رسائل متفرقة (7)

 [لا أُحسن الظن بنفسي]

إخوتي الأوفياء الصادقين!

جواب خطر على البال لمناسبة سـؤال مادي ومعنوي

يقال: لِمَ لا تقبل مقاماً ومزايا لشخصك بالذات الذي هو موضع حسن ظن مفرط لطلاب النور وقناعتهم التامة بحق شخصك، علماً أن قبولك ذلك المقام يكون مثار شوقهم للعمل في خدمة الإيمان. بل نجدك تَصرف تلك المزايا عن شخصك إلى رسائل النور وحدها، وتُظهر نفسك خادماً كثير الذنوب؟!

الجواب: حمداً لله وشكراً له لا منتهى لهما، فإن لـرسائل النور مرتكزاتٍ قويةً لا تتزعزع، وحججاً نافذة ساطعة لا تخبو بحيث تستغني عما يُظن في شخصي من مزايا وقابليات. فهي ليست كالمؤلفات والآثار الأخرى التي تبني أهميتها على قابلية مؤلفها، وتَستمد قوتها وحسنها منه، بل هي تستند على حججها القاطعة منذ عشرين سنة، حتى أرغمت أعدائي الماديين والمعنويين على الاستسلام، والأمر واضح أمام الجميع. فلو كانت شخصيتي نقطةَ استنادٍ مهم لها، فإن أعدائي الملحدين ومعارضيَّ الظلمة كان يُمْكنهم أن يُنـزلوا ضربتهم القوية بـرسائل النور، وذلك بالنيل من شخصي المقصّر المذنب. بينما أولئك الأعداء لطيشهم وبلاهتهم يدبرون -ما وسعهم- من الدسائس والوسائل للحط من قيمتي والنيل من شخصيتي، وإذ هم يسعون ليَحُولوا دون توجه الناس نحوي وإقبالِهم عليّ، لا يستطيعون أن يحُولوا دون فتوحات رسائل النور الإيمانية ولا التهوين من شأنها، بل يعجزون عن أن يجعلوا محبين جدداً يتخلون عن خدمة الإيمان، رغم ما كدّروا من صفاء أذهانهم وقلوبهم.

فلأجل هذه الحقيقة، ولأجل طغيان الأنانية وهيمنتها الواسعة في هذا الزمان، أَرْفُض حسن الظن المفرط بشخصي الذي يفوق كثيراً حدّي وطوقي، لأني كإخوتي، لا أحسن الظن بنفسي، فضلاً عن أن المقام الأخروي الذي منحه إخوتي أخاهم هذا الفقير إن كان مقاماً دينياً حقيقياً، وإن كنت أعلم أن نفسي أهلٌ له -حاش لله- فهذا دليل على عدمه، وإذا كنت أرى نفسي فارغاً عن ذلك المقام يلزم إذن عدم قبول هداياهم ومِنَحهم كذلك، وذلك -حسب القاعدة المذكورة في المكتوب الثاني- فضلاً عن أن الذي يرى نفسه صاحب مقام فالأنانية ربما تتداخل في الأمر.

* * *

[مسلك النور يحقق فوائد الطريقة]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أخي العزيز البطل صبري!

نسأل الله أن يهيئ جنودا مضحّين كالسيد «غالب» للجيش الإسلامي. إن هذا الفاضل يخدم الإيمان في الغرب والشرق كخدمةِ «خلوصي». ويحاول جذبَ أهل الإيمان وانتشالهَم من الضلالة عن طريق التصوف. إن هذا الفاضل قد حاول سابقا أن يعمل في مسلك النور قبل اطلاعه على الرسائل ويتمكن أن يعمل أكثر عندما تقوّى علاقته بالرسائل. إلّا أن أساس مسلك النور؛ الحقيقة، السنة النبوية الشريفة، الاهتمام بالفرائض والاجتناب عن الذنوب، وينظر إلى التصوف بدرجة ثانية وثالثة. أما أخونا «غالب» فهو يعمل في صفوف «العلويين» فيفكر أن يلقنهم دروسا في طريقة صوفية هي خلاصة طرق القادرية والشاذلية والرفاعية وضمن السنة النبوية بشرط عدم التعرض للخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، وضمن نطاق محبة آل البيت. وهذا السلوك له فوائد مهمة عدة باسم الحقيقة وفي سبيل إنقاذ الإيمان وصيانته من البدع.

أولاها: لها فائدة جليلة في الحيلولة دون كسب التيارات الأخرى العلويين، وصونِهم من غلو الرافضة والتيار السياسي البكتاشي.

ثانيتها: أن العلويين الذين اتخذوا حبَّ آل البيت مسلكا لهم لا يدخلون ضمن الكفر المطلق مهما أفرطوا، بل حتى لو كانوا روافض. لأنه كلما توغلت محبةُ آل البيت في قلوبهم فإنهم لا يدخلون الكفر المتضمن العداءَ للرسول الكريم ﷺ وآل البيت. بل يتمسكون بالإسلام بشدة بوساطة تلك المحبة. فجلبُ أمثال هؤلاء إلى دائرة السنة النبوية عن طريق الصوفية يُعدّ فائدة جليلة.

ثم إن جلب العلويين إلى دائرة النور فيه مصلحة عظيمة، وذلك للحيلولة دون استغلال تيارات سياسية شجاعتَهم الفطرية، بما يضر وحدة أهل الإيمان. ولما كان أستاذ طلاب رسائل النور هو الإمام علي رضي الله عنه، وحبُّ آل البيت أساس في مسلك النور، فينبغي دخول العلويين الحقيقيين إلى دائرة النور بشوق كامل.

إن هذا الزمان زمانُ إنقاذ الإيمان، ولأن هناك مشكلاتٍ في مسلك الطريقة الصوفية بالسير والسلوك وفي زمن البدع هذا، لذا تسلك دائرة النور مسلكَ الحقيقة محقِّقة فوائدَ الطريقة الصوفية.

اكتبوا هذا إلى أخينا ذاك مع سلامي ومع تهنئتي له بشهر رمضان المبارك وليدعُ لنا أيضا.

* * *

[قد أغلقتُ منافذ النفس]

إخوتي الأوفياء الصادقين!

جاءني عدد من الأطباء من أركان طلاب النور، حينما اشتدت وطأة المرض عليّ، إلّا أنني لم أفاتح أولئك الصادقين المخلصين حول مرضي الشديد، ولم أتناول علاجاتهم، بل لم أشاورهم أصلاً في شؤون الأمراض التي ألمّت بي رغم أن الآلام كانت تعصرني وأنا في أمسّ الحاجة إليهم. فلما رأوني لا أدير الحديث حول المرض قطعاً، اعتراهم قلق واضطراب. لذا اضطررت إلى بيان حقيقة ذات حكمة. أرسلها إليكم علّها تفيدكم أيضاً.

قلت لهم: إن أعدائي المتسترين، ونفسي الأمارة بالسوء، ينقِّبان معاً -بإيحاء من الشيطان- عن طبعٍ ضعيف عندي وعِرق واهٍ في خلقي، ليستحوذوا عليه، ويُخَلُّوا بسببه بخدمتي الإيمانية المخلصة، ويعرقلوا نشر الأنوار.

حقاً! إن أضعف جانب عند الإنسان، وأخطر مانع للعمل، إنما هو المرض، لأنه إذا اهتم المريض بمرضه كثيراً اشتدت أحاسيس الجسد عليه وسيطرت حتى يجد المريض نفسه مضطراً.. فتُسكت تلك الأحاسيس الروحَ والقلب عندئدٍ وتجعل الطبيب كأنه حاكم مستبد، تلجئه إلى إطاعة توصياته وعلاجاته. وهذا هو الذي يخلّ بخدمة الإيمان المتسمة بالتضحية والفداء والإخلاص التام.

ولقد حاول أعدائي المتسترون استغلال هذا الجانب الضعيف عندي وما زالوا كذلك يحاولون، كما حاولوا استغلال طبع الخوف والطمع والشهرة إلّا أنهم لم ينالوا شيئاً من هذه النواحي، فأدركوا أننا لا نعبأ بشيء من أحكامهم حتى بإعداماتهم.

ثم إن هناك خُلقاً ضعيفاً وعرقاً واهياً لدى الإنسان، وهما الاهتمام بهموم العيش، والطمعُ، فقد بحثوا عنهما كثيراً للاستفادة منهما، ولكن لم يجنوا شيئاً بفضل الله من ذلك الجانب الضعيف، حتى خلصوا إلى أن متاع الدنيا الذي يضحون في سبيله بمقدساتهم، تافهٌ لا يساوي شيئاً عندنا. وقد تحقق ذلك عندهم بحوادث كثيرة، حتى إنه خلال هذه السنين العشر الماضية استفسروا أكثر من مائة مرة استفساراً رسمياً من الإدارات المحلية: بِمَ يعيش؟

ثم إن طلب الشهرة والتطلعَ إلى المراتب عرق ضعيف في الإنسان وجانب واهٍ فيه، فقد أمرت -السلطات- أن يُستَغل ذلك العرق الضعيف عندي، فقاموا بالإهانات والتحقير والتعذيب المؤلم الجارح للشعور. ولكنهم -بفضل الله- لم يوفقوا إلى شيء، وأدركوا إدراكاً قاطعاً أن ما يتطلعون إليه -لحد العبادة- من الشهرة الدنيوية نعتبرها رياءً وإعجاباً بالنفس مضرّاً بالإنسان. وأن ما يُولُون من اهتمام بالغ نحو حب الجاه والشهرة الدنيوية لا يساويان عندنا شروى نقير، بل نعدّهم بهذه الجهة بلهاء مجانين.

ثم إن ما يعدّ فينا -من حيث خدمتنا- جانباً ضعيفاً وعرقاً لا يقاوَم، مع أنه -من حيث الحقيقة- جانب مقبول لدى الناس كلهم، بل يتلهفون إلى إدراكه والظفر به، هذا الجانب هو كون الشخص يحرز مقاماً معنوياً ويعرج في مراتب الولاية، وينال تلك النعمة لنفسه بالذات. فهذا الجانب رغم أنه لا ضرر فيه البتة، وليس له غير النفع، إلّا أنه في زمان قد استولت فيه الأنانية وطغت فيه الأثرة واستهدفت المنافع الشخصية حتى انحصر شعور الإنسان في إنقاذ نفسه.. أقول: إن القيام بخدمة الإيمان في هذا الزمان -تلك الخدمة التي تستند إلى سر الإخلاص وتأبى أن تستغل لأي شيء كان- تقتضي عدم البحث عن مقامات معنوية شخصية، بل يجب ألّا تومئ حتى حركاتُ المرء إلى طلبها والرغبة فيها، بل يلزم عدم التفكير فيها أصلاً. وذلك لئلا يفسد سر الإخلاص الحقيقي.

ومن هنا أدرك الذين يسعون لاستغلال هذا الجانب الضعيف لديّ بأني لا أتحرى خارج خدمة النور ما يتحراه كل إنسان من كشف وكرامات وخوارق ومزايا أخرى روحية فرجعوا خائبين من هذا الجانب.

تحياتنا إلى إخواننا فرداً فرداً.. ونسأله تعالى برحمته الواسعة أن يجعل ليلة القدر المقبلة بمثابة ثمانين سنة من العبادة لكل طالب من طلاب النور ونستشفع بحقيقة تلك الليلة في دعواتنا هذه.

* * *

[حول النظر الحرام]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد حان وقت تبيان حادثة عجيبة لحياتي، ومؤلمة ولطيفة، وفى الوقت نفسه نبيّن ما يبثه الأعداء من افتراء شنيع لا يمكن أن يُقنع الشيطانُ نفسُه أحدا قط، مما يتوضح كيف أن الأعداء لم يبق لديهم أي سلاح كان تجاه النور.

إنه من المعلوم لدى المطلعين على تاريخ حياتي أنني مكثت سنتين في مضيف الوالي المرحوم «عمر باشا» في بتليس بناء على إصراره الشديد ولفرط احترامه للعلم والعلماء.. كان له من البنات ست؛ ثلاث منهن صغيرات وثلاث بالغات كبيرات.. ومع أني كنت أعيش معهم في سكن واحد طوال سنتين إلّا أنني لم أكن أميّز بين الثلاث الكبيرات؛ إذ لم أكن أسدد النظر إليهن كي أعرفهن وأميّز بينهن. حتى نـزل أحد العلماء يوماً ضيفاً عليّ، فعرفهن في ظرف يومين فقط وميّز بينهن، فأخذت الحيرة الذين من حولي، لعدم معرفتي إياهن. وبدؤوا بالاستفسار: «لماذا لا تنظر إليهن؟». فكنت أجيبهم: «صونُ عزة العلم يمنعني من النظر الحرام».

وفي أحد المهرجانات المقامة في إسطنبول، قبل أربعين سنة، كان الازدحام على أشده… اصطفت ألوفٌ من نساء إسطنبول ومن الروم والأرمن الكاسيات العاريات على طرفَي الخليج (الذي يقسم جانب إسطنبول إلى قسمين).

ركبت مع السيد طه والسيد إلياس (وهما عضوا المجلس النيابي) في قارب لينقلنا إلى نهاية الخليج حيث الاحتفالات تقام هناك.

كان القارب يمر من أمام أولئك النساء، ولم يكن لي علم أصلا من أن الملّا طه والحاج إلياس قد اتفقا على مراقبتي بالتناوب واختباري في النظر إلى النساء، حتى اعترفا بذلك بعد ساعة كاملة من التجوال في القارب وبين أولئك النساء قائلَين:

لقد حَيَّـرَنا أمرُك هذا، أنك لم ترفع بصرك إليهن قط.

قلت: أنا لا أريد أذواقا موقتة تافهة مشوّبة بالآثام، لأن عاقبتَها آلام وحسرات.

ثم إن الذين يصادقونني يعرفون جيدا أنني تحاشيت كليا عن قبول الهدايا والدخول تحت منّة المتصدقين طوال حياتي كلها، فلأجل صيانة كرامة رسائل النور والخدمة القرآنية وحفاظا على سلامتها تركت الاهتمام بكل ما يمتّ بصِلة إلى أذواق الدنيا المادية والاجتماعية والسياسية، ولم أبال بتهديدات أهل المآرب والأغراض الشخصية بل حتى بإعدامهم. وقد ظهر هذا بجلاء خلال السنوات العشرين التي قضيتها في النفي والتشريد المعذب وفي السجن الرهيب وفي المحاكم.

وفى الوقت الذي أملك هذا الدستور العظيم، والذي دام طوال خمس وسبعين سنة، وإذا بموظف يَشغل منصبا في الحكومة يُشيع فرية شنيعة لا تخطر حتى ببال الشيطان تهوينا من شأن رسائل النور الرفيعة، حيث قال: «تتردد عليه ليلاً الفاحشاتُ مع ما لذّ وطاب من المأكولات»، علما أن بابي مغلوق من الخارج ومن الداخل ليلا، وأن هناك من يسهر للصباح يراقب الباب بأمرِ ذلك الموظف الشقي. يعرف الجيرانُ والأصدقاء جيدا أنني لا أقبل أحدا للزيارة منذ العِشاء حتى الصباح.

فالذي يفتري هذه الفرية لا شك أنه سفيه وأحمق بل لا يورد هذا الاحتمال حتى لو أصبح حمارا بل حتى لو أصبح شيطانا.

فذلك الشخص المفتري قد علم خطأه فتخلى عن مثل هذه المكايد، مغادرا هذا المكان إلى غير رجعة وبئس المصير.

* * *

[وظائف السيد المهدي]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد سألني -باسم الكثيرين- من له شأن وبركة من طلاب النور قائلا:

إن قسما ممن لهم شأن وإخلاص من طلاب النور يظنون بك -وبإصرار- أنك المرشد العظيم من آل البيت الذي يأتي في آخر الزمان. وأنت مهما تبالغ في تجنب هذا، فهم يزيدون إلحاحا وإصرارا في ظنهم. وأنت بدورك تصرّ على رفض فكرهم وتتحرز كثيرا منه. فلا جرم أنهم يملكون حقيقة ولديهم حجة قاطعة. وأنت كذلك تستند إلى حقيقة وحكمة فلا توافقهم في ظنهم. وهذا تضاد نطلب حلَّه على كل حال.

وأنا أقول جوابا لهذا الأخ الفاضل الذي ينطوي سؤالُه على كثير من المسائل:

إن أولئك النوريين الخواص يملكون حجة، إلّا أنها تحتاج إلى تعبير وتأويل من جهتين:

الأولى: لقد أشرت عدة مرات في رسائلي إلى أن السيد المهدي الذي يمثل الشخص المعنوي للجماعة السامية لآل محمد ﷺ له ثلاث وظائف. فنحن نرجو من رحمته تعالى أن تقوم جماعتُه، وطائفةُ السادة الكرام بتلك الوظائف إن لم تقم القيامة فجأة، ولم تضلّ البشرية ضلالا بعيدا.

ووظائفه الثلاث ستكون الآتية:

الوظيفة الأولى: إنقاذ الإيمان، وذلك بالقيام بدحض الفلسفة والفكر المادي قبل كل شيء. لانتشار أفكار الماديين والطبيعيين انتشارَ الطاعون في البشرية واستيلاء العلوم والفلسفة المادية على الأذهان.

إن حفظ أهل الإيمان من شرور الضلالة، يقتضي إجراء تحقيقات علمية واسعة وأبحاث متواصلة دائبة، التي تتطلب التجرد من هموم الدنيا ومشاغلها تجردا كاملا، ولا يسمح الوقت والأحوال لقيام السيد المهدي بمهمته هذه بالذات، لأن أعباء الحُكم في الخلافة الإسلامية لا تدَع وقتا له للانشغال بتلك الأمور. فلابد أن تنهض بتلك المهمة قبله طائفةٌ في جهةٍ ما. وسيجعل السيد المهدي ما دوّنه هؤلاء من أثر منهاجا معدّا له، فيكون قد أدى تلك المهمة على أتمّ وجه.

إن القوةَ التي تستند إليها هذه الوظيفة وجيشَها المعنوي، ما هم إلّا طلاب يتصفون اتصافا تاما بالإخلاص والوفاء والترابط. فمهما كانوا قلّة فهم يعدّون بقوة الجيش وأهميته معنىً.

الوظيفة الثانية: إحياء الشعائر الإسلامية في المجتمع باسم الخلافة المحمدية، وإنقاذ البشرية من المهالك المادية والمعنوية والغضب الإلهي، مستنِدا إلى وحدة العالم الإسلامي.

ونقطةُ استناد هذه الوظيفة والعاملين لها يلزم أن يكون جيوشا تعدادها الملايين.

الوظيفة الثالثة: يسعى السيد المهدي لإقامة الشريعة الإسلامية و تنفيذ أحكام القرآن بعد أن لحق العطبُ بتطبيق كثير من أحكام القرآن، وبعد أن عُطلت القوانين الشرعية بعضَ التعطيل من جراء الانقلابات التي حصلت بمرور الزمن. فيحظى لأداء مهمته الجسيمة هذه بالتأييد المعنوي من جميع المؤمنين، وبمؤازرة الوحدة الإسلامية، وبالتحاق جميع العلماء والأولياء به ولاسيما ملايين الأبطال المضحين من آل البيت الذين يوجدون وبكثرة وقوة في كل عصر من العصور، فيشدّون جميعُهم أزره ويسندون ظهره في سبيل قيامه بهذه الوظيفة العظمى..

ولما كانت حقيقة الأمر هكذا، فإن إنقاذ الإيمان وإرشاد الناس عامة إلى الإيمان إرشادا تحقيقيا بل جعْل إيمان العوام تحقيقيا هو أُولى وظائف السيد المهدى وأرفع مسلك من مسالكه، والذي يقتضي اسم المهدى والمرشد بمعناه وحقيقته، ولأن طلاب النور يرون هذه الوظيفة بتمامها في رسائل النور، تظل الوظيفتان الثانيةُ والثالثة في المرتبة الثانية والثالثة عندهم بالنسبة لهذه الوظيفة الأولى. لذا ينظرون إلى الشخص المعنوي لرسائل النور-وهم محقون- نظرةَ نوعٍ من المهدي، وحيث إنهم يظنون في مؤلِّف رسائل النور -هذا الضعيف- أنه ممثل ذلك الشخص المعنوي الناشئ من تَرابُط طلاب النور، لذا يطلقون أحيانا ذلك الاسم عليه أيضا.

وعلى الرغم من أن هذا التباسٌ وسهو، إلّا أنهم ليسوا مسؤولين عنه، لأن الإفراط في حسن الظن سارٍ منذ القدم ولا يُعترض عليه. وأنا كذلك أنظر إلى حسن الظن المفرط لإخوتي هؤلاء، كأنه دعاء منهم وأُمنية، وأنه ترشّح لكمال عقيدة طلاب النور، فلا أعترض عليهم كثيرا.

يفهم بهذه التحقيقات تأويل ما شاهده بعض الأولياء السالفين في كشفياتهم أن رسائل النور مهديُّ آخر الزمان. بمعنى أن هناك التباساً في نقطتين، فيلزم التأويل:

أولاها: الوظيفتان الأخيرتان (الثانية والثالثة) رغم أنهما ليستا في أهمية الوظيفة الأولى من زاوية الحقيقة، إلّا أن إقامة الحكم الإسلامي في الأرض بجيوش الخلافة المحمدية والوحدة الإسلامية تظهر أوسعَ ألفَ مرة من الوظيفة الأولى عند الناس، ولاسيما لدى العوام منهم ولدى أرباب السياسة وبالذات في أفكار عصرنا هذا. حتى إذا ما أُطلق هذا الاسم «المهدي» على شخص ما، فإن هاتين الوظيفتين هما اللتان تتبادران إلى الذهن دون الأولى، مما يوحي -ذلك الاسم- إلى معنى سياسي. وربما يورد إلى الذهن معنى الإعجاب بالنفس، ولربما يظهر رغبات الشهرة وذيوع الصيت، والتطلع إلى المقامات الرفيعة.

وقد ادّعى قديما -والآن كذلك- كثيرٌ من السذج والمتطلعين إلى المقامات العليا أنهم سيكونون «المهدي».

وعلى الرغم من أن مجددين و مرشدين يهدون الناس إلى سواء السبيل قد أتوا ويأتون، فإن أحدا منهم لا يتخذ عنوان «السيد المهدي» الكبير الذي سيأتي في آخر الزمان، وذلك لأنه لا يؤدي سوى وظيفة واحدة من الوظائف الثلاث في جهة ما.

ثم إن الخبراء في محكمة «دنيزلي» قالوا عن طلاب النور -حسب اعتقاد بعضهم-: إذا ادّعى سعيد النُّورْسِيّ أنه المهدي فإن جميع طلابه يصدّقونه برحابة صدر. وأنا قد قلت لهم في المحكمة: إنني لا أستطيع أن أعدّ نفسي من آل البيت حيث إن الأنساب مختلطة في هذا الزمان بما لا يمكن تمييزها، بينما مهدي آخر الزمان سيكون من آل البيت. رغم أنني بـمثابة ابن معنوي لسيدنا علي كرم الله وجهه وتلقيت درس الحقيقة منه، وإن معنىً من معاني آل محمد ﷺ يشمل طلاب النور الحقيقيين، فأعدّ أنا أيضاً من آل البيت، إلّا أن هذا الزمان هو زمان الشخص المعنوي، وليس في مسلك النور -بأية جهة كانت- الرغبةُ في الأنانية وحبُّ الشخصية، والتطلع إلى المقامات والحصول على الشرف وذيوع الصيت، وكل ذلك منافٍ لسر الإخلاص تماماً.

فأنا أشكر ربي الجليل بما لا نهاية له من الشكر أنه لم يجعلني أُعجب بنفسي، لذا لا أتطلع إلى مثل هذه المقامات الشخصية التي تفوق حدي بدرجات لا تعد ولا تحصى، بل لو أُعطيتُ مقامات رفيعة أخروية فإنني أجد نفسي مضطراً إلى التخلي عنها لئلا أخلّ بالإخلاص الذي في النور. هكذا قلت للخبراء وسكتوا.

* * *

[لِمَ تركت السياسة؟]

أخي العزيز الوفي السيد رأفت!

أولا: لمناسبة حوادث جزئية تمسّنا معا أُخطر على قلبي بشدة لأبيّن حقيقة وهي الآتية:

إن طالبا خاصا للنور من أمثالكم لا شك يعرف أن رسائل النور لا تكون أداة لأي شيء كان، ولا يُبتغَى منها إلاّ مرضاة الله سبحانه وتعالى، وهي تعمل على توضيح حقائق الإيمان بالذات وقبل كل شيء، وذلك لإنقاذ إيمان الضعفاء والحاملين للشكوك والشبهات.

ثانيا: إن أعظم قوة لرسائل النور تجاه معارضيها الكثيرين، هي الإخلاص. فالرسائل مثلما لا تكون أداة لأي شيء كان في الدنيا، لا تهتم أيضا بالتيارات التي تنبني على مشاعر الانحياز والموالاة ولاسيما للتيارات السياسية، وذلك لأن عِرق الانحياز يفسد الإخلاص ويغيّر لون الحقيقة. حتى إن السبب في تَركي السياسة منذ ثلاثين سنة هو أن عالما صالحا قد أثنى بحرارة على منافق يحمل فكرا ينسجم مع فكره السياسي. وفي الوقت نفسه انتقد عالما صالحا يحمل أفكارا تخالف أفكاره انتقادا شديدا حتى وصمه بالفسق.

بمعنى أن عِرق المنافسة إذا اختلط معه التحيز السياسي، نشأت أخطاء عجيبة مثل هذا. ولهذا قلت: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة»، فتركت السياسة من ذلك الوقت.

ونتيجة لتلك الحالة -وأنتم أعلم بها- فإنني لم أقرأ منذ عشرين سنة جريدة واحدة، ولم أهتم بحوادث الحرب طوال عشر سنوات ولم أستمع إليها ولم أتلهف لها، بل لم أحاول أن أعرف عنها شيئا. وطوال اثنتين وعشرين سنة من سني الأسر والعذاب لم أدنُ من الانحياز والموالاة إلى جهة أو الدخول في السياسة، وذلك لئلا يتضرر الإخلاص الذي تحمله رسائل النور. فلم أراجع دوائر الدولة لأجل راحتي، سوى لعرض دفاعاتي أمام المحاكم.

ثالثا: تعلمون أنني لا أقبل الصدقات والمعونات، كما لا أكون وسيلة لأمثالها من المساعدات، لذا أبيع ملابسي الخاصة وحاجياتي الضرورية، لأبتاع بثمنها -من إخوتي- كتبي التي استنسخوها، وذلك لأَحُول دون دخول منافع دنيوية في إخلاص رسائل النور، لئلا يصيبها ضرر. وليعتبر من ذلك الإخوة الآخرون، فلا يجعلوا الرسائل وسيلة لأي شيء كان.

رابعًا: رسائل النور كافية لطلاب النور الحقيقيين؛ فليرضوا بها ويطمئنوا إليها، فلا يتطلعنّ أحد منهم إلى مراتب أعلى وأسمى، أو منافع معنوية ومادية.

* * *

[حول مصطفى كمال]

ذيل العريضة المقدمة إلى رئيس الجمهورية اضطررت إلى كتابتها

إن السبب الأساس لهجوم الحاقدين عليّ هو أنهم يسحقونني متذرعين بمودّتهم وموالاتهم لمصطفى كمال. وأنا أقول لأولئك الحاقدين:

لقد قلت في حق شخص مات وانتهى أمره وانقطعت علاقته بالحكومة: «إنه سيظهر في آخر الزمان شخص يُلحق الأضرار بالقرآن الكريم». قلتُه قبل ثلاثين سنة استنباطا من حديث شريف. ثم أظهر الزمان أن ذلك الرجل هو مصطفى كمال. وأن الحاقدين الذين يوالونه يعذبونني بحجج واهية منذ عشرين سنة، حيث إنني لا أُسند إلى مصطفى كمال -خلافا للحقيقة- شرفَ هذا الجيش ومجدَ انتصاراته الذي تحدّى العالمَ ببطولته وتفانيه في الحق منذ خمسمائة سنة.

نعم -وكما أثبتُّ في المحكمة- إن الشرف والحسنات والغنائم المادية والمعنوية تُسند إلى الجماعة وتوزّع عليهم، بينما تُسند الذنوب والإجراءات الخاطئة إلى الرئيس. ففي ضوء هذه القاعدة الحقيقية، فإن أمجاد الجيش والشرف الذي أحرزه بانتصاراته -ولا سيما الضباط الأشاوس الذين تولوا إدارته- لا تُسند إلى مصطفى كمال، وإنما الأخطاء والذنوب والنقائص هي التي تُسند إليه وحده. فالذين يتهمونني بعدم محبتي له إنما يقومون بإهانةِ كرامةِ الجيش وقدحِ شرفه، لذا أنظر إلى هؤلاء أنهم خونة الأمة؛ وإني على استعداد لإثبات هذه الحقيقة لأولئك العنيدين الموالين له كما أثبتّها أمام المحكمة:

إنني أكنّ حبا لملايينِ أفراد الجيش المقدام وضباطه، جيشِ هذه الأمة الطيبة، وأسعى لصيانة عزته وكرامته وتوقيره ما استطعت إلى ذلك سبيلا. بينما معارضيَّ الحاقدون الذين يواجهونني يهوّنون -ضمنا- من شأن ملايين الأفراد بل يعادونهم في سبيل محبة شخص واحد.

نعم، لقد أدركنا بأمارات عديدة، أن الذي يحرّض الحاقدين عليّ بالهجوم، هو معارضتي لمصطفى كمال، وعدم مودّتي له. أما الأسباب الأخرى فهي حجج واهية ومجرد اختلاق. ولهذا اضطررت إلى أن أقول لأولئك المعارضين:

لقد استدعاني مصطفى كمال إلى أنقرة لأجل تكريمي وجَعْلي واعظا عاما لجميع الولايات الشرقية. فذهبت إلى أنقرة، إلّا أن المواد الثلاث الآتية جعلتني أتخلّى عن محبته ومودته. فعانيت العذاب طوال عشرين سنة في حياة الانزواء ولم أتدخل في أمورهم الدنيوية.

المادة الأولى: لقد أظهر بأفعاله أنه هو الذي أخبر عنه الحديث الشريف الوارد حول ظهور شخص في آخر الزمان يسعى للإضرار بالأعراف الإسلامية. وفسّرتُ هذا الحديث الشريف قبل ست وثلاثين سنة، ثم ظهر معناه مطابقا في هذا الشخص. وله إيضاح في المادة الثالثة في دفاعاتي أمام المحكمة.

المادة الثانية: إن وجود شيء ما وتعميره وحياته، قائم بوجود جميع أركان ذلك الشيء أو شروطه، بينما عدمُه وتخريبه وموته يكون بفساد شرط واحد. هذه قاعدة حقيقية حتى أصبحت مضرب الأمثال في ألسنة الناس: «التخريب أسهل من التعمير».

فبناء على هذه القاعدة الرصينة فإن النقائص الفاضحة والدمار الرهيب الظاهر نابعةٌ من أخطاء ذلك القائد. أما الانتصارات الباهرة فهي صادرة من بطولة الجيش. فبينما ينبغي أن يكون الأمر إسناد السيئات إليه ومنح الحسنات إلى الجيش، إلّا أن الأمر يكون بخلاف هذا كليا، إذ تُسند حسنات الجماعة إلى من في رأس الأمر ويسند شر ذلك الشخص إلى الجماعة. وهذا ظلم شنيع.

المادة الثالثة: إن إسناد حسنات الجماعة وانتصارات الجيش إلى القائد الآمر، وإعطاء ذنوب ذلك الأمر إلى الجماعة بأكملها يعني التهوين من شأن ألوف الحسنات وجَعْلَها حسنة واحدة، وجَعْلَ الخطأ الواحد ألوف الأخطاء. إذ كما أن فوجا من الجيش لو قَتلوا عدوا شرسا فإن كل فرد من أفراد ذلك الفوج يُمنَحون مرتبة المجاهد، ولكن لو أعطيتْ تلك الرتبة إلى آمرهم فقط فإن ألف رتبة من رتب «المجاهد» تنـزل إلى رتبة واحدة فقط. فلو حصلت جريمةُ قتلٍ نتيجة خطأ ارتكبه قائد ذلك الفوج ثم أُسندت هذه الجريمة إلى الفوج كله، فإن تلك الجريمة الواحدة تتضاعف وتكون في حكم ألوف الجرائم، فيصبح ألفُ جندي مثلا مسؤولين عنها، ومستحقين العقاب عليها.

كذلك الأمر هنا، فإن الأخطاء الجسيمة واضحة أمام الأعين، فإن لم تُسند إلى ذلك الرجل الميت الذي ارتكبها، وأحيلت إلى جيش عظيم كريم أَظهر جهاده في سبيل إحقاق الحق في العالم أجمع وصدّق بسيوفه ودمائه شهادة عزته وكرامته وإعلائه لراية القرآن منذ خمسمائة سنة بل منذ ألف سنة، فإن تلك الذنوب تزداد إلى الألوف بعدد أركان ذلك الجيش. فيلطِخ الماضيَ المجيد لذلك الجيش ويشوهه تشويها رهيبا مسوِّدا تاريخَه بلون قاتم مما يجعل جيش هذا العصر مسؤولا ويذوب خجلا أمام الجيش البطل للعصور السابقة.

وكذلك لو أُسندت الانتصاراتُ الباهرة والمفاخر المستحصلة الحاضرة إلى رجل واحد فإنها تبقى جزئية، وتصبح الحسناتُ والمجاهدات التي هي بعدد الأركان والأفراد في حكم شخص واحد، وينطفئ ذلك الضياء الساطع ويزول ولا يصبح كفارة للذنوب.

فلأجل هذه الأسباب تركتُ مودّة ذلك الرجل، وكسبتُ مودة ذلك الجيش الذي خَدمتْ في صفوفه خدمةً فعلية مؤثرة، وفي زمان دقيق حرج، وسعيت برسائل النور للمحافظة على شرف ذلك الجيش الذي هو أسمى ألف مرة من أي شخص كان.

سعيد النُّورْسِيّ في أميرداغ

* * *

رسائل متفرقة (6)

[الفرق بين الإيمان وعدم الإنكار]

إخوتي الأعزاء الصادقين الأوفياء، والأبطال الميامين لطلاب النور!

لقد أشاعوا: «أن الناس يعرفون الله، فالشخص الاعتيادي يؤمن بالله كما يؤمن به وليّ من الصالحين». لأجل التهوين -ولو يسيرا- من قيمة رسائل النور العظيمة. وذلك ببيان عدم الحاجة إلى المزيد من حشد البراهين الدامغة والدلائل القيمة الضرورية التي تسوقها رسائل النور وتُكثر منها. وكأن هذه الحشود من البراهين الإيمانية لا ضرورة لها، ولا داعي لها.

ففي إسطنبول يروِّج -وبأسلوب رهيب جدا- قسمٌ من المنافقين الذين تورطوا في الكفر المطلق -المشحون بالفوضوية والإرهاب- كلاما من هذا القبيل فيقولون: «لا داعي لنا لمزيد من دروس الإيمان لأن كل أمة بل الناس جميعا يعرفون الله». وذلك محاولةً منهم لصدّ رسائل النور وحرمان الناس من الحقائق الإيمانية التي فيها، التي يحتاجها الناس كلهم حاجتهم إلى الماء والخبز.

والحال أن معرفة الله سبحانه والإيمانَ بحقائق «لا إله الّا الله»، يستلزم التصديق القلبي، والإيمان المطلق الجازم بربوبيته سبحانه وتعالى، الشاملة المحيطة بكل ما في الكون، وأن مقاليد الأمور -من الذرات إلى المجرات- بجزئياتها وكلياتها في قبضته سبحانه، ولا تُدار إلّا بقدرته، وتحت إرادته، فلا شريك له في ملكه.

أما النطق والتفوه بأن «الله موجود» ثم إسناد تصريف الأمور في ملكه إلى الأسباب التي لا عدّ لها وإلى «الطبيعة» واتخاذَها شركاء لله تعالى، ومن ثم الجهل بإرادته النافذة، وعلمه المطلق، ومثولِ كل شيء بين يديه، فضلا عن عدم الاهتمام بأوامره ونواهيه، والجهلِ بصفاته الجليلة، وما أرسل من رسله.. لا شك أن هذا كله ليس من الإيمان في شيء.

ولا ينطق بهذا ناطق إلّا ليسلّي به نفسه وينجيها من التعذيب الدنيوي الروحي الذي يعذِّب به الكفرُ المطلق أصحابَه في الدنيا قبل الآخرة.

نعم، إن «عدم الإنكار» شيء و«الإيمان» شيء آخر تماما، إذ ما من ذي حس أو شعور يمكنه أن ينكر الخالق ذا الجلال الذي تشهد بربوبيته وعظمته وحكمته وجماله جميعُ أجزاء الكون.. فلو حاول الإنكار لحال دونه الكونُ بأجمعه، فيخرس، ويبقى وحيدا سائبا معزولا شاردا دون سند.

أما الإيمان، فلقد علَّمَنا القرآن الكريم أنه التصديق القلبي بوجود الخالق جل وعلا بصفاته المقدسة وبأسمائه الحسنى، مستندا إلى شهادة الكون جميعا.

إنه -أي الإيمان- تطبيق لما جاء به الرسل الكرام -عليهم السلام- من أوامره سبحانه وتعالى ونواهيه..

وإذا سوّلتْ للإنسان نفسُه أمرا، فدونه باب الاستغفار والإنابة.. أما أن يقترف كبيرة من الكبائر بلا اهتمام ولا مبالاة بالأوامر، ودون استغفار وإنابة، فلا شك أن ذلك دليل خلوه من الإيمان.

* * *

[حول محبة آل البيت]

أخي العزيز المحترم

لقد قرأت باهتمام وإنعامِ نظر رسالتكم المستفيضة التي هي بمثابة بحث كامل، والغزيرة بالعلم ودقة الملاحظة وحرارة الشوق، فأقول مقدَّما:

إن الإمام عليا رضي الله عنه هو أستاذ رسائل النور، وهو الذي يولي اهتماما بالغا برسائل النور في قصيدته «البديعية» بإشارات رمزية، وهو أستاذي الخاص في الحقائق الإيمانية.

وإن محبة آل البيت قد نصّ عليها القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَٓا اَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ اَجْرًا اِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبٰى (الشورى:23). هذه المحبة أساسٌ في مسلكنا وفي رسائل النور. ويلزم ألّا يكون لدى الطلاب الحقيقيين لرسائل النور أيُّ ميل نحو معاداتها. فالضلالةُ والزندقة تستغل الاختلاف في هذا العصر، حتى إن هناك تيارات قوية تجعل أهلَ الإيمان في حيرة من أمرهم حيث تُبدَّل الشعائر الإسلامية ويُشنُّ هجومٌ عنيف على القرآن والإيمان، لذا لا ينبغي فتح باب المناقشة في الأمور الفرعية الجزئية التي تسبب الاختلاف إزاء هذا العدو اللدود.

وكذا لا يلزم قطعا ذم الذين ارتحلوا وذهبوا إلى الآخرة ودار الجزاء. فليس من مقتضى محبة آل البيت -الذين أُمِرنا بحبهم- بيانُ تقصيرات أولئك بيانا لا جدوى منه بل فيه ضرر.. لأجل كل هذا فقد مَنع أهلُ السنة والجماعة مناقشةَ الفتن التي وقعت زمن الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

ولاشتراك الذين بُشّروا بالجنة كالزبير وطلحة وكذلك أُمنا عائشة الصديقة رضي الله عنهم أجمعين في واقعة الجمل، فقد حكم أهلُ السنة والجماعة على تلك الواقعة؛ أنها نتيجة الاجتهاد، وأن سيدنا عليا رضي الله عنه كان محقا وعلى صواب والآخرون ليس لهم الحق. ولكن لأن الأمر ناشئ من الاجتهاد فهم معفوّ عنهم. ثم إنهم -أي أهل السنة والجماعة- يرون أن مناقشة أمر البُغاة في حرب صفّين فيها ضرر، إذ تثير المناقشةُ نزعتين متضادتين هما: نزعة تقف ضد محبة آل البيت، وأخرى تغلو في حبهم «كالرافضة» فيتضرر الإسلام نتيجة ذلك.

لقد قال إمام علم الكلام سعد الدين التفتازاني أنه: «يجوز لعن يزيد» وأمثالِه من الظالمين كالحَجاج والوليد. ولكن لم يقل: إن «اللعن واجب، أو فيه خير وفضيلة، أو فيه ثواب وأجر» لأن الذين ينكرون القرآن الكريم ويجحدون بالرسول ﷺ ويرفضون صحبة الصحابة الكرام للرسول ﷺ كثيرون جدا لا يعدّون ولا يحصون، وهم يصولون ويجولون أمامنا.

ومن المعلوم شرعا أن المرء إن لم يتذكر أحدا من الذين يستحقون اللعنة ولم يلعنهم فليس في هذا بأس قط، لأن الذم واللعنة ليسا كالمدح والمحبة، فهما لا يَدخلان في الأعمال الصالحة، وإن كان فيهما ضرر فهو أدهى.

وفي الوقت الحاضر، استغل المنافقون بعض العلماء فأثاروا فيهم نزعة -ضد أهل البيت- علما أن العلماء هـم المأمـورون بالحـفـاظ على الإسلام والحقائق الإيمانية، حتى وصل بهم الأمر إلى مهاجمة أهل الحقيقة واتهامِهم بانتحالهم نزعة التشيّع، ونشب العداءُ بينهما بحيث أنـزل أولئـك المنافقون ضربتهم القاضية بالجهتين معا، وذلك باستعمال كلّ منهما ضد الآخر ووضعِه في مجابهته. فهؤلاء الذين يسعون في إنزال الضربة القاضية بالإسلام ماثلون أمامنا.. وقد دوّنتَ جزءا من هذا في رسالتك وأنت تعلم يا أخي أن أخبث الوسائل المؤثرة على رسائل النور وعليّ بالذات -والمستعملة حاليا- قد وجدوها لدى العلماء.

إن بعض العلماء الذين تلوثوا بالبدع، يمكنهم أن يُنـزلوا ضربتهم بك وبطلاب النور متذرعين باجتهادكم الناشئ من محبة آل البيت، والذي لا داعي لإظهاره في الوقت الحاضر، فهؤلاء يتسترون بالوهابية الحاكمة على الحرمين الشريفين حيث تتداول فيما بينهم -منذ أمد بعيد في إسطنبول- كتب مُلفتة للأنظار وجذّابة لابن تيمية وهو من العباقرة المشهورين وتلميذه ابن قيم الجوزية، ولاسيما بعد أن أُشيع أن نزعتهم ضد الأولياء ومشربهم متّسم بشيء من التسامح للبدع!.

فمادام ليس هناك أمر شرعي في عدم الذم وفي عدم التكفير، بينما في الذم والتكفير حكمٌ شرعي. فالذم والتكفير إن كانا على غير حق ففيهما ضرر كبير. وإن كانا على حق فلا ثواب فيهما، لأن هناك مالا يُحد من الناس ممن يستحقون الذم والتكفير. أي إن عدم التكفير وعدم الذم ليس فيهما حكم شرعي وليس فيهما ضرر أيضا.

ولأجل هذه الحقيقة فقد اتخذ أهلُ الحقيقة وأهل السنة وفي مقدمتهم الأئمة الأربعة والأئمة الاثنا عشر من أهل البيت، اتخذوا لأنفسهم قاعدة سامية مستندين إلى تلك الحقيقة. فقالوا: لا يجوز مناقشة ما حدث بين المسلمين من الفتن وليس فيها نفع، بل فيها ضرر.

ثم إن هناك صحابة كراما قد وُجدوا -على أية حال- في كلّ من الطرفين، فإنّ بحث تلك الفتن يورد إلى القلب شيئا من الانحياز إلى جهة، مما يولّد اعتراضا أو رفضا لأولئك الصحابة العظام أمثال طلحة والزبير رضي الله عنهما من العشرة المبشرين بالجنة. وحتى لو كان هناك خطأ سبب للاعتراض فهناك احتمال قوي للتوبة.

إنه لا يليق قطعا بالمؤمن الحصيف ولا بوظيفته المقدسة في هذا الوقت أن يهمل الذين ينـزلون ضرباتهم القاضية بالإسلام فعلا ممن يستحقون اللعنة والذم بألوف المرات، ويذهب إلى أزمان غابرة ليتحرى في الأحوال التي لم يأمر الشرع بالتحري فيها والتي لا جدوى منها بل فيها ضرر..

أخي لا أُخفي عنك أن مناقشتكم الطفيفة مع «صبري»، لها ضرر بالغ برسائل النور وبانتشار حقائق الإيمان، فلقد شعرتُ بذلك هنا، وتألّمت من جرائها. إذ في الوقت الذي كنا ننتظر منكما خدمة إيمانية جليلة بمجيء «صبري» إليكم والذي سيكون وسيلة جادة لرسائل النور هناك، وأنت العالم المحقق؛ شعرت -بخلاف ذلك- بضرر كبير في ثلاث جهات، بل رأيتُ ذلك الضرر، وقلت: ترى ما الذي أدى إلى هذا الضرر؟ تلقيت الخبر بعد ثلاثة أيام، من أن «صبري» قد ناقشك مناقشة لا طائل من ورائها ولا فائدة يرجى منها وأنت بدورك قد أخذ منك الغضب والحدة مأخذا… فتأسفت قائلا: أواه..! ودعوت الله: اللهم يا ربنا ارفع المناقشة التي بين هذين الأخوين القادمين إلينا من أرضروم، ليكونا معاونَين لي في خدمتنا للإيمان.

وكما جاء في رسالة الإخلاص: «إن أهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضا إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى فيتركوا مؤقتا كل ما يثير الخلافات والمناقشات دفعا لعدوهم المشترك المتعدّي» لأن الكفر المطلق يشن هجوما عنيفا.

فأرجو من غيرتك الدينية، وتجاربك في حقل العلم، وعلاقتكم القوية برسائل النور، أن تسعى لنسيان ما جرى بينكم وبين «صبري». اصفحْ عنه وسامحه، لأن «صبري» لم يفكر بعقله بل بما سمع من مناقشات لا طائل من ورائها جرت بين علماء سابقين. فأنت أعلم بأن الحسنة العظيمة تكفّر عن سيئات كثيرة.

نعم، إن أخانا «صبري» قد خدم النور خدمة عظيمة حقا، وبوساطتها خَدَم الإيمانَ خدمة جليلة بحيث تكفّر عنه ألفا من أخطائه.

فأرجو أن تنظروا إلى المسألة من زاوية نجابتكم، ومن زاوية خدماته العظيمة للنور وأن تعدوه أخا رفيقا في خدمة النور.

إن قسما من الصحابة قد ظهروا في الجهة المخالفة للإمام علي في تلك الفتن نتيجةَ الأخذ بالعدالة النسبية (الإضافية) واتباعا للرخصة الشرعية بدلا من أن يكونوا مع الإمام عليٍ الذي ألزم نفسه الأخذ بالعدالة الحقيقية (المحضة) والأخذَ بالعزائم الشرعية مع مسلكه المتسم بالزهد الشديد والاستغناء عن الناس والتقشف… فأولئك الصحابة الكرام قد تركوا مسلك الإمام علي ودخلوا في الصف المخالف له نتيجة هذا الاجتهاد حتى إن «عقيل» وهو أخو الإمام علي و«ابن عباس» الملقب بحَبر الأمة كانا في الصف المخالف للإمام لفترة. ولأجل كل هذا فقد اتخذ أهلُ السنة والجماعة القاعدةَ الأساسية الشرعية وهي عدم جواز فتح أبواب تلك الفتن فقالوا: «من محاسن الشريعة سدّ أبواب الفتن»: وقد طهّر الله أيدينا فنطهر ألسنتنا. لأنه: إن كان هناك بضعة أفراد يستحقون الاعتراض عليهم، إلّا أن هذه النـزعة، نزعةَ الانحياز إلى جهة يسوق إلى الاعتراض على أجلّاء الصحابة الكرام ممن هم من العشرة المبشرين بالجنة كالطلحة والزبير رضي الله عنهم وحتى على قسم من أهل البيت ممن هم في الصف المعارض، فينتبه لدى المعترض عِرقُ العداوة والذم تجاههم. لهذا فأهل السنة يرجحون سد أبواب الفتن.

حتى إن سعد الدين التفتازاني وهو من أئمة علم الكلام وأهل السنة الذي جوّز تلعين يزيد والوليد وتضليلَهما، قد انبرى له السيد الشريف الجرجاني وهو من أجلّة علماء أهل السنة قائلا:

«مع أن يزيد والوليد فاجـران وظالمان غدّاران إلّا أن العلم بأنهما قد رحلا إلى الآخرة على غير الإيمان من أمور الغيب. ولأن هذا غيب ولا يُعلم علما قاطعا بأنهم قد تركوا الدنيا على غير الإيمان وليس لنا دليل قطعي ولا نص جازم على ذلك، وهناك احتمال التوبة وذهابِهما من الدنيا على الإيمان، فلأجل هذا لا تجوز اللعنة بمثل هذا التخصيص والتلعين الشخصي، وإنما تجوز اللعنة إذا كانت عامة كأن يقول: لعنة الله على الظالمين والمنافقين. وإلّا فلا ضرورة لغير هذا النوع من اللعنة ولا لزوم لها بل لها ضرر»…

وهكذا ردّ على سعد الدين التفتازاني.

هذا وإن سبب عدم إجابتي لرسائلك العلمية الدقيقة جوابا مفصلا والاقتصار على هذا القدر المستعجل، هو مرضي الشديد ومشاغلي المهمة.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[طهّر الله أيدينا فنطهر ألسنتنا]

أخي العزيز المحترم!

إن طرق البحث أو حتى التفكر في ذلك الجرح العميق الذي يبكي العالم الإسلامي منذ ألف وثلاثمائة سنة، والذي دفع أهلَ الحقيقة جميعا إلى إطلاق الزَفَرات والحسرات يُؤلمني ألما لا يطيقه مشربي الخاص. ولاسيما أن خدمة الإيمان خدمة حقيقية بالإخلاص -منذ عشرين سنة- قد سحبتني كليا من ميدان السياسة بكافة أنواعها، ولم تدَعني لقراءةِ جريدة واحدة طوال هذه المدة. لذا فإني أحمل -مضطرا- حالة روحية تدفعني إلى عدم الالتفات إلى الحياة السياسية وإيثار حياة الأسر المعذّب طوال عشرين سنة التي خلت. وعدم مراجعة الحكومة -سوى دفاعاتي أمام المحاكم- لئلا يردَ نقصٌ إلى خدمة الإيمان وحفاظا على الإخلاص من الانثلام، بل لم أهتم بأخبار الحرب العالمية ولم أذكّر أحدا بها طوال عشر سنوات، لئلا أتلوث بالسياسة. إن هناك ضرورة الآن إنقاذ أهل الإيمان من لدغات ثعابين ماردة تهاجمهم هجوما شرسا من حيث حقائق الإيمان وتنفث سمومَها القاتلة في الكثيرين أمام أنظارنا…

فما دام الوضع هكذا، فإن الانسلاخ من هذا الزمان الحالي والذهاب إلى عصور سابقة ومشاهدة الظلم الرهيب الواقع على أهل البيت يسحق روحي أكثر ويفتّ في القوة المعنوية ويعذّبني عذابا لا يوصف.

إن الدستور الغادر للسياسيين الظلمة الذين هو: «يُضحَّى بالفرد لأجل الجماعة» له وقائع وأحداث قاسية ظالمة تحت اسم: «أهون الشرين» الذي اتّخذه بعضُ الحكام نوعا من أنواع العدالة الإضافية (النسبية) وأبرزوه لمصلحة إدامة حكمهم. وحتى في هذا العصر بموجب هذا الدستور الغادر يفني أحدُهم قريةً كاملة بخطأِ شخص واحد فيها، ويُهلك أُلوف الناس لتوهمِ ضرر قد يَلحق بسياستهم من جراء معارضةِ عشرة أشخاص…

وحيث إن هذا الدستور الغادر للسياسة قد دخل -إلى حد ما- بين المسلمين في العصور الإسلامية، فقد آثر السلفُ الصالحون السكوت -مضطرين- أمام هذه الدساتير الرهيبة، فَسدَّ أئمةُ أهل السنة والجماعة تلك الأبواب بقولهم: «طهّر الله أيدينا فنطهّر ألسنتنا».

وما دام الذين ظلموا أهلَ البيت يرون عقابهم الآن في الآخرة عقابا أليما بما لا يدع حاجة إلى معاونتنا بالهجوم على الظَلَمة، وينال أهلُ البيت المظلومون -ثوابَ ما قاسوا من عذاب موقت- درجةً عظيمة لا تبلغها عقولُنا لسعَتها ورفعتها، فالأولى إذن تهنئتُهم بألوف التهاني من حيث نيلهم تلك الرحمة الواسعة وليس التألم لحالهم الآن. إذ مثلما أنهم حازوا ملايين المراتب والسعادات الباقية في الآخرة، مقابل بضع سنين من المتاعب والآلام، كذلك أصبح كلٌّ منهم سيدا وسلطانا معنويا وإماما في عالم الحقيقة بدلا من سلطنة دنيوية فانية في مدة حياتهم الدنيوية وحاكميتِها الموقتة وسياستِها المضطربة التي لا أهمية لها، وصاروا أئمة الأولياء والأقطاب بدلا من ولاة الولايات… ففوزهم هذا هو فوز عظيم بملايين أضعاف مراتب الدنيا.

ولأجل هذا السر الدقيق فقد أخذت الحقيقة السابقة من أساتذة سعيد الجديد وهم: الإمام الرباني، الشيخ الكيلاني، الإمام الغزالي، والإمام زين العابدين رضي الله عنهم -حيث تلقيت مناجاة «الجوشن الكبير» من هذين الإمامين خاصة- وسيدنا الحسين، والإمام علي رضي الله عنهم جميعا. فالدرس الذي تلقيتُه منهم لدى ارتباطي بهم ارتباطا معنويا دائما -بواسطة الجوشن الكبير- هو تلك الحقيقة… لذا فالمشرب الحالي الوارد من رسائل النور إذن هو مشربُهم الذي ارتشفتُه من منهلهم. لذا لا ينسجم ومشربَنا النظرُ إلى غدر الظالمين، ولا حتى التفكر فيه، حيث قد نال الظالمون عقابهم، والمظلومون ثوابهم بما هو فوق طوق عقولنا، فالانشغال بمثل تلك المسائل يُلحق الضرر بالوظيفة القرآنية التي كُلِّفْنا بها، ولاسيما والمصائب تنـزل تترى على الدين في الوقت الحاضر.

إن علماء علم الكلام وأئمة أصول الدين والمحققين الأفذاذ من علماء أهل السنة والجماعة، بعد إجراء تحقيقات وتدقيقات كثيرة حول العقائد الإسلامية وإقامة المحاكمات العقلية والموازنات في ضوء الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ارتضوا بدساتيرَ في أصول الدين، تلك الدساتير تأمر بالحفاظ على مشرب رسائل النور الحالي، وتمدّها بالقوة. ومن هنا لا يستطيع أي أحد -حتى لو كان من أهل البدع وفي أي مكان كان- الاعتراضَ على مشربنا، ولما كانت حقيقةُ الإخلاص محفوظة فيه حفظا تاما يستطيع أيُّ نوع من أنواع أهل الإسلام الدخولَ في دائرة رسائل النور، فالمتعصب في تشيعه، والمغالي في وهابيته، وأشد الفلاسفة مادية وعمقا في العلم، وأكثر العلماء أنانية وتزمتا، قد بدأوا بالدخول معا في دائرة النور، ويعيش قسم منهم الآن إخوة متحابين في تلك الدائرة… حتى إن هناك أمارات بدخول مبشرين نصارى من الروحانيين الحقيقيين في تلك الدائرة، لما يشعرون بضرورة الترابط والمصالحة، طارحين مواد المناقشة والمنازعة جانبا.

بمعنى أن رسائل النور التي أخبر عنها الإمام علي رضي الله عنه بإشارات تبلغ حوالي الأربعين وبدرجة الصراحة أحيانا، هي ضماد لجروح هذا الزمان. ولهذا كفتنا تلك الدائرة فلا نخرج منها.

إن التعرض لشخص سيدنا علي كرم الله وجهه، ونقدَ حياته وسياسته الجارية على العدالة المحضة شيء، والتعرض لشخصيته المعنوية ونقدَ كمالاته العلمية ومقامِ ولايته ووراثته للنبوة، التي تفوق ألوف المرات شخصيته الظاهرية وحياته الدنيوية وسياسته الاجتماعية شيء آخر، وأَنَّى لأحد الدنو من التعرض لها أو نقدها. بل لم يرد ذلك قطعا ولن يرد.

ومن هنا يبدو رهيبا جدا تعرُّضُ الذين يحاولون الجمع بين الجهتين معا، حيث يورث الحيرة والدهشة في صفوف أهل الإيمان من أنه: هل يمكن أن تحدث فتنة كهذه بين أهل الإيمان؟ علما أنه عدا أشخاصٍ تافهين خبيثين كيزيد والوليد، فإن القسم الأعظم ممن تعرضوا للإمام علي رضي الله عنه تعرضوا لإدارته الخاصة ولحياته الإنسانية الاجتماعية، فأخطأوا، وليس لكمالاته وكراماته ووراثته للنبوة.

إن من الضروري تركَ العداء الصغير الطفيف الداخلي لدى هجوم الأعداء الضخام الخارجيين. إذ بخلاف ذلك سيكون الأمر في حكم العون للعدو الكبير الخارجي.

ولهذا فعلى المنحازين من المسلمين إلى جهة من الجهات ضمن دائرة الإسلام أن يتناسوا تلك العداوات الداخلية موقتا، كما تقتضيه مصلحة الإسلام.

* * *

  [رسالة إلى سكرتير حزب الشعب الجمهوري]

حضرة السيد حلمي أوران!

وزير الداخلية السابق وسكرتير حزب «الشعب الجمهوري» حالياً:

أولاً: في غضون عشرين سنة كتبت إليكم عريضة واحدة فقط -يوم كنتم وزيراً للداخلية- إلّا أنني لم أقدمها إليكم لئلا أخلّ بقاعدتي التي أسير وفقها. فإن شئتم فسأقرأها لكم وأتكلم معكم بصفتكم وزيراً سابقاً للداخلية وسكرتيراً عاماً للحزب. فاسمحوا لي بالكلام لساعة أو ساعتين، إذ الذي لم يتكلم مع الحكومة منذ عشرين عاماً لو تكلم عشر ساعات مع ركن من أركان الحكومة وباسمها ولمرة واحدة، فهو قليل.

ثانياً: أجدني مضطراً إلى بيانِ حقيقةٍ لكم لكونكم سكرتير الحزب حالياً… والحقيقة هي: أن هذا الحزب الذي تقوم أنت بمهمة سكرتاريته عليه مهمة أمام الشعب وهي أن الأمة التركية ومن معها من إخوة الدين الحاملين لراية الإسلام منذ ألف سنة جعلوا الأمة الإسلامية قاطبة ممتنة لها ببطولتها وصانوا الوحدة الإسلامية، ونجّوا البشرية بالقرآن العظيم وحقائق الإيمان من الكفر المطلق والضلال الرهيب. فإن لم تتبنّوا حالياً -ببسالة كالسابق- الحقائقَ القرآنية والإيمانية، وإن لم تقوموا -وأنتم أهل الغيرة- بالحث على الحقائق القرآنية والإيمانية مباشرة بدل قيامكم خطأ في عهد سابق بالدعاية للمدنية الغربية وإضعافِ الروح الدينية، فإني أحذركم وأنذركم قطعاً، وأبين ذلك بحجج قاطعة أن العالم الإسلامي سيَنفر من هذه الأمة بدلاً من أن يوليها المحبة بل سيضمر العداوة لأخيه البطل: الأمة التركية، وستقهرون أمام الفوضى والإرهاب الذي يتستر تحت ستار الكفر المطلق الذي يسعى لإبادة العالم الإسلامي، وستكونون سبباً في تشتيت هذه الأمة التركية التي هي قلعة العالم الإسلامي وجيشه البطل، وستمهدون لاستيلاء الغول الوحش (الشيوعية) على هذه البلاد.

نعم، إن هذه الأمة البطلة لا تصمد أمام صدمات التيارين الرهيبين الآتيين من الخارج إلّا بقوة القرآن. فلا يصد هذا التيارَ الجارف، تيارَ الكفر المطلق والاستبداد المطلق وإشاعةِ السفاهة وإباحة أموال الناس إلاّ الأمة التي امتزجت روحها بحقائق الإسلام وأصبحت جزءاً من كيانها، تلك الأمة التي تعتزّ بالإسلام مجداً لماضيها.

وسيوقف هذا التيارَ بإذن الله قيامُ أهل الغيرة والحمية لهذه الأمة ببث روح الحقائق القرآنية -الموغِلة في عروق هذه الأمة- وجعلِها دستور حياتها بدلاً من نشر التربية المدنية الغربية.

أما التيار الثاني: فهو استمالة العدو مستعمراتِه في العالم الإسلامي وربطُهم به ربطاً وثيقاً، وذلك بزعزعة ثقتهم بمكانة هذه البلاد ومنـزلتِها المركزية للعالم الإسلامي، بعد وصمها باللادينية والإلحاد، والذي يفضي إلى انفصام العلاقة المعنوية بينها وبين العالم الإسلامي، وقلبِ روح الأخوّة -التي يحملها العالم الإسلامي تجاه هذه الأمة- إلى عداء.. وغيرها من أمثال هذه الخطط الرهيبة التي حازوا بها شيئاً من النجاح لحد الآن. ولكن إذا استرشد هذا التيار وبدّل خطته الرهيبة هذه وعامل الدين الإسلامي بالحسنى داخل البلاد، مثلما يلاطف العالم الإسلامي، فإنه يغنم كثيراً ويكون ممن حافظ على إنجازاته، وعندئذٍ تنجو الأمة والبلاد من كارثة مدمرة.

فلو سعيتم أنتم الذين تتولون مقام سكرتارية أهل الحمية والقومية، للحفاظ على الأسس التي تسحق المقدسات الدينية وتعمِّم المدنية الغربية، ونسبتم الحسنات الحاضرة وحسنات الانقلاب إلى إجراءاتِ قلة من الأشخاص الذين قاموا باسم الانقلاب وأحلتم النقائص المريعة والسيئات الجسيمة إلى الأمة، فعندئذٍ تعممون إذن ما ارتكبه أشخاص قلة من سيئات إلى ملايين من السيئات. فتخالفون إذن آمالَ هذه الأمة المتدينة البطلة وتجافون جيش الإسلام، وتعارضون إذن الأمةَ جميعاً وتديرون ظهركم إلى ملايين الأبطال الميامين الذين نالوا شرف الشهادة، فتعذبون أرواحهم الطيبة وتحطون من شأنهم وتهوّنون من شرفهم.

وكذا إذا نُسبتْ تلك الحسنات التي أُحرزتْ بهمة الأمة وقوة الجيش إلى أولئك القلة القليلة من الانقلابيين، انحصرت ملايين الحسنات في بضع حسنات فقط وتضاءلت وزالت، فلا تكون كفّارة لأخطاء فاحشة.

ثالثاً: لا شك أن لكم معارضين في جهات كثيرة داخلية وخارجية، وحيث إني لا أنـظر ولا أهتم بأحوال الدنيا والسياسة، فلا أعرف تلك الأمور. ولكن لأنهم ضايقوني كثيراً في هذه السنة اضطررت أن أنظر إلى سبب هذه المضايقة، فعلمت أن معارضةً قد ظهرت. فلو وَجدتْ هذه المعارضة زعيماً كفوءاً لها وانطلقت إلى الميدان باسم الحقائق الإيمانية لغلبتكم وانتصرت عليكم في الحال، ذلك لأن تسعين بالمائة من هذه الأمة مرتبط روحاً وقلباً بالأعراف الإسلامية منذ ألف سنة، وحتى لو انقادت ظاهراً إلى ما يخالف فطرتها فإنها لا ترتبط به قلباً.

ثم إن المسلم يختلف عن أفراد الأمم الأخرى، إذ لو تخلّى عن دينه فلا يكون إلّا إرهابياً فوضوياً لا يقيده شيء أياً كان، بل لا يمكن إدارته بأيٍ من وسائل التربية والإدارة إلّا بالاستبداد المطلق والرشوة العامة.

وهناك حجج كثيرة تثبت هذه الحقيقة وأمثلة كثيرة عليها اختصرها محيلاً الأمر إلى فطنتكم.

لا ينبغي لكم أن تتخلّفوا عن الدول الاسكندنافية التي شعرت بحاجتها الشديدة إلى القرآن الكريم في هذا العصر، بل عليكم أن تكونوا قدوة لها ولأمثالها من الدول. فلو أسندتم ذنوب الانقلاب التي حصلت حتى الآن إلى بضعة أشخاص، وسعيتم لتعمير الدمار -ولاسيما بحق الأعراف الدينية- التي نجمت عن ظروف الحرب العالمية وانقلابات أخرى، لقلّدكم سعيكم هذا شرفاً عظيماً في المستقبل ولأصبح كفارة لذنوبكم العظيمة وكنتم أهلاً لصفة أهل الحمية والغيرة على الأمة، لما تقدمون من خدمة للأمة والوطن.

رابعاً: مادام الموت لا يُقتل وباب القبر لا يُغلق، وأنتم ستهرعون إلى القبر كأي إنسان آخر، وأن ذلك الموت -الذي لا مناص منه- إعدامٌ أبديّ لأهل الضلالة، لا تُبدِّله مائة ألف من الدعوات الوطنية وحب الدنيا والإنجازات السياسية، إلّا القرآنُ الكريم الذي يبدل ذلك الإعدامَ الأبدي إلى تذكرةِ تسريح لأهل الإيمان، كما أثبتت ذلك رسائلُ النور الموجودة بين أيديكم والتي لم يعارضها أيُّ فيلسوف ولا أي ملحد كان، بل هي التي جَذبت إلى حظيرة الإيمان كلَّ من قرأها من الفلاسفة بدقة وإنعام. وحتى في ظروف هذه السنين الأربع لم يملك الفلاسفة والعلماء الخبراء ولا محاكمُكم الأربع إلّا الإعجابَ بها وتقديرَها وتصديقها، فلم يعترضوا عليها، لحججها الرصينة في إثبات الحقائق الإيمانية، فضلاً عن أنها لا ضرر يرد منها لهذا الوطن والأمة، بل إنها سد قراني -كسد ذي القرنين- أمام التيارات الرهيبة المهاجمة. ولي مائة ألف شاهد على هذا من الأمة التركية ولاسيما من الشباب المثقف.

فلأجل هذه الأسباب المذكورة فإن واجبكم الأساس هو تبنّي أفكاري هذه التي طرحتها لكم بجد واهتمام. فأنتم تستمعون دائماً إلى الكثيرين من الدنيويين السياسيين، فيلزم الاستماع -ولو قليلاً- إلى ضعيف عاجز مثلي واقف على شفير القبر يبكي على حال المواطنين ويتكلم معكم في سبيل الآخرة.

رسائل متفرقة (5)

[تأويل حديث شريف]

تبدو لي حقيقةٌ إيمانية في غاية الأهمية أكثر من مائة مرة. وحيث إن زمن تأليف الرسائل قد انتهى، فمهما حاولتُ اقتناص تلك الحقيقة الجليلة لم أتمكن، فانتظرت كي أستشعرها وأتمكن من أن أعبرها بوضوح، ولكن لم أوفق، والآن سأتناول تلك الحقيقة الواسعة جدا والطويلة جدا بإشارة قصيرة جدا وفي منتهى الاختصار.

إن الحديث الشريف «إن الله خلق آدم على صورة الرحمن» هو من جوامع الكَلِم ومن الأحاديث المتشابهة كذلك. وقد ظهرت لقلبي نكتَتُه الكلية العظيمة جدا أثناء قراءتي «خلاصة الخلاصة» و«الجوشن الكبير». وأنا لأجل ألّا تفلت مني تلك النكتةُ الجميلة جدا والعجيبة جدا وضعتُ إشارات على صورة شفرات في «خلاصة الخلاصة» بين المرتبة السابعة عشرة -وهي شهادة لسان القرآن- والمرتبة الثامنة عشرة وهي شهادة الكون. وقد وضعت الإشارات ذات الشفرة كالآتي:

لا إلَهَ إلَّا الله الوَاجِبُ الوُجُودِ الوَاحِدُ الأحَدُ بِلِسَانِ الحَقيقَةِ الإنسَانيَّةِ.. الخ.

وسأوضح هذه الشفرة القصيرة في منتهى الاختصار. واجعلوها حاشية لخلاصة الخلاصة.

نعم، إن الكون العظيم يكون أمامي بمثابة حلقة ذكر في أثناء قراءتي لخلاصة الخلاصة، ولكن لأن لسان كل نوع من الأنواع واسع جدا، يتحرك العقل عن طريق الفكر كثيرا كي يذعن بالأسماء الإلهية وصفاتها بعلم اليقين، وبعد ذلك يتمكن أن يبصر ذلك بوضوح. وعندما ينظر إلى الحقيقة الإنسانية في ذلك المقياس الجامع، في تلك الخريطة المصغرة، وفي ذلك النموذج الصادق، وفي ذلك الميزان الصغير، وفي ذلك الشعور بالأنانية، فإنه يصدق تلك الأسماء والصفات بإيمان واطمئنان ووجدان جازم شهودي وإذعاني وبسهولة ويسر وبمرآته الحاضرة التي بقربه دونما حاجة إلى سياحة فكرية، فيَكسب الإيمانَ التحقيقي ويدرك المعنى الحقيقي للحديث الشريف: «إن الله خلق الإنسان على صورة الرحمن». لأن المراد من الصورة، السيرة والأخلاق والصفات. حيث إن الصورة محالة بحقه تعالى.

نعم، فكما أن أصحاب الطريقة الصوفية قد سلكوا في المعرفة الإلهية طريقين: أحدهما: السير الأنفسي، والآخر: السير الآفاقي. ووجدوا أن أقصرَ طريق وأيسرَها وأمتنها وأكثرها اطمئنانا هي الطريق الأنفسي أي في القلب، وذلك بالذكر الخفي القلبي، كذلك أهل الحقيقة الرفيعون قد سلكوا طريقين اثنين ليس بالمعرفة والتصور، بل بما هو أرقى وأجدر منهما بكثير وهو في الإيمان والتصديق.

الأول: النظر إلى الآفاق بمطالعة كتاب الكون، كما في «الآية الكبرى» و«الحزب الأكبر النوري» و«خلاصة الخلاصة» وأمثالها.

 والآخر: الصعود إلى مرتبة الإيمان، الخالية من الشكوك والريوب بمطالعة خريطة الحقيقة الإنسانية وفهرس الأنانية البشرية وماهيتها النفسانية، وهي أقوى مرتبة وجدانية وشعورية وشهودية -إلى حد ما- فهي بدرجة حق اليقين، بحيث إن هذه المرتبة متوجهة إلى سر الأقربية الإلهية والوراثة النبوية.

هذا وقد وضّحتُ جزءا من حقيقة التفكر الإيماني الأنفسي في الكلمة الثلاثين في بحث «أنا» وفي «نافذة الحياة» و«نافذة الإنسان» في المكتوب الثالث والثلاثين وفي أجزاء أخرى من رسائل النور.

* * *

[الرسائل تؤدي المهمة]

إخواني الأوفياء الصادقين!

لا تقلقوا أبدا، فإني لا أُبيّن لكم حالة مرضي الشديد الذي انتابني من جراء التسميم -بتدبير مقصود- إلّا لأنال دعواتِكم. فلا داعي للاضطراب والقلق، إذ -لله الحمد والشكر- لم يمنعني ذلك المرضُ من قراءة أورادي ولا واجبِ تصحيح الرسائل. أسأله تعالى أن يكتب لي فيه أجرا عظيما، فأنا راضٍ عن هذا المرض -من جهة- فلا تتألموا أيضا لحالي، ولقد أوشكتْ مهمتي في الحياة على الانتهاء. وتستطيع كلُّ نسخة من نسخ رسائل النور -ولا سيما المجموعات منها- أن تؤدي وظيفتي بما يفوق حسن ظنكم في «سعيد» بكثير، بل تؤديها فعلا، وكلُّ طالب فدائيّ من طلاب النور الخواص يمكنه أن يقوم بوظيفة ذلك «السعيد» على أتم وجه. فلئن نَقَصَ «سعيد» واحد فيما بينكم، فإن مئات السعيدين المعنويين -أي الرسائل- وألوف السعيدين الماديين -أي طلاب النور- يستطيعون القيام بتلك المهمة خيرَ قيام. وهم فعلا يقومون بها.

وبناءً على هذه الحقيقة، لا تهتموا كثيرا بشخصي ولا بالحوادث التي تجري عليّ، بل اسألوا الله سبحانه، وادعوه متضرعين إليه أن يثبتنا على الإخلاص.

وعاونوني يا إخوتي بدعواتكم -التي لا ريب في استجابتها- لِما ألمّ بي من شيخوخة ومن آلام كثيرة.

* * *

[الفلسفة التي تهاجمها الرسائل]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ابدا دائما…

إخوتي الأعزاء الصديقين!

نظرا لشروع رسائل النور بالانتشار بآلة «الرونيو» والتفافِ الكثيرين من الطلاب والمدرسين الذين يقرأون الفلسفة الحديثة في المدارس حول رسائل النور، لزم بيان
الحقيقة الآتية:

إن الفلسفة التي تهاجمها رسائل النور وتصفعها بصفعاتها القوية، هي الفلسفة المضرة وحدها، وليست الفلسفة على إطلاقها، ذلك لأن قسمَ الحكمة من الفلسفة التي تخدم الحياة الاجتماعية البشرية، وتُعِين الأخلاقَ والمُثل الإنسانية، وتمهّد السبل للرقي الصناعي، هي في وفاق ومصالحة مع القرآن الكريم، بل هي خادمةٌ لحكمة القرآن، ولا تعارضها، ولا يسعها ذلك؛ لذا لا تتصدى رسائل النور لهذا القسم من الفلسفة.

أما القسم الثاني من الفلسفة، فكما أصبح وسيلةً للتردي في الضلالة والإلحاد والسقوط في هاوية المستنقع الآسن للفلسفة الطبيعية، فإنه يسوق الإنسان إلى الغفلة والضلالة بالسفاهة والله. وحيث إنه يعارِض بخوارقه التي هي كالسحر الحقائقَ المعجزة للقرآن الكريم، فإن رسائل النور تتصدى لهذا القسم الضال من الفلسفة في أغلب أجزائها وذلك بنَصبها موازينَ دقيقة ودساتير رصينة، وبعقدها موازنات ومقايسات معزّزة ببراهين دامغة. فتصفعها بصفعاتها الشديدة، في حين أنها لا تمس القسمَ السديد النافع من الفلسفة.

ومن هنا لا يعترض طلاب المدارس الحديثة على رسائل النور، بل ينضوون -وينبغي لهم أن ينضووا- تحت لوائها دونَ تردد وإحجام.

بيد أن المنافقين المتسترين، الذين استغلوا عددا من علماء الدين وجعلوهم في عداء مع رسائل النور-لأسباب تافهة جدا ولا معنى لها إطلاقا- التي هي بضاعة المدارس الشرعية وهم أصحابُها الحقيقيون، فلربما يستغلّون أيضا الغرورَ العلمي لدى بعض أرباب الفلسفة ويثيرونهم على رسائل النور، لذا أرى من الأنسب كتابةَ هذه الحقيقة في مستهل كلٍ من مجموعة «عصا موسى» و «ذو الفقار».

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[رسالة إلى علماء الأزهر]

إن النسختين اللتين سترسلان إلى علماء الأزهر لم تُصحَّحا من قِبَلي؛ فلاشك من وقوع هفوات وسهو سواء في ضبط الشكل أو في العبارات العربية، ولاسيما في «خلاصة الخلاصة» التي في الختام. فلقد شاهدتُ هفوات في نسخ أخرى. ولهذا أرسِلوا نسخةً مصحّحة من قبل علماء في العربية -في أي وقت ترونه ملائما- من كل من مجموعةِ «عصا موسى» و«ذو الفقار»، وأرفقوا الآتي إليهم:

إن مدرسة الزهراء -لرسائل النور- بحاجة ماسة إلى الجامع الأزهر، كحاجة الطفل الصغير إلى أمه الرؤوم. فهي تطلب دوما أن يُسبغ شفقته عليها، إذ هي إحدى طالباته، تتلقى الدرسَ منه، وهي التي استهدفتها أعداءٌ شرسون كثيرون.

فهذه المدرسة الزهراء شعبةٌ مصغّرة من شُعب ذلك الجامع العظيم الذي يترأس المدارس الدينية جميعها وينوّر بها العالم الإسلامي.

ولأجل هذا تنتظر هذه الطالبة الصغيرة عَون ذلك الأستاذِ الموقّر، وذلك الأبِ الرحيم والمرشد الكبير، وترجو أن يمدّ يده إليها.

* * *

[مكاسب العمل لرسائل النور]

«يوزن مدادُ العلماء بدماء الشهداء»

«من تمسك بسنتي عند فساد أمتي فله أجر مائة شهيد»

استلهاما من هذين الحديثين الشريفين نبين عددا من الفوائد الكثيرة -الدنيوية والأخروية- الناشئة من استنساخ رسائل النور، والمذكورة في أجزائها والثابتة بتجارب طلابها وتصديقهم إياها.

خمسة أنواع من العبادات:

1- إنها جهاد معنوي تجاه أهل الضلالة، ذلك الجهاد الأهم.

2- إنها خدمة لأستاذه ومعاونة له على نشر الحقيقة.

3- إنها خدمة للمسلمين كافة من حيث الإيمان.

4- إنها تحصيل للعلم بالكتابة.

5- إنها عبادة فكرية التي قد تكون ساعة منها بمثابة سنة من العبادة.

ولها خمسة أنواع من الفوائد الدنيوية:

1- البركة في الرزق.

2- الانشراح والسرور في القلب.

3- اليُسر في المعيشة.

4- التوفيق في الأعمال.

5- المشاركة في الدعوات الخاصة لجميع طلاب النور، بنيله فضيلة طالب العلم.

نتيجتان مهمتان للعمل لرسائل النور بالقلم والتتلمذ عليها:

الأول: حسن الخاتمة كما تشير إليها الآيات القرآنية الكريمة.

الثاني: الاشتراك بالمكاسب المعنوية لجميع طلاب النور، بمقتضى الاشتراك المعنوي ضمن دائرة رسائل النور، ونيل حظه من حسناتهم جميعا.

وكذا الدخول ضمن حظيرة طلاب العلم -في هذا الزمان الذي فُقد فيه طالبُ العلم- ونيلُ الاحترام اللائق بهم من قِبَل الملائكة،([1]) بل نيلُ حياة الشهداء في عالم البرزخ -إنْ وفّق إلى ذلك وأوتى حظا عظيما- بمثل ما حظي بها طالب النور الشهير «الحافظ علي»، والمذكور في رسالة «الثمرة».

* * *

[هكذا تقتضي خدمة الإيمان]

أولاً: إنه يجب عليّ المجيء إلى هنا حتى لو كنت في مكة المكرمة، وذلك إنقاذاً للإيمان وخدمة للقرآن الكريم، فالحاجة هنا شديدة جداً. فلو كنت أملك ألف روح وروح، وابتُليت بألف مرض ومرض، وقاسيت ألوفاً من صنوف الآلام والمصاعب، فإن قراري -وقرارنا- هو البقاء هنا، خدمةً لإيمان هذه الأمة وسعياً لإكسابهم السعادة الأبدية، ذلك ما تعلمناه من دروس القرآن الكريم.

ثانياً: تكتب إليّ -يا أخي- عن الإهانة التي أُقابَل بها بدلاً من الاحترام والتقدير وتقول: «لو كنتَ في مصر أو أمريكا لكنتَ تُذكر في التاريخ بإعجاب وفخر».

أخي العزيز الفطن!

نحن نهرب هروباً من احترام الناس إيانا وتوقيرهم لنا وحسن ظنهم بنا وإكرامهم لنا وإعجابهم بنا، وذلك بمقتضى مسلكنا. فاللهاث وراء الشهرة التي هي رياء عجيب، ودخول التاريخ بفخر وبهاء، وهو عُجب ذو فتنة، وحبُّ الظهور وكسب إعجاب الناس.. كل ذلك مناف ومخالف للإخلاص الذي هو أساس من أسس مسلك النور وطريقه. فنحن نجفِل ونهرب مذعورين من هذه الأمور باعتبارنا الشخصي؛ ناهيك عن الرغبة فيها.

ولكننا نرجو من رحمة الله الواسعة إظهار رسائل النور النابعة من فيض القرآن الكريم، والتي هي لمعات إعجازه المعنوي، ومفسرة حقائقه وكشافة أسراره.. فنرجو من رحمته تعالى الإعلانَ عن هذه الرسائل والرواجَ لها وشعور الناس بحاجتهم إليها وإظهارَ قيمتها الرفيعة جداً، وتقديرَ الناس لها وإعجابهم بها، وتبيانَ كراماتها المعنوية الظاهرة جداً وإظهارَ غلبتها على الزندقة بجميع أنواعها بسر الإيمان، فنحن نريد إعلام هذه الأمور وإفهام الناس بها وإظهارَ تلك المزايا، ونرجو ذلك من رحمته تعالى.

* * *

[ذكرى وعبرة]

في هذه الأوقات التي نجد فيها الضيق والعنت، أزعجتني نفسي الجزِعةُ الفارغة من الصبر، فأسكتتها هذه الفقرةُ، وألزمتها الحجة، ودفعتها إلى الشكر لله.

أقدم هذه الفقرة الموضوعة فوق رأسي طي رسالتي هذه لعلها تفيدكم أيضاً.

1- يا نفسي! لقد أخذتِ نصيبك من الأذواق -في غضون ثلاث وسبعين سنة- أكثر مما أخذها تسعون بالمائة من الناس. فلم يبق لكِ بغية فيها.

2- أنتِ ترومين دوام الأذواق وبقاءها وهي فانية آنيّة، لذا تبكين عشر ساعات عن ضحك دام دقيقة واحدة.

3- إن المظالم التي أتت عليك، والمصائب التي نزلت بكِ تنطوي على عدالة القدر. فيظلمونك لما لم ترتكبيه، بينما القدر يؤدبك بيد تلك المصيبة -بناء على أخطاء خفية- ويكفّر عن خطاياك.

4- يا نفسي الجزعة! لقد اقتنعتِ قناعة تامة -بمئات من تجاربكِ- أن المصائب الظاهرية ونتائجها تنشق عن ثمرات عناية إلهية في منتهى اللذة. فالآية الكريمة: ﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْۚ﴾ (البقرة:216) تلقن درسَ حقيقةٍ يقينية. تَذكّري دائماً هذا الدرس القرآني. ثم إن الناموس الإلهي الذي يدير عجلة الكون، ذلك القانون القدري الواسع العظيم لا يُبَدَّل لأجلك.

5- اتخذي هذا الدستور السامي دليلاً: «من آمن بالقدر أمِنَ من الكدر». ولا تلهثي وراء لذائذ موقتة تافهة كالطفل الغرير. فكري دوماً أن الأذواق الفانية تورث فيك حسرات وآلاماً معنوية، بينما الآلام والمشقات تورث لذائذ معنوية وأثوبة أخروية. فإن لم تكوني بَلْهَاءَ، يمكنك أن تتحري عن الأذواق الموقتة للشكر وحده، وما أُعطيتِ اللذاتِ إلّا للشكر.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[حوار مع النفس]

إخواني الأوفياء الصادقين الأعزاء!

أولا: لقد خطر على بالي أن أكتب لكم، لأُطْلعكم على ما جرى من مناظرة خاصة مع نفسي، وهي الآتية:

إن اللوحة المعلقة فوق رأسي -المعروفة لديكم- تُخرس نفسي الأمارة وتُلزمها الحجة تماما، ولكني -في هذه الليلة- تعرضت لهجوم شنته دوافعُ مشاعري وأحاسيسي العمياء التي تستعمل سلاح النفس الأمارة بالسوء بإصرار أكثر، فأثّرت تأثيرا بالغا في عروقي وأعصابي، وأنا أعاني من حالة عجيبة تولدَت من آلام الأمراض وتألمات التسمم والأسقام ورهافة الحس، فضلا عن إلقاءات الشيطان وإيحاءاته، وحبّ الحياة المغروز في الفطرة.. ففي خضم هذه الحالات هاجمتْ تلك الأحاسيسُ والمشاعر العمياء -وهي في حكم النفس الأمارة الثانية- قلبي وروحي، موحيةً باحتمال وفاتي ومغادرتي الحياة الدنيا. فنشرتْ يأسا قاتما وتألُّما عميقا وحرصا شديدا على الحياة مع استمراءٍ لها وتلذذ بها.

فقالت تلك النفس الأمارة الثانية مع الشيطان:

لِمَ لا تسعى لراحة حياتك؟ بل ترفضها. ولِمَ لا تتحرى عن حياة ممتعة بريئة طيبة تقضيها طوال عمرك ضمن دائرة النور؟ بل ترضى بالموت وتطلبه!

وعلى حين غرة ظهرت حقيقتان صارمتان أخرستا النفس الأمارة الثانية والشيطان معا، وهما:

الحقيقة الأولى:

ما دامت الوظيفة المقدسة الإيمانية لرسائل النور ستتوضح أكثر وتنكشف بإخلاص أزيد بسبب وفاتي. حيث لا تُتّهم من أية جهة كانت أنها أداة لمكاسب الدنيا ووسيلة للأنانية والعجب.. وأن الوظيفة الإيمانية ستدوم بإخلاص أكثر وأقرب إلى الكمال، إذ ليس هناك ما يثير حسد الحاسدين في حياتي الشخصية… وعلى الرغم من أن بقائي على قيد الحياة قد يتيح نوعا من المعاونة في سير الخدمة -خدمةِ الإيمان والقرآن- فإن شخصيتي البسيطة التي لها حسّاد ونقّاد لهم شأنهم يمكنهم أن يُلصقوا تُهَما على تلك الشخصية ويهاجموا -بعدم الإخلاص- رسائلَ النور، ويتجنبوها ويجنّبوا الآخرين عنها… ثم إن من يقوم بشيء من الحراسة في دائرة، إذا ما أخذته الغفوةُ وغلب عليه النوم، فالغيورون في تلك الدائرة النورانية يهبّون حذرين، فيبرز في الميدان أُلوفُ الحراس والمرابطين بدلا من حارس واحد بسيط…

لذا ولأجل ما سبق؛ ينبغي أن يقال للموت المقبل: أهلا ومرحبا.

ثم يا نفسي! لِمَ تريدين أن تتخلفي عن الكثيرين من طلاب النور في البذل والعطاء، ألم يبذلوا أموالَهم وراحتهم ومتع الدنيا كلها، بل حياتهم -إن استوجب الأمر- في سبيل خدمة النور؟!

اعلمي قطعا يا نفسي! أنه لَشرف عظيم في منتهى اللذة والرضى، توديعُ حياة الشيخوخة الفانية المرهقة -إن لزم الأمر أو آن أوانه- في سبيل إكساب حياة باقية لكثير من المنكوبين وإنقاذها برسائل النور لئلا تُفضي إلى العدم.

الحقيقة الثانية:

لو وضعت عشرة أرطال من الحِمل على كاهل شخص ضعيف عاجز عن حَمل رطل واحد، واستعان به أصدقاؤه بدل أن يعينوه في حمله -لحسبانهم أنه ذو قوة وقدرة على الحَمل لخفاء ضعفه عليهم- فسوف يحاول ذلك الشخص الضعيف أن يُظهر نفسَه لهم بمظهر القوي جدا، لئلا يَسقط في نظرهم ولئلا يخيب حُسن ظنهم به، مما يؤدي به إلى التكلف والتصنع والظهور بما ليس فيه وأمثالِها من الأمور الثقيلة المقيتة الخالية من الذوق.

فكما أن الأمر هكذا في هذا الشخص، كذلك يا نفسي الأمارة الثانية الموغلة في أعماق المشاعر العمياء!

اعلمي أن شخصيتي الاعتيادية البسيطة هذه، واستعدادي الذي لا أهمية له، كالبذرة.. إن هذا الشخص لن يكون مصدرا ولا منبعا ولا مدارا للحقائق التي تتضمنها رسائل النور النابعة من صيدلية القرآن الكريم المقدسة، والتي سُلّمت إلى أيدينا برحمة منه تعالى وبفضله وعنايته سبحانه في هذا العصر المظلم المثقل بالأمراض والأسقام.

وحيث إنني فقير وضعيف عاجز، وسائلٌ لدى باب القرآن ليس إلّا، ووسيلةٌ لإبلاغه إلى المحتاجين إليه، يبالغ طلابُ النور المخلصون الخالصون الصديقون الصادقون الأصفياء الفدائيون، في حسن ظنهم بشخصيتي الضعيفة، بما يفوقني مائة درجة.

فلأجل ألّا أخيّب ظنهم الحسن، ولا أمس مشاعرهم بسوء، ولا أثبِّط شوقهم للأنوار، ولا أُظهر المستوى الواطئ لمن لقّبوه بالأستاذ، ولا أضطر إلى أنواع التصنع المؤلم والتكلف المقيت.. أترك لقاء الناس بل أضطر إلى تركه روحيا، لما أشعر به من نفور تولد من العيش الانفرادي طوال عشرين سنة، بل أترك حتى اللقاء مع الأصدقاء إلّا ما يخص خدمة النور. فأدَع التكلف والتظاهر بما يفوق قيمتي الشخصية، وأترك إظهار نفسي أمام المغالين في حسن الظن، إنها ذات مقام، وأتخلى عن التكبر المنافي كليا للإخلاص، وأعاف التحري عن أذواق الأنانية المتسترة تحت ستار الوقار..

فيا نفسي المفتونة بتلك الأذواق، ألا تُزيل هذه الحالاتُ تلك الأذواقَ كلها؟!

يا نفسي! ويا دواعي الحس الشقية العمياء، المبتلاة بالأذواق!

لو استمتعتِ بألوف أصناف المتع، وتذوقتِ ألوف أنواع الأذواق الدنيوية، فهي إلى زوال في هذا الوضع، بل يتحول ذلك الذوق ألما بعينه.

وما دام تسعون بالمائة من الأحباب الذين مضوا وصاروا في طوايا الماضي كأنهم يستدعونني -بل حقيقة- إلى عالم البرزخ، أضطر إلى الفرار من عشرة أصدقاء حاليين. ولا جرم أن حياة البرزخ المعنوية تَفضل ألف مرة هذه الحياة، حياة الشيخوخة والانفراد.

وهكذا، أسكتت هاتان الحقيقتان إسكاتا نهائيا تلك النفسَ الأمارة الثانية. فلله الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر. إذ رضيتْ تلك النفس بالذوق الوارد من الروح والمنبعث من القلب.. وسكت الشيطان أيضا. بل حتى المرض المادي المتوطن في عروقي قد خفّ كثيرا.

حاصل الكلام: إذا متُ تزداد خدمة النور -للقرآن والإيمان- وتتوضح وتتبين بإخلاص أتمَّ، بلا حسّاد ولا اتهامات، فضلا عن النجاة من آلام التكلف الثقيلة المقيتة، والخلاصِ من أثقال العجب وأضرارِ التصنع بدلا من ذوق جزئيّ موقت لا أتحراه -في هذا الزمان- ولذةٍ ناشئة من رؤية فتوحات النور بنظر الدنيا.

ثم يا نفسي لقد تجولتِ -أنت والروح والقلب- في هذه السنة ولمرة واحدة في أرجاء الماضي، جولات حقيقية وخيالية لمشاهدة مَن تشتاقون إليه من المدن التي أمضيتُ فيها حياتي السابقة الممتعة، ولقاءِ الأحبة الذين أَنِسْتُ بهم ردحا من الزمن، والإخوانِ الذين حزنتِ على فراقهم حزنا أليما. فلم تشاهدي في أوطاني المحبوبة تلك إلّا واحدا أو اثنين من الأحبة، أما الباقون فقد ارتحلوا إلى عالم البرزخ، فلقد تبدلتْ لوحاتُ تلك الحياة التي كانت تطفح باللذة والمتعة إلى لوحات أليمة تقطر الحزن والأسى، فلا تُراد تلك البقاعُ الخالية من الأحباب ولا تُطلب إذن!

لذا فقبل أن تطردنا هذه الحياةُ وهذه الدنيا قائلةً لنا: اخرجوا عني. نقول بعزة كاملة: الوداع، وفي أمانة الله وحفظه. نعم، هكذا ينبغي أن ندَع هذه الأذواق الفانية محتفظين بكرامتنا وعزتنا.

ألف ألف سلام ودعاء لجميع إخواننا، من أخيكم المريض والمسرور سرورا خالصا.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] الثابت قطعاً بمشاهدة بعض أهل الكشف من الأولياء. (المؤلف)

 

رسائل متفرقة (4)

 [حول صلاة الجنازة]

إن المقصود من الآية الكريمة: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلٰٓى اَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ اَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلٰى قَبْرِه (التوبة:84) هم أولئك المنافقون المعروفون بالنفاق قطعا في ذلك الوقت. لذا لا يمكن عدم صلاة الجنازة بناء على الظن بالنفاق. إذ لمّا كان ينطق بـ«لا إله إلا الله» فهو إذن من أهل القبلة فيُصلّى عليه إن تاب عن فعله ولم ينطق بكفر بواح.

ولوجـود العلويين بكثرة في تلك القريـــة «على كوي» والتحاقِ قســم منهم بالرافضة. يلزم ألّا يدخل أحدُهم ضمن حقيقة المنافقين، لأن المنــافق لا إيمان لــه، ولا قلب لــه يخفق بالإيمان، ولا ضمير له يتحرك، ويعادي النبي ﷺ كما هــو الحال لــدى زنادقة الوقت الحاضر.

أما الغلاة من العلويين والشيعة، فلا يضمرون العداء للنبي ﷺ بل يكنّون حبا مفرطًا لآل البيت. فهم يُفْرطون مقابل تفريط المنافقين في حبهم. وعندما يتجاوزون حدود الشريعة لا يكونون منافقين بل فسّاقا من أهل البدع، فلا يدخلون ضمن زمرة الزنادقة ما لم يتعرضوا للخلفاء الراشدين الثلاثة: «أبي بكر وعمر وعثمان» الذين رضي بهم بل عاونهم سيدُنا علي رضي الله عنهم أجمعين. ويكفي أن يحترموهم كما كان سيدُنا علي يحبّهم، ويؤدوا الفرائض.

ثم إن أعظم أستاذ لطلاب رسائل النور بعد الرسول الأعظم ﷺ هو سيدُنا علي رضي الله عنه. لذا إن لم يستمع الشيعة والعلويون -الذين يدْعون إلى محبته- إلى رسائل النور أزيدَ من أهل السنة فإن دعوى محبتهم لآل البيت ليس في محلها.

ولقد سمعتُ -قبل سنتين- استنساخ الصبيان الأبرياء لرسائل النور في تلك القرية، بهمة جادة لإخوتنا الثلاثة هناك وبشوقهم العظيم. فأدخلتُ تلك القرية برمّتها ضمن دعواتي. فتلك الدعوات التي دعوتها بحق تلك القرية لن تذهب هباءً بفضل الله ثم بفضل مساعي إخواننا هناك. وسيتفق أهلُ السنة والعلويون هناك.

* * *

[ زواج الخواص]

يسأل أخونا صلاح الدين عن مسألة خاصةٍ به، وهي رغبتُه في الزواج والدخول في الحياة الدنيوية والاجتماعية. فما دام أنه من خواص طلاب النور فلا يمكنه الزواج إن كان فيه ما يضر العمل لرسائل النور، ولكن إذا علم أنه يستطيع أن يجعل صاحبتَه مُعينة له في العمل -كما هو لدى بعض إخوتنا الخواص- فله أن يتزوج. ذلك لأن حياة الطلاب الخواص تخصّ رسائل النور، وهي مقيّدة بما يراه الشخص المعنوي لطلاب النور. وإن كانت مقرونة بموافقة الوالدين فهو أفضل ولا يضر بإذن الله.

* * *

[موقع الكرامات في الرسائل]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

إخوتي الأعزاء الصديقين!

لقد أُخطر على قلبي أن أُبيّن لكم أربع مسائل:

أولاها: جواب عن سؤال يرد بلسان الحال والمقال ومن حالات مختلفة ومظاهر متباينة. فيُقال: مادامت رسائل النور ذات كرامة، وتورث قارئيها رقيّا في انكشاف حقائق الإيمان أكثر مما تورثه الطرقُ الصوفية، بل إن قسما من طلابها الصادقين هم أولياء صالحون من جهة، فلماذا لا تُشاهَد فيهم مظاهرُ وأذواق روحية وكشفيات معنوية وكرامات مادية ملموسة كالأولياء، فضلا عن أنهم لا يهتمون بمثل هذه الأمور ولا يتعقبونها. فما الحكمة في هذا؟

الجواب:

أولا: سببُه سرُّ الإخلاص؛ إذ إن الأذواق والكرامات المؤقتة في الدنيا تصبح مقصودة بالذات لدى أولئك الذين لم يتمكنوا من قهر نفوسهم الأمارة بالسوء، وتغدو لديهم هذه الأذواق داعيةً للقيام بأعمالهم الأخروية. وهذا مما يفسد الإخلاص، لأن الأعمال الأخروية لا يُتحرى فيها مقاصد دنيوية ولا يُسأل فيها عن أذواق. بل لو طُلبتْ فيها تلك الأذواق لفسد الإخلاص.

ثانيا: إن الكرامات والكشفيات إنما هي لبث الثقة في نفوس السالكين في الطريقة من الناس العوام الذين يملكون إيمانا تقليديا ولم يبلُغوا مرتبة الإيمان التحقيقي، وهي أحيانا لتقوية الضعفاء ممن تُساوِرُهم الشكوكُ والشبهات. بينما الحججُ التي تسوقها رسائل النور فيما يخص حقائق الإيمان لا تَدَع مجالا -في أية جهة كانت- لدخول الشبهات والأوهام، كما لا تدع داعيا للكرامات والكشفيات لتطمين القلب والاقتناع. فالإيمان التحقيقي الذي تمنحه الرسائل هو أرفع بكثير من الكرامات والكشفيات والأذواق، لذا لا يَتحرى طلاب رسائل النور الحقيقيون أمثالَ هذه الكرامات.

ثالثا: إن أساسا من أسس رسائل النور هو معرفة الشخص بقصوره في قرارة نفسه، والاندفاعُ إلى خدمة الإيمان بتفانٍ ابتغاء مرضاة الله وحده دون الالتفات إلى الآخرين.

بينما الاختلاف الموجود فيما بين أهل الطريقة من أصحاب الكرامات والمتلذذين من الكشفيات ووجودُ شيء من الحسد والمنافسة فيما بينهم، ولاسيما في هذا العصر الذي عمّت فيه الأنانية والغرور -كل ذلك- ساق أهلَ الغفلة إلى إساءة الظن بأولئك الطيبين المباركين واتهامِهم بأنهم أنانيون.

ومن هنا نرى لماذا لا يسأل طلاب النور الكراماتِ والكشفياتِ لشخصهم ولماذا لا يلهثون وراء تلك الأمور، وكيف أن هذا الطَّور هو الألزم لهم والأوجب عليهم.

ثم إن في مسلك رسائل النور لا تُعطَى الأهميةُ للشخص؛ حيث يكتفي الجميع بما نالت رسائلُ النور -من حيث المشاركة المعنوية والفناء في الإخوان- من آلاف الكرامات العلمية ومن يسر في نشر الحقائق الإيمانية، وبما يجد أولئك الطلاب من بركة في معايشهم.. وأمثالها من الإكرامات الإلهية.. لذا لا يفتشون عن كمالات وكرامات أخرى شخصية.

رابعا: من المعلوم أن مئات من رياض الدنيا لا توازي شجرة من أشجار الجنة، وذلك لأن الأولى فانية والثانية خالدة.

وأن أحاسيس الإنسان الماديةَ هي أحاسيس مطموسة تُعجبها اللذة العاجلة، فتفضّل ثمرةً حاضرة على روضةٍ آجلة من رياض الجنة الباقية، لهذا لا يسأل طلاب النور الأذواقَ الروحانية والكشفيات المعنوية في الدنيا. فلا تَستغل النفسُ الأمارة هذه الحالَةَ الفطرية في الإنسان.

وشبيه بحالة طلاب النور هذه ما يُحكى: أن وطأة العيش قد اشتدت على رجل صالح من الأولياء وعلى زوجته التقية الورعة وكان لهما مقام عند الله. ولكن شدة ما ألمّ بهما من الضرورة أَلجأتِ الزوجةَ الصالحةَ أن تقول لزوجها:

– إن حاجتنا لشديدة!

وإذا بهما يريان لبنة من ذهب خالص أمامهما.

فقال الزوج لزوجته: هذه لبنة قد أُرسلت إلينا من قصرنا في الجنة.

فانبرت له زوجته الصالحة قائلة: مع أن الفاقة قد أنهكتنا ونعاني من شظف العيش ما ترى ولنا في الجنة كثير من مثل هذه اللبنة، ولكن أخشى أن نضيع لبنة الجنة في دنيا فانية. فأرجو يا زوجي العزيز أن تتضرع إلى المولى الكريم ليعيد اللبنةَ إلى موضعها في الجنة، فنحن في غنى عنها. وإذا بهما يريان -كشفاً- عودةَ اللبنة إلى موضعها.

هكذا تُروى الحادثة.

فهذان الرائدان من أهل الحقيقة، إنما يمثلان نموذجا جيدا وقدوة حسنة لطلاب النور في عدم سعيهم وراء الأذواق والكرامات في الدنيا.

* * *

[ما تقتضيه الأبوة والبنوة]

لقد سُررتُ غايةَ السرور بالرسائل الجميلة الخالصة القادمة من إخواننا في مدينة «إينبولي» وما جاور تلك المدينة التي أخذت عنوانَ «إسبارطة الصغيرة» في وقت ما، وعانت أكثر من أية مدينة أخرى مصيبةَ السجن في قضيتنا السابقة. إلّا أنني قَلِقٌ على عدم الانسجام الحاصل بين الوالد والولد انسجاما تاما للاختلاف بين مشربيهما، وهما بَطَلَانِ من أبطال النور، فالولد لابد له من كسبِ رضا الوالد حتى لو كان والدُه غير محق، وعلـى الوالد ألّا يحرم ولدَه من رأفته وإن كان عاقا به، وحتى لو كان البون بين الولد والوالد بعيدا، بل لو كانا عَدُوَّينِ، فلأجل رسائل النور والإيثار الموجود فيما بين طلاب النور، وعدمِ انتقاد بعضهم البعض الآخر والتجاوز عن تقصيراته، وأمثالها من دساتير رسائل النور تُلجئهم إلى المصالحة. فكيف بمثل هذا الوالد والولد الحاملَين للخصال الحميدة والسجايا الراقية وهما من المتقدمين في صفوف طلاب رسائل النور. فعلى أخويّ هذين ألّا يجعلا أمورا دنيوية جزئية عاطفية موضعَ مناقشة. وعليهم أن يتحلَّوا بما تقتضيه الأبوة والبنوة من الاحترام والرحمة فضلا عما يقتضيه التتلمذ على رسائل النور من الصفح وغضّ النظر عن الأخطاء، فعلى أخويّ الحبيبين عندي حبا جما أن يتركا نقد بعضهما البعض الآخر مراعاة لخاطري.

* * *

[ميزان القناعة والحرص]

إخواني الأوفياء الصادقين!

سؤال: إنك لا تريد أن ترتبط بعلاقة -خارج دائرة النور- مع الذين يُحسنون الظن كثيرا بشخصك بالذات ويمنحونك مقاما عظيما، رغم أنهم وثيقو الصلة بـرسائل النور وتتبادل معهم المحبة، بل تفضل المجالسة والمحاورة مع مَن لا يفرط في حسن الظن بشخصك، فتنبسط لهم وتنشرح وتبدي لهم من المحبة والإكرام أكثر من أولئك. فما السبب؟.

الجواب: لقد ذَكرنا في المكتوب الثاني من الكلمة الثالثة والثلاثين: أن الناس في زماننا هذا يبيعون إحسانهم إلى المحتاجين بثمن غالٍ، فمثلا؛ يقدّم لي رغيفا من الخبز مقابلَ دعاء مستجاب، ظنا منهم أنى رجل صالح. فإحسانٌ كهذا وبهذا الثمن الباهظ لا أُريده. وقد بيّنتُ هذا سببا من أسباب ردّ الهدايا. فالناس من غير طلاب النور الحقيقيين يظنونني ذا مقام عظيم، فيُبدون علاقة قوية نحوي، واستعدادا للخدمة، ولكن يطلبون عوضها نتائج نورانية في الدنيا -كما هو لدى الأولياء- فيحسنون إليّ إحسانا معنويا بخدماتهم وعلاقاتهم. ولما كنت عاجزا عن أن أكون مالكا لما يطلبونه من ثمن تجاه هذا النوع من الإحسانات المعنوية من أمثال هؤلاء، أظل خَجِلا منهم، وهم بدورهم عندما يرون أنى لستُ على شيء، يخِيبُ ظنُّهم بي، وربما يفتُرون عن الخدمة.

وحيث إن الحرص في الأمور الأخروية والاستزادةَ منها مقبول -من جهةٍ- إلّا أنه في مسلكنا، وفي خدمتنا، قد يكون لبعض العوارض سببا للشكوى واليأس بدل الشكر، إذ قد يقع الحريص في خيبة الظن من عمله، لعدم رؤيته نتائجه. بل ربما يدَع خدمة الإيمان. لذا فنحن مكلفون في مسلكنا بالقناعة، وعدم الحرص على نتائج الخدمة وثمراتها على الرغم مما نبديه من حرص شديد وطلب المزيد في أمور الخدمة ضمن الإخلاص، وذلك لأن القناعة في النتائج تورث دائما الشكر والثبات والصلابة.

فمثلا: إن ما نراه من حصيلة خدمتنا وجهودنا في ترسيخ الإيمان وتحقيقه في قلوب ألوف المؤمنين -حوالي ولاية إسبارطة- لَكافٍ لخدمتنا هذه، بحيث لو ظهر مَن هو بمرتبة عشرة أقطاب من الأولياء الصوفية، واستطاع سَوقَ ألفٍ من الناس إلى مراتب الولاية، فإن عمله هذا لا ينقص من أهمية عملنا وقيمتهِ ولا من ثمراته شيئا. لذا فإن طلاب رسائل النور الحقيقيين واثقون كلّ الثقة ومطمئنون كلّ الاطمئنان بمثل هذه النتائج وحصيلةِ الأعمال هذه، إذ إن القناعة القلبية لدى مريدي ذلك القطب العظيم يحققها ويَضمَنُها المقامُ الرفيع لأستاذهم ومرشدهم، ويضمنها أحكامه في المسائل، إلّا أن رسائل النور تنشئ لدى طلابها درجةً من القناعة أكثر بكثير مما عند مريدي ذلك القطب العظيم، بما فيها من حجج قاطعة تسري إلى الآخرين فتنفعهم أيضا، بينما تبقى قناعةُ أولئك المريدين خاصة بهم وحدهم. إذ إن قبول أقوال الأشخاص العظام بغير دليل لا يفيد اليقين والقطعية -في علم المنطق- بل ربما تكون قضية مقبولة يقتنع بها الإنسانُ بالظن الغالب. أما البرهان الحقيقي -كما هو في المنطق- فلا يَنظر إلى مكانة الشخص القائل وإنما إلى الدليل الذي لا يُجرَح.

فجميعُ حجج رسائل النور هي من هذا القسم، أي من «البرهان اليقيني»، لأن ما يراه أهلُ الولاية من الحقائق بالعمل وبالعبادة وبالسلوك وبالرياضة الروحية، وما يشاهدونه من حقائق الإيمان وراء الحجُب، فإن رسائل النور تشاهدها مثلهم أيضا، إذ شقّت طريقا إلى الحقيقة في موضع العبادة ضمن العلم، وفتحت سبيلا إلى حقيقة الحقائق في موضع السلوك والأوراد ضمن براهين منطقية وحجج علمية، وكشفت طريقا مباشرا إلى الولاية الكبرى في موضع علم التصوف والطريقة ضمن علم الكلام وعلم العقيدة وأصول الدين؛ بحيث انتصرت على الضلالات الفلسفية التي تغلّبت على تيار الحقيقة والطريقة في هذا العصر. والشاهد هو الواقع.

وكما أن حقيقة القرآن -التي هي في منتهى القوة وسدادِ المنطق- قد نجّت سائرَ الأديان من صولة الفلسفة الطبيعية وتغلّبها عليها، وأصبح القرآنُ نقطةَ استناد لتلك الأديان حتى حافظت -إلى حدٍّ ما- على أصولها التقليدية والخارجة عن العقل؛ فـرسائل النور كذلك -ولا مشاحة في الأمثال- وهي معجزةٌ من معجزات القرآن الكريم ونور مفاض منه في هذا الزمان، قد حافظت على الإيمان التقليدي لدى عوام المؤمنين من صولة تلك الضلالة العلمية المخيفة الناشئة من الفلسفة المادية، وأصبحت نقطةَ استناد لأهل الإيمان كافة، وفي حكم قلعة حصينة لا تُقهر للمؤمنين كافة القاصي منهم والداني على السواء، بحيث إنها تحفظ أيضا -في خضم هذه الضلالات الرهيبة التي لا نظير لها- إيمانَ عوام المؤمنين من أن تَرِدهم شبهاتٌ على إيمانهم وتُطفئ الشبهات الواردة على إسلاميتهم.

نعم، إن أيّ مؤمن كان في أية بقعة من أرجاء العالم، حتى في الهند والصين، ما إن تساوره شبهةٌ من جراء ظهور الضلالة الرهيبة في هذا العصر العجيب حتى يتساءل:

تُرى هل في الإسلام شيءٌ من باطل حتى آل أمرُه إلى هذا؟ إذا به يسمع ويدرك أنه قد ظهرت رسالةٌ تثبت إثباتا قاطعا جميعَ حقائق الإيمان، وتَقهر الفلسفة، وتُخرس الزندقة، وإذا بتلك الشبهة تزول نهائيا فينقذ إيمانه ويقوى.

* * *

[لِمَ هذا الحشد من البراهين؟]

…….

ثانيا:

يسأل أخونا علي الصغير ذو الروح العالية، وهو بطل الميامين، وبمنـزلة عبد الرحمن ولطفي والحافظ علي سؤالا ورد جوابُه في مئات من المواضع من رسائل النور.

والسؤال هو:

لِمَ هذا الحشد الهائل من البراهين والأدلة حول أركان الإيمان في رسائل النور؟ فإن إيمان المؤمن العامي هو كإيمان الولي العظيم.. هكذا سمعنا من علمائنا السابقين.

فالجواب: إن مباحث المراتب الإيمانية المذكورة في رسالة «الآية الكبرى».. وكذا ما قاله مجدد الألف الثاني الإمام الرباني وقضى به: «إن أهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الإيمانية وانجلاؤها. وإن وضوح مسألة إيمانية واحدة وانكشافَها لهو أرجح من ألف من الكرامات». وكذا ما جاء في أواخر «الآية الكبرى» المستلهمة من الملاحق.. وكذا المسألة العاشرة من رسالة الثمرة التي تبين حكمة التكرار في القرآن الكريم وسببَ إكثاره من حشد البراهين حول أركان الإيمان ولاسيما التوحيد.. تلك الحكمة القرآنية جارية أيضا بتمامها في تفسيره الحقيقي: رسائل النور.. وهذا هو الجواب.

ثم إن أقسام الإيمان المتضمنة للإيمان التحقيقي والتقليدي والإجمالي والتفصيلي -وثبات هذا الإيمان أمام جميع الشبهات والهجمات الشـرسة التي يشنها الكفر- قد تولت رسائلُ النور إيضاحَها، فذلك الإيضاح لا يدَع لنا حاجة إلى مزيد للإجابة عن سؤال أخينا العزيز.

الجهة الثانية من المسألة:

إن الإيمان لا ينحصر في تصديقٍ إجمالي وتقليدي وحده، بل له انجلاءٌ ومراتب كثيرة جدا كالمراتب الموجودة بين البذرة النامية إلى الشجرة الباسقة، أو كالمراتب الموجودة بين انعكاس الضوء من المرآة الصغيرة في اليد إلى انعكاسه من سطح البحر، بل إلى انعكاسه من الشمس نفسها.

فإن للإيمان حقائق غزيرة جدا إذ ترتبط حقائقَ كثيرة لأنوار ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى، ولسائر أركان الإيمان بحقائق الكون. حتى اتفق أهلُ الحقيقة على أن أجلّ العلوم قاطبة وقمةَ المعرفة وذروة الكمال الإنساني إنما هو في الإيمان والمعرفة القدسية السامية المفصَّلة والمبرهَنة النابعة من الإيمان التحقيقي.

نعم، إن الإيمان التقليدي معرّضٌ لهجمات الشبهات والأوهام؛ أما الإيمان التحقيقي فهو أوسع منه وأقوى وأمتن وله مراتب كثيرة جدا.

ومنها: مرتبة علم اليقين التي تقاوم الشبهات المهاجمة بقوةِ ما فيها من براهين. بينما الإيمان التقليدي لا يثبت أمامَ شبهة واحدة.

ومنها مرتبة عين اليقين التي تضم مراتب كثيرة جدا بل لها مظاهر بعدد الأسماء الإلهية حتى تَجعلُ الكون يتلو آيات الله كالقرآن الكريم.

ومرتبة أخرى منها هي مرتبة حق اليقين.. وهذه تضم مراتب كثيرة جدا؛ فصاحبُ هذا الإيمان لا تنال منه جيوشُ الشبهات إذا هاجمته.

ولقد أوضح علماءُ الكلام الطريقَ العقلي والمبرهن لتلك المعرفة الإيمانية، وذلك في ألوف من مجلدات مؤلفاتهم المستندة إلى العقل والمنطق.

أما أهل الحقيقة والتصوف فقد أوضحوا تلك المعرفة الإيمانية من جهة أخرى وبشكل آخر في مئات من كتبهم المستنِدة إلى الكشف والذوق.

أما المنهج القرآني المعجِز، ذلك المنهج الأقومُ فقد أوضح الحقائقَ الإيمانية والمعرفة الإلهية والمقدسة إيضاحا أرفع بكثير وأسمى بكثير وأقوى بكثير مما أوضحه أولئك العلماء والأولياء.

فرسائل النور إنما تفسر هذا المنهج القرآني الأقوم الجامع الرفيع. وبه تتصدى للتيارات الفاسدة المضلّة المدمرة والواردة على القرآن الكريم للإضرار -في سبيل عوالم العدم- بالإسلام وبالإنسانية منذ ألف سنة.

فلا ريب أنها -أي الرسائل- بحاجة ماسة إلى حشد براهين لا حد لها أمام أولئك الأعداء غير المحدودين، كي تتمكن من أن تكون وسيلة -بهذه البراهين المفاضة من القرآن- للحفاظ على إيمان المؤمنين.

فلقد ورد في الحديث الشريف: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم» وأن «تفكر ساعة خير من عبادة سنة». ولبلوغ هذا النوع من التفكر يُولي النقشبنديون أهميةً عظيمة للذكر الخفي.

سلامي على جميع إخوتي الأحبة فردا فردا، وندعو لهم جميعا بالخير.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[منع الذهاب إلى المسجد]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

منذ شهور والمكائد تُكاد ضدي، والآن تبيّنتْ، ولكن بفضل العناية الإلهية مرّت هيّنة.

كنت أتردد إلى المسجد في الأوقات الخالية. وصنع الطلاب -بدون علمي- في المحفل غرفة خشبية صغيرة لحمايتي من البرد. وقد قررت ألّا أذهب إلى المسجد، بعد أن رفع ضابط الأمن المعروفُ تلك الغرفة الصغيرة، وأبلغوني رسمياً: عليك ألّا تذهب إلى المسجد. ولكنهم أثاروا ضجة بين الناس باستهوالهم الأمر، جاعلين من الحبة قبة.

إن الحادثة لا أهمية لها إطلاقا فلا تقلقوا أبدا. إنني أخال أنهم يهينونني -بمثل هذه الحجج التافهة- لأجل الحدّ من توجّه الناس -من كل جهة- نحوي بما يفوق حدّي بكثير.

إنهم ينظرون إلى حياتي السابقة، فيتوقعون أنني لن أتحمل إهاناتهم. علما أنني لو أُهنت يوميا بألف إهانة وإهانة -بشرط ألا تُخل بسلامة نشر رسائل النور- وشدّوا عليّ الخناق، لشكرتُ الله كثيرا على ذلك.

فيا إخوتي، كما لم أهتم بهذه المسألة فالطلاب هنا أيضا لم يهتزوا.

ولقد مرت الحادثة -التي كنا نتوقعها- بسلام والحمد لله.

تحياتنا إلى كل أخ من إخواننا مع دعواتنا لهم.

* * *

[تثبيط الإخوة العاملين]

إخواني الأوفياء الصادقين الأعزاء!

لقد أُخطر على قلبي إخطارا معنويا قويا أن أكرر عليكم بيان مسألة في غاية الأهمية، رغم أنى قد بّينتُها لكم مجملا سابقا، وهي الآتي:

إن أعداءنا المنافقين الذين يعملون من وراء ستار قد جعلوا -كما هو دأبهم- دوائر العدل والسياسة والإدارة في الدولة أداةً طيعة للإلحاد الظاهر، فشنّوا هجمات علينا، لكن بفضل الله باءت مؤامرتهم بالإخفاق، وعقمت دسائسهم.

لذا تركوا خططهم السابقة التي سبّبت فتوحاتٍ لرسائل النور وبدأوا بحبك مؤامرات أشد خبثا ونفاقا من السابق بحيث يجعل الشيطان في حيرة منها، وقد ظهرت أمارات منها هنا.

إن أهم أساس في تلك الخطط الرهيبة؛ تثبيطُ إخواننا الطلاب الخواص الثابتين، وإلقاءُ الفتور في نفوسهم لدفعهم -إن أمكن- إلى التخلي عن رسائل النور. فاختلقوا أكاذيبَ وحاكوا دسائس يحار منها الإنسان، مما يحتّم ثباتا وصلابة ووفاءً خالصا صادقا متينا كالحديد، كما هو لدى أبطال إسبارطة. وقد يلبسون لبوس الناصح الصديق فينبثّون في صفوفكم، أو يشيعون الأوهام والمخاوف إن كان التخويف مُجديا، فيستعظمون أتفه الأمور كالحبّة ويجعلونها كالقبة العظيمة ويوصون الضعفاء: لا تتقربوا من سعيد، فهو مراقَب ومحاط بجواسيس الحكومة، ليدفعوهم إلى التخلي عن رسائل النور، بل حتى يسلطون فتيات يافعات على الطلاب الشباب لإثارة هوساتهم النفسانية!. ويبينون نقائصَ وضعفَ شخصي بالذات للأركان من طلاب النور، بجنبِ أشخاص ذوي دِين مشهورين من أهل البدعة قائلين لهم: «ونحن أيضا مسلمون. فليس الدين محصورا بمسلك سعيد». ويستغفلون السذج من أهل الدين والعلماء ويجعلونهم أداة للزندقة ونشر الإرهاب والفوضى. سيَخيب ظنُّهم و تبور خططُهم بإذن الله. قولوا يا إخوتي لأمثال هؤلاء السفلة:

نحن طلاب رسائل النور، وسعيد واحد مثلنا. وإن منبع رسائل النور وكنـزها وأساسَها هو القرآن الكريم، وقد أثبتت قدرَها وظهورها حتى على ألدّ الأعداء مع ما بذلوا من تدقيق وملاحقة طوال عشرين سنة. وإن مؤلفها وخادمها «سعيد» حتى لو اتخذ جبهة مضادة لها -والعياذ بالله- فلا يتزعزع وفاؤنا برسائل النور ولا تنحلّ علاقتنا الوثيقة بها. وبهذا النمط من الكلام تصدون الباب عليهم.

وعليكم الانشغال برسائل النور كتابةً وقراءةً قدر المستطاع مع عدم الاكتراث بالإشاعات المضخمة، والأخذ بالحذر التام كما هو دأبكم.

سلامنا على إخوتنا فردا فردا

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[لا نقاش مع العلماء]

إخوتي الأعزاء الأوفياء، ويا وارثيّ الميامين وكلائي الأمناء!

أولا: أبلّغكم يقينا أن عناية الرب سبحانه وتوفيقَه الصمداني مستمر بحقنا وبخدمة رسائل النور؛ فهناك تحت الأستار القبيحة ظاهرا نتائجُ في منتهى الجمال؛ فبدلا من ضرر واحد يلحق بنا يُنعَم علينا بمائة نفع ونفع. فلا ينبغي الاهتمام بالمضايقات العابرة والهزات الموقتة.

ثالثا: مع أنني أتضايق هنا كثيرا، إلّا أنني كلما فكرت في سعيكم المتواصل الذي لا فتور فيه، وتسلمت رسائلكم المسلية زالت تلك المضايقات، بل قد تتحول إلى أفراح ومسرات.

خامسا:.…..

إخوتي! عليكم بمنتهى الحيطة والحذر.. وإياكم إياكم أن تفتحوا باب النقاش مع العلماء. بل يجب التعامل معهم بالحسنى والمصالحة على قدر الإمكان، فلا تتعرضوا لغرورهم العلمي حتى لو كان أحدهم ميّالا إلى البدع ومستحدثات الأمور، لأن الزندقة الرهيبة تجاهنا، فيجب عدم دفع هؤلاء المبتدعين إلى صف الملحدين.

وإذا ما صادفتم علماءَ رسميين أُرسلوا إليكم خاصة، فلا تفتحوا باب النـزاع معهم، لأن اعتراضاتهم باسم العلم سيكون مستَنَدا بيد المنافقين.

أنتم تعلمون مدى الضرر الذي أحدثه الشيخ العالم في إسطنبول. فحاولوا قدر المستطاع أن تحوّلوه في صالح رسائل النور.

تحياتنا إلى إخواننا جميعهم فردا فردا.

* * *

[رحمة إلهية تحت المصائب]

ثانيا: إخوتي، إن معاونتكم لي عظيمة وظاهرة جدا، وذلك بجهتين:

أولاها: أن سعيكم المتواصل دون فتور في خدمة النور يُزيل جميع مصائبي وضوائقي، ويحوّلها إلى سرور وفرح.

ثانيتها: اعلموا يقينا أنه بدعواتكم يتحول ظلمهم المعذِّب إلى رحماتٍ ذات عناية ومصالح. ولم تبق لي شبهة في هذا قط، فمثلا: إن تخويفهم الناس مني وإلقاء الرعب في قلوب الموظفين لئلا يتقربوا مني، أنقذَني من كثير من الأخطاء والتصنّعات ومن حالات منافية للإخلاص ومن ضياع الوقت. فلقد أظهر القدرُ الإلهي بحقي العدالةَ الإلهية وعنايتَها ضمن ظلم البشر. وقياسا على هذا فما من مصيبة تنـزل بي إلّا وتحتها رحمةٌ إلهية. فإن انشغالهم بي فحسبُ يُنقذ مئاتٍ من رسائل النور ولو كان فيه ضرر واحد لي. ولذلك فيا إخوتي لا تقلقوا عليّ أبدا، حتى إنني كلما نويت الدعاء عليهم -لدى إهانتهم لي إهانة شديدة تجرح مشاعري جرحا أليما- فإن الموت الذي يُعدمهم، وتَعَرُّضَهم لعذاب القبر الذي هو سجن انفراديّ لهم، وما يَنتج من تلك الإهانة من المصالح لي والمنافع لخدمتنا.. كل ذلك يحول بيني وبين الدعاء عليهم فأتخلى عنه.

* * *

[عند سماع أخبار سيئة]

عندما يسمع ذلك الأخ أخبارا سيئة ليكن مثل والدي المرحوم «ميرزا» وليس مثل والدتي «نورية»؛ إذ عندما كانت تُنقل أخبارٌ سيئة إلى والدي ووالدتي، كأن يقول أحدُهم: إن ابنكم قد قُتل أو ضُرب أو سُجن، كان أبى يبتهج ويضحك كلما سمع مثل هذه الأخبار، ويقول: ما شاء الله… قد كبر إذن ابني حتى يُظهر بطولةً أو عملا عظيما بحيث يتكلم عنه الناس. أما والدتي فكانت تبكي بكاءً مرّا مقابل سرور والدي. ثم أظهر الزمان أن والدي كان محقا في كثير من الأحيان.

* * *

رسائل متفرقة (3)

[ما يستحق الفضول والاهتمام]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

ذُكر في المسألة الرابعة من رسالة الثمرة ما ملخصه:

إن سبب عدم تدخلي في الشؤون السياسية الدائرة في الأرض، هو أن وظيفة الإنسان ومهمته في تلك الدائرة الواسعة قليلة وصغيرة إلّا أنها تثير الفضول لدى المهتمين بها والمتلهفين إلى تتبع الأحداث. حتى إن الاهتمام بتلك الوظائف الثانوية تُنسيهم وظائفَهم الحقيقية الجليلة أو تدعها ناقصة مبتورة، فضلا عن أنها تورث الانحياز والميل إلى إحدى الجهات، وعندها لا يجد المرء بأسا من ظلم الظالمين في الجهة التي انحاز إليها، بل قد يرتاح إليه. فيكون عندئذٍ مشاركا لهم في الإثم.

فيا أيها الشقاة الذين يتلذذون من الغفلة المسكرة الناشئة من متابعة الحوادث الخارجية نتيجة الفضول والاهتمام!

لو كان الفضول والاهتمام وحب الاستطلاع المغروز في فطرة الإنسان هو الذي يدفعكم -من حيث الإنسانية- إلى هذا التتبع والاهتمام، وعلى حساب الوظائف الجليلة الضرورية المفروضة. نعم، لو قلتم: إن هذه أيضا حاجة فطرية معنوية. فأنا أقول:

كما أن الإنسان يُثار لديه الفضول وحب الاستطلاع عندما يشاهد إنسانا ذا رأسين أو ذا ثلاثة أرجل، بينما لا يهتم بخلق الإنسان السوي الحافل بالمعجزات ولا يُنعِم النظر فيه؛

كذلك الحوادث الجارية في البشرية تلفت نظرَ الإنسان إليها حيث تغطي مساحة واسعة من الأخبار، بينما هي حوادث فانية موقتة بل مدمّرة في هذا العصر. علما أن هناك مائة ألف أمة وأمة من أمثال نوع البشر تعيش معه على سطح الأرض. فلو راقبنا مثلا أمةً واحدة منها في فصل الربيع ولتكن النحل أو العنب لرأينا أنفسنا أمام معجزات عظيمة جدا تستحق أن تُلفت إليها الأنظارُ أكثر مما تستحقه تلك الحوادثُ البشرية بأضعافِ أضعافِ المرات. بل هي تُحرِّك الفضولَ والاهتمامَ -لدى إنعام النظر فيها- وتورث الإنسانَ لذائذ روحية وأذواقا معنوية.

لذا فليس صحيحا ألّا يُعبأ بتلك اللذائذ المعنوية الحقيقية وأن تُترك، وأن تُلتفَت إلى حوادث بشرية مضرة شريرة عرَضية غير أصيلة، ومن ثم يلصق بها عقلا وروحًا، ويبذل الاهتمام البالغ بها.

نعم، لا يصح ذلك قطعا إلّا إذا كانت الدنيا خالدة أبدية، وتلك الحوادث دائمة مستمرة، والضر والنفع يأتيان منها، والقائمون بها لهم القدرة على الإيجاد والخلق.. والحال أن تلك الحالات حالات طارئة مضطربة عابرة كهبوب الرياح، وتأثير المسبّبين فيها تأثير عرضي غير حقيقي فضلا عن أنه جزئي. أما منافعها وأضرارها فلا تأتي من الشرق ولا من البحر المحيط، بل ممن هو أقرب إليك من حبل الوريد، وممن يحول بين المرء وقلبه، وممن يربّيك ويدبر شؤونك.. ذلك الرب الجليل.. أليس من البلاهة ألّا تهتم بربوبيته وحكمته؟

وإذا ما نظرنا إلى المسألة من زاوية الإيمان والحقيقة رأينا أن اهتماماتٍ من هذا القبيل تولد أضرارا جسيمة، إذ تدفع الإنسان إلى ميدان فسيح لا ضوابطَ له حتى تورثه الغفلة فتغرقه في أمور الدنيا وتنسيه واجباته الحقيقية نحو الآخرة.

ولا شك أن أوسع دائرة من تلك الدوائر الواسعة هي السياسة وأحداثها. ولاسيما الحوادث العامة كالحرب، فإنها تغرق القلب في الغفلة بل تخنقه خنقًا، حتى لا يمكن إنقاذه إلّا بإيمانٍ ساطع كالشمس يَقدر على مشاهدةِ أثرِ القَدَر الإلهي والقدرة الربانية في كل شيء، في كل حال، في كل حركة وسكون، كي لا يغرق القلب في ظلام دامس من الظلمات ولا ينطفئ نورُ الإيمان الوهاج ولا يزل العقل إلى مفهوم الطبيعة والمصادفة.

ومن هنا نرى أن أرباب الحقيقة يحاولون تناسي دائرة الكثرة بلوغا إلى الحقيقة ووجدان طريقٍ إلى معرفة الله. وذلك لئلا يتشتت القلبُ والاهتمام والذوق والشوق، وليصرفوها جميعا إلى ما يلزم لا إلى ما لا يلزم من الفانيات.

ومن هذا السر الدقيق لا يكون قسمٌ من السياسيين -على الأغلب- على تقوى كاملة، ولا يكون الذين هم على تقوى وصلاح تام سياسيين، ما خلا الصحابة الكرام وأمثالهم من المجاهدين من السلف الصالحين. بمعنى أن الذين اتخذوا السياسة هدفا لهم يأتي الدين لديهم في المرتبة الثانية ويكون حكمُه حكمَ التابع. أما المتديّن حق التدين فيرى العبودية لله تعالى أعظم غايته في الكون، فلا ينظر إلى السياسة نظرَ العاشق الولهان، بل ينظر إليها -حسب مرحلتها- في المرتبة الثانية والثالثة ويستطيع أن يجعلها أداة طيعة للدين والحقيقة. إذ بخلافه يهوّن من قيمة الألماس الثمينة إلى قطع زجاجية تافهة.

حاصل الكلام: كما أن السُكْر يولّد لذة مشؤومة، ولفترة قصيرة حيث ينسي السكران الآلام الناشئة من عدم أدائه الوظائف الحقيقية والحاجات الضرورية، كذلك الاهتمام الجادّ بهذه المعارك والحروب الطاحنة والحوادث الفانية هو نوع من السُكر بحيث ينسي الإنسانَ حاجته إلى المهمات الحقيقية والآلام الناشئة من جراء القيام بها، ينسيه موقتا، مانحا لذة مشؤومة، أو يقذف به في يأس مدمّر مخالفًا للأمر الإلهي في قوله تعالى: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّٰهِ (الزمر:53) وعند ذاك يكون ممن يستحق التأديب والعقاب بالزجر الإلهي الشديد: ﴿وَلَا تَرْكَنُٓوا اِلَى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ (هود:113) وذلك لمشاركته طوعا وضمنا في ظلم الظالمين. فينال جزاءه الذي يستحقه في الدنيا والآخرة.

* * *

[إنقاذ الإيمان أعظم إحسان في هذا الزمان]

إخوتي الأعزاء الصادقين!

إن أعظم إحسان أعدّه في هذا الزمان وأجلّ وظيفة، هو إنقاذ الإنسان لإيمانه والسعي لإمداد إيمان الآخرين بالقوة. فاحذر يا أخي الأنانية والغرور، وتجنَّب من كل ما يؤدي إليهما، بل ينبغي لأهل الحقيقة في هذا الزمان نكران الذات، ونبذ الغرور والأنانية، وهذا هو الألزم لهم، لأن أعظم خطر يتأتى في هذا العصر، إنما يتأتي من الأنانية والسمعة، فعلى كل فرد من أفراد أهل الحق والحقيقة أن ينظر إلى تقصيرات نفسه ويتهمها دائماً ويتحلى بالتواضع التام.

إنه لمقام عظيم حفاظُكم ببطولة فائقة على إيمانكم وعبوديتكم لله، تحت هذه الظروف القاسية.

نعم، إن رسائل النور لم تنهزم تجاه جميع الهجمات الشرسة في هذا العصر، بل أرغمتْ رسمياً أعتى المعاندين لها على قبول نشرها. حتى إنه منذ سنتين وبعد إجراء التدقيقات صدّق المسؤولون الكبار وذوو المناصب الرفيعة في وزارة العدل على إطلاق حرية نشر رسائل النور فأعادوا الرسائل العامة والخاصة لأصحابها.

إن مما يُثبت أن رسائل النور معجزة معنوية للقرآن الكريم في هذا العصر هو عدم انهزام مسلك رسائل النور -كسائر المسالك والطرق الصوفية- بل انتصاره وإدخاله الكثيرين من أهل العناد إلى حظيرة الإسلام، والشهود على ذلك حوادث كثيرة جداً. ولقد أقنعتنا الحوادثُ أنه لن تكون خدمة الدين خارجَ دائرة رسائل النور خدمةً كاملة -في الأغلب في هذه البلاد- حيث هو عمل خاص جزئي وحيد وشخصي أو مستتر منهزم، أو متساهل مع البدع ضمن تحريفات بتأويلات فاسدة.

ما دمتَ يا أخي تملك همة عالية وقوة راسخة من الإيمان، فكن طالباً لرسائل النور واستمسك بها بإخلاص تام وتواضع تام وثبات تام. كي تشارك في المغانم الأخروية لألوف بل مئات الألوف من الطلاب، وذلك على وفق دستور الاشتراك المعنوي الأخروي في الأعمال. وبهذا تتحول حسناتك وخيراتك إلى حسنات وخيرات كلية جماعية تكسبك تجارة رابحة في الآخرة بعد أن كانت حسنات جزئية فردية.

* * *

[ما يدفع إلى استنساخ الرسائل]

إخوتي الأعزاء الصديقين!

اطّلعتُ اليوم على مجموعة تضم أجزاءَ من الرسائل التي استنسخها أطفالٌ أبرياء وشيوخ كهول، وذلك ضمن المجموعات المعادة إليّ من قِبَل المحكمة بعد إجراء التدقيقات عليها لمدة سنتين.

وبمشاهدتي هذه المجموعة الخالصة النـزيهة اقتنعتُ بأن هذه المجموعة المستنسَخة من قِبَل الأبرياء من الأميين صدا لشبهات الفلاسفة والضالين أعظمُ وسيلة للنصر والظهور على العنيدين وإرغام غير المنصفين إلى الإنصاف.

وقد جمعنا هذه المجموعاتِ والأجزاء المستنسخة من قبل الأميين في مجلدات ثلاثة.

إن في رسائل النور أذواقا معنوية وأنوارا جذابة وسرورا بالغا يحمل الصغار والكبار على الانكباب على الاستنساخ اليدوي بحيث يتغلب على جميع المبتكرات والوسائل الحديثة لحث الصغار على القراءة وسَوقهم إليها.

وهذا يعني أن رسائل النور تترشح وتمدّ جذورها في الأعماق وستدوم في الأجيال المقبلة بحيث لا تتمكن أيةُ قوة كانت أن تجتثها بإذن الله.

وكما ضُمّتْ مستنسخاتُ هؤلاء الأطفال الأبرياء في مجلدات كذلك ضمت في مجلدات مستنسخاتُ أولئك الشيوخ الذين انضموا إلى دائرة رسائل النور وباشروا بتعلم القراءة والكتابة بعد تجاوزهم الأربعين من العمر.

فهؤلاء الشيوخ الأمّيون -وقسمٌ منهم رعاة وبدو رحّل- وفي هذه الظروف العصيبة يفضلون السعي لرسائل النور، ويسعون في خدمة الإيمان بشوق رغم جميع المضايقات، مما يُظهر بوضوح أن الحاجة إلى رسائل النور أكثر من الحاجة إلى الخبز حتى إن أهل الحصاد والفلاحين والرعاة والبدو يرون العمل لرسائل النور أولى من حاجاتهم الضرورية.

وعندما كنتُ أصحح ما استنسخه الصبيانُ والشيوخ وأنا أعاني من ضيق الوقت وَرَدَ على خاطري أنه لا داعي للضجر والضيق. فإن قراءة ما استنسخه هؤلاء تُرغم المسرعين في القراءة إلى التأني والتروي حتى يتمكن كلٌّ من العقل والقلب والروح والنفس والشعور من تناول حقائق رسائل النور التي هي في حكم الغذاء والطعام. وبخلافه فإن القراءة السريعة تجعل العقل وحده آخذا حظَّه، بينما تظل الأخريات دون غذاء.

لذا ما ينبغي قراءة رسائل النور كسائر العلوم والكتب، لأن ما فيها من علوم الإيمان التحقيقي لا يشبه العلوم والمعارف الأخرى، فهي نورٌ وقوة ممدّة لكثير من اللطائف الإنسانية فضلا عن العقل.

حاصل الكلام: هناك فائدتان في الكتابة الناقصة لأولئك الأبرياء والشيوخ الأميين:

أولاها: تلجئ القارئ إلى التأني والملاحظة الدقيقة.

ثانيتها: تدفع إلى تلقّي الدروس بإعجاب بمسائل رسائل النور الدقيقة اللطيفة اللذيذة والاستماع إليها من تلك الألسنة الطيبة الخالصة البريئة.

الباقي هو الباقي

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[ممن تلقيتُ درس الحقيقة؟]

إن حسـن ظنكم المفرط نـحـوي هـو فـوق حدّي بكثير فلا أستطيع قبـوله إلّا أن يكون باسـم شخص رسائل النور المعنوي، وإلّا فليس من حدّي وطوقي أن أُظهر مزايا تلك المقامات الرفيعة. ثم إن مسلك رسائل النور ليس مسـلك الطرق الصوفية بل هو مسلك الحقيقة، فهو مسلك مقتبس من نور مسلك الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

إن هذا الزمان ليس زمان الطريقة الصوفية بل زمان إنقاذ الإيمان. ولله الحمد فإن رسائل النور قد أنجزت وما تزال تنجز هذه المهمة وفي أصعب الظروف. إن دائرة رسائل النور في هذا الزمان هي دائرة طلاب الإمام علي والحسن والحسين والشيخ الكيلاني رضوان الله عليهم أجمعين.. إذ تلقيتُ درس الحقيقة -على طريقة أويس القرني- مباشرةً من الإمام علي رضي الله عنه بوساطة الشيخ الكيلاني قدس سره والإمام زين العابدين والحسن والحسين رضي الله عنهم، لذا فإن دائرة عملنا وخدماتنا هي دائرتهم.

ثم إنني أعترف بأني لا أستحق -بأي وجه من الوجوه- ذلك المقام الرفيع الذي يمنحني إخوتي لأتملك هذا الأثر المقبول القيم. ولكنّ خلقَ شجرة باسقة ضخمة من بذرة صغيرة جداً هو من شأن القدرة الإلهية ومن سنته الجارية وهو دليل على عظمتها. وأنا أُطَمْئِنُكم مقسِما بالله أن قصدي من الثناء على رسائل النور إنما هو تأييد حقائق القرآن وإثبات أركان الإيمان ونشرها. وإنني أشكر ربي الرحيم شكراً لا منتهى له، على أنه لم يجعلني أعجب بنفسي قط، وأنه أظهرَ لي عيوب نفسي وتقصيراتي حتى لم تبق لي أية رغبة في إظهار تلك النفس إلى الآخرين.

نعم، إن من كان واقفاً على شفير القبر، لا ينظر إلى الدنيا الفانية التي تركها وراء ظهره، وإذا ما نظر إليها فهو حماقة يرثى لها وخسارة فادحة.

اللّهم احفظنا من مثل هذه الخسائر آمين.

تحياتنا إلى جميع الإخوة فرداً فرداً مقرونة بالدعاء لهم راجين دعواتهم.

* * *

[الحقيقة الخالدة لا تُبنى على فانين]

إنه يَسأل هذه المرة عن حقيقة جليلة هي فوق حدّي ومنـزلتي بألف درجة يسألها استنادا إلى حسن ظنه المفرط. إنه يريد أن ينظر إليّ من زاوية الوظيفة الجليلة السامية للشخص المعنوي لـرسائل النور ومن زاوية إحدى الوظائف الرفيعة السامية لخلافة النبوة، لرؤيته شعاعا منها في شخصي الاعتيادي من حيث كوني أستاذه، فيحاول أن ينظر إلى شخصي الاعتيادي من زاوية تلك الوظيفة المقدسة، فيريد أن يراني مظهرا لتلك الخلافة المعنوية!.

أولاً: إن حقيقة خالدة دائمة لا تبنى على أشخاص فانين زائلين. ولو بنيت عليهم لنجم ظلم وإجحاف شديدان، إذ المهمة التي لها الدوام والكمال من كل جانب لا تربط بأشخاص معرَّضين للفناء، ومبتَلين بالإهانات. فإن رُبط الأمر بهم، تُصَبْ المهمة نفسها بضرر بالغ.

ثانياً: إن رسائل النور ليست نابعة من بنات أفكار المؤلف أو بلسان حاجته الروحية بفيض من القرآن الكريم، فهي ليست فيوضات متوجهة إلى حاجة المؤلف واستعداده وحده، بل هي أيضاً نابعة من طلب مخاطبي ذلك المؤلف وزملائه في درس القرآن الأفاضل الخالصين الصادقين الصلبين، وسؤالِهم -روحاً- تلك الفيوضاتِ وقبولها والتصديق بها وتطبيقها. فهي مستفاضة من القرآن الكريم من هذه الجهات وأمثالِها من جهات كثيرة أخرى. فهي فيوضات تفوق كثيراً استعدادَ المؤلف وقابليته. فكما أن أولئك المخاطبين أصبحوا السبب في ظهور رسائل النور، كذلك هم الذين يشكلون حقيقة الشخص المعنوي لرسائل النور وطلابها. أما المؤلف فله حصة من تلك الحقيقة، وقد يكون له حظ شرف السبق إن لم يُفسده بعدم الإخلاص.

ثالثاً: إن هذا الزمان زمن الجماعة، فلو بلغ دهاء الأشخاص فرداً فرداً حد الخوارق، فلربما يُغلب تجاه الدهاء الناشئ من شخص الجماعة المعنوي. لذا أقول كما كتب ذلك الأخ الكريم: إن مهمة إيمانية جليلة بحيث تنور عالم الإسلام من جهة وناشئة من أنوار دهاء قدسي، لا تحمّل على كاهل شخص واحد ضعيف مغلوب ظاهراً، يتربص به أعداء لا يُعدّون وخصماء ألدّاء يحاولون التنقيص من شأنه بالإهانات. فلو حُمّلت، وتزعزع ذلك الشخص العاجز تحت ضربات إهانة أعدائه الشديدة، لسقط الحمل وتبعثر.

* * *

[حاجة أهل الإيمان إلى حقيقة نزيهة]

إخوتي الأعزاء الصديقين الثابتين المخلصين!

سؤال في منتهى الأهمية، يسألنيه من له علاقة بي، ويرد في نفسي أيضاً، فهو سؤال معنوي ومادي في الوقت نفسه. وهو:

لِمَ تقوم بما لم يقم به أحد من الناس، ولمَ لا تلتفت إلى قوىً على جانب عظيم من الأهمية، تستطيع أن تعينك في أمورك، فتخالف جميع الناس. بل تظهر استغناءً عنهم؟.

ثم لِمَ ترفض بشدةٍ مقاماتٍ معنوية رفيعة يجدك طلابُ النور الخواص أهلاً لها، فتتجنبها بقوة في حين يتمناها الناس ويطلبونها، فضلاً عن أنها ستقدم خدمات جليلة في سبيل نشر رسائل النور وتمهد السبيل لفتوحاتها؟

الجواب: إن أهل الإيمان -في الوقت الحاضر- محتاجون أشد الحاجة إلى حقيقة جليلة نزيهة بحيث لا يمكن أن تكون وسيلة للوصول إلى شئ، ولا تابعة لأي شيء كان، ولا سلماً للوصول إلى مآرب أخرى، ولا يتمكن أي غرض أو أي قصد كان من أن يلوثها، ولا تتمكن الفلسفة أو الشبهات أن تنال منها. فالمؤمنون محتاجون إلى مثل هذه الحقيقة النـزيهة لتُرشدَهم إلى حقائق الإيمان، حفاظاً على إيمان المؤمنين في هذا العصر الذي اشتدت فيه صولة الضلالة التي تراكمت شبهاتها منذ ألف سنة.

فانطلاقاً من هذه النقطة فإن رسائل النور لا تعبأ بالذين يَمدّون لها يد المعاونة سواءً من داخل البلاد أو خارجها ولا تهتم بما يملكونه من قوى ذات أهمية بل ولا تبحث عنهم ولا تتبعهم. وذلك لكي لا تكون في نظر المسلمين عامة وسيلةً للوصول إلى غايات دنيوية ولن تكون إلّا وسيلة خالصة للحياة الخالدة الباقية. لذا فهي بحقيقتها الخارقة وبقوتها الفائقة تتمكن من إزالة الشبهات والريوب المهاجمة على الإيمان.

سؤال: أما المقامات النورانية والمراتب الأخروية التي هي درجات معنوية مقبولة لدى أهل الحقيقة قاطبة بل يرغبون فيها، ولا ضرر منها، وقد منحها لك إخواننا المخلصون بما يحملون نحوك من حسن الظن، وهي لا تُلحق ضرراً بإخلاصك -حتى لو قبلتها لا يرفضون قبولك لكثرة ما لديهم من حجج وبراهين عليها- إلّا أنك ترفض تلك المقامات بغضب وحدّة لا تواضعاً أو تجرداً وترفعاً منك، بل حتى تجرح مشاعر إخوانك الذين منحوك تلك المقامات، فتتجنبها بشدة..! فلماذا؟

الجواب: كما أن شخصاً غيوراً يضحِّي بنفسه إنقاذاً لحياة أصدقائه، كذلك -لأجل الحفاظ على الحياة الأبدية للمؤمنين من صولة أعداء خطرين أضحي -إذا لزم الأمر وهو يلزم- لا بتلك المقامات التي لا أستحقها، بل أيضاً بمقامات حقيقية لحياة أبدية. ذلك ما تعلمته من رسائل النور، ألاَ وهو الشفقة على الخلق.

نعم، إن الأمر يقتضي هكذا في كل وقت، ولا سيما في هذا الوقت، وبخاصة عند استيلاء الغفلة التي أنشأتها الضلالة، في خضم هيمنة التيارات السياسية والآراء الفلسفية، وفي عصر كعصرنا هذا الذي هاج فيه الغرور والإعجاب بالنفس، يحاول ذوو المناصب الكبيرة دائماً أن يجعلوا لهم كل شيء أداة طيعة، ويستغلون كل وسيلة في سبيل غاياتها، حتى إنهم يجعلون مقدساتها وسيلة لبلوغ مناصب دنيوية. ولئن كانت هناك مقامات معنوية فهي تُستغل استغلالاً أكثر، وتُتخذ وسيلة أكثر طواعية من غيرها؛ لذا يظل دوماً تحت ظل الاتهام، إذ يقول العوام: إنه يجعل خدمات مقدسة وحقائق سامية وسائل وسلالم لبلوغ مآربه، حفاظاً على نفسه أمام نظر الناس، ولكي يبدو أنه أهل لتلك المقامات.

وهكذا، فلئن كان قبول المقامات المعنوية يفيد الشخص والمقام فائدة واحدة فإنه يلحق ألف ضرر وضرر بالناس عامة وبالحقائق نفسها بما يصيبها من كساد بسبب الشبهات الواردة.

حاصل الكلام: إن حقيقة الإخلاص تمنعني عن كل ما يمكن أن يكون وسيلة إلى كسب شهرة لبلوغ مراتب مادية ومعنوية.

نعم، إنه على الرغم من أن هذا يؤثر تأثيراً سيئاً في خدمة النور، إلّا أنني أرى أن إرشاد عشرة من الناس إرشادَ خادمٍ لحقائق الإيمان إرشاداً خالصاً حقيقياً وتعليمَهم أن حقائق الإيمان تفوق كل شيء، أهمُّ من إرشاد ألف من الناس بقطبية عظيمة، لأن النوعية تفضل على الكمية، ولأن أولئك الرجال العشرة يرون تلك الحقائق أسمى من أي شيء آخر. فيَثبتون، ويمكن أن تتنامى قلوبهم التي هي في حكم البذرة إلى شجرة باسقة. أما أولئك الألوف فإنهم بسبب ورود الشبهات المقبلة من أهل الدنيا والفلسفةِ وهجومها عليهم، ربما يتفرقون من حول ذلك القطب العظيم، إذ ينظرون إليه أنه يتكلم من زاوية نظره الخاصة، ومن مقامه الخاص ومن مشاعره الخاصة!

لذا أرجّح الاتصاف بالخدمة، على نيل المقامات. حتى إنني قلقتُ ودعوت الله ألّا يصيب شيء -في هذه المرة- ذلك الشخصَ المعروف الذي أهانني بغير وجه قانوني، وبخمسة وجوه من أوجه الإهانة والتحقير، وفي أيام العيد، تنفيذاً لخطط وضعها أعدائي. حيث إن المسألة انتشرت بين الناس، فخشيت أن يمنحوني مقاماً، فلربما يعدّون حدوث شيء ما نتيجة كرامةٍ خارقةٍ. لذا قلت: «يارب أصلح شأن هذا، أو جازه بما يستحقه من دون أن يكون عقاباً يومئ إلى كرامة معنوية».

* * *

إلى السيد مدير الأمن العام في أنقرة

إن كنت تريد أن تقابل شخصا ضعيفا قاسى -بصورة غير رسمية- السجنَ المنفرد والعزل التام طوال عشرين سنة ولاقى من العنت والضيق ما لا نظير له، ثم آثر السكوت رغم كل ذلك.. فإن كنت تريد مقابلته مقابلة حقيقية جادة -وليست مقابلة رسمية- فها أنا أتكلم معكم قليلا.

أولا: بعد التدقيقات التي أجرَتها محكمتان ودامت طوال سنتين حول مؤلفاتي وكتاباتي التي استغرقت عشرين سنة من حياتي، لم يستطيعوا أن يعثروا على أية مادة تمس الإدارة ونظام البلاد. وهي غير موجودة أصلا، والدليل القاطع والحجة التي لا تُجرح على ذلك إعادتهم جميع الرسائل الخاصة منها والعامة.

أما حياتي السابقة لعشرين سنة التي خلت، فأفضلُ دليل على أنها مضت بتضحية وفداء في سبيل هذه الأمة والبلاد هو تقدير القائد العام الذي كنت أزاول قيادة «الأنصار» المتطوعين تحت رعايته، في الحرب العالمية الأولى.. وتقديرُ الرؤساء في أنقرة لخدماتي في حرب الاستقلال.. وترحيبُ النواب في مجلس الأمة بي في أثناء قدومي إليهم.. بمعنى أن التعذيب الذي لاقيتُه طوال هذه السنوات العشرين كان معاملةً غير قانونية البتة. وهي معاملة اعتباطية صِرفة. فلقد أمضيتُ أربعين عيدا مباركا طوال السنوات العشرين وأنا وحيد فريد…

والآن قد بلغ السيل الزبى، فلا تحملوني على النظر إلى الدنيا وأنا على شفير القبر.

ثم إنكم لكونكم تشغلون منصب مدير الأمن العام ينبغي لكم أن تتعاطفوا مع خدماتي. لأنه كما ثبت في المحاكم، أن دروس رسائل النور، عندما تتطلّع على الدنيا، فإنها تُرشد طلابها إلى الحفاظ على النظام بكل ما أوتوا من قوة والحيلولةِ دون تَسَرُّب فسادِ الثورات والفوضى فيه، والدليل على أنهم في حكم ضباطِ أمن معنويين قد أدركه ضباطِ الأمن في ثلاث ولايات.

ولقد علمتُ في الآونة الأخيرة أن كثرة تخويف الموظفين الناسَ من مقابلتي، إنما كان للتهوين من إقبال الناس عليّ وتوجههم نحوي، بما هو فوق حدّي بكثير، وبما لا أستحقه من مقام. فأنا أبين لكم بيانا قاطعا، مثلما كتبتُه لإخوتي الخواص في مكاتيب خاصة: أنني لا أقبل توجّه الناس لشخصي وإقبالَهم عليّ وأرفُضه رفضا باتا، وذلك لمنافاته مسلكنا وإخلاصنا. حتى إنني جرحتُ شعور كثير من إخوتي الخواص في هذه الناحية. إلّا أنني كتبتُ -في المؤلفات- الإخباراتِ المستقبليةَ التي قبلتُها للأفاضل الذين بيّنوا قدر رسائل النور وأهميتها، والتي هي تفسّر القرآن الحكيم تفسيرا حقيقيا. وأثبتُّ أنني خادم بسيط ليس إلّا. ولو افتُرض -فرضا محالا- أنني مِلتُ إلى هذا الإقبال من الناس، فإن هذا التوجّه سيخدم استتباب النظام، وستصيبكم فائدته أيضا كما تصيب أمثالكم من المسؤولين عن النظام.

فما دام الموت لا يُقتل، فهو إذن مسألة جليلة أعظم من الحياة نفسها. بينما تسعون بالمائة من الناس يسعون للحصول على السلامة في هذه الحياة، أما نحن طلابَ رسائل النور، فنجاهد الهجمة القوية للموت التي ستصيب كلَّ أحد من الناس. فلله الحمد والمنة فقد استطاعت رسائل النور حتى الآن تحويل الإعدام الأبدي للموت لمئات الألوف من الناس، إلى تذكرةِ تسريحٍ. ونستطيع إبراز مئات الألوف من الشاهدين على ذلك.

فبينما ينبغي لكم ولأمثالكم من محبي الأمة والوطن أن يشجعونا ويحثونا -من زاوية هذه الحقيقة- فإنّ وَضْعَنا تحت الاتهامات جريا وراء الأوهام والشبهات، ومن ثم إزعاجنا بالترصد والمراقبة المستديمة، كم هو بعيدٌ عن الإنصاف والحمية.. هذا ما نحيله إلى إنصافكم.

سعيد النُّورْسِيّ

المسجون في السجن المنفرد بصورة غير رسمية

* * *

[إلى مدير الأمن لولاية أفيوُن]

ثقةً مني بوجدانكم وإنسانيتكم أبيّن لكم أموري الخاصة جدا. فأنتم مرتبطون بنا بروابط كثيرة بحكم وظيفتكم، حيث لم تقع أيةُ حادثة تخل بالنظام، من قِبَل مئات الألوف من طلاب رسائل النور وفي مدى عشرين سنة. والدليل على هذا اعتراف كثيرٍ من ضباط الأمن بذلك، وعدمُ تسجيلهم أي شيء ضدّنا.

سمعتُ من صبي بمجيء مدير الأمن العام إلى هنا، فقلت لاشك أنه سيستفسر عن حالي. فكتبت له شيئا عوضا عن التحدث معه حيث أُعاني من الأمراض. ولكن إذا بي أسمع فجأة أنه غادر المدينة. لذا أرسلُ إليكم طي رسالتي هذه ما كتبتُه للمدير العام، فإذا ارتأتيم أرسلوه إليه كمعلومات.

إنني لا أعلم من أمور الدنيا لعدم ملاقاتي أحدا من الناس، فلا أحد لي هنا غيرك كي أستشيره في الأمر.

والمسألة التي تخص شخصي بالذات ليست ذات أهمية، فهي جزئية، إلّا أن المسألة التي تخص رسائل النور لها أهميتها بالنسبة لهذه الأمة والوطن.

إنني أبلغكم قطعا بقناعتي الجازمة الناشئة من أمارات كثيرة: أن هذه البلاد وهذه الأمة والحكومة ستكون في أقرب وقت بحاجة إلى مؤلفات من أمثال رسائل النور حاجةً ماسة تجاه العالم الإسلامي وتجاه الدنيا بأسرها. وستبين وجودها وكرامتها ومفاخرها التاريخية بإبراز هذه المؤلفات.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

رسائل متفرقة (2)

 [لا نجعل من الدين وسيلة لمكاسب دنيوية]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إخوتي الصديقين الأعزاء!

جواب اضطررت إلى كتابته عن سؤال -مادي ومعنوي- ورد من عدة جهات.

سؤال: لِمَ لا تكوّن علاقة ولا تمد وشائج ارتباط مع التيارات الجارية داخل البلاد وخارجها، ولا سيما مع الجماعات ذات الاهتمامات السياسية، بل ترفض ذلك وتمنع -ما وسعك- طلاب النور عن أي تماسٍ كان بتلك التيارات! والحال أنك لو كوّنت علاقة معهم فإن ألوف الناس سيدخلون دائرة رسائل النور زَرافات ووُحداناً وسيسعون لنشر حقائقها الساطعة، فضلاً عن أنك لا تكون هدفاً إلى هذا الحد للمضايقات الشديدة التي لا مبرر لها؟

الجواب: إن أهم سبب لهذا الاجتناب وعدمِ الاهتمام بالتيارات الجارية، هو الإخلاص الذي هو أساس مسلكنا، فالإخلاص هو الذي يمنعنا عن ذلك، لأن في زمن الغفلة هذا، ولاسيما من يحمل أفكاراً موالية لجهة معينة، يحاول أن يجعل كل شيء أداة طيعة لمسلكه، بل يجعل حتى دينه وأعماله الأخروية وسائل لذلك المسلك الدنيوي. بينما الحقائق الإيمانية والخدمة النورية المقدسة تأبى أن تكون وسيلة لأي شيء كان في الكون، ولا يمكن أن تكون لها غاية إلّا رضى الله سبحانه.

وفي الحقيقة، إنه من الصعوبة بمكان الحفاظُ على سر الإخلاص في خضم الصراعات المتنافرة للتيارات الحالية، ومن العسير الحيلولة دون جعل الدين وسيلة لمكاسب دنيوية، لذا فإنّ أفضلَ علاج لهذا هو الاستناد إلى العناية الإلهية وتفويضُ الأمر إلى توفيق رب العالمين بدلاً من الاستناد إلى قوة التيارات الحالية.

ومن جملة الأسباب الداعية لاجتنابنا هذا هو «الشفقة» التي هي أساس من الأسس الأربعة لرسائل النور، أي عدم التلوث بظلم الآخرين وإضرارهم. إذ الإنسان -بمضمون الآية الكريمة: ﴿اِنَّ الْاِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم:34) يرد معاملة المقابل له في هذا العصر بلا رحمة وبظلم شنيع مخالفاً بذلك الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (فاطر: 18) التي هي دستور الإرادة الإلهية. حيث تتغلب عليه العاطفة والانحياز إلى جهة، وعندها لا يقصر عداءه على المجرم وحده ولا يأخذ بجريرته جميع أقاربه وحدهم، بل أيضاً يعاقب كل مَن له صلة بالمجرم من قريب أو بعيد، حتى إنه إذا ما كان له سلطة أو حكم، يبيد قرية كاملة بالقنابل بجريرة مجرم واحد. بينما الإنصاف يقتضي ألّا يُضحَّى بحقِ بريء واحد بسبب مائة مجرم وأن لا يُظلم ذلك البريء بسببهم. ولكن الوضع الحالي يخالف الآية الكريمة، فيقحم مائة من الأبرياء في بلايا وأضرار بسبب بضع مجرمين.

فمثلاً: إن إهلاك والدين عجوزين لمن ارتكب خطأ، وتشريدَ أطفاله الصغار ودفعهم جميعاً إلى هاوية الفقر والذل ومعاداتهم بالانحياز إلى جهة ما مناف كلياً لأساس الشفقة على الخلق.

فمن جراء الانحياز إلى التيارات الجارية -بين المسلمين- لا ينجو الأبرياء من الظلم بل يشيع شيوعاً كلياً ولا سيما بالأسباب الداعية إلى قيام الاضطرابات والثورات.

ولو كان الجهاد قائماً -وهو جهاد إسلامي- فإن حال أطفال الكفار تبقى على وضع آبائهم، وربما يكونون من الغنائم ويتمكن المسلمون أن يجعلوهم تحت إمرتهم وملك يمينهم. ولكن لو ارتد أحد داخل ديار المسلمين، فلا يُمتلك أطفاله قطعاً، ولا يجوز التجاوز على حقوقهم بأي شكل من الأشكال. لأن أولئك الأبرياء إنما يرتبطون بالإسلام وبجماعة المسلمين، برابطة الإسلام، التي انقطعت عن والدهم.أما أولاد الكفار فرغم أنهم من أهل النجاة، فإنهم يتبعون والدهم في الحقوق والحياة. لذا ربما يكونون أُسراء أو عبيداً في أثناء الجهاد الإسلامي.

* * *

[جواب قصير حول التوافق]

إذا كان في الشيء توافقٌ، فإنه يعدّ أمارة صغيرة، بمعنى أن فيه قصدا وإرادة، ولم يحدث مصادفةً. وإذا حصل التوافق في عدة جهات فالأمارة تتقوى. ولاسيما إذا كان التوافق بين شيئين خاصين -من بين مائة احتمال- وبينهما علاقة قوية، فتُصبح الإشارة الواردة من ذلك التوافق في حكم دلالة صريحة، وأنه حصل بقصد وبإرادة، ووجد لأجل مقصد معين، فلا احتمال فيه للمصادفة.

* * *

[حاجة الفطرة]

إخوتي الأعزاء الصديقين!

إن الأطفال الأبرياء هم في مقدمة الذين سيكونون طلابا حقيقيين لرسائل النور، وذلك وفق ما تقتضيه فطرتهم وتتطلبه الأوضاع الراهنة. لأن الطفل الذي لم يتلق في صغره درسا إيمانيا قويا، يصعب عليه بعد ذلك أن يَقرّ في روحه أركانُ الإيمان والإسلام، بل يكون ذلك عسيرا عليه، شأنه شأن تقبُّل غير المسلم الإسلام، بل يستغرب من الإسلام أكثر منه، ولا سيما إن لم ير والدَيه على دين وتقوى، وربّى ذهنَه بالعلوم الدنيوية وحدها.

ففي هذه الحالة، يستثقل ذلك الطفلُ والديه بدل أن يبرّ بهما، ويكون بلاء عليهما، ويترقب موتَهما! أما في الآخرة فلا يكون شفيعا لهما، بل مدّعيا عليهما قائلا: «لِمَ لَمْ تنقذوا إيماني بتربيتي على الإسلام؟».

فبناء على هذه الحقيقة:

فإن أسعد الأطفال هم أولاء الذين دخلوا ضمن دائرة رسائل النور، فيكونون أبناءً برَرة للوالدين وخداما أُمناء لهم، يقومون بين يديهم بالاحترام والتوقير اللائقَين بهما، ويسجلون بأعمالهم الصالحة حسناتٍ في سجل حسنات والدَيهم بعد وفاتهم.. وفي الآخرة يكونون لهما شفعاء، كل حسب درجته.

إن القسم الثاني من طلاب النور: هم النساء اللائي يشعرن بحاجتهن إلى رسائل النور في فطرتهن. ولاسيما من كان لهن شيء من التجافي عن الدنيا، وربما العزوف كليا عنها، حيث قد بلغن من العمر مبلغا.

فرسائل النور تكون لهنّ غذاء معنويا؛ لأن إحدى أسس رسائل النور، «الشفقة» التي هي من مظاهر اسم الله «الرحيم» وهي الخميرة والجوهر الخاص المغروز في فطرة النساء وميزتهن الأصيلة.

والقسم الثالث: هم المرضى والشيوخ المحتاجون إلى رسائل النور -ولو بصورة غير فطرية- كحاجتهم إلى الخبز والدواء. وذلك لأن رسائل النور توضح لهم الحياة الباقية وضوحَ الشمس في رابعة النهار، فضلا عن بيانها ماهية الحياة الدنيا من حيث فنائها. فالذين تأذّت حياتهم الدنيوية بالمرض أو بالشيخوخة، والذين يظنون الموتَ إعداما أبديا، بما أحاطت بهم من غفلة وضلالة.. فهؤلاء جميعا بحاجة إلى رسائل النور لِمَا يجدون فيها من السلوان والعزاء ونور الرجاء، حتى يُفضَّل لديهم المرضُ والشيخوخة، على الصحة والشباب.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[نجاهد بنور القرآن]

إخواني الأعزاء الصدّيقين!

إن في موسم الصيف هذا، وفي زمن الغفلة هذا، وفي فترة الانشغال بهموم العيش، وفي أوان نيل الثواب الكبير من العبادات التي تؤدّى في هذه الشهور الثلاثة، والصراع السياسي العاصف الذي يعصف في أرجاء الأرض كافة، دونه الصراع بالسلاح.. في هذه الأثناء إن لم تكن هناك صلابةٌ في منتهى القوة وثباتٌ راسخ على أداء وظيفة النور المقدسة فسوف يعتري فتورٌ وتعطُّلٌ وتوقفٌ في العمل. مما هو ليس بصالح رسائل النور.

إخوتي الأعزاء!

اعلموا يقينا أن الوظيفة التي ينشغل بها طلاب رسائل النور مسألةٌ أجلّ وأعظم من أعظم مسائل الكرة الأرضية قاطبة، فلا تفتروا في مهمتكم الباقية، ملتفتين إلى مسائل دنيوية مثيرة للاهتمام، اقرأوا كثيرا «المسالة الرابعة» من رسالة «الثمرة» كيلا تخور عزائمُكم وتضعف قوتُكم المعنوية.

نعم، إن جميع المسائل العظمى التي ينهمك بها أهلُ الدنيا إنما تدور ضمن الدستور الظالم: دستورِ الجدال والصراع وفي نطاق الحياة الفانية، بأبشع صورها وأظلمها حتى يضحّى في سبيلها بالمقدسات الدينية حصولا على حطام الدنيا، لذا يلقيهم القدرُ الإلهي في عذابِ جهنم معنوية من خلال جرائمهم التي يرتكبونها.

أما رسائل النور وطلابُها فإن ما يسعَون إليه وما هم مكلّفون بأدائه من مهمة إنما هو لحياة باقية خالدة بدلا من هذه الفانية. وهو إظهار حقيقة الموت أنه ستارٌ أمام الحياة الباقية، ذلك الجلاد الذي يرهبه عَبَدةُ الدنيا أشدَّ رهبة.. ومن ثم إثبات ذلك بيقين جازم كمن يثبت حاصل ضرب الاثنين في اثنين يساوي أربعا.

فقد أظهرت رسائل النور هذه الحقيقة إلى الآن؛ من أن الموت أو الأجل ليس إلّا ستارا ووسائلَ لبلوغ أهل الإيمان السعادةَ الأبدية.

حاصل الكلام: إن أهل الضلالة يكافحون في سبيل حياة دنيوية مؤقتة، أما نحن فنجاهد الموت بنور القرآن، لذا فإن أعظم مسألة في نضالهم -لأنها مؤقتة- لا تعادل أصغرَ مسألة من مسائلنا، لأنها متوجهةٌ إلى البقاء والخلود..

وحيث إنهم لا يتنازلون -ببلاهتهم- ويربأون بأنفسهم عن التدخل في مسائلنا العظمى، فلِمَ نتتبع بلهفة مسائلَهم الصغيرة على حساب وظيفتنا المقدسة؟.

تدبروا في هذه الآية الكريمة ﴿لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ اِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة:105) بمعنى أن ضلال الآخرين لا يضرّ هدايتِكم، فلا تنشغلوا بها. وتأمّلوا في الدستور المهم من دساتير أصول الشريعة: «الراضي بالضرر لا يُنظَر له». أي: لا يُنظر بعين العطف والشفقة لمن رضي بنفسه الضرر.

فما دامت الآيةُ الكريمة والدستورُ القويم يمنعاننا من العطف على الراضين بالضرر على علم، فلابد أن نحصر أوقاتنا وجميع قوتنا واهتمامنا في وظيفتنا المقدسة. ولابد أن نعدّ كلّ ما هو خارج عنها أمورا لا تعنينا بشيء، فلا نضيّع وقتنا بها. لأننا نملك النورَ وحده، لا المطرقة والصولجان، فلا يبدر منا تعدٍّ على حقوق أحد قطعا، ولكن إذا ما اعتُدِيَ علينا، نُظهرُ النور ونبيّنه. فنحن في حالةِ نوعٍ من دفاع نوراني.

* * *

[الحقيقة القرآنية في الرسائل]

إن أجزاء رسائل النور قد حَلّت أكثر من مائة من أسرار الدين والشريعة والقرآن الكريم، ووضّحتها وكشفتها وألجمَت أعتى المعاندين الملحدين وأفحمتهم، وأثبتت بوضوح كوضوح الشمس ما كان يُظَن بعيدا عن العقل من حقائق القرآن كحقائق المعراج النبوي والحشر الجسماني، أثبتتها لأشد المعاندين والمتمردين من الفلاسفة والزنادقة حتى أدخلت بعضَهم إلى حظيرة الإيمان. فرسائل هذا شأنها لابد أن العالَم -وما حوله- بأجمعه سيكون ذا علاقة بها، ولا جرم أنها حقيقةٌ قرآنية تشغل هذا العصر والمستقبل، وتأخذ جلّ اهتمامه، وإنها سيف ألماسيّ بتّار في قبضة أهل الإيمان..

* * *

[اعذار في مسألتين]

إخوتي الأعزاء!

إنقاذا لطلاب رسائل النور الضعفاء أو حديثي العهد بها من الشكوك والشبهات أبيّن الآتي:

يُشيع بعضُ العلماء السذج أو بعض المعارضين لرسائل النور والموالين للبدع -بما تحيكه منظمات سرية من مؤامرات- نقائصَ كثيرةً وأخطاءً كثيرة -أعترف بها- صدرت من شخصي، تهوينا لشأني ليُنـزلوا بها ضربتَهم القوية على رسائل النور، صدّا للحقائق التي لا تُجرَح لرسائل النور. فهناك عشرون حادثة مهمة منذ عشرين سنة تؤيد هذا.. حتى أصبحوا السبب في زجّنا السجن مرتين. ولهذا أُعلنُ لأصدقائي ولطلاب رسائل النور ما يأتي:

إني أشكر ربي كثيرا أن جعلني لا أُعجب بنفسي -ناهيك عن الإطراء والمزايدة لنفسي- وأن أعلَمَني نقائصي وذنوبي، فأطلب العفو عنها، والخجلُ يتملّكني راجيا أن يكون إخلاص الطلاب الميامين لرسائل النور وتفانيهم في الخدمة الإيمانية وشفاعتهم المعنوية لي، كفارةً لذنوبي.

فالذين يعترضون عليّ يجهلون عيوبي المستورة، بل يتـذرعون ببعض أخطائي الظاهرة ويظنون ظنا خطأ أن رسائل النور مُلكي، فيرومون إسدال الستار أمام أنوارها، وإعاقة انتشارها فيقولون:

إن سعيدا لا يأتي إلى صلاة الجمعة، ولا يُطلق لحيته.. وأمثالها من الانتقادات.

الجواب: مع اعترافي بكثير من التقصيرات والذنوب إلّا أن لي في هاتين المسألتين أعذارا:

أولا: إنني شافعي المذهب، وإن أحد شروط صلاة الجمعة حسب هذا المذهب هو أن يَقرأ الفاتحةَ أربعون شخصا مأموما مع شروط أخرى أيضا، لذا فلا تُفرض عليّ الجمعة هنا. إلّا أنني أقلّد المذهب الحنفي فأؤديها نافلةً.

ثانيا: لقد منعوني لقاءَ الناس منذ عشرين سنة، حتى إنهم أوعزوا إلى المسؤولين بعدم تقرّب أحد مني -منذ أربعة أشهر- فضلا عن أني أعيش منذ خمس وعشرين سنة منـزويا ومعتكفا. لهذا لا أجد الراحةَ والطمأنينة في الأماكن المزدحمة، فلا أستطيع أداء الصلاة خلف كلِّ إمام حسب مذهبي، إذ لا ألحق بالقراءة خلفَه، فهو يسرع للركوع وأنا لم أُكمل بعدُ نصفَ الفاتحة، علما أن قراءة الفاتحة فرض في هذا المذهب.

أما مسألة إطلاق اللحية:

فإن إطلاق اللحية سنة نبوية، وليست خاصة بالعلماء. وقد نشأتُ منذ صغري عديم اللحية وعشتُ في وسط أناس تسعون بالمائة منهم لا يطلقون لحاهم.

هذا، وإن الأعداء يُغيرون علينا دائماً وقد حلقوا لحى بعض أحبابي فأدركتُ عندها حكمة عدم إطلاقي اللحية، وإنه عناية ربانية، إذ لو كنت مطلِقاً اللحيةَ وحُلقتْ، لكانت رسائل النور تتضرر ضرراً بالغاً، حيث كنت لا أتحمل ذلك فأموت.

ولقد قال بعض العلماء: «لا يجوز حلق اللحية». وهم يقصدون عدم حلقها بعد إطلاقها، لأن حلقها بعد إطلاقها حرام. أما إذا لم يطلقها فيكون تاركاً لسنة نبوية.

ولكن في الوقت الحاضر، لأجل اجتناب كبائر عظيمة جداً قضينا طوال عشرين سنة حياة أليمة أشبه بالسجن الانفرادي، نسأله تعالى أن تكون كفارة لترك تلك السنة النبوية.

وأعلنُ أيضاً إعلاناً صريحاً قاطعاً: أن رسائل النور مُلك القرآن العظيم، فأنَّى لي الجرأة أن أدّعي تملُّكها! لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي فيها قطعاً، فأنا لست إلّا خادماً مذنباً لذلك النور الباهر، ودلّالاً داعياً في متجر المجوهرات والألماس. فأحوالي المضطربة لا تؤثر فيها ولا تمسّها أصلاً.

والحقيقة أن الدرس الذي لقنتنا إياه رسائلُ النور هو التمسك بحقيقة الإخلاص، وترك الأنانية، ومعرفة أن النفس مقصرة دائماً، والحذر الشديد من الإعجاب بالنفس. فنحن لا نظهر أنفسنا بل نظهر الشخصية المعنوية لرسائل النور ونبينها.

نحن نشكر من يرى نقائصنا ويريها لنا -بشرط أن تكون حقيقية- ونقول له: ليرضَ الله عنك؛ إذ كما نشكر من إذا وجد عقرباً في عنقنا ويرميها عنا قبل أن تؤذينا ونقدم له أجزل الشكر والامتنان؛ كذلك نقبل ونرضى بتبصيرنا نقائصنا وتقصيراتنا ونظل في شكر وامتنان لمن نبهنا عليها، بشرط عدم تدخل الأغراض الشخصية والعناد وعدم جعله وسيلة لمعاونة أهل الضلالة والبدع.

* * *

[ما تتطلبه خدمة الإيمان]

إخوتي الأعزاء الأوفياء والصامدين الثابتين المضحين الذين لا يتزعزعون

أنتم تعلمون أن خبراء أنقرة لم يستطيعوا إنكار الكرامات التي تخص رسائل النور والإشارات الغيبية إليها. إلّا أنهم اعترضوا مُخطئين لمَا ظنوا أن لي حظا في تلك الكرامات. وقالوا: يجب ألّا تُنشر مثل هذه الأمور في الكتاب، فالكرامات لا يُعلن عنها.

وتجاه هذا الانتقاد العابر قد قلت جوابا لهم في الدفاعات:

إن تلك الكرامات لا تعود لي، وليس من حدّي أن أكون صاحب تلك الكرامات، بل هي لرسائل النور التي هي ترشحات من المعجزة المعنوية للقرآن الكريم ولمعات منها وتفسير حقيقي له، متخذة شكل الكرامات، لأجل تقوية الروح المعنوية لطلاب النور، فهي من نوع الإكرامات الإلهية، وإظهارُ الإكرام الإلهي شكر، وهو جائز ومقبول أيضاً…

والآن أوضح الجواب قليلاً بناء على سبب مهم؛ وقد ورد السؤال الآتي: «لمَ أُظهر تلك الإكرامات الإلهية، ولِمَ أحشّد الكلام حولها، ولِمَ أُكثر البحثَ حولها، حتى إن أكثر المكاتيب متوجهة إليها؟».

الجواب: إن الخدمة الإيمانية التي تقدمها رسائل النور في هذا الوقت تجابَه بألوف المخربين، مما يلزم أن تكون في صفها مئات الألوف من المعمِّرين.. ويستدعي الأمرُ أن يكون معي -في الأقل- مئاتٌ من المعاونين والكتّاب.. وتقضي الضرورة على الأمة والمسؤولين في البلاد أن يَمدّوا يد المساعدة بتقديرٍ وإعجاب وحض منهم على الخدمة الإيمانية ويثمنوا قيمتها ويوثقوا الصلة بها، وألا يتحرزوا من التّماس بها فينسحبوا من الميدان.. بل وتطلب هذه الخدمة من أهل الإيمان أن يفضّلوها على مشاغل الحياة الفانية وفوائدها، إذ إنها خدمة إيمانية خالصة تبغي النجاة في الآخرة.

فبينما الأمور تقتضي هكذا، أجعل من نفسي مثالاً فأقول: إن منعي عن كل شيء، وحظرَ الاتصال معي، وقطعَ طريق العون عني، زد على ذلك تهوين قوة زملائي المعنوية ببث الدعايات المغرضة بكل ما أوتوا من قوة واستعمال شتى الوسائل ما استطاعوا إليها سبيلاً لتنفيرهم عنّي وعن رسائل النور. أقول: في مثل هذه الظروف وضمن هذه الشروط فإن وضع مهمة ترزح تحتها ألوف الأشخاص، على كاهل شخص عاجز مثلي، وأنا الضعيف المريض العجوز الغريب عن بلاده، والمحروم من الأهل والأقارب، فضلاً عن تجنيب الناس الاتصال بي وكأنني مصاب بمرض معدٍ، حتى أضطر إلى الابتعاد وعدم الاختلاط.. زد على ذلك إلقاء الرعب والأوهام في قلوب الناس، وإحاطتهم بهالة من الذعر والخوف لإبعادهم عن خدمة الإيمان، وذلك للفتّ بعضد القوة المعنوية.. ففي مثل هذه الأحوال وتجاه جميع تلك الموانع فإن الأمر يقتضي حشد قوى معنوية حول رسائل النور ببيان الإكرامات الإلهية التي هي مدار القوة المعنوية لطلاب النور، وإظهار قوتها بقوة جيش عظيم لا تحتاج إلى إمداد أحد من الناس، بل هي التي تتحدى الأعداء.. فلأجل هذه الحِكَم المذكورة آنفاً كُتّبت الإكرامات وأمثالها. وإلّا فنحن لا نريد مزايدات على أنفسنا، وجلبَ إعجابَ الناس بنا وحضهم على القيام بمدحنا والثناء علينا، وذلك حفاظاً على الإخلاص الذي هو أساس مهم من أسس رسائل النور.

* * *

[حسّ مسبَق برسائل النور]

إخوتي الأعزاء!

لقد اقتنعت قناعة جازمة أن رسائل النور -قبل ظهورها بأربعين سنة- قد تظاهرت بحسّ مسبَق إحساسا واسعا وبأسلوب عجيب، في نفسي، وفي قريتنا «نورس» وفي ناحيتنا «خِيزان». كنت أرغب أن أبوح بهذا السر إلى كل من «شفيق» و«عبد المجيد» من إخوتي وطلابي القدامى، والآن أبيّنه لكم لما وهب الله سبحانه وتعالى لكم كثيرا من أمثال عبد المجيد وعبد الرحمن..

كنت أحمل حالة روحية تتسم بالفخر والاعتـزاز، يوم كنت في العاشـرة من عمري، بل حتى أحياناً بصورة حب للمدح والثناء. فكنت أتقلد طور بطل عظيم ورائد كبير وصاحب عمل عظيم خلاف رغبتي.

فكنت أقول لنفسي: ما هذا الظهور والاختيال ولاسيما في الشجاعة، وأنت لا تساوي شروى نقير؟ فكنت حائراً وجاهلاً بالجواب. ولكن منذ شهرين، أجيبت تلك الحيرة، بأن رسائل النور كانت تُشعر بنفسها بحس مسبَق. أما أنت فلست إلّا بذرة صغيرة لا تساوي شيئاً ولكن لإحساسك قبل الوقوع، تَعُدُّ تلك العناقيدَ الفردوسية (رسائل النور) كأنها ملكك، فتزهو وتتباهى.

أما قريتنا «نورس» فإن أهلها وطلابي القدامى يعرفون أن أهالينا كانوا يحبون المدح والثناء عليهم كثيراً لإظهارهم أنهم السابقون في الشجاعة والإقدام، فيرغبون تقلّد طور البطولة وكأنهم قد فتحوا مملكة كبيرة.

فكنت أعجب من نفسي ومن طورها هذا.

والآن عرفت السر بإخطار حقيقي: أن أولئك النُّورْسِيّين، يتباهون لأن قريتهم «نورس» ستكسب فخراً عظيماً بنور رسائل النور، حتى إن الذين لم يسـمعوا باسم الولاية والناحية سيعرفون تلك القرية باهتمام بالغ. فهؤلاء النُّورْسِيّون يُظهرون شكرانهم -بحس مسبق- لتلك النعمة الإلهية على صورة زهو وتباهٍ.

نعم، إنه عندما كان جميع كردستان يتخذ وضع المفتخِر المختال بغزارة الطلاب والأئمة والعلماء المتخرجين بهمةِ وجهود «الشيخ عبد الرحمن تاغي» الشهير والملقب بـ«سيدا» في ناحيتنا «إسباريت» التابعة لقضاء «خيزان» كنت أشعر بينهم أيضاً ضمن تلك المناظرات العالية والهمة العالية والدائرة الواسعة العلمية والصوفية، كأن أولئك العلماء سيفتحون الأرض كلها. فكنت أستمع -وأنا لم أتجاوز العاشرة من عمري- مناقب العلماء القدامى المشهورين والأولياء العظام والسـادة الأقطاب، ويرد إلى قلبي: أن هؤلاء الطلاب العلماء سيفتحون آفاقاً عظيمة في العلم والدين. إذ لو تفوق أحدهم بشيء من الذكاء فالاهتمام يوجّـه إليه، وإن ظهر أحدهم في مسألة لدى مناظرة علمية يفتخر ويزهو كثيراً. فكنت أتحيّر من هذا، إذ كانت عندي تلك المشاعر أيضاً. حتى كان بين شيوخ الطرق الصوفية وضمن دائرتهم في ناحيتنا وقضائنا وولايتنا مسابقةٌ تثير الحيرة لم أقف عليها في مدن أخرى إلى هذا الحد.

والآن اقتنعت أن أرواح أولئك؛ زملائي الطلاب وأساتذتي العلماء ومرشديّ الأولياء والشيوخ، قد شعرتْ -بحس مسبق وبدون معرفةِ العقلِ- بأن نورا ساطعا سيظهر -في الوقت اللازم- من بين أولئك الطلاب والأساتذة ومريدي المرشدين، بحيث يُغيث ذلك النورُ أهلَ الإيمان. فهذه النعمة الإلهية التي ستنعم في المستقبل، ضمن ظروف في منتهى القسوة والغرابةَ وتجاهَ معارضين ألدّاء لا حدّ لهم، ومقابل الضلالة التي تشتد منذ ألف سنة وسط أعداء في منتهى الخبث والمكر والخديعة، هي رسائل النور التي تَظهر ظهورا خارقا بعد تدقيقات مستديمة لمحكمتين عدليتين. وتتنور سرا وتكسب الحرية في النشر وأنفُ أعدائها راغم. مما تُبين أن هذه الرسائل تستحق ذلك الموقع بحيث أحسَّ بمجيئها أهالي قريتي وناحيتي وولايتي، فَسُرُّوا بها وانشرحوا لها. ولقد سردتُ لكم هذا السر لأني أعدكم كطلابي السابقين وإخواني وكأخي عبد المجيد وكعبد الرحمن.

نعم، إنني كما أستشعر بالمطر قبل أربع وعشرين ساعة من نزولها لقوةٍ في شعوري وتحسسِ أعصابي بالرطوبة، كذلك فإني وقريتي وناحيتي قد شعرنا قبل أربع وأربعين سنة ما في رسائل النور من شآبيب الرحمة، وذلك بحسّ مسبق.

سلامنا إلى جميع إخواننا ومواطنينا وندعو لهم بالخير ونرجو دعواتهم.

[تتمة الحس المسبق]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أكتب هذه التتمة لمناسبة الحس المسبق -إحساسا كليا- بظهور رسائل النور، حيث يُشاهَد في نمطِ حياةِ قسم من خواص طلاب رسائل النور واعتراف بعضهم، أن حياتهم جُهّزت وهُيئت لأجل القيام بهذه الخدمة الجليلة، كما هي الحال في تهيئة رسائل النور في أداء هذه الخدمة.

إن الحس المسبَق موجود كليا أو جزئيا في كل شخص، بل حتى في الحيوانات. وإن قسما مهما من الرؤيا الصادقة نوع من هذا الحس المسبَق، ويرتقي عند بعضهم -من حيث قوة حساسيته- إلى درجة الكرامة. وإن إحساسي بمجيء المطر قبل أربع وعشرين ساعة بما في أعصابي من إحساس بالرطوبة يمكن أن يُعدّ من جهةٍ إحساسا مسبَقا، ومن جهة
أخرى لا يعدّ.

ولقد استقصيت نمط حياة إخوتي الذين لهم شأن في خدمة رسائل النور فشاهدت أن سير حياتهم -كما هي عندي- قد جُهّزت وسيقَت لأجل إنتاج عمل عظيم كالعمل لرسائل النور.

نعم، إن طراز الحياة السابقة من إخوتي «خسرو، فيضي، الحافظ علي، نظـيف» قد أُعطيت لها أوضاع لتثمر هذه الخدمة النورية. وهم أنفسهم يَشعرون بها، مثلما أرى أنا وإخوتي الخواص جدا -هاهنا- أن حياتهم قد نُظّمت لتثمر مثل هذه الثمرة النورانية كما هي في طراز حياتي، فالذين لا يشعرون بها، إذا ما أنعموا النظر سيشعرون بها.

ولقد كنت أعدّ قسم الخوارق التي ظهرت في عهد حياتي السابق أنها من سلسلة كرامات الشيخ الكيلاني. بينما تَبيّن الآن أنها كرامة من سلسلة كرامات رسائل النور، فمثلا:

في أثناء مجيئي إلى إسطنبول قبل عهد الحرية، اقتنيت بضعة كتب قيّمة تخص علم الكلام فقرأتها بدقة. وبعد مجيئي إليها دعوت العلماء ومدرسي المدارس الدينية إلى المناقشة بإعلاني: «اسألوا ما شئتم». إلّا أن الشيء المحيّر أن المسائل التي طرحها القادمون كنت قد قرأت أجوبتها في طريقي إلى إسطنبول وظلت عالقة في ذهني. وكذا الأسئلة التي طرحها الفلاسفة هي المسائل التي ظلت عالقة في ذهني.

والآن [أي بعد حوالي خمسين سنة] تَوَضَّحَ الأمرُ فأدركت أن ذلك النجاح الباهر وذلك الإعلان وإظهار الإعجاب والفضيـلة التي تفوق حدي بكثير، إنما كان لتهيئة الوسط الملائم لقبول رسائل النور لدى إسطنبول وعلمائها ومعرفةِ أهميتها.

كنت أرفض قبــول أموال النـــاس وهداياهم منـذ نعومة أظفاري. فما كنت أتنـازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم أنني كنت فقير الحال وفي حاجة إلى المال، وما كنت زاهدا ولا صوفيا ولا صاحب رياضة روحية، فضلا عن أنني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.

فإزاء هذه الحالة كنت أحار من أمري كما كان يحار من يعرفني من الأصدقاء. ولقد فهمت من قبل بضع سنين حكمتها، أنها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجيء اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عز وجل تلك الحالة الروحية.. وإلا كان أعدائي الرهيبون يُنـزلون بي ضربتَهم القاضية من تلك الناحية.

ومثلا: على الرغم من أن سعيدا القديم قد توغل كثيرا في الأمور السياسية، وأن سعيدا الجديد بحاجة إلى من يسنده وينحاز إليه كثيرا، لم تشغله أعاصير السياسة أصلا وقطعا ولم تغلبه -بتحريك الفضول لديه- للاهتمام حتى بمعرفة هذا الطوفان البشري الجارف الذي أشغل البشرية قاطبة طوال خمس سنوات وأكثر…

فقد كنت أحار من هذه الحالة، كما أن الذين يعرفونني يحارون، حتى كنت أقول لنفسي: هل أنا الذي جننت بحيث لا أنظر ولا أهتم بهذه الحالة التي هزّت الدنيا أجمع، أم الناس أصبحوا مجانين؟. كنت أقول هذا وأظل محتارا، ولكن قد تحقق الآن -بإخطار معنوي وبالحس المسبَق المذكور وبتغلب رسائل النور وإطلاق حريتها- أن تلك الحالة الروحية العجيبة، قد مُنِحَت لأجل إثبات أن حقيقة الإخلاص التي تتحلى بها رسائل النور لا يمكن أن تكون تابعة لأي شيء سوى مرضاة الله سبحانه وتعالى ولا ركيزةَ لها سوى القرآن الكريم.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

رسائل متفرقة (1)

التقرير الذي رفعه خبراء أنقرة بالإجماع

لقد فُتحت وقُرئت من قِبَلنا محتوياتُ خمسةِ صناديقَ مملوءةٍ بالكتب. وحيث إن من صلاحيتنا تدقيقَ كل ما في الصناديق، فقد وجدناه كالآتي:

كتبٌ مطبوعة مؤلّفة من قبل سعيد النورسى، وأجزاء غير مطبوعة من رسائل النور، ومكاتيب علمية ودينية لبعض من طلابه، متعلقة به، ومكاتيب أخرى اعتيادية جرت بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين سعيد النُّورْسِيّ مع مجموعة من الكليشات.

ولأجل بيان ماهية هذه كلها لا بد من تقسيمها إلى قسمين:

1- الرسائل التي كُتبت لتفسير آية كريمة أو إيضاح حديث شريف، وهي تشكّل تسعين بالمائة من المحتويات. هذه الرسائل وضّحت فيها العقائد التي تخص الدين والإيمان بالله والرسول والقرآن والآخرة، فوُضِّحت بجلاء مع إيراد الأمثلة ونظرات علمية دقيقة مقرونة بنصائح أخلاقية موجهة إلى الشيوخ والشباب مع إدراج حوادث ذات عبرة جرت في الحياة مع ذكر أمور نافعة للأهلين ومفيدة لأرباب العمل. والمؤلِّف في هذه الرسائل كلها لم يغادر الإخلاص ولم يفارق التجرد والعلم ولم يخالف قطعا أُسسَ الدين. ومن الواضح البيّن أن هذه الرسائل لا تحتوي على ما يخلّ بنظام البلاد، ولا تستغل الدين بتشكيل الجمعيات.

أما الرسائل الاعتيادية التي جرت بين الطلاب وبين سعيد النُّورْسِيّ فهي أيضا من هذا القبيل:

  1. يقول سعيد النُّورْسِيّ بأن ما ناله من شهرة أو ذيوع صيت يومَ كان في إسطنبول ما هو إلا نوم عميق وكابوس مؤقت وغفلة عابرة، وأنه قد تدخل بعقله في السياسة لدى مكوثه في إسطنبول لسنتين. يصوّر هذا الأمر بموت الدنيا، ويميّز -بهذه المناسبة- بين شخصيتين له: سعيد القديم وسعيد الجديد. وهما شخصيتان متباينتان. ويذكر أن التنـزل إلى أمور السياسة خطأ.
  2. في قسم المناجاة لأهم كتب سعيد النُّورْسِيّ وهو «الحجة البالغة» ورد ما يأتي:

إن هذه الدنيا فانية وإن أعظم دعوى فيها هي الفوز بالعالم الباقي، فإن لم تكن عقيدةُ المرء صحيحة يخسر الدعوى. نعم، إن الدعوى الحقة هي هذه. ومن الضياع والعبث الاهتمامُ بما هو خارجَ هذه الدعوى. فالذي ينشغل بالأمور السياسية يتخلف عن الإيفاء بوظائف مهمة، ويَفقد سلامة قلبه من جراء تلهفه للصراعات السياسية.

  1. وذكر في اللمعة السادسة والعشرين: أن مهمته الحقيقية في هذه الدنيا الهرمة هي نشر الأسرار القرآنية. ويقول: إنني مرتبط بهذه البلاد من حيث الحمية الإسلامية. وإلّا فلا دار لي ولا أولاد لي.
  2. وذكر في اللمعة الحادية والعشرين، الدستور الأول من بين النصائح التي قدّمها لإخوانه: ابتغاء رضوان الله في عملكم، فلا تُطلب فيــه منــافــع مادية. ويقول أيضا: إنني لســت صوفيا ومسلكنا ليس طريقة صوفية. وإن حب الجاه وجلب الأنظار إلى النفس مرض روحي، ويُطلق عليه الشرك الخفي، ويقول: لو كان مسلكنا مشيخة لكان المقام واحدا، والمرشحون كثيرين.

إن مسلكنا: الأخوّة، فلا يكون الأخ لأخيه في مرتبة الأب ولا يتقلد صفة المرشد.

* * *

[محاورة مع نفسي]

أُحيلُ هذه المحاورة مع نفسي إلى رأيكم لإسماعها المسؤولين في أنقرة بعد إجراء التصحيحات اللازمة فيها.

إذا كان الحاكم والمدّعي واحدا، فإلى من تُرفع الشكوى؟ لقد حرتُ طويلا في هذه المشكلة..

أجل إن حالتي اليوم، وأنا طليق مراقَب أكثرُ شدة عليّ من الأيام التي كنت مسجونا فيها، وإن يوما واحدا من هذه الحياة يضايقني أكثر من شهر كامل في سجني المنفرد ذاك. لقد مُنعتُ من كل شيء رغم ضعفي وتقدمي في السن وفي هذا الشتاء القارس. فلا أقابِل غير صبي وشخص مريض. على أنني منذ عشرين سنة أعاني مأساة حبس منفرد.

إن تزييدهم المضايقات والمراقبة عليّ وعزلي عن الناس أكثرَ من هذا الحد سيمس غيرة الله سبحانه وتعالى وتكون العاقبة وخيمة..

إنني أقول: إن أهم وظيفة لهذه الحكومة -بمسؤولِي الأمنِ ومأموري العدل فيها- والتي تعاملني معاملة وجدانية إنسانية هي حمايتي حماية تامة. لأن الحكومة وثلاث محاكم عدلية برّأتْ ساحتنا وأفرجت عنا بعد إجراءِ تدقيقات دامت طوال تسعة أشهر على ما كتبتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات ومكاتيب. ولكن المنظمة السرية التي تعمل بخفاء في خدمة الأجنبي ألقت في رُوع قسمٍ من الموظفين الشبهاتِ -بجعلها الحبة قبّة- طمعا في إفساد براءتنا. وغايتُهم في ذلك هي أن ينفَدَ صبري فأقولَ: «كفى كفى!!» على أن سبب غضبهم عليّ في الوقت الحاضر هو سكوتي، وعدم تدخلي بأمور الدنيا. وكأنهم يريدون أن أتدخل حتى تتحقق لهم بُغيتهم.

أبيّن لكم بعض مكايدهم التي يستعملونها في بث الشكوك والشبهات في قلوب قسم من الموظفين الحكوميين؛ إذ يقولون: إن لسعيد نفوذا في الأوساط العامة، وإن مؤلفاته كثيرة ولها تأثير بالغ في الناس، فمن يتقرب منه يصادقه، لذا يلزم كسر هذا النفوذ بتجريده من كل شيء وإهانته وعدم الاهتمام به وتجنيب الناس منه وإخافة محبيه. وهكذا أصبحت الحكومة في حيرة من أمرها فتُشدد عليّ الخناقَ وتُضاعف المضايقاتِ. وأنا أقول:

أيها الأخوة المحبون لهذه الأمة والبلاد

أجل، إن هناك نفوذا وتأثيرا كما يقوله المنافقون، ولكن ليس لي، وإنما لرسائل النور. فرسائل النور لا تنطفئ وكلما تعرّض لها شيءٌ قويَت! ولم تُستعمل إلّا لصالح الأمة والبلاد ولا يمكن غير ذلك. إن قيام محكمتين عدليتين طوال عشر سنوات بتدقيقاتِ ما كتبتُه خلال عشرين سنة تدقيقا شديدا لم يسفر عن حجة حقيقية لإدانتنا.. وهذه حجةٌ لا تُجرح وشاهدُ صدق لدعوانا.

نعم، إن المؤلفات ذات تأثير بالغ، ولكن لمصلحة الأمة والبلاد. وذلك بإرشادها إلى الإيمان التحقيقي لمائة ألف من الناس من دون أن تمسّ أحدا بسوء. فتأثيرها إذن هو في العمل لسعادتهم الدنيوية وحياتهم الأبدية.

إن مئات المساجين المحكومين في سجن «دنيزلي» -بعضُهم عوقبوا بعقوبات شديدة- قد أصبحوا متدينين ذوي أخلاق فاضلة بعد قراءتهم رسالة «الثمرة» وحدها، حتى الذين قَتلوا ثلاثة أشخاص تحاشَوا عن قتل بقة الفراش بعد قراءتهم لتلك الرسالة. مما دفع هذا الوضع مديرَ السجن على الإقرار بأن السجن أصبح في حُكم مدرسة تربوية.. كل هذا حجة قوية لا تُجرح لصدق مدّعانا.

نعم، إن تجريدي من جميع حقوقي الإنسانية بعد هذا كله إنما هو ظلم مضاعف وعذاب مضاعف وغدر وخيانة لهذه الأمة في الوقت نفسه. ذلك لأن الدليل القاطع على أن هذه الأمة المتدينة -التي لم يجد أحد أيَّ ضرر مني رغم بقائي ما يقرب من أربعين سنة بين ظهرانيهم- بحاجة إلى قوة معنوية وتسَلٍّ عظيم، هو أن الأمة لا تلتفت إلى الدعايات المُغرضة المشاعة ضدي، فتتوجه في كل مكان إلى رسائل النور وتشتاق إليها.. بل أعترف أنهم يبدون من التوقير والاحترام لي يفوق ما أستحقه بمائة ضعف، فأنا لست أهلا له.

لقد سمعت أن المسؤولين عهدوا إلى حكومة هذه المنطقة أمر إعاشتي الدنيوية، وإنني إذ أشكر هؤلاء أعلن لهم:

أن حريتي في أداء واجبي هي أهم من كل شيء. فهي أول ركن من دستور حياتي. وإن سلب حريتي بحبائل الأوهام الكاذبة وتقييدها بقيود الاستبداد والطغيان يجعلني أملّ الحياة مللا شديدا حتى أفضّل القبرَ على هذه الحالة فضلا عن السجن والحبس. إلّا أن الذي يشدّ أزري ويدفعني إلى التحمل والصبر هو الثواب الذي يُجزل بحسب المشقة في سبيل خدمة الإيمان. إن على هؤلاء الذين لا يريدون ظلمي أن يردّوا عليّ حريتي ولا يمسّوها بسوء. إنني أتمكن أن أعيش من دون طعام ولكني لن أعيش من دون حرية.

نعم، إن الذي عاش على مبلغ لم يزد على مائتي ليرة تركية طوال تسع عشرة سنة مع الأخذ بمنتهى الاقتصاد والقيام برياضة روحية شديدة حفاظا على حريته وعزته العلمية من دون أن يعرض نفسه إلى ذلّ الصدقة والمسألة والتوسل بالزكاة والمرتّبات والهدايا.. لا ريب أنه اليوم أحوج ما يكون إلى الحرية ضمن العدالة منه إلى الإعاشة..

إن ما يعوّضُ عن عشرة من الناس يُحال بيني وبينهم، أن هناك عشرات الألوف بل مئات الألوف من المسلمين يعكُفون على دراسة رسائل النور دون أن يكترثوا بالموانع والعراقيل أيا كانت. إن كل نسخة من ألوف نسخ رسائل النور التي انتشرت في أرجاء البلاد وفي العالم الإسلامي، تقوم مقامي في الكلام والبيان، بل أفضل مني، لما فيها من حقائق رصينة وفوائد جمة. فبسكوتي لن تسكت تلك الرسائل ولن تُسكتها أيةُ قوة..

* * *

محاورة مع وزير العدل والحكام الذين لهم علاقة برسائل النور

أيها السادة!

لِمَ تنشغلون بنا وبرسائل النور دون داع أو سبب. إني أبلّغكم قطعاً ما يلي:

إنني ورسائلَ النور لا نبارزكم، بل ولا نفكر فيكم، بل نعدّ ذلك خارج وظيفتنا، لأن رسائل النور وطلابها الحقيقيين يؤدون خدمة جليلة للجيل المقبل الذي سيأتي بعد خمسين سنة ويسعون لإنقاذهم من ورطة جسيمة، ويجدّون في إنقاذ هذه البلاد والأمة من خطر عظيم، فمن ينشغلْ بنا الآن فسيكون رميماً في القبر في ذلك الوقت. بل لو افترض أن عملنا -الذي هو لتحقيق السعادة والسلامة- مبارزة معكم فلا ينبغي أن يمسّ الذين سيكونون تراباً في القبر.

إن إظهار أعضاء الاتحاد والترقي شيئاً من عدم المبالاة في الحياة الاجتماعية وفي الدين وفى السجايا القومية أدّى إلى ظهور الأوضاع الحالية بعد ثلاثين سنة تقريباً من حيث الدين والأخلاق والعفة والشرف. فالأوضاع الحاضرة ستنعكس على الجيل الآتي لهذه الأمة -البطلة المتدينة الغيورة على شرفها- بعد خمسين سنة. ولا يخفى عليكم ما ستؤول إليه السجايا الدينية والأخلاقية الاجتماعية.

سيلطخ قسم من الجيل الآتي ذلك الماضي المجيد لهذه الأمة المضحّية منذ ألف سنة، بلطخات رهيبة قد تقضي عليه بعد خمسين سنة.

لذا فإنّ إنقاذ قسم من هذا الجيل من ذلك التردي المريع بتزويده بالحقائق التي تحتويها رسائل النور تُعَدُّ أفضل خدمة لهذه الأمة ولهذا الوطن. فنحن لا نخاطب إنسانَ هذا الزمان بل نفكر بإنسان ذلك الزمان.

نعم، أيها السادة! على الرغم من أن رسائل النور لا تسدد نظرها إلّا إلى الآخرة ولا تهدف غيرها وليست لها غاية سوى رضا الله وحده وإنقاذ الإيمان، ومسعى طلابها ليس إلّا إنقاذ أنفسهم ومواطنيهم من الإعدام الأبدي والسجن الانفرادي الأبدي، فإنها في الوقت نفسه تقدم خدمة جليلة أيضاً تعود فائدتها للدنيا وإنقاذ هذه الأمة والبلاد من براثن الفوضى وإنقاذ ضعفاء الجيل المقبل من مخالب الضلالة المطلقة، لأن المسلم لا يشبه غيره، فالذي يحل ربقته من الدين ليس أمامه إلّا الضلالة المطلقة فيصبح فوضوياً إرهابياً، ولا يمكن دفعه إلى الولاء للإدارة والنظام.

نعم، في الوقت الذي نجد خمسين بالمائة ممن تربّوا بالتربية القديمة لا يكترثون بالأعراف الشعبية والإسلامية، فإنه بعد خمسين سنة يسوق تسعون بالمائة منهم هذا الوطن والأمة -بنفوسهم الأمارة بالسوء- إلى فوضى ضاربة أطنابها. فلا شك أن التفكر في هذا البلاء العظيم ومحاولة التحري عن أسباب لدفعه، هو الذي دفعني قبل عشرين سنة إلى ترك السياسة كلياً وعدم الانشغال مع أناسي هذا الزمان، مثلما دفع رسائلَ النور وطلابَها إلى قطع علاقتهم مع صراعات هذا الزمان. فلا مبارزة معهم ولا انشغال بهم.

ومادامت هذه هي الحقيقة، فإن الواجب الأول لجهاز العدالة ليس اتهامي واتهامَ طلاب النور، بل القيام بحماية رسائل النور وطلابها، لكونهم يحافظون على أعظم حق من حقوق الأمة والبلاد، فإن الأعداء الحقيقيين لهذه الأمة والبلاد يهاجمون رسائل النور ويدفعون أجهزة العدالة -بعد خداعها- لارتكاب أفظع المظالم وأبشع الجنايات.

سأَعرض أنموذجين صغيرين جدا:

الأول: رسالة لرفيقي في السجن تتضمن الاستفسار عن الأحوال، وبرفقتها عشرة «بنكنوت» ثمن رسالة عربية لي لتُعطى إلى من دَفَع مصاريف الطبع في إسبارطة. ضايقتني الدوائر العدلية والحكومة من جراء هذه الرسالة، وأجرت تحرّيا في مسكنِ مَن أصبح وسيلةً للطبع. أقول: إنّ جَعْلَ هذه الرسالة التي لا أهمية لها -حتى بقدر جناح بعوضة- والمراسلة التي لم تتم إلّا في غضون ستة أشهر… كأنها مسألة عظيمة، لا تليق بلا شك بكرامة العدلية وشرفها.

الأنموذج الثاني: إن ترويع الناس من شخصي الضيف، الضعيف، الغريب، الشيخ، الذي برّأته المحاكمُ، بل حتى ترويع من يعينه في أموره الشخصية بإطلاق دعايات مغرضة، بصورة رسمية، ومن ثم إقحامي في وضع مؤلم، لا يليق بالغيرة القومية لحكومة هذه الولاية.

نعم، إن إطلاق الدعايات المغرضة وإلقاء الرعب في قلوب الناس، وجعل ضرر موهوم لا يساوي شيئا كأنه ضرر جسيم، والاستفسار الدائم: مع من يلتقي؟. من يأتيه؟… وأمثالها… لاشك أن حكمة الحكومة وحاكميتها لا ينبغي أن تتنازلا إلى هذه الحالة العجيبة… وعلى كل حال هناك مواد كثيرة تورث الحيرة لدى المطلعين عليها، كهذين الأنموذجين.

أيها السادة!

إنّ دفع الضلالة والفساد سهل ويسير إن كانت آتية من الجهل، بينما إزالتها عسير جدا إن كانت آتية من العلم.

ففي هذا الزمان تأتي الضلالة من العلم، لذا لا يمكن إزالتها وإنقاذُ من تردّى فيها من الجيل المقبل إلّا بأن يكون لديهم مؤلف كامل كرسائل النور. والدليل على أن رسائل النور لها هذه القيمة هو:

أنه لم يعارض رسائلَ النور -منذ عشرين سنة- أحدٌ من معارضيّ الأشداء الكثيرين ولا أحد من الفلاسفة المتعنتين ولم يستطيعوا -ولا يستطيعون- جرحها.. وكذا عدم عثور ثلاث دوائر عدلية والخبراء في مركز الحكومة على مادة تديننا بعد التحري في مائة كتاب طوال تسعة أشهر… وكذا إيراثها القناعة التامة لألوف المدققين من طلابها.

نعم، إن عدم عثور محكمتين ومركزِ الحكومة وضباطِ أمن لبضع ولايات ومحكمةِ دنيزلي على أية مادة توجب العقاب وتلحق الضرر بالأمة والوطن في جميع الرسائل الخاصة والعامة منذ عشر سنوات يثبت أن لرسائل النور حقوقا عظيمة وكلية شاملة في هذا الوطن..

وحيث إن واجب دوائر العدل هو الحفاظ على الحقوق ومنعُ المتعدين من التجاوز، فإن إهمال هذه الحقوق المهمة ومصادرةَ الرسائل كأنها أوراق اعتيادية، والإجحاف بحق الأمة والمحتاجين إلى إنقاذ الإيمان، مع وجوب الأخذ بنظر الاعتبار حقَّ شخص اعتيادي باهتمام…

ورغم ثبوت خدمة رسائل النور لسعادة مائة ألف من الناس طوال عشرين سنة.. فإننا نذكّركم أن هذا عمل لا ينسجم مع ماهية العدلية وحقيقة العدالة بأي شكل من الأشكال.

إننا نخشى أن يكون التعرض لرسائل النور وعدمُ التعرض لمؤلفات كثيرة لزنادقة كالدكتور «دوزي»، وسيلةً لنـزول الغضب الإلهي.

نسأل الله أن يرزقكم الإنصافَ والرحمة ويلهمنا الصبر والتحمل. آمين.

سعيد النُّورْسِيّ

في الحبس الانفرادي بصورة غير رسمية

* * *

[وشاورهم في الأمر]

باسمه سبحانه

اتباعا للأمر الإلهي: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْاَمْرِۚ﴾ (آل عمران:159) أجد نفسي بحاجة إلى التشاور مع إخوتي.

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إنني الآن أمام أمر واقع، حيث أمرَت السلطاتُ بتخصيصِ مبلغ قدره اثنان ونصف «بنكنوت» لمعيشتي اليومية، علاوةً على منـزل مؤثث حسبما أُريده، علما أن دستور حياتي الذي نفّذتُه طوال ما يقرب من ستين سنة يقتضي رفضَ هذا. فما قبلتُ مرتّبا إلّا لمدةِ سنتين تقريبا عندما كنت عضوا في «دار الحكمة الإسلامية» وهذا أيضا صرفتُه لطبع كتبي وتوزيعِها مجانا على الناس، فرددت بضاعتَهم إليهم.

ولكن لو قَبلتُ الآن ذلك المبلغ مضطرا فسوف أقبله لئلا يصيبكم ورسائلَ النور الضررُ وبشرط أن أُعيده في المستقبل إلى الناس. ولا أصرف منه إلا القليل الذي تستوجبه الضرورةُ القاطعة.

وقد طرق سمعي أنني إذا رفضتُ الأمر، فسوف يستاء إذن أولئك الذين يسعون لصالحنا ولاسيما لإعاشتي. بينما المعارضون يقولون: إن معيشة هذا الشخص إذن تَردُ من مكان آخر. فما أجهَلُهَم ببركة الاقتصاد العظيمة! إنهم لم يشاهدوا أن رغيفا بخمسة قروش يكفيني ليومين.

ولكن إذا ما قبلت بالأمر فستستاء سبعون سنة من العمر، فضلا عن استياء الإمام علي رضي الله عنه الذي أخبر عن علماء السوء في زماننا هذا، الذين يجترحون السيئات ويتلوثون بالبدع إشباعا للرغبات وطمعا للمرتّبات.

وهناك جهة أخرى، وهي أن الإخلاص الحقيقي الصافي الذي تتمتع به رسائلُ النور سيتّهمني بعدم الإخلاص. ولأجل هذا فأنا في حيرة من هذا الأمر.

وقد سمعت أيضا أنني لو رفضت الأمر فسيزيدون مضايقاتهم عليّ، وربما يعرقلون نشر الرسائل وإطلاق حريتها كليا، بل علمت أن مضايقاتهم عليّ إنما هي لحملي على قبول الإعاشة.

فما دام الأمر هكذا وأن «الضرورات تبيح المحظورات» فنسأله سبحانه وتعالى ألّا يصيبنا الضرر إذا ما صار الأمر في حد الضرورة.

ومع هذا رفضتُ الأمر، فأحيل الموضوع إلى مشاورتكم.

إخوتي الأعزاء!

لا تقلقوا عليّ لأنى أشـــاهد في كل أمر عســير أثـــرَ الرحمة الإلهية ولمعةَ عنايته تعالى. فلا تتضايقوا فإن ســعيَكم وهمّتكم ومعاونتكم لي تـزيــل كلَّ ضيق وتنشر الســرور والانشراح دوما.

* * *

[إننا تحت العناية الربانية]

إخوتي!

لا تقلقوا أبدا، فقد اقتنعتُ قناعة تامة بأننا تحت العناية الإلهية، ونُستخدَم بإرادة غيبية خارجة عن اختيارنا واقتدارنا، وفي عمل جليل في منتهى الأهمية، فنحن كثيرا ما ننال سر الآية الكريمة: ﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْۚ﴾ (البقرة:216) نعم، إن في عملنا تعبا قليلا إلّا أن الثواب جزيل.

* * *

[اقضوا ما أنتم قاضون]

عندما كنت أصحح الثمار الفردوسية واليوسفية للأبطال الميامين، جلبتْ انتباهي تلك الرسالة (الثمرة) حيث بدت لي أهميتها. فصرخت: لو تضاعفت متاعب السجن كلها مائة ضعف فقد أدّت هذه الرسالة أضعافها من الوظائف، إذ تستقرئ نفسها في شتى الأوساط العامة، وتسوق إلى الإيمان حتى المتعنتين.

أيها الشقاة، يا من تضيّقون عليّ الخناق! اعملوا ما شئتم واقضوا ما أنتم قاضون، فلا أهمية لعملكم، كل المصائب التي تنـزل بنا هينة تافهة، بل إنها عناية إلهية محضة ورحمة بعينها… قلت هذا ووجدت السلوان الكامل.

سلامنا إلى جميع طلاب النور، داعين لهم بالسلامة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[إننا نقيم سدا قرآنيا]

…..

الشكر لله شكرا لا منتهى له، فقد أحسن إليّ حالةً روحية بحيث أضحّى بألوفٍ من كرامتي وشرفي في سبيل راحة الضعفاء ودفعا للبلاء النازل بهم.

فقررت أن أتحمّل جميعَ إهاناتهم وحقاراتهم وكل ما تنطوي عليه صدورُهم من نيات فاسدة. وإني مستعدٌ لتلقّي كل ذلك في سبيل استتباب الأمن والنظام في ربوع البلاد، ولا سيما لراحة الأطفال الأبرياء والشيوخ الموقرين والمرضى الضعفاء والفقراء، وسعادتهم الدنيوية والأخروية…

إننا نسعى بما أُوتينا من قوة لإقامة سدٍّ قرآني شبيه بسد ذي القرنين أمام الفوضى والإرهاب، فالذين يتعرضون لنا إنما يهيؤون الأوساط ويمهّدون السبيل للفوضى والشيوعية.

نعم، لو كنتُ على دأبي السابق في أن أردّ كل إهانة وتحقير حفاظا على عزة العلم.. ولو لم تكن وظيفتي الحقيقية منحصرة في أمور الآخرة وحدها وموجهة لإنقاذ المسلمين من الإعدام الأبدي للموت.. ولو كان سعيي هو لأجل الحصول على حطام الدنيا واللهاث وراء شؤون السياسة السلبية، كما هو الشغل الشاغل للمعترضين عليّ.. لكان هؤلاء المنافقون الذين يعملون في سبيل الفوضوية والإرهاب سببا في حدوث عشرات الحوادث من أمثال «منَمَن» وحادثة «الشيخ سعيد».

ولكن شخصا مثلي واقف على عتبة القبر، لا علاقة له مع شيء من الدنيا، بل قد تجافى عنها، وفرّ من توجه الناس وإقبالهم عليه، ولم تبق لديه رغبةٌ في كسب الشهرة والعجب وأمثالهما من الرياء، فلله الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر.

ففي هذه الحالة لم تبق لإهانتهم غير القانونية لشخصي أية أهمية، أُحيل ذلك إلى العلي والقدير. فأتفكر في الذين عذبوني بناء على شكوك وظنون، وأتألم لحالهم تألما حقيقيا فأقول: يا رب أنقذ إيمان هؤلاء برسائل النور، وحوّل موتهم بسر القرآن من الإعدام الأبدي إلى تذكرةِ تسريح من الحياة. وأنا بدوري أُسامحهم وأصفح عنهم وأتنازل لهم عن حقي.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[لِمَ لَم يُستجب الدعاء؟]

جواب عن سؤال سألنيه باسم الكثيرين أحدُ طلاب النور الصغار الذي يعاونني في أموري الشخصية.

سؤال: أستاذي المحترم!

لِمَ لم يُستجب الدعاء والصلاة المقامة للاستسقاء، حيث تجمّعت السحُب عدة مرات ثم تفرقت دون إنزال المطر؟

الجواب: إن انحباس المطر هو وقت هذا النوع من الدعاء والصلاة، وليس علّتَه

وحكمتَه. فكما تُصلَّى صلاةُ الكسوف والخسوف عند الكسوف والخسوف، وكما تصلَّى صلاة المغرب عند غروب الشمس، كذلك انحباس المطر والجفاف هو وقت صلاة الاستسقاء ودعاؤه.

من المعلوم أن سبب العبادة والدعاء هو الأمر الإلهي، ونتيجتَها رضاه تعالى، وفوائدَها أخروية. فلو قُصدت من الصلاة والعبادة مقاصدُ دنيوية، وأُديت لأجلها فحسب فلا تُقبل تلك الصلاة والعبادة. إذ كما لا تُؤدى صلاةُ المغرب لأجل غروب الشمس ولا صلاة الخسوف لأجل انكشاف القمر، كذلك أداء صلاة الاستسقاء لأجل إنزال المطر خطأ، إذ إنزالُه من أمر الله، وواجبنا نحن تجاهه سبحانه العبوديةُ والدعاء من دون التدخل بما هو موكولٌ أمرُه إليه تعالى.

ولكن على الرغم من أن النتيجة الظاهرة لصلاة الاستسقاء هي نزولُ المطر، فإن نتيجتها الحقيقية والأصلية والنافعة وثمراتها الجميلة الطيبة هي إدراك الجميع أن الذي يربّيه ويغذّيه ليس والديه ولا محله ولا دكانه، بل مَن يرسل السحاب الثقال بالماء الثَّجَّاج، فهو الذي يرسل إليه الرزق. وحتى الطفلُ الصغير يدرك هذا المعنى الواسع بعقله الصغير، لما هو معتاد عليه من التوسل والرجاء كلما جاع. فالمعنى الذي ينطوي عليه الاستسقاء هو أن الذي يدبّر أمر الدنيا الهائلة كدارٍ صغيرة ويغذيني والأطفالَ جميعا وأهلَ الدار، ويبعث إليهم رزقهم إنما هو سبحانه. فلا نفع من غيره إن لم يَرزُق هو سبحانه. فما علينا إلّا أن نتوسل إليه وحده.. وبهذا يقوى إيمان المرء.

ولهذه المناسبة ستُبيَّن ست نقاط باختصار:

النقطة الأولى: إن ثمن النعمة الإلهية ورحمتَها هو الشكر، ولكننا لم نؤد الشكر حقه. وكما لم نؤد ثمن الرحمة بالشكر جلبْنا الغضبَ الإلهي بظلمنا وعصياننا. وقد جعلت البشريةُ نفسَها مستحقة للعقاب بما تقترف من ظلم ودمار وكفر وعصيان، وعوقبتْ من جراء ذلك بشتى أنواع العقاب الصارم، فلا جرم أن يكون لنا حظ من ذلك العقاب.

النقطة الثانية: ورد في حديث شريف ما معناه أنه حتى الأسماك في جوف البحر تشتكي إلى الله من الظالمين والعاصين فينقطع المطر، وتقل أرزاقنا بسبب ظلمهم.

نعم، إن المظالم والذنوب التي تُرتكب في هذا الزمان لا تدع مجالا لطلب الرحمة من الله. وحتى الحيوانات الأبرياء تتأذى من جرائها.

النقطة الثالثة: تقول الآية الكريمة: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَٓاصَّةًۚ (الأنفال:25) إذ لو نجا الأبرياءُ من مهالك المصيبة العامة نجاةً خارقة، لفسدت حكمةُ الدين الذي هو امتحان واختبار. وعند ذلك يصدّق الفاسدون -كأبي جهل- تصديق أبى بكر الصديق رضي الله عنه. ولأجل هذا يقاسي الأبرياءُ أيضا البلايا في المصيبة العامة.

النقطة الرابعة: إنه لِكثرة اختلاط الحرام في الأموال والأرزاق بسبب تفشي الحيل والغش والرشوة.. يُسلب الناسُ حقَّ الترحّم عليهم، بسبب الظلم أو عدم الشكر أو خلط الحرام بأموالهم.

النقطة الخامسة: إن رسائل النور في الأناضول وسيلةٌ مهمة لدفع البلايا، إذ كما تَدفع الصدقةُ البلاءَ، فإن نشر رسائل النور وقراءتها صدقةٌ كلية ووسيلةٌ لدفع بلايا سماوية وأرضية. وقد تبين ذلك بأمارات كثيرة ووقائع كثيرة، بل تحقق ذلك بإشارات من القرآن الكريم.

النقطة السادسة: إن انقطاع المطر مصيبةٌ وبلاء، وجزاءُ عمل، فينبغي مقابلة هذا بالالتجاء إلى الله تعالى والدعاء مع العبودية الخالصة في حالةٍ من بكاء وانكسار قلب، وحزنٍ وتضرّع كامل، وندامة جادة، وتوبة نصوح، واستغفار من كل الذنوب، وأن يجري ذلك كله ضمن دائرة السنة النبوية ومن دون تدخّل البدع، وعلى الصورة التي تعيّنه الشريعة.

فأمثال هذه المصائب العامة -لكونها آتية من ذنوب معظم الناس- تندفع بقيام القسم الأعظم منهم بالتوبة والندامة والاستغفار.

* * *

رسائل متفرقة (10)

 [مدرسة معنوية في البرزخ]

كنت أسمع أيام كنت طالبا من أناس موثوقين كلاما نقلا عن أئمة عظام.

وهو: «أن طلاب العلوم الجادين الخالصين المحبين للعلم، الذين يتوفون في أثناء دراستهم للعلوم يكونون في البرزخ أيضا في مدرسة معنوية وكأنهم في دراستهم السابقة. فينعم الله سبحانه عليهم وضعا ملائما لذلك العالم». كان هذا الكلام يدور كثيرا في ألسنة طلاب العلوم آنذاك.

ولما كان طلاب النور في الوقت الحاضر هم خلّص طلاب العلوم فإن وظيفة محمد زهدى وعاصم ولطفي وأمثالهم من الطلاب المتوفين رحمهم الله مستمرة بلا شك لأجل إضافة حسناتٍ إلى سجل أعمالهم بأقلامهم المعنوية التي تعمل عملها إن شاء الله.

* * *

[لا تُطلب مقاصد دنيوية بالعبادة الفكرية]

إن رسائل النور لا تكون وسيلة قطعا لكسب مصالح دنيوية، ولا تستغل ترسا لدفع أضرارها، لكونها عبادة فكرية ذات شأن وأهمية. فلا تطلب بها مقاصد دنيوية بالذات، إذ لو طُلبت يفسد الإخلاص ويتغيّر شكل تلك العبادة الجليلة. ويكون المرء كالصبيان الذين يتترسون بجزء المصحف الذي يتلونه لدى عراكهم بعضهم ببعض. فالضرر الذي يصيب رأسه سيمس ذلك المصحف حتما، لذا لا ينبغي أن يُتترّس برسائل النور تجاه هؤلاء الخصوم العنيدين.

نعم، لقد نزلت صفعاتُ تأديب بالذين يتعرضون لـرسائل النور ويعادونها، فهناك مئات الوقائع تُثبت هذا، ولكن يجب ألّا تستعمل رسائل النور في إنزال الصفعات بل لا تنـزل بالنية والقصد لأنه عمل مناف لسر الإخلاص والعبودية لله.

فنحن نكل أمر مَن ظلمنا إلى ربنا الجليل الذي حمانا واستخدمنا في خدمة رسائل النور..

نعم، إن نتائج خارقة تخص الدنيا تترتب بكثرة على رسائل النور -كما هي في الأوراد المهمة- ولكن لا تُطلب هذه النتائج، وإنما توهَب. فلا تكون علّة للأمر قطعا، وإنما يمكن أن تكون لها فائدة. فلو حصلت نتيجةَ الطلب، كانت إذن علةً، مما يفسد الإخلاص ويُبطل قسما من تلك العبادة…

نعم، إن مقاومة رسائل النور مقاومة غالبة للكثرة الكاثرة من المنكرين المعاندين، إنما هي مما تحمله من سر الإخلاص.. ومن عدم كونها وسيلة لأي غرض كان.. ومن توجُّهِ نظرها مباشرة إلى السعادة الأبدية.. ومن عدم تتبعها أي قصد كان سوى خدمة الإيمان.. ومن عدم التفاتها إلى الكشف والكرامات الشخصية التي يوليها بعض أهل الطرق أهمية.. ومن كونها تَحصر وظيفتَها في نشر أنوار الإيمان وإنقاذ إيمان المؤمنين، مما كَسبته من سر وراثة النبوة التي هي شأن الصحابة الكرام الحاملين للولاية الكبرى.

نعم، إن ما تُكسبه رسائلُ النور طلابَها في هذا الزمان الرهيب من نتيجتين ثابتتين على وجه التحقيق جديرتان بالاهتمام. وهما تفوقان أي شيء آخر حتى لا تدَعان حاجة إلى النظر إلى مقامات معنوية وأمور أخرى غيرها.

فالنتيجة الأولى هي: أن من يدخل دائرة رسائل النور بوفاء صادق واقتناع كامل، تُختم حياته بالحسنى، أي يدخل القبر بالإيمان. فهناك أدلة قوية على هذا.

والنتيجة الثانية هي: ما تَحقق وتقرر في دائرة النور من الاشتراك المعنوي في أعمال الآخرة الذي دُفعنا إليه دون اختيارنا ولا علمِنا، كأن كل طالب حقيقيٍ صادق يقوم بالدعاء والاستغفار والعبادة بألوف الألسنة والقلوب، والتسبيح لله بأربعين ألف لسان كما هو لدى بعض الملائكة. ويتحرى عن الحقائق السامية والرفيعة بمئات الألوف من الأيدي كحقيقة ليلة القدر في شهر رمضان المبارك.

ولأجل مثل هذه النتيجة: يرجِّح طلاب النور خدمة النور على مقام الولاية ولا يتطلعون إلى الكشف والكرامات ولا يَسعون لقطف ثمرات الآخرة في الدنيا. ويفوِّضون التوفيق في نشر الرسائل وجعلِ الناس يتقبلونها والترويج لها، ونيل مظاهر الشهرة والأذواق والعناية الإلهية التي يستحقونها، وأمثالِها من الأمور التي هي خارجة عن نطاق وظيفتهم، يفوّضونها كلها إلى الله سبحانه ولا يتدخلون فيها. فلا يبنون أعمالهم وحركاتهم على تلك الأمور. وإنما يعملون بإخلاص تام قائلين: تكفينا وظيفتنا، وهي خدمة الإيمان ليس إلّا.

* * *

[من مزايا رسائل النور]

 إن رسائل النور في هذا العصر، وفي هذا الوقت بالذات عروة وثقى، أي سلسلة قوية لا تنقطع، وهي حبل الله. فمن استمسك به فقد نجا.

 إن رسائل النور برهان باهر للقرآن الكريم، وتفسير قيّم له، وهي لمعة براقة من لمعات إعجازه المعنوي، ورشحة من رشحات ذلك البحر، وشعاع من تلك الشمس، وحقيقة ملهمة من كنـز علم الحقيقة، وترجمة معنوية نابعة من فيوضاته..

 إن رسائل النور ليست كالمؤلفات الأخرى التي تستقي معلوماتها من مصادر متعددة من العلوم والفنون، فلا مصدر لها سوى القرآن، ولا أستاذ لها إلّا القرآن، ولا ترجع إلّا إلى القرآن.. ولم يكن عند المؤلف أي كتاب آخر حين تأليفها، فهي ملهمة مباشرة من فيض القرآن الكريم، وتنـزل من سماء القرآن ومن نجوم آياته الكريمة…

 إن الذي يدفع اعتراضات الملحدين التي تُعدّ منذ ألف سنة للنيل من القرآن الكريم.. والذي يزيل شبهات الفلاسفة الكفرة التي تراكمت منذ أمد سحيق، ووجدت الآن سبيلا للانتشار.. والذي يصد حقد اليهود الذين يُضمِرون العداء والثأر من القرآن الكريم الذي زجرهم وعنّفهم.. والذي يقابل هجوم نصارى مغرورين على القرآن الكريم..

نعم، إن الذي يدفع هذه الغارات جميعها هم أبطال ميامين، وقلاع معنوية حصينة للقرآن الكريم وُجدوا في كل عصر من العصور. ولكن الآن غدت الحاجة ماسة أكثر إلى أولئك الأبطال، إذ زاد عدد المهاجمين من واحد واثنين إلى المائة. وقلّ عدد المدافعين عن القرآن من المائة إلى اثنين أو ثلاثة. فضلا عن أن تعلّم الحقائق الإيمانية من علم الكلام أو المدارس الشرعية يحتاج إلى زمن طويل، لا تسمح به أحوالُ هذا الوقت، فانسدّ ذلك الباب أيضا. أما رسائل النور فهي تُعلِّم الحقائق الإيمانية العميقة جدا بأسلوب يفهمه كل الناس في أقصر وقت.

 إن خاصية مميزة راقية لـرسائل النور هي: أنه في هذا العصر العجيب يستند الكفرُ والإيمان إلى آخر الحصون في المبارزة القائمة بينهما. فـرسائل النور تبين تلك الركائز النهائية بيانا قويا قاطعا. وهذه الخاصية تظهر في رسالة «الآية الكبرى» بأسطع ما يمكن، إذ تبين الصراع القائم بين الكفر والإيمان حتى في آخر ركائزهما. ولنوضح هذا بمثال.

فمثلا: إن في ميدان حرب عظيمةٍ وأثناء اجتماعِ حُشود الجنود من الطرفين واصطدامِ فوجين منهما، يُمدّ العدو فوجه بالأعتدة والأجهزة الحربية ليشد من قواهم المعنوية ويقويها، فيسخر كل الوسائل الممكنة لذلك، منها التهوين من معنويات أهل الإيمان وتفتيت تساندهم وترابطهم، بمعنى أنه لا يدع وسيلة إلّا ويستعملها في سبيل تشتيت قوة أهل الإيمان المعنوية التي هي قوة احتياطية ساندة عظيمة. حتى إنه يبعث على فوج المسلمين وعلى كل فرد من أفراده مجموعة متساندة مترابطة مشبعة بروح الجماعة والتنظيم الخاص.

وإذ يحاول العدو إفناء القوة المعنوية لفوج المسلمين إفناءً كاملا، يَظهر أحدُهم كالخضر عليه السلام ويقول:

«لا تيأس أيها المسلم! فإن لك نقطةَ استنادٍ عظيمة وركيزة لا تتزعزع قط، وجيوشا جرّارة لا تُغلَب، وقوى احتياطية لا تنفد، فلو اجتمعت عليك الدنيا بأسرها لا يمكنها أن تبارِز تلك القوى وتتحداها، بل لا يقدر على تدميرها إلّا مَن يملك قدرة على تدمير الكون بأسره. أما سبب انهزامك في الوقت الحاضر فهو إرسالك جنديا واحدا ليقابل جماعة منظمة وشخصا معنويا. فاسعَ أيها المسلم، ليكون كل جندي من جنودك في حكم جماعة وبمثابة شخص معنوي يستمد معنوياته من الدوائر المحيطة به».

وهكذا يمتلئ قلب المسلم قناعةً واطمئنانا من كلام الخضر.

والأمر كذلك في رسالة «الآية الكبرى»؛ إذ إن أهل الضلالة المُغيرين على أهل الإيمان أصبحوا روحا خبيثة تسري في الأمة، وشخصية معنوية حاملة لروح الجماعة والتنظيم الخاص تُفسد وجدان الناس وقلوبهم عامة في العالم الإسلامي، وتُمزق الستار الإسلامي السامي الذي يحيى العقائد التقليدية لدى عوام المسلمين، وتحرق المشاعر المتوارثة أبا عن جد.. تلك المشاعر التي تديم الحياة الإيمانية..

فبينما يحاول كل مسلم -يائسا- لينجو بنفسه من هذا الحريق المرعب الذي شبّ في أرجاء العالم. إذا بـرسائل النور تأتي كالخضر عليه السلام، وتَمدّ إليه يد العون والمساعدة، وإذا برسالة «الآية الكبرى» كالجندي المطيع ذي الخوارق، تستمد الإمداد المعنوي والمادي الذي لا يقاوَم من آخر جيوشه المحيطة بالكون… أما سائر النقاط في المثال، فعليكم تطبيقها كي تتبين خلاصة ذلك السر.

 إن رسائل النور كذلك ليست نورا مقتبسا، وبضاعة مأخوذة من معلومات الشرق وعلومه، ولا من فلسفة الغرب وفنونه. بل هي مقتبسة من العرش الرفيع السماوي لمرتبة القرآن الكريم الذي يسمو على الشرق والغرب.

 فـرسائل النور التي هي ضياء معنوي، وعلم في منتهى العلو والعمق معا، لا تحتاج دراستُها والتهيؤ لها إلى تكلف، ولا داعي إلى أساتذة آخرين لتعلّمها، ولا الاقتباس من أفواه المدرسين، حيث إن كل شخص يفهم حسب درجته تلك العلوم العالية، دونما حاجة إلى إشعال نار المشقة والتعب للحصول عليها، فيفيد نفسه بنفسه، وربما يكون عالما محقِّقا.

سؤال:

لِمَ خُصَّت رسائلُ النور من بين سائر الكتب القيمة بإشارات من القرآن الكريم، والتفاتته إليها، وباستحسانِ الإمام علي رضي الله عنه وتقديره لها، وبتوجّه الشيخ الكيلاني (قدس سره) إليها والتبشير بها. فما وجه اختصاصها، وما الحكمة في اهتمامِ وتقدير هذين الأستاذين الفاضلين إلى هذا الحد بـرسائل النور؟.

الجواب: من المعلوم أن دقيقة واحدة تكون ذاتَ أهمية تقابل ساعة كاملة وإنها تثمر من النتائج ما تنتجه تلك الساعة، وربما ما ينتجه يوم كامل، قد تكون بمثابة سنين. ويحدث أحيانا أن تكون ساعة واحدة لها من الأهمية وتعطي من النتائج ما لسنة من العمر بل العمر كله.

فمثلا: إن الذي يُستشهد في سبيل الله في دقيقة واحدة يفوز بمرتبة الأولياء.. وإن الذي يرابط ساعة واحدة في ثغر المسلمين عند اشتداد البرد وَصَولة الأعداء الرهيبة، قد تكون له من الأهمية ما لِسَنةٍ من العبادة.

وهكذا الأمر في رسائل النور؛ إذ إن سبب الاهتمام الذي نالته رسائل النور نابع من أهمية الزمان نفسه.. ومن شدة الهدم الذي أحدثه هذا العصر في الشريعة المحمدية والشعائر الأحمدية.. ومن فتنة آخر الزمان الحالية التي استعاذت منها الأمة الإسلامية منذ القِدَم.. ومن زاوية إنقاذ إيمان المؤمنين من صولة تلك الفتن.

فلأجل هذه الأسباب كلها حازت رسائلُ النور أهمية عظمى حتى أشار إليها القرآن الكريم إشارة قوية، والتفت إليها التفاتة كريمة، وبشّر بها الإمام علي رضي الله عنه بثلاث كرامات، وأخبر عنها الشيخ الكيلاني رضي الله عنه إخبارا ذا كرامة، وحضّ مؤلفها.

نعم، لـقـد تزعزعت قــلاع الإيمان التقليديــة وتصدعت أمــام هجمات هــذا العصر الرهيب، ونأَت عن الناس وتسترت بحجب وأسـتار، مما يستوجب على كل مؤمن أن يملك إيمانـا تحقيقيا قويـا جـدا كي يمكّنه مــن المقاومة والثبات وحــده تجاه الضلالة المهاجمة هجوما جماعيا.

فرسائل النور تؤدي هذه الوظيفة، وفي أحلك الحـالات وأرهبها، وفي أحوج الأوقات وأحرجها. فتؤدي خدمتَها الإيمانية بأسلوب يفهمه الناس جميعا. وأثبتت أعمقَ حقائق القرآن والإيمان وأخفاها ببراهين قوية، حتى أصبح كل طالبِ نورٍ وفيٍّ صادق يحمل في قلبه الإيمان التحقيقي كأنه قطب مخفي من أقطاب الأولياء وركيزة معنوية للمؤمنين، وذلك لخدماته الإيمانية في القرية أو القصبة أو المدينة التي فيها. ورغم أنهم غير معروفين وغير ظاهرين ولا يلتقيهم أحد فقد صار كلٌّ منهم بعقيدتهم المعنوية القوية كضابط شجاع في الجيش يبعث مددا معنويا إلى قلوب أهل الإيمان فيثبتهم وينفخ فيهم روح الحماس والشجاعة.

 إخوتي الأوفياء الصادقين الأعزاء.. يا عِماد سلواني في هذه الدنيا، ويا رفقائي الذين لا يَكلّون في خدمة الحقيقة.

بينما كنت أتأسف في هذه الأيام على اشتغال ذهني جزئياً بالدفاعات أمام المحاكم، ورد إلى القلب ما يأتي:

إن ذلك الانشغال هو كذلك اشتغال علميّ، إذ هو خدمة في سبيل نشر الحقائق الإيمانية وتحقيق حريتها وانكشافها؛ فهو نوع من العبادة من هذه الجهة.

وأنا بدوري كلما وجدت ضِيقاً في نفسي باشرتُ بمطالعة مسائل النور بمتعة ولذة، رغم أني اطلعت عليها مائة مرة. حتى وجدت «الدفاعات» هي كذلك مثل رسائل النور العلمية.

ولقد قال لي أحد إخواني: «إنني أشعر بشوق وحاجة إلى تكرار قراءة «رسالة الحشر» وإن كنت قد قرأتها ثلاثين مرة».

فعرفت من كلامه هذا؛ أن رسائل النور التي هي مرآة عاكسة لحقائق القرآن الكريم وتفسير قيم أصيل له، قد انعكست فيها أيضا مزيةٌ رفيعة للقرآن الكريم ألا وهي عدم السأم من قراءتها.

 شكرا وحمدا لله بما لا يتناهى من الحمد والشكر؛ إن عوام المؤمنين في زماننا هذا، الذين هم في أمسّ الحاجة إلى نقطةِ استنادٍ يستندون إليها قد وجدوها في رسائل النور، فهي حقيقة لن تكون وسيلة لأي شيء كان، ولا يداخلها أي غرض أو مقصد كان، ولا تفسح المجال لأية شبهة أو وسوسة كي تدخل فيها، ولا يستطيع أي عدو كان أن يجد حجة لجرحها وتفنيدها.. وإن الذين سيسعون لنشرها يسعون للحق والحقيقة وحدهما دون أن تشوب سعيهم مقاصد دنيوية. كل ذلك ليَطمئن بتلك الحقيقة أولئك البعيدون ويثقوا بناشريها الصادقين اطمئنانا تاما لينقذوا إيمانهم من صولة الزنادقة والملحدين على الدين واعتراضات الفلاسفة وإنكارهم عليه.

 نعم، إن أولئك المؤمنين سيقولون بلسان حالهم: «إن أعداءً شرسين وبهذه الكثرة لم يستطيعوا أن يفنّدوا هذه الحقيقة ولا أن يعترضوا عليها. وإن طلاب تلك الحقيقة لا يحملون في خدمتها قصدا غير الحق وحده. فلابد أنّ تلك الحقيقة هي عين الحق ومحض الحقيقة». وبهذا يقوى إيمانهم بدليل واحد يفوق ألف برهان وبرهان، فينقذون إيمانهم ولا يساورهم شك بعدُ.

 إنه لأجل اطمئنان عوام المؤمنين وتقبلهم حقائق الإيمان دون أن يساورهم أي تردد، يلزم في الوقت الحاضر، وجودُ معلّمين، يحملون من الإيثار ما يجعلهم يضحون لا بمنافعهم الدنيوية وحدها، بل بمنافعهم الأخروية أيضا في سبيل منافع أهل الإيمان الأخروية. فيكون ذلك الدرس الإيماني خالصا نقيا بحيث لا يفكرون فيه بالمنافع الشخصية مهما كانت. بل يسعون في الخدمة الإيمانية، بالحقائق، نيلا لرضا الله، وعشقا للحقيقة، وشوقا إلى الحق والسداد الذي في الخدمة، وذلك ليطمئنّ كلُّ من يحتاج إلى الإيمان اطمئنانا تاما دون حاجة إلى إيراد الأدلة له، ولكي لا يقول: «إنه يخدعنا ويستميلنا» وليعلم أن الحقيقة قوية بذاتها إلى حد لا يمكن أن تتزعزع بأي حال من الأحوال، ولا تكون أداةً طيعة لأي شيء كان.. فيقوى إيمانه عندئذٍ ويقول: «حقا إن ذلك الدرس الإيماني هو عين الحقيقة» وتُمحى شبهاتُه ووساوسه.

* * *

رسائل متفرقة (9)

[رسائل النور سانحات قلبية]

إن مسائل رسائل النور ليست نابعة من العلم، وإعمال الفكر، وبالنية والقصد والإرادة، بل هي -بالأكثرية المطلقة- سانحات وظهورات قلبية وتنبيهات وإخطارات على القلب.

* * *

[كيف نجوتُ من ألم الشفقة؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد شعرتُ -بدافع العطف الإنساني- بحزن أليم جدا للبشرية المضطربة في هذا الشتاء القارس، والشتاء المعنوي الرهيب الذي يلطخ البشرية بالدماء، فأمدّت حكمةُ الخالق الكريم ورحمتُه تعالى قلبي المحزون، وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين -كما بينته ذلك في كثير من الأماكن- فورد هذا المعنى إلى القلب:

إن تألّمك هذا الشديد، يجرى مجرى الانتقاد لحكمة ذلك الحكيم ورحمة ذلك الرحيم سبحانه وتعالى. فلا رأفة -في دائرة الإمكان- تسبق الرحمة الإلهية، ولا حكمةَ أكمل من حكمته الربانية. فكّر: أن العصاة ينالون جزاءهم والأبرياء والمظلومون سينالون ثوابَهم بعشرة أضعاف مما قاسوا. فعليك النظر إلى الحوادث الواقعة خارج دائرة اقتدارك من زاوية رحمته وحكمته وعدالته وربوبيته تعالى.

وهكذا نجوتُ من الألم الشديد النابع من الشفقة بفضل الله.

يُنقل أدناه جواب سعيد القديم حول سؤال أورده في مؤلَّفه «المناظرات» المطبوعِ قبل ثلاثين سنة.

لقد سئل قبل ثلاثين سنة أثناء تجواله بين العشائر:

سؤال: أمَا تكون الشكوى من الزمان والاعتراضُ على الدهر اعتراضا على بدايع صنعة الصانع جل جلاله؟

الجواب: كلا، ثم كلا، بل ربما تعني الشكوى ما يأتي:

كأن الشاكي يقول: إن ماهية العالم المنظمةَ بدستور الحكمة الأزلية غير مستعدة لإنجاز الأمر الذي أطلبه، والشيءِ الذي أبغيه، والحالةِ التي أشتهيها، ولا يسمح به قانونُ الفَلَك المنقش بيد العناية الأزلية، ولا توافقه طبيعةُ الزمان المطبوعةُ بمطبعة المشيئة الأزلية، ولا تأذن له الحكمةُ الإلهية المؤسِّسة للمصالح العامة.. لذا لا يقطف عالمُ الممكنات من يد القدرة الإلهية تلك الثمراتِ التي نطلبها بهندسةِ عقولنا وتَشَهِّي هوانا وميولنا. وحتى لو أعطَتها لَماَ تمكن من قبضها والاحتفاظ بها، ولو سقطتْ لَمَا تمكّن من حملها. نعم، لا يمكن أن تسكن دائرةٌ عظيمة عن حركاتها المهمة لأجل هوى شخص…

هذا وتُلحِق رسائل النور هامشا في بحث الزلزلة، كالآتي:

بينما لكل عنصر من العناصر وكل حادثة من الحوادث المادية والمعنوية -كالشتاء والزلزال- مئات من النتائج والغايات الخيرة. فإن إيقافَه لئلا يأتي شرٌّ ونتيجةٌ ذات ضرر وشر، ارتكابٌ لمئات الشر، بترك تلك المئات من النتائج الخيرة، وهذا منافٍ للحكمة والحقيقة والربوبية.

ولكن الأفراد الذين يتضايقون من القوانين الكلّية، يُمدّ الرحمنُ الرحيم سبحانه كلَّ فرد عاجز ضعيف منهم بالعنايات الخاصة والإمدادات الخصوصية والاحسانات المخصوصة ويُسعفهم بدواءٍ لدائهم. ولكن ليس وفق هوى ذلك الفرد، بل وفق منفعته الحقيقية، وقد يُعطى له ألماسا في الآخرة على ما طلبه من زجاج في الدنيا.

* * *

[هموم العيش الثقيلة]

كنتُ شديد القلق لاحتمال انفراطِ تساند طلاب رسائل النور -وأكثرهم فقراء- وتزعزعِهم أمام هذه الحالات الرهيبة من هموم العيش التي أثقلت كاهلَ الفقراء والقحط الذي ألمّ بالناس -ضمن الوفرة- حيث بلغ الغلاءُ مبلغه في هذا الشتاء المادي والمعنوي. فأنتم يا إخوتي محتاجون ومكلّفون في هذه العواصف الهوج أكثر من أي وقت آخر بالحفاظ على ترابطكم واتحادكم وغض النظر عن تقصيرات إخوانكم وعدم نشر الانتقاد فيما بينكم. حذار حذار أن يمتعض أحدُكم من الآخر… فلا ينتقدنّ أحدكم الآخر… وبخلاف ذلك فإن إظهاركم ولو قليلا من ضعف يستغلّه أهل النفاق فيلحقون بكم أضرارا بليغة.

وتجاه ضرورة هموم العيش، عليكم الالتزام بالاقتصاد والقناعة. وحيث إن المصالح الدنيوية ساقت كثيرا من أهل الحقيقة وأهل الطريقة إلى نوع من المنافسة، فأنا قلقٌ من هذه الجهة التي لم تُزعزع طلابَ رسائل النور إلى الآن، ونسأل الله ألّا تزعزعهم في المستقبل أيضا. ولكن ليس الجميع على النمط نفسه من الأخلاق. وإذا ما أراد البعضُ راحته ضمن الدائرة المشروعة فلا تعترضوا عليه. والطالبُ الذي يعاني حالة الضرورة يمكنه أن يَقبل الزكاة. وأنه لَيعدّ نوعا من خدمة رسائل النور أيضا، مدُّ يد العون بالزكاة إلى الأركان -من طلاب النور- الذين نذروا وقتهم لخدمة رسائل النور وإلى الساعين في الخدمة. بل يجب معاونتهم. ولكن يجب ألاّ يكون بالحرص والطمع؛ والسؤال بلسان الحال. وإلّا يفتح الميدان لتعرّض أهل الضلالة الذين يقولون: هؤلاء ضحّوا بدينهم في سبيل الحرص والطمع؛ إذ يقيسونكم على أنفسهم ويتهمونكم بقولهم: إن قسما من طلاب رسائل النور أيضا قد جعلوا دينهم أداةً لدنياهم.

عليكم بقراءة رسالة «الإخلاص والاقتصاد» فيما بينكم تارة، وتارة أخرى رسالة «الهجمات الست».

إن ثباتكم الخارق وصلابتكم المتينة وتساندكم التام واتفاقكم العظيم سيكون مدار فخر لهذه البلاد بل هي بدرجة تستطيع أن تنقذ مستقبلها. احذروا ألّا تُفسد تساندَكم العاصفةُ الجديدة المقبلة.

* * *

[حقيقة تتعلق بأرباب العلم]

باسمه سبحانه

إخواني الأعزاء!

إن لرسالة «الحزب النوري» كرامةً معنوية تعود إلى شخصي، والآن جاء دور بيانها:

عندما انقلب سعيدٌ القديم إلى سعيد الجديد قبل ثلاثة وعشرين عاما، واختار مسلك التفكر، بحثتُ عن سرِّ «تفكرُ ساعةٍ خير من عبادة سنة»، وفي كل عام أو عامين كان ذلك السرّ يغيّر من شكله فينتج إما رسالة عربية أو رسالة تركية. وقد دامت تلك الحقيقة وهي تتلبّس الأشكالَ المختلفة ابتداء من رسالة «قطرة» العربية، وانتهاء إلى رسالة «الآية الكبرى»، حتى أخذت شكلها الدائم في «الحزب النوري». ومنذ عشرين عاما، ما كان يتملّكني الضيق وأصاب الفكرَ والقلبَ إرهاقٌ، ولجأتُ إلى قراءة قسم من ذلك الحزب بتأمل، إلّا وكان يزيل ذلك الضيقَ والسآمة والإرهاق. وقد تكرر ألف مرة أنه لم يبق أي أثر للملل والتعب -الناتجين عن الانشغال طوال خمس أو ست ساعات من الليل- بقراءة سُدس ذلك الحزب قبيل الفجر. نعم، إن هذه الحال تدوم حتى الآن.

ولمناسبة هذه الحقيقة أُبين مسألة وحقيقة عظيمة تتعلق في الوقت الحاضر بأرباب المدرسة الشرعية والعلماء:

لقد انقادت طائفةُ المدارس الشرعية لطائفة التكايا والزاويا الصوفية منذ سالف العصور، أي سلّموا لهم القياد وراجعوهم للحصول على ثمار الولاية. وتحرّوا عندهم أذواقَ الإيمان وأنوار الحقيقة. حتى كان عالم كبير من علماء المدرسة الشرعية يقبّل يدَ شيخ ولي صغير من أولياء الزاوية الصوفية ويتبعه، فطلبوا ذلك النبع الفياض بالماء الباعث على الحياة في التكايا والزوايا.

بينما أظهرت رسائل النور بالمعجزة المعنوية للقرآن الكريم -كما هو ماثل أمامكم- أن في المدارس الشرعية أيضا طريقا قصيرة توصل إلى أنوار الحقيقة، وفي العلوم الإيمانية ينبوع ثرّ هي أصفى وأنقى من غيرها. وأنه في العلم الشرعي، وفي الحقائق الإيمانية وعلم كلام أهل السنة، طريقا للولاية هي أسمى وأحلى وأقوى من العمل والعبودية والطريقة الصوفية.

بينما يلزم -بل الألزم- سعيُ علماء المدرسة الشرعية لموالاة رسائل النور باعتزاز وشوق، فإن أكثرهم لا يعرفون -يا للأسف- أن هذا الكنـز العظيم الباقي، وهذا النبع الفياض الباعث على الحياة، مُلك مدرستهم نفسها، ولا يبحثون عنه، ولا يحاولون الحفاظ عليه.

ولكن الآن ولله الحمد بدأت تباشيرُ ذلك حيث جَذبت مجموعةُ «الكلمات» العلماءَ والمعلمين معا إلى الأنوار.

* * *

[الحاجة إلى الحقائق الإيمانية ماسة]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

حمداً لله وشكراً له بما لا يتناهى من الحمد والشكر، إذ جعل ولاية إسبارطة مدرسةَ الزهراء والجامع الأزهر والذي كان هدف خيالي منذ مدة. فأقلامكم تُغني رسائلَ النور عن المطبعة ونشرُكم بالرونيو هذا العدد الكبير من النسخ المضبوطة المتسمة بالتوافق في وقت قصير أثبت دعواي الذي قلته صباحا. ثم أتى «أمين» بهذه النسخ -ثمرات رياض الجنة- قبيل الظهيرة. والدعوى هي أن الحقائق الإيمانية التي تخدمها رسائل النور هي أجلّ من كل شيء، والحاجة إليها على أشدها في الوقت الحاضر، ولكن الملحدون أماتوا قلوبَهم وأطاشوا نفوسَهم بالأهواء، فينكرون الحاجة إلى حقيقة الإيمان، فيقولون: إن الذي يحرك أهل الدين والعلم نابع من مقاصد دنيوية وحاجاتها. وهكذا يتهمونهم ويعرّضونهم لظلم شديد بموجب ذلك الاتهام. إن إسكات هؤلاء الملحدين التعساء إسكاتا تاما وفعليا يتطلب وجود مضحّين لا تُشبع حاجاتِهم إلى الحقائق الإيمانية أعظمُ مشاغل الدنيا، بل حتى أضرارُها الجسيمة لا تشغلهم عنها.

– تُرى هل هناك أحد من هذا القبيل؟

– نعم، وها هي ولاية إسبارطة وحواليها أمامكم…

* * *

[نفس أمارة ثانية]

مسألة دقيقة كُتبتْ تنبيها لأحد إخواننا ممن لم يرَ تقصيره، نرسلها لكم علّها تنفعكم كذلك.

رأيت -في وقت ما- لدى عدد من الأولياء العظام، ممن نجوا من أوضار نفوسهم الأمارة بالسوء مجاهدات نفسية، وشكايات منها. فكنتُ أحار في الأمر كثيرا، ولكن بعد مدة طويلة رأيت أن هناك نفسا أمارة معنوية -غير دسائس النفس الأمارة الحقيقية- هي أشد عصيانا من الأولى وأكثر نفورا من الطاعة، وأكثر إدامة للأخلاق الذميمة، هي النفس الثانية.

وهي مزيج من الهوس والمشاعر والطبائع، وهي موغلة في الأعصاب والعروق، وهي الحصن الأخير الذي تحتمي به النفسُ الأمارة، وهي التي تتولى القيام بوظيفة النفس الأمارة السيئة السابقة -التي تزكّت منها- فتجعل المجاهدة تستمر إلى نهاية العمر.

وأدركتُ حينها أن أولئك الأفذاذ الميامين ما كانوا يشكون من النفس الأمارة الحقيقية، بل من نفس أمارة مجازية. ثم شاهدت أن الإمام الرباني أحمد الفاروقي السرهندي أيضا يخبر عن هذه النفس المجازية.

ولما كانت حواس هذه النفس الأمارة الثانية عديمة الشعور، عمياءَ لا تبصر، فلا تَفهم أقوال العقل ولا تدرك نصائح القلب، ولا تُعير لها سمعا كي تنصلح وتدرك تقصيراتها، لذا لا ترتدع عن السيئات إلّا بلطمات التأديب وصفعاتها وبالآلام، أو بالتضحية التامة بحيث يضحي المرءُ بمشاعره وحواسه كلِّها للهدف الذي يصبو إليه فيترك أنانيته كليا، بل كلَّ ما يملكه لذلك الهدف، كما تركه طلاب النور الخواص.

وفي هذا العصر العجيب، تتفق النفسان الأمارتان -الحقيقيةُ والمجازيةُ- معا بتلقينات رهيبة، حتى تدفعا الإنسانَ ليَدخل في السيئات والآثام طوعا وبرغبةٍ منه، تلك السيئات التي ترتعد من شناعتها الكائنات.

حتى إنني في غضون دقيقة واحدة، وبضيق قليل جدا فَوَّتُّ حسنةً عظيمة جدا. وقد حدث أيضا ضمن مجاهدة معنوية عظيمة خلال عشر دقائق، عندما كان أحدُهم وهو في صفي يخترق صفوف أعدائي ويشقهم شقا كمن يرميهم بمدافع ثقيلة عظيمة. فتحيّنَتْ تلكما النفسان الأمارتان فرصةَ الغفلة موقتا، إذ شَعرتُ بميلٍ للتفوق وبأثَرة مظلمة إلى أقبح رياء وحسد بدلا من الشكر والحمد العظيمين حيث قلت: «لِمَ لمْ أرم القذائف أنا؟».

فألف شكر وشكر للبارئ الكريم سبحانه أن رسائل النور ولاسيما رسائل «الإخلاص» أزالت -كليا- دسائسَ كلتا النفسين وضمدت الجراحات التي ولدتاها، مثلما أزالت الحالاتِ التي حدثت في دقيقة واحدة وفي عشر دقائق إزالة تامة والحمد لله. فعرفتُ تقصيري -تلك المعرفة التي هي استغفار معنوي- ونجوت بفضله تعالى من العذاب والآلام المضمَرة التي هي جزاء معجل لذلك الخطأ.

* * *

قلق ساور قلبي فجأة

أبينه لكم:

لقد شعرتُ وأدركت أن أهل الضلالة لعجزهم عن صد السيوف الألماسية لرسائل النور يريدون زعزعة رابطة الطلاب الوثيقة مستفيدين من عروق واهية نابعة من اختلاف المشارب أو المشاعر مستغلين متطلبات العيش ولوازمه والغفلة التي تخيّم في الربيع. إياكم وإياكم أن تجد الفرقةُ فرجةً فيما بينكم. احذروا؛ فالإنسان لا يخلو من خطأ. إن باب التوبة مفتوح. فإذا ما دفعتكم النفسُ والشيطان إلى الاعتراض على أخيكم وانتقاده على حق، قولوا:

إننا مكلفون بالتضحية بحياتنا وكرامتنا وسعادتنا الدنيوية في سبيل الحفاظ على التساند الذي هو الرابطة الوثقى لرسائل النور، فضلا عن مثل هذه الأمور الجزئية. فوظيفتُنا التضحية بكل ما يمتّ بصلة بالدنيا والأنانية، لما تكسبنا رسائل النور من نتائج جليلة.

وبهذا تُسكتون النفسَ الأمارة. وإن دار حول مسألةٍ نقاشٌ ونزاع، فشاوروا بعضَكم بعضا. لا تتشددوا، أوغلوا برفق، الناسُ ليسوا سواسية في المشارب. ينبغي أن يتسامح بعضُكم مع البعض الآخر في الوقت الحاضر.

سلامنا إلى الإخوة جميعا فردا فردا.

* * *

[لا تفسحوا المجال للانتقاد]

إخوتى الأعزاء الأوفياء!

حذار حذار.. لا تفسحوا المجال لانتقاد بعضكم البعض الآخر، فيستغلَّ أهل الضلالة اختلاف مشاربكم وعروقكم الضعيفة وحاجاتكم المعيشية. صونوا آراءكم من التشتت بإقامة الشورى الشرعية بينكم، اجعلوا دساتير رسالة الإخلاص نصب أعينكم دائماً. وبخلاف هذا فإن اختلافاً طفيفاً في هذا الوقت يمكن أن يُلحق أضراراً بليغة برسائل النور.

* * *

[ما الذي يمنعنا عن السياسة؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد أتاني اليوم صلاح الدين ومسؤول من الأمن (المَباحث) يتعقبه، دخل عليّ من ورائه.

قلت لذلك الجاسوس الحكومي:

إن رسائل النور -ونحن الذين نتلقى الدرس منها درسا كاملا- لن نجعلها أداةً للدنيا قاطبة ناهيك عن سياستها، ونحن لا نتدخل بدنيا أهل الدنيا، فمن البلاهة توقّع الأضرار منا، وذلك:

أولا: أن القرآن الكريم قد منَعنا من السياسة، لئلا تسقط -في نظر أهل الدنيا- الحقائقُ التي هي بنفاسة الألماس إلى مستوى القطع الزجاجية التافهة.

ثانيا: إن الشفقة والضمير والحقيقة تمنعنا من السياسة. لأنه لو كانت نسبة المنافقين الملحدين الذين يستحقون العقاب اثنين من عشرة، فهناك سبعٌ أو ثمان من الأبرياء من أقاربهم وذويهم. وهناك الأطفال والعوائل والشيوخ والمرضى. فإذا نزلت المصيبةُ والبلاء فإن أولئك الأبرياء الثمانية سيسقطون في أتون المصيبة. ولربما سيلحق بالمنافقَين الاثنين والملحدَين ضرر طفيف. ولهذا فإن ما في ماهية رسائل النور من الشفقة والرحمة والحق والحقيقة قد حالت دون الدخول في السياسة بوسائل الإخلال بالإدارة والنظام فضلا عن أن نتائجها مشكوك فيها.

ثالثا: إن هذا الوطن وهذه الأمة والحكومة -مهما كان شكلها- فهي بحاجة ماسة إلى رسائل النور. فينبغي لأعتى الملحدين منهم أن يميل إلى دساتيرها المتسمة بالدين والحق ناهيك عن الخوف منها والعداء لها، اللهم إلّا إذا كانت خيانة فاضحة للأمة والوطن والحاكمية الإسلامية. لأن هناك خمسة أسس ضرورية لإنقاذ هذه الأمة وهذا الوطن في حياتها الاجتماعية والسياسية ونجاتها من الفوضى والإرهاب ومن المخاطر العظيمة:

الأول: الرحمة. الثاني: الاحترام. الثالث: الأمن والثقة. الرابع: اجتناب المحرمات والتمييز بين الحرام والحلال. الخامس: الطاعة وترك التسيب.

وهكذا فرسائل النور عندما تنظر إلى الحياة الاجتماعية تُحقق هذه الأسس الخمسة وتثبّت بها ركائز النظام في البلاد.

ألَا فليعلم الذين يتعرضون لرسائل النور، أنّ تعرضهم هذا إنما هو عداء -في سبيل الفوضى والإرهاب- للوطن والأمة والنظام.

هذا ما قلته باختصار لذلك الجاسوس الحكومي. وقلت له: قل هذا لمن أرسلك هنا. وقل لهم أيضا: إن الذي لم يراجع الحكومة لتأمين راحته طوال ثماني عشرة سنة.. والذي لا علم له بالحرب الدائرة التي قلبت العالم رأسا على عقب منذ أحد عشر شهرا.. والذي يستغني عن أن يَقبل إيجاد علاقةِ صداقةٍ مع من يشغل مراتب رفيعة في الدولة. فالذي يتوجس خيفةً من مثل هذا الرجل ويساوره الشكوك وكأنه سيتدخل بأمور دنياهم ومن ثم مضايقته وشدّ الخناق عليه، ماذا يعني عمله هذا؟ وما المصلحة فيه؟ وأي قانون يجيز هذا؟ حتى البلهاء يعرفون أن التعرض له جنون وبلاهة! قلنا له هذا، ثم غادرنا.

* * *

[لا تنشغلو بلسعات البعوض]

إخواني الأعزاء!

لا داعي إلى درس وتوجيه جديد، إذ شاهدتُ بين رسائلكم رسائل «الإخلاص» هذه المرة. فأحيلكم إلى دروس تلك الرسائل. إلّا أنني أنبّه إلى ما يأتي:

لما كان مسلكُنا يستند إلى الإخلاص، ومبنيا على الحقائق الإيمانية فإننا مضطرون -وفق مسلكنا- إلى عدم التدخل في أمور الحياة الاجتماعية والحياة الدنيوية، مالم نضطر إليها. وعلينا التجرد والابتعاد عن تلك الحالات التي تؤدي إلى التنافس والتحيّز والتنازع.

فأسفا، وألف أسف، لأهل العلم ولأهل التقوى الضعفاء الذين يتعرضون -في الوقت الحاضر- إلى هجومِ ثعابين مرعبة، ثم يتحججون بهفوات جزئية شبيهة بلسع البعوض، فيعاوِنون -بانتقاد بعضهم البعض- تلك الثعابينَ الماردة، ويُمدّون المنافقين الزنادقة بأسبابٍ لتدميرهم وتحطيمهم، بل يساعدونهم في هلاك أنفسهم بأيدي أولئك الخبثاء.

يَذكر أخونا المخلص جدا «حسن عاطف» في رسالته: أن عالما واعظا شيخا قد اتخذ طورا يُلحق الضرر برسائل النور، حيث حاول التعرض لها بالتهوين من شخصي الضعيف، بحجة تَركي لسنة نبوية (إطلاق اللحية) علما أن ذلك الترك مبني على عذرين مهمين.

أولا: ليعلم ذلك الشخص -واعلموا أنتم كذلك- أنني خادمُ رسائل النور، ودلّالُ ذلك الدكان. أما رسائل النور فهي تفسير حقيقي للقرآن الكريم وهي وثيقة الصلة به، ذلك الكتاب الجليل المرتبط بالعرش الأعظم، لذا لا تسري أخطائي وتقصيراتي الشخصية إلى الرسائل.

ثانيا: بلّغوا ذلك العالم الواعظ عني السلام. فإنني أقبَل انتقاده لشخصي واعتراضه عليّ بتقدير وبرحابة صدر. وأنتم بدوركم لا تسوقوا ذلك العالم الفاضل ولا أمثاله من العلماء إلى المناقشة والمناظرة. ولو حدَثَ تعدّ وتجاوز علينا، فلا تقابلوه حتى بالدعاء عليهم. إذ إن ذلك المتجاوز أو المعترض أيا كان، هو أخونا من حيث الإيمان لأنه مؤمن. حتى لو عادانا، فلا نستطيع أن نعاديه بمثل عدائه، حسب ما يرشدنا إليه مسلكُنا. لأن هناك أعداء شرسين وحيّات لاذعة ونحن لا نملك سوى النور، لا الصولجان. والنورُ لا يؤلم، بل يلاطف بضيائه، ولاسيما الذين هم ذوو علم فلا تثيروا غرورَهم العلمي إن كانوا على غرور وأنانية، بل استرشِدوا ما استطعتم بدستور الآية الكريمة: ﴿وَاِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (الفرقان:72).

ثم إن ذلك الشخص المحترم، كان داخلا في دائرة رسائل النور، واشترك في استنساخ الرسائل، فهو إذن ضمن تلك الدائرة، فاصفحوا عنه حتى لو كان يحمل خطأ فكريا.

فليس مثل هذا الشخص الفاضل من ذوي الدين والتقوى المنسوبِين إلى الطرق الصوفية، بل حتى من المؤمنين المنسوبين إلى فرق ضالة، لا ينبغي أن نثير معهم نزاعا وخصاما في هذا العصر العجيب، بل لا نجعل نقاطَ الاختلاف والنزاع موضعَ نقاش مع المؤمنين بالله واليوم الآخر حتى لو كانوا من النصارى.

هذا ما يقتضيه هذا العصر العجيب، وما يقتضيه مسلكنا الذي نسلكه، وما تقتضيه خدمتنا المقدسة.

ولأجل الحيلولة دون ظهور عوائق اجتماعية وسياسية أمام انتشار رسائل النور في العالم الإسلامي، ينبغي لطلاب رسائل النور اتخاذ سلوك المصالحة. إياكم وإياكم أن تتعرضوا لصلاة الجماعة والجمعة للعلماء، فلا تنتقدوا المشتركين فيها. أما قول الإمام الرباني: «لا تدخلوا مواضع البدع» فالمقصود منه لا ثواب فيها، وليس معناه بطلان الصلاة، لأن قسما من السلف الصالحين قد صلّوا خلف يزيد والوليد. ولكن إذا كان المرء يتعرض للكبائر في أثناء ذهابه إلى المسجد وإيابه منه، فالأولى أن يظل في معتكفه.

يذكر أخونا في رسالته عن إخواننا الجدد الشجعان الثابتين. فنحن نقبلهم بكل مهجنا وأرواحنا. ولكن الداخلين في دائرة رسائل النور لأجل أن يقدروا شجاعتهم الشخصية حق قدرها يبذلون شجاعتهم في ثبات لا يتزعزع ومتانة لا تلين وترابط لا ينفصم مع إخوانه. فيجب تحويل تلك الشجاعة الشخصية التي هي بحكم قطع زجاجية متكسرة إلى ألماس التضحية الصدّيقية الناشدة للحقيقة.

نعم، إن أهم أساس في مسلكنا بَعد الإخلاص التام هو الثبات والمتانة. وبهذه المتانة حدثت وقائع كثيرة أثبتت أن أمثال هؤلاء الذين نذروا حياتهم في خدمة النور يقابل كلٌّ منهم مائة شخص، فالشخص الاعتيادي الذي لا يتجاوز عمره الثلاثين قد فاق أولياءً يتجاوزون الستين من العمر.

ثم إن شخصا حتى لو كانت شجاعته حسنة، فإنه بعد دخوله جماعة متساندة، لا يستطيع أن يستعمل شجاعته تلك، حفاظا على راحة جماعته وصيانةً لعدم زعزعتهم، فلابد من العمل وفق الحديث الشريف: «سيروا على سير أضعفكم». ويلزم عدم الخوض في مسائل النـزاع، وعدمُ طَرق مسائل القبعة والأذان واستعمالِ عناوين الدجال والسفياني مع الغرباء، حيث يُسبب هذا اتخاذَ العلماءِ وأهلِ السياسة تجاه رسائل النور موقف المجابهة والتعدي عليها. فالحذرُ هو الألزم.. والواجب ضبط النفس، حتى إن عدم الأخذ بالحذر ولو جزئيا يؤثر إلى هاهنا.

وإن رسائل النور ليست دائرة واحدة، بل لها طبقات كالدوائر المتداخلة. فهناك طبقة الأركان والمالكين والخواص والناشرين والطلاب والموالين وأمثالها من الطبقات.

فمن لم يكن أهلا للدخول في طبقة الأركان لا يُطرد خارج الدائرة، بشرط عدم موالاته لتيار يخالف رسائل النور، والذي ليست له ميزات الخواص يمكن أن يكون طالبا، بشرط عدم الدخول في مسلك مضاد، والذي يعمل بالبدعة يمكن أن يكون صَديقا بشرط عدم موالاته قلبا لها.

ولهذا لا تُخرجوا أحدا من جراء خطأ طفيف خارج الدائرة، لئلا يلتحق بصف الأعداء. ولكن لا يُشرَك هؤلاء في التدابير الدقيقة التي يتخذها أركان رسائل النور ومالكوها.

* * *

[طلاب النور يُفضلون الخدمة على القطبية]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن حادثتين وقعتا في اليومين السابقين أوردتا إلى الخاطر مسائل عدة منها:

أولاها: يكتب أخونا صلاح الدين من أنقرة: لقد بدأوا بالتعدي على أهل الطرق الصوفية. وهناك اعتقالات في أنقرة وفي الشرق حول هذه المسألة. وطلابُ رسائل النور محفوظون في كل جهة بالعناية الربانية، فإخلاصهم المتين وترابطهم الوثيق وأخذهم بالحذر تُديم عليهم تلك العناية الربانية.

ثانيها: يشكو الناس كلهم في هذه الأيام من الضيق الذي ينتابهم، وكأن فساد الهواء المعنوي قد أورث مرضَ ضيقٍ مادي شامل. حتى سرى فيّ هذا المرض يوما. وحيث إن رسائل النور دواء لكل ما ينتابنا، فإن المنشغلين بها إما لا ينتابهم ذلك المرض أو يمسهم مسا طفيفا.

…….

رابعها: لقد شاهدتُ في بعض الرسائل المرسلة أوصافا مفرطة بحق أستاذهم، ونظرت إلى نفسي فرأيتها لا تستحق حتى زكاةَ تلك الأوصاف، وليس من حقي امتلاكها. فقلت: تُرى ما المصلحة والفائدة التي يحصل عليها إخواني هؤلاء الناشدون للحق في غلوّهم في حسن الظن واستمرارِهم عليه مع تنبيهاتي المستمرة لهم؟.

فخطر على القلب:

إن هؤلاء، وبلدتهم ولاية إسبارطة وحواليها يرون يُمْنَ حسن ظنهم العظيم اقتداءً بالأولياء من أمثال عثمان الخالدي وشكري طوبال، فلم يبالغوا إذن بالنظر من هذه الزاوية فقد شاهدوا حقيقةً. ولكن كما أن الكشفيات تحتاج إلى تأويل والرؤى إلى تعبير، فالأحكام الخاصة إذا عُمِّمت يظهر خطأٌ في جهة. وكذلك هؤلاء؛ قد أَعطوا الفائدة التي أسداها الشخصُ المعنوي لرسائل النور لهم ولبلدتهم إلى أحد ممثلي ذلك الشخص المعنوي وهو أخوكم هذا الذي دعوه «الأستاذ». فعمموا حادثة تلك البلدة ونظروا إليها حادثة عامة فأظهروا غلوا في حسن الظن.

السادس: قبل حوالي ثلاثة أيام استمعت إلى الكلمة الثانية والعشرين أثناء تصحيحها، ورأيت أن فيها: ذكراً كلياً، وفكراً واسعاً، وتهليلاً كثيراً، ودرساً إيمانياً قوياً، وحضوراً بلا غفلة، وحكمة سامية، وعبادة فكرية رفيعة وأمثالها من الأنوار. وأدركتُ الحكمة في قيام قسم من الطلاب بكتابة الرسائل أو قراءتها أو الاستماع إليها بنية العبادة، فباركتُ عملهم وصدّقتهم.

* * *

رسائل متفرقة (8)

 [لِمَ ننشغل برسائل النور وحدها؟]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إنني في هذا الشهر المبارك شهر رمضان في الوقت الذي أحتاج فيه إلى نسيان الدنيا وإلى عدم النظر إلى الأمور الآفاقية الخارجية إلّا أنهم -مع الأسف- ألجأوني إلى النظر إليها أحيانا. نسأله تعالى إن يجعل هذا النظر نوعا من العبادة حيث إن نيتنا فيه الخدمة الإيمانية.

نعم، كما أنهم يتعرضون لكم فإنهم بأساليب مختلفة يُشعرون تعرّضهم لنا. ولكن شكرا لله تعالى إن تعدّيهم علينا يؤدي إلى خلاف مقصودهم، فيُعين فتوحات رسائل النور.

وقد ذكر الطالب البطل «نظيف» أن اعتراض الشيخ في إسطنبول قد أصبح وسيلة لفتوحات رسائل النور وسطوعها، وأن الاعتداء على حقوقنا، في أمور طفيفة هنا وهناك تورث مثل هذه النتيجة.. ولكن وجدوا في الوقت الحاضر وسيلةً لا تخطر على بال لترويع بعض العلماء الضعفاء وأهل التصوف وإلقاءِ الفتورِ في قلوبهم تجاه رسائل النور.

فهم يقولون: إن سعيداً لا يقتني كتباً أخرى، بمعنى أنه لا تعجبه تلك الكتب بل لا تعجبه حتى كُتُبُ الإمام الغزالي فلا يجلب إليه مؤلفاته.

فبهذه الكلمات العجيبة التي لا معنى لها يكدّرون أذهان الناس. ألَا إن الذين يروّجون مثل هذه الإشاعات إنما هم أهل الزندقة، ولكن يجعلون العلماء الساذجين وبعضاً من أهل التصوف وسيلة لذلك.

ونحن نقول تجاه هذا: حاش لله مائة مرة حاش لله… إن مهمة رسائل النور وطلابها هي الحفاظ على مسلك أستاذهم حجة الإسلام الإمام الغزالى، والذودُ عنه ما وسعهم وإنقاذه من هجمات أهل الضلالة.. وهو أستاذي الوحيد الذي يربطني بالإمام علي رضي الله عنه، ولكن في زمانهم لم يكن هجوم الزندقة الرهيبة يزعزع أركان الإسلام -كما في هذا العصر-. فلا يحصل بسرعة على الأسلحة التي استعملها أولئك العلماء المحققون الأجلاء، والمجتهدون العظام حسب عصورهم في المناظرات والمناقشات العلمية والدينية، بل يحتاج إلى وقت، ولا تُقهر أعداء هذا الزمان قهراً تاماً. إلّا أن رسائل النور باستلهامها القرآن المبين قد وجدت أسلحة يمكن الحصول عليها بسرعة، وهى قوية نافذة، وفي الوقت نفسه تمزق صفوف العدو وتجعلهم شذر مذر، لذا لا تُراجع مصانعَ أسلحةِ أولئك الأفذاد السامين الميامين. لأن القرآن الكريم الذي هو مصدرهم جميعاً ومنبعهم ومرجعهم وأستاذهم قد أصبح أستاذاً كاملاً لرسائل النور. فضلاً عن ذلك فالوقت ضيق ونحن ضعفاء، فلا نجد متسعاً من الوقت كي نستفيد من تلك الآثار النورانية. علاوة على ذلك فإن هناك مئات الأضعاف من أمثال طلاب رسائل النور ينشغلون بتلك الكتب وهم يؤدون تلك الوظيفة ونحن أودعناها لهم. وإلّا فنحن نحب تلك الآثار الطيبة الميمونة لأساتذتنا السامين أولئك بقدر ما نحب أرواحنا وكياننا، ولكن لكل منا دماغ واحد ويد واحدة ولسان واحد، وتجاهنا ألوف المتعدين والوقت ضيق. وحيث إننا شاهدنا آخِر سلاح أوتوماتيكي أمامنا وهو براهين رسائل النور، اضطررنا إلى الاكتفاء بذلك السلاح والاعتصام به.

* * *

[ما يسوق إلى الرياء وما يمنع منه]

إخوتي الأعزاء الخالصين المخلصين ويا رفقائي الحقيقيين الجادين في خدمة القرآن!

لمناسبة انتشار رسالة «الإخلاص» حوالينا وفي ولاية إسبارطة ولمناسبة حدوث حادثتين طفيفتين، ورد خاطر قوي إلى القلب. ستُكتب ثلاث نقاط تخص الرياء:

أولاها: إن الرياء لا يدنو من الفرض والواجب والشعائر الإسلامية واتباعِ السنة النبوية الشريفة واجتنابِ الحرام. فإظهار هذه الأمور ليس من الرياء قطعا، إلّا إذا كان الشخص قد جُبل على الرياء مع ضعف شديد في الإيمان. بل إن إظهار العبادات التي تمس الشعائر الإسلامية أجزلُ ثوابا من إخفائها بكثير، كما بيّنها حجة الإسلام الإمام الغزالي رضي الله عنه.

وعلى الرغم من أن إخفاء سائر النوافل له أثوبة كثيرة فإن النوافل المتعلقة بالشعائر الإسلامية ولاسيما في مثل هذه الأوقات التي راجت فيها البدع، وكذا إظهارُ التقوى التي هي ترك الحرام ضمن هذه الكبائر المنتشرة، لها أثوبة عظيمة أكثر من إخفائها، ناهيك أن يتقرب منها الرياء.

النقطة الثانية: هناك أسباب عديدة تسوق الإنسان إلى الرياء. منها:

السبب الأول: ضعف الإيمان؛

إن الذي لا يفكر بالله يعبد الأسباب ويتخذ وضع الرياء بحبّه إظهار نفسه للناس. فطلابُ رسائل النور لا يعيرون أهمية ولا قيمة للأسباب ولا للناس من حيث العبودية كي يقعوا في الرياء في عبوديتهم بإظهارها لهم. وذلك لأنهم يتلقون درسا إيمانيا تحقيقيا قويا من رسائل النور.

السبب الثاني: إن الحرص والطمع يسوقان الإنسان -من زاوية الفقر والضعف الإنساني- إلى جلب توجّه الناس وتلبّس أوضاعٍ متكلَّفة للرياء والظهور.

ولما كان طلاب النور يحصلون على عزة الإيمان باسترشادهم بدروس رسائل النور كالاقتصاد والقناعة والتوكل على الله والرضى بقسمته، فإنها بإذن الله تمنعهم عن الرياء والعجب والتنازل لمنافع الدنيا.

السبب الثالث: إن حرص الإنسان على الشهرة، وحبِّ الجاه، وطلبِ نيل المقامات، والتفوقِ على الأقران وأمثالها من الأحاسيس والمشاعر، وكذا التظاهر بمظهر حسن رفيع وتقمّص طور أشخاص عظام لا يليق به، وجلب أنظار الناس وإعجابهم نحوه بما هو فوق حدّه وطاقته، وما شابهها من أنواع التصنع والتكلف في الأعمال.. كلها تسوق إلى الرياء.. ولكن لما كان طلاب رسائل النور قد حوّلوا «أنا» إلى «نحن» أي تركوا الأنانية ودخلوا ضمن دائرة الشخصية المعنوية للجماعة ويسعون في أعمالهم باسم تلك الشخصية، أي يقولون «نحن»

بدلا من «أنا».. وكما قد نجا أهلُ الطرق من الرياء بوسائلِ قتل النفس الأمارة والأخذِ بقاعدةِ: «الفناء في الشيخ» و«الفناء في الرسول».. فإن إحدى تلك الوسائل هي «الفناء في الإخوان»، أي إذابة الشخصية الفردية في حوض الشخصية المعنوية لإخوانه وبناء أعماله على وفق ذلك، أقول: إنه كما قد نجا أهل الحقيقة بتلك الوسائل من ورطة الرياء، ينجو بإذن الله طلاب النور بهذا السر أيضا.

النقطة الثالثة: إنه لا تُعد من الرياء والعجب قط تلك الأطوارُ والأوضاع الرفيعة التي يقتضيها مقام أداء الواجب الديني، وجعلُ الناس يتقبلونه قبولا حسنا. اللهم إلّا إذا كان الشخص يسخّر تلك الوظيفة الدينية طوعَ أنانيته ويستغلها لأغراضه الشخصية.

فإمام الجامع، يجهر بالأذكار، كجزء من واجبه في إقامة الصلاة وأداء الأذكار، ويُسمِعها الآخرين، وهذا لا رياء فيه قط، ولكن إسماعها الناس خارج نطاق واجبه، ربما يداخله الرياء، فإن إخفاءها أكثر ثوابا من الجهر بها.

لذا فإن طلاب النور الحقيقيين، أثناء أدائهم لواجب نشر الوعي الديني، وأثناء قيامهم بعباداتهم اتباعا للسنة النبوية، وأثناء التزامهم بالتقوى التي هي اجتناب الكبائر.. إنما يُعدّون مكلّفين مأمورين في سبيل خدمة القرآن. فنسأل الله تعالى ألّا يداخل أعمالَهم تلك، الرياءُ. إلّا من دخل ضمن دائرة رسائل النور لغرض آخر غير خدمة القرآن.

* * *

[حول وظائف السيد المهدي]

.. إن الذي تنتظره الأمة وسيأتي في آخر الزمان، له مهام ثلاثة، وإن أهم وظيفة من هذه الوظائف الثلاث وأعظمَها وأجلّها هي نشر الإيمان التحقيقي وإنقاذ الإيمان من الضلالة..

أما وظيفته الثانية: فهي تنفيذ الشريعة الغراء وتطبيقها، فبينما لا تَعتمد الوظيفة الأولى على القوة المادية بل إن سنَدَها هو القوة المعنوية من إخلاص ووفاء وقوة العقيدة، فإن هذه الوظيفة تحتاج إلى قوة مادية عظيمة مرهوبة الجانب، وسلطةٍ ذات شأن، كي يتمكن من تنفيذها.

أما وظيفته الثالثة: فهي خدمة الإسلام بإعلان الخلافة الإسلامية مستندا إلى الوحدة الإسلامية، والاتفاق مع الروحانيين النصارى -الذين يلتحقون به خدمة للإيمان- فهذه الوظيفة يمكن تطبيقها بسلطة عظيمة وقوة هائلة وملايين الفدائيين المضحين.

إن الوظيفة الأولى أسمى وأعلى من الوظيفتين التاليتين بدرجات، إلا أنهما يبدوان في نظر عامة الناس ولاسيما العوام، أسطع وأبهر وأوسع منها لما لهما من جاذبية.

خلاصة الكلام: إن إطلاق اسم «المهدي» إلى أي شخص في الوقت الحاضر، يورِد إلى الذهن الوظائفَ الثلاث دفعة واحدة، فيحصل الخطأ، وقد يجرح الإخلاصَ.. وتضعف قوة الحقائق لدى العوام شيئا ما، وتنقلب اليقينيات المدعمة بالبراهين إلى الظن الغالب للقضايا المقبولة، فلا يَظهر لدى الحائرين من المؤمنين التغلبُ المبين على الضلالة العنيدة والزندقة المتمردة. وعندها يبدأ أهل السياسة بإثارة المخاوف والشكوك ويشرع قسم من العلماء بالاعتراض..

* * *

[تعديل حسن الظن المفرط]

كُتِبَ لمناسبة تعديل حسن الظن المفرط لعالم فاضل نحو الأستاذ لعل فيه فائدة لكم.

إلى العالم الفاضل، والأخ العزيز الصادق، حشمت أفندي

لـقـد قـرأنـا بتقدير و إعجاب رسالتكم الكريمة حول المجدِّد، ونقلناها إلى أستاذنا وهو يقول:

نعم، إنه ينبغي لهذا العصر من مجدد له شأنه ليقوم بتجديد الدين والإيمان، وتجديد الحياة الاجتماعية والشريعة، وتجديد الحقوق العامة والسياسة الإسلامية. ولكن أهم تلك الوظائف، هو التجديد في مجال المحافظة على الحقائق الإيمانية. فهي أجلّ وأعظم تلك الوظائف الثلاث. لذا تبقى دوائر «الشريعة» و«الحياة الاجتماعية والسياسية» في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة بالنسبة لدائرة الإيمان.

هذا وإن الأهمية البالغة التي وردت في الحديث الشريف حول تجديد الدين، إنما هي باعتبار التجديد في الحقائق الإيمانية، ولكن نظرا لأن أفكار عامة الناس، والذين حصروا همّهم في الحياة الدنيا تتوجه أول ما تتوجه إلى الحياة الاجتماعية الإسلامية والسياسة الدينية التي تبدو أكثر أهمية من غيرها وأوسع وأعظم مدى، لما لها من جاذبية وهيبة في السلطة والحكم. فترى أن هؤلاء ينظرون بتلك العدسة ومن تلك الزاوية إلى الأمور ويفسرونها في ضوئها.

ثم إنـــه يبدو بعيدا جــدا، بـل يكاد يكون غير ممكن اجتماعُ هذه الوظائف الثلاث كلها في شــــخص واحد، أو في جماعة واحدة، في هذا العصر، وعلى الوجه الأكمل، ومن دون أن تعيق إحداها الأخرى. بل قد لا تجتمع أصلا تلك الوظائف إلا في «السيد المهدي» الـــذي يـمـثــل الجماعة النـوارنـيـة لآل البـيـت الـنـبــوي في آخــر الزمــان، وفـي الشـــخص المعنوي لجماعته.

فلله الحمد بما لا يتناهى من الحمد؛ أَنْ دفَعَ الشخصَ المعنوي لطلاب رسائل النور وحقيقتها -في هذا العصر- لأداء وظيفة التجديد من حيث المحافظة على الحقائق الإيمانية.

وهي منذ عشرين سنة تؤدي تلك الوظيفةَ المقدسة بنشرياتها المؤثرة والفاتحة للقلوب صادّةً صولاتِ الزندقة القوية الرهيبة وغاراتِ الضلالة منقِذة إيمانَ مئات الألوف من أهل الإيمان. والشاهدُ على ذلك أكثر من أربعين ألفا من الشهود.

يقول أستاذنا:

لا ينبغي أن يكون شخصي العاجز الضعيف موضعَ النظر وتحميلُ كاهلي هذا الثقل العظيم بما يفوق حدي بألوف المراتب. وهو يخصكم بالسلام، ونحن بدورنا نخصكم بالسلام ومن له علاقة برسائل النور هناك.

من طلاب رسائل النور

أمين، فيضي، كامل

* * *

[يد القدر ويد الإنسان في الحادثة]

إنه قاعدة أساس في رسائل النور؛ أن في كل حادثة يدَ الإنسان ويدَ القدر معا، ولكن الإنسان يَظلم حيث ينظر إلى السبب الظاهري، بينما القدرُ يعدِل لأنه يرى السبب الخفي لتلك المصيبة.

ولقد ثبت بتجاربَ أن يد العناية الإلهية ورحمتَه تعالى موجودة في كل المصائب التي نزلت برسائل النور لحد الآن.

* * *

[فتوى أمين الفتوى]

إن السيد «علي رضا» أكبر علماء إسطنبول وأكثرهم تحريا وبحثا والذي تولى في أغلب الأوقات منصب مفتي الأنام، وهو أمين الفتوى السابق، بعد ما شاهد «الشعاع الأول» المتضمن للإشارات القرآنية ورسالة «الآية الكبرى» وأمثالها من الرسائل قال للحافظ أمين وهو من طلاب رسائل النور القديرين:

«لقد خدم بديع الزمان الدين الإسلامي أعظم خدمة في هذا الزمان، وإن مؤلفاته صائبة جدا، ولم يتيسر لأحد إخراجُ أثر كهذا في مثل هذا الزمان الجدب، إذ تَرَك الدنيا ونَبَذَها. وهو قمين بالتهنئة والتبريك بكل الوجوه. وإن رسائل النور مجدِّدة للدين. نسأله تعالى أن يوفقه للخير. آمين».

وقد دافع عن عدم إطلاق اللحية لدى البعض ساردا قصة سلطان العلماء من آباء جلال الدين الرومي ثم قال:

«ولبديع الزمان أيضا بمثل هذا اجتهادٌ بلا شك، فالمعترضون لا يملكون الحق..»

وأمر العالم مصطفى: اكتب ما قلته:

«أخصّ سلامي الكامل لبديع الزمان مع الاحترام والتوقير له. وأنا في دعاء مستمر لكم لتكملوا مؤلفاتكم. لا تتألموا من تعرضكم لانتقاد بعض علماء السوء، إذ «الأشجار المثمرة تُرشَق بالأحجار لنيل الثمار»، مثلٌ مشهور. استمروا في جهادكم. نسأله تعالى أن يوفقكم في مقصودكم عاجلا. وفي أمانة الله وحده وحفظه.

علي رضا

أمين الفتوى السابق

هكذا قضى عالم جليل ومدقق فاضل وصاحب الكلام في هذا الزمان من حيث الشريعة والقرآن الكريم. فعلى طلاب رسائل النور ألّا يبوحوا باسم ذلك العالم -أخذا بالحذر- وعدم الإعلان عنه، بل يضموه في أدعيتهم.

سلامنا إلى جميع الإخوة.

* * *

[أسس العمل مع المعترضين]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما..

لمّا كان أولياء الله الصالحون لا يمكنهم أن يعرفوا الغيب -إن لم يلهمهم الله سبحانه تعالى- حيث لا يعلم الغيب إلّا الله؛ فإن أعظم وليّ صالح لا يستطيع أن يَطَّلِعَ على حقيقةِ وواقع الحال عند ولي آخر، بل ربما يعاديه لعدم علمه بحقيقته، وما حدث فيما بين بعض العشرة المبشرين بالجنة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، خير دليل على هذا. وهو يعني أن وليين اثنين إذا ما أنكر أحدهما على الآخر، فإن ذلك لا يسقطهما من مقام الولاية ومنـزلتها، إلّا إذا كان هناك أمر يخالف ظاهر الشريعة مخالفة كلية.

فاتباعاً لدستور الآية الكريمة: ﴿وَالْكَاظِمينَ الْغَيْظَ وَالْعَافينَ عَنِ النَّاسِ (آل عمران:134)، وحفاظاً على إيمان المؤمنين من التصدع، وذلك بالمحافظة على حسن الظن القائم بينهم وبين شيوخهم أو رؤسائهم، وبناء على ما يلزم من إنقاذ الأركان من طلاب النور المخلصين من سَورة الغضب المضرة -مع كونها محقة- على اعتراضات باطلة، واجتناباً لما يستفيد منه أهل الإلحاد من هذه الخصومة بين طائفتين من أهل الحق بجرح الطائفة الأولى بسلاح الأخرى واعتراضاتها وتهوين شأن الثانية بدلائل الأولى ثم دحرهما معاً..

فعلى طلبة النور -حسب الأسس المذكورة-: ألّا يواجهوا المعارضين بالحدة والتهور، ولا يقابلوهم بالمِثل. بل عليهم أن يكتفوا بالدفاع عن أنفسهم فحسب، مع إظهار روح المصالحة، والإجابة بوضوح عن نقاط الاعتراض، حيث إن الأنانية في عصرنا هذا قد تطاولت واشرأبت بعنقها حتى أصبح كل شخص لا يريد أن يذيب أنانيته -التي هي كقطعة ثلج بطول قامته- ولا يرغب في تغييرها، بل يسوّغ لنفسه ويراها معذورة دائماً. وها هنا ينشأ النـزاع والخصومة ويكون موضع استفادة أهل الباطل والضلال على حساب أصحاب الحق وأهله.

إن حادثة الاعتراض في إسطنبول تومئ إلى أن بعض العلماء المعجبين بمشربهم والأنانيين من المتصوفة وبعض المرشدين وأهل الحق ممن لم يقتلوا نفوسهم الأمارة بالسوء ولم ينجوا من ورطة حب الجاه سيعترضون على رسائل النور وطلابها، حفاظاً على رواج مشربهم ومسلكهم، وتوجّه أتباعهم إليهم. بل هناك احتمال قوي أن تكون المقابلة شديدة.. فعند وقوع مثل هذه الحوادث، علينا بالتأني، وضبطِ النفس، والثبات، وعدم الولوج في العداء، وعدم التهوين من شأن رؤساء الطائفة المعارضة…

فلو افترض -فرضاً محالاً- أن اعتراضاً على رسائل النور ورد حتى من القطب الأعظم ومن مكة المكرمة، فإن طلاب رسائل النور يَثبتون ولا يتزعزعون، بل يتلقون اعتراضَ ذلك القطب الأعظم على صورةِ التفاتةٍ كريمة وتحية وسلام. ويحاولون كسب توجهه وتقبيلَ يده وإيضاحَ مدار الاعتراض على أستاذهم العظيم.

* * *

[مرض العصر]

نعم، يا إخوتي!

إنه في خضم التيارات الرهيبة والحوادث المزلزلة للحياة والعالم؛ ينبغي أن يكون الإنسان على ثبات وصلابة لاتُحد بحدود، وضبط للنفس لانهاية له، واســـتعداد دون حدود للتضحية.

إن تفضيلَ المؤمنين الحياة الدنيا على الآخرة مع إيمانهم بالآخرة ومعرفتها حق المعرفة، وترجيحَ قطع زجاجية تافهة على الألماس الثمين مع معرفة وعلم بها ورغبة فيها، وذلك بسيطرة دوافع الحس العمياء التي لا تبصر العقبى، وترجيح لذة آنية حاضرة على رطل من لذات صافية آجلة.. إن هذا مرض مخيف أصاب هذا العصر بل هو مصيبة من مصائبه، وبلية من بلاياه، وهو مضمون إشارة الآية الكريمة:

﴿يَسْتَحِبُّونَ الْحَيٰوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْاٰخِرَةِ (إبراهيم:3).

ومن جراء هذه المصيبة يقع المؤمنون الحقيقيون أحيانا في خطأ جسيم كموالاتهم أهل الضلالة. نسأله تعالى أن يجنّب أهل الإيمان وطلاب رسائل النور من شر هذه المصيبة. آمين.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[رزق طالب العلم]

لقد اقتنعت قناعة تامة بعد حوالي ألف من التجارب أنني في اليوم الذي أكون في خدمة رسائل النور أشعر بانكشاف وانبساطٍ وفرح وبركة في قلبي وفي بدني وفي دماغي وفي معيشتي حسب درجة تلك الخدمة. وقد شعرت من إخوتي الكثيرين -سواءً هنا أم هناك- بالحالة نفسها ومازلت أشعر بها. وكثيرون يعترفون قائلين: «إننا نشعر بها أيضاً». حتى إنني أعتقد -كما كتبته لكم في السنة الماضية- أن السر في عيشي الكفاف وما يقيم الأود قد كان من تلك البركة.

وقد روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: «أنا ضامنُ رزقِ طالب العلم الخالص؛ لأن في رزقه بركة وسعة».

ولما كانت هذه هي الحقيقة، وأن طلاب رسائل النور قد أظهروا الأهلية التامة لعنوان «طالب العلم» في هذا الزمان، فلا ينبغي التخلي عن خدمة رسائل النور تجاه هذا القحط والجوع المنتشر، مع إدراك أن أفضل علاج لهذا هو الشكر والقناعة والارتباط بصفة الطالب لرسائل النور، وعدمُ ترك الخدمة بحجة الضرورة لهاثاً وراء متطلبات العيش.

نعم، إن هموم العيش هذه قد أحاطت بالناس كلهم من كل جهة. وأهلُ الضلالة يستغلون هذا الوضع. ويجد أهل الدين أنفسهم معذورين قائلين: ماذا نعمل، إنها ضرورة. لذا فعلى طلاب رسائل النور مواجهةُ بلاء الجوع والضرورة برسائل النور أيضا. فوظيفة كل طالب ليس هو إنقاذَ إيمانه وحده بل هو مكلّف أيضا بالحفاظ على إيمان غيره، ولا يكون ذلك إلّا بالاستمرار الجاد في الخدمة.

لقد كتبنا لكم: لا تواجهوا المعارضين بالعداء. بل اتخِذوا طور الصداقة مع أهل التقوى وأهل العلم قدر المستطاع. وعليكم الأخذ بهذا: لا تُقحِموا في صفوفكم من يمكن أن يسبب ضررا برسائل النور ويمس صلابة طلابها، لأن أمثال هؤلاء إن لم ينضموا إلى الدائرة بنية خالصة ربما يورثون الفتور. وإن كانوا يحملون أنانية وحبا للذات يكسرون صلابة طلاب رسائل النور ويجلبون أنظارهم إلى خارج رسائل النور ويشتتون أفكارهم. يلزم في الوقت الحاضر اليقظة التامة والأخذ بالحذر…

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[معجزة معنوية]

إن رسائل النور ليست طريقة صوفية بل حقيقة، وهى نور مفاض من الآيات القرآنية ولم تُستقَ من علوم الشرق ولا من فنون الغرب، بل هي معجزة معنوية للقرآن الكريم خاص لهذا الزمان.

* * *

[تتبع أخبار الحرب]

جواب لسؤال ورد من قبل طلاب رسائل النور

سؤال: لقد سألناكم في السنة الماضية: ها قد مرت خمسون يوما ولم تلتفتوا إلى التيارات الجارية في العالم ولم تسألوا عنها، وقد أجبتم لنا في حينه. ولكن رغم أن ذلك الجواب كان حقيقة وكافيا، إلّا أنه كان من المفروض أن تنظروا إلى تلك التيارات ولو قليلا من زاوية انتشار رسائل النور والعمل لها وإفادة العالم الإسلامي. أفلا يدفعكم الفضول إلى الاهتمام بها والسؤال عنها من هذه الزاوية؟

الجواب: إن الإنسان الذي يخوض غمار هذه الحرب الطاحنة يمثل أصدق تمثيل الآية الكريمة ﴿كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب:72) لذا لا يجوز النظر إلى المظالم المحيّرة فضلا عن موالاة تلك التيارات وتتبع أخبارها والاستماع إلى دعاياتهم الكاذبة الخدّاعة ومشاهدة معاركها بأسىً وحزن. لأن الرضى بالظلم ظلم، وإذا ما مال إليه يكون ظالما. وإذا ما ركن إليه ينال زجر الآية الكريمة ﴿وَلَا تَرْكَنُٓوا اِلَى الَّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ (هود:113).

نعم، لأن هذه الحرب المدمرة ليست لأجل إحقاق الحق وإرساء الحقيقة ولا لأجل إعلاء شأن الدين وإقرار العدالة، بل تستند إلى العناد والعصبية القومية والمصلحة النوعية وإشباع أنانية النفس، فتُرتكب مظالمُ شنيعة ومآسي أليمة لم يُر مثيلها في العالم.

والدليل على ذلك: إفناء الأبرياء من أطفال وعوائل وشيوخ ومرضى بالقنابل المدمرة بحجة وجود جندي أو اثنين من جنود الأعداء فيما بينهم.. واتفاق أعتى المستبدين من البرجوازيين مع الفوضويين والإرهابيين الذين هم المتطرفون من الاشتراكيين والشيوعيين وإهدار دماء ألوف بل ملايين من الأبرياء.. والاستمرار في هذه الحرب الضارة للإنسانية جمعاء.. وردّ الصلح والسلام.. لذا فإن الإسلام والقرآن الكريم بريئان بلا شك من مثل هذه الحروب المدمرة التي لا تنسجم مع أي قانون كان من قوانين العدالة ولا مع الإنسانية ولا مع أي دستور كان من دساتير الحقيقة وقوانين الحقوق. ولا يتنازلان ولا يتذللان لمعاونة أولئك؛ لأن فرعونية رهيبة ومصلحية عجيبة تستحوذان فيهم بحيث لا يمدّون يد العون إلى القرآن والإسلام، بل يحاولون جعلهما آلتين طيعتين في سبيل مآربهم. فلا شك أن أحقية القرآن تأبى الاستناد إلى سيوفِ ظالمين كهؤلاء. بل الفرض على أهل القرآن والواجب عليهم الاستناد إلى قدرة رب العالمين ورحمته بدلا من الاستناد إلى قوة عُجنت بدماء ملايين الأبرياء.

ولما كان الإلحاد يسحق أهل الدين مستندا إلى إحدى القوتين المتصارعتين وأن الانحياز إلى التيار المخالف للزندقة يبدو كوسيلة للنجاة من جَورهم، إلّا أن التجارب أثبتت أن ذلك الانحياز -في الوقت الحاضر- يولد أضرارا كثيرة دون أن يجدي نفعا.

ثم إن الزندقة تدور -بسبب النفاق- حيث دارت مصلحتُها، إلى أي جهة كانت. وتجعل صديقَك حليفها وتدفعه إلى معاداتك. فتبقي الآثام التي اكتسبتَها من الانحياز ثقيلة في عنقك.

وحيث إن وظيفة طلاب رسائل النور هي الإيمان، لا تهمهم الأمور الجارية في الحياة ولا يدفعهم الفضول إلى النظر إليها بلهفة.

وبناء على هذه الحقيقة: فليَ الحق ألّا أنظـر إليها طوال ثلاث عشرة سنة وليس ثلاثة عشر شهرا فحسب. فلقد نظرتم أنتم إليها فماذا كسبتم غير الآثام؟ وماذا فقدتُ أنا ولم
أنظر إليها؟

السؤال الثاني:

ما السبب و ما وجه التخصيص لطلاب رسائل النور الخواص، أنهم ضمن الطائفة المعرّفة بالآية الكريمة ﴿الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ في سورة الفاتحة، وضمن الطائفة المجاهدة في آخر الزمان المعرّفة في الحديث الشريف «لا تزال طائفة من أمتي» وأنهم فرد من أفراد المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿اِلَّا الَّذينَ اٰمَنُوا..الخ، من سورة العصر.؟

الجواب: السبب هو أن رسائل النور قد كشفت وحلّت ما يقرب من مائةٍ من طلاسم الدين وأسراره ومُعَمَّيَاتِ الحقائق القرآنية. بحيث إن الجهل بطلسم وسرّ يوقع الكثيرين في الشبهات والشكوك ولا ينجون من الريوب. بل قد يفقدون إيمانَهم، أما الآن وبعد فكّ تلك الأسرار وحلّ تلك المغاليق لا يجرؤ الملحدون على الظهور والغلَبة ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وقد أشرنا إلى قسم منها في المكتوب الثامن والعشرين (العنايات السبع). وستُجمع تلك الطلاسم بإذن الله في مجموعة مستقلة.

* * *