضية حيةٌ، فلها روح إذن.

نعم، إن العالم الذي هو إنسان مكبّر، يُظهر من آثار الحياة بما يتضمن من منظومات الكائنات ما يظهره الجسد بين أعضائه وأجزائه، كالتساند والتجاوب والتعاون، بل تبقى هذه الآثار الحياتية للجسد قاصرةً دون تلك الآثار.

فلو صغر العالمُ صغرَ الإنسان وتحولت نجومُه إلى ما يشبه الذرات والجواهر المفردة، أمَا يكون حيوانًا ذا شعور؟

فهذه الآية الكريمة تلمّح إلى سر عظيم:

إن مبدأ الكثرة هو الوحدة، وإن منتهاها أيضًا إلى الوحدة. فهذا دستور فطري. فلقد خَلقت القدرةُ الإلهية من القوة التي أودعتها في الكائنات -وهي فيض تجليها وأثر إبداعها- قوةً جاذبة عامة، متصلة مستقلة محصلة بإحسانها على كل ذرة من ذرات الوجود جاذبة خاصة بها، فأوجدتْ رابطةَ الكون. فكما أن في الذرات محصَّلة القوى الجاذبة الناشئة من القوة المودَعة فيها، فهي ضياء القوة، واستحالةٌ لطيفة من إذابتها، كذلك فإن محصل قطرات الحياة المنتشرة على الكائنات كافة ولمعانها، إنما هي حياة عامة تعم الوجود جميعًا.. نعم، هكذا يقتضي الأمر.فأينما وُجدت الحياة فثمّ الروح. والروح مثل الحياة أيضًا منتهاها بدايةُ تجلِّي فيضٍ لروح.

فمبدأ الروح هذا أيضًا تجلٍ للحياة الخالدة التي سميت لدى المتصوفة بـ«الحياة السارية».

وهكذا ترى أن سبب الالتباس الذي وقع فيه أهلُ الاستغراق ومنشأَ شطحاتهم هو التباس هذا الظل مع الأصل لديهم.

* * *

﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبيلِ اللّٰهِ اَمْوَاتٌۜ بَلْ اَحْيَٓاءٌ وَلٰكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة:154).

والشهداء يشعرون أنهم أحياء، وأنهم ما ماتوا، إذ الشهيد يَعدّ نفسه حيًا، لأنه لا يذوق ألَم السكرات فيرى حياتَه التي ضحّى بها مستمرةً غير منقطعة، بل يجدها أنزهَ وأسمى من حياته.

وحياة الشهيد وحياة الميت نظير هذا المثال:

رجلان يريان فيما يرى النائم أنهما يتمتعان بلذائذ لطيفة في تجوالهما خلال بستان بديع. فأحدهما يشعر أن ما يراه هو رؤيا ليس إلّا، فلا يستمتع متعة كاملة. أما الآخر فلا يعلم أنه رؤيا، بل يعتقد أن ما يراه هو حقيقة، فيستمتع تمتعًا كاملًا.

وحيث إن عالم الرؤيا ظل عالم المثال، وهذا ظل لعالم البرزخ، لذا أصبحت دساتيرُ هذه العوالم متماثلة.

* * *

﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ اَوْ فَسَادٍ فِي الْاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَميعًاۜ وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَاَنَّمَٓا اَحْيَا النَّاسَ جَميعًا﴾ (المائدة:32).

هذه الآية الكريمة حق خالص ولا تنافي العقل قطعًا، وهي حقيقة محضة لا مبالغة فيها قط، إلّا أن ظاهرها يدعو إلى التأمل:

فالجملة الأولى:

تضع اعظم دستور للعدالة المحضة التي تقرِّر: لا يُهدر دمُ بريء ولا تزهق روحه حتى لو كان في ذلك حياةُ البشرية جمعاء، فكما أن كليهما في نظر القدرة الإلهية سواء فهما في نظر العدالة سواء أيضًا. وكما أن نسبة الجزئيات إلى الكلي واحدة كذلك الحق في ميزان العدالة، النسبة نفسها. ولهذا فليس للحق صغير وكبير.

أما العدالة الإضافية فهي تفدى بالجزء لأجل الكل بشرط أن يكون لذلك الجزء المختار الرضا والاختيارُ صراحة أو ضمنًا، إذ عندما يتحول «أنا» الأفرادِ إلى «نحن» الجماعةِ ويمتزج البعض بالبعض الآخر مولِّدًا روحَ الجماعة، يرضى الفرد أن يضحي بنفسه للكل.

وكما يتراءى النور كالنار، تتراءى أحيانًا شدةُ البلاغة مبالغةً.

وهنا نقطة البلاغة تتركب من ثلاث نقاط:

أولاها: لإظهار عدم محدودية استعداد العصيان والتهور المغروز في فطرة الإنسان. فكما أن له قابلية غير محدودة للخير فله قابلية غير متناهية للشر أيضًا؛ بحيث إن الذي تَمَكَّن فيه الحرصُ والأنانية يصبح إنسانًا يريد القضاء على كل شيء يقف دون تحقيق حرصه، حتى تدمير العالم والجنس البشري إن استطاع.

ثانيتها: لزجر النفس، بإظهار قوة الاستعداد الفطري الكامن، في الخارج. أي بإظهار الممكن في صورة الواقع، بمعنى أن بذرة العِرق النابض بالغدر والعصيان كأنها انفلقت من طَور القوة إلى طور الفعل. فهذه الجملة تُحوِّل الإمكانات إلى وقوعات، لتثمر قابلياتها حتى تأخذ شكل شجرة الزقوم، وذلك لينزل التنفير والانزجار إلى أعماق النفس. وهو المطلوب. وهكذا تكون بلاغة الإرشاد.

ثالثتها: قد تظهر القضية المطلقة أحيانًا قضية كلية، وقد تظهر القضية الوقتية المنتشرة في صورة قضية دائمة. بينما يكفي لصدق القضية وصحتها -منطقًا- أن ينال فرد في زمان معين حكمًا. أما إذا صارت كمية ذات أهمية فعندها تكون القضية صحيحة عرفًا.

إن في كل ماهية أفرادًا خارقين، أو فردًا في منتهى الكمال لذلك النوع، كذلك لكل فرد زمانٌ خارقٌ لظروف وشرائط عجيبة بحيث إن سائر الأفراد والأزمنة بالنسبة لذلك الفرد الخارق والزمان الخارق تكون بمثابة ذرات لا قيمة لها أو كأسماك صغيرة بالنسبة للحوت الضخم.

وبناء على هذا السر الدقيق فإن الجملة الأولى رغم أنها قضية كلية ظاهرًا فإنها ليست دائمة. إلّا أنها تضع أمام أنظار البشر أرهب قاتل من حيث الزمان.

نعم، سيكون زمان تُسبب فيه كلمة واحدة في توريطَ جيش كامل في الحرب، وطلقةٌ واحدة في إبادةِ ثلاثين مليون نسمة وكما حدث.([1]) وستكون هناك أحوال بحيث إن حركة بسيطة تسمو بالإنسان إلى أعلى عليين، وفعل صغير يرديه إلى أسفل سافلين.

فهذه الحالات التي هي قضايا مطلقة أو منتشرة زمانيًا تؤخذ بنظر الاعتبار لنكتة بلاغية عظيمة.

فالأفراد العجيبون والأزمنة العجيبة تُترك على الإطلاق والإبهام. فمادام الولي في الناس، وساعة الإجابة في الجمعة، وليلة القدر في شهر رمضان، واسم الله الأعظم في الأسماء الحسنى، والأَجَل في العمر، مجهولًا؛ سيظل لسائر الأفراد قيمتهم وأهميتهم. بينما إذا تعيّن أولئك الأفراد وتلك الأزمنة تسقط أهمية سائر الأفراد والأزمنة. فإن عشرين سنة من عمر مبهم أفضل من ألف سنة من عمر معلوم النهاية؛ حيث الوهم يمتد إلى الأبدية ويجعلها محتملة الوقوع فتُقنع النفس في العمر المبهم. بينما في العمر المعين يكون كمن يتقرب إلى الإعدام خطوة خطوة بعد مضي نصف العمر.

تنبيه: هناك آيات كريمة وأحاديث نبوية شريفة وردت بصورة مطلقة إلا أنها عُدّت كلية، وهناك أخرى منتشرة مؤقتة إلا أنها عدّت دائمة، وهناك أخرى مقيدة إلا أنها اعتُبرت عامة.

فمثلًا: ورد بهذا المعنى: إن هذا الشيء كفر. أي لم تنشأ هذه الصفة من الإيمان، أي أنها صفةٌ كافرة. ويكون ذلك الشخص قد كَفَر لهذا السبب. ولكن لا يقال: إنه كافر؛ ذلك لأنه يملك صفات أخرى بريئة من الكفر قد نشأت من الإيمان، فهو إذن يحوز أوصافًا أخري نابعة من الإيمان، إلاّ إذا عُلم يقينًا أن تلك الصفة قد نشأت من الكفر، لأنها قد تنشأ من أسباب أخرى. ففي دلالة الصفة شك، وفي وجود الإيمان يقين، والشك لا يزيل اليقين، فينبغي للذين يجرؤون على تكفير الآخرين بسرعةٍ أن يتدبروا!

الجملة الثانية:

 ﴿وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَاَنَّمَٓا اَحْيَا النَّاسَ جَميعًا

الإحياء باعتبار المعنى الظاهري المجازي يبين دستورَ تضاعف الحسنات تضاعفًا غير محدود. ولكن بمعناه الأصلي، يرمز إلى قَطْع دابرِ الشرك والاشتراك من الأساس في الخلق والإيجاد. لأن التشبيه الموجود في هذه الجملة وفي الآية الكريمة: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (لقمان:28) يفهّم معنى الاقتدار. فالتشبيهان يستلزمان -حسب القاعدة المنطقية- «عكس النقيض»: من لا يقتدر على إحياء الناس جميعًا لا يقتدر على إحياء نفس واحدة.

بمعنى أن الآية الكريمة تدل إشارة إلى هذا المعنى:

ما دامت قدرة الإنسان -والممكنات- غير مقتدرة بالبداهة على خلق السماوات والأرض فلا يمكن أن تخلق شيئًا أبدًا ولو حجيرة واحدة.

بمعنى أن من لا يملك قدرة قادرة على تحريك الأرض والنجوم والشموس كلِّها كتحريك خرز المسبحة وتدويرها، ليس له أن يدّعى الخلق والإيجاد في الكون قطعًا.

أما ما يصنعه البشر ويتصرف فيه، فإنما هو كَشْفٌ لجريان النواميس الإلهية في الفطرة، وانسجامٌ معها واستعمالُها لصالحه.

فهذا الحد من الوضوح البيّن في البرهان وسطوعه إنما هو من شأن إعجاز القرآن. والآية الكريمة الآتية تثبت ذلك:

﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لأن القدرة الإلهية ذاتية لا يتخللها العجز، وهي متعلقة بالملكوتية فلا تتداخل فيها الموانع، ونِسَبُها قانونية، فالجزء يكون في حكم الكل والجزئيُّ في حكم الكلي.

النقطة الأولى:

إن القدرة الإلهية الأزلية ضرورية للذات الجليلة المقدسة.

أي أنها بالضرورة لازمة للذات المقدسة، فلا يمكن أن يكون للقدرة منها فكاك مطلقًا، لذا فمن البديهي أن العجز الذي هو ضد القدرة لا يمكن أن يَعرض للذات الجليلة التي استلزمت القدرة، لأنه عندئذ سيجتمع الضدان، وهذا محال.

فما دام العجز لا يمكن أن يكون عارضًا للذات، فمن البديهي أنه لا يمكن أن يتخلل القدرةَ اللازمة للذات أيضًا.. ومادام العجز لا يمكنه أن يدخل في القدرة مطلقًا فبديهي إذن أن القدرة الذاتية ليست فيها مراتب، لأن وجود المراتب في كل شيء يكون بتداخل أضداده معه، كما هو في مراتب الحرارة التي تكون بتخلل البرودة، ودرجات الحسن التي تكون بتداخل القُبح.. وهكذا فقس.

أما في الممكنات فلأنه ليس هناك لزومٌ ذاتي حقيقي أو تابع؛ أصبحت الأضدادُ متداخلة بعضها مع البعض الآخر، فتولّدت المراتبُ ونتجت عنها الاختلافاتُ، فنشأت منها تغيرات العالم. وحيث إنه ليست هناك مراتب قط في القدرة الإلهية الأزلية، لذا فالمقدَّرات هي حتمًا واحدةٌ بالنسبة إلى تلك القدرة، فيتساوى العظيم جدًا مع المتناهي في الصغر، وتتماثل النجوم مع الذرات، وحشرُ جميع البشر كبعث نفس واحدة.

المسألة الثانية: أن القدرة الإلهية تتعلق بملكوتية الأشياء..

نعم، إن لكل شيء في الكون وجهين كالمرآة:

أحدهما: جهة الـمُلك وهي كالوجه المطلي الملوَّن من المرآة.

والأخرى هي جهة الملكوت وهي كالوجه الصقيل للمرآة.

فجهة الملك، هي مجالُ وميدانُ تجوّلِ الأضداد، ومحلُّ ورودِ أمور الحُسن والقُبح والخير والشر والصغير والكبير والصعب والسهل وأمثالها.. لذا وضعَ الخالق الحكيم الأسبابَ الظاهرة ستارًا لتصرفاتِ قدرته، لئلا تَظهر مباشرةُ يد القدرة الحكيمة بالذات على الأمور الجزئية التي تَظهر للعقول القاصرة التي ترى الظاهر، كأنها خسيسة غير لائقة، إذ العظمة والعزّة تتطلب هكذا.. إلّا أنه سبحانه لم يعط التأثير الحقيقي لتلك الأسباب والوسائط؛ إذ وحدة الأحدية تقتضي هكذا أيضًا.

أما جهة الملكوت، فهي شفافة صافية نزيهة في كل شيء، فلا تختلط معها ألوانُ ومزخرفات التشخصات… هذه الجهة متوجهة إلى بارئها دون وساطة، فليس فيها ترتب الأسباب والمسبّبات ولا تسلسلُ العلل، ولا تدخل فيها العليّةُ والمعلولية ولا تتداخل الموانع، فالذرة فيها تكون شقيقةَ الشمسِ.

إن القدرة هي مجردة، أي ليست مؤلفة ومركبة، وهي مطلقة غير محدودة، وهي ذاتية أيضًا. أما محل تعلقها بالأشياء فهي دون وساطة، صافيةٌ دون تعكر، ودون ستار ودون تأخير، لذا لا يَستكبر أمامها الكبيرُ على الصغير، ولا تُرجَّح الجماعةُ على الفرد ولا يتبجّح الكل أمام الجزء ضمن تلك القدرة.

 


[1] لقد كانت طلقة جندي أطلقت على ولي عهد النمسا سببًا في إشعال نار الحرب العالمية الأولى التي ذهب ضحيتها ثلاثون مليون نسمة. (المؤلف)

الباب الرابع: في الأدلة والحجج الخ

[الباب الرابع: في الأدلة والحجج الخ]([1])

اعلم أن الدليل باعتبار الصورة هو المقصد الأعظم من المنطق.. وهو بسيط عند الأصوليين، فالنظر في أحواله.. ومركب عند المنطقيين، فالنظر فيه.. فالدليل: ما يكتسب بالنظر في أحواله، أو فيه حكم آخر.. فالاستدلال: إما بالجزئي على الكلي.. فهو الاستقراء، وهو أساس أدلة العربية بل في ابتداء حصول كل العلوم.. وإما بالجزئي على الجزئي، وهو التمثيل، وهو المعتبر في أصول الشرع، بل في كل التشبيهات.. وإما بالكلي على الجزئيّ، أو على الجزئي الإضافي.. وهو القياس المنطقي، والجاري في تعليم العلوم..

ثم إن البدهي من هذا القسم الذي يكتسب به نظريات هذا الباب؛ القياس المقسم.. والاستثنائي وغير المتعارف المعبّر عنه -في الأكثر- بقياس المساواة… والشكل الأول الراجع محصّلهُ إلى قياس المساواة.. وأصله: قياس غير متعارف. هكذا: زيد مساو لعمرو، وعمرو مساو لبكر؛ فزيد مساو لبكرٍ بالضرورة. وكل مساو المساوي مساو.. فزيد مساو، وهو المطلوب. فهذا التكلّف لتحصيل تكرر الأوسط. والأصح أنّ تكرر الأوسط شرط العلم بالإنتاج.. فيمكن لزوم الإنتاج بدونه؛ كأكثر شرائط اقترانيات الشرطية. وأما شرط تحقيق الإنتاج الذي لا يمكن لزوم النتيجة بدونه: فكإيجاب الصغرى وكلية الكبرى في الأول، وأن لا تكون المقدمتان سالبتين أو جزئيتين في الكل وغيرها.

اعلم أن الدليل لما كان العلم به بالمعنى العام علّةً للعلم..كذلك بالنتيجة وجب تقديمه. فالدور بكلا معنييه باطل، وكذا المصادرة.. وان تكون المادة مناسبة ذاتًا وكيفية للنتيجة.

فان قلت: الذهن كاللسان يتعاقب فيها الصغرى والكبرى، فكيف يكون كلاهما علّة مؤثرة؟..

قلت: الأفكار علّة معدّة للمطالب باعتبار الحضور.. وعلّة مجامعة([2]) باعتبار الحصول.

فإن قيل: الإيمان الذي هو التصديق([3]) مكلف به، والمكلف([4]) به فعل اختياري مع أن اللزوم ضرورة والتصديق انفعال؟

قلت: التكليف بترتيب المقدمات..

فان قلت: الدليل يستلزم النتيجة مقدمة أساسيّة للإنتاج. مع أنه نظرية. فإن أثبت بدليل فذلك الدليل أيضًا متوقف على مثل هذه المقدمة؟

قلت: هذه المقدمة تثبت بدليل، تثبت هذه المقدمة فيه، في نفس الأمر بالانتقال الطبيعي، لأن علم العلم ليس بلازم بالضرورة، لأن ذلك الدليل من المعقولات الأولى.

فإن قلت: علم صدق كليّة الكبرى التي في قوة قضايا متعددة بعدد الأفراد التي منها موضوع النتيجة شرط للإنتاج، حتى في أَبْدَهِ الأشكال، مع أن العلم بصدقها، يتوقف على العلم بالنتيجة. فما هذا الدور؟..

قلت: إن لاختلاف العنوان تأثيرًا في اختلاف الأحكام؛ معلوميّة ومجهولية، ضرورية ونظرية. فموضوع النتيجة تحت عنوان موضوع الكبرى قد يكون ضروريًا.. وتحت عنوانه نظريًا. ثم إن للإنتاج شرائط عموميّة.. وقد مرّ نبذة منها باعتبار المادة والصورة. وخصوصيته فسيأتي.

ومن الشرائط العموميّة التفطّن الذي هو كالجماع بين الزوجين.. وملاحـظة النتيجة في بطن الكبرى..

ثم اعلم أن الاستقراء له وقع عظيم واستعداد واسع، بل هو المؤسس للعلوم، بل هو المفصّل للعقل بالملكة. فقد بخسوا حقه في الاختصار فيه. ومنه: ما هو مفيد لليقين، وهو التّام الذي كالتواتر الحالي. أو تتبع قليل أفراد في نوع واحد بالنظر بطبيعة النوع.. وهو أيضًا مفيد لليقين، بسبب انضمام حدسٍ معنوي إليه.. ومفيد للظّن، وهو الاستقراء الناقص في أكثر الجزئيات؛ إذ بسر الحكمة يكون الأكثر هو الباقي على الأصل الذي لايعلل. وإذا اختصروا فلنختصر..

ثم إن التمثيل أيضًا مفيد لليقين، إن كان مقدّماته يقينيّة، أي وجود الشرائط وانتفاء القوادح ويقينيّة المسلك الذي تثبت العليّة به.. وبندرة اليقينية بكلّها أطلقوا إفادة الظنّ.

ثم للتمثيل الذي منه التشبيه أيضًا، أركان أربعة: وهو المقيس، والمقيس عليه، والجامع، وحكم الأصل. لا حكم الفرع، فإنه نتيجة.

اعلم: أن للقياس التمثيلي مجالًا واسعًا، فيجري في فنون شتّى وفي المحاورات. لكن القدح المعلّى للشرع..

ومن شرائطه فيه: أن لا يكون حكم المشبّه به مختصًا.. أو تعبّديًا.. أو مستثنىً.. أو متغيرًا عند التعدي. الخ..

ومن مسالكه فيه: الإجماع، والنصّ، والإيماء بالحكم على المشتقّ، والسّبر بالتقسيم، وطرد غير الصالح، والمشابهة، وإلغاء الفارق، والعكس. أي الوجود عند الوجود.. وقيل الطرد وهو عكس العكس.. والدّوران كلاهما.. وتنقيح المناط بطرد الخصوصيات.. وتحقيق المناط بإثباتٍ في الصور الخفيّة؛ كالسرقة في الطّرار والنباش، وتخريج المناط، والمناسبة.. والوصفُ المناسب، هو الذي لو عرض على العقول لتلقّته بالقبول.. وهو إما حقيقي أو إقناعي.. والحقيقي: إما ضروري، وهو الأقطاب الخمسة. أي حفظ النفس، والدين، والعقل، والمال، والناموس؛ المناسِبة للقصاص… والجهاد، وحدّ السكر أو الشرب، وحدّ السرقة، وحدّ القذف؛ وحدّ الزنا. وإما حاجّيّ: كما في أساسات المعاملات… وإما استحساني: كالتنزيه من القاذورات، وعدم تولية النساء والعبيد.. والإقناعي: كبطلان بيع الخمر للنّجاسة.. وقس، فتأمل!

ثم العلة: لابد أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا، لا كالمشقّة وبراءة الرحم…

والعلة علامة، وإنما المؤثر خطاب الله.. كما أن المؤثّر في عالَم الخلق قدرة الله. فتأمل!

ثم المانع: إما من انعقاد العليّة، أو عليّةِ العلة، أو ترتب الحكم أو دوامه.. كبيع المعدوم، وبخيار الرؤية، وبخيار المجلس، وبخيار الشرط أي العيب. كما أن الرّمي قد لا يصيب، أو يصيب لا يجرح، أو يجرح يندمل، أو لا يندمل بذمن([5])..

ومن القوادح: النقض، أي تخلّف المعلول عن العلة، والمعارضةُ، والكسر، وعدم التأثر. وقس، فتأمل!

اعلم، انّا إذا تحرّينا مطلوبًا؛ فإن كان لجملته نسبة إلى شيء، فاستثنائي.. أو لأجزائه، فاقتراني.. والاستثنائي من شرطية واستثنائية، حملية أو شرطيّة. فشرط الشرطية: الإيجابُ وعدمُ الاتفاق.. والكليةُ عند عدم كليّة الاستثنائية أو شخصيّتِها. إذ سلب اللزوم أو العناد لعمومه، لا يستلزم شيئًا. وللزوم النتيجة للدّليل، لاسيما للمقدمة الاستثنائية؛ لم تَقدر الاتفاقية على الإنتاج. وسرّ الكلية ظاهر.

ثم الشرطية: إن كانت متصلة.. فالمستقيم استثناء عين المقدم لا التالي، لإمكان العموم.. وغيرُ المستقيم استثناء نقيض التالي، لا نقيض المقدّم، لإمكان أعميةِ نقيضِ ممكن الأخصيّة. وغير المستقيم يرتدّ مستقيمًا بعكس نقيض الشرطيّة.

وإن كانت منفصلة حقيقيّة، فله أربع نتائج باستثناء عين كلٍ أو نقيض كلٍ. ويرتدّ هذا إلى المستقيم باستلزام الحقيقية لأربع متصلات.

وإن كانت مانعة الجمع، فاستثناء عين كلٍ لأخصيّته، لا نقيضه لأعميّته بالردّ إلى المستقيم بواسطة تلازم مانعة الجمع للمتّصلة، مقدّمتها([6]) عين أحد جزئيها([7]).. وإن كانت مانعة الخلوّ، فعكسها ومثلها في الرد والبرهان.

فإن قلت: المستقيم يكفي، إذ الباقي بالردّ يظهر؟

قلت: مراعاةُ طبيعة الفكر والتحصيل([8]) وغيرها،([9]) أحوجتنا إلى الطرق المعوجّة؛ فكم من أشياء هي مقدمة طبعًا، أو تالٍ طبعًا، أو المحصل نقيضها. وقس.. فلو استقمت لم يستقم..

اعلم أن القياس من محض الحمليات يسمّى اقترانيًّا.. ومن محض الشرطيات أو المختلط يسمى اقترانية، فأصولها خمسة.. وفروعها خمسة آلاف. والضابط فيها: أن الجزء الغير المشارك يبقى في النتيجة، مع نتيجة التأليف بين المتشاركين. ونتيجة التأليف لازم([10]) للمشارك باعتبار. وملزوم الملزوم ملزوم. ومعاند([11]) الملزوم كاللامعاند اللازم في الجملة. فمن متّصلتين في الشكل الأول مع الاشتراك في جزء تامٍ مبنيّ على أن اللازم اللازم لازم.

ومن منفصلتين مع الاشتراك في غير تامّ،([12]) نتيجته منفصلة مركبّة من الجزء الغير المشارك، مع نتيجته التأليف بين الجزء الآخر؛ الحملية والمنفصلة الكبرى. لأن معاند الملزوم معاند اللازم بجهة..

ومن متصلة وحملية.. المشاركة لأحد جزئيها، ينظر المتشاركين بشرائط الأشكال. ثم يؤخذ نتيجته التأليف.. ثم يضمّ إلى الجزء الغير المشارك مقدّمًا أو تاليًا.

ومن المنفصلة والحملية الواحدة، فالنتيجة منفصلة مركّبة من غير المشارك، مع نتيجة التأليف بين الحملتين، مع مراعاة الشكل الذي هو منه. وإن كانت الحملية متعددة عدد أجزاء المنفصلة، فانظر إلى كلّ متشاركين منها، وخذ نتيجة التأليف من كل جزئين؛ فإن اتحدت الحمليات في طرف، فالنتيجة حملية.. وهو القياس المقسم المشهور، وإلّا فالنتيجة منفصلة مركبّة من نتائج التأليفات؛ كـ«الكاتبُ إما جاهل أو غافل. والجاهل لابدّ أن يُعَلّم، والغافل لابدّ أن يُنبّه».. فالكاتب إما لابـدّ أن يعلّم وإما لابـدّ أن ينبّه.


[1] كلنبوي ص30 س19..

[2] مقارنة.

[3] المنطقي مع لازمه.

[4] حال.

[5] ولعله «بزمن». ع.ب.

[6] (أي المتصلة). أجير.

[7] (أي مانعة الجمع). أجير.

[8] أي محصلية الأشياء.

[9] من نكات البلاغة.

[10] إن كان الصغرى متصلة.

[11] إن كان منفصلة.

[12] إن كانت تامًا فمتصلة.. إن حقيقيّة.

فصل في عكس النقيض

 [فصل في عكس النقيض]

الحكم الثالث للقضايا العكس، النقيض..

اعلم أن الآلة كثيرًا ما تتحول عن صورتها الحقيقية، فتظهر لأغراض بلوازم مقدمتيها، أو إحداهما فلهذا كثيرًا ما نحتاج لرد غير المتعارف إلى المتعارف لعكس النقيض.

ثم إن عكس النقيض إما موافق الكيف مع أخذ نقيض الجزئين سلبًا أو عدولًا.. أو معًا مع النظر والدّقة لأخذ نقيض الجزء. فإن نقيض «كاتب بالفعل» ليس بـ«لا كاتب بالفعل» لعدم تمام الخلف هنا.. أو أخذ نقيض المحمول فقط، سلبًا أو عدولًا مع المخالفة في الكيف.

ثم، قد ذكرنا: أن العكس مطلقًا، تحصيل أخصّ القضايا اللازمة، وإثبات اللزوم محتاج إلى البرهان. والبراهين الجارية في سوالب العكس المستوى، جارية في موجبات عكس النقيض مع تفاوت قليل، لأنها نظيرتها. وكذا براهين موجباتها في سوالب ذا، كـ«زلزل».

أما الموجبات الكلية، فعكسه على الأول نفسها، لأنه المحمول فيها، إما مساو أو أعم.. ونقيض المتساويين متساويان. ونقيض الأعم أخصّ من نقيض الأخص فيحمل عليه كليًا ألبتة. مثلًا «كل إنسان حيوان» ينعكس إلى «كل لا حيوان لا إنسان» بالخلف. أي وإلّا لصدق نقيضه.. وهو «ليس كل لا حيوان بلا إنسان» ولا يمكن جعله صغرى للأصل لسلبه. ومن هذا اضطر المتأخرون إلى العدول واستلزام هذا للموجبة عند وجود الموضوع ثابت، إذ لابد أن يكون موجود ومعدوم خارجًا عن الموضوع والمحمول، أو لأن السالبة يستلزم الموجبة السالبة الطرف، فسلبُ السلب إيجاب. فإذا صدق النقيض، استلزم «بعض ما ليس بحيوان إنسان» صغرىً للأصل، وهو «كل إنسان حيوان» فينتج «بعض اللاحيوان بالفعل حيوان دائما». وحمل النقيض على النقيض بهذا الوجه محال. ومستلزم المحال غير ممكن، فنقيض النقيض لازم. تأمل!

اعلم أن الدائمتين تنعكسان إلى دائمة. مثلًا: «كل إنسان حيوان بالضرورة، أو دائمًا».

و«كل لاحيوان لا إنسان».. وإلّا فـ«بعض اللاحيوان ليس بلا إنسان»، «فبعض اللاحيوان إنسان بالفعل» كما مرّ، مع «كل إنسان حيوان»، ينتج «بعض اللاحيوان بالفعل حيوان دائمًا». وهو كما ترى.

والعامتان، إلى عرفيّة عامة.. مثلا: «كل كاتب متحرك مادام كاتبًا». فـ«كل لا متحرك لا كاتب مادام لامتحركًا».. وإلّا فـ«بعض اللامتحرك ليس بلا كاتب حين هو لا متحرك». «فبعض اللامتحرك كاتب في حينه» لما مرّ أيضًا.. وهو مع الأصل ينتج «بعض اللامتحرك متحرك. حين هو لا متحرك» لأن الكبرى وصفيّة، فالنتيجة تابعة للصغرى. فتأمل في طبيعة الأصل لتستخرج النقط الثلاث في العكس.

والخاصّتان إلى عرفية عامة لا دائمة في البعض، لأن الأصل يخبرنا بأن ذاتًا واحدة له وصف الموضوع، فوصف المحمول معه. ولها نقيض المحمول، فنقيض الموضوع معه بحكم القيد ومادام.. إلّا أن قيد العكس جزئى كما في عكس المستوي…

أما الجزئيات، فلا عكس لها بالتخلف، إلّا للخاصّتين بالافتراض. فإن أخصّ البسائط الضرورية، والمركبات غيرهما الوقتية. ولا تنعكسان إلى الإمكان العام. وما لم يستلزم الأعم، لم يستلزم الأخص.. وما لم يلزم الأعم، لم يلزم الأخص. مثلا: «بعض الحيوان لا إنسان بالضرورة».. و«بعض القمر لا منخسف بالضرورة وقت التربيع لا دائمًا»، مع كذب «بعض اللاإنسان لاحيوان» و«بعض المنخسف لاقمر» بالامكان العام.

أما الخاصّتان، فعكسهما عرفية عامة جزئية لا دائمة. إذ لا يصدق في عكس «بعض المتحرك كاتب لا دائمًا» القيد. أي «بعض اللاكاتب ليس بلا متحرك بالفعل». إذ تنص الأرض تليلهُ تحت «لاكاتب».. وتقول: «إني لا أتحرك على رغم المتقدمين، على رغم أنفكم أيها الجديديون!» ومن هذا، يكون قيد عكس الخاصتين الكليّتين جزئيةً.

اعلم أن سوالبهما كموجبات عكس المستوي. فالدائمتان والعامّتان إلى حينيّة مطلقة، جزئية سالبة. مثلا: الأعم من الأربعة: «لاشيء من الكاتب بساكن مادام كاتبًا». فـ«بعض اللاساكن ليس بلا كاتب حين هو لاساكن».. وإلّا فـ«كلّ لاساكن لا كاتب مادام لاساكنًا».. وهو بعكس النقيض. فإنه قد برهن عليه: «كل كاتب ساكن مادام كاتبًا».. وهو ضد الأصل؛ فهو باطل. فملزوم هذا العكس النقيض. أعني نقيض العكس محال أيضًا، غير ممكن.. والعكس لازم.

وأما الخاصتان: فحينية لا دائمة.. أما الحينية؛ فلأنه لازم للأعم منها، ولازم الأعم لازم الأخصّ. وأما اللادوام؛ فبالافتراض.. نفرض في المثال السابق مع اللادوام؛ «كل روميّ لاساكن مادام كاتبًا» بحكم الجزء الأول.. و«كل رومي لاكاتب حين هو ساكن» بحكم القيد مع العناد بينهما. فبضمها، يعني «كل رومي لاساكن مادام كاتبًا» و«كل رومي لاكاتب. مادام ساكنًا». فينتج من الشكل الثالث «بعض اللاساكن لاكاتب حين هو لاساكن» لأن النتيجة في الثالث تابعة لعكس الصغرى. وتستلزم الحينية المطلقةُ، المطلقةَ العامة. فـ«بعض اللاساكن لاكاتب بالفعل»، وهو مآل قيد الحينية اللادائمة في عكس النقيض. ولا يثبت بالخلف ولا بطريق العكس..

وأما الوقتيتان والوجوديتان والمطلقة العامة: فعكس نقيضها المطلقةُ العامة، إذا عمّها وهو المطلقة العامة الجزئية السّالبة. مثلا: «بعض الإنسان ليس بضاحك بالفعل»، تستلزم «بعض اللاضاحك ليس بلا إنسان بالفعل».. وإلّا فـ«كل لاضاحك لا إنسان دائما». وهو يستلزم عكس نقيضها، المبرهن عليه. وهو «كل إنسان ضاحك دائما»، وهو مناقض للأصل دائما الصّادق. فبطل عكس نقيض نقيض عكس النقيض، فيثبت عكسنا، ولا يثبت بالخلف، لأن الأصل سالبة جزئية، لا تصير صغرى ولا كبرى. وإذا لزمت المطلقة المطلقة، لزمت الأخص منها.

ثم إن عند المتأخرين جعل نقيض المحمول موضوعًا، وعين الموضوع محمولًا مع مخالفة الكيف. فالدّائمتان الموجبتان إلى سالبة دائمة.. فـ«كل إنسان حيوان دائما»، إلى «لاشيء من اللاحيوان بإنسان دائما».. وإلّا فـ«بعض اللاحيوان إنسان بالفعل». وهو مع الأصل ينتج: «بعض اللاحيوان حيوان دائمًا، أو بالضرورة». وهو كما ترى..

والعامتان الموجبتان إلى عرفية عامة كلية؛ فـ«كل كاتب متحرك مادام كاتبا»، إلى «لاشيء من اللامتحرك بكاتب مادام لا متحركًا».. وإلّا فـ«بعض اللامتحرك كاتب حين هو لامتحرك». وهو صغرى للأصل الوصفي، ينتج: «بعض اللامتحرك متحرك حين هو لا متحرك»، لأن النتيجة هنا تابعة للصغرى، وهو مِنَ المحال كما يُرى.

وأما الخاصتان إلى عرفية عامة لادائمة في البعض؛ أما العرفية العامة: فلِمَا مرّ.. وأما القيد: أعني: «بعض اللامتحرك كاتب بالفعل».. فبالافتراض لجزئية العكس.. فكل رومي لامتحرك بحكم القيد. و«كل رومي كاتب» بحكم عقد الوضع الموجب. فينتج من الثالث: «بعض اللامتحرك كاتب بالفعل».

فصل في العكس

[فصل في العكس]([1])

الحكم الثاني من الأحكام التي يتوقف عليها إثبات لزوم النتائج للأشكال العكس. ويطلق لغةً على غير اللازم، وعلى النقيض ومطلق التبديل. وأما هنا فبالمعنى المصدريّ: تبديل طرفَي القضية حملية، أو متصلة لزومية مع بقاء الكيف والصدق لا الكذب، لجواز صدق اللازم مع كذب الملزوم. وبالمعنى المتعارف أخص القضايا اللازمة الحاصلة بالتبديل. ثم للزوم المغايرة بين اللازم والملزوم لا عكس معتبرًا لما نسبته من الإضافة المتشابهة الطرفين كالعناد، والاتفاق نظير الأخوة.

ثم إن لزوم العكس نظريّ، يحتاج إلى البرهان، وهو ثلاثة.

أحدها: الخلف.. أساسه إثبات العكس بإبطال النقيض. وتصويره: لو لم يصدّق العكس لزومًا، لأمكن انفكاكه. فيمكن صدق نقيضه مع كل صادق ومنه الأصل. ولو أمكن صدقهما لأنتج بالشكل الأول سلب الشيء عن نفسه، وهو محال لوجود الموضوع للإيجاب في أحدهما. وإمكان المحال باطل. وبطلان اللزوم يستلزم بطلان الملزوم.. إما بصورته وهو بدهي الإنتاج. وإما بأصل القضية وهو مفروض الصدق.. فلم يبق إلّا نقيض العكس، وهو منشأ المحال. فلا يمكن صدقه، فيلزم العكس.

الثاني: طريق العكس.. وهو عكس نقيض العكس، ليضاد أو يناقض الأصل.. والعكس صادق بالفرض. فعكس النقيض باطل، فملزومه وهو النقيض أيضًا باطل، ونقيض النقيض وهو العكس صادق ألبتة.

وحاصله: أنه لو لم يصدّق العكس لزومًا، لأمكن صدقُ النقيض ولو صَدَقَ صَدَقَ لازمه وهو عكسه. ولو صدق اللازم لزم اجتماع الضدّين أو اجتماع النقيضين. والأصل مفروض الصدق فعكس النقيض هو ملزوم المحال فلا يمكن، فيلزم العكس.

اعلم أن عكوس الموجّهات الموجبة ثلاثة فقط: الحينية المطلقة للدّوام الأربع.. والحينية اللادائمة للخاصّتين.. والمطلقة العامة لخمسة.

واعلم أن بسرّ «لازمُ اللازمِ لازمٌ» كلّ ما هو أعمّ من العكس عكس، لا اصطلاحًا.. وبسرّ أن ملزوم الملزوم ملزوم. فكل ما هو أخصّ من الأصل يستلزم عكسه.

واعلم أيضًا أنّ لنا مقامين: إثبات ونفي.. فلإثبات اللزوم لنا ثلاث طرائق: الخلف كما مرّ. وأما الافتراض والعكس، فكالتنبيه والتنوير للزوم الدّور في البعض.([2])

فاعلم أن الدائمتين والعامتين عكسها الحينية المطلقة بالخلف.. أي وإلّا لصدق نقيضها، وهي العرفية العامة السالبة الكلية، فهو كبرى للأصل.. فينتج سلب الشيء الموجود عن نفسه بإحدى الجهات الأربعة، لأن نتيجة الشكل الأول تتبع الصغرى إذا كانت الكبرى وصفيّة -كما هنا- وسلب الشيء عن نفسه محال، فليس من صورة الشكل ولا من الصغرى، بل من الكبرى. وهو نقيض العكس، فلا يمكن أيضًا. فيصدّق ويلزم العكس. وبالافتراض وهو جعل عقد الحمل صغرى وعقد الوضع كبرى. فينتج بالثالث العكس، ولا يلزم الدّور.. أو الإثبات بغير الثالث لأن المراد تنبيه وتصوير.. وبالعكس أيضًا. مثلًا: «كل إنسان حيوان» بإحدى الجهات.. فبعض الحيوان إنسان، حين هو حيوان.. وإلّا لزم جمع النقيضين أو الضدّين. إذ نقيض العكس يستلزم ما يضادّ الأصل الصادق. وضدّ الصادق كاذب، فملزومه وهو النقيض أكذب. فنقيض النقيض وهو العكس صادق. ولازم أيضًا لامتناع إمكان المحال.

وأما مقام النفي، فبالتخلف.. واعلم أن الأعمّ للأخصّ.. كما أن الأخص ملزوم الأعمّ.. وأن لازم الأعمّ، لازم الأخص.. وأن ملزوم الأخص، ملزوم الأعمّ.. وأنّ ما لايلزم الخاصّ لايلزم العامّ.. وإلّا لزم الخلف.. وأن ما لايستلزم الاعمّ، لايستلزم الأخصّ.. وإلّا ثبت الخلف.

واعلم أيضًا أنّا نحتاج في نفي عكسيته، ماعدا الحينية المطلقة لهذه الأربعة، إلى اثنى وثلاثون([3]) موادَّ تخلف. فالأقصر في طريقه: أن نأخذ من جانب الأصل الأربعة، الأخصَّ الأقوى الملزومَ لأخواته، ونأخذ من جانب العكس اللازم الأعمّ الأخف اللازم لأخواته. فالأخصّ في الأصل الضرورية الذاتيّة، وفي جانب العكس الأعمّ، ولو من وجه الوقتيّة، مع التخلّف في صدق «كل كاتب إنسان» بالضرورة، مع كذب «بعض الإنسان كاتب» بالضرورة في وقت.

والخاصّتان إلى حينيّة لادائمة، مثل «كل كاتب متحرك مادام كاتبًا، لا دائما». أي لاشيء من الكاتب بمتحرك بالفعل.. عكس «بعض المتحرك كاتب، حين هو متحرك». و«بعض المتحرك ليس بكاتب بالفعل».. وإلّا لصدق «كل ذاتٍ متحرك كاتب دائمًا». أي الكتابة دائمي للذات. ومقتضى الجزء الأول من الأصل: أن التّحرك دائم بدوام الكتابة الدائمة بهذا الفرض.. فيكون التّحرك دائمًا للذات.. فيكون ضدّ قيد الأصل المفروض الصدق..

فعكس القيد «بعض المتحرك ليس بكاتب بالفعل»، لا يبين بالخلف، لأن نقيضه وهو «كل متحرك كاتب دائمًا».. مع نفس القيد ينتج سلب الشيء عن نفسه بالفعل، وهو جائز. لأن عنوان الموضوع منفكّ، ولا بطريق العكس.. لأن عكس «كل متحرك كاتب دائمًا»، «بعض الكاتب متحرك في حين». وهو لا يضاد القيد.. ولا بالافتراض، لأنه جعل عقد الحمل صغرى وعقد الوضع كبرى، فخرج من عقد الوضع، بسبب إيجاب الجزء الأول؛ «كل إنسان كاتب بالفعل». ومن عقد الحمل: «لاشيء من الإنسان بمتحرك بالفعل»، فلا يكون صغرى للشكل الثالث لاشتراط الإيجاب.

اعلم أن عكس الوقتيتين والوجوديتين والمطلقة العامة المطلقةُ العامة، فنحن على وظيفتين:

الأولى: إثبات لزوم هذه لتلك، بتلك الطرائق. فالأقصر: أن نأخذ الأعمّ من الخمسة. لأن لازم الأعم لازم الأخص، والأعمّ المطلقة. لأن المطلق أعمّ من المقيد. فإذا صدّق: «كل كاتب ضاحك بالفعل»، صدق لزومًا «بعض الضاحك، كاتب بالفعل» بالخلف. أي وإلّا فلا شيء من الضاحك بكاتب دائمًا -كبرى للأصل- فينتج لاشيء من الكاتب بكاتب دائمًا، وهو محال لوجود الموضوع. لأنه كان عقد وضع الموجبة. والدليل الذي يستلزم المحال باطل، لفساد أحد أركانه. والصورة بدهيّة، والأصل الصغرى مفروضة الصدّق، فيبطل نقيض عكسنا.. فثبت «بعض الضاحك كاتب بالفعل». فإن شئت فاستدل على سبيل التنبيه والتنوير دون الإثبات، للزوم الدّور بالعكس والافتراض. هكذا: لو لم يصدّق العكس، لصدق النقيض. والنقيض يستلزم عكسه، وهو يضاد الأصل الصادق، فيكذب فيبطل ملزومه. فثبت نقيض النقيض، وهو العكس.

والافتراض: جعل عقد الحمل صغرى، وعقد الوضع كبرى بالثالث الذي نتيجته تابعة لعكس صغراه، وهو المطلوب. وخلاصته: أن الأصل يخبرنا بأن عنوان الموضوع وعنوان المحمول ثابتان بالفعل لذات واحد. فأيتّهما ثبت للذات، -بناء على سلّميته- يثبت له الآخر بالفعل كما ترى.

أما الوظيفة الثانية: فنفي لزوم الأخص من المطلقة لا الأعمّ، فإنه (أي الأعم) لازم أيضًا. والطريق الأخصر للتخلف: أن نأخذ الأخص من الخمسة؛ لأن ما لايلزم الأخص لايلزم الأعمّ ألبتة، والأخص الوقتية المعينة. ونأخذ من الأحد عشر الأعمَّ، لأن عدم لزوم الأعم يستلزم عدم لزوم الأخص بالضرورة.. والأعمُّ من الكل الأخصُّ من المطلقة؛ الوجوديةُ اللاضرورية. مثلا: يصدّق «كل قمر منخسف في وقت الحيلولة بالضرورة، لادائمًا».. مع كذب «بعض المنخسف قمر لا بالضرورة»، باعتبار القيد. لأن الانخساف خاصة القمر. فذات المنخسف قمر دائما بالضرورة.


[1] كلنبوي ص28.

[2] وهو الموجبات.

[3] (لعله: اثنين وثلاثين).أجير.

فصل الشرطيّة إلى الخ

[فصل الشرطيّة إلى الخ]([1])

اعلم أن الشرطية عند أهل النقل، وكذا الشافعيّة، حكمها في أجزائها. وعند أهل العقل، وكذا الحنفية، حكمها فيما بينها. ومن هنا يتولد بينهم اختلاف مهمّ، حتى قال الأوّلون: بمفهوم المخالف للشرط دون الآخرين.. بسرّ أن القول الأول: «على أن تصرف الشرط في الوقوع، والقول الثاني «على أنّ تصرّفه في الإيقاع». ومن هنا تتولّد مسألة الملك. أعني: «إن ملكتُ هذا فهو حرّ». فعند الشافعي لغوٌ.. لأن الجزاء هو العلة، ولم يصادف محلّا قابلًا بسبب عدم تقييد الإيقاع. وعند الثاني تنعقد العليّة بعد وقوع الشرط، بسرّ تقييد الإيقاع.. وكذا اختلافهم في المستثنى.. فعند الأول: نقيض الحكم الوقوعي للمستثنى، بسرّ التوحيد بكلمته. وعند الآخر: نقيض الحكم([2]) الإيقاعي،([3]) أي المستثنى مسكوت عنه.

ثم الشرطيّة تنقسم باعتبار الحكم وكيفيّته، والمقدّم والتالي، وباعتبار السور.. فالنسبة إمّا عنده، أو عنه.. فالأول: إما فيه ما يتأمله الذهن، لينتقل إلى التالي بيّنًا، أو غير بيّن، فلزوميّة، ومظانّها([4]): إن اتحد طرفا كل منهما، أي من المقدم والتالي على الترتيب نسب المسوّرات والموجهات؛ فجعل الأخصّ والمساوي في كلّ مادة منها مقدّمًا، والأعمّ والمساوي الآخر تاليًا، أو لا على الترتيب، فمظانها العكوس. فاجعل الأصل مقدمًا والعكس تاليًا، للزوم العكس لأصله. وإن اتحدا في طرف،([5]) فلابد أن يكون الطرفان الآخران متساويين. أو أعمّ أو أخص. وسرّ اللزوم استلزام حمل الشيء على المساوي. أو وصفه([6]) له([7]) حملَه. أو وصفه للمساوي الآخر.([8])ومن مظان اللزوم أيضًا، جعل الدليل مقدّمًا والنتيجة تاليًا، للزومها أيضًا.. وإن لم يتحدّ الأطراف في المقدم والتالي فمظانها في كل ما يكون من مقول الإضافة والنسبة؛ كالأفعال المتعدية: إن كان هذا فاعله، فذاك مفعوله. أو فوق وتحت.. أو معاندًا فمعاند.. أو أبًا فابن.


[1] كلنبوي ص24 س12.

[2] وهو السكوت.

[3] أي ثابت.

[4] (أي اللزومية) أجير.

[5] بأن كان موضوع المقدم والتالي واحدًا والمحمول. (تقرير)

[6] (أي الشيء) أجير.

[7] (أي المساوي) أجير.

[8] ككلما كان كلّ إنسان ناطقًا، كان كل إنسان ضاحكًا. أو ككلّما كان كلّ ناطق حيوانًا، كان كلّ ضاحك حيوانا. وكلما كان كل حيوان جسما، كان كل إنسان جسما. وكلما كان كل إنسان ناطقا، كان كل إنسان حيوانا. (تقرير)