مدخل

مدخل

لا بدَّ لنا بدايةً من الاعتراف بأنَّ هذه السيرة قاصرةٌ عن إيفاء حياة الأستاذ الجليل حقَّها بكلِّ ما حوتْه من معانٍ، فقد أُوجِزتْ فيها مسائلُ كثيرة، وطُويتْ وقائعُ وأحداثٌ عديدة، كان من شأنها أن تسلِّط الضوء على مزايا شخصيته، وتؤيد ما ورد من أفكار وقضايا، ولم يكن سببُ هذا الإيجاز والطَّي سوى أن الأستاذ لم يرضَ بالاستفصال فيها.

لقد جاءت المباحث المتعلقة بشخصه موجزةً غاية الإيجاز لأسبابٍ عدة؛ منها: أن الأستاذ كان يذكر منذ سالف عهده -سواءٌ في دروسه أو في رسائله- أن هذا الزمان زمان الجماعة، وأن أثرَ المزايا والكمالات الشخصية في الخدمة الإيمانية لا يضاهي بحالٍ أثرَ الشخص المعنوي؛ ومنها: أنه كان دائمَ التنبيه على وجوب النظر إلى رسائل النور النابعة من القرآن الحكيم أكثر من النظر إلى شخصه الفاني، وأن جميع القيم والفضائل إنما تعود إلى الحقيقة القرآنية المتجلية في رسائل النور؛ ومنها أيضًا: أنه عندما عَلِم بإعداد هذه السيرة الذاتية أرسل قائلًا : «لا داعي للتفاصيل، اكتبوا المباحث المتعلقة بخدمة رسائل النور فحسب»، ولهذا لم يكن منا إلا أنْ عَمَدْنا إلى الرسائل والمدافعات ذات الصلة بحياته في أوقاتٍ مختلفة، والتي لها تعلُّقٌ بالخدمة النُّورية أكثر من تعلُّقها بشخصه، فأوردناها على هيئة مقالاتٍ وخواطر تعبر بدرجةٍ ما عن أحواله في ذلك الحين.

إن هذا الكتاب بصورته هذه يشكِّل مصدرًا حقيقيًّا للباحثين من طلاب النور في المستقبل، كما يُعدُّ مرجعًا يستفيد منه الأدباء والمحرِّرون المحترمون في إعداد سيرةٍ تمتاز بمزيدٍ من التوثيق، وتكون أوفى وأعظمَ فائدةً من هذه إن شاء الله، وبهذه المناسبة نودُّ

مقدمة الأستاذ علي عُلْوي قُوروجو

وَبِهِ نَسْتَعِينُ
مقدِّمة

كتبَ هذه المقدِّمةَ عالِمٌ جليلٌ مقيمٌ بالمدينة المنوَّرة

[هو الأستاذ الجليل الشيخ علي عُلْوي قُوروجو، وهو أحد أبرز علماء تركيا وشعرائها في القرن الماضي، ولد بقونية عام 1922م، نشأ في بيت علمٍ وأدب، فتلقى العلم منذ نعومة أظفاره، واستكمل مسيرته العلمية بمصر، ثم أقام بالمدينة المنوَّرة وعمل بها مديرًا لمكتبة «عارف حكمت»، عاش معظم حياته خارج بلاده، والتقى بأبرز العلماء والدعاة والمجاهدين في العالَمَين العربي والإسلامي، توفي عام 2002م، ودُفِن بالبقيع، ترك عددًا من الكتب والدواوين باللغة التركية، أشهرها «المذكِّرات» في ثلاثة أجزاء؛ هـ ت].
حين يقرأ الإنسان سِيَرَ العظماء، ويطالع مناقبهم الرفيعة، ويتأمَّل في ذكرياتهم الأثيرة، يخالجه شعورٌ بأنه يدخل عالَمًا آخر، حيث تُلْهِبُ شُعلةٌ عُلْويةٌ فؤادَه بأحاسيس المحبة الصافية، ويَغمر الفيضُ الإلهي كيانَه.
ولقد حَفِظَ لنا التاريخ رجالًا يتضاءل أمام عظمتهم العظماء.. هم أبطالُ التاريخ ومفاخرُه، ما إنْ يُذكَروا حتى تسموَ الروح عن الأرض لتُحلِّقَ في عوالمَ رحيبة، ويَلُفَّها من الأعماق ألفُ شذًى، كأنها تشُقُّ طريقًا في خميلةِ وردٍ من عالَم الجِنان.

الخطوات الست

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ (البقرة:168)

اعلم! أن لكل زمان شيطانًا إنسيًا، هو وكيل الشيطان وقد لبس صورةَ إنسانٍ فردٍ أو روحَ جماعة. وعزازيلُ زمانِنا هو الروح الغدّار الذي نَشَر الفسادَ في جوانب العالم بسياسته الفتانة، فيفسد العالم الإسلامي بـ«خطوات ست»؛ إذ يتحرى في الأناسي وفي الجماعات المنابعَ الخبيثة، فيستعملها لأغراضه، ويتوسم في الطبائع المعادنَ المضرة فيستخرجها ويستخدمها لمصالحه بوساوسه الفعلية أي بدعاياته وإشاعته. ويتفطن في النفوس إلى الأعصاب الضعيفة والعروق الواهية التي لا تقاوِم، فيحرّكها لمفاسده، فيستعمل مِنْ بعضٍ: حرصَ الانتقام.. ويحرك من بعضٍ حرصَ الجاه.. ويهيج من بعضٍ: حسّ الطمع.. ويستغل من بعضٍ: الحمق.. ومن بعضٍ الإلحاد.. وهكذا، ومن العجيب أنه يستغل من بعضٍ التعصب، فيتخذ كل ذلك وساطة لإنفاذ سياسته.

الخطوة الأولى

إنه يوسوس بالذات، أو بالوسيلة، فيقول صراحةً أو يجعل غيرَه يردد ما يقوله:

أنتم تعترفون أنكم مستحقون لهذه المصيبة، فالقدرُ الإلهي يَعدل ولا يظلم، إذن فارضَوْا بما أعاملكم به، لأني وسيلة لما استحققتم.

نردّ هذه الوسوسة والشبهة، فنقول:

إن القدر الإلهي يصيبنا بمصيبة بسبب عصياننا لأوامر الله. فالرضى بما قدّر الله هو عين التوبة عن سبب المصيبة، وهو الذنوب. ولكنك أيها الواسط الملعون تظلمنا لكوننا مسلمين، وتصيبنا بظلمك لإسلامنا، لا لذنوبنا ومعاصينا، فالرضى بما تعمل، وإطاعتُك طوعًا إنما هو ندامة عن الإسلام وإعراض عنه والعياذ بالله.

نعم، إن الشيء الواحد يكون ذا جهتين؛ فهو مصيبة من جهة القدر، فتكون عدالةً، لترتبها على السبب الباطن من ذنوب وشرور فيُنزلها القدرُ الإلهي زجرًا عنهما. فالرضى بهذه المصيبة -من هذه الجهة- متضمن للندم من الذنوب.

والشيء نفسه يجيء من جهة البشر في الوقت نفسه، فيظلم البشرُ، لأن السبب عنده ليس كوننا مذنبين، بل كوننا مسلمين. فالرضى به من هذه الجهة أعظم الجنايات.

الخطوة الثانية

يوسوس بالذات أو بالوساطة، فيقول:

بأنكم قد اتفقتم مع من هو مثلي في الكفر، فَلِم تتجنبون من المصافاة معي وموالاتي؟

نقول ردًا على هذه الشبهة:

نحن نَقْبل يدَ المعاونة، ولا نقبِّل يد المعاداة فهما شيئان متغايران، لأن كل صفة من صفات الكافر ليست بكافرة أو ناشئة من كفره، لذا لا مشاحة في مصافحة يد الكافر الذي مدها لمعاونة الإسلام، وذلك لدفع عدو الإسلام المعتدى العريق. بل قبولُها إنما هو خدمة للإسلام. أما أنت أيها الكافر الملعون فتمدّ يد الخصومة التي لا تهدأ، وتريد منـا تقبيلهـا مع الاستسلام. ونحن نعلـم أن مسها -فضلا عن تقبيلها- جنايةٌ على الإسلام وعداء له.

الخطوة الثالثة

يوسوس بالذات أو بالوساطة فيقول:

إن من ساسوكم إلى الآن أفسدوا واستهانوا بحقكم وشوّشوا عليكم الإدارة وظلموكم، إذن فلستم أهلًا للإدارة، فاتخِذوني وصيًّا عليكم وارضَوْا بحكمي وإدارتي شؤونكم.

نرد هذه الشبهة فنقول:

أيها الموسوِس الخناس! إن السبب الأصلي للسيئات التي ارتكبها رؤساءُ أمورِنا ما هو إلّا أنت، لأنك قد ضيقت عليهم الدنيا، وقطعتَ في كل فرصة مجاريَ حياتهم، وبثثت بينهم أولادك غير الشرعيين، وأجبرتَهم على ترك الدين للدنيا إذ تنكحهم مدنية لا تَأخذ مهرها إلّا من دينهم ولا تُعَيِّن حاكمًا إلّا وقد أخذتَ منه دينه رشوة لقاءَ منصبه.

ومع ذلك فلو حكّمناك فينا بدلًا منهم، نصير كمن تنجس ثوبُه بماء نجس فيغسله ببول الخنزير.

إنك لا تُبقي لنا إلا حياةً حيوانية مؤقتة، وتقتل فينا حياتنا الإنسانية والإسلامية.

أما نحن فنحيا -على رغمك- بحياة الإسلام وشرف الإنسانية.

الخطوة الرابعة

يوسوس بالذات أو بالوساطة، فيقول:

إن الذين يخاصمونني من أولياء أموركم في الأناضول، نيتُهم فاسدة ومقصدهم ليس مقاصدكم الإسلامية عينها.

نرد هذه الوسوسة فنقول:

إنهم وسائل، وتأثيرُ النيات في الوسائل قليل، إذ لا تغير حقيقةَ القصد. لأن المقصود يترتب على وجود الوسيلة وليس على ما فيها من نية.

فمثلًا: إني أحفر أرضًا لاستخراج الماء أو للعثور على كنز، وجاء أحدُهم وعاونني في الحفر بنية ستر نفسه في الحفرة أو بدفن شيء فيها، فنيتُه هذه لا تؤثر في وجدان الماء ولا الكنزِ، لأن خروج الماء يتوقف على فعل الحفر وليس على نية الحافر وقلبه.

نعم، إن قصد المخاصِمين لك وهدفَهم هو توجيه المسلمين شطرَ الكعبة لا إلى الغرب، والحفاظُ على مكانة القرآن الرفيعة ذلك الكتاب الآمر بإعلاء كلمة الله بالعزة الإسلامية. فهم يقيمون خصومةَ أوروبا مقام محبتها التي هي أساس كل مشاكلنا وسوء أخلاقنا. فكيفما تكن نيتُهم لا تغير حقيقةَ هذه المقاصد الثابتة.

الخطوة الخامسة

يقول بنفسه أو بوسائله:

إن الإمام -أي الخليفة- يؤيد سياستنا ويميل إلى الودّ معنا، وأمره مطاع!

فنرد هذه الشبهة:

إن ميلَ الشخص نفسه وأمرَه الخاص وفكره الذاتي، مغايرٌ تمامًا للميل الحاصل من الشخصية المعنوية لأمر أمين الأمة المتقلد أمانة الإمامة والخلافة؛ فهذه الإرادة تنبثق من عقل وتستند إلى قوة وتتوجه إلى مصلحة العالم الإسلامي.

أما عقلُه فهو شورى الأمة، وليس شبهتَك ووسوستَك! وقوتُه هو جيشه المسلح وأمته الحرة، وليس سلاحَك وحرابك. والمصلحة إنما تتوجه من المحيط الإسلامي إلى المركز، فتُرَجَّحُ الفائدة العظمى للإسلام والمسلمين على المصالح الشخصية. وإلّا لو انعكس الأمر ورجحت -عند التعارض- مصلحة القربى على المصلحة العظمى، كترجيح سرير السلطنة على إسطنبول وهي على الأناضول وهو على الدولة وضُحي بالعالم الإسلامي لأجل الدولة، فهذا الترجح لا يطاع. وهو أمر غير وارد أصلًا. فالسلطان المتدين، وحيدُ الدين لو أصبح أفجرَ إنسان، فلا يمكنه أن يقوم بهذا الأمر بإرادته لسبب واحد هو أنه يحمل اسم الخليفة، فإن قام به فلا يقوم إلّا مكرهًا. فطاعتُه عند ذاك بترك طاعته.

الخطوة السادسة

إنه يوسوس فيقول:

إن مقاومتكم لا فائدة فيها ولا جدوى منها، إنكم تُلقون أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، اذ كيف تقتدرون وحدكم على ما لم تقتدروا عليه مع حلفائكم؟

فنرد هذه الشبهة:

إن قوتك العظيمة المخاصِمة لنا، إنما تتماسك متخاذلةً على رجلَي الحيلةِ والإفساد، فلا نيأسُ لأسباب ثلاثة:

الأول: أن الحيلة والإفساد إنما تؤثران إذا استترتا تحت حجاب الخفاء والغفلة، فإذا ما تظاهرتا أفلستا، وانطفأت قوتهما.. وها قد تمزق الحجاب تمزقًا صيّر كذبَك وهذيانك وإفسادك أضحوكة وشيئًا عقيمًا لا يؤثر في شيء.

الثاني: أن قوتك المأفونة المنخورة المخاصِمة لنا ليست بلا أعداء إذ تُقابلها أعداء لا يقبلون الائتلاف معك أبدًا، مما يقضي عليها ويجعل تسعين بالمئة منها معطّلة لا نفع فيها. أما بقية قوتك فلا يمكنها أن تديم -كما أدامت في الماضي- استبداداتٍ قاتمة تجثم على عالم الإسلام وتسكته بكمّ الأفواه وتأسره حتى تتركه دون حراك، ذلك العالم اليقظ الذي تشترك أجزاؤه في الداء والدواء.

فهذا احتمال بعيد جدًا، إن اعتقدته فإنك إذن أحط من الدابة وأحمقُ من الحمار مع أنك شيطان خبيث.

الثالث: إن كان لابد من الهلاك بيدك فالموت بعزّةٍ حياةٌ لنا، والحياةُ بذلٍّ هي الموت بعينه. والموت على نوعين وصورتين:

أحدهما: التسليم والتذلل تحت أقدامك، فحينها نكون قاتلين لروحنا ووجداننا بأيدينا. ثم يقتل الخصمُ جسدنا كأنه قصاص لقتلنا الروحَ والوجدانَ.

والنوع الثاني: أن يحافظ المرء على وجدانه ويقاوم خصمه، ويبصق في وجهه ويُنزل صفعته على عينه، فيحيا الروح والوجدان، ويستشهد الجسد، وتتنزه الفضيلة عن الرذيلة والعقيدةُ عن الاستخفاف وعزةُ الإسلام عن الاستهزاء.

وحاصل الكلام:

إن محبة الإسلام توجب عداءكم وخصومتكم، إذ كيف يصالح جبرائيلُ (عليه السلام) عزازيلَ (الشيطان)!

إن أشد العقول بلاهةً عقلٌ يرى إمكان التوفيق والتلاؤم بين أطماع (الإنكليز) ومنافعِهم وبين عزة الإسلام ومصلحته.

وإن أكثر القلوب حماقةً قلبٌ يظن إمكان الحياة تحت حمايتهم إذ يعلقون حياتنا بشرطٍ محال في محال، إذ يقولون: احيوا حياةً ولكن بشرط ألّا تُرى في فرد منكم خيانةٌ وإلّا ندمّرْ عليكم الديار ونمحُ المتهم والبريء معًا.

فلو تحدى ظلمَهم صادقٌ لوجهِ الحق، والتجأ إلى جامع أياصوفيا، فلا يتحرجون من هدم ذلك البناء الشامخ الذي لا يقدَّر بثمن. وإذا ما وُجد في قرية مَن يقاومهم فلا يرون بأسًا من إبادة القرية كاملة بشِيبها وشبابها إذ يرون أن لهم صلاحيةَ إفناءِ جماعةٍ برمتها إذا كان فيها من يضرهم. فتبًا لمدنيةٍ خوّلتهم هذه الصلاحية.

إذن أفيمكن أن يتفق قلبٌ مع قلبِ مَن يتلذذ بغرز خنجر الظلم فيه؟

أفيمكن أن لا يوجد مشاغبٌ في مدينة أو قرية أو جماعة؟ فكيف يمكن إذن إدامة حياةِ إنسانٍ مريض مقيد، سُلب منه عصاه، وسُلط عليه كلبان ذوا مخالب وأنياب.

إن (الإنكليز) كالشيطان الرجيم يثير أحاسيس الإنسان الخبيثة ويشجع الأخلاق الرذيلة في حين يطفئ جذوة المشاعر النبيلة.

وإن ما يظهره هذا العدو من حقد دفين لا يسكن ليس هو نتيجة الحرب الحالية لأن انهزامنا كان كافيًا لتسكينه كما سكن لدى الآخرين!..

فيا أيها المسلمون، أفَبعد كل هذه الأحوال تنخدعون؟ أَفَبعد ما رأيتم من قربٍ قبحَ الكفار وشناعتهم -بعد ما كان يُرى جميلًا من بعيد- تستحسنون ما استقبحه الشرعُ والعقل ومصلحة الإسلام.

استعيذوا بالله من همزات الشيطان، والتجِئُوا إليه متضرعين نادمين وتوسلوا برحمة الرحمن الرحيم.

* * *

نبذة تاريخية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

نبذة تاريخية

بينما كانت رحى الحرب دائرة في معارك ضارية وتَسيل دماءُ الألوف من المسلمين رخيصة في سبيل الدفاع عن مركز الخلافة «إسطنبول»، بدأ الحلفاء ولا سيما الإنكليز بشن حرب نفسية وإشاعةِ أفكار مضللة تمس عقيدة الأمة، فانبثّ أعوانُهم وجواسيسُهم في أرجاء إسطنبول يُلقون بألسنتهم تلك الشبهاتِ المغرضة وينشرونها في أوساط العامة والخاصة، ضمن حرب هادفة تحطم الروح المعنوية للمسلمين.

ولما شاهد الأستاذ النُّورْسِيّ سَرَيان هذه الأفكار المسمومة في هذه الحرب الماكرة التي استطاعت استمالة قسم من العلماء إلى صف الإنكليز، قام بتأليف هذه الرسالة: «الخطوات الست» مبينًا فيها مكايد الغزاة المحتلين، داحضًا شبهاتِهم ووساوسَهم الشيطانية، مُبعدًا عن المسلمين مشاعرَ اليأس والقنوط.

وطُبعت الرسالة سرًا، ونُشرت وهي لا تَحْمِل اسم المطبعة ولا سَنَة الطبع، وقام محبو الأستاذ وتلاميذُه بنشرها في أوسع نطاق في خفاء تام.

ولنلق الآن نظرة سريعة على تلك الأحوال التي واكبت تأليفَ الرسالة ونَشْرَها ومدى تأثيرها:

في13 تشرين الثاني سنة 1919م دخلت خمس وخمسون سفينة حربية من أساطيل الحلفاء إسطنبول، حسب هدنة «موندروس». وصلت هذه السفن إلى البسفور أمام قصر «دولمه باغجه» وَوَجهت مدافعها نحو قصر الخليفة «السلطان وحيد الدين» الذي أصبح في حكم الأسير.

هكذا داست أقدامُ جنودِ أربع دول محتلة إسطنبولَ. وخرجت الأقلياتُ غير المسلمة ترحب بجنود الاحتلال وتصفق لهم، فاليهود والأرمن بدأوا يجوبون الشوارع ويلوّحون بقبعاتهم لهؤلاء المحتلين وينثرون عليهم الورود. أما الروم فقد كانوا يحملون أعلام اليونان الصغيرة ويهتفون: زيتو. زيتو. أي يعيش. يعيش.

وبين مظاهر فرح اليهود والأرمن والروم وهتافاتهم وتصفيقاتهم اخترق القائدُ الفرنسي الجنرال «فرانس دوبر» شارع «بك أوغلو» متوجهًا إلى السفارة الفرنسية ممتطيًا جوادًا أبيض، وملوحًا بيديه لهؤلاء المستقبِلين، مقلدًا في ذلك الفاتحين العظماء في التاريخ. بل لم يتورع مِنْ وَطْءِ العَلَم العثماني بحوافر جواده.

أما المسلمون فقد كانوا يشاهدون هذه المناظر بقلوب جُرحت وعيون تجمدتْ في مآقيها الدموع، ويطوون هذه الآلام في أعماق قلوبهم.

ولم تكن إسطنبول هي المدينة الوحيدة التي احتلتها دول الحلفاء. بل تم احتلال مدن أخرى كثيرة، احتلها الأرمن والإيطاليون والإنكليز واليونان والروس حيث سُرِّح الجيش العثماني من الخدمة بموجب تلك المعاهدة المذكورة ولم يبق إلّا الأناضول (وسط تركيا) سالمًا من الاحتلال.

وهكذا امتلأت شوارع هذه المدن بجنودٍ سكارى يعربدون ويصخبون ويفسدون كيفما شاؤوا. ويخيم على الأحياء الإسلامية حزنٌ صامت.

في هذا الجو القاتم كان الأستاذ النُّورْسِيّ يشعر بألم عميق، وكان أصدقاؤه يحاولون التسرية عنه والتخفيف من شدة آلامه. وهو يقول لهم والأسى يعصر قلبه:

«لقد تحملتُ آلامي الشخصية كلها. ولكن آلام الأمة الإسلامية سحقتني، إنني أشعر بأن الطعنات التي وجهت إلى العالم الإسلامي، أنها توجه إلى قلبي أولًا. ولهذا ترونني مسحوق الفؤاد. ولكني أرى نورًا سَيُنْسينا هذه الآلام إن شاء الله».

ومع أن الجانب العسكري والمادي للدولة العثمانية قد انهدّ أمام الحلفاء، إلّا أن الحرب النفسية ما زالت دائرة، فالإنكليز ما فتئوا يزاولون بث الأفكار والشبهات كي يكون النصر ساحقًا وكاملًا ونهائيًا من دون أن يكون هناك احتمال للمقاومة، فيجب أن تُسلِّمَ الضحيةُ رقبتَها برضاها إلى جلاديها دون تذمر.([1])

وما إن دخل القائد الإنكليزي إسطنبول حتى سُلّمت له رسالة «خطوات ستة» التي تهاجمهم بعنف وتفنّد أباطيلهم وتشد من عزائم المسلمين.. وعُرض عليه نشاط «بديع الزمان» الدائب في فضح سياسة المحتلين وتأليب الناس عليهم.

قرر القائد الإنكليزي إعدام الأستاذ النُّورْسِيّ، ولكن عندما أُعلم أن هذا القرار سيثير غضب الأمة كلها ويزيد سخطها، وسيدفعهم إلى القيام بأعمال عدائية مهما كلفهم ذلك، تخلّى عن قرار الإعدام، إلّا أن سلطات الاحتلال لم تَفْتُرْ عن ملاحقة الأستاذ.

ولما سمع قوادُ حركة التحرير في الأناضول بتأثير هذه الرسالة في أوساط العامة والخاصة، وعن أعمال «بديع الزمان» ضد المحتلين في إسطنبول دَعَوه إلى «أنقرة» مرتين تقديرًا لأعماله البطولية وخدماته الجليلة نحو الأمة والبلاد. إلّا أن الأستاذ النُّورْسِيّ آثر البقاء في إسطنبول يجابه الأعداء مباشرة ورفض الدعوة قائلًا:

«إنني أريد أن أجاهد في أكثر الأماكن خطرًا، وليس من وراء الخنادق، وأرى أن مكاني هذا أخطر من الأناضول».

كتب الأستاذ النُّورْسِيّ هذه الرسالة بالتركية، وطُبعت من دون الإشارة إلى اسم المطبعة وسنة الطبع كما ذكرنا، ثم عرّبها بنفسه وطبعها في مطبعةِ «أوقاف إسلامية» بإسطنبول سنة 1336هـ-1338 رومي، في كتيب يضم «الخطبة الشامية» و«سنوحات». وقام طلاب النور بإعادة طبعها سنة 1958 في مطبعة النور بأنقرة. والطبعتان مليئتان بأخطاء إملائية ومطبعية.

قابلتُ النصّين التركي والعربي، ووجدتُ أن عبارات النص التركي أوضح من النص العربي وفيه زيادات طفيفة، فاستخلصت منهما هذا النص الذي يستوعب النص التركي معنىً، ويكاد يطابق النص العربي مبنىً.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل،

وصلّ اللّهم وسلم على سيدنا محمّد وعلى آلهِ وصحبه أجمعين.

إحسان قاسم الصالحي


[1] سعيد النورسي رجل القدر في حياة أمة -تأليف أورخان محمد علي- باختصار.

خطاب إلى الجنود

القطعة الأخيرة من ذيل الذيل

هذه القطعة عبارة عن درسين أُلقِيَا على الأفواج الثمانية من الذين قاموا بالعصيان في حادثة 31 مارت المشهورة، وعلى أثرهما اقتنعوا بالعودة إلى الولاء. فهانت المصيبة من المئة إلى الواحد.

نُشر هذان الدرسان في الجرائد الدينية سنة 1325 رومي – 1909م.

إلى جنودنا الأشاوس

4 نيسان 1325 رومي

الجريدة الدينية عدد/107

17نيسان 1909م

أيها الجنود الموحِّدون الأبطال!

أيها الأبطال الذين أنقذوا هذه الأمة المظلومة والإسلامَ المقدس من الوقوع في ورطتين عظيمتين!

إن عزّكم وبهاءكم في الانتظام والانضباط. وقد أظهرتموهما في أحلك الظروف وأحرجها وأشدها اضطرابًا. فحياتكم وقوتكم إنما هي في الطاعة. أَظْهِروا هذه الفضيلة المقدسة لأصغر أمرائكم. فإن شرفَ ثلاثين مليونًا من العثمانيين وثلاثِمائةِ مليونٍ من المسلمين أصبح منوطًا بطـاعتكم أنتم.

إن راية الإسلام والتوحيد الإلهي في يد شجاعتكم وبطولتكم. وإن قوة أيديكم المباركة إنما هي في الطاعة. فضباطكم هم كآبائكم المشفقين، وقد ثبت بالقرآن والحديث والحكمة والتجربة: أن طاعة الأمر في الحق فرض. فكما تعلمون، أن ثلاثين مليونٍ لم يتمكنوا أن يقوموا بمثل هذين الانقلابين خلال مائة سنة.

ولقد جَعَلَتْ قوتُكم التي تنبعث من طاعتكم الأمةَ الإسلامية في شكران وتقدير، وإن إدامة هذا الشرف والحفاظَ عليه إنما هو في طاعتكم لضباطكم. وأنا أعلم أنكم لم تدخلوهم في الاضطرابات لئلا تجعلوا ضباطكم مسؤولين وهم كآبائكم الرحماء بكم.

أما الآن فلقد انتهى الأمر. فارتمُوا في أحضانِ شفقةِ ضباطكم ورحمتهم. إن الشريعة الغراء تأمرنا هكذا. إذ الضباط هم أولو الأمر. فمن جهةِ مصلحة الوطن والأمة -ولا سيما في النظام العسكري- إطاعةُ أولى الأمر فرض، والحفاظُ على الشريعة المحمدية إنما هو بالطاعة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

خطاب إلى الجنود

7 نيسان 1325 رومي

الجريدة الدينية عدد 110

30 نيسان 1909م

يا عساكر الموحدين! إني أبلغكم أوامر سيد العالمين ﷺ:

إن طاعة أولى الأمر ضمن الدائرة المشروعة فرض. فأولياء أموركم وأساتذتكم ضباطكم.

إن الثكنات العسكرية أشبه ما تكون بمعمل عظيم منتظم؛ إذا اختل دولاب من العمل، يؤثر في خراب المعمل بأكمله.

إن مصنعكم العسكري القوي المنظَّم نقطةُ استنادِ واعتمادِ ثلاثين مليونًا من العثمانيين وثلاثمائة مليونٍ من المسلمين ونقطة استمدادهم.

إن قتلكم لاستبدادَين عظيمَين دون إراقةِ دم كان أمرًا خارقًا. ولأنكم قد أظهرتم معجزتين للشريعة الغراء. فقد أظهرتم لضعفاءِ العقيدة قوةَ الحمية الإسلامية وقدسيةَ الشريعة في برهانين اثنين.

ولو كنا نضحي بألوفٍ من الشهداء في سبيل هذين الانقلابين لكنا نعدها ضئيلة، ولكن لو ضُحيَ بجزء من ألفِ جزءٍ من طاعتكم فهو غال جدًا. لأن تناقص طاعتكم يولد الموت، كتناقص الحرارة الغريزية والعقدة الحياتية.

إن تاريخ العالم يشهد أن تدخل الجنود في السياسة قد أدّى إلى أضرار جسيمة للدولة وللأمة معًا. فلابد أن حميتكم الإسلامية ستَصْرِفكم عن مثل هذه الأضرار التي تصيب حياة الإسلام التي تكفلتم بحفظها.

إن الذين يفكرون في السياسة هم بمثابة قوتكم المفكرة من أولياء الأمور والضباط. إن ما تظنونه -أحيانًا- من ضرر يصبح خيرًا، لأنه يدفع ضررًا أكبر في السياسة. فضباطكم حسب تجاربهم يرون هذا الأمر ويأمرونكم به. فعليكم الطاعة دون تردد، إذ لا يجوز التردد والتلكؤ.

إن الأفعال غير المشروعة الخاصةَ لا تنافي المهارة والحذاقة في الصنعة ولا تجعل الصنعة غير مرغوب فيها. فالطبيب الحاذق مثلًا أو المهندس الماهر إذا ما تَصرف تصرفًا غير مشروع فلا يؤدي ذلك إلى ترك الاستفادة مما لديه من طب أو هندسة، كذلك فن الحرب، فضباطكم المجربون والماهرون المنورون فكرًا بالحمية الإسلامية، إذا قام بعضٌ منهم بأمر غير مشروع لا يجوز أن يؤدي ذلك إلى عدم طاعتهم وعصيانهم لأن فن الحرب مهارة مهمة.

إن الشريعة الغراء التي هي قوام حياتكم قد ابتلعت الجمعياتِ التي تُشتت الأفكارَ وتفرّق الناس. فهي كاليد البيضاء لسيدنا موسى عليه السلام أَرغمت السَّحَرَةَ على السجود.

إن أعمالكم كانت علاجًا لهذه الحركات الانقلابية. فإذا ما زادت قليلًا انقلبت سمًا قاتلًا وأدّت بالحياة الإسلامية إلى أمراض جسام. ثم إن ما فينا من استبداد قد زال بهمتكم، ولكن نحن لا زلنا تحت الاستبداد المعنوي لأوربا في مضمار الرقي.

فلابد من الالتزام بأقصى درجات الحذر والسكينة والهدوء.

فلتحيا الشريعة الغراء، فليعش الجنود.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

رد الأوهام

رد الأوهام

18 مارت 1325 رومي

31 مارت 1909 ميلادي

سأردّ هنا الأوهام الفاسدة التسعة التي أسندت إلى جماعة الاتحاد المحمدي:

الوهم الأول:

إن طرح المسألة الدينية في الأوساط لا يلائم مثل هذا الظرف الدقيق.

الجواب: نحن نحب الديـن ونحب الدنيا أيضًا لأجـل الدين.. و [لا خيـر في الدنيا بلا دين].

ثانيًا: ما دامت الحاكمية للشعب في المشروطية فلابد أن يُثبت الشعب وجوده. وشعبنا مسلم ومسلم فقط. فليست هناك رابطة حقيقية وقوية غير الإسلام بين العرب والترك والكرد والأروناؤوط والجركس واللاز.

إن إهمالًا طفيفًا في الدين أدّى إلى إرساء قواعد طوائف الملوك وظهور الجاهليات الميتة قبل ثلاثة عشر قرنًا وبالتالي إلى ظهور الـفتن والقـلاقـل. وقد ظهرت فعلًا وشاهـدناها.

الوهم الثاني:

إن تخصيص هذا العنوان -أي الاتحاد المحمدي- يجعل غير المنتسبين إليه في شك من أمرهم.

الجواب: وقد قلت سابقًا: فإما أنه لم يُقرأ أو فُهم خطًا؛ لذا أضطر إلى التكرار وهو: عندما نقول «الاتحاد المحمدي» الذي هو اتحاد الإسلام، فالمراد هو الاتحاد الموجود الثابت بين جميع المؤمنين بالقوة أو بالفعل. وليس المراد جماعة في إسطنبول أو في الأناضول إذ إن قطرة من ماءٍ تحمل صفة الماء، فلا أحد خارج هذا الاتحاد، ولا يخصص هذا العنوان بأحد. وتعريفه الحقيقي هو:

أن أساس هذا الاتحاد يمتد من الشرق إلى الغرب ومن الجنوب إلى الشمال.. ومركزه: الحَرمان الشريفان.. وجهة وحدته: التوحيد الإلهي.. عهده وقَسَمه: الإيمان.. نظامه الداخلي: السنة النبوية الشريفة.. قوانينه: الأوامر والنواهي الشرعية..مقر اجتماعاته: جميع المدارس والمساجد والزوايا.. ناشرُ أفكار تلك الجماعة نشرًا خالدًا إلى الأبد: جميعُ الكتب الإسلامية وفي المقدمة القرآن الكريم وتفاسيره (ورسائل النور أحد تلك التفاسير في زماننا هذا) وجميعُ الصحف الدينية والجرائدُ النزيهة التي تهدف إلى إعلاء كلمة الله.. ومنتسبوه: جميع المؤمنين.. رئيسه: فخر العالمين ﷺ.

والآن لنقف عند الصدد وهو: تيقظ المؤمنين وإقبالهم نحو الإسلام ولا ينكر ما للرأي العام من تأثير.. وهدف الاتحاد وقصده: إعلاء كلمة الله.. ومسلكه: الجهاد الأكبر للنفس وإرشادُ الآخرين.. وهمة هذه الهيئة المباركة مصروفة بنسبةِ تسعٍ وتسعين بالمئة إلى غير السياسة من تهذيب الأخلاق واستقامة السلوك وما شابهها من الفضائل والمقاصد المشروعة إذ إن الجمعيات المتوجهة إلى مثل هذه المقاصد نادرة، علمًا أن أهميتها جليلة. وهناك واحد بالمئة من المقاصد يتعلق بالسياسة وهو إرشاد السياسيين.. سيوفهم: البراهين القاطعة.. مشربهم: المحبة وإنماء المحبة المندمجة في بذرة الأخوّة الموجودة بين المـؤمنـين لتصبح شجرة طوبى مباركة.

الوهم الخامس:

ربما ينفر الأجانب من هذا الاتحاد؟

الجواب:

إن مَن يجد في نفسه هذا الاحتمال جاهل لا محالة إذ يردّ هذا الاحتمالَ ما يُلقَى من خطب ومحاضرات حول الإسلام وعظمته في مراكزهم وعواصمهم.

ثم إن أعداءنا ليسوا الأجانب. وإنما الذي أردانا إلى هذا الوضع وحال بيننا وبين إعلاء كلمة الله هو مخالفتنا للشريعة الغراء نتيجةَ «جهلنا» بها، و«الضرورةُ» التي أثمرت سوء الأخلاق وسوء المعاملات، و«الاختلافُ» الذي أنتج الأغراض الشخصية والنفاقَ، فاتحادنا هجوم على هذه الثلاثة من الأعداء الظَلَمَة.

أما وحشية الأجانب في القرون الوسطى، فالإسلام مع اضطراره إلى معاداة الجهل والهمجية إلّا أنه قد حافظ على العدالة والاستقامة معهم فلم يُرَ في التاريخ الإسلامي أمثال محاكم التفتيش. ولما قوي ساعد المدنيين في زمن التحضر هذا فقد زال عنهم ذلك التعصب الذميم.

إن الظهور على المدنيين من منظور الدين إنما هو بالإقناع وليس بالإكراه، وبإظهار الإسلام محبوبًا وساميًا لديهم، وذلك بالامتثال الجميل لأوامره وإظهار الأخلاق الفاضلة.

أما الإكراه والعداء، فهما تجاه وحشية الهمجيين.

الوهم السادس:

إن البعض يقول: إن اتخاذَ اتحادِ الإسلام اتّباعَ السنة النبوية هدفًا له يحدد من الحرية وينافي الأخذ بمتطلبات المدنية.

الجواب:

المؤمن حرّ في ذاته. فالذي هو عبد لله رب العالمين لا ينبغي له أن يتذلل للناس، بمعنى أنه كلما رسخ الإيمان قويت الحرية.

أما الحرية المطلقة فما هي إلّا الوحشية المطلقة بل هي بهيمية، وتحديد الحرية ضروري من وجهة نظر الإنسانية.

ثالثًا: إن قسمًا من السفهاء والمُهمِلين يريدون أن يَظَلُّوا أذلاءَ أسارى النفس الأمارة بالسوء، فلا يروق لهم العيش الحر.

الحاصل: إن الحرية الخارجة عن دائرة الشرع، إنما هي استبداد أو أسرٌ بيد النفس الأمارة بالسوء، أو بهيمية أو وحشية. فليعلم جيدًا هؤلاء الزنادقة والمُهمِلون للدين أنهم لا يستطيعون أن يحببوا أنفسهم لأي أجنبي كان يملك وجدانًا، بالإلحاد والسفاهة، بل لا يمكنهم أن يتشبهوا بهم. لأن السفيه والذي لا يسير على هدى لا يكون محبوبًا، فالثياب الـلائقـة بامرأة إذا ما لبسها الرجل يكون موضع هـزء وسخرية.

الوهم السابع:

إن جمعية اتحاد الإسلام إنما هي لشق الصف بين سائر الجمعيات الإسلامية وتولّدِ الحسد والنفرة بينها.

الجواب:

أولًا: إن الأمور الأخروية لا حسد فيها ولا تنافر وتزاحمَ؛ فأيما جمعية حسدت وزاحمت الاتحاد فكأنما تنافق في العبادة وترائي فيها.

ثانيًا: إننا نتحد مع الجماعات المتشكّلة بدافع محبة الدين وخدمته وذلك على وفق شرطين اثنين:

الشرط الأول: المحافظة على النظام العام للبلاد والحرية الشرعية.

الشرط الثاني: انتهاج نهج المحبة، وعدم محاولة إظهار مزايا لها بانتقاص الجمعيات الأخرى، بل الأَولى مراجعة مفتي الأمة وجماعة العلماء فيما إذا ظهر خطأ.

ثالثًا: إن الجماعة التي تهدف إلى إعلاء كلمة الله لن تكون وسيلة لأي غرض مهما كان، وإذا تشبثت بالأغراض فلا يحالفها التوفيق قطعًا لأنه نفاق، فشأن الحق عالٍ وسامٍ لا يضحى به من أجل أي شيء كان. كيف تكون نجوم الثريا مكانس، أو كيف تؤكل كعناقيدِ عنبٍ؟ إن الذي يريد أن يطفئ شمس الحقيقة بالنفخ إنما يدلّ على بلاهته وجنونه.

أيتها الصحف الدينية!

إن قصدنا وهدفنا هو اتحاد الجماعات الدينية في الهدف؛ إذ كما لا يمكن الاتحاد في المسالك والمشارب فلا يجوز أيضًا، لأنه يؤدي إلى التقليد وإلى القول: «مالي وما عليّ،
فليفكر غيري».

الوهم الثامن:

إن المنتسبين إلى الاتحاد -معنىً وصورة- أكثرهم من العوام وقسم منهم غير معروفين وهذا مدعاة إلى حدوث فتن واختلافات.

الجواب:

إنما ذلك لعدم السماح في هذا الاتحاد بالتمايز بين الناس سواء أكانوا من الخاصة أم من العامة، ثم لأن المرء في الاتحاد يدعو إلى إعلاء كلمة الله فكل ما يقوم به يثاب عليه ثوابَ عبادةٍ.. ففي جامع العبادة يتساوى الملك والمتسول فلا امتياز، بل المساواة الحقة دستور قائم. لأن الأكرمَ عند الله هو الأتقى، والأتقى هو المتواضع، فبناءً على هذا يتشرف الشخص بانتسابه إلى هذه الجماعة الخالصة لخدمة الدين والدعوةِ إلى الآخرة، وإلّا فلا يزيد الاتحاد شرفًا، إذ القطرة لا تزيد البحر شيئًا.. ثم إن الإنسان كما لا يخرج عن الإيمان بارتكاب كبيرة، فإن باب التوبة أيضًا مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها. والبحر لا يتنجس بغرفة ماء، بل يطهِّر اليدَ فالمنتسب إلى هذا المثال المصغر للاتحاد الإسلامي يشترط عليه اتباعُ السنة النبوية وإحياؤها وامتثالُ أوامرها واجتنابُ نواهيها وعدمُ الإخلال بأمن البلاد ونظامها، فالمجهول الذي انتسب إلى هذا الاتحاد لا يلوِّث -قصدًا- هذه الحقيقة ما استطاع إليه سبيلًا، وحتى لو كان المرء نفسه مذنبًا فإيمانه نزيه مقدّس. والرابطة إنما هي بالإيمان ليس إلّا.

فتشويه هذا العنوان المقدس بحجج واهية أمثالِ هذه إنما ينجم عن الجهل بعظمة الإسلام فضلًا عن إظهار هذا المتحججِ نفسه أنه أحمق الناس.

نحن نردّ بكل ما أوتينا من قوة تشويه سمعة اتحادنا الذي يمثل «اتحاد المسلمين» أو التعريض به مما هو دأب الجمعيات الدنيوية الأخرى، ونحن على أتم استعداد للإجابة عن أي استفسار واعتراض كان.

إن الجماعة التي أنضمُّ إليها إنما هي هذا الاتحاد الإسلامي الذي فصّلنا القول فيه. وإلّا فليست هي تلك التي يتخيلها المعترضون بخيالهم الباطل.

إن أفراد هذه الهيئة الدينية هم معًا، سواءً أكانوا في الشرق أو الغرب أو الجنوب أو الشمال.

سؤال: أنت تذيّل مقالاتك وتمضيها باسم «بديع الزمان» وهذا يومئ إلى المدح؟

الجواب: كلا، ليس للمدح! وإنما أريد أن أُبين -بهذا الإمضاء- تقصيري. وتعليلي هو:

أن البديع يعني: «الغريب» فأخلاقي غريبة كمظهري، وأسلوبُ بياني غريب كملابسي، كلها مخالِفة للآخرين.

فأنا أرجو بلسان حالِ هذا العنوانِ عدمَ جعل المحاكمات العقلية والأساليبِ المتداولة والرائجة مقياسًا لمحاكماتي العقلية ومحكًا لأساليب بياني.

ثم إن قصدي من البديع هو «العجيب» فلقد أصبحتُ مصداقًا لما قيل:

[إِلَىَّ لَعَمْري قَصْدُ كُلِّ عَجيبَةٍ    كَأني عَجيبٌ في عُيُون العَجَائب]

ومثاله الواضح هو:

لقد جئت إلى إسطنبول منذ سنة ورأيت حوادثَ وانقلاباتٍ تَحدُثُ في مئة سنة.

والسلام على من اتبع الهدى.

نقول بلسان جميع المؤمنين وبعددهم: فلتحيا الشريعة الأحمدية

بديع الزمان

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

أخي رئيس التحرير!

على الأدباء أن يتأدبوا، ويتحلوا بالآداب الإسلامية، فلينظم ما في وجدانهم من شعور ديني نظامَ المطبوعات، فلقد أظهر هذا الانقلابُ الإسلاميُّ: أن المهيمن في الوجدان إنما هو الحَمِيَّة الإسلامية. ولقد عُرِف أن الاتحاد الإسلامي شامل لأهل الإيمان والجيش كافة، فلا أحد خارج عنه.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

لتحيا الشريعة الأحمدية

لتحيا الشريعة الأحمدية

«على صاحبها الصلاة والسلام»

5 مارت 1325 رومي

الجريدة الدينية/77

18مارت 1909م

إن الشريعة الغراء باقية إلى الأبد؛ لأنها آتية من الكلام الأزلي وأن النجاة والخلاص من تحكم النفس الأمارة بالسوء بنا هي بالاعتماد على الإسلام والاستناد إليه والتمسك بحبل الله المتين.

وإن جَنْيَ فوائد الحرية الحقة والاستفادة منها استفادة كاملة منوط بالاستمداد من الإيمان؛ ذلك لأن من أراد العبودية الخالصة لرب العالمين لا ينبغي له أن يُذِلّ نفسه فيكونَ عبدًا للعبيد. وحيث إن كل إنسان راعٍ في مُلكه وعالَمه فهو مكلّف بالجهاد الأكبر في عالمه الأصغر ومأمور بالتخلق بأخـلاق النـبي ﷺ وإحياء سنته الشريفة.

يا أولياء الأمور! إن أردتم التوفيق فاطلبوه في موافقة أعمالكم للسنن الإلهية في الكون -أي قوانين الله- وإلّا فلن تحصدوا إلّا الخذلان والإخفاق. لأن ظهور الأنبياء عامة في الممالك الإسلامية والعثمانية إنما هو رمز وإشارة من القدر الإلهي: أن الذي يدفع أبناء هذه الممالك إلى التقدم إنما هو الدين، وأن أزاهير مزرعة آسيا وإفريقيا وبساتين نصف أوروبا ستتفتح وتزدهر بنور الإسلام.

اعلموا أن الدين لا يضحَّى به لأجل الحصول على الدنيا؛ فقد كانت تعطَى فيما مضى مسائلُ الشريعة أتاوة للحفاظ على الاستبداد البائد.([1]) أروني ماذا حصدنا من ترك مسائل الدين والتضحية بها غيرَ الضرر والخيبة.

إن إصابة الأمة في قلبها إنما هو من ضعف الدين ولن تنعم بالصحة إلّا بتقوية الدين.

إن مشربنا: محبة المحبة، ومخاصمة الخصومة، أي إمداد جنود المحبة بين المسلمين، وتشتيت عساكر الخصومة فيما بينهم.

أما مسلكنا: فهو التخلق بالأخلاق المحمدية ﷺ وإحياء السنة النبوية.

ومرشدنا في الحياة: الشريعة الغراء

وسيفنا: البراهين القاطعة.

وهدفنا: إعلاء كلمة الله..

إن كل مؤمن هو منتسب -معنىً- لجماعتنا،([2]) وصورة هذا الانتساب هو العزم القاطع على إحياء السنة النبوية في عالمه الخاص، فنحن ندعو باسم الشريعة أولئك المرشدين وهم العلماء والمشايخ من طلاب العلوم إلى الاتحاد قبل أي أحد سواهم.

 سعيد النُّورْسِيّ

تنبيه خاص

إن الصحفيين الذين هم خطباء عامّون قد أوقعوا الأمة في مستنقع فاسد بقياسين فاسدين:

الأول: أنهم يقيسون الولايات الأخرى على إسطنبول علمًا أن الأطفال الذين لا يستطيعون قراءة الألفباء إذا لُقِّنوا الفلسفة فإنه يكون تلقينًا سطحيًا.

الثاني: أنهم يقيسون إسطنبول على أوروبا علمًا أن الرجل إذا ما لبس ثوب امرأة يكون محل هزء وسخرية ويتسفل.

سعيد النُّورْسِيّ


[1] المقصود عهد السلطان عبد الحميد الثاني، والأستاذ النورسي مع أنه كان يشنّع بالاستبداد إلّا أنه يحسن الظن بالسلطان نفسه، فهو إذ يفضح مساوئ الاستبداد الذي كان يمارس باسم السلطان يبرئ ساحة السلطان فيقول عنه: السلطان المظلوم.. إنه ولي من أولياء الله الصالحين.

[2] هذه المقالة والتي تعقبها تعدّ دعوة واضحة إلى الاتحاد الإسلامي والرجوع إلى الشريعة والتمسك بأهداب الدين ونبذ الخلافات مهما كـانت صورها، وهي في الوقت نفسه تمهيد للأذهان لقبول «الاتحاد المحمدي» بمفهومه العام الشامل لجميع المسلمين، والذي أُعلن عنه رسميًا في 5/نيسان/1909 ضمن احتفال مهيب في جامع أياصوفيا.

صدى الحقيقة

صدى الحقيقة

27 مارت 1909م

إن السبيل المحمدي مستغنٍ عن كل ما يومئ إلى الحيلة والشك لأنه منزّه عن الخداع والشبهة.

ثم إن حقيقة واسعة عظيمة محيطة إلى هذا الحد -ولا سيما تجاه أهل هذا الزمان- لا يمكن أن تخفى مطلقًا.

وهل يخفى البحر العظيم في كأس؟!

أقول مكررًا إن التوحيد الإلهي هو جهة الوحدة في الاتحاد المحمدي الذي هو حقيقةُ اتحاد الإسلام (الوحدة الإسلامية).

أما يمينه وبيعته فهو الإيمان.

ومقرّاته وأماكن تجمعاته: المساجد والمدارس الدينية والزوايا.

ومنتسبوه: جميع المؤمنين.

ونظامه الداخلي: السنن الأحمدية، والقوانين الشرعية بأوامرها ونواهيها. فهذا الاتحاد ليس نابعًا من العادة وإنما هو عبادة.

فالإخفاء والخوف من الرياء، والفرائض لا رياء فيها، وأوجبُ الفرائض في هذا الوقت هو اتحاد الإسلام (الوحدة الإسلامية).

وهدف الاتحاد وقصده تحريك الرابطة النورانية التي تربط المعابد الإسلامية التي هي منتشرة ومتشعبة، وإيقاظ المرتبطين بها بهذا التحريك، ودفعهم إلى طريق الرقي بأمر وجداني.

مشرب هذا الاتحاد هو: المحبة. وعدوه: الجهل والفقر والنفاق.

وليطمئن غير المسلمين بأن اتحادنا هو الهجوم على هذه الصفات الثلاث ليس إلّا.

وبالنسبة إليهم فسبيلنا الإقناع؛ لأننا نعتقدهم مدنيين. وإننا مكلفون بأن نظهر الإسلام بمظهر الجمال والحسن المحبوب، لأننا نظن فيهم الإنصاف. ألَا فليعلم المُهمِلون غير المكترثين أنهم لا يحببون أنفسهم بالانسلاخ من الدين لأي أجنبي كان. وإنما يظهرون أنهم على غير هدى ليس إلّا. ومن كان على غير هدى في طريق الفوضوية لا يُحَبّ قطعًا، والذين انضموا إلى هذا الاتحاد بعد التدقيق العلمي والبحث والتحري لا يتركونه تقليدًا لأولئك حتمًا.

نحن نَعرِض أفكار اتحاد الإسلام الذي هو الاتحاد المحمدي ومسلكَه وحقيقته للناس أجمعين. ونحن مستعدون لسماع أي اعتراض كان.

جمله شيران جهان بستهء إين سلسله أند

روبه أزحيله جه سان بكُسلد إين سلسله را

أي:

هـل يقـطع الـثـعلب المـحتـال سلسلةً

قِـيدتْ بـهـا أسد الـدنـيـا بـأسـرهم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

«فقرة تركتُها من «فهرس المقاصد» المنشور»

إن نهر العلوم الحديثة والثقافة الجديدة الجاريَ والآتي إلينا من الخارج كما هو الظاهر، ينبغي أن يكون أحدُ مجاريه قسمًا من أهل الشريعة كي يتصفى من شوائب الحيل ورواسب الغش والخداع، لأن الأفكار التي نمت في مستنقع العطالة، وتنفست سموم الاستبداد، وانسحقت تحت وطأة الظلم، يُحدِث فيها هذا الماءُ الآسن العفن خلافَ المقصود.

فلابد إذن من تصفيته بمصفاة الشريعة. وهذا الأمر تقع مسؤوليتُه على عاتق أهل المدرسة الشرعية.

والسلام على من اتبع الهدى

سعيد النُّورْسِيّ

حقيقة

حقيقة

26 شباط 1324رومي

الجريدة الدينية/70

7 مارت 1909م

نحن منذ الأزل داخلون في الجمعية المحمدية، فالتوحيد هو جهة الوحدة والاتحاد فيما بيننا، وقَسَمُنا وعهدنا هو الإيمان.

فما دمنا موحدين متحدين، فكل مؤمن مكلفٌ بإعلاء كلمة الله… وأعظمُ وسيلة لإعلاء كلمة الله في زماننا هذا هو الرقي المادي.

إذ الأجانب يسحقوننا تحت تحكمهم المعنوي بسلاح العلوم والصنائع، ونحن سنجاهد بسلاح العلم والتقنية الجهلَ والفقرَ والخلاف الذي هو ألد أعداء إعلاء كلمة الله.

أما الجهاد الخارجي فنحيله إلى السيوف الألماسية للبراهين القاطعة للشريعة الغراء. لأن الغلبة على المدنيين إنما هي بالإقناع وليس بالإكراه كما هو شأن الجهلاء الذين لا يفقهون شيئًا.

نحن فدائيو المحبة لا مكان بيننا للخصومة.

فالجمهورية([1]) عبارة عن العدالة والشورى وحصر القوة في القانون… أليس من الجناية على الإسلام أن تستجدى الأحكام من أوروبا ولنا شريعة غراء تأسست قبل ثلاثة عشر قرنًا؟ إن هذا الاستجداء شبيه بالتوجه إلى غير القبلة في الصلاة.

إن القوة لابد أن تكون في القانون وإلّا فسيتفشى الاستبداد في الكثيرين.

ولابد أن يكون المهيمن والأمر الوجداني قوله تعالى: ﴿اِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزيزٌ (الحج:74). وهذا يكون بالمعرفة التامة والمدنية الكاملة أو بتعبير آخر بالإسلام. وإلّا فسيكون الاستبداد هو المستولي دائمًا.

إن الاتفاق في الهدى وليس في الهوى والهوس.

نعم، إن الله خلق الناس أحرارًا وهم عبيد لله، فقد تحرر كل شيء، فنحن بامتثالنا الشريعة أحرار، وبتمسكنا بالمشروطية أحرار أيضًا، ولن نتنازل عن المسائل الشرعية ولن نعطيها أتاوة. إن قصور فردٍ عن شيء لا يكون عذرًا لقصور آخر.

اعلموا أن اليأس مانع كل كمال.

إن هدية الاستبداد وتذكاره هو: «ما لي أنا.. فليفكّر غيري».

أحيل الربط بين هذه الجمل إلى فِكر المُطالِع الكريم لعدم إتقاني اللغة التركية!!

سعيد النُّورْسِيّ


[1] وضعت هذه الكلمة حديثًا بدلًا من المشروطية الموجودة سابقًا… (المؤلف).

لتحيا الشريعة الغراء

ذيل الذيل

لتحيا الشريعة الغراء

26شباط 1324رومي

الجريدة الدينية/70

7 مارت 1909م

أيها النواب!

سأقول جملة واحدة موجزة مع أنها طويلة. فأرجو أن تلاحظوها باهتمام بالغ، إذ في إطنابها إيجاز وهي:

إن المشروطية والقانون الأساس هما العدالة والشورى وحصر القوة في القانون…

مع هذا العنوان أقول:

إن الإسلام وشريعته الغراء -هو: المالك الحقيقي وصاحب العنوان المعظم.. والمؤثر الحق والمتضمن للعدالة المحضة.. ويحقق نقطة استنادنا.. ويرسي المشروطية على أساس متين.. وينقذ ذوي الأوهام والشكوك من ورطة الحيرة.. ويتكفل بمستقبلنا وآخرتنا.. وينقذكم من التصرف في حقوق الله بدون إذن منه، تلك الحقوق التي تَضْمَنُ مصالحَ الناس كافة.. ويحافظ على حياة أمتنا.. ويظهر ثباتنا وكمالنا ويحقق وجودنا أمام الأجانب، وسحرِ العقول والأذهان.. وينقذكم من تبعات الدنيا والآخرة.. ويؤسس الاتحاد العام الشامل نهاية المطاف.. ويولد الأفكار العامة (الرأي العام) التي هي روح ذلك الاتحاد.. ويَحُول دون دخول مفاسد المدنية إلى حدود حريتنا ومدنيتنا.. وينجينا من ذل التسول من أوروبا.. ويطوي لنا المسافة الشاسعة التي تَخَلَّفنا فيها عن الرقي في زمان قصير بناءً على سرّ الإعجاز.. ويرفع من شأننا في زمن قصير بتوحيد العرب والطوران وإيران والساميين.. ويظهر الشخصية المعنوية للدولة بمظهر الإسلام..

ويخلصكم من حنث الأيمان بالمحافظة على المادة الحادية عشرة من القانون الأساس.. ويبطل الظنون الفاسدة التي تحملها أوروبا سابقًا.. ويحملهم على التصديق بأن النبي محمدًا ﷺ خاتم الأنبياء، وأن الشريعة خالدة.. ويقيم سدًا أمام الإلحاد الذي يدمّر المدنية.. ويزيل بصفحته النورانية ظلمة تباين الأفكار وتشتت الآراء.. ويجعل جميع العلماء والوعاظ متحدين في سبيل سعادة الأمة وتنقية إجراءات الدولة وخدامًا للمشروطية المشروعة.. ولكون عدالته المحضة رحيمة، يؤلّف قلوب غير المسلمين ويربطهم به أكثر.. ويجعل أجبن شخص وأكثرهم ضعة أشجعَ وأرفعَ إنسانٍ ويعاملهم هكذا.. وينفخ فيهم الشعور بالرقي والتضحية ويحسسهم بحب الوطن.. ويخلصنا من السفاهة التي تهدم المدنية ومن الحاجيات غير الضرورية.. ويبعث فينا النشاط في العمل للدنيا مع تذكر الآخرة والمحافظة عليها.. ويعلمنا الأخلاق المحمودة التي هي حياة المدنية.. ويفهمنا قواعد المشاعر النبيلة.. ويبرئ ساحتكم أيها المبعوثون من مطالبة حقوق خمسين ألف شخص.. ويظهركم مثالًا مصغرًا مشروعًا لإجماع الأمة.. ويجعل أعمالكم كأنها عبادة حسب نياتكم الخالصة.. وينجيكم من الجناية التي ترتكب بحق الحياة المعنوية لثلاثمائة مليون من المسلمين..

فإذا ما أظهرتم الإسلام وشريعته الغراء واتخذتموها أساسًا لأحكامكم، وطبقتم دساتيرها، فمع اغتنام فوائدَ إلى هذا الحد هل تفقدون من شيء؟ والسلام.

فلتحيا الشريعة الغراء.

سعيد النُّورْسِيّ