تضحيات بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ للأمة والوطن بصفته قائدًا لكتيبةٍ من المتطوِّعين

تضحيات بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ للأمة والوطن
بصفته قائدًا لكتيبةٍ من المتطوِّعين

أدَّى بديعُ الزمان على «جبهة القفقاس» واجباتٍ جهاديةً نالت إعجابَ وتقديرَ قائد الفرقة والقائد العام للجبهة أنور باشا، ثم رجع إلى «وان» بسبب زحفِ القوات الروسية نحوها؛ ومع إخلاءِ المدينة تحصَّن بديع الزمان مع قسمٍ من طلابه في قلعتها مصمِّمين على الدفاع عن المدينة حتى الشهادة، إلا أن واليها «جودت بك» أصرَّ عليهم أن ينسحبوا إلى قصبة «وَسْطان» لتأمين عمليَّة النزوح، فانسحبوا إليها.
وبينما كان الوالي ومدير المنطقة والأهالي والجنود في طريق النزوح من «وان» إلى نواحي «بِتْليس» مرورًا بـ«وسْطان» إذْ شنَّتْ كتيبةٌ من فرسان القُوزاق [القوزاق قواتٌ عسكريةٌ روسيةٌ فائقة التدريب، مثَّلتْ عِماد القوة العسكرية للإمبراطورية الروسية؛ هـ ت] الروسية هجومًا على «وَسْطان»، فتصدَّى لها المُلَّا سعيد مع مجموعةٍ من طلابه وحوالي أربعين عنصرًا من الجنود المستبسلين الصامدين، فحالوا بذلك دون وقوع النازحين في قبضة الأعداء، وأمَّنوا لهم طريق النجاة؛ وكان من جملة التصدي للأعداء أنه تحرَّك مع طلابه ليلًا على هيئةِ هجومٍ نحو تلٍّ مرتفعٍ يُشرِف على القُوزاق ليبث الرعب في صفوفهم، وأوهمهم بوصول تعزيزاتٍ كبيرةٍ، فأشغلهم وأعاق تقدمهم، وحالَ دون وقوع «وَسْطان» تحت الاحتلال الروسي.
وفي خضمِّ تلك المعارك شرع بتأليف تفسيره المسمَّى «إشارات الإعجاز» بصحبةِ تلميذه النجيب «المُلَّا حبيب»؛ فقد كان يُمليه عليه إملاءً وهو على خطِّ النار، أو على صهوة الجواد أحيانًا، أو في الخندق أحيانًا أخرى، حتى أُلِّف قسمٌ كبيرٌ منه على هذه الهيئة.

قِسمٌ من الأجوبة

قِسمٌ من الأجوبة

إنْ كان الأمر كذلك فإني أقول: إنَّكم تملكون بحقٍّ استعدادًا لشجاعةٍ خارقة، بدليلِ أن أحدكم تهون عليه حياتُه في سبيل أمورٍ صغيرةٍ كمنفعةٍ يسيرةٍ، أو جاهٍ جزئيٍّ، أو شرفٍ رمزيٍّ، أو لِيقال عنه إنه بطل، ويقدِّمُ روحَه فداءً في سبيل تعظيم مقامِ رئيسه؛ فماذا لو صحا هؤلاء يا تُرى؟! ألا تَهون عليهم حياتُهم -حتى وإن كانت لهم آلافُ الأرواح- في سبيل قوميَّةِ الإسلام التي لا تقدَّر بثمن، [إن قوميَّتنا جسدٌ، روحُه الإسلام، وعقلُه القرآن والإيمان؛ سعيد] إذْ تمنحهم أُخوَّةَ ثلاثمئةِ مليون مسلمٍ وعونَهم المعنوي؟!
إن مَن يبيع حياتَه لأجل عشر بارات، لا بدَّ أنه سيبيعها بكلِّ حماسٍ لأجل عشر ليرات. [تتألف الليرة العثمانية من مئة قرش، ويتألَّف القرش الواحد من أربعين بارة؛ هـ ت]
فواأسفاه!! مثلما خرجتْ محاسنُنا من أيدينا وأفضَت إلى غير المسلمين، سَرَق هؤلاء منا أخلاقَنا العالية؛ فكأنَّ بعضَ أخلاقنا الاجتماعية الرفيعة إذْ لم تلقَ رواجًا عندنا، نفرتْ منا ولجأتْ إليهم؛ وكأنَّ بعضَ رذائلهم إذْ لم تجدْ كثيرَ رواجٍ عندهم، جُلِبَتْ إلى سوق جهالتنا!
ألا تَعجَبون إذْ تَرَون أنَّ كلمةً بيضاء وخَصلةً حمراء مثل: «إنْ أنا مِتُّ فلتسلَم دولتي وأمتي وأحبَّتي»، التي هي أُسُّ أساسِ الرقيِّ والتقدم الحاضر، بل مقتضى الدِّين الحق، قد سرقها منا غيرُ المسلمين؟! فإنَّ الفدائيَّ والمُضَحِّيَ منهم يقول: «إنْ أمُتْ فلْتسلمْ أمَّتي؛ فإن حياتي المعنوية فيها»!! بينما تقودُنا وتكُفُّ يدَ هِمَّتِنا كلمةٌ حمقاءُ وسَجيَّةٌ

جوابُه بخصوص حادثةِ 31 مارت

جوابُه بخصوص حادثةِ 31 مارت

لقد شاهدتُ في «حادثة 31 مارت» حالةً قريبةً من هذه؛ ذلك أن حُماة المَشْرُوطِيّة ذوي الحميَّةِ الذين يَفْدُون الإسلام بأرواحهم، والذين عرفوا نعمتَها ووجدوا فيها جوهرَ الحياة، لما جَدُّوا في تطبيقِ تفرُّعاتها على وفقِ الشريعة، وأرشدوا أهل الحكومة إلى القِبلةِ في صلاة العدالة، وأرادوا إعلاء اسم الشريعة المقدَّسة بقوَّة المَشْرُوطِيّة، وإبقاءَ المَشْرُوطِيّة بقوَّة الشريعة، وإلقاءَ جميعِ السيئات السابقةِ على عاتق مخالفة الشريعة؛ إذا ببعضِ مَن لا يميِّز يمينَه من شِمالِه أخذ يردِّد كالببغاوات مناديًا: «نريد الشريعة»، ظنًّا منهم أن الشريعة تسمح بالاستبداد -حاشاها- فلم يَعُد يُفهَم المقصَد الحقيقي في غمرةِ ذلك.
وكانت الخُطط قد حِيْكَتْ من قبلُ، فكان أنْ هجم في ذلك الحين بعض الأوغاد المقَنَّعين بقِناعِ الحميَّةِ كذبًا على ذلك الاسم المقدس؛ فهذه نقطة سوداء فيها عبرةٌ بالغة. [انتبِهْ لا تَـمْضِ؛ لقد سكت في تلك الحادثة أهلُ الهِمم العالية، وأَسكتتِ الصُّحُف المغرِضة صوتَ الحرية الحقيقي، فانحصرت المَشروطِيَّة في قلَّةٍ قليلةٍ من الناس، وتفرَّق عنها حُماتُها؛ سعيد]
…….
والحقيقةُ عندي أن الشخصَ المنحدرَ من نسلِ مسلمٍ لا يمكن أن تتبرَّأ فطرتُه ووجدانُه من الإسلام بحالٍ، حتى وإن تجرَّدَ عنه عقلُه وفكرُه؛ بل إن أشد الناس بلاهةً وسفاهةً -فضلًا عن المطَّلِعين على السياسة- لَينحازون بكلِّ كيانهم إلى الإسلام الذي هو مستندُنا وحصنُنا المنيع.
ثم إن التاريخ يُخبِرنا بأنه لم يوجد منذ «عصر السعادة» إلى الآن مسلمٌ واحدٌ رجَّح على الإسلام دينًا آخر بالمحاكمة العقلية، أو دخل في دينٍ آخر بالدليل.
نعم، يوجد مَن خرج عن الدين، وهذه مسألة أخرى؛ أما التقليد فلا أهميَّة له.
والحال أن منتسبي سائر الأديان إنما دخلوا في الإسلام ويدخلون فيه أفواجًا بالمحاكمة العقلية والبرهان القطعي؛ وسيدخلون فيه أفواجًا إن نحن أريناهم الإسلام الحقَّ وما يليق به من صدقٍ واستقامة.
ويُخبِرنا التاريخُ أيضًا، أن تمدُّنَ أهلِ الإسلام متناسبٌ طردًا مع اتِّباعِهم لحقيقةِ الإسلام، أما تمدُّن الآخرين فمتناسبٌ عكسًا مع أديانهم.
كما تُخبِرُنا الحقيقةُ أيضًا أنه ليس بمقدورِ مَن تَنَبَّه مِن البشر أن يكون بلا دين، لا سيَّما مَن استيقظ وذاق طَعْمَ الإنسانيَّة، وعَرَف أنه مهيَّأٌ للمستقبل والأبد، فلا يمكنه العيش بلا دين؛ ذلك أنه لا يُمكنه العيش ما لَم يحصل على نقطةٍ يكون منها استمدادُه، وعليها -في مواجهة هجوم الكائنات- استنادُه، وفيها تنشأ وتترعرع آمالُه اللامحدودة، أعني بهذه النقطة بذرةَ الحقيقة التي هي الدين الحق؛ فلهذا السرِّ استيقَظَ لدى كل فردٍ ميلُ التحرِّي عن الدين الحق، وهذا يومئ إلى أنَّ الإسلام سيكون دينَ الفطرة للنوع البشري في المستقبل.
فيا عديمي الإنصاف.. كيف ضاقتْ في نظركم حقيقةُ الإسلامِ القادرِ على استيعاب العالَم وتربيتِه وتوحيده وإنارته، حتى شرعتُم تَقصُرونَه على الفقراء وبعضِ الشيوخ المتعصِّبين، تبغُون أن تُخرِجوا منه نصفَ أهلِه؟! وكيف تتجرَّؤون على «قَصرِ» الإسلام النوراني الجامِعِ للكمالات، الحاوي جميعَ الموادِّ المربِّية للمشاعر السامية لدى عموم النوعِ البشري، فتتخيلونه «خيمةَ عزاءٍ سوداء» ضُرِبتْ على جماعةٍ من الفقراء والبدو والمتخلِّفين؟!
بلى، إن كلَّ امرىءٍ تبعٌ لما يشاهد في مرآتِه، فمرآتُكم السوداءُ الكاذبة قد مثَّلتْ لكم الأمرَ هكذا.
س: إنك تُفرِط وترى الخيالَ حقيقةً، وتُهيننا بتجهيلنا كذلك؛ هذا آخرُ الزمان.. ولَسوف يسوء الزمانُ أكثر فأكثر.
ج: لماذا ينبغي أن تكون الدنيا دنيا التَرَقِّي للجميع؛ وتكونَ لنا وحدَنا دنيا التدنِّي؟! أهو كذلك؟! لن أخاطبكم إذًا، هاأنَذا ألتفِتُ إلى الناحية الأخرى فأخاطِب مَن في المستقبَل.
أيها المتوارون خلفَ عصرٍ شاهقٍ بعد ثلاثمئة سنة، تستمعون إلى كلمات النور بصمت، وتشاهدوننا بِطَرْفٍ خفيٍّ غيبي؛ يا مَن يُسَمَّى سعيدًا وحمزةَ وعُمَرَ وعثمانَ وطاهرًا ويوسفَ وأحمدَ، ويا أيها الباقون.. إياكم أخاطب.. ارفعوا رؤوسَكم وقولوا: صدقتَ.. لِيكن هذا التصديق دَينًا في ذمتكم؛ فلستُ أُبالي إنْ لم يَستمع إليَّ معاصريَّ هؤلاء؛ إنني أتحدَّثُ إليكم عبر أثير التلغراف الممتدِّ من أودية الماضي المسمَّى «التاريخ» إلى ذُرى مستقبلكم الرفيع.
ما حيلتي؟ لقد استعجلتُ فجئتُ في الشتاء، وستأتون في ربيعٍ كالجنة؛ إنَّ بذورَ النور التي تُبذَر الآن ستَتَفتَّح أزهارًا في أرضكم، وإن ما ننتظره منكم كأجرةٍ لقاءَ خِدماتنا أنكم إذا جئتم لتمرُّوا إلى حِقْبةِ الماضي فَعُوْجُوا على قبرنا، وقلِّدوا بعضًا من هدايا ذلك الربيع على رأس القلعة التي هي شاهِدُ قبرِ مدرستي، والمُضِيفةُ لأَعظُمي، وبوَّابةُ ثرى «خورخور»؛ [المقصود قلعة مدينة «وان» التي هي بحكمِ شاهِدِ قبرِ مدرسةِ «خورخور» المندرسة، والتي هي بدورها نموذجُ «المدرسة الزهراء» في «وان»؛ سعيد] سنُعلِم الحارس.. نادونا.. ستسمعون من قبرنا صدى: «هنيئًا لكم».
إن هؤلاء الصغار الراضعين معنا ثديَ هذا الزمان، وعيونُهم في الخلف تنظُر إلى الماضي، وتصوُّراتُهم شبيهةٌ بهم معزولةٌ بلا حقيقة، لَيَرَوْن حقائق هذا الكتاب خيالاتٍ، إلا أنني على ثقةٍ من أن مسائلَ هذا الكتاب ستتحقق واقعًا فيكم. [إنه ينبئ بحسٍّ قبل الوقوع عن كليات رسائل النور التي ستُؤلَّف في المستقبل؛ سعيد]
يا من يسمعون خطابي؛ معذرةً إذْ أصرخ بشدَّة؛ فإنني أقف على منارةِ القرن الثالث عشر، أدعو إلى الجامع أولئك المدنيِّين صورةً، غيرَ المكترثين دينًا، الهائمين في أعمق أودية الماضي فكرًا:
أيا تاركي الإسلام الذي هو روح الحياتَين.. أيتها القبور المتحركةُ على رِجلَين.. يا سيئي الحظ.. لا تقفوا في باب الجيل القادم، فالقبور تنتظركم، انسحبوا حتى يأتي الجيل الجديد الذي سيرفع بحقٍّ أعلامَ الحقائقِ الإسلامية خفَّاقةً ترفرِف فوق الكائنات.
س: كان السابقون أعلى منا أو مثلَنا، وسيأتي اللاحقون أسوأ.
ج: أيها الأتراك والأكراد؛ تُرى لو عقدتُ الآن اجتماعًا، ودعوتُ إلى مجلسه المنعقِد في هذا العصر الصَّاخب أجدادَكم الذين مَضَوا قبل ألف سنة، وأولادَكم الذين سيأتون بعد قرنَين من الزمان؛ ألن يقول أجدادكم الأقدمون الصَّافُّون عن اليمين: أيها الصِّغار العاقُّون المُضَيِّعون للميراث!! أأنتم نتيجةُ حياتنا؟! هيهات.. لقد قِستمونا قياسًا عقيمًا، وتركتمونا عقيمين!
وكذلك؛ ألن يقول أولادُكم الواقفون عن الشِّمال، القادمون من مدينة المستقبل مصدِّقين: أيها الآباء الكسالى؛ أأنتم لحياتنا مقدِّمتاها الصغرى والكبرى؟! أأنتم رابطتُنا والحدُّ الأوسط الرابط بيننا وبين أجدادنا العِظام؟! يالَكم من قياسٍ مختلِطٍ مغالِطٍ بلا حقيقة!!
فيا أيها البدو الرُّحَّل،-ويا أدعياء الثورة- [أُضيف هذا فيما بعد؛ سعيد] لقد رأيتم فوق المشهد الخيالي [والخيال أيضًا سينما؛ سعيد] أن كِلا الطرفَين في هذا الاجتماع الكبير قد احتجَّ عليكم.
…….

أمثلة من محاورات بديع الزمان ومناظراته مع عشائرِ شرقيِّ الأناضول

أمثلة من محاورات بديع الزمان
ومناظراته مع عشائرِ شرقيِّ الأناضول

[تنويه: كَتَب الأستاذ رسالة «مناظرات» بالكردية في حدود العام 1910م، ثم ترجمها إلى التركية ومنها إلى العربية، ثم اطلع على الأصل التركي بعد قرابة خمسين سنة، فنقَّحه وهذَّبه فحذف منه وزاد عليه وألحق به بعض الحواشي، وقد أفدنا في هذا المقطع من «المناظرات» بنسختَيها: العربية، والتركية المنقَّحة؛ هـ ت]

سؤال: إن لم يكن على الدين ضرر، فليكنْ ما يكون ولا نُبالي.

الجواب: الإسلام كالشمس، لا ينطفئ بنفخِ الأفواه؛ وكالنهار، لا ينقلب بإغماضِ العين ليلًا إلا لمن أغمض عينيه.

فيا عجبًا!! أيُّ الأمرَيْن أَوْلى: أن يُعتَمَد على رئيسٍ مغلوبٍ على أمره ولا حيلةَ له، وموظَّفين مداهِنين، وضباطٍ لا منطق لهم، وتُترَكَ حمايةُ الدين لهم؛ أم تُترَك للسيفِ الألماسي الحاصل من امتزاج شراراتِ الحَمِيَّة الإسلامية الساطعة، وللعمود النورانيِّ الحاصل من اجتماعِ لمَعاتِ الأنوارِ الإلهيَّة، وهي الشَفَقةُ الإيمانيَّة التي يَجِيْشُ بها كلُّ قلب، والمشاعرُ الإسلاميَّة التي يقوم عليها الرأي العام للأمة؟! فاحكموا أنتم أيُّهما أولى؟

بلى؛ سيَحمِل هذا العمودُ النورانيُّ حمايةَ الدين على عاتِق حَمِيَّته، وسيجعله على رأسِ شهامته وعينِ مراقبته.

فها أنتم تَرَون اللمعاتِ المتفرِّقةَ قد أخذت تتلألأ، ولسوف تمتزج بالانجذاب شيئًا فشيئًا؛ فلقد تَقَرَّر في علم الحكمة أن الحسَّ الديني -لا سيَّما الدينَ الفطريَّ الحق- أَنْفَذُ كلامًا، وأعلى حُكمًا، وأشدُّ تأثيرًا.

نعم، نعم، لا تتأسَّفوا، ولا يَفتُرْ شوقُكم إنْ قطعَ البعوضُ طنينَه، أو خَفَتَ النحلُ دَوِيَّه؛ فالموسيقا الإلهيَّة التي تُرقِص الكائناتِ بنغماتها، وتَهُزُّ أسرارَ الحقائق بإنشاداتها

سعيد النُّورْسِيّ والمحكمة العسكرية العرفية

مقتطفاتٌ من كتاب:

«شهادةُ مدرستَي المصيبة»

أو:

«سعيد النُّورْسِيّ والمحكمة العسكرية العرفية»

 

باسمه سبحانه

وإن من شيء إلا يسبح بحمده

مقدمة:

حين كانت الحريَّة تُقرَن بالجنون، جَعَلَ الاستبدادُ الضعيفُ مشفى المجانين مدرسةً لي.

وحين التبسَ الاعتـدال والاسـتقامـة بالرجعية، جَعَـلَ الاستبدادُ الشديـدُ للمَشْرُوطِيّة السجنَ مدرسةً لي.

أيها السادة المتمعِّنون في شهادتي: لطفًا، أرسلوا أرواحكم وأخيِلَتَكم ضيوفًا إلى جسدٍ ودماغٍ مضطربَيْن لطالبٍ بدويٍّ عصبيٍّ حديثِ عهدٍ بالمدنيَّة الحديثة، لئلا تَزِلُّوا بالتخطئة!

لقد قلتُ في المحكمة العسكرية العرفية في «حادثة الحادي والثلاثين من مارت»: أنا طالبُ علم، ولهذا أَزِنُ كلَّ شيءٍ بميزان الشريعة؛ وأعتبر الإسلام وحدَه هو قوميَّتَنا، ولهذا أحاكم كلَّ شيء بمنظاره.

إنني في اللحظة التي أقف فيها بباب عالَم البرزخ المسمَّى بالسجن، منتظرًا القطار المتَّجه إلى الآخرة، في المحطة المسمَّاة بالمشنقة، أتوجه بخطابي لا إليكم فحسب، بل إلى النوع البشري كلِّه، منتقدًا أحوال المجتمع البشري التي لا تَرحم؛ فلأجل هذا، وبسرِّ آية:

نحن في «الجمعية المحمدية» من عهدِ أن قالوا: بلى

الحقيقـة

الجريدة الدينية: 70

26 شباط 1324 رومي

آذار / مارس 1909 ميلادي

نحن في «الجمعية المحمدية» من عهدِ أن قالوا: بلى

إن التوحيد هو جهة الوحدة في اتحادنا، وإن الإيمان هو عهدنا ووعدنا، فما دمنا موحِّدين فنحن متَّحدون؛ وكلُّ مؤمنٍ مكلَّفٌ بإعلاء كلمة الله، وأعظمُ أسبابها في هذا الزمان الرقيُّ المادي، ذلك أن الأجانب ما زالوا يسحقوننا تحت وطأة استبدادهم المعنوي بسلاح العلوم والصناعات، ونحن سنجاهد بالسلاحِ نفسه ألَدَّ أعداءِ إعلاءِ كلمة الله، ألا وهو الجهل والفقر والاختلاف، أما الجهاد الخارجي فنُحِيْلُه لسيوفٍ ألماسية، هي سيوفُ براهينِ الشريعة الغرَّاء القاطعة، لأن إحراز الغلبة على المتمدِّنين إنما يكون بطريق الإقناع، لا بطريق الإكراه كما هو شأن الهَمَج الذين لا يفقهون قولًا.

نحن فدائيُّو المحبة، لا وقت عندنا للخصومة.

إنَّ المَشْرُوطِيّة عبارةٌ عن العدالة والشورى وحصرِ القوة في القانون، وما دامت الشريعة الغرَّاء قد تأسست قبل ثلاثة عشر قرنًا، فإنَّ استجداء الأحكام من أوربا جنايةٌ عظمى على دين الإسلام، وهو أشبه بالتوجه إلى جهة الشَّمال عند أداء الصلاة.

عاشت الشريعة الأحمدية

عاشت الشريعة الأحمدية

على صاحبها الصلاة والسلام

الجريدة الدينية: 77

5 مارت 1325رومي

18 آذار / مارس 1909ميلادي

إن الشريعة الغرَّاء ماضيةٌ إلى الأبد، لأنها صادرةٌ عن الكلام الأزليّ؛ وإن سلامتَنا من رذيلةِ استبدادِ النفسِ الأمَّارة إنما تكون بالاستناد إلى الإسلام والتمسُّك بحبله المتين؛ وإن الاستفادة الحقيقية من الحريَّة الحقيقية إنما تكون بالاستمداد من الإيمان؛ لأن من كان عبدًا حقًّا لخالق الكون ترفَّعَ عن أن يكون عبدًا للخلق، وما دام كلُّ إنسانٍ قائدًا لعالَمه فهو إذًا مكلَّفٌ بالجهاد الأكبر في عالَمه الأصغر، وموظَّفٌ بالتخلُّق بالأخلاق الأحمدية، وبإحياء السنة النبوية.

يا ولاة الأمر.. إن أردتم التوفيق فتصرفوا وفق قوانينِ سُننِ الله، وإلا جَنَيْتم الخيبة والخذلان، فإن ظهور الأنبياء في بقاع البلاد الإسلامية والعثمانية كما هو معلوم، إنما هو إشارةٌ من القدَر الإلهي ورمزٌ منه إلى أنَّ قاطرة الرقي والكمالات لأبناء هذه البلاد ليست سوى الدين، فهذه الأزهار في حقول آسيا وإفريقيا وبساتين «الرُّوْمَلي» ستنمو وتزدهر بضياء الإسلام.

لا يضحَّى بالدين لأجل الدنيا، لقد كانت مسائل الشريعة تُقدَّم فيما مضى رشوةً للحفاظ على الاستبداد البائد، فهل جَنَينا من هذا سوى الضرر بتركِ مسائل الدين والتضحيةِ بها؟!

ألا إن المرض الذي أصاب قلبَ الأمة ضَعفُ الدين، ولا شفاء لها إلا بتقويته.

إن مشربنا محبةُ المحبة، ومخاصمةُ الخصومة، أي: تعزيز المحبة بين المسلمين، ودحر عساكر الخصومة فيما بينهم؛ ومسلكنا التخلُّق بالأخلاق الأحمدية، وإحياء السنة النبوية؛ مرشدُنا الشريعة الغرَّاء.. سيفُنا البراهين القاطعة.. مقصَدُنا إعلاء كلمة الله.

بديع الزمان

***

خطابٌ إلى الحرية

خطابٌ إلى الحرية

أيتها الحرية الشرعية.. إنك تنادين بصوتٍ هادر، لكنه عذبٌ مبشِّر، فتوقظين بدويًّا غارقًا في سُبات الغفلة مثلي، فلولاكِ لبقيتُ أنا وعامَّة الشعب في زنازين الأسر.

إنني أبشِّركِ بعمرٍ أبديٍّ إنِ اتخذْتِ الشريعة التي هي عينُ الحياة منبعًا للحياة، وترعرعتِ في جنتها؛ كما أزفُّ البشرى إلى هذا الشعب المظلوم أنْ سيترقَّى ألفَ درجةٍ عما كان عليه في الماضي، إن اتخذكِ مرشِدًا، ولم يلوِّثْكِ بالأغراض الشخصية وفكر الانتقام.

يا رب! ما أسعدها من قيامةٍ!! وما أجمله من حشرٍ!! يُصوِّران لنا مثالًا مصغَّرًا عن حقيقة البعث بعد الموت في هذا الزمان!!

فها قد دبَّت الحياة في المدنيَّة القديمة المدفونة في زوايا آسيا و«الرُّوْمَلي» [«الرُّومَلي» أو «الرُّوم إيلي»: هي مناطقُ الدولة العثمانية الواقعةُ في قارَّة أوروبا، وكانت تمتد على مساحاتٍ واسعةٍ مما يُعرَف اليوم ببلغاريا واليونان ودول البلقان؛ هـ ت]، وها هم متمنُّو الاستبداد، المتحرُّون لمنافعهم في مضارِّ العباد، قد باتوا يردِّدون: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا﴾ [النبأ:40].

وما دامتْ حكومتنا الجديدة -حكومة المَشْرُوطِيّة- قد ولدتْ كمعجزة، فسنكون في غضون سنةٍ إن شاء الله مَظْهرًا لسرِّ: ﴿نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾ [مريم:29].

لقد فَتحت لنا جنَّةُ المدنيَّةِ والرُّقي أبوابَها ثوابًا بغير عذابٍ لرمضانِ السكوتِ الذي صُمناه ثلاثينَ سنةً صابرين متوكلين [إشارةٌ إلى تعليق العمل بالمَشروطِيَّة في العام 1878م، حيث كان السلطان عبدُ الحميد قد عَلَّق العملَ ببعض موادِّ الدستور وعطَّلَ مجلسَ النُّوّاب بعد أن كان هو نفسه مَن فعَّلَهما، وسبب ذلك أن المجلس بات أداةً بيد القوى الغربية تدسُّ فيه الأعضاء الموالين لها وتمرِّر من خلالهم مشاريعها لتفتيت الدولة العثمانية؛ هـ ت]، وها هو القانون الشرعي الذي هو براعة الاستهلال لحاكميَّة الأمة يدعونا كخازن الجِنان للدخول، فهلمُّوا ندخلْها يا إخوة الوطن المظلومين.. فبابُها الأول: اتحادُ القلوب في دائرة الشريعة؛ وبابها الثاني: التحابُّ بين أبناء الأمة؛ والثالث: العِلْم؛ والرابع: السعي الإنساني؛ والخامس: اجتناب الرذيلة؛ وأُحيلُ البقية على أذهانكم.

…….

فحذارِ يا إخوة الوطن أن تميتوها [يقصد الحريَّة؛ هـ ت] ثانيةً بالرذائل والاستهتار بالدين.

ولقد برز القانونُ الأساسيُّ [القانون الأساسي هو نفسُه ما يسمَّى الدستور؛ هـ ت] المؤسَّسُ على الشريعة الغرَّاء كمَلَكِ الموت في مواجهة الأفكار الفاسدة، والأخلاق الرذيلة، والحيل والمكائد الشيطانية، والتزلُّفات الدنيئة، فأماتها، فحذارِ أن تعيدوها إلى الحياة بالإسراف ومخالفة الشريعة والملذَّات غير المشروعة.

لقد كنا إذًا في القبر حتى وقتٍ قريب، وبَليَتْ عِظامُنا، ودخلْنا اليوم بالمَشْرُوطِيّة وباتحاد أبناء الأمة رحِمَ الحياة، وسننمو ونبلغ أشُدَّنا، وسنركب قطارَ القانون الشرعي الأساسي عملًا، ونمتطي بُراقَ الشورى الشرعية فكرًا، فنتجاوز بمعجزةٍ نبويَّةٍ مئةَ سنةٍ من تخلُّفِنا في مضمار الرُّقي، ونطوي هذه الصحراء الكبرى الموحشة في زمنٍ قصير، فنسابق الأمم المتمدِّنة جنبًا إلى جنب، فإنهم قد ركبوا العربات، أما نحن فسنركب وسائل كالقطار والمنطاد فنسبقهم؛ بل سنتجاوزهم بفراسخ كما فعلنا في الماضي، وذلك بفضلِ الحقيقة الإسلامية التي هي مجمع الأخلاق الحسنة، وبفضلِ الاستعداد الفطري، وفيضِ الإيمان، وسهولة الهضم التي تورثها شدة الجوع.

وإنني من موقعِ ما تمليه عليَّ وظيفتي كطالب علم، وما تُخوِّلني إياه شهادةُ الحريَّة، أُحذِّر وأنبِّه فأقول:

حذارِ يا أبناء الوطن أن تسيئوا تفسيرَ الحرية، وإلا فقدناها وجُرِّعْنا الأسرَ السالفَ المريرَ بكأسٍ أخرى جديدة [بلى، لقد جُرِّعنا كأسَ أسرٍ مريرٍ مسمومٍ من يدِ استبدادٍ أفظع؛ سعيد]؛ لأن الحرية إنما تنمو وتترعرع بالأخلاق الحسنة، وبمراعاة آدابِ الشريعة وأحكامها.

بديع الزمان

***

لمحة موجزة عن حياته في تلك المرحلة

حياتُه الأولى
[1877م – أواخر 1925م]

ولد بديع الزمان سعيدٌ النُّورْسِيّ عام (1293 رومي) [يوافق العامَ 1294 هجري، والعامَ 1877 ميلادي، والتاريخ الرومي المذكور أعلاه يعود لتقويمٍ شمسيٍّ خاصٍّ عُمِل به في أواخر عهود الدولة العثمانية بالتوازي مع التقويم الهجري القمري؛ هـ ت.]، في قرية «نُوْرْس» التابعة لناحية «إسباريت» في قضاء «خِيْزان» من أعمال ولاية «بِتْليس».
اسم أبيه: ميرزا، واسم أمه: نورية.
عاش في كَنَفِ أبويه حتى التاسعة من عمره، وفي تلك السِّن دفعتْه حالةٌ روحيةٌ للتأمل في حالِ أخيه الأكبر «المُلَّا عبدِ الله» المُنكَبِّ على تحصيل العلوم والاستزادة منها، فكان كلما قارن بين أخيه الآخذ في الترقي بالعلم وبين أقرانه الأُميِّين في القرية تملَّكَه العَجَب، فجعل تحصيل العلم نُصْبَ عينيه، وتوجه إلى طلبه بجدٍّ وحماس.
ولقد ذهب بهذا القصد إلى مدرسة الشيخ «محمد أمين أفندي» بقرية «تاغ» الواقعة في ناحية «إسباريت»، إلا أنه لم يستطع البقاء بها طويلًا، فقد كان بفطرته شديد الحفاظ على عزته، لا يتحمَّل أيَّ أوامر تُملى عليه [إنَّ هذه العزة التي تُشاهَد في المُلَّا سعيد وهو صغير لم تأتِ من حبِّ النفس، وإنما هو القدَرُ الإلهيُّ الذي منحَ بعنايته عبدًا من عباده هذه الخصلةَ ليؤديَ وظيفةً عظيمةً في المستقبل، ألا وهي إعلاء كلمة الله، فكانت العزة العلمية إحدى الخصال اللازمة لأداء هذه الوظيفة على وجهها؛ ولعل المُلَّا سعيدًا لم يكن يدري آنذاك ماهيةَ هذا الأمر ولا حكمتَه، إلا أنَّ الزمان أظهَرَ أن العزة العلمية التي تستلزمها خدمةٌ عظيمةٌ واسعةٌ كرسائل النور، قد غرسَها الحقُّ سبحانه بذرةً صغيرةً في روح المُلَّا سعيد، حتى أضْحَتِ اليوم شجرةً عظيمة؛ المُعِدُّون]، فغادر المدرسةَ بعد زمنٍ يسيرٍ عائدًا إلى

القسم الأول: حياته الأولى

القسم الأول

حياته الأولى