مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المؤلف للمجموعة العربية لفظا والمثنوي حكما

ترجمة: الملا عبد المجيد النُّورْسِيّ

«تتضمن خمس نقاط»

النقطة الأولى

كان «سعيد القديم» -قبل حوالي خمسين سنة- لزيادة اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية يتحرى مسلكا ومدخلا للوصول إلى حقيقة الحقائق، داخلا في عداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة. وكان لا يَقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدَها -كأكثر أهل الطريقة- بل جَهَد كلَّ الجهد أوّلا لإنقاذ عقله وفكره من بعض الأسقام التي أورثَتها إيّاه مداومةُ النظر في كتب الفلاسفة.

ثم أراد -بعد أن تخلّص من هذه الأسقام- أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى أن لكلٍّ من أولئك العظماء خاصيّةً جاذبة خاصة به، فحار في ترجيح بعضهم على بعض. فخطر على قلب ذلك «السعيد القديم» الممخض بالجروح ما في مكتوبات «الإمام الرباني»(*) من أمره له غيبا: «وحِّد القبلة» أي إن الأستاذ الحقيقي إنما هوالقرآن ليس إلّا، وإن توحيد القبلة إنما يكون بأستاذِيَّة القرآن فقط. فشرع بإرشادٍ مِن ذلك الأستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسُه الأمارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية.

وخلال سلوكه ذلك المسلكَ ومعاناته في دفع الشكوك، قَطَع المقاماتِ، وطالَع ما فيها، لا كما يفعله أهلُ الاستغراق مع غض الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، مع فتح أبصار القلب والروح والعقل، فسار فيها (أي في المقامات) ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلها، منفتحةً من غير غضٍ ولا غمض.

فحمدا لله على أن وُفِّق على جمع الطريقة مع الحقيقة بفيض القرآن وإرشاده، حتى بيّن برسائل النور التي ألّفها «سعيد الجديد» حقيقةَ:

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

النقطة الثانية

لقد كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوكَ في تلك المقامات، ساعيا بالقلب تحت نَظَارة العقل، وبالعقل في حماية القلب، كالإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي. فبادر إلى ضماد جراحات قلبه وروحه، وخلّص نفسَه من الوساوس والأوهام. وبخَلاصِه منها انقلب «سعيدٌ القديم» إلى «سعيد الجديد»، فألّف بالعربية ما هوبحكم المثنوي الشريف -الذي هوأصلا بالفارسية- رسائلَ عدة في أوجز العبارات. وكلما سنحت له الفرصة أقدمَ على طبعها، وهي: «قطرة، حباب، حبة، زهرة، ذرة، شمة، شعلة، ودروس أخرى» مع رسالتين بالتركية وهما: لمعات ونقطة. وبيّن ذلك المسلك في غضون نصف قرن من الزمان في رسائل النور التي لم تقتصر على جهاد النفس والشيطان، بل أصبحت شبيهة بمجموعةٍ كليةٍ واسعة من «المثنوي» تنقذ الحيارى المحتاجين وتنتشُل المنساقين إلى الضلالة من أهل الفلسفة.

النقطة الثالثة

إن المناظرة الجارية بين ذينك السعيدين -سعيد القديم والجديد- كانت دافعة للشيطان، قاهرةً للنفس، حتى غدت رسائل النور طبيبة حاذقة لذوي الجراحات من طلاب الحقيقة، وأصبحت مُلزِمةً ومُسكتةً لأهل الإلحاد والضلالة.

فتبيَّن أن هذا «المثنوي العربي» كان نواة لرسائل النور، وغرسا لها، يُخلِّص الناس من شبهات الشياطين من الإنس والجن.. ولا يخفى أن تلك المعلومات في حكم المشهودات، وأن يقين العلم كعين اليقين، يورث القناعة ويوجب الاطمئنان التام.

النقطة الرابعة

لما كان أكثر اشتغال «سعيد القديم» بعلمَي الحكمة والحقيقة، ويناظر عظماء العلماء ويناقشهم في أدق المسائل وأعمقها، ويراعي درجةَ أفهامِ طلابه القدامى المطلعين على العلوم الشرعية العالية، فضلا عن أنه يشير إلى ترقياته الفكرية وفيوضاته القلبية، بأدق العبارات وأقصر الجمل التي لا يفهمها إلّا هو؛ لذا قد لا يُدرِك قسما منها -بعد جهد جهيد- إلّا الراسخون في العلم.

فلوكانت تلك الخواطر القلبية مبيّنة بعبارات سهلةٍ مفصَّلةٍ وموضحةً بإيضاح يقرّبها إلى الأفهام لكان ذلك «المثنوي العربي» مَعينا تاما لرسائل النور ومعاونا لها في وظيفتها.

فتبيّن أن «المثنوي العربي» -وهومشتل رسائل النور وغراسها- قد سعى كالطرق الخفية إلى المعرفة الإلهية، في تطهير الأنفس والداخل من الإنسان، فوفّق إلى فتح الطريق من الروح والقلب.

بينما رسائل النور -التي هي بستانه اليانع- قد فتحت طريقا واسعا إلى معرفة الله، بتوجهها إلى الآفاق الكونية -كالطرق الجهرية- فضلا عن جهادها في الأنفس، حتى وكأنها عصا موسى عليه السلام أينما ضربتْ فجّرت الماءَ الزلال.

وكلاهما يوصل إلى معرفة الله.. كما قيل:

عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشير

وكذا فإن رسائل النور ليس مسلكها مسلك العلماء والحكماء، بل هومسلكٌ مقتَبسٌ من الإعجاز المعنوي للقرآن يُخرج زلالَ معرفةِ الله من كل شيء، فيستفيد السالك في رسائل النور في لحظةٍ ما لا يستفيده سالكوسائر المسالك في سَنة.

وذلك سرٌّ من أسرار القرآن يعطيه الله من يشاء من العباد ويدفع به هجومَ أهل العناد.

النقطة الخامسة

إنك ترى في ثاني «المثنوي» أعني تلك المجموعة العربية، من المسائل والحقائق الدقيقة التي من شأنها أن يكون كلٌّ منها موضوعا لرسالة.. قد ذُكرتْ ضمن ألفاظٍ ضيقة لا تَسعها، وفي سطور معدودة لا تستوعبها.. وأُفرِدت تلك المسائل بذكرِ: «اعلم.. اعلم» في أوائلها. فلا تظنن أن المسائل -التي كل منها موضوعٌ لرسالة ومشيرٌ إلى حقائقَ متخالفةٍ بعضُها عن بعض- كلها من فن واحد، أوعائد إلى مقام واحد، أوكاشف عن جواهرِ صَدفٍ واحد، قائلا في نفسك: «إنَّ ذِكر «اعلم» وتكرارَه في رؤوس هذه المسائل مما لا فائدة له ولا طائل تحته»؛ لأن كلا منها عنوان وفهرس لرسائل وحقائق، وتكراره إنما هوللإشارة إلى ما بين تلك المسائل من المغايرة.

فعلى القراء الكرام أن يضعوا هذه النقاط المذكورة آنفا نصب أعينهم كيلا يبادروا إلى الاعتراض.([1])

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

المدخل

المدخل

الأستاذ أديب إبراهيم الدباغ

لا جدال في أنّ «النفس البشرية» طاقة عظمى من طاقات البناء والإعمار، ومصدر خصب من مصادر الحق والعدل والخير والجمال في هذا العالم إذا ما زكت وصفت وغدت موصولة الأسباب بفاطرها وموجِدها، لأن صلتها بالله، واستمساكها بأسباب أنواره، يجعلها موضع نظره، ومَنْ كَان موضعَ نظر الله تعالى أُفيضَ عليه من صفات جماله وكماله ما يستطيع بها أن يمحق ظلام الدنيا وشرورها.. وهي (أي النفس) قوة تدميرية عمياء، وطاقةُ هَدْم مرعبة، إذا ما نجمت فيها جرثومة التمرد والنـزق والجموح، وعصفت بها رياح الهوى الهوج المحركة لنيران رغباتها المجنونة، وشهواتها العارمة، فتحرق هذه النار كل سبب يصلها بالله تعالى، فلا تلبث -بعد ذلك- أن تتنكر لخالقها وبارئها، وتنـزع إلى عصيانه، وترغب في الانفلات من مسؤوليات الإيمان، وتكاليف الإسلام.

والنورسي -رحمه الله- إنما يرصد هذه النفس الضالة التي قد غلبت عليها رعونتها، وركبتها حماقتها، فتنشط في البحث عمّن يسليها ويلهيها، وينسيها مَنْ تكون..؟ ولِمَ كانت..؟ وما واجبها..؟ وما مسؤولياتها..؟ ويأسف لها وهي تتصامم عمّن يريد لها الصحوالمسؤول، واليقظة البصيرة، ويطلب لها التعلم والمعرفة، ويأخذ بيدها للارتقاء والسمو، ويشرّفها بمعرفة الله ويتوّجها بتاج طاعته، ويُلبسها حُلل معرفته.. ويرى أنها -إذا زاد ارتكاسها وفاض بها غرورها- قد تتوهم نفسها قطب العالم ومحور الوجود، فتقيس كل شيء بمقاييسها، وتزنه بموازينها، لظنها أنها منبع كل حق، ومصدر كل صواب.. وقد تتمادى في هذا الغرور الأحمق حتى لتنازع «الربوبية» سلطانها، وتنسب لنفسها من صفات الألوهية ما تشاء ويشاء لها الهوى. وتتفاوت «النفوس» في أسباب تعرضها لمخاطر هذا التورم الخبيث، والانتفاخ المَرَضيّ المخيف، فيغدوالبعض أشدّ عتوا، وأصعب توعرا، وأكثر استعصاءً وتمردا على حقوق الربوبية، ومستلزمات العبودية من البعض الآخر. وبسبب هذا التورم الذي يتسلل إلى مخ النفس، فيشل وعيَها، ويفقدها صوابها، ويُعمّي عليها حقيقة حجمها، وتبيان موقعها الصحيح من الله.. وبسبب غياب «العقل الإيماني» الذي يبصرها بحقيقتها، ويمنعها من الجموح والشطط، فهي غالبا ما تنساق مع الوهم، فتتخيل استطالة حجمها، وتضخّم جِرمها، وتحسب الكون قاصرا عن احتوائها، والأرض عاجزةً عن حمل عظمتها.. ومن هنا.. من عدم تحديد مكان «النفس» من الله، ومن تجاوزها حدود وظائفها في هذا العالم تنجم جميع شرور العالم وآثامه، وتنبعث جميع آلامه وأحزانه ومآسيه، ومصداق ذلك ما يحدثنا به التاريخ من مدّعي «الألوهية» و«الربوبية» من الملوك والأباطرة والفراعين وغيرهم على اختلاف مدّعياتهم الباطلة، وما خلفوه وراءهم من جروح وآلام في حياة الشعوب والحضارات.

وخشية من وقوع «النفوس» فريسة هذا التورم البشع المخيف، وحرصا من «الإسلام» على أن تظل «نفس» المسلم صحيحة تستمتع بالسلامة والعافية، فقد حثّ القرآن على مجاهدة نزق النفس، وحذّر من تمردها وعصيانها لخالقها، واعتبر مجاهدتها واجبا إيمانيا لا يقل أهميةً عن واجب مجاهدة العدو، بل يزيد عليه، لأن العدوالذي يريد الشر بالبلاد والعباد بيّنٌ ظاهر للعيان بسلاحه وعدّته وعدده، نواجهه ونحن نرى ونسمع، فيجتمع عليه كياننا كله، وتتهافت عليه حواسُنا جميعا، وتتعاون على قهره طاقاتُنا بأسرها.

أما «النفس العاصية لله» فهي عدوخفي لا نراه ولا نحس بعداوته، لأنها تسري في وجودنا كله، وتجري منا مجرى الدم، ولا يجتمع عليه وجودنا كله لأنها جزء من هذا الوجود، فضلا عن أننا لا نعرف متى تهاجمنا؟ ومن أيّ ثغرة تتسلل إلى مقاتلنا؟ وأيّ سلاح رهيب من أسلحتها تجربه فينا؟ لذا يتعين علينا أن نبقى حذرين دائمي الحذر، متيقظين دائمي التيقظ، نرصد حركاتها، ونراقب مناوراتها، ونأخذ منها زمام المبادرة، فنلجمها قبل أن تجمح بنا، ونأخذ بخطامها قبل أن تهيج علينا وتلقي بنا تحت أقدام طغيانها فلا تفلتنا حتى تسحق منا الروح والقلب والعقل.

* * *

وقد عانى النورسي من نفسه الشيءَ الكثير؛ فهي نفس جموح، وعرة المراس، صعبة الترويض، عصيّة على الاقتناع، تأبى أن تسلس له القياد ما لم يأتها على الرأي الذي يراه بالدليل القاطع لكل شك، والبرهان المبدد لكل ريب. لذا فقد كان همّه الأعظم إقناعها بالرأي الذي يراه، والفكر الذي يخلص إليه.. فهوفي كل ما كتب ولاسيما في «المثنوي» إنما كان يكتب لنفسه بهذا القصد ولهذا الغرض، وكأنّ نفسه -لشدة جموحها ونفورها من الفكر التقليدي- قد آثرت الانفصال عنه، والانسلاخ منه، فصار لها كيان مستقل، وشخصية مناوئة، تقف إزاءه، وترصد فكره، ولا تنفك تحاوره وتلح عليه في الحوار، وتسأله وتلح عليه في السؤال، حتى تضطره للإجابة عليها بحشد هائل من الأدلة والبراهين التي تقنعها وتطمئنها، وتلزمها الحجة والتسليم. وفي معرض وصفه لهذه المعاناة مع نفسه يقول النورسي:

«إن هذه ثلاثون سنة لي مجادلة مع طاغوتين وهما: «أنا» في الإنسان، و«الطبيعة» في العالم».([1])

والمأساة الأخرى التي ظلّتْ تؤرّق النورسي طوال حياته، وتنغر في ضميره، إنما هي سقوط الملايين من البشر في هذا العصر في حبائل «الطبيعة» وانحباس أرواحهم في أقفاصها، وتعبّدهم -كما يتعبد الوثنيون- لنواميسها وسننها، فنسبوا لهذه النواميس والسنن ما ينسبه المؤمنون إلى الله تعالى من صفات الخلق والإيجاد والقدرة والعلم والحكمة والقصد والاختيار، وبذلك حَجبت «الطبيعةُ» المخلوقةُ، بصفاتها الاعتبارية غير الذاتية، الإنسانَ الوثني عن «الخالق» الحقِ، وامتصت إيمانَه، وأنشبت أظفار الجحود الحاد في روحه، وحولت قلبه الخصب إلى جفاف كجفاف رمال الصحراء، فاستُثني -بهذا الانحراف الأخرق عن الله- استثناءً شاذا من بين التوافق الكوني العظيم الذي تندرج الأشياء جميعا فيه، وتتآلف معه في وحدة كونية نابضة بالمعرفة والمحبة لله، فإذا به -على الرغم من كل منجزاته الحضارية المبهجة- ينوح نوحا مريرا على شقائه الروحي كنواح النغم الحزين المنفرد بحزنه من بين منظومة اللحن الضاحك البهيج.

وكما حاور النورسي جموح النفس، وناقش نزقها وتمردها، وردّ على اعتراضاتها حتى راضت وقنعت واطمأنت، فإنه كذلك ناقش المؤلِّهين للطبيعة، واستعرض مقولاتهم، ثم ردّ عليها واحدةً تلوالأخرى، وخلص في خاتمة المطاف إلى خطلِ رأي مَنْ ينسب إليها الحياة والخلق والإيجاد من دون الله تعالى.

ولما كانت «نفسه» دائمة الحضور معه، قائمة بين جنبيه، تناقش فكره الإيماني، وجها لوجه، وتُلقي باعتراضاتها حوله، لذا فإنّ النورسي كتب ما كتب بقصدِ ترويض هذه النفس الجموح الثائرة على كل فكر تقليدي، وبنية تبديد شكوكها، وقهر عنادها، وإقناعها بصحة أفكاره، ومصداقية قناعاته.

ومن هنا فليس غريبا أن يكتنف بعضَ أفكاره في «المثنوي» شيء من الغموض غير المقصود، لأنه لم يكن مقصودا من كتاباته سوى نفسه، فلربما كفاه السطر والسطران لتفهَم عنه نفسُه، وتعرف مراده، ولا تكفيه الصفحة والصفحتان ليفهم عنه القارئ بعض مراده.([2])

ومن حق القارئ الذي يقرأ هذا الكلام أن يسأل نفسه:

إذا كان مقصود النورسي فيما كتب في هذا الكتاب «نفْسَهُ» فما جدوى نشره، وإغراء الآخرين بقراءته؟ وهولم يُكْتَبْ لهم أصلا، ولم يُصْنّف لأجلهم؟

وللجواب على هذا السؤال نقول:

إنَّ «النفس الإنسانية» هي واحدة في جوهرها، وواحدة في أسباب صحتها ومرضها، كالجسد تماما، فإذا كانت الأمراض التي يمكن أن تصيب جسد «زيد» هي نفسها التي يمكن أن تصيب جسد «عمرو» وأن ما يفيد «زيدا» من دواء يفيد «عمروا» أيضا، فكذلك فإن أمراض «النفس» هي واحدة لدى جميع البشر مع بعض الفروقات بين نفس ونفس. فالعلاج الذي استعمله النورسي لنفسه قد يفيد أي إنسان آخر يعاني ما كان يعانيه النورسي من نفسه، وهويقول بهذا الصدد:

«ولا تخف من تمرد النفس، لأن نفسي الأمارة المتمردة المتجبرة انقادت، وذللت تحت سطوة ما في هذه الرسالة من الحقائق، بل شيطاني الرجيم أُفحم وانخنس.. كنْ مَنْ شئت، فلا نفسُك أطغى وأعصى من نفسي، ولا شيطانُك أغوى وأشقى من شيطاني».([3])

فضلَا عن التجارب الذاتية التي تخوضها النفوس العظيمة، هي رصيد جديد يضاف إلى رصيد الإنسانية ويثري معرفتها بشؤون الروح والوجدان، ويمنح أفرادها ما يفيد في اجتياز قلقهم الروحي بنجاح، وتخطي عواصف شكوكهم بسلام، وقد اعتاد البشر -منذ أقدم العصور- أن يفيد بعضهم من تجارب البعض الآخر، ولولا هذه السنّة الحسنة التي درج عليها الناس لما وصلت البشرية إلى هذا الصرح الهائل العظيم من المعارف والعلوم والأفكار.

ونكاد نلمس بين سطور «المثنوي» غبار الصراع الدؤوب الذي خاضه النورسي بشجاعته ضد تمردات نفسه وجنوحاتها قبل أن تسلس له القياد، وتسلم له الزمام، حتى إننا لنتعاطف معه، ونأسى من أجله ونحن ننظر بعين الخيال إلى ما عاناه هذا الرجل من عذاب قبل أن يحقق انتصاره النهائي على الجانب المُستعصي من نفسه.

وما من أحد من المؤمنين إلّا وله مع نفسه العصية مواقف أوبعض مواقف -كالتي كانت للنورسي مع نفسه- مع اختلاف درجات التوتر والقلق والصراع ضعفا وقوةً، وقلة وكثرةً، في الأشخاص، تبعا لدرجات إيمانهم ويقينهم؛ لذا فما من أحد إلّا وله في تجربة النورسي ما يفيده بدرجة أوبأخرى.. وإذا ما فاتنا النـزر اليسير من علاجات النورسي لنفسه، بسبب بعض الغموض في بعض وصفاته، إلّا أننا سنفيد -بلا ريب- من الشيء الكثير منها، وكما يقول:

«لا تقل: إذا لم أدرِ الكل لا أريد الكل.. فإذا كنت في بستان أَتَتْرك الثمرات إن لم تأكل كلها».([4])

فَرُبّ زهرة تقطفها من حديقة «المثنوي» تغنيك بشذاها وجمالها عن عشرات الأزهار، ورُبّ فاكهة تنالها يدك تعطيك مذاق مائة فاكهة وفاكهة.

فالمثنوي.. كتاب فريد في مصداقيته، قد سجل فيه النورسي بأمانة وعفوية وصدقٍ سيرةَ نفسه وما كان يعتَورها من قلق واطمئنان، وينتابها من صحة وسقام، ويتناوشها من شك ويقين، من دون زيادة أونقصان، حتى إنه لَيترك نفسه تنساب -على سجيتها- مع انسياب قلمه، فلا يجري على كلامه في بداهته الأولى أيّ تبديل أوتعديل، حفاظا على براءة عفويته، وخوفا من أن يدخل على كلامه ما يخدش صدقه، ويمسُّ بكارة معانيه.([5])

وما يتكرر في أول كل خاطرة من خواطر «المثنوي» من «اعلم» فالمقصود: «اعلم يا سعيد». أو«اعلمي»، فالمقصود: «اعلمي يا نفسي»، فبسر قوة الصدق الذي يشيع في ثنايا الكتاب -لأنه ليس بعد الصدق مع النفس من صدق- وبسرّ قوة الروح المسكوب في كلماته -لأنه ليس من روح أقوى من روح عجنته المعاناة وأنضجته نار التجربة- يمكن لأي إنسان الإفادة من تجربة هذا الكتاب في ترويض نفسه، والتحرر من رهقها، وكذلك تنقية مداركه العقلية من مفاهيمها الخاطئة عن ربوبية «الطبيعة» وأُلوهية ماديتها. فبانهدام هذين الوثنين: النفس والطبيعة، وتحررِ الإنسان من طغيان سطوتهما عليه، ينفسح له المجال واسعا لميلاد ذاته الحرة من جديد، وانتفاضها من بين أنقاض عالمه المتهدم مفعمةً بالعافية، طافحةً بالحيوية، فلا تلبث حتى تسرع في استرداد وعيها الأعمّ الأشمل، وإدراكها الأصح الأصوب، فترى -بصفاء نظرها وسريرتها- أنّ كل موجود -بحد ذاته- حرف ضائع لا معنى له ما لم يعطه اسم «الله» الأعظم معناه بالانتساب إليه، ويسبغ عليه مغزاه على قدر ارتباطه به وفهمه عنه.

فالكائنات والموجودات -بما فيها الإنسان- حروف خاوية حائرة تجوب كتاب العالم، فلا تقرُّ أوتجد لها مكانا فوق سطور هذا الكتاب الكبير ما لم تستمد معانيها من أسماء الله الحسنى، وما لم يمسها مدد من أمدادها، وينسكب فيها مِدَادٌ من مِدَادِ بحار القدرة.. فلا شيء موجود على الحقيقة ما لم يعطه الله شيئيته، ويمنحه كيانه، ويقدّر وجوده. فإذا وصل الإنسان إلى هذه النقطة من الإدراك، ولاسيما بعد عظيم المعاناة، فقد وصل إلى «التوحيد» الخالص، وتشرّب جوهر الإيمان والإسلام، وعرف جدوى الوجود ومعناه.

وهذا هوما يرمي «المثنوي» ويهدف إلى تحقيقه في نفس صاحبه أولا، وفي نفس كل قارئ من بعده.

* * *

والتوحيد الخالص من شوائب الشك، والذي يشكل لبَّ الإيمان، وجوهر عقيدة الإسلام، هوفي «المثنوي» ليس أمرا تقريريا، ولا معنىً تلقينيا، ولا عقيدة تقليدية، ولا كلاما محفوظا مرددا يردده المسلم بلسان جاف، وقلب بارد، ووعي ذاهل، كما هومشاهَد اليوم لدى الكثير من المسلمين.. فلا غروإذا ما عجزتْ «كلمةُ التوحيد» اليوم -وقد خالطها هذا القصور المعيب- أن تخرق أبواب الروح، وتلِج إلى أعماق الفؤاد، لتُطلق قوى المسلم، وتفجّر طاقات كيانه الروحي الذي أصابه الضمور وغدا عاجزا عن ممارسة أي نشاط يمكن أن يزيد في نموه، ويقوي فيه بصيرة الكشف الذكي عن «علوم التوحيد» العظيمة في مظانها الأصلية من نفس الكون والإنسان.

فالتوحيد الذي يدعونا إليه «المثنوي» ليس تقريريا، ولا تلقينيا، ولا تقليديا، ولا ترديديا، بل استكشافيا.. فيه ما في الاستكشاف من متعة ومغامرة ومعاناة، فهويأخذنا -عبر خواطره- في جولة استكشافية في أغوار النفس الإنسانية، ويدور بنا في أنسجة الروح والفكر والضمير، ثم يزيح التراب عن ذاكرة الكون المَؤُودة تحت ركام علوم العصر، ويستنطقها لتحدثنا عن بصمات «التوحيد»، وتدلنا على آيات الإله الواحد الذي لا يقبل الشريك.. ولا يتركنا إلّا ونحن قد اكتشفنا «التوحيد» والتقيناه في أشد الأشياء الكونية والنفسية بداهةً، فينبثق في صميم أفئدتنا انبثاقا، وينغرس بشكل عفوي في أعماق أرواحنا وضمائرنا، فيهز هذا التوحيد الاستكشافي أعماق النفس، ويفعم الذهن بطاقات الذكاء، ويشدُّ في الوجدان أجهزة التلقي عن الكون والحياة، فيستمر المسلم كشافا رائدا لأعمق الحقائق -في الكون والإنسان- في ديمومة لا تتوقف حتى تتوقف حياته.. فيزيد فهما، ويتسع وعيا، ويخصب وجودا وحياةً.

والإيمان بالله واحدا أحدا فردا صمدا هوأحد المحاور الثلاثة -بعد النفس والطبيعة- الذي يدور حوله النورسي في أفكاره وخواطره المسجلة على صفحات «المثنوي». وهويرى أن العقل المسلم ينبغي أن يكون قرآنيَّ التصورِ لمفاهيم التوحيد، ولصفات الكمال والجلال والجمال التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى. وأن هذا «العقل» الذي تُشكِّل المفاهيمُ القرآنية تصوراته عن الألوهية والربوبية.. لا يمكن أن يرقى إلى قمته عقلٌ كائنا ما كان ما دام محجوبا عن القرآن.

والنورسي وإن لم يكن قد استعرض تصورات العقليين للألوهية والربوبية، وتصورات غيرهم من أصحاب الأديان والمذاهب والنحَل، إلّا أننا نحسُّ من خلال كلامه عن أسماء الله تعالى وصفاته، وكأنه يردّ -ضمنا- على هذه التصورات المنحرفة، ويفندها الواحدة تلوالأخرى.

ففي كلامه كما سيلمس القارئ بنفسه ردّ ضمني على مَنْ يزعم -من العقليين- بأن الله تعالى خلق العالم وفرغ من خلقه، ولا شأن له به بعد ذلك.

وردٌّ على مَنْ يدّعي عدم علم الله بالجزئيات، تعالى عن هذا علوا كبيرا.

وردّ على مَنْ يؤمن بالله ولكنه يتردد ويتلجلج في إيمانه بالملائكة والكتب والرسل والقدر، واليوم الآخر، والنشر والحشر، والجنة والنار.. إلى آخر تلك التصورات السقيمة المجانبة للحق، والمجافية لما أثبته القرآن وجاءت به السنة المطهرة.

إنَّ الآية القرآنية: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌۚ وَهوالسَّميعُ الْبَصيرُ﴾ (الشورى:11) قد أوفَتْ وكفت وردّت على تصورات العقول البشرية -بقصورها ومحدوديتها- لله سبحانه وتعالى، وأزرت بقياساتها الفاسدة ابتداءً من تصورات أدنى الوثنيين عقولا، ومرورا بأكبر عقل من عقول فلاسفة الإغريق، وانتهاءً بآخر ما وصل إليه العقل الرياضي والعلمي الحديث.. والآية -بحد ذاتها- إشارة إلى أن المسألة أجلّ وأعظم من أن تترك للأمزجة والخيالات والعقول القاصرة لكي تخوض فيها وترى فيها رأيها من غير هديٍ يهديها من الله الذي هوأعلم بنفسه، وأعلم بخلقه، وقدرات عقولهم عن الفهم عنه، وإدراك ما هوفي مكنتهم من معاني أسمائه وصفاته.

* * *

والنورسي يرى في «الأسماء والصفات» حلا للغز العالم، وجوابا على أسئلة كثيرة ربما كان أهمها وأعظمها على الإطلاق هوالسؤال الذي حار فيه أكبر العقول من فلاسفة هذا العصر وفلاسفة كل العصور السابقة، وهو: لماذا مُنِحْنَا منحة الخلق..؟ وأُعطينا فرصة الوجود..؟ وهذا العالم ما حكمة وجوده..؟ وما مغزى انبعاثه عن العدم..؟ إلى آخر هذه الأسئلة التي ما زالت مثار اهتمام العقول الحائرة من بني البشر.

والنورسي في خواطره عن صفات الله الجمالية يلتقي الحل، ويقع على الإجابات المقنعة، فهويرى أن الرسام حين يرسم أجمل لوحاته -ولا مشاحة في المثال- إنما يعبر عن فيض الجمال الذي يغمر نفسه، وهويفعل ذلك ليرى جمال نفسه في لوحاته وليُرِيَ هذا الجمال للآخرين ممّنْ يملكون القدرة على تذوقه وفهمه والتأثر به.. فكم يكون موقفنا سخيفا وغير منطقي لوتوجهنا بالسؤال لهذا الفنان قائلين: ماذا تفعل..؟ وما الذي يحملك على مسك فرشاتك لترسم هذه اللوحة..؟ وما سرّ ذلك؟ وما حكمته؟ أليس التوجه بمثل هذا السؤال عبثا لا معنى له؟ ألا يدل على قصور عقولنا؟ وسذاجة أفهامنا؟

فكذلك -﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾- فإن الصفات الجمالية والكمالية وصفات القدرة التي يدور غالب أفكار «المثنوي» وخواطره حولها، هذه الصفات التي وصف الله -جلّ شأنه- بها نفسه ومنها: «الخالق، البارئ، المصور، الرحمن، الرحيم، اللطيف، الودود، الرزاق، الكريم، القادر، العليم..» إلى آخر هذه الصفات لا بد لها من التجلي بمعانيها الجمالية والكمالية في الخلق والإيجاد، وأن ترتسم صورتها في مرآة العالم والوجود، وتنسكب بمحاسنها وألوانها على صور الكائنات والموجودات، ليراها مَنْ وصف نفسه بـ«أحسن الخالقين»، وليُريها للإنسان في خفايا نفسه، وفيما يحيط به من موجودات. فيرى -هذا الإنسان- ويتأمل ويعتبر، ويشهد ويشغف، ويعجب ويشدَه، ثم لا يقف عند هذا بل يمر سريعا من الرسم إلى الرّسام، ومن النقش إلى النَقَّاش، ومن الظل إلى الأصل، وبذلك -أي بهذا الانتقال السريع- يصبح الإنسان جديرا بالفهم عن الله سبحانه وتعالى، الذي قدّر أن يكون محطَّ عنايته، وخليفته في أرضه.. وهي بلا شك ستبلغ (أي هذه الصفات الجمالية والكمالية) مداها الأعظم والأشمل والأوفى من الجمال والكمال في حياة الإنسان الأخرى، وعمره الثاني في كنف الرحمن وفي جنته التي هي أروع لوحاته جمالا وحسنا وكمالا وقدرة..

وكما أنّ اللوحة الفنية العظيمة لرسام عبقري، لا يقدر على تذوق محاسنها، وترشُّف روح الجمال فيها، إلّا مَنْ كان له إلمام ببعض قواعد الرسم، ممّن رهُف حسُّه، ورقّ شعوره، وملك نفسا نقيةً صافية، وقلبا سريع الحساسية بلمحات الحسن والجمال، فكذلك فإن «الجنة» -ولا مشاحة في المثال مرة أخرى- هذه اللوحة المعجزة والتي رسمتها يد القدرة بألوان اللطف والرحمة الإلهيين، لابُدّ وألّا يزاح عنها الستار إلّا لمَنْ يمتلك رصيدا جماليا في روحه وبدنه، واستعدادا ذوقيا يهيئ له سبل الاستمتاع بهذا الجمال الذي لا عين رأت مثله، ولا أذن سمعت وصفه، ولا خطر على قلب بشر، كما جاء وصفه -بهذا المعنى- في الحديث الشريف.

ولذا فقد كرّس النورسي جملةً عظيمة من خواطره في «المثنوي» لتشويق الإنسان، وترغيبه بالجنة، ولفْتِ نظر النفس إلى محاسنها، وتمهيد سبل معرفتها، والوصول إليها، وذلك بتهيئة أحاسيسه الذوقية والجمالية وإرهافها -وهوبعدُ في الدنيا- وتنقية حواس الروح والبدن من الشوائب والأكدار، وتطهير الضمير والوجدان من قبح الرذائل والآثام، وبهذا تجمُل «النفس» فيشتاق جمالها إلى جمال الجنة فيتناغمان ويتجاذبان، ثم إذا قُضي الأجل يلتقيان، فيندغمان ويتذاوبان في حرارة الاشتياق وبهجة اللقاء.

والآخرة بأحداثها وأهوالها، ونشرها وحشرها وجنتها ونارها، ليست -عند النورسي- قضية هامشية تحتل هامش ذهنه، وفضول وقته، وبقايا همّه -كما هي اليوم لدى الغالبية العظمى من الناس- وإنما هي شهود دائم، وحضور قائم، ووجود شاخص، لا يبرح فكره، ولا يغادر وجدانه، يراها بنظر بصيرته كما يرى الأشياء بنظر عينه، وتتحسسه روحه كما يتحسس كل مشهود ومعلوم، وينفعل كيانه بها انفعالَ منْ يَبْدَهُه الشيء العظيم والخطير، فيستهوله ويتعظمه، ويخافه ويرجوه، ويرغب به، ويرهب منه.. فما دام الذي بين الإنسان وبين أن تقوم قيامته، وتحل آخرته، هوأن يأتي زمن موته، وهوزمن مجهول قدرُهُ، محجوب سرّ قدومه، مكتوم وقت نزوله، ولكنه آت لا ريب فيه، لذا فالآخرة -بهذا الاعتبار- هي غائبة حاضرة، بعيدة قريبة، مجهولة معلومة، مستورة مكشوفة.. هكذا يتحدث عنها النورسي -مستعينا بما يرمز إليها من شؤون الدنيا- ويصف قيامتها وحشرها ونارها وجنتها وصْفَ مَنْ يراها ويسمعها، ويغشاهُ وقتها وزمانها. وما لم يكن الشلل الروحي قد استفحل دبيبه في كيان المرء، وما لم يكن قد سرى خدَره المتيبّسَ إلى أمداء عميقة وسحيقة فيه، بحيث لم يَعُد يجدي فيه أيّ علاج.. فأغلب الظن أن «المثنوي» قادر بإذن الله -بما تفيض به كلماته من بداهة الصدق المقنع- على تحرير هذا المرء من أصفاد شلله، وقادر على إجراء ذلك التمسيد المنشط للذرات الباردة المتيبسة في وجدان هذا المرء، وبعث الدفء والحركة والإحساس بالعافية في كيانه كله، فلا يلبث أن يندفع -في فورة عافيته- مخترقا شغاف الأوهام بسنا النور الذي أشرقت شمسُه في فؤاده، ومبددا دياجي الأباطيل ببوارق الحق الذي سطع ضوءُه في آفاق عقله.

وتجربة النورسي في مثنويه تعلمنا بأن «الحقيقة الدينية» -كأية حقيقة وجودية أخرى بل أكثرها علوا وشرفا- لا يمكن أن تفصح عن نفسها، وتكشف عن سرها إلّا إذا بَحث عنها وجهد في استكشافها الكيانُ البشري برمته، أي بنـزاهة الفكر، وإخلاص الضمير، وطهارة الروح والبدن، لأن كل هذه الجوانب -التي منها يتكون الكيان البشري ويستقيم أمره- لها مجساتها الخاصة التي بها تجس جانبا من جوانب الحقيقة وتتلمسها متلذذةً بهذا التلمس والتحسس. وبمجموع هذه المجسات المتساندة والمتعاونة في الكيان البشري، وبالجوارح جميعا -المادية والمعنوية- يمكن الإحاطة بالحقيقة الدينية والتقاطُها وجعلها تسفر عن نفسها كأنصع وأجمل ما تكون، لتنال كلُّ جارحة منها حظها، وتترشف منها ما يلائم مزاجها، ويُرضي حاسة ذوقها. ولعلّ في إسراء الرسول ﷺ وفي معراجه إلى الملكوت الأعلى بكيانه البشري كله -لا بجزء من هذا الكيان- إيماءً إلى أن المعارف الدينية والتعبدية لا يمكن للمرء أن يستكمل جميع ما يتقطر منها من حلاوة ولذة إلّا باستخدام جميع أحاسيس كيانه الروحية منها والمادية. فكما أن آلام هذا الكيان ليست واحدة، فألم العين ليس كألم الأذن، وألم الأذن غير ألم الضرس، وأوجاع النفس غير أوجاع البدن، فكذلك فإن مباهج هذا الكيان وأفراحه وأذواقه ليست واحدة على التحقيق..

فالصلاة مثلا -وهي معراج المسلم خمس أوقات في اليوم- تصبح -في الأداء الأمثل- موضع مذاقات الذات البشرية بأسرها؛ فكرا وروحا وبدنا، ومن هنا جاء قوله ﷺ: «يا بلال أقم الصلاة أرِحْنَا بها». وقس على هذا جميع العبادات والمعارف الإيمانية الأخرى التي استعرضها النورسي في كتابه هذا، مبينا ضرورتها للإنسان كضرورة الماء والهواء، بل أعظم منهما ضرورة، فهو(أي النورسي) لشدة احترامه للإنسان فإنه يحاور -في مثنويه- الكيان الإنساني بأسره وبجميع لطائفه أسوةً بمنهج القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهويقرر بأن أية معرفة إيمانية لا يكون من همّها إشباعُ لطائف الإنسان جميعا، تبقى ناقصة ومبتورة أمام المعرفة الجامعة الكاملة المستقاة من القرآن الكريم مباشرةً من قِبل مَنْ هم ورثة الأنبياء حقا وصدقا.

وحتى «القدر» الذي يقدّر مقادير الخلق، ويعيّن وظائف الموجودات، ويرسم لكل كائن في هذا العالم المدى الذي يمضي إليه، والبعد الذي يصل عنده ويؤشر له نقطة البداية التي ينطلق منها، ونقطة النهاية التي يقف عندها، ثم يربط الموجودات بعضها ببعض، ويسنّ لها سنن التعاون والتساند فيما بينها، فما يبدو-للوهلة الأولى- وكأنه صراع من أجل البقاء بين بعض أنواعها، هوفي النظرة العميقة الشاملة وفي المحصلة النهائية، وما يفضي إليه هذا الصراع من غايات ومقاصد، يصب في تيار التعاون والتساند ويثري الحياة، ويسهم في دفعها نحوالهدف الذي يريده منها خالق الحياة..

أقول: إن القدر، بهذا المفهوم الذي يطرحه النورسي في جملة من خواطره في «المثنوي» -وإن كان فوقيا وغيبيا- إلّا أنه لا ينـزل بالإنسان هكذا فجأة وعلى غير انتظار، ولا يلطم أحدا إلّا تأديبا له وتعليما، أوتنبيها وتذكيرا ولا يُرَبّتُ على ظهر أحد غير جدير برحمته، وبلمسات لطفه وودّه، وهوليس من همه أبدا أن يقف في طريق الإنسان، ويدخل معه في صراع فلا يفلته حتى يصرعه.. فلواستعرض كلٌّ منا شريط حياته لشعَر وكأنّ ما وقع له من أحداث أوأقدار -في سني عمره كله- لم تقع اعتباطا، ولم تحدث لغير ما مغزى ويتيقن بأنّ كل شيء حدث له وكأنه كان ينبغي أن يحدث على الشكل الذي حدث به وبالطريقة عينها التي حدث بها، وأنه النتيجة المتوقعة لسلسلة من المقدمات التي سبقته، فلا تقبل نتيجةً سواها. فالأحداث أوالأقدار -تأنيسا لبني البشر- لا تأتي مغايِرة لمن تقع لهم، بل تأتي شبيهة بهم وبأعمالهم، وبما ينطوي عليه كيانهم البشري من أصول البطولة أوالخسة، ومن جذور النقاء أوالدنس. وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلٰى شَاكِلَتِه (الإسراء:84) فعلى شاكلة هذه الأعمال، وبسببها وعلى قدْرِها يقع القَدَر، وينفذ القضاء.

وبعد:

ويجدر بي أن أشير إلى أن الجديد في هذا الكتاب هوقدرة النورسي الفذة على صياغة القضايا الإيمانية والبرهنةِ على صدقها وأحقيتها بأسلوب هومزيج من عقل المفكر، وقلب الشاعر.. ولكي أعطي صورة قربية عن هذا الأسلوب للقارئ الكريم أقول:

إنَّ النورسي نفس شاعرة، وروح لهيف، وقلب مشتاق، ووجدان رقيق مرهف، وبصيرة نفاذة مذواق، وبصر لمّاح رصّاد لا تفوته بارقة من بوارق الجمال الكوني، ولا تفلت منه سانحة من سوانحه. وطائر عجيب يلقط لآلئ الحسن من فوق جيد الوجود. وظامئ عطش يترشف زلال الجمال من رضاب ثغور الأكوان.. ومع كونه يملك كل صفات «الشاعر العظيم» إلّا أنه لم يقل شعرا، أعني أنه لم ينظم شعرا كما ينظم الشعراء، ولكن ما قاله في «المثنوي» رغم أنه يحمل ميزات «النثر» ومقوماته شكلا وقالبا، إلّا أنه شاعريّ الروح والنفس وجداني الانسياب، رشيق في صوره وأخيلته، مع عمق أفكاره ودقيق معانيه!


[1] رسالة «حبة من نواتات ثمرة من ثمرات جنان القرآن».

[2] إفادة مرام رسالة «شمة» و«نقطة».

[3] انظر: «تنبيه، إخطار، اعتذار».

[4] إفادة مرام «شمة من نسيم هداية القرآن»

[5] انظر إفادات المرام ولا سيما إفادة مرام «حبة».

مقدمة المحقق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المحقق

الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا محمد ومن والاه، وبعد..

إن مما دفعني إلى القيام بتحقيق هذا الكتاب بهذا النمط من التحقيق المتواضع هو:

أولا: حاجتي الماسة إلى من يرشدني إلى دروب النفس الأمارة بالسوء، ويكشف لي عن دقائق مسالكها وخبايا دسائسها، ويضع أمامي علاج أمراضها المتنوعة، ومن ثم يأخذ بيدي إلى منابع الإيمان في رياض الكون الفسيح لأنهلَ منها ما أنهلُ حتى يرتوي القلبُ ويشبعَ العقل وتنبسط الروح.. بمعنى أنني قمت بهذا التحقيق لنفسي قبل كل أحد.

ثانيا: وجدت أن كثيرا من الباحثين والمفكرين يرومون الوصول إلى أصول فكر الأستاذ النورسي، ويهمهم أن يوغلوا معه في أعماق تجاربه مع النفس، وأن يرافقوه في سَرَيان روحه في أرجاء الكائنات، ويُعملوا فكرهم في ما نَصَبه من موازين علمية ومعايير منطقية ومناهج فطرية؛ فأردت أن أضع بين يديْ هؤلاء الأفاضل هذا السِفرَ النفيس من مؤلفات الأستاذ الذي عدَّه «مشتلَ رسائل النور وغراسها»، حيث فيه خلاصة أفكاره، بل إن أغلب ما أزهر من أفكاره -في رسائل النور- بذورُه كامنة في هذا الكتاب.

ولما كان الغوص في هذه الأمواج الزاخرة من الأفكار والخواطر والمسائل وإخراجُ لآلئها الثمينة ودررِها النفيسة ليس في طوقي، اكتفيت بهذا التحقيق، ليجد أولئك الكرام بين يديهم نسخة كاملة من الكتاب، فيبذلوا فيه جهدهم لعل المولى القدير يقيّض منهم من يضطلع للقيام بتلك المهمة التي أعجزُ عنها، فيسدّ جوعة الروح وهزال الفكر التي يعانى منها الكثيرون.. بمعنى أنني قمت بهذا التحقيق لهؤلاء الأكارم.

ثالثا: إنَّ كل مسلم بل كل إنسان يشعر في قرارة نفسه أنه بحاجة إلى تربية روحه وتزكية نفسه وتنمية عقله وتوسيع آفاق خياله، فتراه يتلمس مبتغاه من مظانه من الكتب.. فأردت أن أضع هذا الكتاب القيم أمام كل مسلم، بل كل إنسان ليرى نمطا جديدا وفريدا من أساليب التزكية والتربية، قلما يجده في كتاب آخر؛ حيث إنه يمزج أدق الموازين العقلية والمقاييس المنطقية بأرفع الأشواق القلبية وأسطع التفجرات الروحية ضمن أمثلة ملموسة لا تكاد تخفى على أحد، آخذا بيد القارئ برفق، متجولا معه في ميادين النفس والآفاق، مبينا له ما توصل إليه من نتائج يقينية، بعد تجارب حقيقية خاض غمارها تحت إرشاد القرآن الكريم.. بمعنى أنني أردت أن أبيّن بهذا التحقيق هذا المنهج القرآني الفريد لكل مسلم، بل لكل إنسان.

قبل كل ذلك وبعده؛ فإن قطرة من عمل خالص لوجه الله أعظم من بحر من الأعمال المشوبة، فأَمَلي بالله عظيم أن يتقبل هذا التحقيق المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأتضرع إليه تعالى أن يهيئ في مقبل الأيام من يوفي حق هذا الكتاب من الشرح والبيان ليعم النفع ويجزل الثواب.

* * *

ولقد سار التحقيق هذا وفق الخطوات الآتية:

1- المقابلة بين النسخ المتوفرة لديّ وهي:

أ- الطبعة الأولى من الكتاب، المطبوع في إستانبول سنة 1340-1341 هـ (1922م) وقد رمزت إليها بـ«ط1»

ب- نسخة خطية بـ«الرونيو» بخط «أحمد نظيف» أحد طلبة الأستاذ النورسي، مصحح من قبل الأستاذ نفسه، حيث كتب في الختام دعاءً رقيقا للكاتب ومساعديه.

ج- مخطوط بخط «جيلان جالشقان» الذي خدم الأستاذ النورسي وهومازال شابا ولازمه حتى وفاته. والمخطوط مصحح من قبل الأستاذ نفسه.

د- الطبعة الأخيرة من الكتاب، المطبوع في مطبعة النور سنة 1958م في أنقرة، وتتميز هذه الطبعة بتصحيح كثير من أخطاء الطبعة الأولى، ولكن ما زالت فيها أخطاء مطبعية كثيرة، فعالجتُ تلك الأخطاء واعتبرت هذه الطبعة هي المعول عليها في التحقيق.

هـ- الترجمة التركية للكتاب، وقد قام بها شقيق الأستاذ النورسي: الملا عبدالمجيد، وطبعَتْها «دار سوزلر» في إستانبول سنة 1976 وقد رمزت إليها بـ«ت».

و- مخطوط الترجمة التركية بخط «علي الصغير» أحد طلبة الأستاذ والذي كان يلقّبه بـ«ذي الروح العظيمة» وقد سجل له دعاءً لطيفا في الختام، والمخطوط هذا بالحروف العربية بخلاف المطبوع الذي هوبالحروف اللاتينية.

2- وضع بعض الفقرات، وإفادات المرام التي لا توجد إلّا في «ط1» في الهامش مع الإشارة إلى مواضعها.

3- استخراج الآيات الكريمة من القرآن الكريم ووضع اسم السورة ورقم الآية.

4- تخريج الأحاديث الشريفة الواردة على الأغلب بالمعنى، اعتمادا على كتب موثوقة.

5- استخراج الأمثال الواردة من كتاب «مجمع الأمثال للميداني».

6- رسم إملاء الكتاب حسب قواعد الإملاء الشائع اليوم، حيث كان رسم الإملاء في النسخ الأصلية والمطبوعة على الرسم القديم. مثل: الصلوة. الحيوة.

7- درج معاني بعض الكلمات في الهامش باختصار شديد؛ إذ قد صعب عليّ معاني بعض الكلمات، مما دفعني إلى مراجعة قواميس اللغة وبخاصة: القاموس المحيط للفيروزآبادي، ومختار الصحاح للرازي.

8- القيام بترجمة كل ما ورد في الكتاب بالتركية من عبارات وفقرات ورسائل. ألخّصها بالآتي:

أ- مقدمة الكتاب، حيث قد كتبها الأستاذ النورسي سنة (1954) أي بعد ما يقارب أكثر من ثلاثين سنة على تأليفه، وقد قام أخوه عبد المجيد بترجمة هذه المقدمة إلى اللغة العربية، فأعدتُ النظر فيها لتكون أكثر مشابهة بالنص.

ب- البيان الذي أُلقي في مجلس الأمة التركي.

ج- رسالة «نقطة من نور معرفة الله جلّ جلاله» كاملة.

د- بعض الهوامش أوالمقدمات المقتضبة التي وردت، وقد وضعتها بين قوسين مركنين [ ] لتمييزها عن الأصل العربي.

أما الفقرات التي وردت في الكتاب باللغة الفارسية فقد تفضل بترجمتها مشكورا الأخ الكريم «فاروق رسول يحيى» الذي وفقه الله تعالى لترجمة ونشر العديد من رسائل النور باللغة الكردية. وقد حصرنا هذه الفقرات المترجمة عن الفارسية بين قوسين مركنين مزدوجين [[ ]].

9- الإشارة في الهوامش إلى تلك المسائل التي وضّحها المؤلف -فيما بعد- في رسائل النور والتي وفقَنا المولى الكريم إلى ترجمتها.

10- توضيح بعض العبارات أوالجمل في ضوء ما جاء في الترجمة التركية للكتاب والإشارة إليها بـ«ت» ورقم الصفحة في الهامش.

11- تشكيل بعض الكلمات، ووضع علامات الترقيم لإزالة اللبس.

12- وضْع تراجم لقسم من الأعلام الواردة في الكتاب.

13- تعريف بعض المصطلحات، مع ترك الكثير منها، حيث الكتاب نفسه كفيل بشرحه، وبخاصة إذا استُعين «بالفهرس التحليلي».

14- وضْع فهارس عامة وتحليلية للموضوعات والأعلام والأماكن وغيرها تسهيلا للقارئ الكريم.

15- وأخيرا نشر رسالة «نور من أنوار نجوم القرآن» لأول مرة بإلحاقها بهذا المجلد (المثنوي) لشدة الترابط والتشابه في مباحثهما. وذلك بعد إجراء التحقيق على مخطوطها الوحيد المكتوب بخط «الحافظ توفيق الشامي» أحد طلاب الأستاذ النورسي في منفاه «بارلا». علما أن المخطوط صُحح من قبل المؤلف.

* * *

وبعد القيام بهذه الخطوات وفي أثنائها، لفتت نظري مسائلُ نحوية لغوية لا تستقيم مع ما تعلمناه في دراستنا المدرسية. فألجأتني إلى البحث عنها في بطون الكتب القديمة المعتمدة كالمغني والأشموني، والاستفسار عنها ممن لهم الباع الطويل في معرفة دقائق اللغة، فأرشدوني إلى ما فيه الصواب، جزاهم الله خيرا، حتى اطمأن القلب إلى أن ما كتبه الأستاذ النورسي هوالصحيح أوفيه الجواز. وأن ما ألِفناه ودرسناه من قواعد اللغة لا يرقى ليكون محكا في مثل هذه المسائل.

وأرى من الأفضل تلخيص عدد من تلك المسائل التي ربما تلفت نظر القارئ الكريم أيضا مع أنها لا تخفى عليه. وهي:

1- إيثاره استعمال جمع العقلاء لغير العاقل؛ إشارة إلى أن كل جزء من أجزاء العالم حيّ عاقل يسبّح لله، وعملا بما في الآية الكريمة: ﴿رَاَيْتُهُمْ لي سَاجِدينَ (يوسف:4).

2- تغليب التذكير على التأنيث، ولاسيما في الأفعال المتقدمة على الفاعل المؤنث المجازي بخلاف المتأخرة عن الفاعل.

3- استعماله الوجوه المختلفة للكلمات التي يجوز فيها التذكير والتأنيث، كالروح. وربما يستغرب القارئ من إيراد كلمة «النفس» أحيانا بصيغة التذكير، إلّا أن استغرابه يزول بمجرد قراءة العبارات التي تليها، حيث يجد أن المقصود منها «أنا» أي ذات الإنسان.

4- استعماله لمعدود «المائة» و«الألف» بصيغة الجمع أحيانا، أوتأنيثُ وتذكيرُ الصدر دون العجز في الأعداد المركبة.

وأمثالها من الأمور التي لم نألفها.

ولا يخفى أن لهذه الوجوه تخريجاتِها اللغوية وشواهدها التي تُسندها، إلّا أننا لم نوردها في مواضعها لئلا نُشغل القارئ الكريم عن الهدف الأساس من الكتاب.

5- كلمة «الذات» الدالة على الله سبحانه ترد بصيغة التذكير فمثلا: الذات الأقدس، إذ جعلها اسما للحقيقة من كل شيء فزال عنه التأنيث.

6- الإكثار من استعمال جمع المؤنث السالم، حتى في بعض الجموع، مثل: لوازمات، شؤونات، نواتات…

7- لقد تخللت الجملَ كلماتٌ تركية، استعملها الأستاذ لزيادة الإيضاح -أوقالها أثناء التدريس- وهي موضوعة بين قوسين () للتمييز، ويعقبها على الأغلب معناها بالعربية. فمثلا: إن هذا (التَّمَلْ جوروك) الأساس فاسد.. أو(شِمَنْدوفر) القطار.. (فابْريقة) المعمل.

8- استعماله كلمة «غير» معرّفة بـ«ألـ» مما لا تُستعمل في الأسلوب الحديث([1]) وقد بعث إليّ العالِم الجليل «عمر الريشاوي» رسالة يوضح فيها هذه المسألة أدرج هنا ملخصها لإزالة اللبس:

«إننا إذا أردنا كلمة «غير» صفةً للمعرفة، فلا نملك سوى اختيار أحد الطريقين:

أ- تحليتها بـ«ألـ» لتصبح معرفة وتصلحُ بالتالي صفة للمعرفة كما هومقرر نحويا.

ب- أضافتها إلى المعرفة.

ولما كان الطريق الثاني لا يحقق هدفنا، إذ بإضافتها إلى المعرفة لا تصبح معرفة، تعيّن اتخاذ الطريق الأول وهوتحليتها بـ«ألـ» ولا محيد عن ذلك، هذه من ناحية القواعد النحوية، وأما من حيث الاستعمال، فتبدوندرة استعمالها مع «ألـ»، أولا نجدها إلّا في كلام المجدِّدين.

والخلاصة: أن الكاتب أوالمتحدث يجب عليه رعاية أحد الأمرين:

إما رعاية ناحية الاستعمال وإضافتها إلى المعرفة وقبول التأويل؛ وهوأن هذه الكلمة عوملت معاملة المعرفة، كما في قوله تعالى: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ (الفاتحة:7) و﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ غَيْرُ اُو۬لِي الضَّرَرِ﴾ (النساء:95).

وإما مراعاة ناحية القواعد وهوتحليتها بـ«ألـ» لأن المقام -وهوكون الاسم صفة للمعرفة- يقتضي ذلك نحويا».

ثم أبدى الأخ الكريم ملاحظة مهمة وهي:

أولا: إن المشكلة التي أصبحت مثار البحث حالة واحدة وهي كون «غير» صفة للمعرفة، أما حالاته الأخرى: فاعلا أومجرورا أومضافا أوصفة للنكرة أوحالا أوبدلا أوغير ذلك من الحالات الإعرابية الأخرى فلا أتصور أية مشكلة فيها نحوية أواستعمالية.

ثانيا: قرر المجمع اللغوي المنعقد في القاهرة في دورته الخامسة والثلاثين في شهر شباط 1969 بقبول الرأي القائل: «إن كلمة «غير» الواقعة بين متضادين تكتسب التعريف من المضاف إليه المعرفة. ويصحّ في هذه الصورة التي تقع بين متضادين، وليست مضافة أن تقترن بـ«ألـ» فتستفيد التعريف». اهـ.

* * *

وربّ سؤال يرد للخاطر:

لماذا ألّف الأستاذ النورسي هذه الرسائل باللغة العربية، والمخاطبون لا يتقنونها، علما أنه كتب رسائل النور بالتركية؟

فالجواب -والله أعلم-: أن اللغة العربية كانت هي لغة العلم في تلك الفترة (أي إلى منتصف العشرينات) وقبل استبدال الحروف العربية، رغم أن المحادثات الجارية بين الناس كانت بالتركية..

ثم إن هذه الرسائل العربية بحد ذاتها أصول وقواعد، ومناهج، وموازين مستلهَمة من نور القران الكريم، خاطب بها الأستاذ النورسي نفسَه أولا، وألزمها الحُجةَ حتى أرغمها على التسليم، فهي أعلمُ بلغته وتعابيره. ومما يُثبت ما نذهب إليه هو أن الأستاذ النورسي قد صبّ هذه المعانيَ ووسّع منها وكشف عن دقائقها في الرسائل التي ألّفها بالتركية -فيما بعدَ 1927م- تلك هي رسائل النور التي غَدَت موضعَ استفادة العالِم والمتعلم والكبير والصغير. فأدّت مهمتها المرجوة في حفظ الإيمان تجاه تيار الكفر والطغيان.

أما ما يرِد من سؤال حول تسمية الكتاب. أي لماذا سّماه الأستاذ المؤلف بـ«المثنوي» الذي يعني في الشعر أبيات مثنى مثنى، علما أن الكتاب ليس ديوانا للشعر؟

فالجواب: لقد سمّى الأستاذ النورسي هذه الرسائل بـ«الرسائل العربية» أو«المجموعة العربية» وقد كُتب على مجلد الطبعة الأولى: «قطرات من فيوضات الفرقان الحكيم». ولكن لأن فعل هذه الرسائل في القلب والعقل والروح والنفس يشبه فعل «المثنوي» لجلال الدين الرومي المشهورِ والمتداول بين أوساط الناس ولاسيما في تركيا، وأن عمله في تجديد الإيمان وترسيخه في القلب وبعثه الروح الخامد في النفوس يشبه «المثنوي الرومي» فقد سماه الأستاذ النورسي بـ«المثنوي». ولأجل تمييزه عن «المثنوي الرومي» الذي كُتب بالفارسية سماه «المثنوي العربي». ولأنه أساسٌ لرسائل النور وغراس لأفكارها ومسائلِها أضيف إليه «النوري» فأصبح الكتاب يحمل عنوان: «المثنوي العربي النوري».

ومما يجدر الإشارة إليه أن الكتاب مع أنه جامع لكثير من أساليب البيان وأنماط الاستعارة وأنواع التشبيه والجناس والطباق وغيرها من أساليب البلاغة، فإن كل قارئ -مهما كان تذوقه البلاغي- يظل مشدودا مع بلاغة المعنى وجمال المغزى أكثرَ من انشداده مع بلاغة المبنى وجمال اللفظ؛ إذ إن عمق المعاني وسعة الأفكار ودقة المسائل التي يطرقها تجعل القارئ يقول: حقا «إن الكلام البليغ هوما استفاد منه العقل والوجدان معا».

هذا ولقد أغنانا الأستاذ نفسه عن تقديم أي كلام حول سبب تأليفه للكتاب وفترة تأليفه له، حيث سجل ذلك في مقدمته البديعة، وفي إفادات المرام مستهلَّ كل رسالة.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل..

وصلّ اَللَّهُمَّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

إحسان قاسم الصالحي


[1] وقد أشرنا إلى هذا أيضا في المجلد الخامس من كليات رسائل النور «إشارات الإعجاز» فمن شاء فليراجعه.