المقالة الثانية (عنصر البلاغة)

المقالة الثانية

عنصر البلاغة

هذه المقالة تبّين بضع مسائل تتعلق بروح البلاغة


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الطيبات لله والصلوات على نبيه

المسألة الأولى

يخبرنا التاريخ بأسفٍ بالغ أنه لمّا انجذب الأعاجم بجاذبة سلطنة العرب فَسَد بالاختلاط مَلَكةُ الكلام المُضَري، التي هي أساسُ بلاغة القرآن؛ إذ لما تعاطى الأعاجمُ والدُخلاء صنعةَ البلاغة العربية حوّلوا الذوقَ البلاغي من مجراه الطبيعي للفكر، وهو نظمُ المعاني، إلى صنعة اللفظ.

وذلك أن المجرى الطبيعي لأنهار الأفكار والمشاعر والأحاسيس إنما هو نظم المعاني.. ونظمُ المعاني هو الذي يشيَّد بقوانين المنطق.. وأسلوبُ المنطق متوجّهٌ إلى الحقائق المتسلسلة.. والفكرُ الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفُذ في دقائق الماهيات ونِسَبها.. ودقائقُ الماهيات ونِسبُها هي الروابط للنظام الأكمل في العالم.. والنظامُ الأكمل هو المندمِج فيه الحسنُ المجرد الذي هو منبع كل حسن.. والحسن المجردُ هو روضةُ أزاهيرِ البلاغة التي تسمى لطائفَ ومزايا.. وتلك الجنةُ المزهرة ودقائق الماهيات ونسبها هي التي تَجول فيها بلابلُ عاشقةٌ للأزاهير المسماة بالشعراء والبلغاء وعشاقِ الفطرة.. ونغماتُ تلك البلابل يمدّها صدىً روحاني هو نظم المعاني.

ولكن لما حاول الدُخَلاء والأعاجم الدخولَ في صفوف الأدباء، فلَتَ الأمرُ. لأن مزاج الأمة مثلما أنه منشأ أحاسيسها ومشاعرها، فإن لسانها القومي يعبّر عن تلك المشاعر ويعكس تلك الأحاسيس. وحيث إن أمزجه الأمة مختلفةٌ، فاستعداد البلاغة في ألسنتها متفاوت أيضًا، ولا سيما اللغة العربية الفصحى المبنية على قواعد النحو.

وبناء على هذا فإنّ نظمَ اللفظ -الذي هو أرض قاحلة جرداء لا تصلح لأن تكون مَسِيلًا لجريان الأفكار ومَنبتًا لأزاهير البلاغة- اعترض مجرى البلاغة الطبيعي، وهو نظمُ المعنى فشَوّش البلاغةَ.

وحيث إن المبتدئين ومَن لا مهارة لهم أحوجُ من غيرهم إلى ترتيب اللفظ وتحسينه وتحصيلِ المعاني اللغوية -بسوء اختيارهم أو بسَوق الحاجة- فقد صرفوا جلَّ اهتمامهم إلى اللفظ ورغبوا فيما هو أسهلُ مجرىً وأظهرُ للنظر العابر وآنَسُ للعوام وأَولى بأن ينجذبوا إليه وينفعلوا به ويجتمعوا حوله، لذا انجذبوا إلى تنميق الألفاظ صارفين أذهانَهم عن تنسيق المعاني والتغلغل فيها، تلك المعاني التي كلما قطعت بها مفازة تراءت صحارى شاسعة باهرة منها.. وهكذا سار الأمر بهم حتى افترقت أذهانُهم فداروا حيث دار اللفظ بعد تصور المعاني، بل حتى غلب اللفظُ المعنى وسخّره لنفسه، فاتسعت المسافةُ بين طبيعة البلاغة -وهي كون اللفظ خادمًا للمعنى- وصنعةِ العاشقين للفظ.

فإن شئت فادخل في «مقامات الحريري» فإنه مع جلالة قدره في الأدب، فقد استهواه حبُّ اللفظ وبذلك أخلّ بأدبه الرفيع، فأصبح قدوة للمغرَمين باللفظ، حتى خصص الجرجاني -ذلك العملاق- ثلث كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة دواءً لعلاج هذا الداء.

نعم، إن حب اللفظ داء، ولكن لا يعرف أنه داء!

تنبيه: كما أن حب اللفظ مرضٌ، كذلك حب التصوير (الفني)، وحب الأسلوب، وحب التشبيه، وحب الخيال، وحب القافية مرض مثله. بل ستكون هذه الأمراض بالإفراط أمراضًا مزمنة في المستقبل، كما تبدو البوادر من الآن. حتى يُضحَّى بالمعنى في سبيل ذلك الحب، بل بدأ كثير من الأدباء بإساءة الأدب والأخلاق لأجل نادرة ظريفة، أو لإتمام قافية رنانة.

نعم، اللفظ يُزيَّن ولكن إذا اقتضته طبيعةُ المعنى وحاجتُه..

وصورةُ المعنى تُعظّم وتعطى لها مهابةٌ ولكن إذا أذِن بها المعنى…

والأسلوبُ يُنوَّر ويلمَّع ولكن إذا ساعده استعدادُ المقصود…

والتشبيه يلطَّف ويجمَّل ولكن إذا تأسس على علاقة المقصود وارتضى به المطلوب…

والخيالُ يُنشط ويسيّح ولكن إذا لم يؤلِم الحقيقة، ولم يثقل عليها، وأن يكون مثالًا للحقيقة متسنبلًا عليها.

المسألة الثانية

إن حيـاة الكلام ونموَّه: بتجسّم المعاني وبنفخ الـروح في الجمادات. وذلك بإلقاء الحوار فيما بينها بالسحر البياني الحاصل بقوة الخيال؛ المبنية على المغالطة الوهمية، المؤسسة على الدوران -أي ظن أحد الشيئين علّة للآخر في الوجود والعدم كما هو الاعتقاد العرفي-… فالسحر البياني إذا تجلى في الكلام بَعَثَ الحياة في الجمادات كالساحر، ويوقع بينها محاورة قد تنجرّ إلى المحبة أو المخاصمة، فيجسِّم المعاني ويحييها ويدرِج فيها الحرارةَ الغريزية.

فإذا شئت فادخل في البيت الصاخب:

يناجيني الإخلافُ من تحت مَطْلِهِ  فتختصم الآمالُ واليأس في صدري

أي: إن خلف الوعد يحاورني من تحت ستار المماطلة في الحق، ويقول: لا تنخدع. فتتخاصم الآمال واليأس ويهدّان منزل صدري المتزلزل.

فترى كيف مثّل الشاعر الساحر المحاربةَ والمخاصمة بتجسيمه الأمل واليأس وبعثه الحياة فيهما، وجعلهما في صراع مع مثير الفتن: إخلاف الوعد، حَتى جعل البيتَ كأنه مشهد سينمائي يتراءى أمام عقلك. نعم، إن هذا السحر البياني نوع من التنويم.

أو استمع إلى شكوى الأرض وعشقها إلى المطر في هذا البيت:

تشكّى الأرض غَيْـبتـه إليه وترشُف ماءَه رشفَ الرضاب

يضع أمام خيالك حالة قيس وليلى، فالأرض قيس ومعشوقها السحاب ليلى!

تنبيه: إن الذي جمّل هذا الشعر هو مشابهة ما فيه من الخيال إلى حدٍ ما بالحقيقة؛ إذ الأرض تُحدث صوتًا وأزيزًا إذا تأخر عنها المطر فتمص ماءه مصًا. والذي يشاهِد عنها هذه الحالةَ ينتقل خياله إلى تأخر المطر وشدةِ حاجة الأرض إليه، وبسر الدوران المعلوم وبتصرف الوهم يُفرغ الخيالُ نفسَه في صورةِ عشق وحوارٍ بينهما.

إشارة: لابد في كل خيال من نواة من حقيقة، مثل هذه النوية.

المسألة الثالثة

إن حلل الكلام أو جماله وصورته: بأسلوبه، أي بقالب الكلام؛ إذ الأسلوب يتنور ويتشرب ويتشكل باتخاذه تلاحق قطعات الاستعارة التمثيلية، المتركبةِ من الصور، الحاصلة بخصوصيات من تمايلات الخيال، المتولدة بسبب تلقيح الصنعة (البيانية) أو المباشرة أو التوغل أو دقة الملاحظة. فالأسلوب بهذا قالب الكلام كما هو معدن جماله ومصنع حلله الفاخرة. فكأن المتكلم ينادي بإرادته -التي تنبه العقل- فيوقظ المعاني الراقدة في زوايا القلب المظلمة، فتَخرج حفاةً عراةً وتَدخل الخيال الذي هو محل الصور، فتلبس (المعاني) ما تجده من صور في خزينة الخيال تلك، فتَخرج بعلامة مهما قلت، حتى قد تلفّ على رأسها منديلًا أو تَخرج لابسة نعلًا، أو تخرج بأزرار أو بكلمة تدل على أنها تربّت هناك.

فإذا أنعمتَ النظر في أسلوب الكلام -الكلام الطبيعي الفطري- ترى المتكلم في مرآة الأسلوب، حتى كأن نَفْسَه في أنفاسه ونبراته، وماهيتَه في نفثاته، وصنعتَه ومزاجه ممتزجان في كلامه، فلو تخيلتَ الأمر هكذا لما عوتبت في مذهب الخياليين.

فإن كان في خيالك مرض من الشك في هذا، فزُر مستشفى قصيدة «بردة المديح»، وانظر كيف كَتب الحكيمُ البوصيري وَصْفَته الطبية باستفراغ الدمع وحمية الندم:

وَاسْتَفْرغ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ  مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ

وإن اشتهيت شرب زلال المعنى من زجاج الحقيقة -أي الأسلوب- وترى امتزاجهما فاذهب إلى الخمّار واسأله:

ما الكلام البليغ؟ فسيقول لك بدافع من صنعته: الكلام البليغ ما طبخته مراجل العلم وبقي في دِنان الحكمة وصفّته مصفاة الفهم، فدار به الساقون الظرفاء، فشربتْه الأفكار، وتمشّى فيه الأسرار، فاهتزت به الأحاسيس.

وإن لم يَرُق لك كلام هؤلاء السكارى، فاستمع إلى مهندس الماء، هدهدِ سليمان عليه السلام، في النبأ الذي أتى به من سبأ، كيف وصف الذي علّم القرآن وأبدع السماوات والأرض، إذ يقول الهدهد: إني رأيت قومًا لا يسجدون لله: ﴿الَّذي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ (النمل:25) فانظر، كيف اختار من بين الأوصاف الكمالية ما يشير إلى هندسة الهدهد.

إشارة: مرادي بالأسلوب: قالب الكلام وصورته، وآخرون يقولون غير هذا.

وفائدته البلاغية: التحام تفاريق القصة وقِطَعِها المشتتة، لتهتزّ القصة كلها بتحريك جزء منها حسب القاعدة: «إذا ثبت الشيء ثبت بلوازمه»؛ إذ لو وَضع المتكلم بيد السامع طَرفًا من الأسلوب فالمخاطب يمكن أن يرى تمامه بنفسه ولو مع شيء من الظلمة. فانظر أينما كان لفظ «بارز» فانه كالنافذة تريك ميدان الحرب.

نعم، هناك كثير من أمثال هذه الكلمات لو قيل إنها مَشاهد سينما الخيال فلا حرج.

تنبيه: إن مراتب الأسلوب متفاوتة جدًا؛ بعضها أرق من النسيم إذا سرى في السَّحر، وبعضها أخفى من دسائس دهاة الحرب في هذا الزمان، لا يشمّه إلّا ذوو الدهاء، كاستشمام الزمخشري من الآية الكريمة ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَميمٌ (يس:78) أسلوبَ مَن يبرز إلى الميدان!

نعم، إن العاصي لله إنما يبارز خالقه ويحاربه معنىً.

 المسألة الرابعة

إن قوة الكلام وقدرته: أن تتجاوب قيوده، وتتعاون كيفياته، ويمد كلٌ بقدره مشيرًا إلى الغرض الأصلي ويضع إصبعه على المقصد. فيكون مثالًا ومصداقًا لدستورِ:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْـجَمَال يُشِيرُ

وكأن القيود مسيل ووديان، والمقاصد حوض في وسطها يستمد منها.

حاصل الكلام: يلزم التجاوب والتعاون والاستمداد، لئلا تتشوش صورة الغرض المرتسمة على شبكة الذهن والملتقطة بنظر العقل.

إشارة: ينشأ التناسب ويتولد الحسن ويلمع الجمال بنشوء الانتظام من هذه النقطة.

فتأمل في كلام رب العزة ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ (الأنبياء:46) المسوقةِ للتهويل، وتخويف الإنسان، وتعريفِه بعجزه وضعفه. فبناءً على القاعدة البيانية:

«ينعكس الضد من الضد» ترى الآية الكريمة تُبين تأثير القليل من العذاب بقصد التهويل والتخويف، فكل طَرَف من الكلام يُمِدّ المقصد -وهو التقليل- عن جهته وذلك بـ:

التشكيكِ والتخفيف في لفظ «إنْ».

والمسِّ وحده دون الإصابة في «مسّت».

والتقليلِ والتحقير في مادةِ «نفحةٌ» وصيغتِها وتنكيرها.

والتبعيضِ في «مِن».

والتهوين في «عذاب» بدلًا من نكال.

وإيماء الرحمة في «ربك».

كل ذلك يهول العذاب ويعظمه بإراءة القليل، إذ إنْ كان قليلُه هكذا فكيف بعظيمه.. نسأل الله العافية!

تنبيه: هذا نموذج نسوقه لك، إن قدرت فقس عليه؛ فإن جميع الآيات القرآنية يتلألأ عليها هذا الانتظام والتناسب والحسن. ولكن قد تتداخل المقاصد وتتسلسل، وتصبح توابع، كل منها مقارنة مع الأخرى دون اختلاط. فلابد من الحذر والانتباه، لأن النظرة العابرة كثيرًا ما تَزِلّ في هذه المواضع.

المسألة الخامسة

إن أصل الكلام وصورة تركيبه يفيد المقصد نفسه، كما أن غناه وثروته وسعته هو في بيان لوازم الغرض وتوابعه وهزّه بتلميحاتِ مستتبعاته وبإشارات الأساليب؛ إذ التلميح أو الإشارة أساس مهم يهزّ عطف الخيالات الساكنة ويستنطق جوانبها الساكتة، فيهيّج الاستحسان في أقصى زوايا القلب.

نعم، إن التلميح أو الإشارة إنما هو لمشاهدة أطراف الطريق ومطالعتها، وليس للقصد والطلب والتصرف، بمعنى أن المتكلم لا يكون مسؤولًا فيه.

فإن أحببت فادخل في هذه الأبيات لترى ما يستحق المشاهدة:

فانظر إلى شعرات لحية الشيخ الذي اعتلى فرسه وأراد أن يعرض فتوته تجاه حسناء، تجد فيها مفاتيح بلاغة كثيرة..

فدونك الأبواب افتحها:

قالتْ كبرتَ وشِبتَ قلتُ لها  هذا غبارُ وقايع الدهر

وأيضًا:

ولا يروّعك إيماض القتير به  فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب

أي لا يخوّفك ابيضاض شعرات فإن نور العقل والأدب قد سالا من الدماغ إلى اللحية.

وأيضًا:

وعينُك قد نامتْ بليلِ شبيبةٍ فلم تنتبه إلّا بصبح مشيب

وأيضًا:

وكأنما لَطَم الصباح جبـينه فاقتصّ منه وخاض في أحشائه

يصف الشاعر فرسه فيريد: أن غرّته إنما هي أثر من لطمة الصباح على جبينه، وتحجيلَه إنما هو من خوضِ قوائمه الأربع في أحشاء الصباح.

وأيضًا:

كأن قلبي وشاحاها إذا خطرتْ  وقَلْبَها قُلْبُها في الصمت والخرس

أي يتحرك قلب الشاعر كوشاح في خصر المعشوق، بينما قلبها في سكون وصمت كسوارها. فلئن اشتاق قلبي إلى ذلك الزند القوي والخصر النحيف فإن قلبها مستغن عني… فالشاعر جمع في البيت الواحد الحسن والعشق والاستغناء والاشتياق.

وأيضًا:

وألقى بصحراء الغبـيط بعاعه  نـزولَ اليمانِي ذي العياب المحمّل

أي إن السيل القادم من المطر، ألقى بضاعته كالتاجر اليماني في صحراء الغبيط، فأخذت الأزاهير تتلون بتلك الأخلاط التجارية الممزوجة بالأصباغ والألوان وتلبس الحلل الزاهية حتى تحمر رؤوسها، مثلما لو نزل تاجر في قرية مساءً واشترى منه أهلها بضاعته المتلونة المتنوعة، يخرج في الصباح كلٌ من بيته في زينة وجمال وحتى راعي القوم يعصب رأسه بعصابة حمراء.

وأيضًا:

غَارَ الوفاءُ وفاض الغدرُ وانفرجتْ مسافةُ الخلف بين القول والعمل

فإن شئت فالتفِتْ إلى ما قبل هذه المقالة، تجد أمثلة كثيرة حول هذه المسألة.

منها: «إن مفتاح دلائل إعجاز الآيات وكشاف أسرار بلاغتها، البلاغة العربية لا الفلسفة اليونانية».

أو راجع الإشارة التي هي في خاتمة المسألة الأولى من المقالة الأولى، فإن فيها: «إن شريعة الخليقة أو الشريعة الفطرية قد فَرضت على الأرض المجذوبة السائحة ألّا تشذ عن صف النجوم المقتدية بالشمس».

نعم، إن الأرض مع قرينتها ﴿قَالَتَٓا اَتَيْنَا طَٓائِعينَ (فصلت:11) والطاعة في الجماعة أفضل.

فتأمل الآن في هذه الأمثلة، فإن كل مثال يُريك مِن أمامه ومن خلفه مقاماتٍ، بحيث تبرز مقامات أخرى خلفها.

المسألة السادسة

إن ثمرات الكلام هي: المعاني المتولدة في صور متعددة والمتفجرة في طبقات متفاوتة. فكما هو معلوم لدى الكيمياويين: إن الذهب عند استحصاله، يمرر في أنابيبِ معامل متعددة ويرسب ترسبات مختلفة في طبقات متفاوتة ويشكل بأشكال متنوعة. وفي الختام يحصل على قسم من الذهب. كذلك الكلام الذي هو خريطة مختصرة أُخذت من صورة المعاني المتفاوتة، فالمفاهيم المتفاوتة تتشكل صورُها كالآتي:

إنه باهتزاز قسم من أحاسيس القلب بتأثيرات خارجية تتولد الميول، وبتكّون معان هوائية منها وتعلّقها بنظر العقل توجِّه العقل إلى نفسها.. ثم بتكاثف قسم من ذلك المعنى البخاري يبقى قسم من الميول والتصورات معلقة.. ثم بتقطر قسم آخر يرغب فيه العقل.. ثم القسم المائع يتحصل منه ويُصلّب، فيضمه العقل ضمن الكلام.. ثم ذلك المتصلب لأنه يتجلى ويتمثل برسم خاص به، يُظهره العقل بكلام خاص حسب قامته المخصوصة.

بمعنى أن المتشخص من المعنى يأخذه العقل ضمن صورة خاصة للكلام. وما لم يصلّب يسلّمه ليد الفحوى، وما لم يتحصل يحمله على إشارات الكلام وكيفياته، وما لم يتقطر يحيله إلى مستتبعات الكلام، وما لم يتبخر يربطه باهتزازات الأسلوب وأطوار المتكلم التي ترافق الكلام.

ومن هذا النبع ينفجر مسمّى «الاسم»، ومعنى «الفعل»، ومدلول «الحرف» ومظروف «النظم»، ومفهوم «الهيئة»، ومرموز «الكيفية»، ومشار «المستتبعات» ومحرك «الأطوار المشايعة للخطاب» ومقصود «الدال بالعبارة» ومدلول «الدال بالاشارة» والمفهوم القياسي لـ«لدال بالفحوى» والمعنى الضروري لـ«لدال بالاقتضاء» وأمثالها من المفاهيم كل منها ينعقد في طبقة من طبقات هذه السلسلة.

فإن اشتقت فتطلع في وجدانك تشاهد هذه المراتب، وذلك إذا ما ألقى محبوبك شعاع حسنه وبريقه من نافذة العين إلى الوجدان؛ فذلك العشق المسمى بالنار الموقدة، يحرق مباشرة الحسياتِ ويلهبها، فتتهيج الآمال والميول، فتثقب تلك الآمالُ مباشرة سقفَ ذلك الخيال الذي في الطبقة العليا، ويستغيث فتسعى إلى تلك الآمال الخيالاتُ الممسكة بيدها محاسنَ المحبوب أو المشبعة بمحاسن غيرها، فتهاجم معًا وتنطلق من تلك الخيالات إلى اللسان وتستردف ميل زلال الوصال، وتضع على يمينها آلام الفراق، وتضع في يسارها التعظيم والتأدب والاشتياق، وتضع أمامها محاسن المحبوب المقتضي للعطف والترحم، فتنشر تحية ثنائها، وتنظم قلائد مدحها، المتجلية من الكل بوصف الفضائل المستجلِب لزلال الوصال، المطفِئ للنار الموقدة على الأفئدة. فانظر كم من المعاني ترفع رأسها من غير الطبقات التي تعرفها.

فإن لم تخف فانظر إلى وجدان كل من ابن الفارض وأبي الطيب المنبهر أكثر من عيونهما، وتأمل في ترجمان الوجدان في:

غرستُ باللحـظ وردًا فوق وجنتها  حقٌ لطرفيَ أن يجنِي الذي غرسا

وأيضًا:

فللعين والأحشاء أول هل أتى تلا عائدي الآسي وثالث تبت

وأيضًا:

صدٌّ حَمى ظمئي لُماكَ لماذا وهواك قلبي صار منه جُذاذًا

وأيضًا:

حشايَ على جَمر ذكيّ من الغضا  وعينايَ في روضٍ من الحُسن ترتعُ

فشاهد واستمع كيف أن عيونهم تتجول في جنة وسعيرُ وجدانهم تُعذِّب.

ولقد بيّن الشعراء خيالات رقيقة جدًا بالإشارة إلى محاسن المحبوب، وبالرمز إلى استغنائه، وبالإيماء إلى التألم من فراقه، وبالتصريح بالشوق إليه، وبالتلويح بطلب الوصال، وبالنص على الحسن الجالب للعطف.. مع ما يحرك الحسيات من أطوار.

إشارة: كما يلزم في نظام أية دولة كانت، أن يكون أجر الموظف حسب وظيفته وبمقدار خدماته وعلى وفق قابليته واستعداده، كذلك يلزم تقسيم العناية وتوزيع الاهتمام توزيعًا عادلًا، بحيث تأخذ كلُّ معنى من المعاني المتزاحمةِ في مثل هذه المراتب المتفاوتة نصيبَه وحظه بنسبة قربه من مركز الغرض الكلي الذي سيق له الكلام، وبنسبة خدمته للمقصود الأساس، وذلك ليحصل بتلك المعادلـة: الانتظامُ، ومـن الانتظام: التناسبُ، ومن التناسب: حسن الوفاق، ومن حسن الوفاق: حُسنُ المعاشرة، ومن حسن المعاشرة: ميزان التعديل لكمال الكلام. وبخلاف هذا فإن مَن هو خادم وظيفةً وصبي طبعًا إذا دخل في مراتب كبيرة يتكبر فيفسد التناسب ويشوش المعاشرة. أي يلزم أخذ استعداد قيود الكلام بنظر الاعتبار.

نعم، يجب أن يرفع مقام كل شيء بقدر استعداده؛ إذ العين والأنف وما شابههما من الأعضاء مهما كانت جميلة فإنها تتشوه إذا جاوزت الحد ولو كانت ذهبًا.

تنبيه: قد يذهب جندي بسيط إلى مواضع من العدو لاستكشاف مالا يقدر عليه المشير، أو يؤدي تلميذ صغير من العمل ما لا يؤديه عالم كبير، إذ الكبير لا يلزم أن يكون كبيرًا في كل أمر، بل كلٌّ كبيرٌ في صنعته.

وكذلك قد يترأس معنى صغيرٌ بين تلك المعاني المتزاحمة، فيأخذ قيمةً أعلى، لأن وظيفته ذات أهمية كما سنبينها.

والذي يشير إلى تلك المعاني المتزاحمة، والمنارُ على قيمتها عدمُ صلاحية صريح الحكم المنصوص ولازمه القريب لسفارة الكلام وسَوقِ الخطاب وإرسالِ اللفظ لأجله؛ إما لكونه بديهيًا معلومًا مشهودًا.. أو خفيفًا وضعيفًا لا يُهتم به في الغرض الأساس.. أو لفقدان من يتقبله و يستمع إليه.. أو لا يوافق حال المتكلم ولا يفي بداعي الرغبة في التكلم.. أو لا يمتزج ولا يقبل الامتزاج مع شرف المخاطب ومنزلته.. أو يبدو غريبًا في مقام الكلام وتوابع المستتبعات.. أو ليس له استعداد للحفاظ على الغرض وتهيئة لوازمه.

بمعنى: أن كل مقام يستمع إلى سبب واحد من بين هذه الأسباب. ولكن لو اتحدت عمومًا ترفع الكلام إلى أعلى طبقة.

خاتمة:

هناك معان معلقة، ليس لها شكل مخصوص ولا وطن معين. فهي كالمفتش الذي يمكنه الدخول إلى أية دائرة كانت، وبعضها يقلّد لفظًا خاصًا بها. هذه المعاني المعلقة قسم منها معان حرفية هوائية، قد تستتر في كلمة، أو يتشربها كلام أو تتداخل في جملة أو قصة، فإن عصرت تقطّر ذلك المعنى كالروح فيها كما في معاني «التحسر» و«الاشتياق» و«التمدح» و«التأسف» وغير ذلك.

المقالة الأولى (عنصر الحقيقة)

المقالة الأولى

عنصر الحقيقة

مقدمات ومسائل

إن من دساتير أهل العلم المحققين الاستنادَ إلى مقدمات، بلوغًا إلى الهدف والقصد. لذا ننصب سُلَّمًا ذا اثنتي عشرة مرتبة:

المقدمة الأولى

من الأصول المقررة: أنه إذا تعارض العقلُ والنقلُ، يعدّ العقلُ أصلًا ويؤوّل النقل، ولكن ينبغي لذلك العقل أن يكون عقلًا حقًا.([1])

ثم قد تحقق أيضًا: أن مقاصدَ القرآن الأساسية وعناصرَه الأصلية المنبثة في كل جهاته أربعةٌ: إثبات الصانع الواحد، والنبوة، والحشر الجسماني، والعدل.

أي إن القرآن هو وحدَه الكفيلُ بالإجابة عن الأسئلة التي تسألها الحكمةُ من الكائنات: من أين؟ وبأمرِ مَن تأتون؟ مَن سلطانُكم ودليلكم وخطيبكم؟ ما تصنعون؟ وإلى أين تصيرون؟

ولهذا فذِكرُ الكائنات في القرآن الكريم -مما سوى المقاصد- إنما هو ذكرٌ استطرادي لبيان طريق الاستدلال على الصانع الجليل بانتظام الصنعة.

نعم، الانتظام يشاهَد، بل يُظهر نفسَه بكل وضوح. فالصنعةُ المنتظمة تشهد على وجود الصانع وعلى قصده وإرادته شهادةً صادقة قاطعة، إذ تتراءى في كل جهة من جهات الكون وتتلألأ من كل جانب.. وتعرض جمال الخلق إلى أنظار الحكمة، حتى لكأن كلَّ مصنوع لسانٌ يسبّح بحكمةِ صانعه، كلُّ نوع يشهد مشيرًا بإصبعه إلى حكمة الصانع.

فمادام المقصد هو هذا، وما دمنا نتعلم من كتاب الكائنات الرموزَ والإشارات الدالة على الانتظام، وأن النتيجة الحاصلة واحدة، فكيفما كان تشكُّل الكائنات في ذاتها، فلا علينا، إذ لا تتعلق بنا.

ولكن كلّ فرد من أفراد الكائنات، الذي دخل ذلك المجلسَ القرآني الرفيع موظفٌ بأربع وظائف:

الأولى: إعلان عظمةِ الخالق الجليل بانتظامه واتفاقه مع غيره.

الثانية: إظهارُه أن الإسلامَ زبدةُ العلوم الحقيقية، حيث إن كلًا من الأفراد موضوعٌ وخلاصةٌ لعلم من العلوم الحقيقية.

الثالثة: إثبات تَطابُق الإسلام مع القوانين والنواميس الإلهية الجارية في العالم، وانطباقه عليها، لينمو الإسلام ويترعرع بإمدادِ تلك النواميس الفطرية، حيث إن كلَّ فرد من الكائنات نموذجٌ لنوع.

نعم، إن الإسلام، الدينَ المبين، يتميّز بهذه الخاصية عن سائر الأديان المترددة بين الهوى والهوَسات، لفقدانها الجذور العريقة الممدة لها؛ فتارة تضيء وأخرى تنطفئ، وتتغير بسرعة.

الرابعة: توجيه الأفكار إلى حقائق الأشياء والحثُّ عليها والتنبيه إليها، من حيث إن كل فرد منها نموذجٌ لحقيقة من الحقائق.

فمثلًا: إن القَسَم بالأجرام العلوية والسفلية في القرآن الكريم، إنما هو لتنبيه الغافلين دومًا وحثِّهم على التفكير. فالقَسَم القرآني قرعُ العصا لمن غطّ في نوم الغفلة.

فالذي تَحقق الآن هو الآتي:

إن القرآن الكريم الذي هو معجز، وفي أسمى بلاغة وأرفعِها، يسلك بلا ريب أوضحَ طرق الاستدلال وأصوبها وأقصرها وأوفقها لأساليب اللغة العربية، أي إنه يراعي حسيّات العوام لأجل إفهامهم وإرشادهم، أي يذكر الدليلَ -وهو انتظام الكون- بوجه يكون معروفًا لديهم وتأنَس به عقولُهم.. وبخلافه يكون الدليلُ أخفى من المدَّعَى مما ينافي طريق الإرشاد ومنهجَ البلاغة ومذهبَ الإعجاز.

فمثلًا: لو قال القرآن: أيها الناس! انظروا إلى الكرة الأرضية الطائرة في انجذاب ونَشوَة والسائرةِ في جو الفضاء، وتأملوا في الشمس المستقرة مع حركتها والأجرام العلوية المرتبط بعضُها ببعض بالجاذبة العامة، وتدبّروا في العناصر الكثيرة المرتبط بعضُها ببعض بأواصرَ كيماوية في شجرة الخلقة المنتشرة فروعُها في الفضاء غير المحدود.. لتتصوروا عظمةَ الصانع!! أو انظروا بمجهر عقولكم إلى قطرة ماء، التي تستوعب عالَمًا من الحيوانات، بأن الله على كل شيء قدير.!!

فلو قال القرآن هذا، أمَا كان الدليلُ أخفى وأغمضَ من المدَّعَى وأحوجَ إلى التوضيح؟ أما كان ذلك تنويرًا للحقيقة بشيء مظلم بالنسبة لهم! أو تكليفَهم بأمرٍ غير معقول هو مغالطة أنفسهم تجاه بداهة حسّهم!

إن إعجاز القرآن أجلّ وأطهر من أن يقع على ذيله الصافي اللامعِ غبارُ إخلال الأفهام. ولقد لوّح القرآنُ الكريم إلى المقصد الحقيقي في معاطف الآيات البينات وتلافيفها، كما جعل قسمًا من ظواهر الآيات منارًا ومرشدًا إلى المقصد، كالكناية عليه.

ومن الأصول المقررة أيضًا: أن الصدق والكذب، أو التصديق والتكذيب في الكنايات وأمثالها لا يرجعان إلى صورة المعنى، أي إلى «المعاني الأولى» كما يعبِّر عنها فنُّ البيان، بل يتوجهان إلى المقصد والغرض، أي إلى «المعاني الثانوية». فكما إذا قيل: «طويلُ النّجاد» فالحكم صحيح والكلام صدق إن كان الشخصُ طويلَ القامة وإن لم يكن له سيف. وكما تكون الكلمة الواحدة في كلامٍ قرينةَ المجاز([2]) للاستعارة، فإن طائفة من الآيات الكريمة، كأنها كلمة واحدة لكلام الله، تكون قرائن لحقائقِ وجواهر سائر أخواتها، وترجمان وأدلّاء على ما في ضمائر جاراتها من أسرار.

حاصل الكلام: من لم يضع هذه الحقيقة نصبَ العين، وعجزَ عن موازنة الآيات، ولم يتمكن من الحُكم بينها حكمًا عدلًا، يكون كالبكتاشي الذي قال لتسويغ تركه الصلاةَ: إن القرآن يقول: ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلٰوةَ .. أما ما بعده فلستُ حافظًا للآية! ألَا يكون هذا موضع هزء في نظر الحقيقة؟!

المقدمة الثانية

قد يكون بديهيًا ما هو نظريٌ([3]) في الماضي. هكذا تحقق… ففي العالَم ميلٌ للاستكمال وبه يتبع العالمُ قانونَ التكامل. ولأن الإنسان من ثمرات العالَم وأجزائه ففيه كذلك ميلُ الترقي المستمد من الميل للاستكمال. وميلُ الترقي هذا ينمو ويترعرع مستمدًا من تلاحق الأفكار الذي ينبسط بتكمّل المبادئ واكتمالِ الوسائل، وتكملُ المبادئ يلقي -من صلب الخلقة- بذورَ علوم الأكوان ملقِّحًا رحمَ الزمان التي تُربّي تلك البذور وتنبتها، فتستوي بالتجارب المتعاقبة التدريجية.

وبناءً على هذا، فإن مسائلَ كثيرة في هذا الزمان قد أصبحت في عِداد البديهيات والعلوم المعتادة، بينما كانت في السابق أمورًا نظرية، شديدةَ الخفاء والغموض، ومحتاجة إلى سرد البراهين؛ إذ نرى كثيرًا من مسائل الجغرافية والفلك والكيمياء والهندسة العملية؛ يَعرفها حتى صبيانُ هذا الزمان، بل يلعبون بها لَعِبَهم بالملاعيب، وذلك بتكمُّل المبادئ وبرقيّ الوسائط وبكشفيات تلاحق الأفكار، علمًا أنها كانت نظريةً وخفية على «ابن سينا» وأمثالِه من الفلاسفة. مع أنه لو وزن «أبو الفلسفة» بمئات من فلاسفة هذا الزمان لرجَحهم في الذكاء وقوة الفكر وكمال الحكمة وسعة القريحة. فالنقصُ إذن ليس في «ابن سينا»، فهو ابن الزمان، بل في أبيه الزمان.

أليس بديهيًا أنه لو لم تُكتشف الدنيا الجديدة (أمريكا) -واشتهر به كولومبس- لاقتدرَ على اكتشافها وإلحاقها بهذه الدنيا القديمة أبسطُ الملاحين؟ إذ بدلًا من تبحُّر فكر المكتشف الأول واقتحامِه المهالك تكفي الآن سفينةٌ صغيرة وبوصلة.

ومع هذا يلزم أخذُ الحقيقة الآتية بنظر الاعتبار وهي أن المسائل قسمان:

قسم: يؤثر فيه تلاحقُ الأفكار، بل يتوقف عليه، كالتعاون في الماديات لرفع صخرة كبيرة.

والقسم الثاني: لا تأثير للتعاون وتلاحق الأفكار فيه من حيث الأساس؛ فالواحد والألف سواء. كالقفز في الخارج من مرتفع إلى آخر، أو المرور من موضع ضيق. فكلُّ فرد والكلُّ سواء، ولا يجدي التعاون.

فبناءً على هذا القياس: فإن قسمًا من العلوم هو كرفع الصخر، بحاجة إلى التعاون وتلاحق الأفكار. وأغلب هذا القسم هو من العلوم المادية.

أما القسم الثاني، وهو الشبيه بالمثال الثاني، فتكمُّله دفعي، أو شبيه الدفعي. وأغلب هذا القسم هو من المعنويات ومن العلوم الإلهية.

ولكن على الرغم من أن تلاحق الأفكار لا يغير ماهية هذا القسم الثاني ولا يكمله ولا يزيده، إلّا أنه يفيض وضوحًا وظهورًا وقوة في مسالك براهينه.

ويجب ملاحظة ما يأتي:

إن من توغل كثيرًا في شيء، أدّى به في الغالب إلى التغابي في غيره.

فبناء على هذا: من توغل في الماديات تبلّد في المعنويات وظل سطحيًا فيها.

فنظرًا إلى هذه النقطة لا يكون حكمُ الحاذق في الماديات حجةً في المعنويات بل غالبًا لا يستحق سماعه.

نعم، إذا ما راجع مريض مهندسًا بدلًا من طبيب، ظنًا منه أن الطب كالهندسة، وأخذ بوصفة المهندس، فقد أخذ لنفسه تقريرًا بنقله إلى مستشفى مقبرةِ الفناء، وعزَّى أقرباءه.

وكذلك مراجعة أحكام الماديين في المعنويات التي هي الحقائق المحضة والمجردات الصرفة، واستشارةُ آرائهم وأفكارهم، تعني الإعلان عن سكتة القلب الذي هو اللطيفة الربانية، وعن سكرات العقل الذي هو الجوهر النوراني.

نعم، إن الذين يبحثون عن كل شيء في الماديات عقولُهم في عيونهم، والعينُ عاجزة عن رؤية المعنويات.

المقدمة الثالثة

إن دخول طائفة من الإسرائيليات وقسمٍ من الفلسفة اليونانية ضمن دائرة الإسلام وظهورَها بزي الدين الجميل، شوّشت الأفكار.

وذلك: أن أولئك القوم، العربَ النجباء، كانوا أمة أميّة في الجاهلية. ولكن لمّا تجلّى الحقُّ فيهم وتيقظ استعدادُ حسياتهم بمشاهدة الدين المبين، وجّهوا رغباتِهم وميولَهم كلّها في معرفة الدين وحدَه. ولم يك نظرهم المتوجّه إلى الكون من نوع التفصيل الفلسفي بل نظرَ استطرادٍ للاستدلال ليس إلّا. وما كان يُلهِم ذوقَهم المرهف الطبيعي إلّا محيطُهم الواسع الرفيع المنسجم مع فطرتهم… والقرآنُ الكريم هو وحدَه المربي لفِطَرهم الأصيلة النقية ومعلّمُها.

ولكن الأمة العربية -بعد ذلك- أخذت تحتضن الأقوامَ الأخرى، فدخلت معلوماتُ سائر الملل وعلومُها أيضًا حظيرة الإسلام، ثم وجدت الإسرائيلياتُ المحرَّفة مَنفذًا إلى خزائن خيال العرب، فأسالَت مجرىً إلى تلك الخزائن بإسلام عدد من علماء أهل الكتاب كـ«وهب وكعب» فامتزجت الإسرائيلياتُ بالأفكار الصافية. فضلًا عن ذلك وجدت الاحترامَ والتقدير، لأن الذين اهتدوا من علماء أهل الكتاب قد تكامَلوا بشرف الإسلام ونالوا به مكانةً فائقة… لذا غدت معلوماتُهم الملفّقة كأنها مقبولةٌ ومسلّمٌ بها، فلم تُردّ، بل وجدت آذانًا صاغية لها من دون تنقيد، وذلك لعدم مصادمتها بأُصول الإسلام ولأنها كانت تُروى كحكايات لا أهمية لها.. ولكن يا للأسف! قُبلت تلك الحكايات بعد فترة من الزمن كأنها حقائقُ وأصبحت سببًا لكثير من الشبهات والشكوك.

إذ إن هذه الإسرائيليات قد تكون مرجعًا لبعض إيماءات الكتاب والسنة، ومصدرًا لبعض مفاهيمهما -بوجود علاقة- إلّا أنها لا تكون معنىً للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة. بل لو صحّت ربما تكون أفرادًا من معاني ما يصدُق عليه مفهوم الآية والحديث. ولكن المفتونين بالظاهر([4]) الذين لم يجدوا -بسوء اختيارهم- مصدرًا غيرَه، ولم يتحرّوا عنه، فسّروا قسمًا من الآيات والأحاديث بتطبيق الإسرائيليات عليهما. والحال أن الذي يفسّر القرآن ليس إلاّ القرآن والحديث الصحيح، وإلاّ فلا يُفسَّر القرآن بالإنجيل والتوراة المنسوخةِ أحكامُهما والمحرفةِ قصصُهما.

نعم، إن المعنى شيءٌ وما يصدُق عليه المعنى شيءٌ آخر. غير أنه أُقيم ما يمكن أن يكون مصداقًا لشيءٍ مقامَ المعنى، فاختلط كثيرٌ من الإمكانات والاحتمالات مع الوقائع.

ثم لمّا تُرجمت الفلسفة اليونانية في عصر المأمون، لضمّها إلى الفكر الإسلامي، تلك الفلسفة الناشئة من منبع كثير من الأساطير والخرافات، حملَت معها شيئًا من العفونات، وتداخلت في أفكار العرب الصافية، فشوّشت الأفكار إلى حدٍ ما، وفتحت طريقًا من التحقيق إلى التقليد، كما أنها صرفَتهم عن الاستنباط -بقرائحهم الفطرية من معدِن ماءِ حياةِ الإسلام- إلى الافتقار بالتتلمذ على تلك الفلسفة المانعة للكمال.

نعم، فكما أن العلماء المحققين دوّنوا قواعدَ علوم العربية، عندما فسدت -باختلاط الأعاجم- حفاظًا على سلامة مَلَكة الكلام المُضَرى؛ كذلك حاول قسمٌ من علماء الإسلام الناقدين فرزَ الفلسفة وتمييزَ الإسرائيليات لمّا دخلتا دائرة الإسلام.

ولكن يا للأسف! لم يوفَّقوا كليًا، فلم يبق الأمرُ عند حدّه، إذ لما صُرفت الهمةُ إلى تفسير القرآن الكريم، طبّق عددٌ من الظاهريين منقولَه على بعض الإسرائيليات، ووَفّقوا بين قسم من معقولِه والفلسفةِ المذكورة، لِمَا رأوا من شموله على المنقول والمعقول. وكذا الحديث النبوي، فبدلًا من أن تُستخرج المقاصد من عين الكتاب والسنة استنبط طائفةٌ مطابقةً وعلاقةً بين بعض نقلياتهما الصادقة وبعض الإسرائيليات المحرّفة، وبين عقلياتهما الحقيقية وهذه الفلسفةِ الموهومة المموَّهة، ظنًا منهم أن هذه المطابقةَ والمشابهة تفسيرٌ لمعاني الكتاب والسنة وبيانٌ لمقاصدهما!

كلا.. ثم كلا! لأن مصداق الكتاب المبين إعجازهُ. والقرآن يفسّر بعضُه بعضًا، ومعناه فيه، وصَدَفُه دُرٌّ مثلُه لا قشر. وحتى لو فُرض أن القصدَ من إظهار هذه المطابقة هو تزكيةُ ذلك الشاهد الصادق، فهو عبثٌ أيضًا، إذ القرآن المبين أسمى وأغنى من أن يَفتقر إلى تزكية العقل والنقل اللذين ألقَيا إليه المقاليد، لأنه إن لم يزكّهما فشهادتُهما لا تُسمع.

نعم، يجب البحث عن الثريا في السماء لا في الأرض. فابحث عن معاني القرآن في أصدافه، لا في جيبك الحاوي على أخلاط، فإنك لن تجدَ شيئًا، وحتى لو وجدتَ فالقرآن يرفضُه، إذ لا يحمل طغراءَ البلاغة.

ومن المقرر: أن المعنى هو ما صبّته الألفاظُ في الصماخ نافذًا في الذهن، منتشرًا منه إلى الوجدان، مفتّحًا منه أزاهيرُ الأفكار. وإلّا فليس هو ما تسرّب في خيالك من احتمالاتٍ لكثرة توغل أمور أخرى، أو ما سرَقتَه وملأتَ جيبك من أباطيل الفلسفة وأساطير الحكايات، ثم أخفيتَه في معاطف الآيات والأحاديث ثم أظهرتَه ممسكًا به في يدك تبرزه وتنادي: «هذا هو المعنى، هلموا لأخذه» فيأتيك الجواب: يا هذا! إن المعنى الذي استخرجتَه مزيّف، عليه علامةُ التقليد، يردُّه نقاّد الحقيقة، وسلطانُ الإعجاز يطرد من ضرَب سكّتَه، وحكيمُ البلاغة يسجن وهمَك في خيالك بشكوى الآية عليك، لِما تعرضتَ إلى نظامها ونظام الحديث. وطالبُ الحقيقة لا يقبله منك حتمًا، إذ يقول لك: إن معنى الآية درّ وهذا مَدَر ومفهومَ الحديث مُهَج وهذا همَج.

مَثل للتنوير: من أمثال الأكراد الأدبية أن رجلًا اسمه «علَو» كان يسرق العسل، فأُشير عليه بأن ستظهر سرقتُك وينكشف أمرُك. فجمع الزنابير في كوارة، لأجل الخداع والتمويه، فكان يسرق العسل ويدّخره في الكوارة، وإذا ما سأله أحد يقول: هذا العسل صنعتْه نحلي، مهندسةُ العسل. ثم يحدّث الزنابير بلغة مشتركة بينهما «فِزْ فِزْ ﮊِ وَه هِنْكِفِينْ ﮊِ مِنْ» أي عليكم الدوي والطنين ومني العسل!

فيا أيها المؤوِّل بالتشهي والهوى، لا تتسلّ بهذا التشبيه، فهذا ضربٌ للمثل. إذ المعنى الذي أوردتَه ليس عسلًا بل سمًّا، فإن تلك الألفاظ -القرآنية والنبوية- ليست نحلًا بل كالملائكة توحي أرواح الحقائق إلى القلب والوجدان لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.. إن الحديث النبوي معدن الحياة، ومُلهم الحقائق.

نحصل مما سبق: أن الإفراط والتفريط كلاهما مضران، وربما التفريط أكثر ضررًا إلّا أن الإفراط أكثر ذنبًا، لأنه يسبب التفريط.

نعم، لقد فُتح بابُ السماح بالإفراط، فاختلطت الأشياءُ المزيفة بتلك الحقائق الرفيعة. ولما شاهد أهلُ التفريط والنقد غيرُ المنصفين هذه المزيّفات بين تلك الحقائق التي لا تقدَّر بثمن، ذعروا واشمأزوا، وظنوها كلّها مزيفة تافهة ملوثة، ظلمًا وإجحافًا.. كلا وحاش لله…

تُرى لو وجدت نقودٌ مزيّفة في كنز، أُدخلت إليه من الخارج، أو لو شوهد تفاحٌ فاسد سقط إلى بستان من غيره، أمِن الحق والإنصاف عدُّ الكنز كلِّه مزيّفًا، أو البستانِ كلّه فاسدًا، ومن ثم تركهما لأنهما ملوثان معيوبان مشوبان؟!

خاتمة:

أقصد من هذه المقدمة: أن الأفكار العامة تريد تفسيرًا للقرآن الكريم.

نعم، إن لكل زمان حكمَه، والزمانُ كذلك مفسِّر. أما الأحوال والأحداث فهي كشافة. وإن الذي يستطيع أن يكون أستاذًا على الأفكار العامة هو الأفكار العلمية العامة أيضًا.

فبناءً على هذا واستنادًا إليه أُريد تشكيلَ مجلس شورى علمي، منتخَبٍ من العلماء المحققين، كل منهم متخصصٌ في علم، ليقوموا بتأليف تفسير للقرآن الكريم بالشورى بينهم، تحت رياسة الزمان الذي هو مفسّرٌ عظيم، ويجمعوا المحاسن المتفرقة في التفاسير، ويهذّبوها ويذهّبوها.

وهذا الأمر مشروط بأن تكون الشورى مهيمنة في كل شيء، والأفكار العامة مراقبة، وحجيةُ الإجماع حجة عليه.

المقدمة الرابعة

الشهرة تملّك الإنسانَ ما لا يملك.

إن من سجايا البشر إسنادَ الشيء الغريب أو الثمين إلى من اشتهر بجنسه، لإظهاره أصيلًا، أي لأجل أن يروِّجَ كلامَه ويزيّنه أو لئلا يكذَّب أو لأغراض أخرى يُحيل نتائج أفكار أمةٍ أو محاسن أطوارها إلى شخص ما -ظلمًا وعدوانًا- ويشاهد صدورَها عنه! بينما ذلك الشخص نفسه من شأنه ردّ تلك الهدية المهداة له ظلمًا وتعسفًا؛ إذ لو عُرض على شهير -في صنعة جميلة أو خصلة راقية- أمرٌ، وقيل له -بغير حق-: «إن هذا من صنع يدك» -مثلًا- فإنه يردّه حتمًا ويتبرأ منه ويشمئز، قائلًا حاشَ لله؛ ذلك لأن نظرَه النافذ في ما وراء الحُسن الظاهر يبصر إخلالَ ذلك الأمر بجمال تلك الصنعة الناشئ من تناسقها وانتظامها.

فبناءً على هذه السجية، واستنادًا إلى القاعدة المشهورة: «إذا ثبت الشيءُ ثبت بلوازمه» يضطر الناس إلى إسناد قوة عظيمة وعظمة فائقة وذكاء خارق.. وأمثالِها من لوازم خوارق العادات إلى ذلك الشخص الشهير، ليوائمَ ما في خيالهم، وليمكّن له أن يكون مرجعًا ومصدرًا لجميع ما ينسب إليه من أمور خارقة. فيتجسم ذلك الشخصُ في أذهانهم أعجوبةً من أعاجيب الخلق.

فإن شئت فانظر إلى صورة «رستم بن زال» المعنوية، الذي نما في خيال العجم، ترى العجب العجاب. فإنه لما اشتهر بالشجاعة اغتصبَ مفاخر الإيرانيين وأغار عليها بقوة الشهرة، وبحكم الاستبداد الذي لم يتخلص منه الإيرانيون قط. وهكذا ضُخّمت تلك الشخصية واستُعظمت في الخيالات.

ولما كان الكذب يردفه كذبٌ ويسوق إليه، استلزمت هذه الشجاعةُ الخارقة للعادة، عمرًا خارقًا، وقامة خارقة، وما يكتنفهما من لوازمهما!.. حتى تجسم ذلك الخيال في الذهن وهو يصرخ: «أنا نوع منحصر في شخص»، لا من أبناء البشر بل ككائن خرافي يدور في حكايات الناس ويتقدم الخرافات فاتحًا الطريق إلى أمثاله.

يا من يريد رؤية الحقيقة مجرّدةً! أنعِم النظر في هذه المقدمة؛ لأن بابَ الخرافات ينفتح من هذا الموضع، وبابَ التحقيق «العلمي» ينسدّ به، زد على ذلك ففي هذه الأرض القاحلة الجرداء يضيع على الإنسان أخذُ العبرة من القصة، ويفوتُه البناء على أسس المتقدمين كما يمليه الترقي، ولا يتجرأ على التصرف في ميراث الأسلاف ولا الزيادة عليه.

فإن شئت فقل للخواجة نصر الدين الشهير بـ«جحا الرومي»: «أهذه الأقوال الغريبة كلّها لك؟ فسيكون جوابه: «هذه الأقوال تملأ المجلدات، وتحتاج إلى عمر مديد.، وأقوالي كلها ليست من نوادر الكَلِم، فأنا عالم من العلماء تسعني زكاةُ ما نسَبوا إليّ من أقوال. أما الباقي فأرفضه وأردّه لأنها تقلب ظرافتي إلى التصنع».

فيا هذا! من هذا العِرق تنبت الخرافات والموضوعات، ومنه تتفرع، وهو الذي يزيل قوة الصدق.

خاتمة

إن إحسانًا يزيد على الإحسان الإلهي ليس بإحسان.

إن حبة من حقيقة تَفضل بيدرًا من الخيالات.

الاطمئنان والقناعة بالإحسان الإلهي في التوصيف فرض.

يجب ألّا يخل بنظام المجتمع مَن كان داخلًا فيه.

أصل الشيء تبيُّنه ثمرته. شرف الشيء في ذاته لا في نسله.

إذا اختلطت في بضاعة بضاعةٌ أخرى، فإنها تنقص من قيمة الأولى وإن كانت الثانية قيّمة ونفيسة، بل تسبب حجزها.

والآن، بناءً على هذه النقاط، أقول:

إن إسناد قسم من الأحاديث الموضوعة إلى «ابن عباس» رضي الله عنه وأمثالِه من الصحابة الكرام، لأجل الترغيب أو الترهيب، إثارةً للعوام وحضًا لهم، إنما هو جهل عظيم.

نعم، إن الحق مستغنٍ عن هذا، والحقيقة غنية عنه؛ فنورُهما كافيان لإنارة القلوب. تسعنا الأحاديث الصحيحة المفسِّرة الحقيقية للقرآن الكريم، ونثق بها ونطمئن إلى التواريخ الصحيحة الموزونة بميزان المنطق.


[1] وذلك إذا كان العقل قطعي الدلالة والنقل ظني الدلالة، فيؤول الظني ليوافق القطعي. أما إذا كانا قطعيين فلا تعارض أصلا. وأما إذا كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.(المحقق)

[2] أي الإشارة التي تخص المجاز، أي التي تجعل الكلمة مجازًا حتمًا وهي القيد الذي يحول الكلمة عن معناها الحقيقي.

[3] البديهي ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال، والنظري هو ما يحتاج إلى نظر واستدلال.

[4] ترد في ثنايا الكتاب اصطلاحات مشابهة لهذا، فتارة: الظاهريون، وأخرى: أهل الظاهر، وأخرى: المغرمون بالظاهر.. الخ. والمقصود: أولئك الذين يولون أهمية لظاهر الشيء دون حقيقته، ولا يمكنهم درك حقيقة الشيء، أو لا يعرفونها معرفة جيدة، أو يتوقفون في ظاهر الشيء أو النص دون تأويله وتوجيهه.

المقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين وبالله التوفيق…

التحياتُ للحاكم الحكيم الرحمن الذي لم يزل.. الذي فضّلَنا بالإسلام، وهدانا إلى الصراط المستقيم بشريعته الغراء، تلك التي صدّق العقلُ والنقلُ معًا حقائقَها الثابتة، الراسخةَ في أرض الحقيقة أصولُها، المنتشرةَ في سماء الكمالات فروعُها، الحاملة بسعادة الدارين ثمارُها.

والذي أرشدنا إلى الحق المبين، بقرآنه المعجِز البيان الذي بيّن بقواعده -من كتاب العالم- قوانينَ الله العميقة الجارية بيَد القدر، المسطّرة بقلم الحكمة على صفحة الوجود، فيحقق بأحكامه العادلة رقيَّ البشرية وسموَّ نظامها ودقةَ اتزانها، فأصبح حقًا مرشدًا وهاديًا إلى سواء السبيل.

والصلاة الدائمة على سيد الكونين وفخرِ العالمين الذي يشهد لرسالته ويدلّ على معجزاته ويدعو إلى ما أتى به من خزينة الغيب من كنز عظيم العالَمُ بأنواعه وأجناسه، حتى لَكأن كلَّ نوع يرحّب بمَقدَمه بلسانه الخاص، كما يستنطق سلطانُ الأزل أوتارَ الأرض والسماوات، فينشد كلُّ وترٍ بلسانِ نغماتِ معجزاته، فيرنُّ ذلك الصدى الجميل إلى الأبد ما دامت هذه القبة الزرقاء.

فالسماءُ تُبارك رسالتَه بألسنة معراجها وملائكتها وقمرها.

والأرضُ تفخر بمعجزاته بألسنةِ حَجَرها وشجرها وحيوانها.

وجوُّ الفضاء يبشّر بنبوته بجِنّه، ويظللها ويحميها بسحائبه.

والماضي يبشر بالفجر الصادق لذلك السراج المنير، بتصديق الأنبياء وتلويحات الكتب ورموز الكهان.

والحالُ الحاضرة -أعنى خيرَ القرون، قرن السعادة النبوية- تشهد على ثبوت نبوّته بلسان الحال، بالانقلاب العظيم الذي أحدثته في طبائع العرب، وتحويلهم دفعةً من البداوة الصرفة إلى المدنية المحضة.

والمستقبلُ يشكر بلسان الحكمة إرشاداته ويستقبل موكبَه الميمون بأحداثه وبتحقيقاته.

والبشريةُ قاطبة بعلمائها ومحققيها تشهد أنه مرسَل من عنده تعالى، ولا سيما المستمعون إلى محمد ﷺ بلسانه الفصيح وبكلامه البليغ، والذي هو كالشمس يضيء نفسه كما يضيء غيره.

والله سبحانه وتعالى بلسان قرآنه الحكيم يعلن رسالته ويستقرئها.

جمله شيران جهان بستهء إين ســلســله أنــد

روبه أزحيله جه سان بكسلد إين سلسله را ([1])

أما بعد،

فإن هذا الفقير، الغريب، النُّورْسِيّ، الذي يستحق أن يُطلَق عليه اسم بدعة الزمان إلّا أنه اشتهر -دون رضاه- بـ«بديع الزمان»… فهذا المسكين يستغيث ألمًا من حرقة فؤاده على تدنّي الأمة ويقول: آه.. آه… وا أسفى..!

لقد انخدعنا فتركنا جوهرَ الإسلام ولبابَه، وحصرنا النظر في قشره وظاهره.

وأسأنا الفهم، فأسأنا الأدبَ معه، وعجزنا عن أن نوفيه حقه حق الإيفاء وما يستحقه من الاحترام، حتى رغِبَ عنّا، ونَفَر منّا، وتستّر بسحائب الأوهام والخيالات. والحق معه، إذ نزّلنا الإسرائيليات منزلةَ أُصوله، وأدخلنا الحكايات في عقائده، ومزَجنا مجازاته بحقائقه. فبَخَسنا حقَّه، فجازانا بالإذلال والسفالة في الدنيا.. ولا خلاص لنا إلّا باللواذ برحمته.

أيها الإخـوة المسـلمون! هيـا لنعتذر إليـه، ونطلب رضـاه فنمدّ إليه معًا متفقين يـدَ الصداقة نبايعه ونعتصم بحبله المتين.

أُعلنُ بلا حـرج ولا تـردد: أن الذي دفعني وشـجعني إلى مبارزة أفكار العصور الخوالي، والتصدّي للخيالات والأوهام التي تقوّت واحتشدت منذ مئات السنين.. إنما هو اعتقادي ويقيني بأن الحقَّ سينمو نموَّ البذرة النابتة، وإن تسترت تحت التراب… وأن أهله سينتصرون وإن كانوا قلّة وضعفاء بظلم الأحوال. واعتقادي أن حقيقة الإسلام هي التي ستسود قارات العالم وتستولي عليها.

نعم، إن الإسلام هو الذي سيعتلي عرشَ الحقائق والمعارف، فلا يكشفها ولا يفتحها إلّا الإسلام… الأمارات تبدو هكذا..

ذلك لأن الذي حال دون استيلاء الشريعة الغراء استيلاءً تامًا في الماضي، في تلك الصحراء الموحشة والجهل المطبق الذي تربّع على عرشه التعصبُ الذميم، وضرب فيه التقليدُ أطنابَه، في بلاد الجهل المخيم بالسفساف والاستبداد المقيت… أقول إن الذي حال دون هيمنة الشريعة في الماضي هيمنة تامة هي أمور ثمانية، وقد مُحِقت -وكذلك الآن تُمحق-
بثلاث حقائق.

هذه الموانع هي التي أدّت إلى كسوف شمس الإسلام.

أما الموانع التي في الأجانب فهي: التقليد، والجهل، وتعصبهم، وسـيطرة القسس عليهم.

أما الموانع التي عندنا فهي: الاستبداد المتنوع، وسوء الخلق، واليأس الذي تنجم منه العطالة، والأحوال المضطربة.

أما المانع الثامن، وهو أهم الموانع والبلاء النازل، فهو توهُّمُنا -نحن والأجانب- بخيال باطل؛ وجود تناقض وتصادم بين بعض ظواهر الإسلام وبعض مسائل العلوم. فمَرحى لجهود المعرفة الفياضة وانتشارها، وبخٍ بخٍ لعناء العلوم الغيورة، اللتين أمدّتا تحرّي الحقائق وشحَنتا الإنسانية، وغرستا ميلَ الإنصاف في البشرية، فجهّزتا تلك الحقائق بالأعتدة لدفع الموانع، فقضت وستقضي عليها قضاءً تامًا.

نعم، إن أعظم سبب سلبَ منا الراحةَ في الدنيا، وحرَّم الأجانبَ من سعادة الآخرة، وحجب شمسَ الإسلام وكسفها هو سوءُ الفهم وتوهُّمُ مناقضة الإسلام ومخالفتِه لحقائق العلوم.

فيا للعجب! كيف يكون العبدُ عدوَّ سيده، والخادمُ خصمَ رئيسه، وكيف يعارض الابنُ والدَه!! فالإسلام سيدُ العلوم ومرشدُها ورئيسُ العلوم الحقة ووالدُها.

ولكن، يا للأسف.. هذا الفهم الخطأ، هذا الوهم الباطل، قد أجرى حكمَه إلى الوقت الحاضر، فألقى بشبهاته في النفوس، وأوصد أبوابَ المدنية والمعرفة في وجه الأكراد وأمثالِهم… فذعروا من توهم المنافاة بين ظواهر من الدين لمسائلَ من العلوم. فكرويةُ الأرض -مثلًا- وهي أُولى مرتبة من مراتب الجغرافية التي هي أول منزل من منازل العلوم، هذه المسألة البديهية تَوهموها منافيةً للمسائل الست التي سنذكرها، ولم يتحرّجوا من المكابرة فيها والإصرار عليها.

فيا من يُمعن النظر في كتابي هذا!

اعلم أن ما أريد أن أُسديه بهذا الكتاب من خدمة هو: ردُّ شبهات أعداء الدين الذين يبخسون الإسلامَ حقَّه، بإظهار الطريق المستقيم الذي عليه الإسلام.. ودفعُ أوهام أهل الإفراط والغلو المغرَمين بظاهر الإسلام دون حقيقته والذين يستحقون لقب «الصَّديق الأحمق»، ببيان الجانب الآخر من ذلك الطريق السوي.. وإمدادُ علماء الإسلام الأوفياء الصادقين العقلاء وهم المرشدون الحقيقيون الأُصَلاء الذين يسعون في إظهار هذا الصراط القويم، يحدوهم الأمل الكامل في النصر، ويمهّدون السبيل إلى مستقبل عالم الإسلام الزاهر.

زبدة الكلام:

إن ما أقصده بهذا الكتاب: صقلُ ذلك السيف الألماسي وشحذُه.

فإن سألت: لِمَ هذا الاضطراب والقلق، وما جدوى سرد البراهين على ما صار كالعلوم المتعارَفة؟ إذ المسائل التي تمخضت عن تلاحق الأفكار وكشفيات التجارب صارت واضحة وضوح البديهة. فإيراد البراهين عليها من قبيل الإعلام بالمعلوم؟!

أقول جوابًا: إن معاصريَّ -مع الأسف- وإن كانوا أبناء القرن الثالث عشر الهجري إلّا أنهم تذكارُ القرون الوسطى من حيث الفكر والرقي. وكأنهم فهرسٌ ونموذج وأخلاط ممتزجة لعصور خلت -من القرن الثالث إلى الثالث عشر الهجري- حتى غدا كثيرٌ من بديهيات هذا الزمان مبهَمة لديهم.


المقدمة

هذا الكتاب مبنيٌّ على ثلاث مقالات وثلاثة كتب:

المقالة الأولى: تبحث في عنصر الحقيقة أو في صقل الإسلام بمقدمات ومسائل.

المقالة الثانية: تكشف عن عنصر البلاغة.

المقالة الثالثة: تبيّن عنصر العقيدة والأجوبة اليابانية.

أما الكتب: فهي تحقيق علمي ونوع تفسير لما أشار إليه القرآن من علم السماء وعلم الأرض وعلم البشر.


[1] وفي الترجمة العربية:  هل يقطع الثعلب المحتال سلسلةً        قِيدَتْ بها أُسُدُ الدنيا بأسرهمُ.

كلمة للقارئ الكريم

كلمة للقارئ الكريم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

لقد سمى الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ مؤلَّفه هذا بـ«رجتة العلماء» أي الوصفة الطبية للعلماء، وذلك لِما كان يشعر به ويلمسه من حاجة العلماء ولاسيما علماء عصره، إلى تناول مثل هذه العلاجات التي يضمها الكتاب.

فكتب مؤلَّفَه هـذا باللغة التركية ثم ترجمه إلى لغة العلم السائدة لـدى أهـل العلم وهي اللغة العربية. إلّا أنه أجمل فيه ما فصّل هناك. حتى غدا النص العربي غامضًا مغلقًا -إلّا للعلماء- مما اضطر إلى كتابة «تنبيه» في مستهل الترجمة العربية في طبعتها الأولى وكما يأتي:

«وجبَ عليك أن لا تتعجل في مطالعتها وأن تسأل أهلَ الذكر إن كنتَ لا تعلم، وعليك برفيقتها التركية فإنها شرحَت مُعَمَّياتها وقرّبتها إلى أفواه أفهام العوام».

وفي ختام التنبيه كرّر قوله:

«واسترفِق رفيقةً تركية القدِّ تفصّل ما أجمل… فعليك بالصحبة معها».

ونرى أيضًا أن الأستاذ النُّورْسِيّ عندما ضُمَّ إلى عضوية دار الحكمة الإسلامية التابعة للمشيخة الإسلامية للدولة العثمانية، سجَّل هذا الكتاب ضمن كتبه التركية في سجل الدار المذكورة.

بمعنى أن الكتاب قد أُلّف أصلًا باللغة التركية ثم لخّصه المؤلف نفسه في عبارات مجملة جدًا باللغة العربية.

أخلُص من هذا أن السبب الذي دعاني إلى ترجمة الكتاب وتحقيقه وعدم الاكتفاء بترجمة المؤلّف العربية هو الغموض الشديد في النص العربي إلى حد استعصاء الفهم -إلّا للعلماء- بينما المؤلَّف التركي يستفيد منه العلماء وكثير من المهتمين والمثقفين.

والسـبب الآخر والأهم الـذي دعـانـي إلى القيـام بالترجمة والتحقيـق هـو أنني لما أكرمني المولى القدير بتحقيق آثار الأسـتاذ النُّورْسِيّ العربية: «المثنوي العربي النوري» ثم «إشارات الإعجاز» و«الخطبة الشامية» رأيت أنه من الواجب عليّ تقديم هذا الكتاب للقارئ الكريم بأسلوب مفهوم حيث المؤلف عدّه مقدمةً لتفسيره الجليل «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز». فـلله الحمد والمنة على توفيقه الكريم وله الفضل أولًا وآخرًا.

والكتاب بحد ذاته يحوز أهمية بالغة للمهتمين بالفكر الإسلامي والعلوم الإسلامية، إذ يُبرز ما كان يدور في أذهان العلماء وكتب التفاسير المتداولة في ذلك العصر -أواخر الدولـة العثمانية- فضلًا عن أن الموازين والقواعد التي وضعها المؤلِّف لتقويم المفاهيم الغريبة والدخيلة في كتب متداولة لدى العلماء، ما تزال تحفظ تلك الموازينُ بجدَّتها وحيويتها وحقيقتها… ولعل هذا هو السـبب الذي أدّى إلى تسـمية الكتاب بـ«محاكمات عقلية» أو «صيقل الإسلام» أملًا من المؤلف أن يشحّذ به سيفَ الإسلام ويُجَلّيه من أدران وصدأ.

كان نهجي في الترجمة والتحقيق الآتي:

أولًا: ترجمة النص التركي المطبوع في دار سوزلر للنشر بإسطنبول سنة 1977م مع الاعتماد على نسخة من الطبعة الأولى (مطبوعة سنة 1327-1911م بمطبعة «أبو الضياء» بإسطنبول) وعلى هذه النسخة تصحيحات المؤلف نفسه. تفضّل بها عليّ الإخوة العاملون في دار سوزلر، جزاهم الله خيرًا.

ثانيًا: مقابلة الترجمة بعد الانتهاء منها بترجمة المؤلف الموجزة بطبعتها الأولى المنشورة تحت اسم «رجتة العلماء». وبطبعتها الثانية المنشورة ضمن كتاب «الصيقل الإسلامي» بمطبعة النور بأنقرة سنة 1958م.

ثالثًا: اقتباس بعض عبارات المؤلف العربية من ترجمته.

رابعًا: ضبط الآيات الكريمة وبيان مواضعها من السور.

خامسًا: تخريج الأحاديث الشريفة بمعاونة إخوة لهم باع طويل في علم الحديث.

سادسًا: كتابة هوامش لشرح بعض الاصطلاحات العلمية الواردة في الكتاب.

سابعًا: وضع تراجم مختصرة لعدد من الأعلام التي وردت في الكتاب ولمؤلفاتهم ممن لم ينالوا حظًا من الشهرة عند القارئ، مع إغفال المشاهير المعروفين عندهم.

وبعد أن تم العمل بفضل الله ودِدت أن لو قام أحدُ العلماء الأفاضل بمراجعة ما قمتُ به من تحقيق وترجمة. علّه يرشدني إلى ما فيه الأصوب. فشاء الله أن يكون ذلك العالم هو الشيخ الجليل والعالم المبجّل والأستاذ القدير الدكتور عبد الملك السعدي، فما إن عرضت عليه الفكرة حتى رحّب بها وقبِلها بتواضع جم، فقرأ الكتاب قراءةَ عالم مدقق ونبّهني على نقاط قد غفلت عنها، ووَضَع هوامش ذيّلتُها باسمه، ثم كلّل جهدي بمقدمة قيّمة نافعة بإذن الله فجزاه الله عنا خير جزاء.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

 وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إحسان قاسم الصالحي

تقديم

محاكمات عقلية

في التفسير والبلاغة والعقيدة

أو

صيقل الإسلام «رجتة العلماء»

وصفةٌ طبية: لعصر مريض، وعنصر عليل، وعضو سقيم

تأليف

ترجمة وتحقيق

إحسان قاسم الصالحي


تقديم

العالم الفاضل الأستاذ الدكتور

عبد الملك السعدي

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرشدين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهديين.

وبعد، فالإمام النُّورْسِيّ أشهرُ من أن يُعرَّف به؛ إذ قد تجسّد في ذاته جميعُ ما أُطلق عليه من ألفاظ، فهو سعيدٌ اسمًا ومعنى، وبديعُ زمانه جهادًا وتضحية، ونورٌ شعَّ في ظروف تركية إسلاميًا هي بأمس الحاجة إلى أنوار عقليته الجبارة وتوجيهاته السديدة.

فقد عرفتُ النُّورْسِيّ من خلال ثروته العلمية عالمًا نابغًا، ومرشدًا مبصّرًا، وواعظًا مؤثرًا، ومجاهدًا مثابرًا، وصابرًا على المكاره جليدًا، ومؤلفًا بارعًا.

كيف لا.. وهو الذي أفنى حياتَه بين سجن وإبعاد، وأيامَه بين ضغط واضطهاد.

وهو الذي زيَّن خزانات العلم بمؤلفاته ورسائله؟!

لقد ظهر النُّورْسِيّ في ظروف وكأنها تنتظره لإصلاح ما فسدَ بها وإعلاءِ ما انخفض فيها.

وما هو وجهادهُ إلّا لمحةٌ من لمحاتِ ﴿اِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَاِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحِجر:9) ونبأٌ من أنباء خلود الرسالة المحمدية في أرض الله.

فقد ظهر في عصرٍ رفع الكفرُ رأسه فيه، واشرأبت أعناقُ التضليل لتطل بنظراتها المسمومة على دولة لها عراقتُها في الحضارة الإسلامية ولها دَورها الفعال في تدعيم ركائز العقيدة في بلاد الأناضول.

فقد وقف وقفةَ الشجاع الصامد، والهِزَبر الجَسور أمام أئمة العلمانية ودعاتها فأَلقم بحججه وكتابته ومناظراته حَجرًا للأفواه النتنة المتمشدقة بالطعن بالإسلام ولغةِ القرآن واتهمتها بالرجعية والتخلف.

فالإمام سنّ في تركيا المسلمة سنةً حسنة له أجرُها وأجرُ مَن عمِل بها إلى يوم القيامة؛ إذ قابل الشرَّ بالخير، وعالج الفكر بالفكر، فدعوتُه كانت وما زالت بعدَه تغرس العقيدةَ في نفس الشعب التركي وتحفّز همّته وتوقد جذوةَ الإيمان في قلبه كلما أراد أهلُ الشر إطفاءها.

ولم تكن حركةُ هذا الإمام مقصورةً على الشعب التركي المسلم فحسب بل انتشرت إلى العالم وذاع صيتُها وخرجت إلى أرجاء العالم تحمل بين يديها الأملَ والبشرى للمؤمنين وأيقنوا أن شعبًا تخلد فيه حركة كحركة النُّورْسِيّ حريّ به أن يحقق أهدافَه في مواصلة الدرب الذي وضعهم الإمام عليه.

فقد حصل لهذا الرائد الكبير والمصلح الملهَم أتباعٌ يحملون ذلك المشعل الذي أوقده بأيديهم داخل تركيا وخارجها ليواصلوا المسيرة حتى يرفعوا راية الإسلام على ربوع بلاد الفاتح.

وقد قيّض الله لنشر مؤلفاته وترجمتها رجالًا مخلصين لربهم ولدينهم ولعقيدتهم، ومن بين هؤلاء الرجال الأخ الماجد الأستاذ إحسان قاسم الصالحي؛ إذ قد ترجم له العديدَ من مؤلفاته إلى العربية وملأ بها أسواق العراق وخزانات العلماء، فجزاه الله خيرًا عن المؤلف وعن المسلمين وبارك له في جهوده.

والأستاذ الصالحي هو الذي عرض عليّ أن أُشرّفَ ناظري في كتابٍ من كتب هذا الداعية الكبير، وأُكحّل أجفاني بما انطوى عليه من حِكمٍ جمّة ومعرفة واسعة وعلم غزير. ذلك الكتاب هو «محاكمات عقلية».

وبعد أن تصفحتُ صفحاته وقلبت طرف الطَرْف في سطوره وجنباته واطَّلعت على كنوز ذخائره وخزانته، وجدتُه كتابًا قد احتوى على معلومات لها وزنُها لدى أهل العلم والمعرفة ولها قيمتُها عند أهل الفضل والعرفان. إلّا أنى وجدت الشيخ رحمه الله قد تأثر في أسلوبه ببلاغةِ بلغاءٍ كالسكاكي والتفتازاني والجرجاني وغيرهم حيث كانت ظاهرة الغموض تضفو على أسلوبه. وعلامات التعقيد تظهر على عباراته، مع أنه قد اتجه اتجاهًا روحيًا دقيقًا متحديًا كثيرًا من أعداء العقيدة، مقرنًا تحدياته بالتوجيه والنصح والتحذير مما قد ينأى بعيدًا بالقارئ عن عنوان الموضوع.

لذا فإن حُكمي على الكتاب بأنه كتابٌ علمي رصين وليس كتابًا ثقافيًا يسهل تناول ما فيه لكل مَن له خلفية إسلامية، بل يستفيد منه أهلُ التخصص بهذا الشأن وليس للعامة فيه نصيب.

ومع هذا فإن المكتبة الإسلامية العربية بحاجة إلى إخراجه من حيّز العدم إلى حيّز الوجود ليتبوأ مكانته مع أخواته مصنفات المؤلف نفسها والمصنفات الأخرى التي أملتها قرائحُ فطاحل هذه الأمة وأفذاذُها من رجال الفكر والتأليف.

فللأخوة القائمين بنشر تراث هذا الرجل العظيم مني كل إجلال وتقدير مع دعائي لهم بالتوفيق من العلي القدير.

ولهذا الحَبر من أبناء أمة محمد ﷺ الرحمة والرضوان من الرحمن الرحيم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

د. عبد الملك عبد الرحمن السعدي

العراق – الرمادي – الجامع الكبير

تحريرًا في 26/7/1410هـ

23/3/1990م

هذه المجموعة

هذه المجموعة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.

بعد أن أكرمَنا المولى الكريم بعميم فضله وجميل توفيقه على إكمال ترجمة «كليات رسائل النور» ونشرها في سبعة مجلدات، آثرتُ أن أعرج على مؤلفات الأستاذ النُّورْسِيّ القديمة التي ألّفها في عهد «سعيد القديم» أي قبل شروعه بتأليف رسائل النور سنة 1927. وذلك لأن لهذه الرسائل «القديمة» أهميتَها التاريخية من جهة، وقيمتَها الفكرية من جهة أخرى، مثلما نبّه إليها الأستاذ المؤلِّفُ نفسُه في مواضع كثيرة من مكاتيبه التي أرسلها إلى طلاب النور. حتى إنه أدمج قسمًا من هذه الرسائل ضمن موضوعاتِ وفصول «تاريخ حياته»، بل أشار إلى طلابه القيام بنشر قسم منها على صورة كتيبات مستقلة وذلك بعد إعادة النظر فيها وقراءتها بإنعام في ضوء موازينِ رسائل النور وقواعدها وأُسسها، فأجرى تصحيحاتٍ دقيقة في الرسائل التي تمسّ الحياة الاجتماعية والسياسية، مستخرِجًا منها فقراتٍ ومُقِرًا أخرى، ومضيفًا إليها جُمَلًا وحاذفًا أخرى، علاوة على وضع هوامش في كثير من المواضع لتوضيح ما غمُض واستِجلاء ما استترَ من المعاني. بمعنى أنه نقّح هذه الرسائل تنقيحًا دقيقًا وشذَّبها تشذيبًا كاملًا حتى جعلها جاهزة للنشر يستفيد منها العلماء وعامة الناس أيضًا.

ونحن بدورنا جعلنا تلك النسخ المصحّحة المنقّحة هي المعوَّل عليها في أثناء ترجمة التركيةِ منها إلى العربية، أو في تحقيق العربية منها.

فللّه الحمد والمنة أولًا وآخرًا.

وتضم هذه المجموعة الرسائل الآتية:

1- محاكمات عقلية في التفسير والبلاغة والعقيدة:

وهي المسماة بـ«صيقل الإسلام» أو «رجتة العلماء».

2- قزل إيجاز:

وهي حاشية الأستاذ النُّورْسِيّ على «السلم المُنَورَق» المنظوم لشيخ الإسلام عبد الرحمن الأخضري في علم المنطق،مع شرح الملا عبد المجيد.

3 – تعليقات على برهان الكلنبوي:

وهي رسالة في علم المنطق أيضًا عبارة عن تعليقاتِ وتقريرات الأستاذ النُّورْسِيّ على كتاب «البرهان» للعالم المحقق إسماعيل بن مصطفى الكلنبوي.

وهاتان الرسالتان -في علم المنطق- ألّفَهما الأستاذ النُّورْسِيّ باللغة العربية. ولم أُجرِ فيهما غيرَ التنسيق والتنظيم على أمل أن يهيئ المولى القدير مَن يتناولهما بالشرح والتوضيح ليعمّ النفع. والرسائل الثلاث رسائل علمية تخاطب العلماء وربما الخواص منهم.

أما بقية الرسائل فالطابعُ الغالب عليها أنها رسائل تسلّط الأضواء على الأوضاع الاجتماعية والسياسية في فترةِ ما قبل الحرب العالمية الأولى، أي إنها أُلّفت والدولة العثمانية تعاني ما تعانى في أيامها الأخيرة، وقد دبّت فيها أمراضٌ شتى وعللٌ متنوعة، لذا فهي تُداوي تلك الأمراض وتقدم الحلول الوافية والعلاجات الشافية لها، وفي الوقت نفسه تضمد الجروح الغائرة التي أُصيبت بها الأمة الإسلامية جمعاء وتضع البلسم الشافي عليها بأسلم وسيلة.

بمعنى أن هذه الرسائل ليست رسائل قديمة قد عفا عليها الزمن، بل تنطوي على دروس اجتماعية وموازين سياسية تنبض بالجدة وتتدفق طراوةً ونداوةً حيث إنها حقائق ثابتة.

والرسائل هي:

4- السانحات.

5- المناظرات.

6- المحكمة العسكرية العرفية: وهي دفاع الأستاذ النُّورْسِيّ أمام المحكمة العسكرية العرفية في عهد الاتحاديين، والمسماة بـ«شهادة مَدْرَسَتَيْ المصيبة» إذ عندما طالَب الأستاذ إصلاحَ التعليم وتأسيسَ جامعةٍ في شرقي الأناضول باسم مدرسة الزهراء أُلقي في مستشفى المجاذيب، وبعده اقتيد إلى المحكمة العسكرية بتهمة مطالبته بعودة الشريعة. حيث قال له رئيس المحكمة خورشيد باشا وهو يشير إلى الجثث المعلقة على أعواد المشانق:

«وأنت أيضًا تطالب بالشريعة!»

وهكذا يَعدّ الأستاذ النُّورْسِيّ مستشفى المجاذيب مدرسةَ مصيبةٍ أُولى والسجنَ مدرسةَ مصيبةٍ ثانية.

7- الخطبة الشامية.

8- الخطوات الست.

وقد قدّمتُ لعملي في الترجمة والتحقيق مقدمة في مستهل كل رسالة من الرسائل الثمان لهذه المجموعة مع بيان أهمية الرسالة وسبب تأليفها.

ثم إن هذه المجموعة لا تضم مؤلفاتِ سعيد القديم جميعَها، بل هناك رسائل أخرى نُشرتْ وقت تأليفها، إلّا أن المؤلف لم ينشرها في عهد سعيد الجديد، أو لم يرَ داعيًا إلى نشرها، ربما لاندراج كثيرٍ من مفاهيمها ضمن رسائل أخرى وهي: «طلوعات، إشارات، نطق، رموز…» علمًا أن قسمًا آخر من مؤلفات سعيد القديم قد نُشر مستقلًا مثل: «إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» و«المثنوي العربي النوري» وكذا «اللوامع» التي نشرت ملحقةً بمجموعة «الكلمات».

وقد ارتأينا أن نستعيرَ اسم إحدى رسائلِ هذه المجموعة وهو «صيقل الإسلام» عنوانًا لكامل هذه المجموعة.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حُسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إحسان قاسم الصالحي