ذيل المكتوب السابع والعشرين

ذيل

المكتوب السابع والعشرين

[لذة العجز والفقر]

فقرة للسيد خلوصى

إن كل فرد مؤمن يعرف ببصيرته ما هو جميل حقا، كلٌّ حسب درجة فهمه وذوقه، إلّا أن اللذة الكامنة في العجز والفقر، وفي السمو الذي تنطوي عليه الشفقة والتفكر، لا يُقاس بشيء إطلاقا.

إنني أتضرع إلى الرب اللطيف الكريم أن يريَنا هذه النتيجة السامية، وهي أن ييسّر لكثير من البصائر رؤيةَ القِطع الألماسية التي تستخرجونها من خزينة القرآن الخاصة وتَدلّون عليها بتعابيركم الرفيعة، وإفاقةَ الغافلين الثملين، ونجاةَ الحائرين، ويُدخل الفرحَ في قلوب المؤمنين، ويدفع الملحدين والكفار والمشركين إلى دائرة الصواب ونطاق العقل والإنصاف..

أيها الأستاذ المحترم! إنكم مهما بالغتم في تقديم الشكر إلى الله العلي القدير، فهو في موضعه.

فقد وفقكم الله -بالعجز والفقر- إلى الوقوف بباب قصر القرآن العظيم والأخذ من خزينته الخاصة مما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، فتستخرجون ما تشاهدونه -وما يؤذَن لكم منها- من جواهر، الواحدة تلو الأخرى، وتتدبّرون فيها أنتم أولاً ثم تقولون: «أيها الناس، انظروا إلى المولى الكريم الذي فتح لكم أبوابَ مضيفه وخلق العوالم برحمته العميمة وبَرأكم بحكمته وأرسلكم إلى هذا العالم.. ذلكم رب العالمين.. الذي بيّن لكم الحكمة في الخلق والقصد من مجيئكم إلى هنا، والمهمة التي كُلفتم بها، وكل ما تقتضيه العبوديةُ من وظائف وخدمات.. وأمثالها من الأمور التي بيّنها قبل ألف وثلاثمائة سنة بوساطة رسوله الكريم ﷺ، فأنا بدوري أبلّغكم تلك الأوامر الرفيعة وتلك الأحكام المقدسة، بلسانكم أنتم بحيث تَقدرون على فهمه فاستمعوا إليها. فإن كنتم ذوي عقل وصواب وذوي بصائر وقلب، وتتمتعون بالإنسانية، فستفهمون الحقيقة وتردون إلى حظيرة الإيمان».

نعم، يا أستاذي المحترم!

أنتم تبيّنون هذه الأوامر لا غيرَها. ونحن بدورنا قد سمعنا -قدر المستطاع- تلك الأوامر عن كثب والحمد لله، وحثثنا عليها، لمشاهدتها وإشهادها. فلقد أبرزتم لنا تلك القطع الألماسية وأيقظتمونا من الغفلة وأفهمتمونا الحقيقة، وأصبحتم وسيلةَ خير إلى معرفة الصواب. فليرضَ الله عنك إلى الأبد.

ونحن وإن لم نكن قد نجونا بعدُ من شرور النفس الأمارة وأحابيل شياطين الجن والإنس إلّا أننا نجد الذوق واللذة في الانهماك في العمل في حقل هذه الخدمة القرآنية المقدسة. فلئن قصّرنا في العمل ولم نتمكن منه بما يستحق هذه الخدمة الجليلة، فحسبنُا أننا داخلون فيها والحمد لله، وإنما الأعمال بالنيات.

خلوصي

* * *

[حول الكلمة الحادية والعشرين]

 فقرة من رسالة صبري كتبها لدى استنساخه للكلمات: «الأولى، والحادية والعشريـن، والثانية والعشريـن».

إن جميع رسائل النور، بل كلاً منها، وكل موضوع من موضوعاتها، تَحُل ما لا يُحصر من المشكلات. وأعتقد أن هذا الأمر مشهود ومسلَّم به. لذا فلو أراد أحد أن يتقرب من بحر هذه الأنوار فإن الكلمتين «الحادية والعشرين، والثانية والعشرين» كافيتان لإزالة أمراض القلب وتنوير الروح وبث الفرح والسرور فيها، وإن لم تصل يدُه إلى غيرها بعد.

علما أن أُولى الكلمتين (مفتاح التوحيد)، والشق الأول من الكلمة الحادية والعشرين (مرقاة إلى الجنة)، والشق الثاني منها صيدلية لا نظير لها لضماد جراحات الأمراض القلبية، بحيث تخنس بإكسيرِ أدويتها الوساوسُ التي قلّما ينجو منها إنسان. فهو طريق خلاص وسبيل نجاة توصل إلى شاطئ السلامة الأبدّية، بما تفتح للقلب والروح من فيوضات أبدية للقرآن الكريم وأنواره الخالدة غير المتناهية.

أما «الكلمة الثانية والعشرون» فإنها ترسّخ العقيدة وترصّن الإيمان ببراهينها ولمعاتها ودلائلها التي لا نظير لها.

صبري

* * *

[كيف تُقرأ الرسائل؟]

«هذه الفقرة من رسالة السيد رأفت»

إن «كلماتكم» رفيعة وسامية، ترشد السبيل أمام الحائرين، ينبغي قراءتها بدقة وإمعان مع تحليلٍ فكريّ وعمل عقلي، لأن الدلائل العقلية والموازين المنطقية التي تسوقونها لذيذةُ المذاق مع كونها تثير الإعجاب، حتى إن المرء كلما قرأها زاد شوقُه لقراءة أخرى، وشَعَر بلذة معنوية غير متناهية، فيلازمها ملازمة لا يستطيع أن يتركها ويتخلى عنها. ولهذا لا تكفي قراءتها مرة واحدة بل ينبغي قراءتها باستمرار.

رأفت

* * *

المكتوب السابع والعشرون و ذيوله

المكتوب السابع والعشرون

و ذيوله

 

وهو فقرات التقدير والإعجاب المستلة من الرسائل الخاصة للسيد «خلوصي» المخاطبِ الأول «بمكتوبات» النور.

أما القسم الثاني من هذا المكتوب (السابع والعشرين)، أي الذيل، فهو فقرات السيد «صبري» الذي هو حقا «خلوصي الثاني». تلك التي يبين فيها إعجابه وتقديره لرسائل
النور.([1])


[مهمة الداعية لا تنتهي]

الفقرة الأولى للسيد خلوصي

ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بعدد ذرات الكائنات أبدا دائما

أيها الأستاذ المحترم!

لست من الكاملين الذين يجدون اللذة ويشعرون بالنشوة لدى رؤية أنفسهم فقراءَ حقراء أمام الله، ولكني ممن يريد أن يَظهر كما هو، وقد حظي بلطفكم وخطابكم له بـ«طالبي، أخي، ابن أخي». وحقا يا أستاذي إني في وضع وضيع معنويا وفي أشد الحاجة إلى دعائكم.

فلقد تعلقت المشيئةُ الإلهية بإظهار بعض لمعات القرآن المبين -الذي هو نور حقا وحقيقة- إلى أبناء هذا العصر ولاسيما إلى الفرق الضالة، بيانا واضحا وضوحا جليا بحيث يَدخل إلى عيونهم المطموسة. وأصبح الأستاذ المحترم وسيلة للقيام بهذه المهمة الجليلة. وهكذا -بلطف الله وفضله وعنايته سبحانه- دُفع طالبُكم هذا -الذي هو لا شيء وعدم في عدم- إلى القيام بخدمة جزئية لأستاذه الذي يوفي مهمة خدمة القرآن العظيم حق الإيفاء. ولهذا فمهما بالغتُ في الشكر لله فهو قليل جدا إزاء نعَمه العظيمة. فليس لي حقّ الفخر قطعا ولو بمقدار ذرة، بل أطلب العفوَ والصفح عن الأخطاء والذنوب المحتملة في أثناء سيرى للقيام بهذه الخدمة…

لقد أصررتم يا أستاذي المحترم في رسالتيكم الأخيرتين على الإجابة عن سؤال قد تفضلتم به سابقا. فسمعا وطاعةً. ولكن إزاء هذا السؤال العسير ليس لي إلّا الالتجاء إلى العناية الإلهية والتشبثُ بالكرم الإلهي والاستمداد من روحانية الرسول الكريم ﷺ، ذلك لأني في منتهى العجز والفقر. ولأجل أن يكون الجواب مطابقا للحق منطبقا على الحقيقة، أقول: لا شك أن «الكلمات» المباركة هي لمعاتٌ من نور الكتاب المبين. وعلى الرغم من أنها تحتاج إلى إيضاح وشرح في بعض المواضع بسبب أسلوبها الرفيع، فلا نقص ولا قصور فيها بكليتها، ويمكن لكل طبقةٍ من الناس أن تأخذ منها حظَّها. ويكفي لصحة قناعتنا عدمُ قيام أحد بانتقادها لحد الآن، بل إبداءُ كلِّ مشرب ومسلكٍ الرضى عنها وبقاءُ الملحدين إزاءها صما بكما..

وها أنذا أدرج البراهين التي تمكنتُ من التفكر فيها، والتي تدل على عدم انتهاء مهمّتكم:

أولا: إن واجب العلماء هو الصدعُ بالحق وعدمُ السكوت عنه عند انتشار البدع. وقد ورد الزجر عن السكوت عن الحق في الحديث الشريف.

ثانيا: نحن مكلفون باتباع الرسول الكريم ﷺ، فضرورةُ أداءِ هذه المهمة مستمرةٌ مدى الحياة.

ثالثا: إن هذه الخدمة ليست محصورة برأيكم، بل أنتم تُستَخدمون فيها. فأنا على قناعة تامة من أن مهمة أستاذي المحترم إذا ما كمُلت فإنه تعالى يُلهم قلبَه بختام مهمته. مثلما بُلّغ بختام الرسالة مبلِّغُ القرآن فخرُ العالمين، حبيبُ رب العالمين سيدُنا محمد ﷺ بالآية الكريمة ﴿اَلْيَوْمَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ (المائدة:3).

رابعا: إن عدم ورود أي نقد على «الكلمات» والسكوتَ عليها ليس دليلا على أن هذا الوضع سيستمر على هذا المنوال إلى النهاية؛ فإنكم يا أستاذي المحترم مكلّفون أوّلا بالإجابة عن الهجمات المحتملة التي ستأتي عليها وأنتم ما زلتم على قيد الحياة.

خامسا: أظنكم لا تدَعون الإجابات والاستيضاحات جانبا، تلك التي يرجوها مَن ارتبط بـ«الكلمات». فإن لم يكن هناك إلّا هذا السبب، فلا يمكنكم نسيان الدنيا حتى لو أردتم ذلك.

سادسا: إن الذين أحبّوكم لله ويستوضحون منكم أمورا حول كتاباتكم القيّمة وتقريراتكم في مجالسكم العلمية من مسائل متنوعة لم تُدرج كلُّها في «الكلمات». مما تَبين بقطعية تامة أن الحاجة لم تنته بعدُ، والخدمةَ الإيمانية لم تبلغ نهايةَ المطاف.

وأعرض الآن لحضرتكم بضعة أمور:

في الأوقات التي ييسّر الله لي قراءة «الكلمات» النورية على الجماعة تستجيش مشاعري، فأرجو التفضل بالسماح لأعرضها لكم:

أولا: عندما أتناول القلم لأكتب لكم -أيها الأستاذ المحترم- ما يعرض لي، أشعر انبساطا لروحي، حتى إنني أجد أن قلمي يكون ترجمانا لمشاعري في تلك اللحظة دون اختيار مني.

ثانيا: لقد فكرت بالآتي: إذا ما فكر كل واحد بأن ينـزوي في زاوية مظلمة ليأمن خداع النفس الأمارة بالسوء -تلك العدوّة الكبرى- ويأمنَ مكر شياطين الجن والإنس، وانسحب إلى زاوية النسيان أو أراد أن ينسحب إليها، وأهمل ما حلّ بالعالم الإسلامي والإنساني حتى لم يعد ينفع أحدٌ أحدا، فأنا أقوم بتبليغ إخواني في الدين هذه الحقائق النورانية، لعل الله يعاملني بفضله وكرمه بما يوافق جلالَ ألوهيته سبحانه. وأرى من المفيد جدا صرفَ النظر عن نفسي في تلك الأزمنة. فما الحكمة من هذا الأمر؟

ثالثا: إن اسمَي «الرحمن الرحيم» قد دخلا في البسملة، فما السبب؟ هل هما في أعظم مرتبة من مراتب الأسماء الحسنى، أم إن هناك سببا آخر وحكمةً أُخرى؟ هذا السؤال ورد إلى الذهن أثناء كتابتي الرسالة.([2])

أستاذي العزيز المحترم! لسنا وحدنا بحاجة إلى وجودكم، بل العالم الإسلامي كله بحاجة إليكم، لأنكم قد أصبحتم بفضل الله سبحانه وتعالى وسيلة لظهور «الكلمات» السامية التي نبعت وتلمّعت من نور القرآن المبين والتي تقوّي إيمانَ المؤمنين، وتوقظ الغافلين، وتبين الصراط السوي لهداية الضالين، وتبهت الحكماءَ الفلاسفة وتَدَعُهم في حيرة وذهول.

أسأل الله الربّ الرحيم أن يديم صحة أستاذنا العزيز وعافيته ويجعله ذخرا للأمة المحمدية.

آمين بحرمة سيد المرسلين

خلوصي

* * *

[إن الله بالغ أمره]

لقد بدأتُ متوكلا على الله بقراءة رسائل النور -بين المغرب والعشاء- للضيوف القادمين، في غرفة الاستقبال التي خصصها والدي لهم، وذلك في الليلة الأولى من وصولي.

أستاذي الحبيب!

مثلما عرضت لكم سابقا، أنا لا أعتقد أنني سأعيش لشيء إلّا لمعاونة جزئيةٍ جدا في إيفاء المهمة المعنوية لأستاذي المحترم وهي الاضطلاع بالدعوة إلى القرآن الكريم، أي خدمة جزئية في سبيل القرآن الكريم ليس إلّا. فإني أرجو رجاءً خاصا ألّا تَدَعوني محروما من استفاضاتكم من القرآن الكريم واستخراجاتكم منه -في سبيل نشر حقائق الإيمان والإسلام- مادمتم باقين هناك.

وسيبلغني الله سبحانه بدعواتكم المستجابة -إن شاء- إلى ما كنتُ أرغبه وأرجوه من نتائجَ في العمل لرسائل النور، فأكون كالمرحوم عبد الرحمن ممن ينال الإيمان والتوفيق إلى آخر رَمَق من حياته مقتديا بفخر العالمين سيدنا محمد المصطفى ﷺ وراجيا السعادة الخالدة، وأكون خَلَف أستاذي المحترم وفي جواره.

إن سيد الكائنات وأشرف المخلوقات سيدنا محمد ﷺ قد أصبح وسيلة إلى تبليغ القرآن العظيم إلى الناس كافة، فأنتم يا أستاذي تخاطبون الإنسان الغافل في هذا العصر باسم الله تعالى، وبفيوضات ذلك الكتاب المبين، وذلك من خلال رسائل النور، رغم أنها تبدو من تأليفكم.

لذا فإنني أعتقد أن ذلك الحكيم الرحيم الذي يسخّركم في هذا المضمار لا يدَع الأنوار مهملةً تُداس تحت الأقدام. فلا شك أنه سيَبعث من الفانين بل ممن لا يُحسب لهم حساب، بمراتب متفاوتة، مَن يتبنَّونها من الحُفّاظ المبلّغين الناشرين.

خلوصي

* * *

[متطلبات إنقاذ الإيمان]

نعم، إن لي -ولله الحمد- طريقا سويا رفيعا هو الإسلام، ولي منهل عظيم أنهل منه هو مشرَب العجز والفقر إلى الله، وأقتدي بقائدٍ رائد جليل هو سيد المرسلين الرسول الكريم ﷺ، وأسترشد بمرشد عظيم هو القرآن المبين، وأسلك مسلكا قيّما – خدمة الجيش – يبلّغني مرتبة الولاية لله في دقيقة واحدة -كما هو لدى الجندي المرابط في الثغر-؛ فلقد علّمني أستاذي -كما علّم كلَّ ذي عقل- أن الزمان زمانُ إنقاذ الإيمان لا سلوكِ الطريقة الصوفية. فقال: أدِّ حقَّ الصلاة خمسَ أوقات في اليوم، واعمل بالأذكار عقِبها، واتبِع السنةَ الشريفة، واجتنب الكبائر السبع. فاستجبتُ بكل ما أملك من روح وقلب.

قلت: نعم، أيها الأستاذ!. قلتُه بتوفيق من الله سواءً لهذا الدرس أم للدروس التي تلقيتُها من رسائل النور، قلتُه لما أظهرها الأستاذ من حقائق استنبطها من القرآن الكريم.. وصدّقتُها بكل جناني.

فالذي لقنني هذا الدرس -درسَ الحقيقة- خاطبتُه بـ«الأستاذ». تلك الكلمة التي لم أُخاطب بها أحدا في حياتي غيره. أصبتُ ولم أخطأ.

خلوصي

* * *

[لابد من وجدان المخاطب]

لقد أكملتُ بفضل الله كتابة «الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين» هديةَ شهر رمضان المبارك. ولئن وفّقني المولى الكريم فسأكتب الرسائل الأخرى في المدة المقررة التي أمرتم بها.

إن هذه «الكلمات» القيمة الرفيعة النورانية جديرة بأن تُـكتب بأجود خط، بل حتى بالذهب. إلّا أنها تُكتب من قِبَل هذا العاجز المحروم من جودة الخط إلّا بقدر ما يساعد على القراءة، بل له أخطاء. وهذا مما يكون مبعثا لأزيد حمدي وشكري لله تعالى.

وحيث إنني سأكون بعيدا بعدا ماديا عن التفاتاتكم الكريمة وعن التحيات السارّة التي تبعثونها بشتى الوسائل وعن أوامركم التي هي بمثابة تفسير لرسائل النور وهوامش قيمة وذيول لها.. لأجل كل هذا سأكون متألما. ولكني لا أفكر على هذه الصورة، إذ أقول: سأسعى أينما كنت لوجدان المخاطب الذي سيعير السمعَ للدرس الذي تَلقّنه بفضل العناية الإلهية دون النظر إلى عجزي وفقري في سبيل نشر الحقيقة، وسأطرق بابَ كل وسيلة من الوسائل، بفضل الله ثم بفضل دعواتكم.. وهكذا أجد العزاء والسلوان.

ولكني آسف من جانب آخر، هو أن الانشغال بالوظائف الدنيوية تعيق إلى حدٍّ ما انشغالي بـ«بالكلمات» النورية التي أرتاح إليها فطرةً وانجذبتُ لحقائقها.. ولكن لا حيلة لي، فكلما مرّ يوم من الأيام ظهر وجهُ الدنيا الفاسد والفاني بأوضح صورة. وتذهب نفسي حسراتٍ على الأوقات الماضية التي لم تُستغل في سبيل الحياة السرمدية.

ولهذا لا أتألم كثيرا على فراقنا الصوري، ولا سيما بعدما بشّر أستاذي الحبيب في درسه الأخير لي بيقين جازم عن الحياة الباقية اللذيذة التي تفوق لذتُها ألذَّ حالاتِ هذه الحياة الفانية بمراتب لا تعد.

خلوصي

* * *

[ساحل السلامة]

إن المؤلَّف أو الأثر -كأمثاله- منوَّر مليء بالحِكَم، وسيكون إن شاء الله دواءً ناجعا وبلسما شافيا لجرحٍ اجتماعيّ بليغ تعاني منه الأمةُ المحمدية. وكما تفضلتم فـ«الكلمات» المستفاضة من نور القرآن الكريم استفاضة مباشرة، قد عرضتُها على «فلان»، وقرأت عليه عددا من «الكلمات» فصدّق بها، وسأقرؤها عليه كلما سنح لي الوقتُ.

إني عاجز عن الشكر والحمد لله تعالى إزاء النعم التي أنعم بها عليّ جلّ وعلا وهي لا تُعد ولا تحصى؛ إذ بينما كنت ملطخا بالذنوب والمعاصي، أخرجتموني أيها الأستاذ المحترم بإذن الله من الظلمات إلى النور بوساطة تلك «الكلمات» المباركة المنورة.

وبينما كنت أقضي عمري الماضي بالتحرّي عن الحقيقة، ساقني القدرُ الإلهي -وأنا الضعيف العاصي- إلى الطريقة النقشبندية، وذلك قبل خمس سنوات، تلك الطريقة المتوجهة نحو الشيخ «محمد الكفروي» الذي استلمها من «الشاه النقشبند». ولكن بعد ذلك انسدّ عليّ الطريق بعد كسوف عابر. فظل هذا العاجزُ يتخبط في طريق شائك مظلم، وإذا بي أخرج من الظلمات إلى النور ومن الدوامات المغرقة إلى ساحل السلامة، ومن المهالك الخطرة إلى السعادة الدائمة بوساطة أنوار «الكلمات» المؤلَّفة من قِبَلكم. فالحمد لله.. وهذا من فضل ربي.

ولقد تفضلتم بالقول: إن زماننا هذا زمن إنقاذ الإيمان..

نعم، أيها الأستاذ المحترم! إن كلامكم على العين والرأس.

خلوصي

* * *

[أهمية قراءة المعجزات]

إن هذه الرسالة (المكتوب التاسع عشر) تعلن بين دفتيها المعجزاتِ الكبرى للرسول الكريم ﷺ، وإن إرسالها إليّ خصّيصا، بعثَت فيّ حياةً جديدة، فضلا عن أن مطالعتها تمسّ عواطفي ومشاعري كلها وتثيرها حتى أصبحتْ وسيلة لأسكُبَ العبرات ساخنة.

خلوصي

* * *

[مرشدون معنويون]

فقرة من رسالة لأخي عبد المجيد

أقبّل أياديكم وأرجو دعواتكم.. لقد وصلني تأليفُكم الجديد الذي سيكون أستاذا قديرا ومرشدا ساميا لعبد المجيد العاجز في نفسه والذي تجافى عن الدنيا.

وبهذا أبشّر نفسي وأسلّيها؛ فلئن فقدتُ أستاذا يخاطبني لفظا ومشافهة، فقد وجدتُ مرشدِين عديدين معنويين.

إنها حقا مؤلَّفات نورانية ترشد إلى الصراط السوي والسداد. رضي الله عنكم.

عبد المجيد

* * *

[مرتبة الحب في الله]

نعم، هناك جهتان أتسلّى بهما:

الأولى: وجودُنا دوما في صحبة ومسامرة معنوية بوساطة «الكلمات» المباركة التي بين أيدينا.

الثانية: إيماننا أن محبّتنا بفضل الله هي في مرتبة «الحب في الله».

وبناء على هذا فإن أعظم هدية أقدّمها إليكم اليوم وغدا هو تبليغُ ما علّمتمونا من درس إلى المؤمنين، -تبليغا باسمكم وكالةً حسب المستطاع- وحملُ ما وهبنا الله سبحانه من محبة حقيقية إلى الأبد.

وإزاء هذا أدعو الربَّ الرحيم الكريم الذي هو أحسن الخالقين وأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يبلّغنا ما تؤول إليه المحبةُ في الله، والموضّح في «الموقف الثالث من الكلمة الثانية والثلاثين».

إننا عازمون على سلوك الحق والصدق والإخلاص برفقة السيد حقي الذي التقيناه في طريق الإيمان التحقيقي.

خلوصي

* * *


[1] يضم ملحقُ بَارلَا وذيوله، قسماً من المكتوب السابع والعشرين. وقد كمل فيما بعد هذا المكتوبُ بضم الملاحق الثلاثة معاً وهي: ملحق بَارلاَ، ملحق قسطموني، ملحق أميرداغ.

[2] المكتوب الثامن جواب لهذا الاستفسار.

المقدمة

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

المقدمة

هناك خمسة أسباب لإدراج ما كتبه كلٌّ من «خلوصي» «وصبري» في رسائلهما، حول انطباعاتهما عن رسائل النور ضمن أجزائها، وهي الآتية:

الأول: أما خلوصي، فإن غيرته وجدّيته هما أهمُّ سببين لكتابة أواخر «الكلمات» وأغلبِ «المكتوبات». وكذا الشوق الجاد المنبثق من صميم القلب لدى «صبري» هو السبب في كتابة «المكتوب التاسع عشر» الذي يكوّن ثلث «المكتوبات».

السبب الثاني: هذان الأخَوان المحترمان لم يكونا على علم من أن هذه الفقرات ستنُشر. وإن عدم معرفتهما هذا جعلهما بعيدَين عن التكلف والتصنع، فجاءت كتاباتُهما في غاية الإخلاص، تلك التي تعبّر عما تتحسسه مشاعرُهما وأرواحهما من مراتب الذوق تجاه الرسائل، وتُبيّن في الوقت نفسه أشواقَهما نحو الحقائق الإيمانية. لذا ليس إعجابُهما وتقديرهما من قبيل التقاريظ المعروفة، بل هو تعبيرٌ صادق لا مبالغةَ فيه عمّا لمَساه من حقيقة وذاقاه منها فعلا.

السبب الثالث: أنهما من طلابي الحقيقيين، ومن رفقائي الصادقين الجادّين، يحملان ثلاثَ خصال من خصال طلاب النور العاملين في سبيل القرآن، وهي: خاصيةُ كلٍّ من «الطالب» و«الأخ» و«الصديق». بل هما قد فازا بقصَب السَبق في الاتصاف بتلك الصفات الثلاث والتي هي:

الخاصية الأولى: أنهما يتبنيان ما يُنسب إليّ -من رسائل النور- وكأنهما صاحباه بالذات. فإذا ما دُوّنت كلمةٌ من «الكلمات» فإنهما يتذوقانها ذوقا خالصا كأنهما قد كتباها وألّفاها بنفسَيهما، فيشكران الله. فهما كروح حلّ في جسدين، وهما وارثاي الحقيقيان المعنويان.

الخاصية الثانية: أنهما يعتقدان أن أعظمَ غاية من غايات حياتهما وأجلَّها هي خدمةُ القرآن الكريم بوساطة تلك «الكلمات» النورية. ويدركان أن خدمة الإيمان هي أهم نتيجة حقيقية لحياتَيهما الدنيوية وأعظم وظيفة فطرية لهما في الدنيا.

الخاصية الثالثة: أنهما يشعران بجراحاتهما -بمثل ما أشعرُ بها- ويضمدانها بالأدوية التي أخذتُها من صيدلية القرآن الكريم المقدسة والتي جرّبتُها في نفسي أولا. وهما يحملان في الوقت نفسه غيرة عالية سامية للحفاظ على إيمان المؤمنين. لذا يشعران بشفقة عالية لضماد جراحات أهل الإيمان الناشئة من ورود الشبهات والأوهام.

السبب الرابع: أن السيد خلوصي هو كابني المعنوي الوحيد وابنِ أخي «عبد الرحمن» الذي كان مدار سلواني ووارثي الحقيقي وكان من المتوقع أن يملك دهاءً نورانيا. وبعد وفاته حلّ «خلوصي» محلّه، حيث بدأ يوفي الخدمات التي كنتُ أنتظرها من المرحوم حقَّها.

وعندما كنت أكتب «الكلمات» قبل رؤيتي لخلوصي بمدة مديدة شعرت وكأن شخصا معنويا موظفا بوظيفته العسكرية يمثّل مهمة المخاطَب لي، لذا جاء معظم أمثلتي على وفق وظيفته وسارت مسرى مسلكه. بمعنى أن الله سبحانه قد جعل هذا الشخص طالبا ومُعينا لي في خدمة القرآن والإيمان. وأنا بدوري كنت قد اتخذته مخاطبا لي دون قصد أو شعور وكلّمته في «الكلمات» قبل أن أراه وألقيَ عليه الدرس.

أما «صبري»، فإنه يحمل علامة فارقة فطرية خاصة بي،([1]) لم أرَها في غير «صبري» في الأماكن التي تجولتُ فيها. ويشعر بصِلة قربى معي تفوق صلةَ الرحم. وكنت آمل منه خدمة يسيرة حيث قد انتبه مؤخرا، إلّا أنه سبق الجميع. فهذه إشارةٌ إلى أنه «خلوصي الثاني» وأنه مرشح لهذه الخدمة، قد ولّاه العلي القدير لهذه المهمة طالبا وزميلا في خدمة القرآن.

السبب الخامس: أنني لا أقبل المدح والثناء وإبداء الإعجاب فيما يخصنّي، لأنني قد لمستُ ضررا بالغا منه، ولهذا أنفر منه نفورا شديدا بل أتجنّبه خشيةَ أن يكون التقدير والإعجاب مدارَ فخرٍ وغرور. ولكن من حيث إني داع إلى القرآن الكريم وخادِم له، فإن الإعجاب والتقدير لا يعودان لي من هذا الجانب وإنما يعودان إلى «الكلمات» النورية، بل إلى الحقائق الإيمانية والأسرار القرآنية. ولهذا أقبل مثل هذا النوع من التقدير والإعجاب من باب الشكر لله تعالى لا افتخارا.

وهكذا فلأن هذين الشخصين قد أدركا هذه الحقيقة أكثرَ من غيرهما، فإن ما كتباه من تقدير وإعجاب بغير شعور منهما وبدافع من وجدانهما أصبح سببا لإدراجه ضمن رسائل النور.

نسأل الله أن يكثّر من أمثالهما ويوفقهما إلى الخير، ولا يزيغ قلبيهما.. آمين

اللهم وفّقنا وإياهما وأمثالهما من إخواننا لخدمة القرآن والإيمان كما تحب وترضى بحق من أنزلتَ عليه القرآن، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليمات ما اختلف الملوان وما دار القمران.

سعيد النُّورْسِيَ


[1] وهي التحام إبهام الرجل مع التي تليها.

 

ما الملاحق؟

ما الملاحق؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد

لا يخفى على القارئ الكريــم أن «الملاحق» تعني الرســـائل الملحقة بالكتاب بعد الفراغ منه. إلّا أن هذه «الملاحق» واكبت رسائل النور منذ شروع الأستاذ سعيد النورسي بتأليفها في «بَارلَا» سنة 1927، واستمرت معها لحين ارتحال المؤلف إلى رحمة الرحمن
سنة 1960.

فهذه «الملاحق» عبارة عن مجموعة مكاتيب جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه الأوائل. وطابعُها العام توجيهيّ إرشادي يبين أهميةَ رسائل النور ومنهجَها في الدعوة إلى الله في هذا العصر. تكتنفُها مكاتيب ودّية يبيّن فيها الطلابُ مدى استفاضتهم الروحية من رسائل النور واستفادِتهم العقلية منها، وكيف أنها حوّلت مجرى حياتهم وفتحت أمامَهم آفاقا معرفية واسعة. وتتضمن أيضا خواطر وردت على قلب الأستاذ النورسي يَذكرها لطلابه بصدق وإخلاص. فضلا عن توجيهات لتقويم السلوك وكيفيةِ التعامل مع الآخرين والحثّ على الإيمان العميق والعمل المتواصل والترابط الوثيق والاعتصام بالكتاب والسنة، مع التأكيد على العبادة وشحن القلب بالذكر والدعاء والتفكر الإيماني، ودوام الاستغفار والانطراح بين يدي المولى القدير عاجزا فقيرا… وأمثالها من الأمور التي تهم كل داعية إلى الله، بل كل مسلم.

وتتضمن «الملاحق» ثلاثة كتب مستقلة هي: ملحق بَارلَا، ملحق قسطموني، ملحق أميرداغ. والحقيقة أن هذه الملاحق الثلاثة تشكلت تدريجيا، وذلك بضم المكاتيب المتبادلة بعضها ببعض، ثم عرضِها على الأستاذ النورسي، واختياره ما يصلح للنشر من بينها.

هذا، وإن كل ملحق من هذه الملاحق الثلاثة يبين مرحلة معينة من مراحل حياة الأستاذ النورسي، مثلما يبين مرحلة مميزة أيضا من تاريخ دعوة النور منذ انبثاقها في تركيا. علما أن كل مرحلة من المراحل تبدأ بامتحان عسير وتمحيص إيمانيّ دقيق للعاملين في حقل الإيمان ودعوة القرآن من سجنٍ وتشريد ونفي وتعذيب. ثم تعقبها المرحلة الأخرى وهكذا.

فملحق بَارلَا: يضم المكاتيب التي تبدأ منذ نفيِ الأستاذ النورسي إلى ناحية «بَارلَا» سنة 1927 وإقامته الإجبارية هناك إلى أن اقتيد مع طلابه إلى محكمة الجزاء الكبرى في «أسكي شهر» ثم أُودع سجنَها سنة 1935.

أما ملحق قسطموني: فيتضمن المكاتيب التي جرت بين الأستاذ النورسي وطلابه بعد قضائه مدة محكوميته في سجن «أسكي شهر» ونفيه إلى قسطموني سنة 1936 وإقامته الإجبارية هناك لحين سَوقه مع طلابه النور إلى محكمة دنيزلي سنة 1944.

أما ملحق أميرداغ: فعلى جزأين:

الأول: عبارة عن مكاتيب الأستاذ النورسي بعد براءته من محكمة «دنيزلي» سنة 1944 وإقامته الإجبارية في «أميرداغ» بقرار من مجلس الوزراء، وينتهي هذا القسم أواخر سنة 1947 أي حتى الدخول في السجن الثالث الرهيب، سجن «أفيوُن».

والقسم الثاني منه: يبدأ من سنة 1948 أي من بعد الإفراج عن الأستاذ النورسي وطلابه من سجن «أفيوُن» ورجوعه إلى أميرداغ وإقامته الإجبارية فيها لحين وفاته، تتخللها مكاتيبه التي أرسلها إلى طلابه في أثناء اعتقاله وتوقيفه في «أفيوُن» لمدة عشرين شهرا، ثم إقامته لمدة شهرين في «أسكي شهر» وثلاثة أشهر في إسطنبول لمرتين (1952-1953) عند قدومه إليها لأجل الدعوى المُقامة على رسالةِ «مرشد الشباب».

أما الرسائل القيمة التي كتبها الأستاذ النورسي في أثناء سجن «أسكي شهر» و«دنيزلي» و«أفيوُن» فقد نشرت ضمن مجموعة «الشعاعات» على وفق ما ارتآه المؤلف نفسه.

ومن الجدير بالذكر أن «الملاحق» هذه امتازت بطابع دعوي خاص في مخاطبة المحبين والمناصرين للدين بل حتى المعارضين له، وحثّهم جميعا للذود عن الإسلام وعقيدته وتاريخه، لمـا واجه المجتمعُ التركي وقتئذ من ملابسات سياسية قاسية شاذة، وحرمانٍ من أبسط المفاهيم الإسلامية في مرحلة لم يكن هناك عمل إسلامي جاد يحمل على عاتقه مسؤولية النهوض بحمل الأمانة وإرشاد أبناء الأمة.

ولكي يجني القارئ الكريم الثمرات الطيبة لهذه «الملاحق» نضع بين يديه الخطوط العريضة للأوضاع السائدة في تلك الفترة والقسمات البارزة لأوضاع كل مرحلة، لتكتمل لديه صورة المرحلة، وليلمس بنفسه أهمية الأمور التي يتطرق إليها الأستاذ النورسي في «الملاحق».

كانت تركيا في تلك الفترة (1920-1950) تعيش في ظلام قاتم من الظلم والطغيان والعداء السافر للدين؛ فالسلطة الحاكمة آنذاك أرادت قطع الأمة عن عقيدتها، فحظرت تداول القرآن الكريم، وألغت المدارس الدينية، ومنعت أداء فريضة الحج بحجج مختلفة، وحرمت أداء الأذان وإقامة الصلاة وخطبة الجمعة بالوجه الشرعي وبدّلتها إلى التركية، وفرضت الزي الأوروبي والسفور على النساء، وألغت الحروف العربية المستعملة إلى اللاتينية، وفرضت يوم الأحد عطلة رسمية بدلا من يوم الجمعة، ووضعت القوانين الأوروبية موضع التنفيذ بدلا من أحكام الشريعة، وألّفت المحاكم في طول البلاد وعرضها لتطبيق هذه القوانين، فزرعت الإرهاب والذعر في قلوب الناس ونصبت المشانق للعلماء ولكل من تحدثه نفسه بالاعتراض على السلطة الحاكمة. ومن جهة أخرى كانت تُروّج للقومية التركية وامتيازها على غيرها من القوميات، وتُقدّس الزعماء إلى حد التأليه، وتدرّس الفلسفة المادية وإنكار الخالق والآخرة في المدارس مع بث روح الإعجاب بحضارة أوروبا إلى حد التميع.

ومن هنا نرى أن مرحلتي «بَارلَا» و«قسطموني» خاصة (1927-1944) -وكذا أميرداغ- تتميزان بالعمل السري التام والتأسيس الصامت، والتأكيد على الحذر الشديد لإرساء القواعد، وتربية طلاب يتحلون بالإخلاص الكامل والتفاني في العمل والوفاء الخالص والشغف بالدعوة والارتباط المتين بها، وبُعد الهمة في سبيل نشر رسائل النور التي هي تفسير للقرآن الكريم والعمل المتواصل في ترسيخ حقائق الإيمان في النفوس ودفع الشبهات عنها، في الفترة التي تعدّ أقسى الفترات التي مرت على تركيا حيث الحرب الضروس على الإسلام قائمة تشتد كلما مرّ الزمان، فضلا عن مصائب الحرب العالمية الثانية -في مرحلة قسطموني- التي أذاقت الناس الجوع والفقر مع الخوف والهلع رغم بقاء تركيا في الحياد منها.

استمرت هذه السنوات العجاف والأجواء الحالكة حتى هيأ الله سبحانه ثلة من الطلاب الميامين من الرعيل الأول من طلبة النور شمروا عن ساعد الجد في العمل الدؤوب، قلوبهم تفيض بالإيمان، أرواحهم مشبوبة نضرة ملآى بحب الله ورسوله ﷺ، صدورهم مفعمة بالدعوة إلى الإيمان والقرآن، حتى كان أحدهم يسير ليلا إلى مطلع الفجر بين الجبال ليوصل الرسالة إلى من يستنسخها باليد.

وطوال هذه السنين والأستاذ النورسي دائم الاتصال مع طلابه بالمراسلة سرا رغم بُعده عنهم ورغم الترصد الدائم والمراقبة الشديدة. فالتوجيهات مستمرة إلى العمل مع أخذ الحيطة والحذر والجدّ في العمل وملازمة التقوى والزهد والقناعة والغيرة على الإيمان في تواضع جمّ وانقطاع كامل إلى دعوة الإيمان والقرآن.

ومما يلفت النظر أن الأستاذ النورسي ضمّ بين مكاتيبه في «الملاحق» مكاتيبَ وردت إليه من طلابه يفصحون فيها عن جيشان مشاعرهم القلبية وفيضهم الروحي وتزودهم العقلي لدى قراءتهم رسائل النور التي كلما قرؤوها عملت على تزكية نفوسهم وتنقية فكرهم من الشوائب والشبهات ودفَعتهم إلى الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ يحدوهم الشوق إلى العمل في سبيل إعلاء كلمة الله. فمكاتيبهم هذه إنما هي نوع من عرفان للجميل الذي قدمته لهم رسائل النور.

أما في ملحق «أميرداغ» فنجد الأمر قد تغيّر قليلا حيث أتيحت حرية نسبية للمسلمين وذلك بعد سنة 1950. لذا نرى فيه موازين سياسية وقواعد اجتماعية، ولاسيما في القسم الثاني منه، ورسائل موجهة إلى المسؤولين في البلاد بدءا من مدير الأمن للولاية إلى مدير الأمن العام إلى محكمة التمييز والمحاكم الأخرى إلى رئاسة الوزارة فرئيس الجمهورية، بل إلى خارج تركيا بل حتى إلى البابا في الفاتيكان، مع ردود على الصحف المأجورة التي ما فتئت تحرض على المسلمين وتشيع الفتن وتبث الإشاعات.

وحيث إن الأستاذ النورسي نفسه قد اختار من المجموعة الهائلة للمكاتيب المتبادلة بينه وبين طلاب النور ما يصلح للنشر، فقد انتقينا كذلك في أثناء الترجمة من المكاتيب التي اختارها الأستاذ النورسي تلك التي لها فاعليتها في التوجيه والإرشاد وتعبّر عن أساليب الدعوة في مراحلها المختلفة أو العمل مع الموالين والمعارضين بأصنافهم كافة، أو فيها دروس بليغة وحكم رصينة وقواعد سديدة وموازين صائبة يحتاج إليها كل صاحب دعوة. ذلك لأن أمور الدعوة إلى الله تتكرر في كل مكان وزمان بعُسرها ويُسرها وفي منشطها ومكرهها. لذا تعدّ هذه المكاتيب نماذج حيّة وموفّقة في حقل دعوة الإيمان والقرآن لا يمكن الاستغناء عنها.

ولأهمية «الملاحق» هذه وضعها الأستاذ النورسي ضمن رسائل النور الإيمانية وجَعَلها «المكتوب السابع والعشرين» من مجموعة «المكتوبات».

والملاحَظ أن من يقرأ «المباحث الإيمانية» في رسائل النور بتأمل عميق، يصفو ذهنُه وتشرق روحُه ويصقل إيمانُه، فيرقى في مدارجه.. وأنّ من يديم قراءة «الدفاعات» المندرجة في ثنايا الرسائل يتجهّز بأعتدة تُعِينه في الدفاع عن دعوته تجاه شياطين الجن والأنس.. وأنّ من يَدرس «الملاحق» دراسة متقنة تصبح حركاتُه وأطواره ونظراته للأحداث والوقائع منسجمةً مع منظور رسائل النور القرآني، فتتوسع مداركُ عقله ويتنور فهمُه ويفيض قلبُه وتستجيش عواطفه ويَنْفُذ نظره إلى البعيد، فلا تزيغ به الأهواء بإذن الله.

ويجمُل بنا أن ننقل هنا نص رسالة الأستاذ النورسي إلى أحد طلابه الأوائل (خسرو) والتي يبيّن فيها ماهية هذه «الملاحق» ليكون مسك الختام لهذه المقدمة:

«إن هذه الرسالة (أي المكتوب السابع والعشرين) مجلس نوراني عظيم، يتدارس فيه طلاب القرآن الكريم الميامين، ويتداولون فيما بينهم -ضمنا- الأفكارَ الدائرة ووجهاتِ النظر، ويدلي كلٌ بدَلوه فيما تعلّمه من دروس القرآن الكريم.

وهي أيضا منـزل عظيم، ومعرض واسع لعرض الرسائل التي هي صناديقُ مجوهراتِ الخزينة القرآنية المقدسة؛ فكل طالب يعرض ما أخذه من الجواهر النفيسة على الزبائن الكرام. فبارك الله فيكم يا أخي خسرو، فلقد جمّلتم ذلك المنـزل أيّ «تجميل».

وتسهيلا للقارئ الكريم وضعنا بدايةَ كلِّ مكتوب عنوانا صغيرا حصرناه بين قوسين مركّنين وهو غير موجود في النص التركي.

والله نسأل أن يوقفنا إلى حُسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلِّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

إحسان قاسم الصالحي