اللمعة السادسة والعشرون

اللمعة السادسة والعشرون

الرجاء السادس

حين كنت أسيرَ منفاي الأليم، خلوتُ ذات مرةٍ مستوحشًا من الناس على قمة جبل «چام» بين مرتفعات «بارلا»؛ كنت أتحرى نورًا في تلك العزلة؛ وبينما كنت ذات ليلةٍ في خُصٍّ صغيرٍ فوق شجرة صنوبرٍ باسقةٍ بأعلى تلك القمة، إذا بالشيخوخة تذكرني بأنواعٍ متداخلةٍ من الغربة.
وكما سبق البيان في «المكتوب السادس»، ففي تلك الليلة الساجية الموحشة كان الصوت الحزين الآتي من حفيف الأشجار وهَمْهَمَتِها قد لامَسَ صميمَ مشاعري وشيخوختي وغربتي، وهمست الشيخوخة في أذن قلبي فقالت منبهةً:
مثلما تَبدَّل النهار إلى قبرٍ حالكٍ كهذا ولبِسَت الدنيا كفنها الأسود؛ فلسوف يتبدَّل نهارُ عمرك إلى ليل، ولسوف يتبدَّل نهارُ الدنيا إلى ليلِ البرزخ، ولسوف ينقلب صيفُ الحياة إلى شتاءِ الموت.
فقالت نفسي على مضض: أجل، مثلما أنا غريب عن وطني، فإن فراق أحبتي الذين طواهم الموت خلال هذه الخمسين سنةً من عمري، وبقائي من بعدهم وحيدًا أذرِف الدموع، لَغربةٌ أشدُّ حزنًا وإيلامًا من الغربة عن الوطن.
ثم إن الشيخوخة تخبرني بدنو موعد مفارقة الدنيا بما فيها على حين غرة، فأستشعر من ذلك غربةً أشد حزنًا وإيلامًا من هذه الغربة التي يكتنفها الليل والجبل.
ففي هذه الغربة التي في طيِّها غربة، وفي هذا الحزن الذي في طيِّه حزن، رحتُ أبحثُ عن نورٍ وأمل، وسرعان ما أنجدني الإيمان بالله، فمنحني من الأنس والسُّلوان ما لو تضاعفتْ وَحشتي ألفَ ضعفٍ لأزالَها.
أجل أيها الشيوخ وأيتها العجائز.. فما دام لنا خالقٌ رحيم فليس للغربة سبيلٌ إلينا؛ وما دام هو موجودًا فكل شيءٍ بالنسبة لنا موجود، وما دام هو موجودًا فملائكته موجودون، وما دام الأمر كذلك؛ فالدنيا ليست خالية، بل هذه الجبال الخاوية والصحارى المقفرة كلُّها عامرةٌ مأهولةٌ بعباد الله؛ ذلك أنه بالنظر بنور الله وباسمه تغدو الأشجار بل حتى الأحجار -فضلًا عن كل ذي شعور من عباد الله- بمثابة أصحابٍ أوِدَّاء يكلموننا بلسان الحال ويؤنسوننا.
نعم، فكما تشهد على وجوده سبحانه شواهدُ بعددِ موجوداتِ هذا الكون، وبعدد حروفِ كتابِ العالم الكبير هذا، وكما تشهد على رحمته شواهد بعدد أجهزة ذوي الأرواح وما خصَّهم من نِعَمه ومطعوماته التي هي مدار الشفقة والرحمة والعناية، فإنها جميعًا تُوجِّهنا إلى بابِ خالقنا وصانعنا وحامينا الرحيم الكريم الأنيس الودود.
وإن أرجى شفيعين عند ذلك الباب السامي هما العجز والضعف، وما الشيخوخة إلا زمانُ ظهورهما الأتم، فأحرى بنا أن نحبَّ الشيخوخة التي هي الشفيع المقبول بذلك الباب، لا أن نكرهها.

***

اللمعة الثانية والعشرون

اللمعة الثانية والعشرون

باسمه سبحانه

هذه رسالةٌ صغيرةٌ بغايةِ الخصوصية كتبتُها قبل اثنتين وعشرين سنةً لأقربِ إخواني وأخْلَصهم وأخصِّهم، وذلك حين كنتُ بناحيةِ «بارلا» التابعة لـ«إسبارطة»، لكن لما كان لها علاقةٌ بأهالي «إسبارطة» والمسؤولين فيها، فإنني أقدِّمها إلى واليها العادل وإلى جهاتِ القضاء والأمن فيها؛ فإذا كان مناسبًا فليُنسَخ منها بالآلة الكاتبة بضعُ نُسَخٍ بالحروف القديمة أو الجديدة، حتى يعرف الذين يراقبونني ويفتشون عن أسراري منذ أكثر من خمسٍ وعشرين سنة أنه ليس لدينا سرٌّ نُخفِيه، وليعلموا أن أخفى أسرارنا هو هذه الرسالة.

سعيد النُّورْسِيّ

الإشارات الثلاث

كانت هذه الرسالةُ المسألةَ الثالثةَ من المذكِّرة السابعة عشرة للمعة السابعة عشرة، إلا أنها لشدة أسئلتها وشمولها وقوةِ أجوبتها وسطوعِها، دخلتْ في اللمعات بوصفها اللمعةَ الثانية والعشرين من المكتوب الحادي والثلاثين، فعلى اللمعات أن تفسح لها موضعًا بينها؛ وهي رسالةٌ سِريَّةٌ خاصةٌ لأخصِّ إخواننا وأخلصِهم وأصدقِهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق:3]

هذه المسألة ثلاث إشارات:

تأليف رسائل النور ونشرها

تأليف رسائل النور ونشرها

ألَّفَ بديع الزمان كليَّات رسائل النور تحت وطأةِ ظروفٍ قاسيةٍ تُذَكِّر بما عاناه علماء الأمة وأعلامُها فيما مضى، وكان يتحلَّى بعزمٍ متين وإرادةٍ لا تلين، وعشقٍ للخِدمة لا يخبو، فبذل في تأليفها جهدَه وقوتَه صابرًا متحمِّلًا مضحِّيًا دون كللٍ ولا مللٍ، إلى أن أخرجها مرشدًا عظيمًا ينهض بمهمة التنوير والإرشاد لأبناء الإسلام وبني الإنسان، ويحفظ البلاد والعباد من ثعبان الشيوعية وآفات الماسونية والإلحاد، ويَقِيهم شرورَها في قادم الأيام.

لقد اكتمل تأليف كليَّات رسائل النور برسائلها المئة والثلاثين في ثلاثٍ وعشرين سنةً، وقد أُلِّفت في زمنٍ كانت الحاجة إليها فيه أشدَّ ما تكون، فجاءت ترياقًا شافيًا وعلاجًا ناجعًا، تداوي الأمراض المعنوية لكثيرٍ من الناس؛ ويشعر قارئها
-أيًّا كان- بحالةٍ روحيَّة كأنها كُتبت له خاصَّةً، فيطالعها بشوقٍ شديد، وشعورٍ بالحاجة الماسَّة؛ كيف لا وهي التي تقدم لأبناء هذا العصر ومَن بعدَهم الجوابَ الذي يلبي حاجاتهم الإيمانيَّة والإسلاميَّة والفكريَّة والروحيَّة والقلبيَّة والعقليَّة

إنَّها تفسيرٌ حقيقيٌّ للقرآن الحكيم، فهي تُفسِّر الآياتِ لا بحسب ترتيبها، بل بحسب تبيانها للحقائقِ الإيمانيَّة التي تلبي حاجات العصر؛ فالتفسير قسمان: قسمٌ يفسِّر لفظ الآية وعبارتها، وقسمٌ يبيِّن معناها وحقائقَها ويبرهن عليها؛ وتُعدُّ رسائل النُّور واحدةً من أهم تفاسير القسم الثاني وأوسعِها وأكثرها قوةً وإشراقًا؛ وهذا أمرٌ ثابتٌ بشهادةِ وتصديقِ الآلافٍِ من أهلِ التَّحقيق والتدقيق.

بارلا

بـارلا

هي أولُ مركزٍ بدأ فيه تأليفُ كليات رسائل النور التي كانتْ نجدةً معنويةً لأهل الإيمان، وهي البلدة التي أشرقت منها شمس سعادةٍ وأنوارُ هدايةٍ آتيةٌ من القرآن، في وجه تيارِ إلحادٍ وضلالةٍ رهيبٍ هوى على رأس الأمة الإسلامية خصوصًا أبناء الأناضول؛ وهي البقعةُ المحظوظة التي سطعَتْ منها مؤلَّفاتٌ جامعةٌ لسعادة الدارَين، أسدتْها يدُ اللطف الإلهي والإحسان الرباني والرحمة الإلهية للأناضول المبارك، ولأبناء هذا الشعب المسلم البطل، وللعالم الإسلامي.

كان بديع الزمان يعيش تحت ظلمٍ وعَسْفٍ ومراقبةٍ صارمةٍ بشكلٍ دائم في «بارلا»، وكان نفيه إلىها يَهدُف لإبعاده عن الحواضر الكبرى بحيث يُعزَل في قريةٍ منقطعةٍ، وتنطفئ جذوة الحماس في روحه، كما كان يَهدُف لإسكاته ومنعه من التواصل مع الناس، وكفِّه عن خدمة القرآن وكتابة المؤلفات الإيمانيةَ والإسلاميةَ، وشَلِّ فاعليته عن القيام بأي عمل لمجابهة الملحدين؛ لكنه نجح في العمل على نقيض هذا المخطط، فلم يقف مكتوف اليدين لحظةً، بل عمل في مكانٍ معزولٍ ناءٍ كـ «بارلا» على تأليف كليات رسائل النور التي تقدِّم دروس حقائق الإيمان والقرآن وقام بنشرها خُفيةً.

لقد كان هذا التوفيق والانتصار غلبةً عظيمةً له، ذلك أنه في زمن الإلحاد واللادينية الرهيب ذاك لم يكن يُسمَح بنشرِ مؤلَّفٍ دينيٍّ حقيقيٍّ واحد، بل كان العمل جاريًا على إسكات رجال الدين والقضاء عليهم، لكن أعداء الدين لم يستطيعوا إسكات بديع الزمان أو القضاءَ عليه، ولم يستطيعوا منع مؤلفاته الإيمانيةِ والإسلامية التي توقظ العقول والقلوب الغافية، ولقد كانت هذه المنشورات الدينية التي ألَّفها عملًا لم يستطع أحدٌ القيام به في أقسى عهود الظلم والاستبداد المطلق الذي دام خمسةً وعشرين عامًا.

نفي بديع الزمان من الولايات الشرقية إلى غربيِّ الأناضول

نفي بديع الزمان من الولايات الشرقية إلى غربيِّ الأناضول

في أثناء عزلة بديع الزمان في تلك المغارة آنفةِ الذِّكر، اندلعت حركة الثورة والعصيان في الشرق، وأرسل إليه أحد الشخصيات البارزة [هو الشيخ «سعيد بيران» عالِمٌ كبير، وشيخٌ من شيوخ الطريقة النقشبندية، وصاحب نفوذٍ واسع بين عشائر الأكراد، اندلعت على يده ثورة عصيانٍ مسلَّحةٌ في جنوب شرقيِّ تركية، انتهت بإخمادها وإعدامه مع عددٍ من رفاقه في العام 1925م؛ هـ ت] رسالةً يطلب فيها دعمَه وتأييدَه قائلًا: «إن لكم نفوذًا قويًّا»؛ فبعث الأستاذ إليه رسالةً جوابيَّةً يقول فيها: «إن التُّركَ قد خدموا الإسلامَ قرونًا طويلة، وأنجبوا الكثير من الأولياء، فما ينبغي أن تُشْهَرُ السيوف في وجوه أحفادهم، ولا تُشْهِروها أنتم كذلك، اِرجعوا عن قراركم، فإن الشعب بحاجةٍ إلى الإرشاد والتنوير».
وعلى الرغم من موقفه هذا اتخذت الحكومة قرارها بنفيه إلى غربيِّ الأناضول؛ [لم يكن قرار النفي خاصًا به وحدَه، بل طال كلَّ أصحاب النفوذ والمكانة الاجتماعية في الشرق، إضافةً لشيوخ الطرق الصوفية؛ هـ ت] فأرسلت مجموعةً من الدَّرَك إلى مغارته فأخرجوه منها ليُرسَل إلى منفاه، وبينما كانوا على وشك الانطلاق إذْ تجمهر حولَه الأهالي والوجهاء وجماعاتٌ يحملون السلاح وقالوا له باستعطاف: سيِّدَنا.. لا تذهب وتتركنا، اسمح لنا أن نمنعهم مِنْ أخْذِك.. إنْ شئتَ ذهبنا بك إلى بلاد العرب؛ لكنه هدَّأهم قائلًا: سأذهب إلى الأناضول، إنني أريد الناس هناك.
نُفي تحت حراسةٍ عسكريَّة إلى ولاية «بوردُر» [تقع ولاية «بوردُر» في جنوب غربيِّ تركيا؛ هـ ت] أولَ الأمر، وقضى هناك حياةَ أسرٍ مريرةً تحت ظلمٍ وعسفٍ ومراقبةٍ صارِمة، لكنه برغم ذلك لم يشأ أن يبقى مكتوف اليدين، فشرعَ بتدريس الحقائق لبعض أهل الإيمان، ثم ألَّف من ذلك كتابًا مكونًا من ثلاثة عشر درسًا سمَّاه: «المدخل إلى النور»، ومع أن الكتاب أُلِّف سِرًّا وبقي في نطاقٍ خاص، إلا أنَّ أهل الإيمان عَرَفوا قيمةَ ما فيه من جواهر الحكمة، وكانوا بأشدِّ اللهفة إليها، فأخذوا يستنسخونَه ويتداولونه فيما بينهم، إلى أن عَلِم بالأمر أعداءُ الدين العاملون في الخفاء، فرفعوا تقريرًا يفيد بأن سعيدًا النُّورْسِيّ لا يلتزم الهدوء في هذه المنطقة، بل يقوم بأنشطةٍ ودروسٍ دينية؛ فصدَرَ على إثر ذلك قرارٌ يقضي بإبعاده إلى بلدةٍ نائيةٍ منقطعةٍ بين الجبال تُدعى «بارلا» من أعمال «إسبارطة»، [ولايةٌ بجنوب غربيِّ تركيا، تحاذي ولاية «بوردُر» من جهة الشرق؛ هـ ت] على أملِ أن تطويَه الغربة والوحدة والحرمان، ويتلاشى في غياهب النسيان.
وحين كان بديع الزمان في «بوردُر» أتاها ذات يوم رئيسُ أركان الجيش المشير «فوزي جقمق»، فشكا إليه الوالي أن النُّورْسِيّ لا يطيع أوامر الحكومة، وأنه يعلِّم الدين لمن يأتونه!! لكن المشير كان يعلم جيدًا قدرَ بديع الزمان ومكانتَه واستقامتَه ورجاحة عقله، فقال للوالي: احترموه ولا تتعرَّضوا له، فإنه لا يتأتَّى منه أيُّ ضرر.
وحيثما نُفِيَ بديع الزمان كانت جهاتٌ رسميةٌ تَشنُّ ضده حملاتٍ مُغرِضةً بجهودٍ حثيثةٍ بغيةَ صرفِ أهل الإيمان عنه، ومَنْعِهم من الاستفادة من دروسه الدينية، لكن تأثير دروسه الإيمانية وقيمتها كانت تسري بين الأهالي من قلبٍ إلى قلب، مثلما كانتْ مؤلَّفاتُه تستولي على القلوب محبةً وعشقًا.

القسم الثاني: بارلا

 

القسم الثاني

بارلا

حياته في بارلا

[ أواخر 1925م – نيسان/أبريل 1935م]

استعرضْنا حياة الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ، ووقفنا على مراحلِها واحدةً تلو الأخرى بدءًا من ولادته في شرقيِّ الأناضول وصولًا إلى هذه المرحلة، وندخل الآن رحابَ دعوةٍ عظيمةٍ عَمَّتْ شهرتُها وعظُم نفعُها، وكانتْ نادرةً من نوادر الزمان، إنها ثمرةُ أربعين أو خمسين سنةً من حياته؛ حيث ظهرتْ رسائل النور التي سطعتْ فبدَّدتْ بنورها الظلماتِ المادية والمعنوية، وأشرقتْ من تركيا شمسًا ترسل أشعتها إلى ميادين العلم والعرفان في أرجاء المعمورة.

***

مقطعٌ من رسائل النور يتعلَّق بحياته في أنقرة

مقطعٌ من رسائل النور يتعلَّق بحياته في أنقرة

[من «رسالة الطبيعة»، «اللمعة الثالثة والعشرون»؛ المُعِدّون]

ذهبتُ إلى أنقرة في العام 1338رومي، [يوافق العامَ 1341هـ، 1922م؛ هـ ت] ورأيتُ كيف يجتهد فكر الزندقة في غمرةٍ من فرحِ أهل الإيمان بانتصارهم على جيش اليونان، ويسعى بخبثٍ للتسلُّل إلى عقائدهم الراسخة لإفسادها وتسميمِها على نحوٍ رهيب، فقلتُ: واأسفاه!! إن هذا الثعبان سيتعرض لأركان الإيمان.
فكتبتُ في ذلك الوقت رسالةً باللغة العربية مستمِدًّا من الآية الكريمة: ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم:10] التي تُبيِّن وجودَ الله ووحدانيتَه وتوضحهما بدرجة البداهة، وعرضتُ البرهان القرآني الذي يهوي على رأس الزندقة فيصرعها، وطبَعتُها بأنقرة في مطبعة «يَني گُن»، إلا أنه لم يكن لذلك البرهان القويِّ كبيرُ أثرٍ بسبب اختصاره وإجمالِه، فضلًا عن قلَّةِ من يقرأ العربية ونُدْرةِ مَن يقدِّر الرسالة حقَّ قدرها، فظهر ذلك الفكر الإلحاديّ واشتد عودُه للأسف.

أيها المبعوثون.. إنكم مبعوثون ليومٍ عظيم

«أيها المبعوثون.. إنكم مبعوثون ليومٍ عظيم»

يا مجاهدي الإسلام.. ويا أهل الحَلِّ والعقد.. أرجو أن تُلقوا أسماعَكم إلى عشرِ كلمات وبضعِ نصائح يُسديها إليكم هذا الفقير إلى الله بخصوصِ أمرٍ معيَّن:
1. إن النعمة الإلهية العظيمة التي تجلَّتْ في هذا الانتصار [يقصد انتصار الشعب التركي في حرب الاستقلال ضد قوى الاحتلال الأجنبية التي غزت تركيا عشية هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى؛ هـ ت] تتطلب شكرًا لتدوم وتزيد، وإلا فالنعمةُ إن لم تُقابَل بالشكر زالت؛ وما دمتم بتوفيقِ الله قد صُنتُم القرآنَ من هجوم الأعداء، فيلزمكم -ليتوالى فيضُه عليكم ويستمرَّ بهذه الصورة الرائعة- أن تمتثلوا أوامرَه، ومنها الصلاةُ التي هي في مقدِّمةِ فرائضِه الصريحة القطعيّة.
2. لقد أدخلتم السرورَ على العالَم الإسلامي، وحَظِيتُم باهتمامه ومحبته، لكن استدامة ذلك إنما تكون بالالتزام بالشعائر الإسلامية، فالمسلمون يحبونكم لإسلامكم.
3. لقد كنتم في هذا العالَم قادةً لمجاهدين وشهداء هم بمثابةِ أولياءَ لله، وشأنُ أهل الهِمَم العالية أن يسعَوا ليكونوا رفقاء هذه المجموعة النورانية في العالَم الآخر، وذلك بامتثال أوامر القرآن الكريم القطعية؛ وإلا اضطررتم -وأنتم القادة هنا- لاستمداد النورَ من جنديٍّ هناك!!
ألا إن هذه الدنيا الدَّنيَّة بكل ما فيها من جاهٍ وشهرةٍ ليست متاعًا يَشبع منه العاقل أو يَطمئنُّ إليه أو يَقصِدُه لِذاته.
4. إن أبناء هذا الشعب المسلم، حتى تاركي الصلاة منهم، بل حتى الفاسقين يريدون أن يروا مَن يرأسُهم متدينًا؛ حتى إن أولَ ما يُسأَلُ عنه كلُّ موظَّفٍ في عموم كردستان هو الصلاة، فإن كان يصلي منحوه ثقتَهم، وإلا ظَلَّ في نظرهم مُتَّهمًا وإنْ كان كُفئًا.

خطابٌ في الرؤيا

خطابٌ في الرؤيا

واقعةٌ روحيَّةٌ في غاية العجَب دوَّنَها في رسالة «السُّنوحات» حين كان عضوًا بدار الحكمة في اسطنبول.

في شهر أيلول من عام 1335 رومي، [يوافق العامَ 1337 هـ، 1919 م؛ هـ ت] كنتُ في حالةٍ من الاضطراب الشديد الناجمِ عن اليأس الذي خلَّفتْه حوادثُ الدهر، وكنت أبحث عن نورٍ في غياهب تلك الظُّلمة، فلم أستطع أن أجدَه في اليقظة التي هي حُلُمٌ معنًى، وإنما وجدتُ ضياءً في رؤيا صادقةٍ هي يقظةٌ في الحقيقة، وسأُوْرِدُ النقاطَ التي جرَتْ على لساني وأُعرِض عن ذِكر التفاصيل، وهي كالآتي:

في إحدى ليالي الجُمَع دخلتُ بالنوم إلى عالَم المثال، أتاني آتٍ فقال لي: يدعوك مجلسٌ موقَّـرٌ مَهيبٌ منعقدٌ لبحثِ حالِ عالَم الإسلام ومصيره.

ذهبتُ، فرأيت مجلسًا منوَّرًا لم أرَ مثلَه في الدنيا، قد حضرَه ممثلون عن السلف الصالح وعن كلِّ عصرٍ من العصور، فوقفتُ عند الباب متهيِّبًا، فناداني أحدهم قائلًا:

يا رجلَ زمانِ المصائب والنوائب.. أنت أيضًا لك رأي، فبَيِّن ما عندَك.

قلتُ وأنا واقف: سَلُوني أُجِبْ.

قال أحدُهم: إلامَ سَتُفضي هذه الهزيمة؟ [المقصود هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالَمية الأولى؛ هـ ت] وماذا كان سيحصُل لو كان الانتصار؟

قلت: إن المصيبةَ ليست شرًّا محضًا؛ فمثلما تنطوي السعادة على مصيبةٍ في بعض الأحيان، كذلك قد تنشأ السعادة عن المصيبة.

مقتطفٌ مما كَتَبه عن حياته في اسطنبول بعد عودته من الأسر

مقتطفٌ مما كَتَبه عن حياته في اسطنبول بعد عودته من الأسر

(الرجاء العاشر من اللمعة السادسة والعشرين)

بعد عودتي من الأسر غلبتْ عليَّ الغفلةُ في اسطنبول من جديدٍ مدَّةَ سنةٍ أو سنتين، وحوَّلَتْ أجواءُ السياسة نظري من نفسي مُشتِّتَةً إياه في الآفاق.. وفي تلك المرحلة كنتُ جالسًا ذاتَ يومٍ في مقبرةِ السلطان أيوب، في مكانٍ مرتفعٍ منها يُطلُّ على وادٍ عميق، أقلِّب النظر في آفاق اسطنبول، وإذا بي يُخيَّل إليَّ كأنَّ دنيايَ الخاصَّةَ قد حضرتْها الوفاة، حتى لكأن الروح تنسلُّ انسلالًا من بعض أطرافي، فقلت: أتُراها الكتاباتُ التي على شواهد القبور هي التي تُخيِّل إليَّ مثلَ هذا الخيال؟

أشَحْتُ بنظري عن الآفاق البعيدة والتفتُّ أنظر إلى المقبرة، فأُخطِر على قلبي: «إن في هذه المقبرة مِن حولك مئةَ اسطنبول.. بلى، لقد أُفرِغت اسطنبول ها هنا مئةَ مرة، وليس بمقدورك أن تبقى استثناءً فتنجوَ من حُكمِ حاكمٍ قديرٍ أفرغَ جميعَ أهالي هذه المدينة هنا.. أنتَ أيضًا سترحَل».