تشخيص العلّة

الذيل الأول تشخيص العلّة

هذا الذيل يبين بطولةً معنوية لا تُثلم نابعة من الإيمان، ضمن تمثيل لطيف جدًا نذكر خلاصته لمناسبة ما ذكرناه من مسائل.

لقد رافقتُ أيضًا السلطان رشاد في سياحته إلى «روم إيلي» ممثِّلًا عن الولايات الشرقية، وذلك في بداية عهد الحرية.

كان في قطارنا معلمان اثنان، قد تلقيا العلوم في المدارس الحديثة، فجرت بيننا مباحثة، إذ سألاني:

– أيُّهما أقوى وأولى بالالتزام: الحمية الدينية أم الملية؟ قلت لهم وقتئذٍ:

نحن معاشر المسلمين، الدين والملية عندنا متحدان بالذات، والاختلاف اعتباري، أي ظاهري، عرضي، بل الدين هو حياة الملية وروحها؛ فإذا ما نُظر إليهما بأنهما مختلفان ومتباينان، فإن الحمية الدينية تشمل العوام والخواص بينما الحمية الملية تنحصر في واحد بالمئة من الناس، ممن يضحي بمنفعته الشخصية لأجل الأمة.

وعليه فلابد أن تكون الحمية الدينية أساسًا في الحقوق العامة، وتكون الملية خادمة منقادة لها وساندة حصينة لها.

فنحن الشرقيين لا نشبه الغربيين، إذ المهيمن على قلوبنا الشعور الديني؛ فإنّ بعث الأنبياء في الشرق يشير به القدرُ الإلهي إلى أن الشعور الديني وحده هو الذي يستنهض الشرق ويسوقه إلى التقدم والرقي، والعصر السعيد -وهو خير القرون والذي يليه- خير برهان على هذا.

فيا زملائي في هذه المدرسة السيارة، أعني القطار، ويا من تسألون عن التفاضل بين الحمية الدينية والملية، ويا أيها الدارسون في المدارس الحديثة! إني أقول لكم جميعًا:

إن الحمية الدينية والملية الإسلامية قد امتزجتا في التُّرك والعرب مزجًا لا يمكن فصلهما، وإن الحمية الإسلامية هي أقوى وأمتن حبل نوارني نازل من العرش الأعظم، فهي العروة الوثقى لا انفصام لها، وهي القلعة الحصينة التي لا تهدم.

قال ذلك المعلمان:

ما دليلك؟ يلزم لمثل هذه الدعوى الكبيرة حجة عظيمة ودليل قوي. فما الدليل؟

وفي هذه الأثناء خرج قطارُنا من النفق، فأخرجْنا رؤوسنا من النوافذ نتطلع إلى الخارج، رأينا صبيًا لا يتجاوز السادسة من العمر واقفًا بجانب سكة الحديد.

قلت لصاحبيّ:

إن هذا الصبي يجيبنا عن سؤالنا بلسان حاله، فليكن أستاذَنا بدلًا مني في مدرستنا السيارة هذه.

إذ لسان حاله يقول هذه الحقيقة:

انظروا إلى دابة الأرض هذه، وإلى ضجيجها وصيحتها، وانطلاقها من النفق، وتأملوا في ذلك الطفل الوديع الواقف على مقربة منها، فعلى الرغم من تهديد هذه الدابة وهجومها وانقضاضها على كل من يقترب منها حتى كأنها تقول: يا ويل من يصادفني ويقف أمامي.. على الرغم من هذا فإن ذلك الصبي البريء واقف لا يحرك ساكنًا بالقرب منها، وهو في كمال الاطمئنان والحرية، ولا يكترث لتهديدها، مبديًا بطولةً فائقة وجرأة خارقة، وكأنه يستخف بهجومها، فهو يقول بلسان ثباته وبطولته في سن الصبا هذا:

أيها القطار إنك لا تخيفني بصوتك الصاخب الذي يشق عنان السماء.. أيها القطار إنك أسيرُ نظام، فخطامك في يد قائدك، لا طاقة لك أن تتجاوز حدَّك ولا يمكنك أن تتحكّم فيّ، فهيا انطلق في طريقك وامضِ في سيرك بإذن قائدك.

فيا صاحبيّ في القطار، ويا إخوتي الباحثين في العلوم بعد خمسين عامًا!

افرضوا خيالًا أن رستم الفارسي وهرقل اليوناني، واقفان موقف الصبي هذا، وإذ هما لا علم لهما بالقطار، فلا يعتقدان بأنه يسير وفق نظام معين، فإذا ما خرج عليهما من النفق المظلم وفي رأسه النار ذات الوقود وفي أنفاسه هدير السماء، وفي عيونه بروق المصابيح، وهو يهدد ويزمجر وكأنه يريد أن ينقضّ عليهما.. تصوروا هذه الحالة ثم قَدِّرُوا مدى الخوف والهلع الذي يعتريهما، وكيف أنهما يفرّان من القطار مع ما يملكانه من جرأة وشجاعة نادرة. وتصوّروا كيف أن حريتهما وجسارتهما تضمحلان أمام تهديد دابة الأرض هذه حتى لا يجدان بدًا منها إلّا الفرار.. كل ذلك لأنهما لا يعتقدان بوجود قائد يقود ذلك القطار، ولا يؤمنان بوجود نظام يسير على وفقه، بل لا يظنان أنها دابّة مطيعة منقادة ليس إلّا، وإنما يتخيلانها أسدًا هصورًا ووحشًا كاسرًا جسيمًا تنتظم وراءه أُسود كثيرة ووحوش عديدة.

يا إخوتي! ويا زملائي الذين يسمعون هذا الكلام بعد خمسين عامًا!

إن الذي منح هذا الصبي تلك الجسارة والحرية أكثر من ذينك البطلين ووهب له اطمئنانًا وسكينة يفوقهما بكثير هو: أن في قلب ذلك الصبي نواة حقيقة، وهي: إيمانه واطمئنانه بأن ذلك القطار يسير على وفق نظام، واعتقادُه بأن زمامه بيدِ قائدٍ يقوده بأمره ولأجله.

وأما الذي أرهبَ ذينك البطلين المشهورين وأسر وجدانهما، فهو عدم معرفتهما بقائد ذلك القطار وعدم اعتقادهما بنظامه، أي جهلهما بالعقيدة وخلوهما منها.

فمثل هذه البطولة النابعة من إيمان ذلك الصبي الوديع قد ترسّخت طوال ألف سنة في قلوب عشائرَ من طوائف الإسلام (وهم الترك ومن تشبّهوا بهم) عقيدةً وإيمانًا، فوهبهم ذلك الإيمانُ بطولة فائقة استطاعوا بها أن يغزوا دولًا تفوقهم مئة ضعف وأن يَثْبُتوا أمامها، فنشروا كمالاتِ الإسلام في أرجاء العالم.. في آسيا وإفريقيا ونصف أوروبا، واستقبلوا الموت بسرور بالغ قائلين: «إن قُتِلتُ فأنا شهيد، وإن قَتَلتُ عدوًا فأنا مجاهد». بل ثَبَتوا -بالإيمان- أمام كل ما اتخذ موقفَ عداءٍ تجاه استعدادات الإنسان وقواه ابتداءً من الميكروبات إلى المذنبات التي في السماء، وكأن كلًا منها قطار رهيب، فلم يكترثوا بتهديداتها. وإنما حازت جميع قبائل الإسلام وفي مقدمتها طوائف الترك والعرب نوعًا من السعادة الدنيوية بتسليمهم الأمر إلى الله والرضى بقَضائه وقدره ورؤية الحكمة وتلقي دروس العبرة من الحوادث بدلًا من الرهبة والهلع منها.

فإظهارُ هؤلاء المسلمين بطولةً معنوية فوق المعتاد -كما يُظهره ذلك الصبيُّ- يدلّنا: أن أمة الإسلام مثلما تفوز في الآخرة فلهم في الدنيا أيضًا السيادة مستقبلًا.

إن الذي أدّى إلى أن يدخل في رُوع ذينك البطلين الخوفُ والفرار والقلق إنما هو حرمانهما من الإيمان والعقيدة وجهلُهما وضلالهما.

فلقد أثبتت «رسائل النور» بمئات الحجج القاطعة تلك الحقيقةَ التي ذكرتُ بضعةَ أمثلة منها في مقدمة هذه الرسالة أيضًا، تلك هي: أن الكفر والضلال يُرِيَان الكونَ لأهلهما أنّه مليء بآلاف الأعداء المُخيفين، بل هو سلسلة من طوائفَ تعادي الإنسان، ابتداءً من المنظومة الشمسية وانتهاء إلى ميكروبات التدرن الرئوي، كلها تعادي هذا الإنسان المسكين بأيدي القوى العمياء والمصادفة العشواء والطبيعة الصماء، حتى تجعله في رعب دائم وألم مقيم وهلع ملازم واضطراب مستمر، مع ما يَحمل هذا الإنسانُ من ماهية جامعة واستعداد كلي وحاجات لا نهاية لها ورغبات لا منتهى لها. بل يجعله الكفرُ والضلال في حالة من عذاب جهنم في الدنيا وكأنه يتجرع الزقوم ولا يكاد يسيغه، فلا تجديه آلاف الفنون والعلوم -الخارجة عن الدين والإيمان- ولا التقدمُ البشري -مثلما لم تجدِ بطولة ذينك البطلين المشهورين- بل تُجري في دمه السفاهةَ واللهو لتعطِّل حواسه لئلا يشعر بالألم مؤقتًا.

فكما أن المقايسة بين الإيمان والكفر تُفضي في الآخرة إلى الجنة والنار، فإن الإيمان في الدنيا أيضًا يحقق نوعًا من الجنة المعنوية ويجعل المرء يرى الموت نوعًا من التسريح من الوظيفة، بينما الكفر يجعله في الدنيا أيضًا في جحيم معنوي سالبًا منه السعادة إذ يريه الموت إعدامًا أبديًا. كما أثبتنا ذلك في «رسائل النور» إثباتًا بدرجة الشهود والقطعية التامة. فنحيل القارئ الكريم إلى تلك الرسائل.

فإن شئتم أيها الإخوان أن تروا حقيقة هذا المثال، فارفعوا رؤوسكم وانظروا إلى هذا الكون! كم ترون لله في الفضاء من كرات النجوم وأجرام العوالم وسلاسل الحادثات والوقائع المتسلسلة أمثال القطار والمنطاد والسيارات الإلهية فكأنها سفائن برية وفُلك بحرية وطائرات هوائية خلقتْها يدُ القدرة الإلهية بنظام وحكمة.

فكما أن للقدرة الإلهية في عالم الشهادة وفي عالمنا المادي أمثالَ هذه، فإن لها في عالم الأرواح والمعنويات نظائرَ متسلسلة أعجب، يصدِّق بها كلُّ مَن يملك عقلًا، بل يرى أغلبَها كلُّ مَن يملك بصيرة.

فهذه الأمور المتسلسلة المترابطة في الكون سواءٌ منها المادية أو المعنوية تهاجم أهلَ الضلال الذين حُرموا من الإيمان وتهددهم وتُرهبهم وتحطّم قواهم المعنوية، بينما لا تخيف أهلَ الإيمان ولا تهددهم بشيء بل تبعث فيهم السرور والسعادة والأُنس والأمل والقوة، وذلك لأنهم يرون الوجود بنور الإيمان، وتلك الحوادث المتسلسلة، وتلك القاطرات المادية والمعنوية والعوالم السيارة، إنما تساق إلى وظيفة معينة محددة من قِبَل صانع حكيم لتؤديها ضمن نظام وحكمة من دون اختلاط ولا تجاوز قط.

فيُري الإيمانُ المؤمنَ أن كل شيء ينال قبسًا من تجليات جمال الله وإتقان صنعته سبحانه، ويمنحه قوة معنوية عظيمة بما يفتح له من نماذج للسعادة الأبدية.

وهكذا فإن ما يعانيه أهل الضلال من الآلام الرهيبة الناشئة من فقدان الإيمان، وما يلازمهم من خوف ورعب شديدين، تقف إزاءه جميعُ أنواع الرقي البشري عاجزةً لا تمنح له سلوانًا ولا عزاءً، بل لا يمكنها أن تضمن له قوة معنوية، فتتحطم الجرأة والإقدام.. إلّا ما تخدعه الغفلة من إسدال ستار النسيان عليها.

أما أهل الإيمان فلا تُرهبهم تلك الحادثات ولا تأخذ من معنوياتهم؛ وذلك بفضل الإيمان (مثل ذلك الصبي) بل تزيد معنوياتهم صلابة، إذ ينظرون إليها -أي إلى الحوادث- من خلال حقيقةِ إيمانهم فيشاهدون إرادة الصانع الحكيم وإدارته وتدبيره إياها ضمن حكمته الواسعة، فيتحررون من المخاوف والأوهام، إذ يعلمون أنه: لولا أمرُ الصانع الحكيم وإذنه لما استطاعت هذه العوالم السيارة الحركةَ قط، فينالون بهذا اطمئنانًا يسعدهم في الدنيا كذلك، كل حسب درجته.

ومن لم يكن في قلبه ووجدانه بذرة هذه الحقيقة النابعة من الإيمان والدين الحق، ولم يستند إلى ركيزة، فمثله كمثل ذينك البطلين المشهورين، إذ تنهار قواه المعنوية بمثل تحطّم جسارتهما وبطولتهما، ويكون أسيرَ حادثات الكائنات فيتفسّخ وجدانـه ويصبح كالمتسول الذليـل بإزاء كل حادثة.

نكتفي بهذا القدر لبيان هذه الحقيقة الواسعة حيث بَينّت «رسائلُ النور» بحججها الدامغة أن هذا السر كامنٌ في الإيمان بينما الضلالة تحمل شقاءً وتعاسة في الدنيا أيضًا.

إن الإنسان الذي أحسّ في هذا العصر بحاجته الماسة إلى قوة معنوية وصلابة وثبات وإلى عزاء وسلوان، قد ترك حقائق الإيمان التي هي أعظم ركيزةِ استنادٍ له والتي تَضْمن له القوةَ المعنوية والسلوان والسعادة، واستهواه التغرب فاستَند إلى الضلالة والسفه، فبدلًا من أن يستفيد من الملية الإسلامية أخذ يحطم القوة المعنوية تحطيمًا كاملًا، فأزال عنه السلوان وأوهن صلابته بانسياقه وراء الضلال والسفه والسياسة الكاذبة. ألا ترى أن هذا بعدٌ شاسع عن مصالح الإنسان ومنافعه؟ ألاَ إن الإنسانية ستدرك يومًا -إن بقي لها من العمر بقية- حقيقةَ القرآن، وستعتصم به، وفي مقدمتها المسلمون.

* * *

لقد سأل قسم من النواب المتدينين سعيدًا القديم أوائل عهد الحرية:

إنك تجعل السياسة تابعة للدين في كل شيء، بل تجعلها وسيلة منقادة للشريعة، ولا تقبل الحرية إلّا على أساس الوجه المشروع، بمعنى أنك لا تعترف بالحرية والمشروطية بدون الشريعة، ولأجل هذا جعلوك في صفوف المطالِبين بتطبيق الشريعة في حادثة (31) مارت.

فأجابهم سعيد القديم بالآتي:

أجل، إنه لا سعادة لأمة الإسلام إلاّ بتحقيق حقائق الإسلام، وإلّا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمةُ السعادةَ في الدنيا أو تعيشَ حياة اجتماعية فاضلة إلّا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإلّا فلا عدالة قطعًا، ولا أمان مطلقًا؛ إذ تتغلب عندئذٍ الأخلاقُ الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقًا بيد الكذابين والمرائين.

سأعرض لكم ما يثبت هذه الحقيقة في حكاية أُورِدُها نموذجًا مصغرًا من بين آلاف الحجج.

سافر شخص إلى قوم من البدو في صحراء، فنزل ضيفًا عند رجل فاضل.. لَاحَظَ أنهم لا يهتمون بحرز أموالهم. وقد ألقى صاحبُ المنزل نقودَه في زوايا البيت مكشوفةً دون تحفّظ. قال الضيف لصاحب المنزل:

ألا تخافون من السرقة؟ تلقون أموالكم هكذا في الزوايا دون تحرز؟

أجابه: لا تقع السرقة فينا!

– إننا نضع نقودنا في صناديق حديد مقفلة، ومع ذلك كثيرًا ما تقع فينا السرقة.

– إننا نقطع يد السارق كما أمر به الله تعالى وعلى وفق ما تتطلبه عدالة الشريعة.

– فإذن كثيرون منكم قد حرموا من إحدى أيديهم!

– ما رأيت إلّا قطع يد واحدة، وقد بلغتُ الخمسين من العمر.

– إن في بلادنا يسجن يوميًا ما يقارب الخمسين من الناس بسبب السرقة، ومع ذلك لا يردعهم ذلك إلّا بواحد من ألف مما تردعه عدالتكم!

– لقد أهملتم حقيقة عظيمة وغفلتم عن سرّ عجيب عريق، لذا تُحرمون من حقيقة العدالة؛ إذ بدلًا من المصلحة الإنسانية تتدخل فيكم الأغراض الشخصية والمحسوبيات والتحيز وما إلى ذلك من الأمور التي تغيّر طبيعة الأحكام وتحرّفها.

وحكمة تلك الحقيقة هي: أن السارق فينا في اللحظة التي يمد يده للسرقة يتذكر إجراء الحدّ الشرعي عليه، ويخطر بباله أنه أمر إلهي نازل من العرش الأعظم، فكأنه يسمع بخاصية الإيمان بأُذن قلبه ويشعر حقيقةً بالكلام الأزلي الذي يقول: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُٓوا اَيْدِيَهُمَا (المائدة:38) فيهيج عنده ما يحمله من إيمان وعقيدة، وتثار مشاعره النبيلة، فتحصل له حالة روحية أشبه ما يكون بهجوم يُشن من أطراف الوجدان وأعماقه على ميل السرقة، فيتشتت ذلك الميل الناشئ من النفس الأمارة بالسوء والهوى، وينسحب وينكمش، وهكذا بتوالي التذكير هذا يزول ذلك الميل إلى السرقة، إذ الذي يهاجم ذلك الميل ليس الوهم والفكر وحدهما وإنما هو قوى معنوية من عقل وقلب ووجدان، كلها تهاجم دفعة واحدة ذلك الميل والهوى فبتذكر الحد الشرعي يقف تجاه ذلك الميل زجرٌ سماوي ورادع وجداني فيسكتانه.

أجل، إن الإيمان يقيم دائمًا في القلب والعقل حارسًا معنويًا أمينًا، لذا كلما صدرت ميول فاسدة عن تطلعات النفس والنوازع والأحاسيس المادية قال لها ذلك الحارس الرادع: «محظور.. ممنوع..» فيطردها ويهزمها.

إن أفعال الإنسان إنما تصدر عن تمايلات القلب والمشاعر وهي تنبعث من شدة تحسس الروح وحاجتها، والروحُ إنما تهتز بنور الإيمان، فإن كان خيرًا يفعله الإنسان، وإلّا يحاول الانسحاب، وعندئذٍ لا تغلبه النوازع والأحاسيس المادية التي لا ترى العقبى!

الحاصل:

إن «الحد» أو «العقاب» عندما يقام امتثالًا للأمر الإلهي والعدل الرباني فإن الروح والعقل والوجدان واللطائف المندرجة في ماهية الإنسان تتأثر به وترتبط به، فلأجل هذا المعنى أفادتنا إقامةُ حد واحد طوال خمسين سنة أكثر من سجنكم في كل يوم! ذلك لأن عقوباتكم التي تُجْرونها باسم العدالة لا يبلغ تأثيرها إلّا في وهمكم وخيالكم، إذ عندما يقوم أحدكم بالسرقة يَرِد إلى خياله العقابُ الذي ما وضع إلّا لأجل مصلحة الأمة والبلاد ويقول: إن الناس لو عَرفوا بأني سارق فسينظرون إليّ نظرةَ ازدراءٍ وعتاب، وإذا تبين الأمر ضدّي ربما تزجّني الحكومة في السجن.. وعند ذلك لا تتأثرُ إلّا قوته الواهمة تأثرًا جزئيًا، بينما يتغلب عليه الميل الشديد إلى السرقة والنابعُ من النفس الأمارة والأحاسيس المادية -لاسيما إن كان محتاجًا- فلا ينفعه عقابكم لإنقاذه من ذلك العمل السيء. ثم لأنه ليس امتثالًا للأمر الإلهي فليس هو بعدالة، بل باطل وفاسد بطلانَ الصّلاة بلا وضوء وبلا توجّه إلى القبلة، أي إن العدالة الحقة والعقاب الرادع إنما يكون إذا أُجريت امتثالًا للأمر الإلهي وإلّا فإن تأثير العقاب يكون ضيئلًا جدًا.

فإذا قستَ على هذه المسألة الجزئية في السرقة سائرَ الأحكام الإلهية تدرك أن السـعادة البشرية في الدنيـا مرتهـنـة بإجراء العدالة، ولا تنفذ العـدالـة إلّا كما بيّنها القرآن الكريم.

(انتهت خلاصة الحكاية).

ولقد أُخطر على القلب أنه إذا لم يفق الإنسان من غفلته بسرعة، ولم يسترشد بعقله، ويفتح أبواب المحاكم لتنفيذ عدالة الله ضمن حقائق الإسلام، فستنفلق على رأسه قيامات مادية ومعنوية ويسلّم السلاح إلى الفوضويين والإرهابيين ومَن هم أمثال يأجوج ومأجوج!

وهكذا فلقد حكى «سعيد القديم» هذه الحكايةَ لقسم من النواب المتدينين، وأُدرجت قبل خمسة وأربعين عامًا في ذيل الخطبة الشامية العربية التي طبعت طبعتين في أسبوع واحد.

والآن فهذه الحكاية والتمثيل الأول، إنما هما درسان يستفيد منهما النواب المتدينون الأفاضل في الوقت الحاضر أكثر من سابقيهم، فنبيّنهما لهم درسًا من دروس العبرة.([1])

سعيد النُّورْسِيّ


[1] لقد رجونا من أستاذنا أن يدرّسنا في غضون يومين الخطبةَ الشامية المطبوعة بالعربية، لعدم إتقاننا العربية، فتفضلَ علينا بشرحها، ونحن بدورنا دوّنّا ما قرره علينا، وكان الأستاذ يكرر بعض الجمل ويعيدها كي يرسخها في أذهاننا، ولما كنا قد وجدنا المثال والحكاية الأخيرة واضحة، فقد أبرزناها مقدمًا إلى الطلاب الجامعيين والنواب المتدينين، ذلك لأن الأستاذ عندما استهل الدرس قال:

    «إنني أضعكم أمامي بدلًا من المعلمين في ذلك القطار، وأضع النواب المتدينين حقًا بدلًا من النواب المتدينين الذين سألوني عن الشريعة قبل خمسة وأربعين عامًا، هكذا أتصور الأمر وأتكلم في ضوئه.

    فنحن نبين ما في هذه الرسالة من معانٍ أولًا لأهل المعرفة والتربية والنواب المتدينين، وإذا شاؤوا نبين لهم الدروس التي أخذناها من الأستاذ لدى شرحه الخطبة لنا. وإذا ارتأوا نطبعها وننشرها.

    كنا نودّ أن نأخذ درسًا حول السياسة الإسلامية الدائرة في العالم الإسلامي، ولكن لأن الأستاذ قد ترك السياسة منذ خمس وثلاثين سنة، فإن هذه الخطبة -التي تمس السياسة- إنما هي درس من دروس «سعيد القديم».

طلاب النور

طاهرى، زبير، بايرام، جيلان، صونغور، عبدالله، ضياء، صادق، صالح، حسني، حمزة.

نص الخطبة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نقدم أولًا ما يقدمه كلُّ ذي روح بلسان حال حياته من هدايا معنوية إلى خالقه، وما يقدمه كلٌّ منهم من الحمد والشكر بلسان حاله إلى ذلك الواجب الوجود الذي قال:
﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ (الزمر:53)، ونصلي ونسلّم صلاةً وسلامًا لا منتهى لهما على نبيّنا محمد المصطفى عليه الصلاة والسلام، الذي قال: «إنما بعثتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق» أي: إنما بعثني الله إلى الناس لتتميم الخصال الحميدة وإنقاذ البشرية من الطباع الذميمة.

أما بعد!

فيا إخواني العرب الذين يستمعون إلى هذا الدرس في هذا الجامع الأموي؛ إنني ما صعدت هذا المنبر وإلى هذا المقام الذي هو فوق حدي لأرشدكم؛ فهذا أمرٌ فوق طوقي، إذ ربما فيكم ما يقارب المئة من العلماء الأفاضل، فمَثلي معكم كمثل صبي يذهب إلى المدرسة صباحًا ثم يعود في المساء ليعرض ما تَعلّمه على أبيه، ابتغاء تصحيح أخطائه والتلطّف في تصويبه وإرشاده.

فشأننا معكم شأن الصبيان مع الكبار، فنحن تلامذة بالنسبة إليكم وأنتم أساتذة لنا ولسائر أمة الإسلام. وها أنذا أعرض بعض ما تعلمتُه على أساتذتي:

لقد تعلمت الدروس في مدرسة الحياة الاجتماعية البشرية، وعلمتُ في هذا الزمان والمكان أن هناك ستة أمراض جعلتنا نقـف على أعتاب القرون الوسطى في الوقت الذي طار فيه الأجانب -وخاصة الأوربيين- نحو المستقبل.

وتلك الأمراض هي:

أولًا: حياة اليأس الذي يجد فينا أسبابه وبعثه.

ثانيًا: موت الصدق في حياتنا الاجتماعية والسياسية.

ثالثًا: حبّ العداوة.

رابعًا: الجهل بالروابط النورانية التي تربط المؤمنين بعضهم ببعض.

خامسًا: سريان الاستبداد سريانَ الأمراض المُعدية المتنوعة.

سادسًا: حصر الهمة في المنفعة الشخصية.

ولمعالجة هذه الأمراض الستة الفتّاكة، أبيّن ما اقتبستُه من فيض صيدلية القرآن الحكيم -الذي هو بمثابة كلية الطب في حياتنا الاجتماعية- أبيّنها بست كلمات، إذ لا أعرف أسلوبًا للمعالجة سواها.

الكلمة الأولى: «الأمل»

أي: شدة الاعتماد على الرحمة الإلهية والثقة بها.

نعم، إنه بناءً على ما تعلمته من دروس الحياة، يسرّني أن أزفّ إليكم البشرى يا معشر المسلمين، بأنه قد أَزِفَ بزوغُ أمارات الفجر الصادق ودنا شروقُ شمس سعادة عالم الإسلام الدنيوية وبخاصة سعادة العثمانيين، ولاسيما سعادة العرب الذين يتوقّف تقدمُ العالم الإسلامي ورقيُّه على تيقظهم وانتباههم، فإنني أعلن بقوة وجزم، بحيث أُسمِعُ الدنيا كلها وأنفُ اليأس والقنوط راغم:([1])

أن المستقبل سيكون للإسلام، وللإسلام وحده، وأن الحكم لن يكون إلّا لحقائق القرآن والإيمان. لذا فعلينا الرضا بالقدر الإلهي وبما قسّمه الله لنا؛ إذ لنا مستقبل زاهر، وللأجانب ماضٍ مشوش مختلط.

فهذه دعواي، لي عليها براهين عدة، سأذكر واحدًا ونصفًا فقط منها، بعد أن أمهّد لها ببعض المقدمات.

أما المقدمات فهي:

أن حقائق الإسلام تمتاز باستعدادها استعدادًا كاملًا لدفع أهلها إلى مراقي التقدم المادي والمعنوي معًا.

أما أنه مستعد للرقي المعنوي:

فاعلموا أن التاريخ الذي يسجل الوقائع الحقيقية، أَصدقُ شاهد على حقيقة الأحداث؛ فها هو التاريخ يرينا.. أن القائد الياباني الذي هزم الروس يدلي بالشهادة الآتية في صدد عظمة الإسلام وحقانيته: «إنه بنسبة قوة الحقائق الإسلامية وبنسبة التزام المسلمين تلك الحقائق، يزدادون رقيًا وتقدمًا، هكذا يرينا التاريخ. ويرينا أيضًا أنه بقدر ضعف تمسكهم بتلك الحقائق يصابون بالتوحش والتخلف والاضمحلال والوقوع في ألوان من الهرج والمرج والاضطرابات، ويُغلَبون على أمرهم». أما سائر الأديان الأخرى فالأمر فيها على عكس الإسلام، أي: بقدر ضعف تمسّك أتباعها وضعف تعصبهم وصلابتهم في دينهم يزدادون رقيًا وتقدمًا، وعلى قدر تعصبهم وتمسكهم بدينهم يتعرّضون للانحطاط والاضطرابات.

هذا هو حكم التاريخ.. وهكذا مَرَّ الزمانُ إلى الآن.

وما أرانا التاريخ قط منذ خير القرون والعصر السعيد إلى الآن أن مسلمًا قد ترك دينه مرجِّحًا عليه -بالمحاكمة العقلية والدليل اليقيني- دينًا آخر، على حين أن كثيرًا من أتباع الأديان الأخرى -حتى المتعصبين منهم، كالروس القدامى والإنكليز- قد رجّحوا بالمحاكمة والدليل العقلي دين الإسلام على أديانهم فدخلوا في الإسلام. ولا عبرة هنا بتقليد العوام الذي لا يستند إلى دليل، كما لا عبرة بالمروق عن الدين والخروج على حقائقه، فهذه مسألة أخرى. علمًا أن التاريخ يفيدنا بأن عدد من يدينون بالإسلام -بالمحاكمة العقلية- جماعاتٍ وأفواجًا يزداد يومًا بعد يوم.([2])

ولو أننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم أخـلاق الإسلام وكمال حقائـق الإيمان، لدخل أتباع الأديان الأخرى في الإسلام جماعاتٍ وأفواجًا، بل لربما رضخت دول العالم وقاراته للإسلام.

إن البشرية التي أخذت تصحو وتتيقّظ بنتائج العلوم والفنون الحديثة أدركت كنه الإنسانية وماهيتها، وتيقّنت أنه لا يمكنها أن تعيش هملًا بغير دين، بل حتى أشد الناس إلحادًا وتنكرًا للدين مضطر إلى أن يلجأ إلى الدين في آخر المطاف؛ لأن: «نقطة استناد» البشر عند مهاجمة المصائب والأعداء من الخارج والداخل، مع عجزه وقلّة حيلته، وكذا «نقطة استمداده» لآماله غير المحدودة الممتدة إلى الأبد مع فقره وفاقته، ليس إلّا «معرفةَ الصانع» والإيمان به والتصديق بالآخرة… فلا سبيل للبشرية المتيقّظة إلى الخلاص سوى الإقرار
بكل ذلك.

وما لم يوجد في صَدَفة القلب جوهر الدين الحق، فسوف تقوم قيامات مادية ومعنوية على رأس البشر، وسيكون أشقى الحيوانات وأذلّها.

خلاصة الكلام: لقد تيقّظ الإنسان في عصرنا هذا، بفضل العلوم والفنون ونُذُرِ الحروب والأحداث المذهلة، وَشَعَر بقيمة جوهر الإنسانية واستعدادها الجامع، وأدرك أن الإنسان باستعداده الاجتماعي العجيب لم يُخلق لقضاء هذه الحياة المتقلّبة القصيرة، بل خُلق للأبد والخلود، بدليل آماله الممتدة إلى الأبد، وأن كل إنسان بدأ يشعر -حسب استعداده- أن هذه الدنيا الفانية الضيقة لا تسع لتلك الآمال والرغبات غير المحدودة، حتى إذا قيل لقوّة الخيال التي تخدم الإنسانية: «لك أن تعمَّري مليون سنة مع سلطنة الدنيا، نظيرَ قبولك موتًا أبديًا لا حياة بعده إطلاقًا»، فلابد أن خيال ذلك الإنسان المتيقّظ الذي لم يفقد إنسانيته سيتأوه كَمَدًا وحزنًا -بدلًا من أن يفرح ويستبشر- لفقده السعادة الأبدية.

وهذا هو السر في ظهور ميل شديد إلى التحري عن الدين الحق في أعماق كل إنسان، فهو يبحث قبل كل شيء عن حقيقة الدين الحق لتنقذه من الموت الأبدي. ووضعُ العالم الحاضر خير شاهد على هذه الحقيقة.

لقد بدأت قارات العالم ودوله -بعد مرور خمسة وأربعين عامًا وبظهور الإلحاد- تدرك إدراكَ كل فردٍ هذه الحاجة البشرية الشديدة.

ثم إن أوائل أكثر الآيات القرآنية وخواتمها، تحيل الإنسان إلى العقل قائلة: راجعْ عقلَك وفكرك أيها الإنسان وشاورهما، حتى يتبينَ لك صدق هذه الحقيقة؛ فانظروا مثلًا إلى قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُٓوا.. ﴿فَاعْلَمْ.. ﴿اَفَلَا يَعْقِلُونَ.. ﴿اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا .. ﴿اَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ.. ﴿اَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ.. ﴿فَاعْتَبِرُوا يَٓا اُو۬لِي الْاَبْصَارِ .وأمثالِها من الآيات التي تخاطب العقل البشري، فهي تسأل: لِمَ تتركون العلم وتختارون طريق الجهل؟ لِمَ تعصُبون عيونَكم وتتعامَوْن عن رؤية الحق؟ ما الذي حملكم على الجنون وأنتم عقلاء؟ أي شيء منعكم من التفكر والتدبّر في أحداث الحياة، فلا تعتبرون ولا تهتدون إلى الطريق المستقيم؟ لماذا لا تتأملون ولا تحكّمون عقولكم لئلا تضلوا؟.

ثم تقول: أيها الناس انتبهوا واعتبروا! أنقذوا أنفسكم من بلايا معنوية تنزل بكم، باتعاظكم من القرون الخوالي.

يا إخواني الذين يضمّهم هذا الجامع الأموي، ويا إخواني في جامع العالم الإسلامي! اعتبروا أنتم أيضًا! وقيّموا الأمور في ضوء الأحداث الجسام التي مرت خلال السنوات الخمس والأربعين الماضية، كونوا راشدين، يا من يعدّون أنفسهم من أولي الفكر والعلم.

نحصل مما سبق: نحن معاشر المسلمين خدام القرآن نتّبع البرهان، ونقبل بعقلنا وفكرنا وقلبنا حقائقَ الإيمان، لسنا كمن ترك التقلد بالبرهان تقليدًا للرهبان كما هو دأب أتباع سائر الأديان!

وعلى هذا فإن المستقبل الذي لا حكمَ فيه إلّا للعقل والعلم، سوف يسوده حكم القرآن الذي تستند أحكامُه إلى العقل والمنطق والبرهان.

وها قد أَخَذَت الحجبُ التي كانت تكسف شمس الإسلام تنزاح وتنقشع، وأخذت تلك الموانع بالانكماش والانسحاب، ولقد بدأت تباشير ذلك الفجر منذ خمس وأربعين سنة، وها قد بزغ فجرها الصادق سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف أو هو على وشك البزوغ، وحتى إن كان هذا الفجر فجرًا كاذبًا فسيطلع الفجر الصادق بعد ثلاثين أو أربعين عامًا إن شاء الله.

نعم، فلقد حالت ثمانية موانع دون استيلاء حقائق الإسلام على الزمان الماضي استيلاءً تامًا وهي:

المانع الأول والثاني والثالث:

جهل الأجانب،

وتأخرهم عن عصرهم (أي بُعدهم عن الحضارة)،

وتعصبهم لدينهم…

فهذه الموانع الثلاثة بدأت تزول بفضل التقدم العلمي ومحاسن المدنية.

المانع الرابع والخامس:

تحكّم القسيسين وسيطرةُ الزعماء الروحانيين على أفكار الناس وأذهانهم،

وتقليد الأجانب لأولئك القسيسين تقليدًا أعمى.

فهذان المانعان أيضًا يأخذان بالزوال بعد انتشار حرية الفكر وميل النوع البشري إلى البحث عن الحقائق.

المانع السادس والسابع:

تفشي روح الاستبداد فينا،

وانتشار الأخلاق الذميمة النابعة من مجافاة الشريعة ومخالفتها.

فإن زوال قوة استبداد الفرد الآن يشير إلى زوال استبداد الجماعة والمنظمات الرهيبة بعد ثلاثين أو أربعين سنة. ثم إن فوران الحمية الإسلامية والوقوف على النتائج الوخيمة للأخلاق الذميمة كفيلان برفع هذين المانعين بل هما على وشك أن يُرفعا، وسيزولان زوالًا تامًا إن شاء الله.


[1] لقد أخبر «سعيد القديم» بإحساس مسبق منذ خمسة وأربعين عامًا بأن العالم الإسلامي -وفي مقدمته الدول العربية- سينجو من سيطرة الأجانب وتحكّمهم، وسيشكلون دولًا إسلامية سنة1371. ولم يفكر آنذاك في الحربين العالميتين ولا في الاستبداد المطلق الذي دام ما يقارب أربعين عامًا، فبشّر بما كان سنة 1371 وكأنه 1327 دون أن يأخذ سبب التأخير بنظر الاعتبار. (المؤلف).

[2] والدليل على هذه الدعوى هو أنه مع قيام حربين عالميتين رهيبتين، وظهورِ استبداد مطلق قاسٍ نجد أنه بعد خمس وأربعين سنة:

  1. قبول بعض الدول الصغيرة كالسويد والنرويج وفنلندا تدريس القرآن في مدارسها، ليكون سدًا منيعًا أمام الشيوعية والإلحاد.
  2. قبول عدد من الخطباء الإنكليز المشهورين بإقناع الإنكليز وحملهم على قبول القرآن.
  3. موالاة أكبر دول المعمورة في الوقت الحاضر-وهي أمريكا- لحقائق الدين بكل قواها، واعترافها بأن آسيا وإفريقيا ستجدان السعادة والأمن والسلام في ظل الإسلام. فضلًا عن تعاطفها مع دول إسلامية حديثة الولادة ومحاولتها الاتفاق معها.. كل ذلك يُثبت صدق هذه الدعوى التي قيلت قبل خمس وأربعين سنة، وشاهد قوي عليها.(المؤلف).

نهج رسائل النور في التبليغ

نهج رسائل النور في التبليغ

«يسجَّل هنا جوابٌ مهمٌ عن سؤال في غاية الأهمية، إذ يذكر «سعيد القديم» بإحساسٍ مسبّق، في درسه ذاك الذي ألقاه قبل أربعين سنة دروسَ رسائل النور الخارقة وتأثيراتها، وكأنه يراها».

لقد سألني الكثيرون وسألوا بعض إخواني النوريين، ومازالوا يسألون:

لماذا لا تُهزم «رسائل النور» أمام هذا الحشد الغفير من المعارضين والفلاسفة المُتعنّتين وأرباب الضلال؟ فعلى الرغم من إقامتهم سدًا منيعًا -إلى حدٍ ما- ليحول دون انتشار ملايين الكتب الإيمانية والإسلامية القيمة.. وعلى الرغم من حرمانهم الكثيرَ من الناس، ولا سيما الشباب الأبرياء من حقائق الإيمان بتسهيل سُبُل السفاهة لهم وإغرائهم بملذّات الحياة الدنيا.. وعلى الرغم من محاولتهم كسر شوكة رسائل النور بشتى وسائل الغدر وأساليب الهجوم العنيف واختلاق الأكاذيب وإشاعة الدعايات الزائفة وتخويف الناس منها وحملهم على التخلي عنها.. وعلى الرغم من ذلك فقد انتشرت رسائل النور. فما الحكمة من انتشارها انتشارًا لم يَسبِق له مثيل، حتى بلغ ما نُسخ من معظمها باليد فقط ستمائة ألف نسخة، وهي تحظى بانتشار واسع ويتلقاها الناس بشوق بالغ، في الخفاء، وتستقرئ نفسها في داخل البلاد وخارجها بكمال المسرّة والمحبة؟.

فجوابًا عن أسئلة كثيرة تَرِدُ بهذا المعنى نقول:

الجواب:

إن رسائل النور التي هي تفسير حقيقي للقرآن الكريم، ببيان إعجاز معانيه الجليلة، تُبَيِّنُ أن في الضلالة جحيمًا معنويًا في هذه الدنيا، كما تُثْبِتُ أن في الإيمان نعيمًا معنويًا في الدنيا أيضًا. وهي تبرهن أن في المعاصي والفساد والمُتع المحرّمة آلامًا معنوية مبرّحة، كما أن في الحسنات والخصال الحميدة والعمل بالحقائق الشرعية لذائذَ معنوية أشبه ما تكون بملذات الجنة.

فهي بهذا الأسلوب تنقذ مَن كان له مسكة من عقل من أهل السفاهة وأرباب الضلال من التمادي في غيّهم، ذلك لأن في عصرنا هذا حالتين رهيبتين:

أولاها:

أن نوازع الإنسان وأحاسيسه المادية لا ترى العقبى، فَتُفَضِّلُ درهمًا من لذّةٍ عاجلة على قنطار من لذات آجلة، هذه الأحاسيس قد طغت -في هذا العصر- على عقل الإنسان وسيطرت على فكره؛ لذا فالسبيل الوحيد لإنقاذ السفيه من سفهه، هو الكشف عن ألَمه في لذته نفسها، ومساعدتُه على التغلب على أحاسيسه تلك؛ إذ المرء في زماننا هذا، مع علمه بلذائذ الآخرة ونعيمها الثمين كالألماس يفضّل عليها مُتعًا دنيوية تافهة أشبه ما تكون بقطع زجاجية قابلة للكسر! كما تشير إليها الآية الكريمة: ﴿يَسْتَحِبُّونَ الْحَيٰوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْاٰخِرَةِ (إبراهيم:3). وبناء على هذا ولشدة حبّه للدنيا تراه ينساق وراء أرباب الضلالة ويَتبعهم بعد أن كان من أهل الإيمان.

والسبيل الوحيد لإنقاذه من خطر الانسياق هذا، هو إظهارُ آلام جهنم وعذابها في الدنيا أيضًا.

وهذا هو النهج الذي تسير عليه رسائل النور.

إن ما في عصرنا الحاضر من تعنّت الإلحاد، وصدود الضلالات الناجمة من طغيان العلوم الحديثة وغرورها والإعراض الناشئ من اعتياد السفه والغي، قد جَعلت نسبةَ مَن يتّعظ واحدًا من مجموع عشرة أشخاص، أو ربما واحدًا من عشرين شخصًا، بعد أن يُعرَّف له الخالقُ جلّ جلالُه ويُثْبَتَ له وجود جهنم ويخوَّف من عذابها ليتجنب الشرور والسيئات، ثم تراه يقول: «إن الله غفور رحيم.. إن جهنم بعيدة جدًا!.» ثم قد يستمر في لَهوه وعبثه، فينهزم قلبُه وتنهار روحُه أمام طغيان شهواته.

وهكذا فإن «رسائل النور» تبين العواقب الوخيمة الأليمة التي تترتب على الكفر والضلال في هذه الدنيا، في معظم الموازنات التي تعقدها، فتنفِّر أشدَّ الناس اتباعًا لهواهم وأكثرهم تعنّتًا وعنادًا، من الخوض في متعهم المحرّمة وسفاهتهم المشؤومة، وتدفع بالعقلاء منهم إلى طَرقِ باب التوبة والاستغفار.

وعلى سبيل المثال: الموازناتُ المبسطة التي تتضمنها الكلمات: السادسة، والسابعة، والثامنة من «الكلمات الصغيرة»، والموازنة المطوّلة التي يتضمنها الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين… هذه الموازنات تَحْمِل أشد الناس سفاهة وضلالة على الرهبة والرعب، وعلى قبول إرشادها والاتعاظ بها.

ومثلًا: نشير هنا باختصار إلى ما رآه (أي سعيد القديم) من حقائق في إثناء تجوالٍ خيالي من خلال التدبر في آية «النور». وتفصيله في «القسم الخامس من المكتوب التاسع والعشرين من مجموعة المكتوبات» فمن شاء فليراجعه. والخلاصة هي:

أنني في أثناء سياحتي الخيالية تلك، رأيت عالمَ الحيـوان، ذلك العالم المحتاج إلى الـرزق والتقوّت. وعندما تأملته من وجهة نظر الفلسـفـة المادية، أَظْهَرَ لي -ذلك العالَمَ من الأحياء- عالمًا رهيبًا مؤلمًا؛ بما فيه من ضعف وعجز فضلًا عن مسيس احتياجه وشدة جوعه!

ولما كنت أنظر إليه بعين أهل الضلال والغفلة أطلقتُ صرخةً ملؤها الألم والحزن، وإذا بي أرى ذلك العالم بمنظار الإيمان وحكمة القرآن، فإذا باسم «الرحمن» يشرق من برج «الرزاق» كشمسٍ ساطعة، فأنار ذلك العالمَ الجائع البائس من الأحياء وأسبغ عليه نور رحمته.

ثم رأيت عالَمًا آخر في عالم الحيوان هذا، ذلك هو عالَم الأفراخ الصغار التي تنتفض ضعفًا وعجزًا وعَوزًا، وقد تغشاه ظلام محزن أليم، يدعو كل إنسان إلى الإشفاق عليه. ولما كنت أنظر بعين أهل الضلالة، صِحْتُ قائلًا: واحسرتاه! وإذا بالإيمان يمنحني نظّارة، شاهدتُ من خلالها: طلوعَ اسم «الرحيم» من برج «الشفقة»، ينشر أضواءه الزاهية الجميلة، حتى حَوَّلَ ذلك العالمَ المحزن إلى عالم بهيج، وقَلَبَ عبرات الشكوى والألم والحزن المنهمرة من عينيّ إلى دموع الفرح والشكر والامتنان.

ثم تراءى لي عالم الإنسان كشاشة سينمائية، فأنعمتُ النظر فيه بمنظار أهل الضلالة، وإذا به عالم مظلم مرعب.. لم أتمالك معه نفسي فأطلقتُ صرخةَ ألمٍ من أعماق قلبي قائلًا: وا أسفاه! ذلك لأن آمال الناس وأمانيهم الممتدة إلى الأبد، وتصوراتهم وأفكارهم المحيطة بالكون، وتطلعاتهم الجادة واستعداداتهم الفطرية التواقة إلى الخلود والجنة والسعادة الأبدية، وقواهم الطليقةَ غير المحددة فطريًا، واحتياجاتِهم المتوجهة إلى غاياتٍ ومقاصدَ لا منتهى لها، وتعرضَهم -مع ضعفهم وعجزهم- لهجماتِ ما لا يحصى من المصائب والأعداء.. مع كل هذا، لهم عمرٌ جدّ قصير، ويحيون حياةً ملؤها الصخب والقلق، يذوقون مرارة الموت كل يوم بل كل ساعة، يقاسون ضنك المعيشة في حياتهم، ويتجرعون آلام الفراق والزوال التي هي أوجع للقلب وأثقل على الوجدان، فضلًا عن أنهم ينظرون إلى القبر والمقبرة نظرَ أهلِ الغفلة وكأنه باب إلى ظلام سرمدي، يُرمَون في غياهبه فردًا فردًا وطائفة إثر طائفة!

وهكذا.. ففي الوقت الذي رأيت عالم الإنسان هذا غارقًا في مثل هذه الظلمات وإذ أنا على وشك الصراخ من أعماق قلبي وروحي وعقلي، بل بجميع مشاعري بل بجميع ذرات وجودي، إذا بالنور المنبعث من القرآن والإيمان الراسخ الناشئ منه، يحطّم ذلك المنظار المضلّ، ويهب لعقلي بصرًا نافذًا أرى به الأسماء الإلهية الحسنى وقد أشرقتْ كالشمس الساطعة من بروجها؛ فاسم الله «العادل» رأيته بازغًا من برج «الحكيم»، واسم «الرحمن» من برج «الكريم»، واسم «الرحيم» من برج «الغفور» (أي بمعناه)، واسم «الباعث» من برج «الوارث»، واسم «المحيي» من برج «المحسن»، واسم «الرب» من برج «المالك»… فأضاءت هذه الأسماءُ بنورها الباهر عوالمَ كثيرة داخل عالم الإنسان المظلم، وحوّلَتها إلى عوالم مشرقة بهيجة، كما بددتْ تلك الحالاتِ الجهنّميةَ بما فَتحتْ من نوافذ إلى عالم الآخرة، حتى نثرت الأنوارَ إلى جميع جوانب ذلك العالم البائس للإنسان. فقلتُ: «الحمد لله.. الشكر لله.. بعدد ذرات العالم»، ورأيت بعين اليقين وعلمتُ علم اليقين: «أن في الإيمان حقًّا جنةً معنوية، وأن في الضلال جحيمًا معنويًا أيضًا في هذه الدنيا ذاتها».

ثم ظهر في تلك الجولة عالمُ كرة الأرض، فعكستْ القوانينُ العلميةُ المظلمة بالفلسفة غيرُ المنقادة للدين، إلى خيالي عالمًا في منتهى الغرابة والدهشة؛ إذ تأملتُ هذه الأرض التي تزيد سرعةُ حركتها على سرعةِ طلقةِ المدفع بسبعين مرة، وتقطع مسافةَ خمسةٍ وعشرين ألف سنة في سنة واحدة، وهي مع شيخوختها وهرمها معرضةٌ للتشتت والتحطّم في كل لحظة، وتحمل في باطنها زلازلَ مخيفةً، وعلى ظهرها هذا الإنسانَ البائس الذي تجوب به أجواء الفضاء غير المحدود.. فأشفقتُ على وضع هذا الإنسانَ وسط هذا الظلام الدامس الموحش المخيم عليه، ودار رأسي من هولِ ما رأيتُ وأظلمتِ الدنيا أمام عيني، فطرحتُ نظارةَ الفلسفة أرضًا وحطمتها كليًا، ونظرتُ إلى الأمر ببصيرة وضّاءة بحكمة القرآن، وإذا بأسماء خالق الأرض والسموات: القدير، العليم، الرب، الله، ربّ السموات والأرض ومسخر الشمس والقمر، قد أشرقت من بروج الرحمة والعظمة والربوبية شروقَ الشمس، فغمرتْ ذلك العالمَ الحالك الموحش المذهل بنور زاهٍ باهر جعلني أُبصِر بعينيّ المؤمنتين هاتين: أن الكرة الأرضية في غاية الانتظام والتسخير والتكامل مع الإنسان، وهي في أمان وسلام، فيها رزق كل مَن يدبّ عليها، كأنها سفينة سياحية مهيأة للتنزّه والراحة والاستجمام والتجارة. تتجول بما عليها من مخلوقات، حول الشمس في مملكة ربانية واسعة، وهي مشحونة بالرزق كأنها قطار أو سفينة أو طائرة مشحونة في الربيع والصيف والخريف… فقلت وقتئذٍ: «الحمد لله على نعمة الإيمان بعدد ما في الأرض من ذرات».

وفي ضوء هذا المثال تستطيع أن تقيس كثيرًا من الموازنات الأخرى التي تتضمنها «رسائل النور» والتي تُثبِت: أن أرباب السفاهة والضلال يذوقون في الدنيا نفسِها عذابًا جهنميًا معنويًا، كما أن أهل الصلاح والإيمان يعيشون في جنة معنوية في هذه الدنيا، وبإمكانهم أن يتذوقوا طعوم لذائذ تلك الجنة المعنوية بحواسهم ولطائفهم الإسلامية والإنسانية وبتجليات الإيمان وجلواته، بل يمكنهم الاستفادة من تلك اللذات حسب تفاوت درجاتهم الإيمانية.

بيد أن طبيعة هذا العصر العاصف الذي تَسُود فيه التيارات المعطِّلة للمشاعر، والصارفة لأنظار البشرية إلى الآفاق الخاوية والغرق فيها، قد أوجدتْ صعقةً من النوع الذي يعطّل الإحساس، لذا فإن أرباب الضلال لا يَشعرون -مؤقتًا- بعذابهم المعنوي، وأن أهل الهداية بدورهم قد داهمتهم الغفلة فلا يستطيعون أن يقـدّروا لـذّة الإيمان الحقيقية حق قدرها.

الحالة الرهيبة الثانية لعصرنا الحالي:

أن أنواع الضلالة الناشئة من الإلحاد والعلوم الطبيعية، والتمرد المتولد من الكفر العنادي في الماضي، لَيُعتَبران من الضآلة بحيث لا يُذكَران إذا ما قيسا بما عليه الوضع في وقتنا الراهن، لذا فقد كانت أدلّة علماء الإسلام ودراساتهم كافية لسدّ حاجات عصرهم، إذ كان كفر عصرهم مبنيًّا على الشك، فكانوا يزيلونه بسرعة؛ حيث كان الإيمان بالله يَسُود أوساطَ الناس، وكان من اليسير إرشادُ الكثيرين إلى طريق الهداية والصراط السوي، وإنقاذُهم من السفاهة والضلال، وذلك بالتذكير بالله سبحانه والتخويفِ من عذابه فكان الكثيرون يتخلَّون عن غيهم.

أما اليوم فقد تغير الحال، إذ بينما كان يوجد -في الماضي- ملحد واحد في بلد، يمكن العثور الآن على مائة كافر في قصبة واحدة. وقد زاد عدد الذين يضلون بسبب افتتانهم بالعلوم والفنون الحديثة ويقفون بعناد وتمرّد في وجه حقائق الإيمان أضعافَ أضعافِ الماضي بمائة مرة. ولما كان هؤلاء المعاندون يعارضون الحقائق الإيمانية بغرور فرعوني وبتضليلات رهيبة، فلا مناص من أن يجابَهوا بحقائق قدسية في قوة القنبلة الذرية، لِتحطّم مبادئهم وأسسَهم في هذه الدنيا وتوقف زحفهم وتجاوزهم، بل تحملَ قسمًا منهم على التسليم والإيمان.

فنحن نحمد الله أجزل الحمد ونشكره شكرًا لا منتهى له على أن «رسائل النور» قد أصبحت ترياقًا شافيًا لجروح عصرنا الدامية ومعجزة معنوية من معجزات القرآن الحكيم، ولمعة من لمعاته، فلقد استطاعت بموازناتها العديدة أن تحارب أشد المعاندين المتعنتين بسيف القرآن الألماسي، وتنصب الحجج وتقيم الأدلّة على الوحدانية الإلهية وحقائقِ الإيمان بعدد ذرات الكون.

ولعل هذا السرّ هو الذي جعلها لا تُغلَب ولا تنهزم منذ خمسة وعشرين عامًا، في وجه أشد الحملات شراسة، بل كانت هي الغالبة على الدوام.

نعم، إن موازنات الكفر والإيمان، ومقايسات الهداية والضلال التي تشتمل عليها «رسائل النور»، تُثبت بالمشاهدة هذه الحقيقةَ المذكورة. فالذي يطالع براهينَ ولمعاتِ «الكلمة الثانية والعشرين» -بمقامَيْها- مثلًا، أو يجيل النظر في الموقف الأول من «الكلمة الثانية والثلاثين»، أو يقرأ نوافذ «المكتوب الثالث والثلاثين»، أو يتصفّح الحجج الإحدى عشرة من مجموعة «عصا موسى»، وإذا ما قاس سائر الموازنات والمقايسات الأخرى على ما ذكرناه، يدرك جيدًا: أن حقائق القرآن المتجلية في «رسائل النور» هي التي تستطيع قطع دابر الإلحاد وعناد أهل الضلال المتمرد في زماننا هذا واستئصالَ شأفتهما.

وكما قد تتجمع الشذرات التي تميط اللثام عن وجه مُعَمَّيَات حقائق خلق العالم وأهم دقائق أسرار الدين في مجموعة «أسرار قرآنية (الطلاسم)» فأملي بالله عظيم أن تتجمّع كذلك تلك الأجزاءُ المتناثرة التي تُثبت -بالأدلة والبراهين- أن أهل الضلالة يعيشون في جهنم في هذه الدنيا وأن أهل الهداية يذوقون لذائذ الجنة في هذه الدنيا أيضًا.. وأن الإيمان بذرة معنوية من بذور الجنة، والكفر نواة من نوى زقّوم جهنم. وآمُلُ أن تجتمع تلك الأجزاء من «رسائل النور» في مجموعة موجزة وتنشر بعون الله وتوفيقه.

 سعيد النُّورْسِيّ

مقدمة المؤلف

مقدّمة الخطبة الشامية للمؤلف

باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدًا دائمًا.

إخواني الأعزاء الأوفياء!

هذه الرسالة العربية قد أُلقيتْ درسًا في الجامع الأموي بدمشق قبل أربعين عامًا، وذلك بناءً على إصرار العلماء هناك، واستمَعَ إليها ما يَقرب من عشرة آلاف شخص، بينهم ما لا يقل عن مائة من كبار علماء الشام.

إن الحقائق الواردة فيها، قد أحسَّ بها «سعيد القديم» بإحساس مسبَق، فزفّها بشائر عظيمة بيقين جازم، ظنًا منه أن تلك الحقائق وشيكة التحقق، بيد أن الحربين العُظميين، والاستبدادَ المطلق الذي استمر ربع قرن من الزمان،([1]) قد أدّيا إلى تأخر تحقق تلك الحقائق أربعين أو خمسين عامًا.

والآن قد بدأت تباشير تحقق ما أخبر عنه تلوحُ في أفق العالم الإسلامي، بمعنى أن هذا الدرس المهم ليس مجرد خطبة قديمة، قد عفا عليها الزمن، بل هو درس اجتماعي إسلامي، يحتفظ بكامل جدّته وطراوته وحقيقته طوال هذه الفترة… وكلُّ الذي حدث هو أن عام 1327هـ قد أصبح عام 1371هـ وأن الجامع الأموي قد حل محلّه جامع العالم الإسلامي الذي يضم ثلاث مائة وسبعين مليون نسمة.([2])

إن درسًا كهذا جدير الآن بالترجمة على ما أعتقد.

سعيد النُّورْسِيّ


 

[1] أي منذ انتهاء الخلافة العثمانية سنة 1923م إلى سنة 1950 م.

[2] تعداد المسلمين آنذاك.

مقدمة المترجم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بين يدي هذه الرسالة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه،

وبعد؛

فقد ألقى الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ، وهو في شرخ الشباب هذه الخطبة باللغة العربية في الجامع الأموي بدمشق، برجاءٍ من علماء الشام وإلحاحهم، وحضرها جمهور غفير من الناس يَربون على عشرة آلاف شخص، فاستمعوا إليها بلهفة وشوق، حتى إن الخطبة لما طُبعت لأول مرة نفدتْ نسخها في غضون أيام قليلة فأُعيد طبعها خلال أسبوع واحد.

كان ذلك في شتاء سنة 1911م، أي قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. ثم توالت أيام الحرب الدامية، وانتهت بأُفول نجم الدولة العثمانية، وبدأت بعدها أيامُ محَنٍ توالت على الأستاذ النُّورْسِيّ بسلسلة اعتقالاته ونفيه ومحاكماته التي دامت حتى سنة 1950م.

فطوال هذه السنين العجاف لم يتسنَّ له مراجعة هذه الخطبة، بل حتى إنه لم يرها، إلى أن أَرسل إليه في سنة 1951م أحد أصدقائه من مدينة «وان» نسخة مطبوعةً منها.

كان الأستاذ النُّورْسِيّ عند ذاك في منفاه في «أميرداغ» فأعاد النظر في خطبته التي ألقاها قبل أربعين سنة، وبدأ بترجمتها إلى التركية، أو بالأحرى بتنقيحها وصياغتها مجددًا، إذ ضمَّ إليها فقرات مهمة وهوامش قيّمة([1]) وحذف منها ما يحدد شموليتها، وأحال بعض مسائلها إلى أجزاء رسائل النور، ثم درّسها لقسمٍ من طلابه.

قام الملا عبد المجيد «شقيق الأستاذ النُّورْسِيّ» بترجمة هذا النص التركي إلى العربية -بتوصية من المؤلف نفسه- حسب أسلوبه، ونُشرتْ بالاستنساخ اليدوي في أوساط ضيقة، إذ كانت الطباعة محظورة بالحروف العربية آنذاك.

وفي بداية الستينات تناول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي ترجمة الملا عبدالمجيد هذه، وصاغها بأسلوبه العذب. ونُشرتْ منها طبعات كثيرة في حينه.([2])

ولكن لما كانت الترجمة العربية هي في الأصل غير كاملة وغير مستوعبة للموضوع، فقد جاءت تلك الصياغة الجميلة -مع الأسف- ينقصها الكثير من الفقرات المهمة والمسائل الجليلة التي تمس الأحداث، فضلًا عن أن الصياغة اقتصرت على الخطبة وحدها دون ذيولها ولواحقها.

ثم تناول الأستاذ عاصم الحسيني (رحمه الله رحمة واسعة) النصَّ التركي بالترجمة إلى العربية، فأجاد أسلوبًا وأداءً للمعنى، وقام طلاب النور بطبعها في المطبعة البولسية ببيروت سنة 1974م.

ما قمت به في هذه الرسالة:

قابلتُ ترجمة الأخ عاصم بالنص التركي فتوصلت إلى الآتي:

1- إنها ترجمة قيّمة لا ترقى إليها ترجمة أخرى، سواء في الأداء أو السبك الرصين للجمل، وهي تكاد تكون مطابقة لمتن الخطبة بالنص التركي، إلّا في بعض الجمل أو أجزاءٍ من فقرات.

2- بيد أن الأخ الكريم لم تتح له الفرصة -كما يبدو- لإكمال ترجمته، فلم يترجِم ذيول الخطبة كاملة، إذ المقالات التي كتبها الأستاذ النُّورْسِيّ في الصحف المحلية في عهد الاتحاديين وألحقها بالنص التركي، ذاتُ أهمية في إعطاء الصورة الكاملة والواضحة للأحوال السياسية والاجتماعية وكذا التيارات الفكرية التي كان يموج بها المجتمع وقتئذٍ.

3- ولأجل هذا كله، رأيت لزامًا عليّ القيام بترجمة النص التركي للخطبة مجددًا، مع ذيولها ولواحقها كاملة، ليلمس القارئ الكريم بنفسه أبعاد المسائل التي يطرقها الأستاذ النُّورْسِيّ، ويطّلعَ عليها من جميع جوانبها.

ولقد انتهجت أثناء الترجمة والمقابلة على النص التركي والعربي، الخطوات الآتية:

1- اعتبار النص التركي الذي صاغه الأستاذ النُّورْسِيّ بنفسه هو الأساس، مع ذيوله ولواحقه. وهو النص نفسه الـذي وضـعـه الأستاذ ضمـن مبـاحث كتاب (Tarihçe-i Hayat) أي «تاريخ الحياة» الذي قام بتأليفه طلابُه المقرّبون وأقرّه بنفسه وطُبع في حياته. والنسخة التي اعتمدتُ عليها من الخطبة هي من منشورات «دار سوزلر» في إسطنبول سنة 1979م.

2- مقابلة كل فقرة في النص التركي بالنسخة العربية لنص الخطبة المطبوعة في إسطنبول -لأول مرة- سنة 1922م في مطبعة الأوقاف الإسلامية. علمًا أن هذا النص الأول العربي لم تبق له إلّا أهميته التاريخية حيث نقّحه المؤلف بنفسه كما ذكرنا.

3- الاكتفاء بترجمة الأخ عاصم الموافِقة للنص التركي مع إجراء ما يلزم من تغييرات في الفقرات والجمل ليقرّبها أكثر إلى معنى النص التركي وليفي بمراد المؤلف، مع إكمال الجمل أو الفقرات الناقصة فيها.

4- ترجمة الذيول بكاملها والمقالات الملحقة بها.

5- وضع هوامش ضرورية للقارئ الكريم لإيضاح ما يستغلق عليه من مصطلحات سياسية وتاريخية كانت معروفة ومتداولة في حينها.

6- استخراج الآيات الكريمة من القرآن الكريم ووضع اسم السورة ورقم الآية.

7- تخريج الأحاديث الشريفة اعتمادًا على الكتب الموثوقة.

والله نسأل أن يوفقنا لحسن القصد، وصحة الفهم، وصواب القول وسداد العمل…

وصلّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إحسان قاسم الصالحي

المحرم الحرام 1409


[1] ذُيلت هوامش المؤلف بـ«المؤلف»، وحصرت العبارات العربية التي وردت في النص التركي بين قوسين مركنين [ ].

[2] طبعت الطبعة الأولى منها في مطبعة بركات بدمشق.

خطاب إلى الحرية

خطاب إلى الحرية

أيتها الحرية الشرعية!

إنكِ تنادين بصوت هادر، ولكنه رخيم يحمل بشارة سارة، توقظين بها كرديًا بدويًا مثلي نائمًا تحت طبقات الغفلة، ولولاكِ لظللتُ أنا والأمة جميعًا في سجن الأسر والقيد. إنني أُبشرك بعمر خالد؛ فإذا ما اتّخذتِ الشريعةَ التي هي عين الحياة، منبعًا للحياة، وترعرعتِ في تلك الجنة الوارفة البهيجة، فإنني أزف بشرى سارة أيضًا بأن هذه الأمة المظلومة ستترقى ألف درجة عما كانت عليه في سابق عهدها. وإذا ما اتخذتك الأمة مرشدة لها، ولم تلوّنك بالمآرب الشخصية وحب الثأر والانتقام، فقد أخرَجَنا إذن مَن له العظمة والمنة من قبر الوحشة والاستبداد، ودعانا إلى جنة الاتحاد والمحبة.

فيا رب ما أسعد هذه القيامة والنشور! وما أجمل هذا الحشر العظيم المصوّر لنا حقيقة «البعث بعد الموت» في هذا الزمان، يصورها تصويرًا مصغرًا، وذلك كالآتي:

لقد دبّت الحياة في المدنية القديمة المدفونة في زوايا آسيا وروم إيلي. والذين يتحرون نفعهم في ضرر العامة، ويتمنون الاستبداد، بدأوا يقولون: ﴿يَا لَيْتَني كُنْتُ تُرَابًا (النبأ:40).

إن حكومتنا الجديدة، حكومة المشروطية، قد ولدت أشبه ما يكون بالمعجزة، لذا سننال في غضون سنة واحدة بإذن الله سر من يكلم الناس في المهد صبيًا.

إن ثلاثين سنة قضيناها صائمين عن الكلام متجملين بالصبر والتوكل على الله، سننال ثوابه بانفتاح أبواب جنة الرقي، أبواب المدنية التي لا عذاب فيها.

إن القانون الشرعي الذي هو براعة الاستهلال لحاكمية الأمة، شبيه بخازن الجنة، يدعونا إلى الدخول فيها.. فهيا يا إخوة الوطن لنذهب معًا، وندخلْها معًا، فإن بابها الأول: اتحاد القلوب. والثاني: محبة الأمة. والثالث: المعارف. والرابع: السعي الإنساني. والخامس: ترك السفاهة. وأحيلُ إلى أذهانكم بقيةَ الأبواب. علمًا أن إجابة الدعوة واجب شرعي.

ولأن فاتحة هذا الانقلاب العظيم بدأت أشبه بالمعجزة، فإن ذلك فأل حسن بأن تكون خاتمته أيضًا حسنة. وكالآتي:

إن هذا الانقلاب سيكسر أغلال الفكر البشري الثقيلة، وسيهدم السدود المانعة للرقي، وينجي الحكومة من ورطة الموت، ويظهر جوهر الإنسانية ويحررها مرسِلًا إياها إلى كعبة الكمالات.

نعم، إن هذا الفأل الحسن يبشرنا بأن خاتمة هذا الانقلاب ستكون بانقشاع ذلك السحاب المتراكم القاتم، بالرغبة العامة لدى الناس، وبشعورهم بالضرر المادي لسيئات المدنية الملوّنة بألوان السفاهات والإسرافات والملذات غير المشروعة.. وغيرها من الأمور التي دفعت دولة المدنية إلى الانقراض كانقراض الحكومة المستبدة. وعندها ستشرق شمس الشريعة وقمر المدنية في جو السماء الصافي بأسطع ما يكون، فتُنَوران آسيا وروم إيلي، وستنمو بذور الاستعدادات والقابليات بهطول أمطار الحرية، فتتزين عندئذ الأرض بأوهى حللها الملونة.

نعم، إنه معجزة نبوية وعناية إلهيةٌ للأمة المظلومة، وكرامة النية الخالصة للمجتمع كافة.

إن هذا الاتحاد، اتحادُ القلوب والمحبة الموجهة للأمة كافة،وهي معدن السعادة والحرية، قد أنعم بها المولى الكريم علينا مجانًا، بينما الأمم الأخرى قد ظفروا بها بعد دفع الملايين من جواهر النفوس الغالية.

إن صدى الحرية والعدالة ينفخ نفخ إسرافيل فيبعث الحياة في مشاعرنا المدنية وآمالنا الخامدة ورغباتنا القومية الرفيعة وأخلاقنا الإسلامية الحميدة، حتى يرن صماخ الكرة الأرضية المجذوبة جذبة المولوي، ويهيج الأمة جميعًا ويهزها هزّ المجذوب.

وإياكم يا إخوان الوطن أن تقضوا عليها بالموت مرة أخرى بالسفاهات والإهمال في الدين.

إن القانون الأساسـي المؤسس على هذه الشريعة الغراء قـد أصـبـح ملك الموت لقبض أرواح جميع الأفكار الفاسدة والأخلاق الرذيلة والدسـائس الشـيطانية والتزلفات الدنيئة. فيا إخوة الوطن! لا تعيدوا الحياة لتلك الرذائل بالإسرافات ومخالفة الشريعة والملذات المحرمة.

فلقد كنا إذن في القبر، وبليت عظامنا، والآن دخلنا في رحم الأم باتحاد الأمة والمشروطية.

إن مائة ونيفًا من السنين التي تأخرنا فيها عن مضمار الرقي والتقدم سنتجاوزها بإذن الله تعالى، بمعجزة نبوية، مستقلين -عملًا- قطار القانون الأساسي الشرعي وممتطين -فكرًا- بُراق الشورى الشرعية.

وسنكون في صف الأمم المتمدنة، بطيّنا هذا الزمان القاصر الشبيه بالصحراء الكبرى الموحشة. بل نتسابق معهم حيث إنهم درجوا على ركوب العربات التي تجرها الثيران، بينما نحن -بتكامل الوسائل التي يتوقف عليها العلم- سنَرْكَب مباشرةً القطارَ والمنطاد، فنسبقهم بفراسخ وفراسخ، وذلك بما تسهل لنا هضمَ تلك الوسائل حقيقةُ الإسلام الجامعة للأخلاق الإسلامية، والاستعدادُ الفطري الكامن فينا، وفيضُ الإيمان الذي نحمله، وشدةُ الجوع التي نشعر بها، فنسبقهم بإذنه تعالى كما كنا سابقين لهم في الماضي.

إنني أذكّركم بما يأتي بفضل ما أناطت بي مهمة الطالب من وظيفة، وبشهادة التخرج مِن سِلك الحرية:

يا أبناء الوطن! لا تفسروا الحرية تفسيرًا سيئًا كي لا تفلت من أيديكم، ولا يخنقونا بسقي الاستعباد السابق الفاسد في إناء آخر (حاشية) نعم، لقد سقونا عبودية مسمومة جدًا باستبداد أرهب وأشد (المؤلف). ذلك لأن الحرية إنما تزدهر بمراعاة الأحكام الشرعية وآدابها والتخلق بالأخلاق الفاضلة.

والبرهان الباهر على هذا الادعاء هو ما كان يرفل به عهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من الحرية والعدالة والمساواة على الرغم من الوحشية السائدة والتحكم المقيت.

وبخلافه فإن تفسير الحرية والعملَ بها على أنها التحرر من القيود والانغمارُ في السفاهات والملذات غير المشروعة والبذخِ والإسراف، وتجاوزُ الحدود في كل شيء اتباعًا لهوى النفس.. مماثلٌ لمن يتحرر من أسر سلطان واحد ويدخل في استبداد حقراء سافلين كثيرين. فضلًا عن أن هذا النمط من الحرية يُظهر أن الأمة غير راشدة ومازالت في عهد الصباوة وليست أهلًا للحرية. فهي سفيهة إذن تستحق الحجر عليها، بالرجوع إلى الاستبداد السابق البائد.

إن عدم الأهلية للحرية الشرعية الحديثة الباهرة الواسعة يؤدي إلى مرض وبيل يتعرض له اتحاد الأمة العظيم فتتعرض الأمة إلى حالات فاسدة متعفنة.

بينما تفسير أهل التقوى والوجدان ليس على هذا النمط، ومذهبهم يخالف هذا التفسير؛ فنحن الأمة العثمانية نتصف بالرجولة، فلا تليق بقامة استعداد أمتنا البطلة فساتينُ النساء المزركشةُ بالسفاهة والهوى والإسراف.

وبناء على ما سبق لا ينبغي أن ننخدع، بل علينا أن نجعل القاعدة الآتية دستور عمل لنا وهي: «خذ ما صفا دع ما كَدِر»، وفي ضوئها سنأخذ من الأجانب -مشكورين- كلَّ ما يُعينُ على الرقي المدني من علوم وصناعات. أما العادات والأخلاق السيئة، فهي ذنوب المدنية ومساوئها التي لا يتبين قبحها كثيرًا لكونها محاطة بمحاسن المدنية الكثيرة.

فنحن لـو أخذنا منهم المدنية -بسـوء حـظـنـا وسوء اختيارنـا- بما يـوافـق الهوى والشهوات -كالأطفال- تاركين محاسـنها التي تحتاج إلى بذل الجهد للحصول عليها، نكون موضع سخرية كالمخانيث أو كالمترجّلات، فإذا لبست المرأة ثياب الرجل ولبس الرجل ثياب المرأة يكون كل منهما موضع سخرية واستهزاء. ألا لا ينبغي أن نتجمل بمساحيق التجميل.

حاصل الكلام: سنمنع بسيف الشريعة مساوئ المدنية وذنوبها من الدخول إلى حدود حريتنا ومدنيتنا حفاظًا على فتوة مدنيتنا وشبابها بزُلالِ عين حياة الشريعة.

ينبغي لنا الاقتداء باليابانيين في المدنية، لأنهم حافظوا على تقاليدهم القومية التي هي قوام بقائهم وأخذوا بمحاسن المدنية من أوروبا. وحيث إن عاداتنا القومية ناشئة من الإسلام وتزدهر به فالضرورة تقتضي الاعتصام بالإسلام.

يا أبناء الوطن الغيارى!

إن منتسبي الجمعية الملية قد فتحوا لنا طريق السعادة بتضحية أرواحهم، فعلينا أن نعينهم بترك بعض لذائذنا، حيث إننا نجلس معًا على مائدة تلك النعمة.

إن أصحاب الأفكار الفاسدة، يريدون الاستبداد والمظالم تحت ستار الحرية، فلأجل إلّا نشاهد مرة أخرى تلك الاستبدادات التي دُفنت في حُفَر الماضي ولا تلك المظالمَ التي جرت في سيل الزمان، أريد أن أقيم سدًا حديديًا بين الماضي والحاضر وذلك بإيضاح تاريخ حياة الحرية، وهو كالآتي:

إن هذا الانقلاب لو أعطى الحريةَ -التي أنجبها- أحضان الشـورى الشرعية لتربيها فستُبعث أمجاد الماضي لهذه الأمة قوية حاكمةً؛ بينما لو صادفت تلك الحريةُ الأغراضَ الشخصية، فستنقلب إلى استبداد مطلق، فتموت تلك المولودة في مهدها.

لقد وُلِدت الحرية في الوقت المناسب، فتحتاج تنشئتها إلى ظروف وأحوال فطرية وليست إلى افتعالِ ظروف تحتاج إلى مشاق.

إن الحمية الإسلامية التي عانت سابقًا كثيرًا من الضوائق والبؤس، وهي ليست مستحقة لها، قد فارت فورانًا عظيمًا بحيث اكتملت الحرية في ذلك الرحم. فحالما يحين وقت الولادة وتظهر إلى الوجود ستعلن هيمنتها، فلا يتمكن أيّ شيء من التصدي لها وزلزلتِها، حيث إنها ستتأسس على أسس رصينة -كعرش بلقيس- على حقائق خمس تلك هي:

الحقيقة الأولى:

أن في الكل من القوة ما ليس لكلٍ، كقوة الحبل المتين الناشئة من خيوط رفعية دقيقة، أو كحكومتنا الحديثة المتبنية لأفكار الرأي العام وحكومتنا السابقة.

أيتها الأمة! نحن الآن ذلك الحبل المتين، فمن أضعفها بالأغراض الشخصية والآراء الفردية فقد جنى جناية لا تغتفر، حيث جنى على حقوق الأمة جميعًا.

الحقيقة الثانية:

أن السلطة المستندة إلى القوة والإكراه كانت هي الحاكمة في سالف الأزمان وهي محكومة بالتدني والانقراض، حيث إنها حصيلة الجهل والوحشية. فأية دولة جرت في عروقها دماءُ السلطة المستبدة فإن سطور صحائفِ تاريخِها تنعق نعيق البوم بالانقراض.

بينما في زمن المدنية فإن العلم والمعرفة هما السلطة الحاكمة على العالم، وحيث إن مولّدها هي المدنية ومن شأنها الزيادة وعمرها أبدي، لذا لو كانت مثل هذه السلطة الحاكمة مدبّرة لشؤون أية دولة كانت فإنها تنجي تلك الحكومة من قيد العمر الطبيعي وأجل الانقراض، فتدوم حياتها بدوام الأرض. وكتابُ أوروبا وصحائفها تعلن هذا بجلاء.

وإذا قيل: لقد كان بالإمكان إدارة الحكومة الضعيفة السابقة من قبل أشخاص اعتياديين، فيا ترى هل تثمر الأناضول وروم إيلي رجالًا دهاة خارقين يحملون على أكتافهم هذه الحكومة التي نعقد عليها الآمال؟

نقول جوابًا على هذا السؤال: نعم، إن لم يحدث انقلاب آخر.

والآن أنعم النظر في:

الحقيقة الثالثة:

كان الإنسان في السابق يتحرك في ميدان محدود وضيق جدًا، رغم استعداداته غير المتناهية، حتى إنه كان يعيش عيش حيوان مع كونه إنسانًا. لذا تدنت أفكاره وضاقت أخلاقه بنسبة محدودية تلك الدائرة.

فإذا ما عاشت الآن هذه الحرية الشرعية العادلة ولم تفسد، فستنكسر أغلال فكر الإنسان، وتتحطم الموانع الموضوعة أمام استعداده للرقي، فتتوسع ميدان حركته سعة الدنيا كلها. حتى إن قرويًا مثلي يستطيع أن ينظر إلى إدارة الدولة التي هي في أوج العلا كالثريا، ويربط نوى الأماني والاستعدادات هناك. وحيث إن كل فعل وطور يصدر يلقى صداه هناك، لذا ستتعالى همته كالثريا وتتكامل أخلاقه بالدرجة نفسها، وتتوسع أفكاره بقدر سعة الممالك العثمانية، وسيَسبق بإذن الله الأفذاذَ من أمثال أفلاطون وابن سينا وبسمارك وديكارت والتفتازاني.

نحن على أمل عظيم أن تثمر مزرعةُ الأناضول وروم إيلي شبانًا غيارى؛ فلا جرم أن الممالك العثمانية محلُّ ظهور الأنبياء، ومهد الدول الحضارية، ومشرق شمس الإسلام؛ فإذا ما نمت هذه الاستعدادات المغروزة في الإنسانية بغيث الحرية، فإنها تتحول إلى شجرة طوبى من الأفكار النيرة وتمتد أغصانها إلى كل جهة، وسيجعل الشرق مَشْرِقًا للغرب، إن لم تفسد وتنخر بالكسل والأغراض الشخصية.

الحقيقة الرابعة:

إن الشريعة الغراء تمضي إلى الأبد لأنها آتية من الكلام الأزلي. والبرهانُ الباهر عليه هو أن الشريعة تتوسع وتنمو نموَّ الكائن الحي أي بنسبة نمو استعداد الإنسان وتَشَرُّبه من نتائج تلاحق الأفكار وتَغذِّيه عليها، ذلك الاستعداد الذي يمثل ميل الرقي الذي هو غصن من أغصان شجرة استكمال العلم.

فالحرية والعدالة والمساواة التي كانت يترفل بها خيرُ القرون والخلفاء الأربعة، ولاسيما في ذلك الوقت، دليل على أن الشريعة الغراء جامعة لجميع روابط المساواة والعدالة والحرية الحقة؛ فآثار سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما وصلاح الدين الأيوبي دليل وأي دليل على هذا الادعاء.

ومن هنا فإني أقرر:

أن سبب تأخرنا وتدنينا وسوء أحوالنا إلى الآن ناتج مما يأتي:

1- عدم مراعاة أحكام الشريعة الغراء.

2- تصرفات بعض المداهنين تصرفًا عفويًا.

3- التعصب المقيت في غير محله سواء لدى عالم جاهل، أو جاهل عالم!

4- تقليد مساوئ المدنية الأوروبية تقليدًا ببغائيًا -بسوء حظنا أو سوء اختيارنا- مما ولّد تَرْكَنا لمحاسن المدنية التي تُستحصل بمشكلات ومصاعب.

فلو قام الموظفون خير قيام بوظائفهم وسعى الآخرون حسب الظروف المحيطة وما يتطلبه الزمان الحاضر، فلن يجد أحد متسعًا من الوقت للسفاهة. ولو انهمك أي منهما بها فلا يكون إلّا جرثومة خطرة في جسم المجتمع.

الحقيقة الخامسة:

إن فكر أفراد قليلين كان كافيًا لإدارة الدولة حيث الروابط الاجتماعية والضرورات المعاشية والمستلزمات الحضارية لم تكن كثيرة ومتشعبة، ولكن في الوقت الحاضر فقد كثرت الروابط الاجتماعية وتعددت الضروريات المعاشية وتزايدت الزخارف الحضارية إلى حد كبير، بما لا يمكن أن تَحمل تلك الدولةَ وتديرَها وتربيها إلّا مجلسُ نواب في حكم قلب الأمة ينبض بنبضها، والشورى الشرعيةُ التي هي في مقام فكر الأمة وعقلها، وحريةُ الأفكار التي هي بمنزلة سيف الدولة وقوتها. ومثال هذه الحقيقة هو الحكومة المستبدة السابقة وحكومة المشروطية الحاضرة.

وأذكّر أمورًا ثلاثة بناء على الوظيفة التي أناطتها إياي الحقيقةُ الثالثة وبشهادة تخرّج الحرية:

الأول:

كما أن الجسم محالٌ أن تتحلل إلى ذرات دفعةً واحدة كذلك تشكُّلُه من ذرات دفعة واحدة وبصورة فجائية محال أيضًا. لذا فإن فصل الموظفين السابقين من جسم الدولة ووضعَ آخرين جدد في مواضعهم متعذر وإن لم يكن محالًا. علمًا أن الدولة ستنبذ الموظفين الذين ينطوون على خبث دفين لا يمكن إصلاحه، بينما باب التوبة مفتوح لمن يمكن إصلاحه ما لم تطلع الشمس من مغربها. فهؤلاء يجب الاستفادة من تجاربهم، إذ إشغالُ مواضعهم الوظيفية يحتاج إلى أربعين سنة أخرى. وإلّا فإن إطالة اللسان بالسوء إلى الجميع وإهانتَهم يجعل هذا الاتحاد، اتحادَ الأمة العظيم، معرّضًا لوباء وبيل من أفكار فاسدة وأخلاق سيئة.

الثاني:

لقد نشأتُ في جبال الشرق فكنت أتخيل مركز الخلافة في هالة جميلة، ولكن ما إن أتيته قبل حوالي ثمانية أشهر حتى شاهدت أن إسطنبول شبيهة برجل متوحش لبس ملابس إنسان مدني، وذلك لما فيها من تنافر القلوب واستيحاش الأفراد بعضهم بعضًا. والآن يقدّم ذلك الشخص المدني نفسه لنا وهو بملابس نصف مدنية ونصف وحشية، وذلك بسبب اتحاد الأمة.

كنت سابقًا أحسب أن فساد الشرق نابع من تعرض عضوٍ منه للمرض، ولكن لما شاهدت إسطنبول المريضة وجسست نبضها، وشرّحتها، أدركت أن المرض هو في القلب، وسرى منه إلى جميع الجهات. فحاولت علاجه، ولكن أُكرمت بصفة الجنون!

وقد شاهدت أيضًا: أن الإسلام الذي يشكل المدنية الحقيقية قد تأخر عن المدنية الحاضرة ماديًا، فكأن الإسلام قد استاء من سوء أخلاقنا فمضى راجعًا إلى الماضي ليشكونا إلى خير القرون.

إن من أهم أسباب تأخرنا في مضمار المدنية بعد الاستبداد، هو تباين الأفكار واختلاف المشارب لدى منتسبي ثلاث شُعب كبيرة، يُعدّون مرشدين عموميين للجميع، وهم منتسبو المدارس الحديثة والمدارس الدينية والتكايا والذين يمثلون مصداق قول الشاعر:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

إن تباين الأفكار هذا قد هزّ أساس الأخلاق الإسلامية وفرّق اتحاد الأمة، وأخّرنا عن ركب الحضارة، لأن أحدهم يكفّر الآخر ويضلله، بينما الآخر يَعدّ الأول جاهلًا لا يوثق به. وهكذا ساد الإفراط والتفريط. وعلاج هذا الداء هو الصلح النابع من توحيد الأفكار، وربطُ العلاقات ووصلُها حتى يوصل إلى نقطة الاعتدال، فيتصافحَ الجميع، ويتفقوا جميعًا لئلا يُخلّوا بنظام الرقي.

الثالث:

إنني استمعت إلى الوعاظ. فلم تؤثر فيّ نصائحهم ووعظهم. فتأملت في السبب، فرأيت أنه فضلًا عن قساوة قلبي هناك ثلاثة أسباب:

1- إنهم يتناسون الفرق بين الحاضر والماضي فيبالغون كثيرًا في تصوير دعاويهم محاولين تزويقها دون إيراد الأدلة الكافية التي لا بد منها للتأثير وإقناع الباحث عن الحقيقة، فالزمن الحاضر أكثر حاجة إلى إيراد الأدلة.

2- إنهم عند ترغيبهم بأمرٍ ما وترهيبهم منه يُسقطون قيمة ما هو أهم منه، فيفقدون بذلك المحافظة على الموازنة الدقيقة الموجودة في الشريعة، أي لا يميزون بين المهم والأهم.

3- إن مطابقة الكلام لمقتضى الحال هي أرقى أنواع البلاغة، فلا بد أن يكون الكلام موافقًا لحاجات العصر. إلّا أنهم لا يتكلمون بما يناسب تشخيص علة هذا العصر، وكأنهم يسحبون الناس إلى الزمان الغابر، فيحدثونهم بلسان ذلك الزمان.

فعلى الوعاظ والمرشدين المحترمين أن يكونوا محقِّقين ليتمكنوا من الإثبات والإقناع، وأن يكونوا أيضًا مدققين لئلا يفسدوا توازن الشريعة، وأن يكونوا بلغاء مقنعين كي يوافق كلامهم حاجات العصر. وعليهم أيضًا أن يَزنوا الأمور بموازين الشريعة.

فلتحيا الشريعة الغراء، ولتحيا العدالة الإلهية، وليحيا اتحاد الأمة.

وسحقًا للاختلاف، وحبًا لمحبة الأمة،..

ولتمت الأغراض الشخصية وفكر الانتقام،..

وليعش الجنود الأشاوس الذين هم الشجاعة مجسمة،..

ولتعش الجيوش التي تمثل عظمة الدولة…

ولتدم جمعية الأحرار المتدينين وطلاب النور الذين هم العقل النير والتدبير الحكيم.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

خاتمة

خاتمة

أعتقد أن البحث يظل ناقصًا إن لم أوجه بضع كلمات إلى مُواطنيّ وإخواني.

يا أبناء وطني وإخواني! يا أحفاد الجنود الأشاوس لجيوش آسيا البسلاء للقرون الماضية، كفاكم نومًا لخمسمائة سنة. تيقظوا فلقد أذن الصباح. وإلّا فستنهبكم الغفلة وأنتم تغطون في نوم عميق في صحراء الجهل القاحلة.

إن الحكمة الإلهية التي هي نظام العالم والمؤسِّسة للقانون الإلهي النوراني الساري في أرجاء العالم كله قد رَفعت إصبع القدر منذ الأزل تأمركم: حافِظوا على الموازنة العامة، بتوحيدِ ومزجِ حميتكم وقوتكم الضائعتين بالتفرقة -ضياعَ قطرات الماء المتناثرة- بالفكر الملي، أي الملة الإسلامية، مكوِّنين بذلك جاذبةً وطنية عظيمة من جاذبات الذرات الجزئية. فتنجذب هذه الكتلة العظيمة وتدور كالكوكب المنير في موكب الجماهير المتحدة الإسلامية الممثلة لشوكة شمس الإسلام العظيم.

ثـم إن الحرية الشرعية التي هي حقيقة اجتماعية قـد انتصبت على ذرى المسـتقبل شامخة شموخ جبل سـبحان و آرارات، هذه الحرية المسـتندة إلى الشـريعة تحذركم من الانصياع إلى النفس الأمارة بالسوء ومن التجاوز على الآخرين. وإنها لتهتف بكم وبأمثالكم من الغافلين المتفرقين في أودية الماضي السحيقة: أنْ اهجموا على الجهل والفقر بالعلم والصنعة.

ثم إن الحاجة التي هي أم المدنية وأم الاختراع والرقي قد رفعت يدها لتنزلها عليكم صفعة، فتأمركم: إما أن تعطوا حياة حريتكم في صحراء الجهل هذه إلى الناهبين أو عليكم أن تهرعوا إلى كعبة الكمالات بركوبكم منطاد العلم وقطار الصنعة في ميدان المدنية لاستقبال المستقبل الزاهر مستردين أموال الاتفاق التي اغتصبها الأجنبي.

ثم إن الملية الإسلامية التي نَصبت خيمتها في وديان الماضي وصحارى الحاضر وشـواهق المستقبل واستظل بها أجدادكم من أمثال صلاح الدين الأيوبي وجلال الدين خوارزم شاه والسـلطان سليم وخير الدين بارباروس ورستم زال وما شابههم من القواد الدهـاة الذيـن تشرف كلٌ بمنزلة الآخر فعاشـوا معًا كعائلة واحدة.. هذه الملية الإسلامية وهي مثال الحياة الرفيعة.. تأمركم أمرًا جازمًا:

بأنّ على كل واحد منكم أن يكون مرآة عاكسة للإسلام وحامي ذماره، ومثالًا مشخَّصًا للأمة الإسلامية، إذ الهمة تتعالى بعلو المقصد، والأخلاقُ تتسامى وتتكامل بغليان الحمية الإسلامية.

ثم إن المشروطية المشروعة التي هي سبب من أسباب سعادة البشر الدنيوية نجّت الإرادة الجزئية التي هي القوة الدافعة لماكنة الحياة، من تسلط الاستبداد بضمانها سيادة الأمة. هذه المشروطية التي اختمرت بخميرة الشورى الشرعية تدعوكم إلى الاختبار والامتحان، وتريد أن تراكم أنكم قد بلغتم سن الرشد فلا تحتاجون إلى وصاية، فهيئوا أنفسكم للامتحان. وأثبتوا وجودكم بالاتحاد، وبينوا لها أن فكركم ووجدانكم الشخصيَيْنِ هما كقلب الأمة وعقلها المشترك بالحمية الدينية الملية. وبخلافه ستلغي أمركم ولا تمنحكم شهادة الحرية.

نعم، إن الاضطرابات التي حدثت فيما بينكم في صحارى الماضي من جراء ما يحمله كل منكم من حب السيادة والأنانية والفكر الشخصي ستنقلب -بإذن الله- إلى فكر الإيجاد والسعي الدؤوب ومفهوم الحرية. بل أستطيع أن أقول: يا مواطني في الولايات الشرقية: إن مدارسكم الصاخبة أشبه ما تكون بالبرلمان العلمي لكثرة ما فيها من مناقشات بالنسبة للمدارس الهادئة الأخرى.

ثم أنتم شافعيون، فقراءتكم خلف الأمام، وفطرتكم وأصول مدرستكم تدفعكم إلى السعي والمحاولة الشخصية، كما قال تعالى: ﴿وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى (النجم:39).

ثم إن الجسارة وشرف الأمة الإسلامية وعزتها -وهي أساس كل كمال وحاميه- تأمركم قائلة: مثلما ترقيتم في مضمار الشجاعة المادية بتعلمكم العلوم والمعرفة من كتابات سيوفكم وفتحتم مجرىً من الدماغ إلى القلب مزجًا العقل بالقوة، فافتحوا الآن منفذًا من القلب إلى الفكر، وابعثوا القوة مددًا للعقل، وأرسلوا العواطف ظهيرًا للفكر، لئلا تنهب شرف الأمة الإسلامية في ميدان المدنية. اجعلوا سيوفكم من جواهر العلم والصنعة والتساند الذي يأمركم به القرآن الكريم.

سعيد النُّورْسِيّ

الأسئلة الأحد عشرة ونصف

أيها القواد والضباط!

إن الشهود على هذه الجنايات الإحدى عشرة ونصف الجناية هم ألوف، بل يمكن أن يكون نصفُ أهالي إسطنبول شهودًا على بعض الجنايات.

ولكن أطلب الإجابة عن الأسئلة الأحد عشرة ونصف. فضلًا عن رضايَ بالعقاب النازل بي على تلك الجنايات. ومع هذا فلي حسنة واحدة عوضًا عن هذه السيئات، وسأقولها.

وهي: أنني عارضت شعبة الاتحاد والترقي المستبدة هنا، تلك التي أذهبت شوق الجميع وأطارت نشوتهم وأيقظت عروق النفاق والتحيّز وسببت التفرقة بين الناس وأوجدت الفِرَق والأحزاب القومية، وتسمّت بالمشروطية، بينما مثّلت الاستبداد في الحقيقة، بل حتى لطخت اسم الاتحاد والترقي.

إن لكلٍّ فكرَه، وأنا حرّ في إبداء الفكر. فالصلح العام والعفو العام ورفعُ الامتيازات ضروري، لئلا يتولد النفاق من استخفاف أصحاب الامتياز الآخرين.

وأقول بلا فخر: نحن المسلمين الحقيقيين ننخدع ولكن لا نخدع، ونترفع عن الخداع لأجل حياة دنيوية. لأننا نعلم «إنما الحيلة في ترك الحيل». ولكن لأنني قد عاهدت المشروطية الحقيقية المشروعة سأصفع الاستبداد إن قابلتُه في أي لباس كان، حتى لو كان لابسًا ملابس المشروطية أو تقلّد اسمها. وفي اعتقادي أن أعداء المشروطية هم أولئك الذين يشوّهون صورتها بإظهارها مخالِفة للشريعة وأنها ظالمة، فيُكثرون بهذا أعداءَ الشورى أيضًا. علمًا أن القاعدة هي: «لا تتبدل الحقائق بتبدل الأسماء».

وحيث إن أعظم الخطأ هو ظن المرء أنه لا يخطأ، فإني أعترف بخَطَئِي وهو: أنني أردت نصح الناس قبل أن آخذ بنصيحتهم، وسعيت في إرشاد الآخرين قبل إرشاد نفسي، فهوّنت بهذا شأن الأمر بالمعروف حتى أصبح لا يجدي.

ثم إنه ثابت بالتجربة أن العقاب يأتي نتيجة ذنب، إلّا أنه أحيانًا ينزل العقاب ولمّا يُرتكب ذلك الذنب إلّا أنه أظهر نفسه في صورة ذنب آخر. فذلك الشخص رغم أنه بريء من هذا الذنب إلاّ أنه يستحق العقاب لذنب آخر خفي. فالله سبحانه ينزل به المصيبة فيلقيه في السجن لذنب خفي، فيعدل. بينما الحاكم يظلم لعدم ارتكاب الشخص ذلك الذنب، ولخفاء الذنب الخفي عنه.

فيا أولي الأمر!

كانت لي كرامة وعزة، وكنت أرغب أن أخدم بها الأمة الإسلامية، إلّا أنكم أهنتموها.

وكنت أملك شهرة كاذبة -دون رغبتي- وأُجري نصحي بها إلى العوام، فأفنيتموها مشكورين.

والآن ظلت لدي حياة ضعيفة مللت منها، فليهلكني الله إن صُنتها خوفًا من الإعدام، ولا أكون شريفًا إن لم أقدم على الموت ببشاشة.

إن الحكم عليّ صورةً يورث الحكم عليكم وجدانًا، وهذا لا يضرني بل هو رفعة وشرف لي، ولكنكم تُلحقون الضرر بالأمة، لأنكم تزيلون تأثير نصائحي، فضلًا عن إضراركم بأنفسكم، حيث أكون حجة قاطعة بيد عدوّكم.

فلقد وضعتموني على المحك، تُرى لو وُضعت ما تسمونه بالفرق الخالصة (الأحزاب) على مثل هذا المحك كم سيسلم منهم؟

إن كانت المشروطية تعني مخالفة الشريعة واستبداد جماعة معينة، [فليشهد الثقلان أني مرتجع] .

ذلك لأن الاتحاد القائم على الكذب كذب أيضًا، والمشروطية القائمة على أسس فاسدة ومفسدة مشروطية فاسدة، إذ المشروطية الحقة التي لها الدوام والبقاء هي المشروطية القائمة على الحق وعلى الصدق وعلى المحبة وعلى أساس عدم الامتيازات.

إنني أنبّه إلى هذا وكلي أسف وقلق:

مثلًا: عالم جليل تحجزه صفة العلم عن الفساد، ولكن يُقرن ذكر الفساد الناشئ من تهوره كلما ذكر علمه، ومن ثم تُمسّ صفة العلم بسوء. ألا يومئ هذا إلى العداء للعلم؟ كذلك حينما زَرعت الفرقاء بذور التفرقة والفتن -خلافًا للشريعة- وأطلقت مليونًا من الطلقات عبثًا، وظلت السياسة والنظام العام بيد أفراد اعتياديين وعمّت الفوضى في الأوساط.. وما هدأ ذلك الطوفانَ العارمَ إلّا معجزةُ الشريعة حتى مرّ بسلام من دون إراقة دم. بمعنى أن الاسم السامي للشريعة المطهرة والاتحاد المحمدي أنزل تأثير ذلك الفساد الرهيب من الألف إلى الواحد.

فبينما الأمر هكذا فإن ذكر ذلك الاسم الطاهر (الشريعة)، مقرونًا بأصحاب الفتن وجَعْله تُرسًا لهم هو مسّ لنقطة خطرة جدًا، بل هو تعرض لعقدة الحياة، بحيث يرجف من هوله كل صاحب وجدان سليم وتذهب نفسه حسرات عليه.

إن الذي يستطيع أن يتصور أنه بالإمكان جعل الثريا مكنسة وإطفاؤه بالنفخ، لا يعلن إلّا عن بلاهته!

فلو أن مَلَكًا في جو السماء، في زحل مثلًا، أمسك بيده ميزانًا يزن جبل آرارات وجبل سبحان، وأضيف إلى جبل آرارات وزنٌ بقدر درهم، فالمشاهدون القاصرو النظر عندما يرون نزول كفة آرارات إلى الأرض وصعودَ كفة سبحان إلى السماء، يُسندون الأمر والثقل إلى ذلك الوزن البسيط بقدر درهم!

وهكذا فالكرامة العسكرية والحمية الإسلامية والشريعة المحمدية شبيهة بتلك الجبال الشامخة، أما الأسباب الخارجية فهي بوزن درهم فحسب. فاتّخاذ هذه الأسباب التافهة أساسًا في الأمور دليل على الجهل بشأن الإنسانية والإسلام، بل تهوين بهما.

سوف أقول الحقيقةَ فقط، ولن أجانب الحق أبدًا، ذلك لأن مقام الحق سامٍ ولن أُضحي به لأجل أحد، لذا لن تَصرفني عن ذكر الحق لومة لائم.

إن ما يسمى بحادثة 31 مارت، ذلك الطوفان الرهيب والصاعقة المحرقة، قد هيأت -تحت أسباب اعتيادية- استعدادًا طبيعيًا بحيث ورد -من عند الله- على لسان القائمين بها اسم الشريعةِ المظهرةِ معجزتَها دومًا رغم أن نتائج تلك الحادثة كانت الهرج والمرج.

ولأن اسم الشريعة جعل ذلك الطوفان يمر بسلام فإنه يُدين -أمام الله- تلك الصحفَ التي أَطلقت لسانها بالسوء بعد منتصف نيسان.

فإذا ما أُخذ بنظر الاعتبار الأسبابُ السبعة والأحوال السبع التي أدت إلى تلك الحادثة تظهر الحقيقة بجلاء وهي الآتية:

1- لقد كان تسعون بالمائة من هذه الحركة موجهة ضد الاتحاد والترقي وضد استبدادهم ودكتاتوريتهم.

2- كما كانت ترمي إلى تبديل الوزراء الذين كانوا محل نقاش وجدال بين الفرقاء والأحزاب.

3- إنقاذ السلطان المظلوم من الخلع الذي قد تقرر وصُمّم عليه.

4- منع التعليمات وإنهاء التلقينات التي لا تليق بالآداب العسكرية والدينية.

5- الكشف عن قاتل السيد «حسن فهمي» بعد أن تم تضخيم موضوع اغتياله.

6- تسوية موضوع الضباط «الآلايلي» الذين أُخرجوا من الخدمة العسكرية وإنصافُهم.

7- الوقوف تجاه تعميم مفهوم الحرية على التصرفات السفيهة، أي تحديد معنى الحرية بالآداب الشرعية، ثم القيام بتطبيق الحدود الشرعية التي لا يَفهم العوام منها سوى القصاص وقطع اليد.

بيد أن الأرضية الآسنة كانت مهيأة، والخططَ والمنزلقات كانت جاهزة حتى ذهبت الطاعة العسكرية السامية جدًا ضحية بها.

إن أس أساس الأسباب هو المناقشات العنيفة المتحيّزة للفرقاء وغلوُّ الصحف في المجادلات المبالغِ فيها بالكذب عوضًا عن بلاغة الكلام. وكما أن دوران القرص الملون لا يُظهر إلّا اللون الأبيض فالشريعة الغراء هي التي تجلت من بين هذه المطالب السبعة المذكورة فسدّت طريق الفساد.

الحاصل:

لقد عمت الفوضى والإرهاب في الأوساط بما نشرته الصحف من مقالات محرضة، وشروعِ الفرقاء بتسجيل أسماء الفدائيين، وسيطرةِ الأشخاص الذين قادوا الانقلاب، وسريانِ الحرية المطلقة إلى الجنود بما ينافي الطاعة العسكرية، وتلقينِ بعض المهملين الجنود ما يظنونه مخالفًا للآداب الدينية. وبعد أن انفرط عقد الطاعة زرع المستبدون والمتعصبون الجهلاء -والذين تنقصهم المحاكمة العقلية في الدين- البذورَ في ذلك المستنقع الآسن -بظن الإحسان- وظلت السياسة العامة للدولة بيد الجهلاء وأطلق ما يقارب المليون من الطلقات في الهواء وتدخلت الأيادي الداخلية والخارجية. فبينما الأمر الطبيعي أن تؤدي هذه الحادثة إلى الهرج والمرج وتدخُّل الأجانب في البلاد، إلّا أن اسم الشريعة -بفضل الله- أرجع الأرواحَ الخبيثة الناتجة من تلك الأسباب المذكورة إلى أوكارها، فأظهرت (الشريعة) معجزة أخرى بعد ثلاثة عشر قرنًا.

ثم إن الصوت المدويّ للجيش والعلماء في ذلك الانقلاب العظيم الفائت والقائل بـ: «أن المشروطية مستندة إلى الشريعة» سرى سريانَ التيار الكهربائي في وجدان المسلمين عامة، فخرق ذلك الانقلابُ القاعدةَ الطبيعية للانقلابات وأظهر التأثير المعجز للشريعة الغراء، وسيظهره دومًا.

إنني أعترض على أساس فكر الصحف التي ظهرت بعد منتصف نيسان وذلك: أنهم أوجدوا منفذًا ومبررًا للتضحية بالعزة والكرامة والطاعة العسكرية -التي هي أسمى من الحياة بل تُضحّى لأجلها الحياة- في سبيل آمال غير مشروعة، وأفعال خسيسة خادمة للحياة نفسها لدى أهل الوجدان.

ثم إنهم ظنوا أن شمس الشريعة التي تنجذب إليها الحقائق والأحوال وترتبط بها، تابعة للسلطة أو منقادة للخلافة أو أداة لأية سياسة أخرى، فأظهروا -ما اعتقدوه- أن الشمس المنيرة تابعة لنجم منخسف.

أقول بكل ما أملك من قوة: إنه لا رقي لنا إلّا برقي الإسلام الذي هو مليتنا، ولا رفعة لنا إلّا بتجلي حقائق الشريعة، وبخلافه نكون مصداقًا للمثل القائل: «أضاع المِشْيَتَيْنِ».

نعم، علينا أن نستشعر بشرف الأمة وعزتها وثواب الآخرة وبشأن المجتمع، وقيمته، والحمية الإسلامية، وحب الوطن وبحب الدين… ففي المضاعفات قوة أية قوة.

أيها القادة والضباط!

أطالبكم بإنزال العقاب على جناياتي، وبالإجابة حالًا عن أسئلتي الآتية، فإن الإسلام هو الإنسانية الكبرى وإن الشريعة الغراء هي المدنية الفُضلى، لذا فالعالم الإسلامي أهلٌ ليكون المدينةَ الفاضلة التي تصورها أفلاطون.

السؤال الأول:

ما جزاء المنخدعين بالصحافة والمنجرفين مع التيار العام المتولد حاليًا من العادات والتقاليد التي يرونها مشروعة؟

السؤال الثاني:

ما جزاء من يتعرض لإنسان تشكّل في صورة ثعبان، ولوليّ صالح تقمص صفة شقيّ، وللمشروطية التي لبست لباس الاستبداد، وما هم في الحقيقة سوى ثعابين وشقاة واستبداد؟

السؤال الثالث:

هل يكون المستبد شخصًا فردًا واحدًا؟ أم يمكن أن يكون أشخاص عديدون مستبدين؟ وأرى أن القوة يجب أن تكون في القانون، وإلاّ فسيتوزع الاستبداد ويشتد أكثر بالمنظمات.

السؤال الرابع:

أيّهما أضرّ: إعدام بريء أم العفو عن عشرة جناة؟

السؤال الخامس:

أفلا يزيد من سبل النفاق والتفرقة تشديدُ الخناق على أرباب المسالك والفكر، علمًا أنه لا يغلبهم؟

السؤال السادس:

أيمكن بغير رفع المحسوبية والامتيازات حصولُ اتحاد الأمة الذي هو معدن حياتنا الاجتماعية؟

السؤال السابع:

إن الإخلال بالمساواة، وتخصيصها لبعض الأفراد فحسب، وتنفيذَ القانون بحقهم وإن كان يوحي ظاهرًا بالعدالة، إلا أنه يولد الظلم والنفاق في جهة أخرى، فضلًا عن أن براءة أغلب المسجونين قد توضحت بالإفراج عن ثمانين بالمئة منهم، وهم بريئون.

إنني لا أوجه الكلام هنا إلى المحكمة العسكرية، بل على المخبرين أن يتدبروا في الأمر.

السؤال الثامن:

إذا عَدّت فرقة معينة نفسها صاحبة امتيازات على الآخرين، وألجأت الناس إلى الظهور بمظهر المخالف للمشروطية، وذلك بكثرة تعرّض تلك الفرقة لهم وجرحها لمشاعرهم، فعلى من يقع الذنب لو تعرض الجميع للاستبداد العنيد المتستر تحت اسم المشروطية، التي تقلدته تلك الفرقة؟

السؤال التاسع:

على من تقع المسؤولية فيما لو ترك بستاني باب البستان مفتوحًا، ودخل فيه من دخل، ثم ظهر حدوث السرقات؟

السؤال العاشر:

لو مُنِحَ الناسُ حريةَ الفكر والكلام، ثم حوسب شخص على كلامه أو فكره، أفلا يكون ذلك خطة مدبّرة لدفع الأمة المنكوبة إلى النار؟

السؤال الحادي عشر:

نرى الجميع يعاهدون المشروطية ويقسمون بها، بينما المعاهد هو نفسه مخالف لمسمّى المشروطية أو ساكت عن مخالفيها. ألا يحتاج ذلك إلى كفّارة اليمين؟ ألا تكون الأمة إذن كاذبة؟ أفلا يعتبر إذن الرأيُ العام النزيه كاذبًا ومعتوهًا؟

حاصل الكلام: إن المهيمن على الوضع الحاضر استبداد شديد وتحكم صارم، وذلك من حيث الجهل المتفشي. وكأن الاستبداد والتجسس قد تناسخًا روحًا. والذي يبدو أن الغاية ما كانت استردادَ الحرية من السلطان عبد الحميد، بل تحويل استبداد ضعيف وضئيل إلى استبداد شديد وقوي.

نصف سؤال:

شخص ضعيف رقيق يحاول جاهدًا دفع أذى البعوض والزنابير عنه لعدم تحمله لها، أفيمكن أن يقنع أحدُهم أحمقَ بقوله: إن هذا يقصد بعمله هذا تسليط أسد هصور على نفسه وليس دفع البعوض والزنابير؟

النصف الآخر من السؤال: لم يؤذن له.

أيها القواد والضباط! أقول بكل قوتي:

إنني مصرّ إصرارًا جادًا على جميع الحقائق التي نشرتها في الصحف في مقالاتي كلها. فإن دعيت من قِبَل الماضي، من قِبَل محكمة العصر النبوي السعيد، باسم الشريعة العادلة فسأبرز الحقائق التي نشرتها بعينها، لا أغيّر منها شيئًا، سوى ما يستوجبه ذلك الزمان من زيّ. وإن دعيت من قبل المستقبل، من قبل محكمة العقلاء الناقدين باسم التاريخ لِمَا بعد ثلاثمائة سنة. فسأبرز هذه الحقائق أيضًا، إلّا ما تحتاج من ترميمِ بعض جوانبها المتشققة.

بمعنى أن الحقيقة لا تتحول إلى أمر آخر، فالحقيقة حق، و«الحق يعلو ولا يعلى عليه» والأمة صاحية، بل لو أُغفلت بالمغالطة والخداع، فلا يدوم ذلك.

أما الخيال الذي ظُن حقيقة فعمره قصير، وستَتَشتت تلك الأفكارُ المضللة أمام فوران الرأي العام وتَبرز الحقيقة ناصعة إلى الميدان، إن شاء الله.

بس كــنـم جون زير كانرا إين بس است  بانك ده كروم أكر در ده كس است

(حاشية)  بيت بالفارسية نظير قول بشار بن برد:  لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيا    ولكن لا حياةَ لمن تُنادي.

على الرغم من أن الوضع في سجنكم معذِّب والزمانَ رهيب والمكانَ موحش والسجناء مستوحشون والصحفَ تنشر الأراجيف والأكاذيب، والأفكار مشوشة والقلوب كسيرة حزينة والوجدان متألم ويائس والموظفين متشائمون من الوضع والحراسَ مزعجون.. أقول: على الرغم من كل هذا، فإن الوضع كان لي موضعَ سرور، لأن ضميري لم يكن يعذبني، بل كلما تنوعت المصائبُ ترنمت بنغمات متنوعة أيضًا.

نعم، لقد أكملتُ هنا -في السجن- الدرسَ الذي تلقيتُه السنةَ الماضية في مستشفى المجاذيب حيث تلقيت دروسًا مطولة لطول زمن المصيبة، إذ كان الحزن البريء المظلوم الذي هو لذة روحانية للدنيا علّمني الشفقة على الضعفاء وشدةَ النفور من الظلم والغدر.

إنني على أمل عظيم أن الآهات والزفرات الساخنة المتبخرة من قلوب الأبرياء الكسيرة ستشكل سحابةَ رحمةٍ، وقد بدأت فعلًا هذه السحبُ بتشكيل دول إسلامية حديثة في أرجاء العالم الإسلامي.

إن كانت المدنية الحاضرة هي التربة الخصبة لإنماء مثل هذه التصرفات التي تمس الكرامة الإنسانية وتعتدي عليها.. وهذه الافتراءات التي تؤدي إلى النفاق.. وهذه الأفكار التي تغذي الحقد والانتقام.. وهذه المغالطات الشيطانية والتحلل من الآداب الدينية.. إذا كانت هذه هي المدنية، فليشهد الجميع بأنني أفضّل قمم الجبال الشاهقة في الشرق، وأفضّل حياة البداوة في تلك الجبال في بلدي حيث الحرية المطلقة على موطن النفاق الذي تسمّونه أنتم قصرَ المدنية.

إن حرية الفكر وحرية الكلام وحسن النية وسلامة القلب التي لم أشاهدها في هذه المدنية الدنية، مستولية على جبال شرقي الأناضول بكل معانيها.

وحسب علمي أن الأدباء يكونون متأدبين، إلّا أنني أجد بعض الصحف الخارجية خالية من الأدب وناشرة للنفاق. فإن كان هذا هو الأدب، والآراء العامة مختلطة إلى هذا الحد، فاشهدوا أني تخليت عن هذا الأدب، ولست داخلًا فيهم أيضًا. وسأطالع الأجرام السماوية واللوحات السماوية النيرة على ذرى جبال موطني، قمة باشت، بدلًا من مطالعة هذه الصحف.

«إن عالم فيضنا نزيه من عيوب الأماني الخادعة.

فقد كُتب علينا الترفع عن زينة الذهب والفضة منذ الأزل.

وجفونا نشوة الآمال وطولها.

عشقنا عشق مجنون لليلى، ولكن أغنانا حتى عن وصالها».

[ولولا تكاليفُ العلا ومقاصد عوالٍ وأعقاب الأحاديث في غدٍ

لأعطيت نفسي في التخلي مرادها  وذاك مرادي مذ نشأت ومقصدي

وأكتم أشياء ولو شئت قلتها          ولو قلتها لم أُبق للصلح موضعا]


تنبيه

إن الذي يسوقكم إلى التأمل استقالتي على المدنية.

نعم، إنني أفضّل البداوة على هذه المدنية الممزوجة بالاستبداد والسفاهة والذل. إن هذه المدنية تجعل الأشخاص فقراء وسفهاء وسيئي الأخلاق، بينما تسعى المدنية الحقيقية لترقية النوع الإنساني وتدفعه إلى التكامل، وتخرج ماهيته النوعية من القوة إلى الفعل، لذا فإن طلب المدنية والسعي لها انطلاقًا من هذه الزاوية يعدّ سعيًا نحو الإنسانية.

ثم إن سبب افتتاني بمحبة معنى المشروطية هو أن المدخل الأول لتقدم آسيا والعالم الإسلامي في المستقبل هو المشروطية المشروعة والحرية التي هي ضمن نطاق الشريعة. وأن مفتاح حظ الإسلام وسعده ورقيه موجود في الشورى التي في المشروطية. حيث قد انسحق -لحد الآن- ثلاثمائة مليون من المسلمين تحت أقدام الاستبداد المعنوي للأجانب.

وحيث إن الحاكمية الإسلامية مهيمنة الآن في العالم ولاسيما في آسيا، فإن كل مسلم يكون مالكًا لجزء حقيقي من الحاكمية. وإن الحرية هي العلاج الوحيد لإنقاذ ثلاثمائة مليون من المسلمين من الأسر. فحتى لو تضرر هنا -بفرض محال- عشرون مليونًا من الناس في أثناء إرساء الحرية، فليكن ذلك فداءً، إذ نأخذ ثلاثمائة بدفع عشرين.

وا أسفى! إن العناصر والقوميات الموجودة عندنا مختلطة اختلاط أجزاء الهواء، ولم تمتزج امتزاج أجزاء الماء. وستمتزج تلك العناصر والقوميات بالإسلام الذي يفعل فعل التيار الكهربائي فيهم. وسيأتي بإذن الله مزاج العدالة المنصفة المتولدة من حرارة نور المعارف الإسلامية.

فلتعش المشروطية المشروعة، ولتدم الحرية النيّرة المسترشدة بتربية حقيقة الشريعة.

غريب زمان الاستبداد

بديع زمان المشروطية

وبدعة هذا الزمان

سعيد النُّورْسِيّ

إحدى عشرة جناية ونصف جناية

والآن سنباشر بذكر جناياتي البالغة إحدى عشرة جناية ونصف جناية… وهي:

الجناية الأولى: في السنة الماضية، في بداية إعلان الحرية، أرسلتُ ما يقارب من خمسين أو ستين برقية إلى العشائر القاطنين في شرقي البلاد، وذلك بوساطة ديوان رئاسة الوزارة. كان مضمون تلك البرقيات:

«إن المسألة التي سمعتموها وهي المشروطية والقانون الأساسي ما هي إلّا العدالة الحقة والشورى الشرعية. تلقَّوها بقبول حسن. اسعَوْا للحفاظ عليها؛ لأن سعادتنا الدنيوية في المشروطية. فلقد قاسينا الأمَرّين من الاستبداد أكثر من الآخرين».

وقد أتت من كل مكان إجابات إيجابية لهذه البرقيات. بمعنى أنني قمت بتنبيه الولايات الشرقية ولم أتركهم غافلين، يستغفلهم استبداد جديد..

وحيث إنني لم أقل مالي وللناس ارتكبتُ إذن جناية، حتى دخلتُ هذه المحكمة!

الجناية الثانية: لقد قمت بإلقاء خطب عدة على العلماء عامة وعلى كثير من طلاب الشريعة، وذلك في كل من جامع أياصوفيا وبايزيد والفاتح والسليمانية، وبيّنتُ العلاقة الحقيقية بين الشرع الحقيقي والمشروطية، وأوضحت أن الاستبداد المتعسف لا صلة له بالشريعة الغراء، وأن الشريعة قد أتت لهداية العالم أجمع كي تزيل التحكم الظالم والاستبداد كما هو مضمون الحديث الشريف «سيد القوم خادمهم»، وأنا على استعداد لأبرهن برهانًا قاطعًا على كل كلمة جاءت في أي خطبة كانت من الخطب التي ألقيتها لمن له أي اعتراض كان.

وقد قلت: إن المسلك الحقيقي للشريعة إنما هو حقيقة المشروطية المشروعة.

بمعنى أنني رضيت بالمشروطية بالدلائل الشرعية، وليس كما رضيَ بها بعض دعاة المدنية الغربية، إذ قبلوها تقليدًا وفهموها خلافًا للشريعة. فلم أتنازل عن الشريعة ولم أعطها أنا مرة لشيء.

وحيث إنني سعيتُ لإنقاذ الشريعة وصون علمائها من شبهات أوروبا وأوهامها فقد ارتكبت إذن جريمة حتى رأيت هذا النمط من معاملاتكم معي!

الجناية الثالثة: لقد توجست خيفة من أن يُلَوَّثَ صفاءُ القلوب لدى الولايات الشرقية، فيَستغل بعضُ دعاة الأحزاب أبناءَ بلدي الذين يَقْرُبُ تعدادهم عشرين ألف شخص، حيث إنهم يعملون بالحمالة وهم ذوو نفوس طيبة ساذجة غافلة، فتجولتُ جميع الأماكن والمقاهي التي يتواجد فيها الحمالون، وبينتُ لهم المشروطية في السنة الماضية بقدر ما يستوعبونه. فقلت لهم بهذا المعنى:

إن الاستبداد ظلم وتحكم في الآخرين، أما المشروطية فهي العدالة والشريعة. فالسلطان إذا ما أطاع أوامر سيدنا الرسول الكريم ﷺ وسار في نهجه المبارك فهو الخليفة، ونحن نطيعه، وإلّا فالذين يعصون الرسول ﷺ ويظلمون الناس هم قطاع طرق ولو كانوا سلاطين.

إن عدونا هو الجهل والضرورة والاختلاف، وسنجاهد هؤلاء الأعداء الثلاثة بسلاح الصناعة والمعرفة والاتفاق، وسنتعاون ونتصادق يدًا بيد مع الأتراك وهم إخواننا الحقيقيون الذين كانوا السبب -من جهة- لإيقاظنا من غفلتنا ودفعنا إلى سبيل الرقي.

نعم، نتعاون معهم ومع جميع من يجاورنا، لأن الخصام والعداء فساد أي فساد. فلا نملك وقتًا للخصام.

ونحن لا نتدخل بشؤون الحكومة، حيث إننا لا ندرك حكمتها.

ولقد كانت لهذه النصيحة جدوىً وأثرٌ في أولئك الحمالين الذين قاطعوا العمل في إنزال البضائع النمساوية -مثلما أقاطع البضائع الأوروبية قاطبة- حيث تصرفوا تصرفًا يتسم بالعقلانية وبعيدًا عن التهور.

وحيث إنني كنت السبب في تقويم ارتباطهم بالسلطان وتسويتها وفتح حرب اقتصادية مع النمسا فقد ارتكبتُ إذن جناية حتى وقعتُ في هذه المصيبة!

الجناية الرابعة: إن أوروبا تظن الشريعة هي التي تمدّ الاستبداد بالقوة وتعينه. حاش وكلا.. إن الجهل والتعصب المتفشيين فينا قد ساعدا أوروبا لتحمِلَ ظنًا خاطئًا من أن الشريعة تعين الاستبداد. لذا تألمت كثيرًا من أعماق قلبي على ظنهم السيئ هذا بالشريعة، فكما أنني أكذّب ظنَّهم فقد رحّبتُ بالمشروطية باسم الشريعة قبل أي شخص. ولكني خشيت من أن يقوم استبداد آخر لتصديق هذا الظن، لذا صرخت من أعماقي، وبكل ما أوتيت من قوة في خطاب أمام المبعوثين.. في جامع أياصوفيا وقلت:

افهموا المشروطية في ضوء المشروعية وتلقَّوْها على أساسها، ولقِّنوها الآخرين على هذه الصورة، كي لا تلوثها اليدُ القذرة لاستبدادٍ جديد متستر وملحد باتخاذ ذلك الشيء الطيب المبارك تُرسًا لأغراضه الشخصية. قيِّدوا الحرية بآداب الشرع لأن عوام الناس والجاهلين يصبحون سفهاء وعصاة وقطاع طرق، فلا يطيعون بعد أن ظلوا أحرارًا سائبين بلا قيد و شرط. ولتكن قبلتكم في صلاة العدالة على المذاهب الأربعة كي تصحّ صلاتكم، لأنني قد أعلنت دعوىً: أنه يمكن استخراج حقائق المشروطية صراحة وضمنًا وإذنًا من بين المذاهب الأربعة.

وحيث إني قد أخذت على عاتقي -وأنا طالب شريعة- ما يفرض على العلماء جملةً من الوظائف والواجبات فقد اقترفت إذن جنايةً.. ولهذا تلقيت مثل هذا العقاب!

الجناية الخامسة: لقد دأبت الصحفُ على زعزعة الأخلاق الإسلامية بقياسين فاسدين وبما يوهن العزة والإقدام، حتى أهلكوا الأفكار العامة السائدة. فتصديتُ لهم بمقالات نشرتُها في الجرائد وقلت لهم:

«يا أرباب الصحف! على الأدباء أن يلتزموا بالآداب، وعليهم أن يتأدبوا بالآداب اللائقة بالإسلام، فينبغي أن تكون أقوالهم صادرة من صدورٍ لا تحيد لجهة، ومن قلوبِ عموم الناس، فيشترك معهم عموم الأمة.

ويجب تنظيم برنامج المطبوعات بما في وجدانكم من شعور ديني ونية خالصة.

بينما أنتم بقياس فاسد، (أي بقياس الريف بإسطنبول، وإسطنبول بأوروبا) أوقعتم الرأي العام والأفكار السائدة في مستنقع آسن؛ فنبهتم عروق الأغراض الشخصية والمنافع الذاتية وأخذِ الثأر، لا يلقَّنُ الطفلُ الصغير الذي لم يدرج بعدُ في المدرسة، الفلسفةُ الطبيعية المادية. فكما لا تليق بالرجل فساتين الراقصات، فكذلك لا تطبق مشاعر أوروبا في إسطنبول. إذ اختلاف الأقوام وتخالفُ الأماكن والأقطار شبيهةٌ بتباين الأزمنة والعصور. بمعنى أن الثورة الفرنسية لا تكون دستورًا لنا. فالخطأ ينجم من تطبيق النظريات وعدمِ التفكر بمتطلبات الوقت الحاضر.

فأنا القروي الذي لا أجيد الكتابة قد قمت بإسداء النصائح إلى أمثال هؤلاء المحرِرين الحاملين لأغراض شخصية ومغالطات في رؤية الأمور التي يعملون فيها بذكائهم.. فارتكبت إذن جناية!

الجناية السادسة: لقد شعرت مرارًا في اجتماعات ضخمة بالمشاعر المتهيجة لدى الناس، فخشـيت أن يخلّ عـوام الناس بالنظام وأمن البـلاد بمداخلتهم في السياسة، فقمت بتهدئة تلك المشاعر الجياشة بكلام يلائم لسـانَ طالبِ علمٍ قروي قـد تعلم اللغة التركية حديثًا.

فمثلًا: في اجتماع الطلاب في جامع بايزيد، وفي المولد النبوي المقام في أياصوفيا، وفي مسرح الفرح، هدّأتُ -إلى حدٍ ما- ثورةَ الناس وغضبهم. فلولا تلك الكلمات والخطب لعصفتْ عاصفة هوجاء تعصف بهم.

فأنا البدوي الذي لم أختلط بعدُ كثيرًا بالحضارة، ولعلمي بدسائس المدنيين.. قد تدخلت في أمورهم فارتكبت إذن جناية!

الجناية السابعة: لقد طرق سمعي أن جمعية باسم «الاتحاد المحمدي» قد تأسست، فتوجست خيفة شديدة، من صدور حركات خاطئة من بعضهم تحت هذا الاسم المبارك.

ثم سمعت أشخاصًا مرموقين -من أمثال سهيل باشا والشيخ صادق- قد حوّلوا هذا الاسم إلى شيء بسيط ويسير، إذ حصروه في العبادة واتباعِ سنن مطهرة، فقطعوا علاقتهم بتلك الجمعية السياسية، فلا يتدخلون بعدُ بالسياسة، فخشيت مرة أخرى حيث قلت: إن هذا الاسم هو حقّ المسلمين كافة، فلا يَقبل تخصصًا ولا تحديدًا. فكما أني منتسب إلى جمعيات دينية عديدة من جهة -حيث قد رأيت أن أهدافها واحدة- كذلك أنتسب إلى ذلك الاسم المبارك.

ولكن الاتحاد المحمدي الذي أعرفه وانضممت إليه هو الدائرة المرتبطة بسلسلة نورانية ممتدة من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال. فالذين ينضوون تحت رايتها يتجاوز عددهم عن ثلاثمائة مليونٍ في هذا العصر، وإن جهة الوحدة والارتباط في هذا الاتحاد هو توحيد الله.

قسَمه وعهده هو الإيمان.

والمنتسبون إليه جميع المؤمنين منذ الخليقة.

وسجل أسماء أعضائه هو اللوح المحفوظ.

وناشر أفكاره جميعُ الكتب الإسلامية والصحف اليومية التي تستهدف إعلاء كلمة الله. ومحالّ اجتماعاته ونواديه هي الجوامع والمساجد والتكايا والمدارس الدينية.

ومركزه: الحرمان الشريفان.

فجمعية مثل هذه.. رئيسها هو فخر العالمين سيدنا الرسول الكريم ﷺ. ومسلكها ومنهجها؛ مجاهدة كل شخص نفسَه، أي التخلق بأخلاق الرسول الكريم ﷺ وإحياء السنة النبوية ومحبة الآخرين وإسداء النصح لهم ما لم ينشأ منه ضرر.

والنظام الداخلي لهذا الاتحاد: السنة النبوية.

وقانونه: الأوامر الشرعية ونواهيها.

وسيوفه: البراهين القاطعة، حيث إن الظهور على المدنيين المثقفين إنما هو بالإقناع وليس بالضغط والإجبار. وإن تحرّي الحقيقة لا يكون إلّا بالمحبة، بينما الخصومة تكون إزاء الوحشية والتعصب.

أما أهدافه ومقاصده فهي إعلاء كلمة الله.

هذا وإن نسبة الأخلاق والعبادة وأمور الآخرة والفضيلة في الشريعة هي تسع وتسعون بالمئة بينما نسبة السياسة لا تتجاوز الواحدة بالمائة. فليفكر فيها أولياء أمورنا.

والآن فإن مقصدنا هو سَوق الجميع بشوق وجداني إلى كعبة الكمالات بطريق الرقي، وذلك بتحريك تلك السلسلة النورانية، إذ إن الرقي المادي سبب عظيم لإعلاء كلمة الله في هذا الزمان.

وهكذا فأنا أحد أفراد هذا الاتحاد ومن الساعين لرفع رايته وإظهارِ اسمه، وإلّا فلست من الأحزاب والجمعيات التي تسبب الفرقة بين الناس.

الحاصل: لقد بايعت السلطان سليم وقَبِلت فكره في الاتحاد الإسلامي، لأن ذلك الفكر هو الذي أيقظ الولايات الشرقية، فهم قد بايعوه على ذلك.

فالشرقيون الآن هم أولئك لم يتغيروا. فأسلافي في هذه المسألة هم: الشيخ جمال الدين الأفغاني، ومفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده. ومن العلماء الأعلام علي سواعي، والعالم تحسين. والشاعر نامق كمال الذي دعا إلى الاتحاد الإسلامي والسلطان سليم الذي قال:

«إن مغبة الاختلاف والتفرقة يقلقانني حتى في قبري

فسلاحنا في دفع صولة الأعداء إنما هو الاتحاد

إن لم تتحد الأمة فإنّي أتحرق أسىً»

السلطان ياوز سليم

ولقد دعوت ظاهرًا إلى هذا الاتحاد المحمدي من أجل مقصدين عظيمين:

المقصد الأول: إنقاذ ذلك الاسم من التحديد والتخصيص، ولأعلن شموله المؤمنين عامة كي لا يقع الخلاف والفرقة ولا تَرِد الشبهات والأوهام.

المقصد الثاني: ليكون سدًا أمام افتراق الفِرَق والأحزاب الذي كان سببًا في هذه المصيبة الفائتة العظيمة، وذلك بمحاولة التوحيد بينها، فيا أسفي لم يسعفنا الزمن فجاء السيل فأوقعني أيضًا.

ثم كنت أقول: لو نشبت حريق فسأحاول إطفاء جزء منها في الأقل، ولكن احترقت حتى ملابسي العلمية. وذهبتْ -برضًا مني- الشهرةُ الكاذبة التي لا أستطيع تعهدها.

فأنا الذي لست إلّا رجلًا عاديًا، قد أخذتُ على عاتقي مسائلَ مهمة تقض مضاجع النواب والأعيان والوزراء، فإذن قد ارتكبت جناية!.

الجناية الثامنة: لقد سمعت أن قسمًا من الجنود بدأوا ينتسبون إلى بعض الجمعيات، فتذكرتُ الحادثة الرهيبة للانكشاريين. فقلقت كثيرًا واضطربت، فكتبت في إحدى الصحف:

إن أسمَى جمعية وأقدسها في الوقت الحاضر، هي جمعية الجنود المؤمنين. فجميع الذين انخرطوا في سلك الجندية المؤمنة المضحية ابتداءً من الجندي إلى القائد هم داخلون في هذه الجمعية. إذ إن أقدس هدف لأقدس جمعية في العالم هو الاتحاد والأخوة والطاعة والمحبة وإعلاء كلمة الله. فالجنود المؤمنون قاطبة يدعون إلى هذا الهدف. ألا إن الجنود هم المراكز، فعلى الأمة والجمعيات أن ينتسبوا إلى الجنود، إذ الجمعيات الأخرى ما هي إلّا لجعل الأمة جنودًا في المحبة والأخوّة، أما الاتحاد المحمدي الذي هو شامل لجميع المؤمنين فهو ليس جمعية ولا حزبًا، إذ مركزه وصفّه الأول المجاهدون والشهداء والعلماء والمرشدون.

فليس هناك مؤمن ولا جندي فدائي -سواء أكان ضابطًا أو جنديًا- خارج عن هذا الاتحاد، لذا فلا داعي للانتساب. ومع هذا فلا أتدخل في أمور بعض الجمعيات الخيرة التي لها الحق في أن تطلق على نفسها الاتحاد المحمدي.

فأنا الذي لست إلّا طالب شريعة، قد غصبتُ مهمة العلماء العظام فإذن قد ارتكبت جناية!

الجناية التاسعة: لقد شاهدت الحركة الرهيبة التي حدثت في (31) مارت لبضع دقائق. فسمعت مَطالبَ عدة؛ فكما إذا أُديرت ألوان سبعة بسرعة لا يظهر إلّا اللون الأبيض فكذلك لم يظهر من تلك المطالب إلّا لفظ الشريعة التي تخفف فساد تلك المطالب المتباينة من الألف إلى الواحد، وتنقذ العوام من الفوضى والاضطراب، والتي تحافظ حفاظًا معجزًا على السياسة من أن تكون لعبة بيد الأفراد. فأدركت أن الأمر ينساق إلى الفساد؛ إذ الطاعة قد اختلت، والنصائح لا تجدي؛ وإلّا كنت أندفع إلى إطفاء تلك النار مثلما كنت أطفئ غيرها، ولكن العوام هم الأغلبية، وأهل مدينتي غافلون وبسطاء، وأنا أظهر بمظهر الشهرة الكاذبة.

فبعد ثلاث دقائق انسحبت ذاهبًا إلى «بَاقِرْكُويْ» كي أحول دون تدخل معارفي في الأمر، وأوصيت كل من قابلني بعدم التدخل. فلو كان لي تدخّل-بمقدار أنملة- لكنت أظهر في هذا الأمر ظهورًا عظيمًا حيث إن ملابسي تعلن عني، وشهرتي التي لا أريدها ذائعة بين الجميع. وربما كنت أثبِتُ وجودي بمقاومة جيش الحركة إلى أياستافانونس ولو وحدي ثم أموت بشرف ورجولة. وعندئذ كان تدخلي في الأمور من البديهيات، فلا تبقى حاجة إلى التحقيق.

وفي اليوم الثاني استفسرت عن طاعة الجنود التي هي عقدة الحياة لنا- فقالوا: إن الضباط قد لبسوا ملابس الجنود، فالطاعة ليست مختلة كثيرًا.

ثم كررتُ السؤال: كم من الضباط أُصيبوا؟ فخدعوني قائلين: أربعة فقط، وهؤلاء كانوا من المستبدين. وسوف تنفذ آداب الشريعة وحدودها.

ثم تصفحت الجرائد ورأيت: أنهم أيضًا يرون تلك الحركة حركة مشروعة ويصورونها على هذه الصورة، ففرحت من جهة، لأن أقدس غاية لديّ هي تطبيق الأحكام الشرعية تطبيقًا كاملًا، ولكن يئستُ أشد اليأس وتألمت كثيرًا باختلال الطاعة العسكرية، فخاطبتُ الجنود بلسان جميع الجرائد وقلت:

أيها الجنود! إن كان ضباطكم يظلمون أنفسهم بإثم واحد فإنكم بعصيانكم تظلمون حقوق ثلاثين مليونًا من العثمانيين وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين، لأن شرف العثمانيين وعامةِ المسلمين وسعادتَهم ولواءَ وحدتهم قائمة -بجهة- في طاعتكم.

ثم إنكم تطالبون بالشريعة ولكنكم تخالفونها بعصيانكم هذا.

ولقد باركت حركتهم وشجاعتهم لأن الصحف التي هي لسان كاذب للرأي العام قد أظهرت لنا أن حركتهم مشروعة. فلقد تمكنت -بتقديرهم هذا- أن أُؤَثّرَ فيهم بنصيحتي. فهدّأتُ العصيان إلى حدٍ ما، وإلّا لما كان الأمر يكون سهلًا.

فأنا الذي قد زرت مستشفى المجاذيب فعلًا، ولم أقل: مالي وللناس، فليفكر في هذا الأمرِ العقلاءُ.. فقد ارتكبت إذن جناية!

الجناية العاشرة: لقد ذهبت بصحبة العلماء يوم الجمعة إلى الجنود الذين هم في الوزارة الحربية. وقد أخضعت ثمانيةَ طوابير إلى الطاعة بخطب مؤثرة جدًا. ولقد أظهرتْ نصائحي فوائدَها بعد مدة. أذكر لكم صورة خطابي:

أيها العساكر الموحدون!

إن شرف ثلاثين مليونًا من العثمانيين وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين وكرامَتهم وسعادتَهم ورمزَ وحدتهم منوطة -من جهة- بطاعتكم. إن كان ضباطكم يظلمون أنفسهم بخطيئة واحدة فإنكم بعصيانكم هذا تظلمون ثلاثمائة مليونٍ من المسلمين. لأنكم بعصيانكم هذا تُلقون الأخوة الإسلامية إلى التهلكة.

اعلموا جيدًا! أن مركز الجندي عظيم جدًا، إذ هو أشبه ما يكون بالمعمل، فإذا اختل دولاب منه يختل العمل في المعمل كله. ألا إن الجنود الأفراد لا يتدخلون بالسياسة، والانكشاريون خير شاهد على هذا. إنكم تطالبون بالشريعة إلّا أنكم تخالفونها وتلوثونها.

إنه ثابت بالشريعة والقرآن والحديث والحكمة والتجربة: أن طاعة ولي الأمر المستقيم المتدين القائم بالحق فرض. فأولياء أموركم هم ضباطكم. فكما أن مهندسًا ماهرًا وطبيبًا حاذقًا إذا ما ارتكب الآثام لا تتضرر مهنة الطب والهندسة كذلك ضباطكم الذين هم منورو الفكر ومثقفون ومطلعون على فنون الحرب وذوو غيرة وشهامة وهم امؤمنون. فلا تظلموا العثمانيين جميعًا والمسلمين بعصيانكم لأوامرهم جراء حركة جزئية غير مشروعة تصدر منهم، ذلك لأن العصيان ليس ظلمًا واحدًا بل هو تجاوز على حقوق ملايين من الأفراد. أنتم تعلمون أن راية التوحيد الإلهي محمولة على يد شجاعتكم، وقوةُ تلك اليد في الطاعة والنظام، حيث إن ألفًا من المطيعين المنظَّمين يعدلون مائة ألف من السائبين. وغني عن البيان فإن ثلاثين مليونًا من العثمانيين لم يقوموا بمثل هذه الانقلابات الدموية طوال مائة سنة، فلقد قمتم بها بطاعتكم من دون إراقة دماء.

وأضيفُ أيضًا، إن إضاعة ضابط ذي حمية وثقافة ودراية يعني إضاعة قوتكم المعنوية، لأن الغالب في الوقت الحاضر هو الشجاعة الإيمانية والعقلية والعلمية. وأحيانًا يعدل مثقف واحد منهم مائة من غيرهم. فالأجانب يسعون أن يغلبوكم بهذه الشجاعة، إذ الشجاعة الفطرية وحدها غير كافية.

خلاصة الكلام:

إني أبلغكم مـا أمـر بـه الرسول الأعظم ﷺ وهـو: أن الطاعة فرض، فلا تعصوا ضباطكم.

فليحيا الجنود، ولتعش المشروطية المشروعة.

فأنا.. لأنني قد تجشمت أعباء هذه المهمات الجسيمة -مع وجود علماء أكفاء- قد ارتكبت إذن جناية!

الجناية الحادية عشرة: كنت ألمس الوضع الرديء لما كان يعيشه أهالي الولايات الشرقية فأدركت أن سعادتنا الدنيوية ستحصل -من جهة- بالعلوم الحديثة الحاضرة، وأن أحد الروافد غير الآسنة لتلك العلوم سيكون العلماء، والمنبع الآخر سيكون حتمًا المدارس الدينية، كي يأنس علماء الدين بالعلوم الحديثة.

وحيث إن زمام الأمر في تلك البقاع التي أغلبيتها الساحقة أُميون بيد علماء الدين، فهذا الشعور هو الذي دفعني إلى المجيء إلى إسطنبول، ظنًا مني أن نلقى السعادة في «دار السعادة» في ذلك الوقت، مع أن الاستبداد -الذي أصبح الآن أضرابًا وتقوّى أكثر- كان يُسند إلى المرحوم السلطان المخلوع، فإنه قدّم لي مرتبًا بواسطة وزير الأمن العام وفضلًا منه وكرمًا، فرفضت. فقد أخطأت! ولكن خَطَئي ذلك أصبح خيرًا إذ أظهر خطأ الذين يبغون مال الدنيا بالعلوم الدينية، فضحيت بعقلي، ولم أدع حريتي ولم أُحنِ رأسي لذلك السلطان الرؤوف، فتركت منافعي الشخصية؛ إذ هؤلاء يمكنهم أن يضموني إلى صفوفهم بالمحبة وليس بالاضطرار والقوة، فأنا منذ سنة ونصف السنة أسعى هنا لتنال بلادي المعارف والعلوم. وأغلب الأصدقاء في إسطنبول على علم بهذا.

فأنا الذي ابن حمال فقير، لم أتجاوز طوري وكوني ابن فقير وحمال رغم تيسر الدنيا لي، ولم أوطد علاقاتي مع الدنيا بل تركت أحب المناطق إلى قلبي وهي ذرى جبال الولايات الشرقية داعيًا إلى السعادة لأمتي، فدخلت مستشفى المجاذيب والمعتقلات والسجون وعانيت التعذيب والإهانات في فترة المشروطية.. كل ذلك لأنني قد تطاولت إلى أمثال هذه الأمور حتى أوقعتني في مثل هذه المحاكم الرهيبة. فإذن قد جنيت!

نصف جناية:

انطلاقًا مـن مفهوم الحفاظ على مركز الخلافة -وهـو مركز المسـلمين وموضـع رابطتهم- والحيلولةِ دون ضياعه.. وظنًا من كون حضرة السـلطان عبد الحميد الثاني على استعداد لاستيضاح الأمر والندم على أخطائه الاجتماعية السابقة.. وأخذًا بالقاعدة الجليلة ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (النساء: ١٢٨) لتخفيف الأحداث الحالية التي سارت بعنف وبذرت بذور الفتن والاضطرابات، وتحويلها إلى أفضل ما يمكن.. لأجل كل ذلك قلت بلسان الجريدة للسلطان السابق ما يأتي:

اجعل قصر يلدز، ذلك النجم المنخسف، جامعة للعلوم ليرتفع إلى الأعالي كالثريا.

وأسكن فيه أهل الحقيقة وملائكة الرحمة بدلًا من السواح وزبانية جهنم ليصبح بهيجة بهجة الجنة.

وأعد إلى الأمة ما أهدته لك من ثروات في القصر بصرفها في إنشاء جامعات دينية لتزيل الجهل الذي هو داء الأمة الوبيل.

ووطّن الثقة بمروءة الأمة ومحبتها، فهي المتكفلة بإدارتكم السلطانية. دع الدنيا قبل أن تدعك، واصرف زكاة العمر في سبيل العمر التالي. إنه ينبغي التفكر في الآخرة وحدها بعد هذا العمر.

والآن لنقارن؛ أيُّهما أفضل: أن يكون قصر يلدز موضع لهو أم جامعة علوم؟ وأن يجول فيه السواح أم يدرّس فيه العلماء ؟ يُغصب أم يُهدى؟ فليقضِ أصحاب الإنصاف في هذا.

فأنا الفقير المعدم قمت بإسداء النصيحة إلى سلطان عظيم، قد جنيت إذن نصف جناية!

أما النصف الآخر من الجناية فلم يحُنْ وقت الإفصاح عنه.

وا أسفى لقد وضع المعجبون بالتطرف في هذه الحادثة سدًا أمام رغبات الأمة المشتاقة إلى المشروطية المشروعة التي فيها سعادتنا ومنبعُ حياتنا الاجتماعية العطشى إلى المعارف والعلوم الحديثة المنسجمة مع الإسلام، وذلك بإلقائهم الأغراض الشخصية والفتن في المشروطية. زد على ذلك أعمال المثقفين المتسمةَ بالإلحاد وعدمِ الاكتراث بالدين.

فعلى الذين أقاموا هذا السد المنيع أن يرفعوه ويزيلوه، وهذا ما نرجوه منهم باسم الوطن.

المقدمة

المحكمة العسكرية العرفية

أو

شهادة مدرستي المصيبة

«التي طبعت سنة (1908م)»


باسمه سبحانه

 ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾

المقدمة

حينما كانت «الحرية» قرينةَ الجنون، جَعَلَ الاستبدادُ الضعيف مستشفى المجاذيب مدرسةً لي.

وحينما كانت العدالة والاستقامة التبستا مع الرجعية، صيّر الاستبداد الشديد في المشروطية السجنَ مدرسةً لي.

فيا أيها المحترَمون الناظرون إليّ لشهادتي هذه! أرجو أن تبعثوا أرواحكم وخيالكم ضيوفًا إلى ذهنِ طالب بدوي عصبي المزاج وإلى جسده، وهو يكابد الاضطراب وقد انخرط حديثًا في المدنية، وذلك لئلا تقعوا في خطأِ تخطئةِ الآخرين.

لقد قلت في المحكمة العسكرية العرفية في أثناء حادثة (31) مارت:

إنني طالب شريعة، لذا أزن كل شيء بميزان الشريعة. فالإسلام وحده هو ملّتي، لذا أُقيّم كلَّ شيء وأنظر إليه بمنظار الإسلام.

وإنني إذ أقف على مشارفِ عالم البرزخ الذي تدعونه: «السجن» منتظِرًا في محطة الإعدام، القطارَ الذي يقلّني إلى الآخرة أشجب وأنقد ما يجري في المجتمع البشري من أحوال ظالمة غدارة. فخطابي ليس موجهًا إليكم وحدكم وإنما أُوجهه إلى بني الإنسان كلهم في هذا العصر. فلقد انبعثت الحقائق من قبر القلب عارية مجردة بسر الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَٓائِرُ (الطارق:9)… فمن كان أجنبيًا غير محرَم فلا ينظر إليها. إنني متهيئ بكل شوق للذهاب إلى الآخرة، ومستعد للرحيل إليها مع هؤلاء المعلقين على المشانق. تصوروا مبلغ اشتياقي إليها بهذا المثال:

قروي مغرم بالغرائب سمع بعجائب إسطنبول وغرائبها وجمالها ومباهجها، كم يشتاق إليها؟

فأنا الآن مثل ذلك القروي، مشتاق إلى الآخرة التي هي معرض العجائب والغرائب.

لذا فإن إبعادي ونفيي إلى هناك لا يُعدّ عقابًا لي. ولكن إن كان في قدرتكم وفي استطاعتكم تعذيبي وإيقاعُ العقاب عليّ فعذِّبوني وجدانًا، فما دونه ليس عذابًا ولا عقابًا بل فخرًا وشرفًا.

لقد كانت هذه الحكومة تخاصم العقل أيام الاستبداد، إلّا أنها الآن تعادي الحياة بأكملها؛ فإن كانت الحكومة على هذا الشكل والمنطق، فليعش الجنون وليعش الموت، ولتعش جهنم مثوىً للظالمين.

لقد كنت آمل أن يُهَيَّأَ لي موضعٌ لأبيّن فيه أفكاري، وها قد أصبحت هذه المحكمة العرفية خير مكان لأبث منها أفكاري.

في الأيام الأولى من التحقيق سألوني مثلما سألوا غيري:

«وأنت أيضًا قد طالبت بالشريعة»!

قلت: لو كان لي ألف روح، لكنت مستعدًا لأن أضحي بها في سبيلِ حقيقة واحدة من حقائق الشريعة، إذ الشريعة سبب السعادة وهي العدالة المحضة وهي الفضيلة. أقول: الشريعة الحقة لا كما يطالب بها المتمردون.

وقالوا كذلك: هل انضممت إلى «الاتحاد المحمدي؟

قلت: نعم، بكل فخر واعتزاز! أنا من أصغر أعضائه، ولكن بالوجه الذي أعرّفه. أروني أحدًا خارج ذلك الاتحاد من غير الملحدين.

وهكذا فأنا أنشر اليوم ذلك الخطاب لأنقذ المشروطية من التلوث، وأنجيَ أهل الشريعة من اليأس، وأخلّصَ أبناء العصر من وصم الجهل والجنون بهم في نظر التاريخ، وأنتشل الحقيقة من الأوهام والشبهات.

فها أنا أبدأ بخطابي.

أيها القادة! أيها الضباط!

إن خلاصة جناياتي التي اقتضت سجني هي:

[ إذا محاسني اللاتي أدلّ بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر؟ ].

وفي البداية أقول:

إن الشريف لا يتنازل لارتكاب جريمة، وإن اتُّهم بها لا يخاف من الجزاء والعقاب؛ فلئن أُعدمتُ ظلمًا فإني أغنم ثواب شهيدين معًا، وإن لبثت في السجن فهو بلا ريب أفضل مكان في ظل هذه الحكومة الظالمة التي ليس فيها من الحرية إلّا لفظها؛ فالموت مظلومًا هو خير من العيش ظالمًا.

وأقول كذلك: إن بعضًا ممن جعلوا السياسة أداة للإلحاد، يتهمون الآخرين بالرجعية أو باستغلال الدين لأجل السياسة ليستروا على سيئاتهم وجرائمهم.

إن عيون السلطة وجواسيسها أشد قساوة من سابقيهم، فكيف يوثق بهم ويعتمد عليهم، وكيف تبنى العدالة على أقوالهم؟

فضلًا عن أن الإنسان، إذ لا يسلَم من تقصير ونقص، بينما تراه يتحرى العدالة يقع في الظلم بالجبن والخب. ولكنّ جمعَ تقصيراتٍ متفرقة وقعت في مدة مديدة ومِن تصرفِ أشخاص كثيرين -والتي يمكن تفاديها بما يتخللها من محاسن- وتوهّمَ صدورها من شخص واحد في وقت واحد، يجعل ذلك الشخص مستحقًا لعقاب شديد. بينما هذا الأمر بحد ذاته ظلم عظيم.