اللمعة الرابعة

  (ﻟﻘﺪ ﺍﺭﺗﺆﻱ ﺃﻥ ﻳُﻄﻠَﻖ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺍﺳﻢ «ﻣﻨﻬﺎﺝ ﺍﻟﺴﻨﺔ»)

 ﺇﻥَّ «ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻹﻣﺎﻣﺔ» ﻣﻊ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻣﺴﺄﻟﺔً ﻓﺮﻋﻴﺔ ﺇﻟّﺎ ﺃﻥّ ﻛﺜﺮﺓ ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﺑﻬﺎ ﺟﻌﻠﺘْﻬﺎ ﺗﺪﺧﻞ ﺿﻤﻦ ﻣﺒﺎﺣﺚ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﻓﻲ ﻛﺘﺐ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻭﺃﺻﻮﻝ ﺍﻟﺪﻳﻦ، ﻭﻏﺪﺕ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺫﺍﺕَ ﻋﻼﻗﺔ ﺑﺨﺪﻣﺘﻨﺎ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴﺔ، ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﺍﻹﻳﻤﺎﻥ، ﻭﻗﺪ ﺑُﺤﺜﺖ ﺑﺤﺜﺎً ﺟﺰﺋﻴﺎً.

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (ﺍﻟﺘﻮﺑﺔ:128-129)

 ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (ﺍﻟﺸﻮﺭﻯ:23)

  ﺳﻨﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺟﻤﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺰﺧﺮ ﺑﻬﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺿﻤﻦ ﻣﻘﺎﻣﻴﻦ ﺍﺛﻨﻴﻦ.

  ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻷﻭﻝ

  ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺃﺭﺑﻊ ﻧﻜﺎﺕ

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ:

ﻭﻫﻲ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﻛﻤﺎﻝ ﺭﺃﻓﺔ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻷﻛﺮﻡ صلى الله عليه وسلم ﻭﻏﺎﻳﺔِ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻣّﺘﻪ.

ﻧﻌﻢ، ﻟﻘﺪ ﻭﺭﺩﺕ ﺭﻭﺍﻳﺎﺕٌ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻣﺪﻯ ﺭﺃﻓﺘﻪ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻭﺷﻔﻘﺘﻪ ﺍﻟﺘﺎﻣﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺘﻪ، ﺑﺄﻧﻪ صلى الله عليه وسلم ﻳﺪﻋﻮ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﺍﻷﻋﻈﻢ ﺑ(ﺃﻣّﺘﻲ ﺃﻣّﺘﻲ) ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﻋﻮ ﻛﻞُّ ﺃﺣﺪ، ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀُ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺑ«ﻧﻔﺴﻲ ﻧﻔﺴﻲ» ﻣﻦ ﻫَﻮﻝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻭﺭﻫﺒﺘﻪ. ﻓﻜﻤﺎ ﺗﺒﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻋﻈﻴﻢَ ﺷﻔﻘﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺘﻪ ﻓﻘﺪ ﺳﻤﻌﺖْ ﻭﺍﻟﺪﺗُﻪ ﻣﻨﻪ ﻋﻨﺪ ﻭﻻﺩﺗﻪ ﺃﻧﻪ ﻳﻨﺎﺟﻲ: «ﺃﻣﺘﻲ ﺃﻣﺘﻲ» ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺼﺪَّﻕٌ ﻟﺪﻯ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ. ﻭﻛﺬﺍ ﺇﻥَّ ﺳﻴﺮﺗﻪ ﺍﻟﻌﻄﺮﺓ ﻛﻠَّﻬﺎ، ﻭﻣﺎ ﻧﺸﺮﻩ ﻓﻲ ﺍﻵﻓﺎﻕ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﺭﻡ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﺍﻟﻤﻜﻠّﻠﺔ ﺑﺎﻟﺸﻔﻘﺔ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﺗﺒﻴﻦ ﻛﻤﺎﻝَ ﺭﺃﻓﺘﻪ ﻭﺷﻔﻘﺘﻪ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﺃﻇﻬﺮ ﻋﻈﻴﻢَ ﺷﻔﻘﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺘﻪ ﺑﺈﻇﻬﺎﺭ ﺣﺎﺟﺘﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻻﺗﺤﺪ ﺇﻟﻰ ﺻﻠﻮﺍﺕ ﺃﻣﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻠﻮﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻴﻦ ﻣﺪﻯ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺍﻟﺮﺅﻭﻓﺔ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺳﻌﺎﺩﺍﺕ ﺃﻣﺘﻪ.

ﻓﻔﻲ ﺿﻮﺀ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﺃﻓﺔ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﺮﺷﺪ ﺍﻟﺮﺅﻭﻑ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ صلى الله عليه وسلم؛ ﻛﻢ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻹﻋﺮﺍﺽُ ﻋﻦ ﺳﻨّﺘﻪ ﺍﻟﺴﻨﻴﺔ ﻛﻔﺮﺍﻧﺎً ﻋﻈﻴﻤﺎً ﺑﻞ ﻣﻮﺗﺎً ﻟﻠﻮﺟﺪﺍﻥ! ﻗﺲ ﺫﻟﻚ ﺑﻨﻔﺴﻚ ﻭﻗﺪّﺭ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ:

ﺇﻥَّ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻷﻛﺮﻡ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺃﺑﺪﻯ ﺭﺃﻓﺔً ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺗﺠﺎﻩ ﺃﻣﻮﺭٍ ﻭﻣﻮﺍﺩَّ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ، ﺿﻤﻦ ﻣﻬﻤّﺘﻪ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ. ﻓﻴﺒﺪﻭ ﺃﻥ ﺻﺮﻑَ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﻔﻘﺔ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻭﺍﻟﺮﺃﻓﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﺇﻟﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﻻ ﻳﻨﺎﺳﺐ -ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺍﻷﻣﺮ- ﻋِﻈَﻢ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﻻ ﻳﻼﺋﻤﻬﺎ. ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ ﻭﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺃﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻭﺍﻷﻣﺮ ﺍﻟﺨﺎﺹ ﻳﻤﺜﻞ ﻃﺮﻑَ ﺳﻠﺴﻠﺔ ﺗﺘﻮﻟﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻬﻤﺔً ﻧﺒﻮﻳﺔ ﻛﻠﻴّﺔ؛ ﻟﺬﺍ ﺃُﻋﻄﻲ ﻟﻤﻤﺜﻠﻬﺎ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﺒﺎﻟﻐﺔ.

ﻣﺜﺎﻝ ﺫﻟﻚ: ﺇﻥ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم ﺷﻔﻘﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﻭﺃﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ ﻟﻠﺤﺴﻦ ﻭﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻓﻲ ﺻﺒﺎﻫﻤﺎ، ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻲ ﺷﻔﻘﺔً ﻓﻄﺮﻳﺔ ﻭﻣﺤﺒﺔً ﻧﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻹﺣﺴﺎﺱ ﺑﺼﻠﺔ ﺍﻟﻘﺮﺑﻰ ﻭﺣﺪﻫﺎ، ﺑﻞ ﻧﺎﺑﻌﺔً ﺃﻳﻀﺎً ﻣﻦ ﺃﻧﻬﻤﺎ ﺑﺪﺍﻳﺔُ ﺳﻠﺴﻠﺔٍ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔٍ ﺗﺘﻮﻟﻰ ﻣﻬﻤﺔً ﻣﻦ ﻣﻬﻤﺎﺕ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ، ﻭﺃﻥ ﻛﻼ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻣﻨﺸﺄُ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻣﻦ ﻭﺍﺭﺛﻲ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ، ﻭﻣﻤﺜﻞٌ ﻋﻨﻬﺎ ﻭﻗﺪﻭﺓٌ ﻟﻬﺎ.

ﻧﻌﻢ! ﺇﻥ ﺣﻤﻞَ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺣﻀﻨﻪ ﻭﺗﻘﺒﻴﻠَﻪ ﺭﺃﺳَﻪ ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍﻟﺸﻔﻘﺔ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﻫﻮ ﻷﺟﻞ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﻭﺭﺛﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﻴﻦ ﺑﺎﻟﻤﻬﺪﻱ ﺍﻟﺤﺎﻣﻠﻴﻦ ﻟﻠﺸﺮﻳﻌﺔ ﺍﻟﻐﺮﺍﺀ ﺍﻟﻤﺘﺴﻠﺴﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺳﻼﻟﺔ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺍﻟﻤﻨﺤﺪﺭﻳﻦ ﻣﻦ ﻧﺴﻠﻪ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺍﻟﺸﻴﺦ ﺍﻟﻜﻴﻼﻧﻲ. ﻓﻠﻘﺪ ﺷﺎﻫﺪ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﺑﺒﺼﻴﺮﺓ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻣﺎ ﻳﻀﻄﻠﻊ ﺑﻪ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻷﻛﺎﺭﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻦ ﻣﻬﺎﻡ ﻣﻘﺪﺳﺔ ﺟﻠﻴﻠﺔ، ﻓﺎﺳﺘﺤﺴﻦ ﺧﺪﻣﺎﺗِﻬﻢ ﻭﻗﺪّﺭ ﺃﻋﻤﺎﻟَﻬﻢ، ﻓﻘﺒّﻞ ﺭﺃﺱَ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻋﻼﻣﺔً ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻘﺪﻳﺮ ﻭﺍﻟﺤﺚ. ﺛﻢ ﺇﻥ ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻭﻻﻩ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﺑﺎﻟﺤﺴﻴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﻋﻄﻔَﻪ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ﻧﺤﻮﻩ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻟﻠﺬﻳﻦ ﻳﺘﺴﻠﺴﻠﻮﻥ ﻣﻦ ﻧﺴﻠﻪ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﻣﻦ ﺃﺋﻤﺔ ﻋﻈﺎﻡ ﻭﺍﺭﺛﻲ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻴﻦ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﻴﻦ ﺑﺎﻟﻤﻬﺪﻱ ﻣﻦ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺯﻳﻦ ﺍﻟﻌﺎﺑﺪﻳﻦ ﻭﺟﻌﻔﺮﺍﻟﺼﺎﺩﻕ.

ﻧﻌﻢ، ﻓﻘﺪ ﻗﺒّﻞ صلى الله عليه وسلم ﻋﻨﻖَ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﺃﻇﻬﺮ ﻟﻪ ﺑﺎﻟﻎ ﺷﻔﻘﺘﻪ ﻭﻛﻤﺎﻝ ﺍﻫﺘﻤﺎﻣﻪ ﻷﺟﻞ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺳﻴﺮﻓﻌﻮﻥ ﺷﺄﻥ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻭﻳﺆﺩﻭﻥ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻩ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺸﺎﻫﺪ ﺑﻘﻠﺒﻪ ﺍﻷﻧﻴﺲ ﺑﺎﻟﻐﻴﺐ ﻣﻴﺪﺍﻥَ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﺍﻟﻤﻤﺘﺪ ﻓﻲ ﺍﻷﺑﺪﻳﺔ ﻭﻫﻮ ﻣﺎﺯﺍﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻓﻲ ﺧﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﻭﻥ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺍﻟﻌﻠﻰ ﻭﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻫﻨﺎﻙ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺍﻷﺭﺽ.. ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﻯ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ ﺍﻟﻤﺴﺘﺘﺮﺓ ﺑﺤُﺠﺐ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﺍﻟﻤﻈﻠﻤﺔ ﻣﻨﺬ ﺯﻣﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺁﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺑﻞ ﺣﻈﻲَ ﺑﺮﺅﻳﺘﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ.. ﺇﻥَّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﻭﺍﻟﺒﺼﻴﺮﺓ ﺍﻟﻨﺎﻓﺬﺓ ﻟﻠﻤﺴﺘﻘﺒﻞ، ﻻ ﺭﻳﺐ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﺭﺃﻯ ﺍﻷﻗﻄﺎﺏَ ﺍﻟﻌﻈﺎﻡ ﻭﺃﺋﻤﺔ ﻭﺭﺛﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺍﻟﻤﻬﺪﻳﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﺴﻠﺴﻠﻴﻦ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻓﻘﺒّﻞ ﺭﺃﺳَﻴﻬﻤﺎ ﺑﺎﺳﻢ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺟﻤﻴﻌﺎً.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥَّ ﻓﻲ ﺗﻘﺒﻴﻠﻪ صلى الله عليه وسلم ﺭﺃﺱَ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺣﺼﺔً ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻟﻠﺸﻴﺦ ﺍﻟﻜﻴﻼﻧﻲ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ:

ﺇﻥ ﻣﻌﻨﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ -ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻝ- ﻫﻮ: ﺃﻥ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻷﻛﺮﻡ صلى الله عليه وسلم ﻟﺪﻯ ﻗﻴﺎﻣﻪ ﺑﻤﻬﻤﺔ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻻ ﻳﺴﺄﻝ ﺃﺟﺮﺍً ﻣﻦ ﺃﺣﺪ، ﺇﻟّﺎ ﻣﺤﺒﺔَ ﺁﻝ ﺑﻴﺘﻪ ﻓﺤﺴﺐ.

ﻭﺇﺫﺍ ﻗﻴﻞ: ﺇﻥَّ ﺃﺟﺮﺍً ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻗﺮﺍﺑﺔ ﺍﻟﻨﺴﻞ ﻗﺪ ﺃُﺧﺬ ﺑﻨﻈﺮ ﺍﻹﻋﺘﺒﺎﺭ ﺣﺴﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻵﻳﺔُ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (ﺍﻟﺤﺠﺮﺍﺕ:13) ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺗﺴﺘﻤﺮ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺘﻘﺮّﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺑﺎﻟﺘﻘﻮﻯ ﻻ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻗﺮﺍﺑﺔ ﺍﻟﻨﺴﻞ.

  ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﺇﻥَّ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺷﺎﻫﺪ ﺑﻨﻈﺮ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺍﻷﻧﻴﺲ ﺑﺎﻟﻐﻴﺐ: ﺃﻥ ﺁﻝ ﺑﻴﺘﻪ ﺳﻴﻜﻮﻧﻮﻥ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺷﺠﺮﺓ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺗﻤﺘﺪ ﺃﻏﺼﺎﻧُﻬﺎ ﻭﻓﺮﻭﻋُﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ، ﻓﻴﺮﺷﺪﻭﻥ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﻃﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻬﺪﻯ ﻭﺍﻟﺨﻴﺮ، ﻭﻳﻜﻮﻧﻮﻥ ﻧﻤﺎﺫﺝ ﺷﺎﺧﺼﺔ ﻟﻠﻜﻤﺎﻻﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺟﻤﻌﺎﺀ، ﻭﺳﻴَﻈﻬﺮﻭﻥ ﺑﺄﻛﺜﺮﻳﺘﻬﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻣﻦ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ.

ﻭﻗﺪ ﻛﺸﻒ ﻋﻦ ﻗﺒﻮﻝ ﺩﻋﺎﺀ ﺃﻣﺘﻪ ﺑﺤﻖ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺸﻬﺪ ﻭﻫﻮ: (ﺍﻟﻠّﻬﻢ ﺻﻞِّ ﻋﻠﻰ ﻣﺤﻤﺪ ﻭﻋﻠﻰ ﺁﻝ ﻣﺤﻤﺪ ﻛﻤﺎ ﺻﻠﻴﺖ ﻋﻠﻰ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻭﻋﻠﻰ ﺁﻝ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ، ﺇﻧﻚ ﺣﻤﻴﺪ ﻣﺠﻴﺪ). ﺃﻱ ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻣﻌﻈﻢ ﺍﻟﻤﺮﺷﺪﻳﻦ ﺍﻟﻬﺎﺩﻳﻦ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﻴﻦ ﻣﻦ ﻣﻠﺔ ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻫﻢ ﺃﻧﺒﻴﺎﺀٌ ﻣﻦ ﻧﺴﻠﻪ ﻭﺁﻟﻪ، ﻛﺬﻟﻚ ﺭﺃﻯ صلى الله عليه وسلم ﺃﻥ ﺃﻗﻄﺎﺏ ﺁﻝ ﺑﻴﺘﻪ ﻳﻜﻮﻧﻮﻥ ﻛﺄﻧﺒﻴﺎﺀ ﺑﻨﻲ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﻓﻲ ﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ ﻳﺆﺩﻭﻥ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﺷﺘﻰ ﻃﺮﻗﻬﺎ ﻭﻣﺴﺎﻟﻜﻬﺎ. ﻭﻷﺟﻞ ﻫﺬﺍ ﺃُﻣﺮ صلى الله عليه وسلم ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ﻭﻃﻠﺐ ﻣﻮﺩّﺓ ﺃﻣﺘﻪ ﻵﻝ ﺑﻴﺘﻪ. ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺆﻳﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺭﻭﺍﻳﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﺃﻧﻪ صلى الله عليه وسلم ﻗﺎﻝ: (ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺇﻧﻲ ﻗﺪ ﺗﺮﻛﺖ ﻓﻴﻜﻢ ﻣﺎ ﺇﻥْ ﺃﺧﺬﺗﻢ ﺑﻪ ﻟﻦ ﺗﻀﻠﻮﺍ: ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻋِﺘْﺮﺗﻲ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻲ) ﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻫﻢ ﻣﻨﺒﻊ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﻭﺍﻟﻤﺤﺎﻓﻈﻮﻥ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﺍﻟﻤﻜﻠّﻔﻮﻥ ﺃﻭﻻ ﺑﺎﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﺑﻬﺎ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻭﺿَﺤَﺖْ ﺣﻘﻴﻘﺔُ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺫﻛﺮ ﺁﻧﻔﺎً، ﺃﻱ ﺑﺎﻻﺗﺒﺎﻉ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﻟﻠﻜﺘﺎﺏ ﻭﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ. ﺃﻱ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﻣﻦ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻫﻮ ﺍﺗﺒﺎﻉ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ. ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻳﺪَﻉ ﺍﻟﺴﻨﺔَ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻦ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔً ﻛﻤﺎ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻮﺍﻟﻴﺎً ﺣﻘﻴﻘﻴﺎً ﻵﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﻲ ﺇﺭﺍﺩﺗﻪ صلى الله عليه وسلم ﻓﻲ ﺟﻤﻊ ﺍﻷﻣﺔ ﺣﻮﻝ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻫﻲ: ﺃﻥ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﻋﻠِﻢ ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ ﺃﻥ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺳﻴﻜﺜﺮ ﻧﺴﻠُﻬﻢ ﺑﻤﺮﻭﺭ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻹﺳﻼﻡُ ﺳﻴﺆﻭﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻀﻌﻒ. ﻓﻴﻠﺰﻡ ﻭﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﻫﺬﻩ ﻭﺟﻮﺩ ﺟﻤﺎﻋﺔٍ ﻣﺘﺮﺍﺑﻄﺔ ﻣﺘﺴﺎﻧﺪﺓ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﻭﺍﻟﻜﺜﺮﺓ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﺮﻛﺰﺍً ﻭﻣﺤﻮﺭﺍً ﻟﺮﻗﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ. ﻭﻗﺪ ﻋﻠﻢ صلى الله عليه وسلم ﺑﻬﺬﺍ ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ ﻓﺮﻏّﺐ ﻓﻲ ﺟﻤﻊ ﺃﻣﺘﻪ ﺣﻮﻝ ﺁﻝ ﺑﻴﺘﻪ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥَّ ﺃﻓﺮﺍﺩَ ﺁﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮﺍ ﺳﺎﺑﻘﻴﻦ ﻭﻣﺘﻘﺪﻣﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﻏﻴﺮﻫﻢ ﻓﻲ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭﺍﻻﻋﺘﻘﺎﺩ، ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻬﻢ ﻳﺴﺒﻘﻮﻧﻬﻢ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻭﺍﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﻭﺍﻟﻮﻻﺀ ﻟﻺﺳﻼﻡ، ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻮﺍﻟﻮﻥ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻓﻄﺮﺓ ﻭﻃﺒﻌﺎً ﻭﻧﺴﻼ. ﻓﺎﻟﻤﻮﺍﻻﺓ ﺍﻟﻄﺒﻌﻴﺔ ﻻ ﺗُﺘﺮﻙ ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻲ ﺿﻌﻒ ﻭﻋﺪﻡ ﺷﻬﺮﺓ ﺃﻭ ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻰ ﺑﺎﻃﻞ، ﻓﻜﻴﻒ ﺑﺎﻟﻤﻮﺍﻻﺓ ﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﺭﺗﺒﻄﺖ ﺑﻬﺎ ﺳﻠﺴﻠﺔُ ﺃﺟﺪﺍﺩﻩ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺿﺤّﻮﺍ ﺑﺄﺭﻭﺍﺣﻬﻢ ﺭﺧﻴﺼﺔً ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻠﻬﺎ ﻓﻨﺎﻟﻮﺍ ﺍﻟﺸﺮﻑ ﺑﻬﺎ، ﻓﺘﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﻭﺫﺭﻭﺓُ ﺍﻟﺸﺮﻑ ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻖ ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ، ﺃﻓﻴﺴﺘﻄﻴﻊ ﻣﻦ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﺪﺍﻫﺔً ﺑﻤﺪﻯ ﺃﺻﺎﻟﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻮﺍﻻﺓ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﺃﻥ ﻳﺘﺮﻛﻬﺎ؟

ﻓﺄﻫﻞُ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ ﻟﻺﺳﻼﻡ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺘﺰﺍﻡٌ ﻓﻄﺮﻱ ﻳﺮﻭﻥ ﺍﻷﻣﺎﺭﺓ ﺍﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺑﺮﻫﺎﻧﺎً ﻗﻮﻳﺎً ﻷﻧﻬﻢ ﻳﻮﺍﻟﻮﻥ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻓﻄﺮﺓً ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻏﻴﺮُﻫﻢ ﻻ ﻳﻠﺘﺰﻡ ﺇﻟّﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻗﺘﻨﺎﻋﻪ ﺑﺎﻟﺒﺮﻫﺎﻥ ﺍﻟﻘﻮﻱ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ:

ﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻧﺸﻴﺮ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻗﺼﻴﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺿُﺨّﻤﺖ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺑﺤﻴﺚ ﺩﺧﻠﺖ ﻛﺘﺐَ ﺍﻟﻌﻘﺎﺋﺪ ﻭﺗﺴﻠﺴﻠﺖ ﻣﻊ ﺃﺳﺲ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ، ﺗﻠﻚ ﻫﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﻨﺰﺍﻉ ﺑﻴﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺸﻴﻌﺔ. ﻭﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﻫﻲ ﺃﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: «ﺇﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻫﻮ ﺭﺍﺑﻊُ ﺍﻟﺨﻠﻔﺎﺀ ﺍﻟﺮﺍﺷﺪﻳﻦ، ﻭﺃﻥ ﺃﺑﺎ ﺑﻜﺮ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻫﻮ ﺃﻓﻀﻞ ﻣﻨﻪ ﻭﺃﺣﻖ ﺑﺎﻟﺨﻼﻓﺔ، ﻓﺘﺴﻠَّﻢ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔَ ﺃﻭﻻ».

ﻭﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: «ﺇﻥّ ﺣﻖَّ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﻛﺎﻥ ﻟﻌﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻪ ﻇُﻠﻢَ، ﻭﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻞ». ﻭﺧﻼﺻﺔ ﻣﺎ ﻳﻮﺭﺩﻭﻧﻪ ﻣﻦ ﺃﺩﻟﺔ ﻟﺪﻋﻮﺍﻫﻢ ﻫﻲ ﺃﻧﻬﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻥ ﻭﺭﻭﺩَ ﺃﺣﺎﺩﻳﺚ ﺷﺮﻳﻔﺔ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﻓﻀﺎﺋﻞ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻛﻮﻧَﻪ ﻣﺮﺟﻌﺎً ﻟﻸﻛﺜﺮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﻄﺮﻕ ﺍﻟﺼﻮﻓﻴﺔ، ﺣﺘﻰ ﻟُﻘّﺐ ﺑﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ، ﻣﻊ ﻣﺎ ﻳﺘﺼﻒ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺻﻔﺎﺕٍ ﻓﺎﺋﻘﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﺍﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻭﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ ﺍﻟﻘﻮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳُﻈﻬﺮﻫﺎ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم ﺑﻪ ﻭﺑﺂﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺄﺗﻮﻥ ﻣﻦ ﻧﺴﻠﻪ.. ﻛﻞُّ ﺫﻟﻚ ﻳﺪﻝّ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﺍﻷﻓﻀﻞ. ﻓﺎﻟﺨﻼﻓﺔُ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﺣﻘﻪ ﻭﻟﻜﻦ ﺍُﻏﺘُﺼﺒَﺖ ﻣﻨﻪ.

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﺇﻥ ﺇﻗﺮﺍﺭ ﺳﻴﺪِﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺮﺍﺭﺍً ﻭﺗﻜﺮﺍﺭﺍً، ﻭﺍﺗّﺒﺎﻋﻪ ﺍﻟﺨﻠﻔﺎﺀ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﻭﺗﻮﻟّﻴﻪ ﻭﻇﻴﻔﺔ «ﺷﻴﺦ ﺍﻟﻘﻀﺎﺓ»، ﻭﻛﻮﻧﻪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻞّ ﻭﺍﻟﻌﻘﺪ ﻃﻮﺍﻝ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺳﻨﺔ ﻭﺃﻛﺜﺮ.. ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﺠﺮﺡ ﺩﻋﻮﻯ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺍﻟﻔﺘﻮﺣﺎﺕ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻭﺟﻬﺎﺩ ﺍﻷﻋﺪﺍﺀ ﺯﻣﻦَ ﺍﻟﺨﻠﻔﺎﺀ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ، ﺑﺨﻼﻑ ﻣﺎ ﺣﺪﺙ ﺯﻣﻦ ﺧﻼﻓﺔ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﻭﻓﺘﻦ، ﺗﺠﺮﺡ ﺃﻳﻀﺎً ﺩﻋﻮﻯ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ، ﺃﻱ ﺇﻥ ﺩﻋﻮﻯ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺣﻖ.

  ﻓﺈﻥ ﻗﻴﻞ: ﺇﻥَّ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﻗﺴﻤﺎﻥ: ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﺷﻴﻌﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ، ﻭﺍﻵﺧﺮ ﺷﻴﻌﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ. ﻓﻠﻴﻜﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻏﻴﺮ ﻣُﺤﻖّ ﺑﺎﺧﺘﻼﻁ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﺍﻷﻏﺮﺍﺽ ﻓﻲ ﺩﻋﺎﻭﺍﻫﻢ، ﻭﻟﻜﻦ ﻻ ﺃﻏﺮﺍﺽ ﻭﻻ ﺃﻃﻤﺎﻉ ﺳﻴﺎﺳﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻷﻭﻝ. ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻘﺪ ﺍﻟﺘﺤﻘﺖ ﺷﻴﻌﺔُ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﺑﺸﻴﻌﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ. ﺃﻱ ﺇﻥ ﻗﺴﻤﺎً ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻕ ﺍﻟﺼﻮﻓﻴﺔ ﻳﺮﻭﻥ ﺃﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻫﻮ ﺍﻷﻓﻀﻞ، ﻓﻴﺼﺪّﻗﻮﻥ ﺩﻋﻮﻯ ﺷﻴﻌﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺑﺠﺎﻧﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ.

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﺇﻧﻪ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺘﻴﻦ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺟﻬﺘﻴﻦ:

  ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ: ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﻓﻀﺎﺋﻠﻪ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻭﻣﻘﺎﻣﻪ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﺍﻟﺮﻓﻴﻊ.

ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ﻫﻲ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺗﻤﺜﻴﻠﻪ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﻵﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ. ﻭﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﻵﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻳﻌﻜﺲ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم.

  ﻓﺒﺎﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ: ﺇﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻭﻓﻲ ﻣﻘﺪﻣﺘﻬﻢ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻳﻘﺪّﻣﻮﻥ ﺳﻴﺪَﻧﺎ ﺃﺑﺎ ﺑﻜﺮ ﻭﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻓﻘﺪ ﺭﺃﻭﺍ ﻣﻘﺎﻣَﻬﻤﺎ ﺃﻛﺜﺮ ﺭﻓﻌﺔً ﻓﻲ ﺧﺪﻣﺔ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻭﺍﻟﻘﺮﺏ ﺍﻹﻟﻬﻲ.

ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺃﻱ ﻛﻮﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻣﻤﺜﻼ ﻋﻦ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﻵﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ. ﻓﺎﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﻵﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﻤﺜﻼ ﻟﻠﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ، ﻻ ﻳﺮﻗﻰ ﺇﻟﻴﻪ ﺷﻲﺀٌ ﺑﺎﻟﻤﻮﺍﺯﻧﺔ. ﻭﻛﺜﺮﺓُ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﺑﻴﺎﻥ ﻓﻀﺎﺋﻠﻪ ﻫﻲ ﻷﺟﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻬﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ. ﻭﻣﻤﺎ ﻳﺆﻳﺪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺭﻭﺍﻳﺔٌ ﺻﺤﻴﺤﺔ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ: (ﺇﻥ ﻧﺴﻞ ﻛﻞ ﻧﺒﻲ ﻣﻨﻪ، ﻭﺃﻧﺎ ﻧﺴﻠﻲ ﻣﻦ ﻋﻠﻲ).

ﺃﻣﺎ ﺳﺒﺐ ﻛﺜﺮﺓِ ﺍﻧﺘﺸﺎﺭ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺑﺤﻖ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﺨﻠﻔﺎﺀ ﺍﻟﺮﺍﺷﺪﻳﻦ، ﻓﻬﻮ: ﺃﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﻫﻢ ﺃﻫﻞُ ﺍﻟﺤﻖ، ﻗﺪ ﻧﺸﺮﻭﺍ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﺑﺤﻖ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺗﺠﺎﻩ ﻫﺠﻮﻡ ﺍﻷﻣﻮﻳﻴﻦ ﻭﺍﻟﺨﻮﺍﺭﺝ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺗﻨﻘﻴﺼﻬﻢ ﻣﻦ ﺷﺄﻧﻪ ﻇﻠﻤﺎً. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﺨﻠﻔﺎﺀ ﺍﻟﺮﺍﺷﺪﻭﻥ ﺍﻵﺧﺮﻭﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮﺍ ﻋﺮﺿﺔً ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺪﺭﺟﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻘﺪ ﻭﺍﻟﺠﺮﺡ، ﻟﺬﺍ ﻟﻢ ﻳﺮﻭﺍ ﺩﺍﻋﻴﺎً ﻟﻨﺸﺮ ﺍﻷﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺬﺍﻛﺮﺓ ﻟﻔﻀﺎﺋﻠﻬﻢ.

ﺛﻢ ﺇﻧﻪ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺭﺃﻯ ﺑﻨﻈﺮ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺃﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺳﻴﺘﻌﺮﺽ ﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺃﻟﻴﻤﺔ ﻭﻓﺘﻦ ﺩﺍﺧﻠﻴﺔ، ﻓﺴﻠّﺎﻩ، ﻭﺃﺭﺷﺪ ﺍﻷﻣﺔ ﺑﺄﺣﺎﺩﻳﺚ ﺷﺮﻳﻔﺔ ﻣﻦ ﺃﻣﺜﺎﻝ: (ﻣَﻦ ﻛﻨﺖُ ﻣﻮﻻﻩ ﻓﻌﻠﻲٌّ ﻣﻮﻻﻩ) ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻴﻨﻘﺬ ﺳﻴﺪَﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻴﺄﺱ ﻭﻳﻨﺠﻲ ﺍﻷﻣﺔَ ﻣﻦ ﺳﻮﺀ ﺍﻟﻈﻦ ﺑﻪ.

ﺇﻥَّ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﻤﻔﺮﻃﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻮﻟﻴﻬﺎ ﺷﻴﻌﺔُ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﺗﻔﻀﻴﻠﻬﻢ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﻻ ﻳﺠﻌﻠﻬﻢ ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﻦ ﺑﻤﺜﻞ ﻣﺴﺆﻭﻟﻴﺔ ﺷﻴﻌﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ، ﻷﻥ ﺃﻫﻞَ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺷﺪﻳﻬﻢ ﺣﺴﺐ ﻣﺴﻠﻜﻬﻢ. ﻭﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺍﻟﻤﺤﺐ؛ ﺍﻟﻐﻠﻮ ﻭﺍﻹﻓﺮﺍﻁ ﻭﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﺮﻯ ﻣﺤﺒﻮﺑَﻪ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻣﻪ. ﻓﻬﻢ ﻳﺮﻭﻥ ﺍﻷﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ ﻓﻌﻼ.

ﻓﺄﻫﻞ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﺍﻟﻘﻠﺒﻴﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳُﻌﺬَﺭﻭﺍ ﻓﻲ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﻏﻠﻴﺎﻥ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﻟﺪﻳﻬﻢ ﻭﻏﻠﺒﺘﻬﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ، ﻭﻟﻜﻦ ﺑﺸﺮﻁ ﺃﻟّﺎ ﻳﺘﻌﺪﻯ ﺗﻔﻀﻴﻠُﻬﻢ ﺍﻟﻨﺎﺷﺊ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺫﻡ ﺍﻟﺨﻠﻔﺎﺀ ﺍﻟﺮﺍﺷﺪﻳﻦ ﻭﻋﺪﺍﻭﺗﻬﻢ، ﻭﺃﻟّﺎ ﻳﺨﺮﺝ ﻋﻦ ﻧﻄﺎﻕ ﺍﻷﺻﻮﻝ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ.

ﺃﻣﺎ ﺷﻴﻌﺔُ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﻓﻨﻈﺮﺍً ﻟﺪﺧﻮﻝ ﺍﻷﻏﺮﺍﺽ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻼ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻨﺠﻮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺪﺍﺀ ﻭﺍﻷﻏﺮﺍﺽ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ، ﻓﻴﻔﻘﺪﻭﻥ ﺣﻖ ﺍﻻﻋﺘﺬﺍﺭ ﻟﻬﻢ، ﻭﻳُﺤﺮَﻣﻮﻥ ﻣﻨﻪ. ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻬﻢ ﻳﻈﻬﺮﻭﻥ ﺍﻧﺘﻘﺎﻣﻬﻢ ﻣﻦ «ﻋﻤﺮ» ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ «ﺣﺐّ ﻋﻠﻲ» ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﺍﻹﻳﺮﺍﻧﻴﺔ ﻗﺪ ﺟُﺮﺣﺖ ﺑﻴﺪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ. ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﻮﺍ ﻣﺼﺪﺍﻕ ﺍﻟﻘﻮﻝ: «ﻻ ﻟﺤﺐ ﻋﻠﻲ ﺑﻞ ﻟﺒﻐﺾ ﻋﻤﺮ». ﻭﺇﻥ ﺧﺮﻭﺝ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﺍﻟﻌﺎﺹ ﻋﻠﻰ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﻗﺘﺎﻝ ﻋﻤﺮ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ ﺳﻴﺪَﻧﺎ ﺍﻟﺤﺴﻴﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻌﺮﻛﺔ ﺍﻟﻔﺠﻴﻌﺔ ﺍﻟﻤﺆﻟﻤﺔ، ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﺃﻭﺭﺙ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﻏﻴﻈﺎً ﺷﺪﻳﺪﺍً ﻭﻋﺪﺍﺀً ﻣﻔﺮﻃﺎً ﻻﺳﻢ «ﻋﻤﺮ».

ﺃﻣﺎ ﺷﻴﻌﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻓﻠﻴﺲ ﻟﻬﻢ ﺣﻖ ﺍﻧﺘﻘﺎﺩ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ. ﻷﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻛﻤﺎ ﻻ ﻳُﻨﻘِﺼﻮﻥ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻓﻬﻢ ﻳﺤﺒﻮﻧﻪ ﺣﺒﺎً ﺧﺎﻟﺼﺎً ﺟﺎﺩﺍً، ﻭﻟﻜﻨﻬﻢ ﻳﺤﺘﺮﺯﻭﻥ ﻣﻦ ﺍﻹﻓﺮﺍﻁ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺐ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﺿﺮﺭُﻩ ﻭﺧﻄﺮُﻩ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﺍﻟﻨﺒﻮﻱ ﻟﺸﻴﻌﺔ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻛﻤﺎ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ ﺃﺣﺎﺩﻳﺚ ﻧﺒﻮﻳﺔ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻷﻧﻬﻢ ﻫﻢ ﺍﻟﻤﺘﺒﻌﻮﻥ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻋﻠﻰ ﻭﻓﻖ ﺍﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔ، ﻟﺬﺍ ﻓﻬﻢ ﺷﻴﻌﺔُ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ.

ﻭﻗﺪ ﺟﺎﺀ ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺻﺤﻴﺢ ﺻﺮﺍﺣﺔ؛ ﺃﻥ ﺧﻄﻮﺭﺓَ ﺍﻟﻐﻠﻮ ﻓﻲ ﻣﺤﺒﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻛﺨﻄﻮﺭﺓ ﺍﻟﻐﻠﻮ ﻓﻲ ﻣﺤﺒﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻴﺴﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺼﺎﺭﻯ.

  ﻓﺈﻥ ﻗﺎﻟﺖ ﺷﻴﻌﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ: ﺇﻧﻪ ﺑﻌﺪ ﻗﺒﻮﻝ ﻓﻀﺎﺋﻞ ﺧﺎﺭﻗﺔ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻗﺒﻮﻝ ﺗﻔﻀﻴﻞ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻋﻠﻴﻪ.

  ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﻭُﺿﻊ ﻓﻲ ﻛﻔﺔ ﻣﻴﺰﺍﻥ ﺍﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﺃﺑﻰ ﺑﻜﺮ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻭ ﻓﻀﺎﺋﻞ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ﺍﻟﻔﺎﺭﻭﻕ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻣﺎ ﻗﺎﻡ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺧﺪﻣﺎﺕ ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻭﺭﺍﺛﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺯﻣﻦ ﺧﻼﻓﺘﻬﻤﺎ، ﻭﻭﺿﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻔﺔ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﺍﻟﻤﺰﺍﻳﺎ ﺍﻟﺨﺎﺭﻗﺔ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﻣﺠﺎﻫﺪﺍﺕ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻧﻪ ﻭﻣﺎ ﺍﺿﻄﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﻌﺎﺭﻙ ﺩﺍﺧﻠﻴﺔ ﺩﺍﻣﻴﺔ ﺃﻟﻴﻤﺔ ﻭﻣﺎ ﺗﻌﺮّﺽ ﻟﻪ ﺑﻬﺬﺍ ﻣﻦ ﺳﻮﺀ ﺍﻟﻈﻦ، ﻓﻼ ﺭﻳﺐ ﺃﻥّ ﻛﻔﺔَ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻭ ﻛﻔﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻤﺮ ﺍﻟﻔﺎﺭﻭﻕ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺃﻭ ﻛﻔﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺫﻱ ﺍﻟﻨﻮﺭﻳﻦ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻜﻮﻥ ﺭﺍﺟﺤﺔ. ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﺤﺎﻥ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺷﺎﻫﺪﻩ ﺃﻫﻞُ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﻭﺑَﻨﻮﺍ ﺗﻔﻀﻴﻠﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺭﺗﺒﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺃﺳﻤﻰ ﻭﺃﺭﻓﻊ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺩﺭﺟﺔ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ، ﺑﺤﻴﺚ ﺇﻥَّ ﺟﻠﻮﺓً ﺑﻮﺯﻥ ﺩﺭﻫﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﺗﻔﻀُﻞ ﺭﻃﻼ ﻣﻦ ﺟﻠﻮﺓ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﺛﺒﺘﻨﺎﻩ ﻓﻲ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﺸﺮﺓ ﻭﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ» ﻣﻦ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ»، ﻓﻤﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻫﺬﻩ؛ ﻓﺈﻥّ ﺣﺼﺔَ ﻛﻞٍّ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﻭﺍﻟﻔﺎﺭﻭﻕ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻭﺭﺍﺛﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺗﺄﺳﻴﺲ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻗﺪ ﺯﻳﺪﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻹﻟﻬﻲ، ﻓﺎﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﺎﻟﻔَﻬﻤﺎ ﻓﻲ ﺯﻣﻦ ﺧﻼﻓﺘﻬﻤﺎ ﻗﺪ ﺻﺎﺭ ﺩﻟﻴﻼ ﻟﺪﻯ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﻓﻀﺎﺋﻞَ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻻ ﺗُﺴﻘِﻂ ﻣﻦ ﺣُﻜﻢ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺼﺔ ﺍﻟﺰﺍﺋﺪﺓ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺍﻵﺗﻴﺔ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺛﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ، ﻓﻘﺪ ﺃﺻﺒﺢ ﺳﻴﺪُﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺷﻴﺦ ﺍﻟﻘﻀﺎﺓ ﻟﻠﺸﻴﺨﻴﻦ ﺍﻟﻤﻜﺮّﻣﻴﻦ ﺯﻣﻦ ﺧﻼﻓﺘﻬﻤﺎ، ﻭﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﻃﺎﻋﺘﻬﻤﺎ.

ﺇﻥَّ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻖ، ﺃﻫﻞَ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺤﺒّﻮﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﻳﻮﻗّﺮﻭﻧﻪ، ﻛﻴﻒ ﻻ ﻳﺤﺒﻮﻥ ﻣَﻦ ﻛﺎﻥ ﺳﻴﺪُﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺤﺒُّﻬﻤﺎ ﻭﻳﺠﻠّﻬﻤﺎ؟

ﻟﻨﻮﺿﺢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺑﻤﺜﺎﻝ: ﺭﺟﻞ ﺛﺮﻱ ﺟﺪﺍً ﻭﺯّﻉ ﻣﻴﺮﺍﺛﻪ ﻭﺃﻣﻮﺍﻟﻪ ﺍﻟﻄﺎﺋﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻭﻻﺩﻩ. ﻓﺄﻋﻄﻰ ﻷﺣﺪﻫﻢ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺭﻃﻼ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻀﺔ ﻭﺃﺭﺑﻌﺔ ﺃﺭﻃﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻫﺐ، ﻭﺃﻋﻄﻰ ﻵﺧﺮ ﺧﻤﺴﺔ ﺃﺭﻃﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻀﺔ ﻭﺧﻤﺴﺔ ﺃﺭﻃﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻫﺐ، ﻭﺃﻋﻄﻰ ﻵﺧﺮ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﺭﻃﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻀﺔ ﻭﺧﻤﺴﺔ ﺃﺭﻃﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻫﺐ، ﻓﻼ ﺷﻚ ﺃﻥ ﺍﻷﺧﻴﺮﻳﻦ ﺭﻏﻢ ﺃﻧﻬﻤﺎ ﻗﺪ ﻗﺒﻀﺎ ﺃﻗﻞ ﻣﻦ ﺍﻷﻭﻝ ﻛﻤﻴﺔً ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻬﻤﺎ ﻗﺒﻀﺎ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﻨﻪ ﻧﻮﻋﻴﺔً.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻲ ﺿﻮﺀ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ، ﺇﻥ ﺍﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﺍﻟﻘﻠﻴﻠﺔ ﻓﻲ ﺣﺼﺔ ﺍﻟﺸﻴﺨﻴﻦ ﻣﻦ ﺫﻫﺐِ ﺣﻘﻴﻘﺔِ ﺍﻷﻗﺮﺑﻴﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻴﺔ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺛﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻭﺗﺄﺳﻴﺲ ﺃﺣﻜﺎﻡ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺗﺮﺟﺢ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻀﺎﺋﻞ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﻭﺟﻮﺍﻫﺮ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻭﺍﻟﻘﺮﺏ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ. ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺍﺯﻧﺔ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺰﺍﻭﻳﺔ ﻭﺃﺧﺬﻫﺎ ﺑﻨﻈﺮ ﺍﻻﻋﺘﺒﺎﺭ، ﻭﺇﻟّﺎ ﺗﺘﻐﻴﺮ ﺻﻮﺭﺓُ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻤﻮﺍﺯﻧﺔُ ﺗُﻌﻘﺪ ﻣﻊ ﺍﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻟﺸﺨﺼﻲ ﻭﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻻ ﻳﺒﺎﺭﻳﻪ ﺃﺣﺪٌ ﻣﻦ ﺟﺎﻧﺐ ﻛﻮﻧﻪ ﺍﻟﻤﻤﺜﻞ ﻓﻲ ﺫﺍﺗﻪ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﻵﻝ ﺍﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﺗﺠﻠﻰ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺨﺼﻴﺔ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻮﺭﺍﺛﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ. ﻭﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺍﻟﺴﺮ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻟﻠﺮﺳﻮﻝ ﺍﻷﻋﻈﻢ صلى الله عليه وسلم ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ.

ﺃﻣﺎ ﺷﻴﻌﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﻓﻼ ﺣﻖ ﻟﻬﻢ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺨﺠﻞ ﺃﻣﺎﻡ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ. ﻷﻥ ﻫﺆﻻﺀ ﻳُﻨﻘﺼﻮﻥ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻓﻲ ﺩﻋﻮﺍﻫﻢ ﺍﻟﺤﺐَّ ﺍﻟﻤﻔﺮﻁ ﻟﻪ ﺑﻞ ﻳُﻔﻀﻲ ﻣﺬﻫﺒُﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﻭﺻﻤﻪ ﺑﺴﻮﺀ ﺍﻟﺨﻠﻖ -ﺣﺎﺷﺎﻩ- ﺣﻴﺚ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻗﺪ ﻣَﺎﺷَﻰ ﺳﻴﺪَﻧﺎ ﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ﻭﺍﻟﻔﺎﺭﻭﻕ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ ﻣﻊ ﺃﻧﻬﻤﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﺤﻘَّﻴﻦ ﻭﺍﺗﻘّﻰ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺗﻘﺎﺓً. ﻭﺑﺎﺻﻄﻼﺡ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﺇﻧﻪ ﻋﻤﻞ ﺑ «ﺍﻟﺘﻘﻴﺔ». ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﺨﺎﻓﻬﻤﺎ ﻭﻛﺎﻥ ﻳﺮﺍﺋﻴﻬﻤﺎ ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻟﻪ! ﺇﻥ ﻭﺻﻒ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﻄﻞ ﺍﻹﺳﻼﻣﻲ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺎﻝ ﺍﺳﻢ «ﺃﺳﺪ ﺍﻟﻠﻪ» ﻭﺃﺻﺒﺢ ﻗﺎﺋﺪﺍً ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺼﺪّﻳﻘﻴﻦ ﻭﻭﺯﻳﺮﺍً ﻟﻬﻤﺎ.. ﺃﻗﻮﻝ ﺇﻥ ﻭﺻﻔﻪ ﺑﺄﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﺮﺍﺋﻲ ﻭﻳﺨﺎﻑ ﻭﻳﺘﺼﻨﻊ ﺑﺎﻟﺤﺐ ﻟﻤﻦ ﻻ ﻳﺤﺒﻬﻢ ﺣﻘﺎً، ﻭﺍﺗّﺒﺎﻋﻪ ﻟﻐﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﻘﻴﻦ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﻋﺎﻣﺎً ﻭﻣﺴﺎﻳﺮﺗﻬﻤﺎ ﺗﺤﺖ ﺳﻄﻮﺓ ﺍﻟﺨﻮﻑ، ﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﻓﻲ ﺷﻲﺀ. ﻭﺳﻴﺪُﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻳﺘﺒﺮﺃ ﻣﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻣﺬﻫﺐَ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻖ ﻻ ﻳُﻨﻘِﺺ ﻣﻦ ﺷﺄﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺑﺄﻳﺔ ﺟﻬﺔ ﻛﺎﻧﺖ، ﻭﻻ ﻳﺘّﻬﻤﻪ ﻓﻲ ﺃﺧﻼﻗﻪ ﻗﻄﻌﺎً، ﻭﻻ ﻳﺴﻨﺪ ﺇﻟﻰ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﻄﻞ ﺍﻟﻤﻘﺪﺍﻡ ﺍﻟﺨﻮﻑَ، ﻭﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺳﻴﺪُﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻳﺮﻯ ﺍﻟﺤﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻔﺎﺀ ﺍﻟﺮﺍﺷﺪﻳﻦ ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻌﻄﻴﻬﻢ ﺍﻟﻮﻻﺀ ﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻭﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻨﻘﺎﺩ ﻟﺤﻜﻤﻬﻢ ﺃﺻﻼ.

ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧﻪ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻗﺪ ﻋﺮﻑ ﺃﻧﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﺣﻖ ﻭﺃﻗﺮّ ﺑﻔﻀﻠﻬﻢ ﻓﺒﺬﻝ ﺷﺠﺎﻋﺘﻪ ﺍﻟﻔﺎﺋﻘﺔ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﺤﺒﺔ ﺍﻟﺤﻖ.

  ﻧﺤﺼّﻞ ﻣﻤﺎ ﺳﺒﻖ: ﺃﻧﻪ ﻻ ﺧﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻹﻓﺮﺍﻁ ﻭﺍﻟﺘﻔﺮﻳﻂ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ. ﻭﺇﻥ ﺍﻻﺳﺘﻘﺎﻣﺔَ ﻫﻲ ﺍﻟﺤﺪ ﺍﻟﻮﺳﻂ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺧﺘﺎﺭﻩ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﻊ ﺍﻷﺳﻒ ﻛﻤﺎ ﺗﺴﺘﺮ ﺑﻌﺾُ ﺃﻓﻜﺎﺭ ﺍﻟﺨﻮﺍﺭﺝ ﻭﺍﻟﻮﻫﺎﺑﻴﺔ ﺑﺴﺘﺎﺭ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻓﺈﻥ ﻗﺴﻤﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻔﺘﻮﻧﻴﻦ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻠﺤﺪﻳﻦ ﻳﻨﺘﻘﺪﻭﻥ ﺳﻴﺪَﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻭﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: «ﺇﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﻮﻓَّﻖ ﻛﺎﻣﻼ ﻓﻲ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺩﻓّﺔ ﺍﻟﺨﻼﻓﺔ ﻟﺠﻬﻠﻪ ﺣﺎﺷﺎﻩ ﺑﺎﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻓﻠﻢ ﻳﻘﺪﺭ ﻋﻠﻰ ﺇﺩﺍﺭﺓ ﺍﻷﻣﺔ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻧﻪ». ﻓﺈﺯﺍﺀ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﺗﻬﺎﻡ ﺍﻟﺒﺎﻃﻞ ﻣﻦ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﺗﺨﺬ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔُ ﻃﻮﺭَ ﺍﻟﻐﻴﻆ ﻭﺍﻻﺳﺘﻴﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ. ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺇﻥ ﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺃﺳﺲَ ﻣﺬﻫﺒﻬﻢ ﻻ ﺗﺴﺘﻠﺰﻡ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻓﻜﺎﺭ ﺑﻞ ﺗﺜﺒﺖ ﻋﻜﺴﻬﺎ. ﻟﺬﺍ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺇﺩﺍﻧﺔ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺑﺄﻓﻜﺎﺭ ﺗﺮﺩُ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻮﺍﺭﺝ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻠﺤﺪﻳﻦ ﻗﻄﻌﺎً، ﺑﻞ ﺇﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻫﻢ ﺃﻛﺜﺮُ ﻭﻻﺀً ﻭﺣﺒﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ. ﻓﻬﻢ ﻓﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺧُﻄﺒﻬﻢ ﻭﺩﻋﻮﺍﺗﻬﻢ ﻳﺬﻛﺮﻭﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻴﺎً ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺑﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻘﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﻭﻋﻠﻮ ﺍﻟﺸﺄﻥ ﻭﻻﺳﻴﻤﺎ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀُ ﻭﺍﻷﺻﻔﻴﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺑﺄﻛﺜﺮﻳﺘﻬﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺬﻫﺐ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ، ﻓﻬﻢ ﻳﺘﺨﺬﻭﻧﻪ ﻣﺮﺷﺪَﻫﻢ ﻭﺳﻴﺪَﻫﻢ. ﻓﻤﺎ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻠﺸﻴﻌﺔ ﺃﻥ ﻳﺠﺎﺑﻬﻮﺍ ﺃﻫﻞَ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺑﺎﻟﻌﺪﺍﺀ ﺗﺎﺭﻛﻴﻦ ﺍﻟﺨﻮﺍﺭﺝ ﻭﺍﻟﻤﻠﺤﺪﻳﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺃﻋﺪﺍﺀُ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﻭﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻣﻌﺎً. ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺮﻙ ﻗﺴﻢٌ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﺍﻟﺴﻨﺔَ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﻋﻨﺎﺩﺍً ﻷﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ!.

ﻭﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺣﺎﻝ ﻓﻘﺪ ﺃﺳﻬﺒﻨﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﺑُﺤﺜﺖ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻌﻠﻤﺎﺀ.

ﻓﻴﺎ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻖ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻫﻢ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ!

ﻭﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﺸﻴﻌﺔ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﺗﺨﺬﺗﻢ ﻣﺤﺒﺔَ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺒﻴﺖ ﻣﺴﻠﻜﺎً ﻟﻜﻢ!

ﺍﺭﻓﻌﻮﺍ ﻓﻮﺭﺍً ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺰﺍﻉ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻜﻢ، ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺰﺍﻉ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻪ ﻭﻻ ﺣﻘﻴﻘﺔَ ﻓﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﺑﺎﻃﻞٌ ﻭﻣﻀﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ. ﻭﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﺰﻳﻠﻮﺍ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺰﺍﻉ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺰﻧﺪﻗﺔَ ﺍﻟﺤﺎﻛﻤﺔ ﺍﻵﻥ ﺣﻜﻤﺎً ﻗﻮﻳﺎً ﺗﺴﺘﻐﻞ ﺃﺣﺪَﻛﻤﺎ ﺿﺪ ﺍﻵﺧﺮ ﻭﺗﺴﺘﻌﻤﻠﻪ ﺃﺩﺍﺓً ﻹﻓﻨﺎﺀ ﺍﻵﺧﺮ، ﻭﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺇﻓﻨﺎﺋﻪ ﺗﺤﻄّﻢ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺩﺍﺓ ﺃﻳﻀﺎً.

ﻓﻴﻠﺰﻣﻜﻢ ﻧﺒﺬُ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺜﻴﺮ ﺍﻟﻨﺰﺍﻉ، ﻷﻧﻜﻢ ﺃﻫﻞُ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ، ﺑﻴﻨﻜﻢ ﻣﺌﺎﺕُ ﺍﻟﺮﻭﺍﺑﻂ ﺍﻟﻤﻘﺪﺳﺔ ﺍﻟﺪﺍﻋﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻷﺧﻮﺓ ﻭﺍﻻﺗﺤﺎﺩ.

  ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ

ﺳﻴُﺨﺼﺺ ﻟﺒﻴﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻟﻶﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: (حاشية) ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻗﺪ ﺃُﻟّﻒَ ﻣﺴﺘﻘﻼ، ﻭﻫﻮ «ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺍﻟﺤﺎﺩﻳﺔ ﻋﺸﺮﺓ».

 ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (ﺍﻟﺘﻮﺑﺔ:129)

اللمعة الثالثة

ﻟﻘﺪ ﻣﺎﺯﺝَ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺷﻲﺀٌ ﻣﻦ ﺍﻷﺫﻭﺍﻕ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ، ﻓﺄﺭﺟﻮ ﻋﺪﻡ ﺗﻘﻴﻴﻤﻬﺎ ﺑﻤﻮﺍﺯﻳﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻤﻨﻄﻖ؛ ﻷﻥ ﻣﺎ ﺗﺠﻴﺶ ﺑﻪ ﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ ﻻ ﻳﺮﺍﻋﻲ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻗﻮﺍﻋﺪ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﻻ ﻳﻌﻴﺮ ﺳﻤﻌﺎً ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺍﺯﻳﻦ ﺍﻟﻔﻜﺮ.

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﺍﻟﻘﺼﺺ:٨٨)

  ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﺗﻔﺴﺮﻫﺎ ﺟﻤﻠﺘﺎﻥ ﺗﻌﺒّﺮﺍﻥ ﻋﻦ ﺣﻘﻴﻘﺘﻴﻦ ﻣﻬﻤﺘﻴﻦ ﺑﺤﻴﺚ ﺍﺗﺨﺬﻫﻤﺎ ﻗﺴﻢٌ ﻣﻦ ﺷﻴﻮﺥ ﺍﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ﺍﻟﻨﻘﺸﺒﻨﺪﻳﺔ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺯﺑﺪﺓ ﺍﻷﻭﺭﺍﺩ ﻟﺪﻳﻬﻢ، ﻳﺆﺩﻭﻥ ﺑﻬﻤﺎ ﺧﺘﻤَﺘَﻬﻢ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ. ﻭﺍﻟﺠﻤﻠﺘﺎﻥ ﻫﻤﺎ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ. ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ».

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺎﺗﺎﻥ ﺍﻟﺠﻤﻠﺘﺎﻥ ﺗﻨﻄﻮﻳﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﻣﻌﺎﻥ ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ، ﻓﺴﻨﺬﻛﺮ ﺑﻀﻊَ ﻧﻜﺎﺕ ﻟﺒﻴﺎﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺘﻴﻦ ﺍﻟﻠﺘﻴﻦ ﺗﻌﺒّﺮﺍﻥ ﻋﻨﻬﻤﺎ:

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ

ﺇﻥ ﺗﺮﺩﻳﺪ «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ» ﻟﻠﻤﺮﺓ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﻳﺠﺮّﺩ ﺍﻟﻘﻠﺐَ ﻣﻤﺎ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻓﻴُﺠﺮﻱ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻋﻤﻠﻴﺔً ﺟﺮﺍﺣﻴﺔ ﻓﻴﻪ، ﻭﻳﻘﻄﻌُﻪ ﻋﻤﺎ ﺳﻮﺍﻩ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻭﺗﻮﺿﻴﺢ ﻫﺬﺍ:

ﺇﻥَّ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻤﺎ ﺃﻭﺩﻉ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔٍ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻣﻊ ﺃﻏﻠﺐ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺑﺄﻭﺍﺻﺮَ ﻭﻭﺷﺎﺋﺞ ﺷﺘﻰ. ﻓﻔﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻻﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩ ﻟﻠﻤﺤﺒﺔ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﻜﻦّ ﺣُﺒﺎً ﻋﻤﻴﻘﺎً ﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻋﺎﻣﺔ، ﻓﻴﺤﺐ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺐ ﺑﻴﺘَﻪ، ﻭﻳﺤﺐ ﺍﻟﺠﻨﺔَ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺐ ﺣﺪﻳﻘﺘﻪ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ -ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺟّﻪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺣﺒَّﻪ ﻧﺤﻮﻫﺎ- ﻻ ﺗﺪﻭﻡ، ﺑﻞ ﻻ ﺗﻠﺒﺚ ﺃﻥ ﺗﺰﻭﻝ، ﻟﺬﺍ ﻳﺬﻭﻕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺩﺍﺋﻤﺎً ﻋﺬﺍﺏَ ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ. ﻓﺘﺼﺒﺢ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﻟﻬﺎ ﻣﺒﻌﺚَ ﻋﺬﺍﺏٍ ﻣﻌﻨﻮﻱ ﻻ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﻟﻪ، ﻟﺘﻘﺼﻴﺮﻩ ﺑﺤﻘﻬﺎ. ﻓﺎﻵﻻﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﺠﺮﻋﻬﺎ ﻧﺎﺷﺌﺔٌ ﻣﻦ ﺗﻘﺼﻴﺮﻩ ﻫﻮ، ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﻮﺩَﻉ ﻓﻴﻪ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩُ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺇﻟّﺎ ﻟﻴﻮﺟﻬﻪ ﺇﻟﻰ ﻣَﻦ ﻟﻪ ﺟﻤﺎﻝ ﺧﺎﻟﺪ ﻣﻄﻠﻖ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﻟﻢ ﻳُﺤﺴﻦ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﻣﺤﺒﺘﻪ ﻓﻮﺟّﻬﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻓﺎﻧﻴﺔ ﺯﺍﺋﻠﺔ، ﻓﻴﺬﻭﻕ ﻭﺑﺎﻝ ﺃﻣﺮﻩ ﺑﺂﻻﻡ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ.

ﻓﻌﻨﺪﻣﺎ ﻳﺮﺩﺩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ». ﻳﻌﻨﻲ ﺑﻬﺎ: ﺍﻟﺒﺮﺍﺀﺓ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻘﺼﻴﺮ، ﻭﻗﻄﻊ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﻣﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺎﺕ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺘﺨﻠﻲ ﻋﻨﻬﺎ ﻛﻠﻴﺎً، ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﺘﺨﻠﻰ ﻫﻲ ﻋﻨﻪ. ﺛﻢ ﺗﺴﺪﻳﺪ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺏ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺩﻭﻥ ﺳﻮﺍﻩ.

ﺃﻱ ﻳﻘﻮﻝ ﺑﻬﺎ: «ﻻ ﺑﺎﻗﻲ ﺑﻘﺎﺀً ﺣﻘﻴﻘﻴﺎً ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺇﻟﻬﻲ. ﻓﻤﺎ ﺳﻮﺍﻙَ ﻓﺎﻥٍ ﺯﺍﺋﻞ، ﻭﺍﻟﺰﺍﺋﻞُ ﻏﻴﺮُ ﺟﺪﻳﺮ ﺑﺎﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ ﻭﻻ ﺍﻟﻌﺸﻖ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ، ﻭﻻ ﺑﺄﻥ ﻳُﺸﺪّ ﻣﻌﻪ ﺃﻭﺍﺻﺮ ﻗﻠﺐٍ ﺧُﻠِﻖ ﺃﺻﻼ ﻟﻸﺑﺪ ﻭﺍﻟﺨﻠﻮﺩ». ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻓﺎﻧﻴﺔٌ ﻭﺳﺘﺘﺮﻛﻨﻲ ﺫﺍﻫﺒﺔً ﺇﻟﻰ ﺷﺄﻧﻬﺎ، ﻓﺴﺄﺗﺮﻛﻬﺎ ﺃﻧﺎ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﺘﺮﻛﻨﻲ، ﺑﺘﺮﺩﻳﺪﻱ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ». ﺃﻱ: ﺃﺅﻣﻦ ﻭﺃﻋﺘﻘﺪ ﻳﻘﻴﻨﺎً ﺃﻧﻪ ﻻ ﺑﺎﻗﻲ ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﺑﻘﺎﺀُ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻮﻛﻮﻝ ﺑﺈﺑﻘﺎﺋﻚ ﺇﻳﺎﻫﺎ، ﻓﻼ ﻳﻮﺟَّﻪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔُ ﺇﺫﻥ ﺇﻟّﺎ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻧﻮﺭ ﻣﺤﺒﺘﻚ، ﻭﺿﻤﻦ ﻣﺮﺿﺎﺗﻚ، ﻭﺇﻻ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﻏﻴﺮُ ﺟﺪﻳﺮﺓ ﺑﺮﺑﻂ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻣﻌﻬﺎ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺗﺠﻌﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻳﺘﺨﻠﻰ ﻋﻦ ﻣﺤﺒﻮﺑﺎﺕ ﻛﺎﻥ ﻳﻮﻟﻴﻬﺎ ﻣﺤﺒﺔً ﻻ ﺣﺪﻭﺩ ﻟﻬﺎ، ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺼﺮ ﺧﺘﻢَ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻭﻳﺸﺎﻫﺪ ﻃﺎﺑﻊَ ﺍﻟﺰﻭﺍﻝ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﺿﻔﻲ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻝ ﻭﺑﻬﺎﺀ. ﻓﺘﺘﻘﻄﻊ ﻋﻨﺪﺋﺬ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺷﺎﺋﺞُ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺑﻂ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺑﺎﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ. ﻭﺑﺨﻼﻑ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﻣﺮ ﺃﻱ ﺇﻥ ﻟﻢ ﻳﺘﺨﻞَّ ﺍﻟﻘﻠﺐُ ﻋﻦ ﻣﺤﺒﻮﺑﺎﺗﻪ ﻓﺈﻥ ﺟﺮﺍﺣﺎﺕٍ ﻭﺁﻻﻣﺎً ﻭﺣﺴﺮﺍﺕٍ ﺗﺘﻔﺠﺮ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻗﻪ ﺑﻘﺪﺭ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺎﺕ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ»ﻓﻬﻲ ﻛﺎﻟﻤﺮﻫﻢ ﺍﻟﺸﺎﻓﻲ ﻭﺍﻟﺒﻠﺴﻢ ﺍﻟﻨﺎﺟﻊ ﻳُﻤﺮَّﺭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺠﺮﺍﺣﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺟﺮﺗﻬﺎ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔُ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺭﻭﺍﺑﻄﻪ، ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﻌﻨﻲ: «ﻛﻔﻰ ﺑﻚ ﻳﺎ ﺇﻟﻬﻲ ﺑﺎﻗﻴﺎً. ﻓﺒﻘﺎﺅﻙ ﺑﺪﻳﻞٌ ﻋﻦ ﻛﻞِّ ﺷﻲﺀ.. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻧﻚ ﻣﻮﺟﻮﺩٌ ﻓﻜﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﺇﺫﻥ».

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥَّ ﻣﺎ ﻳﺒﺪﻭ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺤُﺴﻦ ﻭﺍﻹﺣﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻝ -ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺒﻌﺚ ﻋﻠﻰ ﻣﺤﺒﺘﻬﺎ- ﻣﺎ ﻫﻮ ﺇﻟّﺎ ﺇﺷﺎﺭﺍﺕٌ ﻟﺤﺴﻦِ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻭﺇﺣﺴﺎﻧﻪ ﻭﻛﻤﺎﻟﻪ، ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺇﻟّﺎ ﻇﻼﻝٌ ﺧﺎﻓﺘﺔ ﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻭﺍﻹﺣﺴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻧﻔﺬﺕ ﻣﻦ ﻭﺭﺍﺀ ﺣُﺠُﺐ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻭﺃﺳﺘﺎﺭ ﻋﺪﺓ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻇِﻼﻝٌ ﻟﻈﻼﻝ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﺟﻞّ ﺟﻼﻟُﻪ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

ﻓﻲ ﻓﻄﺮﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﺸﻖٌ ﺷﺪﻳﺪ ﻧﺤﻮ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ ﻳﺘﻮﻫﻢ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺤﺒﻪ، ﺑﻞ ﻻ ﻳﺤﺐ ﺷﻴﺌﺎً ﺇﻟّﺎ ﺑﻌﺪ ﺗﻮﻫّﻤﻪ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻓﻴﻪ، ﻭﻟﻜﻦ ﺣﺎﻟﻤﺎ ﻳﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﺯﻭﺍﻟﻪ ﺃﻭ ﻳﺸﺎﻫﺪ ﻓﻨﺎﺀﻩ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺰﻓﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﺤﺴﺮﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻕ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻵﻫﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﺴﺮﺍﺕ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺗﻌﺎﺑﻴﺮٌ ﺣﺰﻳﻨﺔ ﺗﻨﻄﻠﻖ ﻣﻦ ﻋﺸﻖ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ. ﻭﻟﻮﻻ ﺗﻮﻫﻢُ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻟَﻤَﺎ ﺃﺣﺐّ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺷﻴﺌﺎً.

ﺑﻞ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﺇﻥَّ ﺳﺒﺒﺎً ﻣﻦ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﻭﺟﻮﺩ ﻋﺎﻟَﻢ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻭﺍﻟﺠﻨﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ ﻫﻮ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔُ ﺍﻟﻤﻠﺤّﺔ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻐﺮﻭﺯﺓ ﻓﻲ ﻓﻄﺮﺓ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﺸﺎﻣﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺄﻟﻪ ﺑﺸﺪﺓ ﻟﻠﺨﻠﻮﺩ.. ﻓﺎﺳﺘﺠﺎﺏ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺫﻭ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﺍﻟﻤﻠﺤﺔ ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﻤﺆﺛﺮ، ﻓﺨَﻠَﻖ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻋﺎﻟﻤﺎً ﺑﺎﻗﻴﺎً ﺧﺎﻟﺪﺍً ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺍﻟﺰﺍﺋﻞ. ﺇﺫ ﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻟّﺎ ﻳﺴﺘﺠﻴﺐ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮُ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻟﺪﻋﺎﺀ ﺗﺴﺄﻟﻪ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔُ ﻗﺎﻃﺒﺔ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺣﺎﻟﻬﺎ ﻭﻣﻘﺎﻟﻬﺎ، ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﻜﻠﻲ ﺍﻟﺪﺍﺋﻤﻲ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﺺ ﺍﻟﻨﺎﺑﻊ ﻣﻦ ﺻﻤﻴﻢ ﺣﺎﺟﺘﻬﺎ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﻭﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻕ ﺭﻏﺒﺘﻬﺎ ﺍﻟﻤﻠﺤّﺔ، ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻳﺴﺘﺠﻴﺐ ﻟﺪﻋﺎﺀ ﻣﻌﺪﺓ ﺻﻐﻴﺮﺓ، ﺗﺴﺄﻟﻪ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﺣﺎﻟﻬﺎ، ﻓﻴﺨﻠﻖ ﻟﻬﺎ ﺃﻧﻮﺍﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻷﻃﻌﻤﺔ ﺍﻟﻠﺬﻳﺬﺓ ﻭﻳُﺸﺒﻊ ﺑﻬﺎ ﺭﻏﺒﺘﻬﺎ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﺆﻗﺖ؟ ﺣﺎﺵَ ﻟﻠﻪ ﻭﻛﻼ.. ﺃﻟﻒ ﺃﻟﻒ ﻣﺮﺓ ﻛﻼ. ﺇﻥّ ﺭﺩّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻟﻠﺨﻠﻮﺩ ﻣﺤﺎﻝٌ ﻗﻄﻌﺎً، ﻷﻥ ﻋﺪﻡ ﺍﺳﺘﺠﺎﺑﺘﻪ ﺟﻞّ ﻭﻋﻼ ﻳﻨﺎﻓﻲ ﺣﻜﻤﺘَﻪ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ ﻭﻋﺪﺍﻟﺘَﻪ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻭﺭﺣﻤﺘَﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﻭﻗﺪﺭﺗَﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ.

ﻭﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﺎﺷﻘﺎً ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ، ﻓﻼﺑﺪ ﺃﻥّ ﺟﻤﻴﻊ ﻛﻤﺎﻻﺗﻪ ﻭﺃﺫﻭﺍﻗﻪ ﺗﺎﺑﻌﺔٌ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺃﻳﻀﺎً. ﻭﻟﻤّﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﺻﻔﺔٌ ﺧﺎﺻﺔ ﻟﻠﺒﺎﻗﻲ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻼﻝ، ﻭﺃﻥ ﺃﺳﻤﺎﺀﻩ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﺑﺎﻗﻴﺔٌ، ﻭﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ ﺍﻟﻌﺎﻛﺴﺔ ﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺗﻨﺼﺒﻎ ﺑﺼﺒﻐﺘﻬﺎ ﻭﺗﺄﺧﺬ ﺣُﻜﻤَﻬﺎ، ﺃﻱ ﺗﻨﺎﻝ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻓﻼﺑﺪ ﺃﻥّ ﺃﻟﺰﻡَ ﺷﻲﺀ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺃﺟﻞّ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﻟﻪ ﻫﻮ ﺷﺪُّ ﺍﻷﻭﺍﺻﺮ ﻭﺭﺑﻂُ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﻣﻊ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻭﺍﻻﻋﺘﺼﺎﻡ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻷﻥ ﻣﺎ ﻳُﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻳﻨﺎﻝ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ.

ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ» ﻓﺘﻀﻤﺪ ﺟﺮﺍﺣﺎﺕ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔَ ﺍﻟﻐﺎﺋﺮﺓ، ﻛﻤﺎ ﺗُﻄَﻤﺌﻦ ﺭﻏﺒﺘَﻪ ﺍﻟﻤﻠﺤﺔ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﺍﻟﻤﻮﺩَﻋﺔ ﻓﻲ ﻓﻄﺮﺗﻪ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

ﻳﺘﻔﺎﻭﺕ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺗﺄﺛﻴﺮُ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻓﻲ ﻓﻨﺎﺀ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﻭﺯﻭﺍﻟﻬﺎ ﺗﻔﺎﻭﺗﺎً ﻛﺒﻴﺮﺍً. ﻓﻤﻊ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻜﺘﻨﻔﺔٌ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ ﻛﺎﻟﺪﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻤﺘﺪﺍﺧﻠﺔ، ﺇﻟّﺎ ﺃﻥ ﺣﻜﻤَﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺰﻭﺍﻝ ﻭﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻣﺨﺘﻠﻒٌ ﺟﺪﺍً.

ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺣﺮﻛﺔ ﻋﻘﺎﺭﺏ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ ﺍﻟﻌﺎﺩّﺓ ﻟﻠﺜﻮﺍﻧﻲ ﻭﺍﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﻭﺍﻟﺴﺎﻋﺎﺕ ﺗﺨﺘﻠﻒ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺮﻋﺔ، ﺭﻏﻢ ﺗﺸﺎﺑﻬﻬﺎ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻱ، ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻷﻣﺮ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺣُﻜﻢ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻣﺘﻔﺎﻭﺕٌ ﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺟﺴﻤﻪ، ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﻗﻠﺒﻪ، ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﺭﻭﺣﻪ. ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﺗﺮﻯ ﺣﻴﺎﺓَ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻭﺑﻘﺎﺀﻩ ﻭﻭﺟﻮﺩَﻩ ﻣﺤﺼﻮﺭﺓً ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻌﻴﺶ ﻓﻴﻪ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺳﺎﻋﺘﻪ، ﻭﻳﻨﻌﺪﻡ ﺃﻣﺎﻣَﻪ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞُ، ﺇﺫﺍ ﺑﻚَ ﺗﺮﻯ ﺩﺍﺋﺮﺓَ ﺣﻴﺎﺓ ﻗﻠﺒِﻪ ﻭﻣﻴﺪﺍﻥَ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﻳﺘّﺴﻊ ﻭﻳﺘﺴﻊ ﺣﺘﻰ ﻳﻀﻢّ ﺃﻳﺎﻣﺎً ﻋﺪﺓ ﻗﺒﻞ ﺣﺎﺿﺮﻩ ﻭﺃﻳﺎﻣﺎً ﺑﻌﺪﻩ، ﺑﻞ ﺇﻥَّ ﺩﺍﺋﺮﺓَ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻭﻣﻴﺪﺍﻧَﻬﺎ ﺃﻋﻈﻢُ ﻭﺃﻭﺳﻊ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﺣﻴﺚ ﺗﺴﻊ ﺳﻨﻴﻦ ﻗﺒﻞ ﻳﻮﻣﻬﺎ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ ﻭﺳﻨﻴﻦ ﺑﻌﺪَﻩ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ، ﺑﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﺳﺘﻌﺪﺍﺩ، ﻓﺈﻥ ﻋﻤﺮَ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﻳﺘﻀﻤﻦ ﻋﻤﺮﺍً ﺑﺎﻗﻴﺎً ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﻘﻠﺒﻴﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ

ﺗﺤﻴَﻴﺎﻥ ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﻓﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﺴُﺒﺤﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺮﺿﻴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺣﻤﺎﻧﻴﺔ، ﺑﻞ ﻳﻨﺘﺞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪ ﻓﻲ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ ﻭﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻋﻤﺮ ﺃﺑﺪﻱ.

ﺃﺟﻞ، ﺇﻥَّ ﺛﺎﻧﻴﺔً ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻳﻘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺍﻟﺤﻖ، ﻭﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﺤﺒﺘﻪ، ﻭﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﻭﺍﺑﺘﻐﺎﺀ ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ، ﺗُﻌﺪّ ﺳﻨﺔً ﻛﺎﻣﻠﺔ. ﺑﻞ ﻫﻲ ﺑﺎﻗﻴﺔٌ ﺩﺍﺋﻤﺔ ﻻ ﻳﻌﺘﺮﻳﻬﺎ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀُ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳﻨﺔٌ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺇﻥْ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻣﺼﺮﻭﻓﺔً ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﻬﻲ ﺯﺍﺋﻠﺔٌ ﺣﺘﻤﺎً، ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﺣُﻜﻢ ﻟﺤﻈﺔ ﺧﺎﻃﻔﺔ، ﻓﻤﻬﻤﺎ ﺗَﻄُﻞ ﺣﻴﺎﺓُ ﺍﻟﻐﺎﻓﻠﻴﻦ ﻓﻬﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻟﺤﻈﺎﺕ ﻋﺎﺑﺮﺓ ﻻ ﺗﺠﺎﻭﺯ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ.

ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻗﻮﻝ ﻣﺸﻬﻮﺭ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ:

«ﺳِﻨَﺔُ ﺍﻟﻔِﺮَﺍﻕِ ﺳَﻨَﺔٌ ﻭَﺳَﻨَﺔُ ﺍﻟﻮِﺻَﺎﻝِ ﺳِﻨَﺔٌ»

  ﺃﻱ ﺇﻥ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻃﻮﻳﻠﺔٌ ﺟﺪﺍً ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺳَﻨﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺳَﻨﺔٌ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺻﺎﻝ ﺗﺒﺪﻭ ﻗﺼﻴﺮﺓ ﻛﺎﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ.

ﺑﻴﺪ ﺃﻧﻲ ﺃُﺧﺎﻟﻒ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺭ ﻓﺄﻗﻮﻝ: «ﺇﻥ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻳﻘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺿﻤﻦ ﻣﺮﺿﺎﺓ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﻭﻟﻮﺟﻬﻪ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ، ﺃﻱ ﺛﺎﻧﻴﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺻﺎﻝ ﻟﻴﺴﺖ ﻛﺴَﻨﺔ ﻭﺣﺪﻫﺎ، ﺑﻞ ﻛﻨﺎﻓﺬﺓ ﻣُﻄﻠّﺔ ﻋﻠﻰ ﺣﻴﺎﺓ ﺩﺍﺋﻤﺔ ﺑﺎﻗﻴﺔ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕُ ﺍﻟﻨﺎﺑﻊ ﻣﻦ ﻧﻈﺮ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ ﻭﺍﻟﻀﻼﻟﺔ ﻓﻼ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻟﺴَﻨﺔَ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﻛﺎﻟﺜﺎﻧﻴﺔ، ﺑﻞ ﻳﺠﻌﻞ ﺃﻟﻮﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ».

ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻣﺜﻞ ﺁﺧﺮ ﺃﻛﺜﺮ ﺷُﻬﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻳﺆﻳﺪ ﻣﺎ ﻧﻘﺮﺭﻩ ﻭﻫﻮ:

 ﺃﺭْﺽُ ﺍﻟﻔَﻠَﺎﺓِ ﻣَﻊَ ﺍْﻷﻋْﺪَﺍﺀِ ﻓِﻨْﺠَﺎﻥٌ   ﺳَﻢُّ ﺍﻟﺨِﻴَﺎﻁِ ﻣَﻊَ ﺍْﻷﺣْﺒَﺎﺏِ ﻣَﻴْﺪَﺍﻥٌ

  ﺃﻣﺎ ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﺒﻴﻦ ﻭﺟﻬﺎً ﺻﺤﻴﺤﺎً ﻟﻠﻤَﺜَﻞ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﺴﻴﻜﻮﻥ ﻛﺎﻵﺗﻲ:

ﺇﻥَّ ﻭﺻﺎﻝَ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻗﺼﻴﺮٌ ﺟﺪﺍً ﻷﻧﻪ ﻓﺎﻥٍ، ﻓﻤﻬﻤﺎ ﻃﺎﻝ ﻓﻬﻮ ﻳﻤﻀﻲ ﻓﻲ ﻟﻤﺤﺔ، ﻭﻳﻐﺪﻭ ﺧﻴﺎﻻ ﺫﺍ ﺣﺴﺮﺓ، ﻭﺭﺅﻳﺎ ﻋﺎﺑﺮﺓً ﺗﻮﺭﺙ ﺍﻷﺳﻰ. ﻓﺎﻟﻘﻠﺐ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺍﻟﺘﻮّﺍﻕ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ ﻻ ﻳﺴﺘﻤﺘﻊ ﻣﻦ ﺳَﻨﺔٍ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺻﺎﻝ ﺇﻟّﺎ ﺑﻤﻘﺪﺍﺭ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﻟﺬﺓ. ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕُ ﻃﻮﻳﻞ ﻭﻣﻴﺪﺍﻧُﻪ ﻭﺍﺳﻊ ﻓﺴﻴﺢ، ﻓﺜﺎﻧﻴﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻨﻪ ﺗﺴﺘﺠﻤﻊ ﺃﻟﻮﺍﻧﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻣﺎ ﻳﺴﺘﻐﺮﻕ ﺳَﻨﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﺑﻞ ﺳﻨﻴﻦ. ﻓﺎﻟﻘﻠﺐ ﺍﻟﻤﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ ﻳﺘﺄﺫﻯ ﻣﻦ ﻓﺮﺍﻕ ﻳﻤﻀﻲ ﻓﻲ ﺛﺎﻧﻴﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻨﺴﺤﻖ ﺗﺤﺖ ﺁﻻﻡ ﻓﺮﺍﻕ ﺳﻨﻴﻦ ﻋﺪﺓ، ﺣﻴﺚ ﻳﺬﻛّﺮﻩ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳُﻌﺪ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻤﺎﺿﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺷﻜﺎﻝ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻬﺎﺑﻄﺔ ﻭﻣﺴﺘﻘﺒﻠُﻬﺎ ﻣﻠﻲﺀ ﺑﺄﻟﻮﺍﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ.

ﻭﻟﻠﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻧﻘﻮﻝ:

  ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ! ﺃﺗﺮﻳﺪﻭﻥ ﺗﺤﻮﻳﻞَ ﻋﻤﺮِﻛﻢ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮٍ ﺑﺎﻕٍ ﻃﻮﻳﻞ ﻣﺪﻳﺪ، ﺑﻞ ﻣﺜﻤﺮ ﺑﺎﻟﻤﻐﺎﻧﻢ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻊ؟

ﻓﻤﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﺃﻥْ ﻧﻌﻢ. ﻭﻫﻮ ﻣﻘﺘﻀﻰ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، ﻓﺎﺻﺮﻓﻮﺍ ﺇﺫﻥ ﻋﻤﺮَﻛﻢ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ، ﻷﻥ ﺃﻳّﻤﺎ ﺷﻲﺀ ﻳﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﻳﻨَﻞْ ﺗﺠﻠﻴﺎً ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻳﻄﻠﺐ ﺑﺈﻟﺤﺎﺡ ﻋﻤﺮﺍً ﻃﻮﻳﻼ ﻭﻫﻮ ﻣﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻭﺛﻤﺔ ﻭﺳﻴﻠﺔٌ ﺃﻣﺎﻣﻪ ﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮ ﺑﺎﻕٍ، ﺑﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺒﺪﻳﻠُﻪ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮٍ ﻃﻮﻳﻞ ﻣﻌﻨﻰً، ﻓﻼﺑﺪ ﺃﻧﻪ -ﺇﻥْ ﻟﻢ ﺗﺴﻘﻂ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺘُﻪ- ﺳﻴﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﻭﻳﻨﻘّﺐ ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻻﺑﺪ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﺴﻌﻰ ﺣﺜﻴﺜﺎ ﻟﺘﺤﻮﻳﻞ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻤﻜﻦ ﺇﻟﻰ ﻓﻌﻞ ﻣﻠﻤﻮﺱ، ﻭﻻﺑﺪ ﺃﻧﻪ ﺳﻴﺼﺒﻮ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻬﺪﻑ ﺑﺄﻋﻤﺎﻟﻪ ﻭﺣﺮﻛﺎﺗﻪ ﻛﺎﻓﺔ.

ﻓﺪﻭﻧﻜﻢ ﺍﻟﻮﺳﻴﻠﺔ:

ﺍﻋﻤﻠﻮﺍ ﻟﻠﻪ، ﺍﻟﺘﻘﻮﺍ ﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ، ﺍﺳﻌﻮﺍ ﻷﺟﻞ ﺍﻟﻠﻪ. ﻭﻟﺘﻜﻦ ﺣﺮﻛﺎﺗُﻜﻢ ﻛﻠُّﻬﺎ ﺿﻤﻦ ﻣﺮﺿﺎﺓ ﺍﻟﻠﻪ (ﻟﻠﻪ.. ﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻠﻪ.. ﻷﺟﻞ ﺍﻟﻠﻪ) ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﺗﺮﻭﻥ ﺃﻥ ﺩﻗﺎﺋﻖَ ﻋﻤﺮﻛﻢ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﻗﺪ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺑﺤﻜﻢ ﺳﻨﻴﻦ ﻋﺪﺓ.

ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻴﻠﺔُ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻓﻤﻊ ﺃﻧﻬﺎ ﻟﻴﻠﺔٌ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﺧﻴﺮٌ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ -ﺑﻨﺺ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ- ﺃﻱ ﻓﻲ ﺣُﻜﻢ ﺛﻤﺎﻧﻴﻦ ﻭﻧﻴﻒ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ.

ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺃﺧﺮﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ، ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻘﺎﻋﺪﺓ ﺍﻟﻤﻘﺮﺭﺓ ﻟﺪﻯ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻭﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﺗﻠﻚ ﻫﻲ «ﺑﺴﻂ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ» ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺜﺒﺘُﻪ ﻭﻳُﻈﻬﺮﻩ ﻓﻌﻼ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝُ ﺍﻟﻨﺒﻮﻱ، ﻓﻘﺪ ﺍﻧﺒﺴﻄﺖ ﻓﻴﻪ ﺩﻗﺎﺋﻖٌ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺳﻨﻴﻦ ﻋﺪﺓ، ﻓﻜﺎﻧﺖ ﻟﺴﺎﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻌﺔ ﻭﺍﻹﺣﺎﻃﺔ ﻭﺍﻟﻄﻮﻝ ﻣﺎ ﻷﻟﻮﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ، ﺇﺫ ﺩﺧﻞ صلى الله عليه وسلم ﺑﺎﻟﻤﻌﺮﺍﺝ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ، ﻓﺪﻗﺎﺋﻖٌ ﻣﻌﺪﻭﺩﺓ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﺗﻀﻢ ﺃﻟﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﺳﻨﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ.

ﻭﻣﻤﺎ ﻳﺜﺒﺖ ﺣﻘﻴﻘﺔ «ﺑﺴﻂ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ» ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﻭﻗﻊ ﻣﻦ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﻏﺰﻳﺮﺓ ﻟﻸﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﻴﻦ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﺆﺩﻱ ﻓﻲ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﺎ ﻳُﻨﺠَﺰ ﻣﻦ ﺍﻷﻋﻤﺎﻝ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﻛﺎﻣﻞ. ﻭﺑﻌﻀﻬﻢ ﺃﻧﺠﺰﻭﺍ ﻓﻲ ﺳﺎﻋﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻬﻤﺎﺕ ﻣﺎ ﻳُﻨﺠَﺰ ﻓﻲ ﺳﻨﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﻭﺑﻌﻀﻬﻢ ﺧﺘﻤﻮﺍ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻓﻲ ﺩﻗﻴﻘﺔ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻋﻨﻬﻢ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟُﻬﺎ ﻻ ﺗﺮﻗﻰ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﺸﺒﻬﺎﺕ ﻷﻥ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﺻﺎﺩﻗﻮﻥ ﺻﺎﻟﺤﻮﻥ ﻳﺘﺮﻓّﻌﻮﻥ ﻋﻦ ﺍﻟﻜﺬﺏ، ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﻣﺘﻮﺍﺗﺮﺓٌ ﻭﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﻭﻳﺮﻭﻭﻧﻬﺎ ﺭﻭﺍﻳﺔَ ﺷﻬﻮﺩ. ﻓﻼﺷﻚ ﻓﻴﻬﺎ. ﻓﺒﺴﻂُ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺛﺎﺑﺘﺔ. (حاشية) ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ:﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:19) ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:25). ﻓﻬﺎﺗﺎﻥ ﺍﻵﻳﺘﺎﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺘﺎﻥ ﺗﺪﻻﻥ ﻋﻠﻰ «ﻃﻲ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ» ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻵﺗﻴﺔ ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻰ «ﺑﺴﻂ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ»:﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ (ﺍﻟﺤﺞ:47). ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻧﻮﻉٌ ﻣﻨﻪ ﻳﺼﺪّﻗﻪ ﻛﻞُّ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻫﻮ ﻣﺎ ﻳﺮﺍﻩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺭﺅﻳﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻨﺎﻡ، ﺇﺫ ﻗﺪ ﻳﺮﻯ ﺭﺅﻳﺎ ﻻ ﺗﺴﺘﻐﺮﻕ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻳﻘﻀﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻷﺣﻮﺍﻝ ﻭﻳﺘﻜﻠﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻭﻳﺴﺘﻤﺘﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﺬﺍﺋﺬ ﻭﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺬﺍﺏ ﻣﺎ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻳﻮﻡ ﻛﺎﻣﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻴﻘﻈﺔ ﻭﺭﺑﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﻳﺎﻡ ﻋﺪﺓ.

  ﺣﺎﺻﻞ ﺍﻟﻜﻼﻡ: ﻣﻊ ﺃﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﺎﻥٍ ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻪ ﻣﺨﻠﻮﻕ ﻟﻠﺒﻘﺎﺀ. ﺧَﻠَﻘﻪ ﺍﻟﺒﺎﺭﺉ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻣﺮﺁﺓٍ ﻋﺎﻛﺴﺔ ﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ، ﻭﻛﻠّﻔﻪ ﺑﺎﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﻤﻬﻤﺎﺕ ﺗﺜﻤﺮ ﺛﻤﺎﺭﺍً ﺑﺎﻗﻴﺔً، ﻭﺻﻮّﺭﻩ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺴﻦ ﺻﻮﺭﺓ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺻﻮﺭﺗُﻪ ﻣﺪﺍﺭ ﻧﻘﻮﺵ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﺍﻟﺒﺎﻗﻴﺔ، ﻟﺬﺍ ﻓﺴﻌﺎﺩﺓُ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻭﻇﻴﻔﺘُﻪ ﺍﻷﺳﺎﺱ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ ﺑﻜﺎﻣﻞ ﺟﻬﻮﺩﻩ ﻭﺟﻮﺍﺭﺣﻪ ﻭﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻪ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ، ﺳﺎﺋﺮﺍً ﻗُﺪُﻣﺎً ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﻣﺮﺿﺎﺗﻪ، ﻣﺘﻤﺴﻜﺎً ﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻣﺮﺩﺩﺍً ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻟﻄﺎﺋﻔﻪ -ﻣﻦ ﻗﻠﺐ ﻭﺭﻭﺡ ﻭﻋﻘﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﺩﺩﻩ ﻟﺴﺎﻧُﻪ: «ﻳﺎ ﺑﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ»:

ﻫﻮ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ، ﻫﻮ ﺍﻷﺯﻟﻲ ﺍﻷﺑﺪﻱ، ﻫﻮ ﺍﻟﺴﺮﻣﺪﻱ، ﻫﻮ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺏ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﺒﻮﺩ.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

 ﴿ﺭﺑﻨﺎ ﻻ ﺗﺆﺍﺧﺬﻧﺎ ﺇﻥْ ﻧَﺴِﻴﻨﺎ ﺃﻭ ﺃﺧﻄﺄﻧﺎ﴾

اللمعة الثانية

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ:83)

  ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓُ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻧﺎﺩﻯ ﺑﻬﺎ ﺭﺍﺋﺪُ ﺍﻟﺼﺎﺑﺮﻳﻦ ﺳﻴﺪُﻧﺎ ﺃﻳﻮﺏ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻣﺠﺮّﺑﺔٌ، ﻭﺫﺍﺕُ ﻣﻔﻌﻮﻝ ﻣﺆﺛّﺮ، ﻓﻴﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﻘﺘﺒﺲ ﻣﻦ ﻧﻮﺭ ﻫﺬﻩ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻭﻧﻘﻮﻝ ﻓﻲ ﻣﻨﺎﺟﺎﺗﻨﺎ: «ﺭﺏِّ ﺇﻧﻲ ﻣﺴﻨﻲ ﺍﻟﻀﺮ ﻭﺃﻧﺖ ﺃﺭﺣﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﻤﻴﻦ».

ﻭﻗﺼﺔ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺃﻳﻮﺏ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺭﺓ، ﻧﻠﺨﺼﻬﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ:

ﺇﻧﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻇﻞ ﺻﺎﺑﺮﺍً ﺭﺩﺣﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺰﻣﻦ ﻳﻜﺎﺑﺪ ﺃﻟَﻢَ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﺍﻟﻌﻀﺎﻝ، ﺣﺘﻰ ﺳﺮﺕ ﺍﻟﻘﺮﻭﺡُ ﻭﺍﻟﺠﺮﻭﺡُ ﺇﻟﻰ ﺟﺴﻤﻪ ﻛﻠﻪ، ﻭﻣﻊ ﺫﻟﻚ ﻛﺎﻥ ﺻﺎﺑﺮﺍً ﺟﻠﺪﺍً ﻳﺮﺟﻮ ﺛﻮﺍﺑَﻪ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻲ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ. ﻭﺣﻴﻨﻤﺎ ﺃﺻﺎﺑﺖ ﺍﻟﺪﻳﺪﺍﻥُ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﺟﺮﻭﺣﻪ ﻗﻠﺒَﻪ ﻭﻟﺴﺎﻧَﻪ ﺍﻟﻠﺬﻳﻦ ﻫﻤﺎ ﻣﺤﻞُّ ﺫﻛﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻣﻮﺿﻊُ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ، ﺗﻀﺮّﻉ ﺇﻟﻰ ﺭﺑّﻪ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ ﺍﻟﺮﻗﻴﻘﺔ: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ﺧﺸﻴﺔ ﺃﻥْ ﻳﺼﻴﺐ ﻋﺒﺎﺩﺗَﻪ ﺧﻠﻞٌ، ﻭﻟﻢ ﻳﺘﻀﺮﻉ ﺇﻟﻴﻪ ﻃﻠﺒﺎً ﻟﻠﺮﺍﺣﺔ ﻗﻂ. ﻓﺎﺳﺘﺠﺎﺏ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻌﻠﻲ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ ﺍﻟﺨﺎﻟﺼﺔ ﺍﻟﺰﻛﻴﺔ ﺍﺳﺘﺠﺎﺑﺔً ﺧﺎﺭﻗﺔ ﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﻤﻌﺘﺎﺩ، ﻭﻛﺸﻒ ﻋﻨﻪ ﺿﺮَّﻩ ﻭﺃﺣﺴﻦَ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻟﻌﺎﻓﻴﺔَ ﺍﻟﺘﺎﻣﺔ ﻭﺃﺳﺒﻎَ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻟﻄﺎﻑَ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻌﻤﻴﻤﺔ.

ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺧﻤﺲ ﻧﻜﺎﺕ.

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ

ﺇﻧﻪ ﺇﺯﺍﺀ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺠﺮﻭﺡ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺻﺎﺑﺖ ﺳﻴﺪَﻧﺎ ﺃﻳﻮﺏَ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻴﻨﺎ ﺃﻣﺮﺍﺽٌ ﺑﺎﻃﻨﻴﺔ ﻭﻋﻠﻞٌ ﺭﻭﺣﻴﺔ ﻭﺃﺳﻘﺎﻡٌ ﻗﻠﺒﻴﺔ، ﻓﻨﺤﻦ ﻣﺼﺎﺑﻮﻥ ﺑﻜﻞّ ﻫﺬﺍ. ﻓﻠﻮ ﺍﻧﻘﻠﺒﻨﺎ ﻇﺎﻫﺮﺍً ﺑﺒﺎﻃﻦ ﻭﺑﺎﻃﻨﺎً ﺑﻈﺎﻫﺮ، ﻟﻈﻬﺮﻧﺎ ﻣُﺜﻘَﻠﻴﻦ ﺑﺠﺮﻭﺡٍ ﻭﻗﺮﻭﺡ ﺑﻠﻴﻐﺔ، ﻭﻟَﺒَﺪَﺕ ﻓﻴﻨﺎ ﺃﻣﺮﺍﺽٌ ﻭﻋﻠﻞٌ ﺃﻛﺜﺮ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﻣﻤﺎ ﻋﻨﺪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺃﻳﻮﺏ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺫﻟﻚ ﻷﻥ: ﻛﻞَّ ﻣﺎ ﺗﻜﺴﺒﻪ ﺃﻳﺪﻳﻨﺎ ﻣﻦ ﺇﺛﻢ، ﻭﻛﻞَّ ﻣﺎ ﻳﻠﺞ ﺇﻟﻰ ﺃﺫﻫﺎﻧﻨﺎ ﻣﻦ ﺷﺒﻬﺔ، ﻳﺸﻖّ ﺟﺮﻭﺣﺎً ﻏﺎﺋﺮﺓً ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ، ﻭﻳﻔﺠّﺮ ﻗﺮﻭﺣﺎً ﺩﺍﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﺃﺭﻭﺍﺣﻨﺎ.. ﺛﻢ ﺇﻥ ﺟﺮﻭﺡَ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺃﻳﻮﺏ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬﺪّﺩ ﺣﻴﺎﺗَﻪ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮﺓ ﺑﺨﻄﺮ، ﺃﻣﺎ ﺟﺮﻭﺣُﻨﺎ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻧﺤﻦ ﻓﻬﻲ ﺗﻬﺪﺩ ﺣﻴﺎﺗَﻨﺎ ﺍﻷﺧﺮﻭﻳﺔ ﺍﻟﻤﺪﻳﺪﺓ ﺑﺨﻄﺮ.. ﻓﻨﺤﻦ ﺇﺫﻥ ﻣﺤﺘﺎﺟﻮﻥ ﺃﺷﺪ ﺍﻟﺤﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ ﺍﻷﻳﻮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺑﺄﺿﻌﺎﻑِ ﺃﺿﻌﺎﻑ ﺣﺎﺟﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺇﻟﻴﻬﺎ. ﻭﺑﺨﺎﺻﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺪﻳﺪﺍﻥ ﺍﻟﻤﺘﻮﻟﺪﺓ ﻣﻦ ﺟﺮﻭﺣﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺃﺻﺎﺑﺖ ﻗﻠﺒَﻪ ﻭﻟﺴﺎﻧَﻪ، ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻮﺳﺎﻭﺱ ﻭﺍﻟﺸﻜﻮﻙ -ﻧﻌﻮﺫ ﺑﺎﻟﻠﻪ- ﺍﻟﻤﺘﻮﻟﺪﺓ ﻋﻨﺪﻧﺎ ﻣﻦ ﺟﺮﻭﺣﻨﺎ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﺍﻵﺛﺎﻡ ﻭﺍﻟﺬﻧﻮﺏ ﺗﺼﻴﺐ ﺑﺎﻃﻦَ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﺴﺘﻘﺮُّ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﻓﺘﺰﻋﺰﻉُ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥَ ﻓﻴﻪ، ﻭﺗﻤﺲّ ﺍﻟﻠﺴﺎﻥَ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﺘﺮﺟﻢ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﻓﺘُﺴﻠﺒﻪ ﻟﺬﺓَ ﺍﻟﺬﻛﺮ ﻭﻣﺘﻌﺘَﻪ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ، ﻭﻻ ﺗﺰﺍﻝ ﺗﻨﻔّﺮﻩ ﻣﻦ ﺫﻛﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﺣﺘﻰ ﺗُﺴﻜﺘﻪ ﻛﻠﻴﺎً.

ﻧﻌﻢ، ﺍﻹﺛﻢُ ﻳﺘﻮﻏﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﻳﻤﺪّ ﺟﺬﻭﺭَﻩ ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻗﻪ، ﻭﻣﺎ ﻳﻨﻔﻚ ﻳﻨﻜُﺖُ ﻓﻴﻪ ﻧﻜﺘﺎً ﺳﻮﺩﺍﺀ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻤﻜﻦ ﻣﻦ ﺇﺧﺮﺍﺝ ﻧﻮﺭ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﻣﻨﻪ، ﻓﻴﺒﻘﻰ ﻣﻈﻠﻤﺎً ﻣﻘﻔﺮﺍً، ﻓﻴﻐﻠﻆ ﻭﻳﻘﺴﻮ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺇﺛﻢ ﻭﺧﻄﻴﺌﺔٍ ﻃﺮﻳﻘﺎً ﻣﺆﺩﻳﺎً ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﻔﺮ، ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﻳُﻤﺢَ ﺫﻟﻚ ﺍﻹﺛﻢ ﻓﻮﺭﺍً ﺑﺎﻻﺳﺘﻐﻔﺎﺭ ﻳﺘﺤﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺩﻭﺩﺓ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ، ﺑﻞ ﺇﻟﻰ ﺣﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﺗﻌﺾ ﺍﻟﻘﻠﺐَ ﻭﺗﺆﺫﻳﻪ.

ﻭﻟﻨﻮﺿﺢ ﺫﻟﻚ ﺑﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ:

  ﻣﺜﻼ: ﺇﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺗﻜﺐ ﺳﺮﺍً ﺇﺛﻤﺎً ﻳُﺨﺠَﻞ ﻣﻨﻪ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﻳﺴﺘﺤﻲ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻃﻼﻉ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻋﻠﻴﻪ، ﻳﺜﻘُﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺟﻮﺩُ ﺍﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ، ﻭﻳﺮﻏﺐ ﻓﻲ ﺇﻧﻜﺎﺭﻫﻢ ﺑﺄﻣﺎﺭﺓ ﺗﺎﻓﻬﺔ.

ﻣﺜﻼ: ﺇﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺘﺮﻑ ﻛﺒﻴﺮﺓ ﺗُﻔﻀﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﺬﺍﺏ ﺟﻬﻨﻢ. ﺇﻥْ ﻟﻢ ﻳﺘﺤﺼّﻦ ﺗﺠﺎﻫﻬﺎ ﺑﺎﻻﺳﺘﻐﻔﺎﺭ، ﻓﻤﺎ ﺇﻥْ ﻳﺴﻤﻊ ﻧﺬﻳﺮَ ﺟﻬﻨﻢ ﻭﺃﻫﻮﺍﻟَﻬﺎ ﻳﺮﻏﺐ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻗﻪ ﻓﻲ ﻋﺪﻡ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻓﻴﺘﻮﻟﺪ ﻟﺪﻳﻪ ﺟﺮﺃﺓٌ ﻹﻧﻜﺎﺭ ﺟﻬﻨﻢ ﻣﻦ ﺃﻣﺎﺭﺓ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﺃﻭ ﺷﺒﻬﺔ ﺗﺎﻓﻬﺔ.

 ﻣﺜﻼ: ﺇﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻻ ﻳﻘﻴﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﺋﺾَ ﻭﻻ ﻳﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺔَ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺣﻖ ﺍﻷﺩﺍﺀ ﻭﻫﻮ ﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ ﺗﻮﺑﻴﺦ ﺁﻣﺮﻩ ﺍﻟﺒﺴﻴﻂ ﻟﺘﻘﺎﻋﺴﻪ ﻋﻦ ﻭﺍﺟﺐ ﺑﺴﻴﻂ، ﻓﺈﻥّ ﺗﻜﺎﺳﻠﻪ ﻋﻦ ﺃﺩﺍﺀ ﺍﻟﻔﺮﺍﺋﺾ ﺇﺯﺍﺀ ﺍﻷﻭﺍﻣﺮ ﺍﻟﻤﻜﺮﺭﺓ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﻳﻮﺭﺛﻪ ﺿِﻴﻘﺎً ﺷﺪﻳﺪﺍً ﻭﻇﻠﻤﺔً ﻗﺎﺗﻤﺔً ﻓﻲ ﺭﻭﺣﻪ، ﻭﻳﺴﻮﻗُﻪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻀﻴﻖُ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﺘﻔﻮّﻩ ﻭﻳﻘﻮﻝ ﺿﻤﻨﺎً: «ﻟﻴﺘﻪ ﻟﻢ ﻳﺄﻣﺮ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ!» ﻭﺗﺜﻴﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔُ ﻓﻴﻪ ﺍﻹﻧﻜﺎﺭَ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳُﺸﻢّ ﻣﻨﻪ ﻋﺪﺍﺀً ﻣﻌﻨﻮﻳﺎً ﺗﺠﺎﻩ ﺃﻟﻮﻫﻴﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ!، ﻓﺈﺫﺍ ﻣﺎ ﻭﺭﺩﺕ ﺷﺒﻬﺔٌ ﺗﺎﻓﻬﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺣﻮﻝ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻤﻴﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺩﻟﻴﻞ ﻗﺎﻃﻊ. ﻓﻴﻨﻔﺘﺢ ﺃﻣﺎﻣَﻪ ﺑﺎﺏٌ ﻋﻈﻴﻢٌ ﻟﻠﻬﻼﻙ ﻭﺍﻟﺨﺴﺮﺍﻥ ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ. ﻭﻟﻜﻦ ﻻ ﻳﺪﺭﻙ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻘﻲ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﻧﻔﺴﻪ -ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻹﻧﻜﺎﺭ- ﻫﺪﻓﺎً ﻟﻀﻴﻖ ﻣﻌﻨﻮﻱ ﺃﺭﻫﺐَ ﻭﺃﻓﻈﻊَ ﺑﻤﻼﻳﻴﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺕ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻀﻴﻖ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺗﻜﺎﺳﻠﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻛﻤﻦ ﻳﻔﺮّ ﻣﻦ ﻟﺴﻊ ﺑﻌﻮﺿﺔ ﺇﻟﻰ ﻋﺾ ﺣﻴﺔ!

ﻓﻠﻴُﻔﻬَﻢ ﻓﻲ ﺿﻮﺀ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﺜﻠﺔ ﺍﻟﺜﻼﺛﺔ ﺳﺮّ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ:

﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (ﺍﻟﻤﻄﻔﻔﻴﻦ:14).

  ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻭُﺿّﺢ ﻓﻲ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ» ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﺎﻟﻘﺪﺭ: ﺇﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺣﻖ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻼﺀ ﻭﺍﻟﻤﺮﺽ ﺑﺜﻼﺛﺔ ﻭﺟﻮﻩ:

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻷﻭﻝ: ﺃﻥَّ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﺎ ﺃﻟﺒﺴَﻪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥَ ﻣﻦ ﻟﺒﺎﺱ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺩﻟﻴﻼ ﻋﻠﻰ ﺻﻨﻌﺘﻪ ﺍﻟﻤُﺒﺪﻋﺔ، ﺣﻴﺚ ﺧﻠﻘﻪ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﻧﻤﻮﺫﺝ (ﻣﻮﺩﻳﻞ) ﻳﻔﺼّﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻟﺒﺎﺱَ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﻳﺒﺪّﻟُﻪ ﻭﻳﻘﺼُّﻪ ﻭﻳﻐﻴّﺮُﻩ، ﻣﺒﻴﻨﺎً ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﺼﺮﻑ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻷﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ. ﻓﻤﺜﻠﻤﺎ ﻳﺴﺘﺪﻋﻲ ﺍﺳﻢُ «ﺍﻟﺸﺎﻓﻲ» ﺍﻟﻤﺮﺽَ، ﻓﺈﻥ ﺍﺳﻢ «ﺍﻟﺮﺯﺍﻕ» ﺃﻳﻀﺎً ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺍﻟﺠﻮﻉَ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻬﻮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﺎﻟﻚُ ﺍﻟﻤُﻠﻚ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﻣُﻠﻜﻪ ﻛﻴﻒ ﻳﺸﺎﺀ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺃﻥَّ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺗﺘﺼﻔّﻰ ﺑﺎﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﻭﺍﻟﺒﻼﻳﺎ، ﻭﺗﺘﺰﻛّﻰ ﺑﺎﻷﻣﺮﺍﺽ ﻭﺍﻟﻨﻮﺍﺋﺐ، ﻭﺗﺠﺪ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺗﺘﻘﻮﻯ ﻭﺗﺘﺮﻗﻰ ﻭﺗﺴﻤﻮ ﻭﺗﺜﻤﺮ ﻭﺗﻨﺘﺞ ﻭﺗﺘﻜﺎﻣﻞ ﻭﺗﺒﻠﻎ ﻫﺪﻓَﻬﺎ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﻟﻬﺎ، ﻓﺘﺆﺩﻱ ﻣﻬﻤﺘَﻬﺎ ﺍﻟﺤﻴﺎﺗﻴﺔ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓُ ﺍﻟﺮﺗﻴﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻀﻰ ﻋﻠﻰ ﻧﺴﻖ ﻭﺍﺣﺪ ﻭﺗﻤﺮ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺍﺵ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ، ﻓﻬﻲ ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺪﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺷﺮّ ﻣﺤﺾٌ ﻣﻨﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺧﻴﺮٌ ﻣﺤﺾ. ﺑﻞ ﻫﻲ ﺗُﻔﻀﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺪﻡ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺃﻥَّ ﺩﺍﺭ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻫﺬﻩ ﻣﺎ ﻫﻲ ﺇﻟّﺎ ﻣﻴﺪﺍﻥُ ﺍﺧﺘﺒﺎﺭ ﻭﺍﺑﺘﻼﺀ، ﻭﻫﻲ ﺩﺍﺭُ ﻋﻤﻞ ﻭﻣﺤﻞ ﻋﺒﺎﺩﺓ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻣﺤﻞَّ ﺗﻤﺘّﻊ ﻭﺗﻠﺬﺫ ﻭﻻ ﻣﻜﺎﻥ ﺗﺴﻠّﻢ ﺍﻷﺟﺮﺓ ﻭﻧﻴﻞ ﺍﻟﺜﻮﺍﺏ.

ﻓﻤﺎﺩﺍﻣﺖ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺩﺍﺭَ ﻋﻤﻞ ﻭﻣﺤﻞَّ ﻋﺒﺎﺩﺓ، ﻓﺎﻷﻣﺮﺍﺽُ ﻭﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﻋﺪﺍ ﺍﻟﺪﻳﻨﻴﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﺑﺸﺮﻁ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻼﺋﻤﺔً ﺟﺪﺍً ﻣﻊ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﺑﻞ ﻣﻨﺴﺠﻤﺔً ﺗﻤﺎﻣﺎً ﻣﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﻤﺪ ﺍﻟﻌﻤﻞَ ﺑﻘﻮﺓ ﻭﺗﺸﺪّ ﻣﻦ ﺃﺯﺭ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻓﻼ ﻳﺠﻮﺯ ﺍﻟﺘﺸﻜّﻲ ﻣﻨﻬﺎ، ﺑﻞ ﻳﺠﺐ ﺍﻟﺘﺤﻠﻲ ﺑﺎﻟﺸﻜﺮ ﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ، ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻷﻣﺮﺍﺽَ ﻭﺍﻟﻨﻮﺍﺋﺐ ﺗﺤﻮّﻝ ﻛﻞَّ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﺼﺎﺏ ﻋﺒﺎﺩﺓً ﻟﻴﻮﻡ ﻛﺎﻣﻞ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻗﺴﻤﺎﻥ: ﻗﺴﻢ ﺇﻳﺠﺎﺑﻲ ﻭﻗﺴﻢ ﺳﻠﺒﻲ..

ﻓﺎﻟﻘﺴﻢ ﺍﻷﻭﻝ ﻣﻌﻠﻮﻡ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﺠﻤﻴﻊ، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻵﺧﺮ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺒﻼﻳﺎ ﻭﺍﻟﻀﺮ ﻭﺍﻷﻣﺮﺍﺽ ﺗﺠﻌﻞ ﺻﺎﺣﺒَﻬﺎ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻌَﺠﺰﻩ ﻭﺿَﻌﻔﻪ، ﻓﻴﻠﺘﺠﺊ ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻪ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ، ﻭﻳﺘﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻳﻠﻮﺫ ﺑﻪ، ﻓﻴﺆﺩﻱ ﺑﻬﺬﺍ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺧﺎﻟﺼﺔ. ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺧﺎﻟﺼﺔٌ ﺯﻛﻴّﺔٌ ﻻ ﻳﺪﺧﻞ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺮﻳﺎﺀُ ﻗﻂ. ﻓﺈﺫﺍ ﻣﺎ ﺗﺠﻤّﻞ ﺍﻟﻤﺼﺎﺏُ ﺑﺎﻟﺼﺒﺮ ﻭﻓﻜّﺮ ﻓﻲ ﺛﻮﺍﺏ ﺿﺮّﻩ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺟﻤﻴﻞِ ﺃﺟﺮﻩ ﻋﻨﺪﻩ، ﻭﺷﻜَﺮ ﺭﺑَّﻪ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﺗﺤﻮﻟﺖ ﻋﻨﺪﺋﺬ ﻛﻞُّ ﺳﺎﻋﺔ ﻣﻦ ﺳﺎﻋﺎﺕ ﻋﻤﺮﻩ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻳﻮﻡٌ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻓﻴﻐﺪﻭ ﻋﻤﺮُﻩ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﺟﺪﺍً ﻣﺪﻳﺪﺍً ﻃﻮﻳﻼ، ﺑﻞ ﺗﺘﺤﻮﻝ -ﻋﻨﺪ ﺑﻌﻀﻬﻢ- ﻛﻞُّ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻣﻦ ﺩﻗﺎﺋﻖ ﻋﻤﺮﻩ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻳﻮﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ.

ﻭﻟﻘﺪ ﻛﻨﺖُ ﺃﻗﻠﻖ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﺻﺎﺏ ﺃﺣﺪ ﺇﺧﻮﺗﻲ ﻓﻲ ﺍﻵﺧﺮﺓ ﻭﻫﻮ «ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﺍﺣﻤﺪ ﺍﻟﻤﻬﺎﺟﺮ» ﺑﻤﺮﺽ ﺧﻄﻴﺮ، ﻓﺨﻄﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻲ: «ﺑﺸّﺮﻩ، ﻫﻨّﺌﻪ، ﻓﺈﻥ ﻛﻞَّ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻣﻦ ﺩﻗﺎﺋﻖ ﻋﻤﺮﻩ ﺗﻤﻀﻲ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻳﻮﻡٌ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ».. ﺣﻘﺎً ﺇﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﻳﺸﻜﺮ ﺭﺑَّﻪ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻣﻦ ﺛﻨﺎﻳﺎ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ.

ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺑﻴﻨّﺎ ﻓﻲ «ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ» ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﺃﻧﻪ ﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﻓﻜّﺮ ﻛﻞُّ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻓﻴﻤﺎ ﻣﻀﻰ ﻣﻦ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻓﺴَﻴﺮﺩُ ﺇﻟﻰ ﻗﻠﺒﻪ ﻭﻟﺴﺎﻧﻪ «ﻭﺍ ﺃﺳﻔﺎﻩ»، ﺃﻭ: «ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ». ﺃﻱ ﺇﻣﺎ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﺄﺳﻒ ﻭﻳﺘﺤﺴﺮ، ﺃﻭ ﻳﺤﻤﺪ ﺭﺑَّﻪ ﻭﻳﺸﻜﺮﻩ. ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻳﻘﻄّﺮ ﺍﻷﺳﻒ ﻭﺍﻷﺳﻰ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﺴﺒﺐ ﺍﻵﻻﻡ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﺯﻭﺍﻝ ﺍﻟﻠﺬﺍﺋﺬ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﺔ ﻭﻓﺮﺍﻗﻬﺎ، ﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﺯﻭﺍﻝَ ﺍﻟﻠﺬﺓ ﺃﻟَﻢٌ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﺗﻮﺭﺙ ﻟﺬﺓٌ ﺯﺍﺋﻠﺔٌ ﻃﺎﺭﺋﺔٌ ﺁﻻﻣﺎً ﺩﺍﺋﻤﺔ ﻣﺴﺘﻤﺮﺓ، ﻓﺎﻟﺘﻔﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻳُﻌﺼِﺮ ﺫﻟﻚ ﺍﻷﻟَﻢَ ﻭﻳُﻘﻄّﺮ ﻣﻨﻪ ﺍﻷﺳﻒ ﻭﺍﻷﺳﻰ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻠﺬﺓُ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺪﺍﺋﻤﺔ ﺍﻟﻨﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﺯﻭﺍﻝ ﺍﻵﻻﻡ ﺍﻟﻤﺆﻗﺘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﻀﺎﻫﺎ ﺍﻟﻤﺮﺀ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﻔﺎﺋﺘﺔ، ﺗﺠﻌﻞ ﻟﺴﺎﻧَﻪ ﺫﺍﻛﺮﺍً ﺑﺎﻟﺤﻤﺪ ﻭﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ.. ﻫﺬﻩ ﺣﺎﻟﺔٌ ﻓﻄﺮﻳﺔ ﻳﺸﻌﺮ ﺑﻬﺎ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ، ﻓﺈﺫﺍ ﻣﺎ ﻓﻜﺮ ﺍﻟﻤﺼﺎﺏ -ﻋﻼﻭﺓ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ- ﺑﻤﺎ ﺃﺩّﺧﺮ ﻟﻪ ﺭﺑُّﻪ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻣﻦ ﺛﻮﺍﺏٍ ﺟﻤﻴﻞ ﻭﺟﺰﺍﺀٍ ﺣَﺴﻦ ﻓﻲ ﺍﻵﺧﺮﺓ ﻭﺗﺄﻣﻞَ ﻓﻲ ﺗﺤﻮُّﻝ ﻋﻤﺮﻩ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﺑﺎﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮ ﻣﺪﻳﺪ ﻓﺈﻧﻪ ﻻ ﻳﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺍﻧﺘﺎﺑﻪ ﻣﻦ ﺿُﺮّ ﻭﺣﺪﻩ، ﺑﻞ ﻳﺮﻗﻰ ﺃﻳﻀﺎً ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺸﻜﺮ ﻟﻠﻪ ﻭﺍﻟﺮﺿﺎ ﺑﻘَﺪَﺭﻩ، ﻓﻴﻨﻄﻠﻖ ﻟﺴﺎﻧُﻪ ﺣﺎﻣﺪﺍً ﺭﺑَّﻪ ﻭﻗﺎﺋﻼ: «ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻞِّ ﺣﺎﻝ ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻜﻔﺮ ﻭﺍﻟﻀﻼﻝ».

ﻭﻟﻘﺪ ﺳﺎﺭ ﻣﺜﻼ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻨﺎﺱ: «ﻣﺎ ﺃﻃﻮﻝَ ﺯﻣﻦَ ﺍﻟﻨﻮﺍﺋﺐ!». ﻧﻌﻢ، ﻫﻮ ﻛﺬﻟﻚ ﻭﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﺎﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺬﻱ ﻓﻲ ﻋُﺮﻑِ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻇﻨِّﻬﻢ ﻣﻦ ﺃﻧﻪ ﻃﻮﻳﻞ ﺑﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺿﻴﻖ ﻭﺃﻟَﻢ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻃﻮﻳﻞٌ ﻣﺪﻳﺪ ﻛﺎﻟﻌﻤﺮ ﺍﻟﻄﻮﻳﻞ ﺑﻤﺎ ﻳُﺜﻤﺮ ﻣﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺣﻴﺎﺗﻴﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ.

ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ

ﻟﻘﺪ ﺑﻴﻨّﺎ ﻓﻲ «ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻷﻭﻝ ﻟﻠﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺤﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ»: ﺃﻥَّ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺇﻥْ ﻟﻢ ﻳﺸﺘّﺖ ﻣﺎ ﻭﻫَﺒﻪ ﺍﻟﺒﺎﺭﺉ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﻦ ﻗﻮﺓِ ﺍﻟﺼﺒﺮ، ﻭﻟﻢ ﻳﺒﻌﺜﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﺷﻌﺎﺏ ﺍﻷﻭﻫﺎﻡ ﻭﺍﻟﻤﺨﺎﻭﻑ، ﻓﺈﻥّ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﻮﺓ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻛﺎﻓﻴﺔً ﻟﻠﺜﺒﺎﺕ ﺣﻴﺎﻝ ﻛﻞ ﻣﺼﻴﺒﺔ ﻭﺑﻼﺀ، ﻭﻟﻜﻦ ﻫﻴﻤﻨﺔَ ﺍﻟﻮﻫﻢ ﻭﺳﻴﻄﺮﺓَ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺍﻻﻏﺘﺮﺍﺭَ ﺑﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺩﺍﺋﻤﺔ.. ﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﺖّ ﻣﻦ ﻗﻮﺓ ﺻﺒﺮﻩ ﻭﺗﻔﺮﻳﻘﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺁﻻﻡ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﻣﺨﺎﻭﻑ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ، ﻓﻼ ﻳﻜﻔﻴﻪ ﻣﺎ ﺃﻭﺩﻋﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺗﺤﻤّﻞ ﺍﻟﺒﻼﺀ ﺍﻟﻨﺎﺯﻝ ﺑﻪ ﻭﺍﻟﺜﺒﺎﺕ ﺩﻭﻧﻪ، ﻓﻴﺒﺪﺃ ﺑﺒﺚ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺣﺘﻰ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﺸﻜﻮ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻠﻨﺎﺱ، ﻣﺒﺪﻳﺎً ﻣﻦ ﻗﻠﺔ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻭﻧﻔﺎﺩﻩ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﺠﻨﻮﻥ. ﻓﻀﻼ ﻋﻦ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﻖ ﻟﻪ ﺃﻥ ﻳﺠﺰﻉ ﺟﺰﻋَﻪ ﻫﺬﺍ ﺃﺑﺪﺍً؛ ﺫﻟﻚ ﻷﻥ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﻣﻦ ﺃﻳﺎﻡ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ -ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻗﺪ ﻣﻀﻰ ﺑﺎﻟﺒﻼﺀ- ﻓﻘﺪ ﺫﻫﺐ ﻋﺴﺮُﻩ ﻭﻣﺸﻘﺘُﻪ ﻭﺗﺮﻙَ ﺭﺍﺣﺘَﻪ، ﻭﻗﺪ ﺯﺍﻝ ﺗﻌﺒُﻪ ﻭﺃﻟَﻤُﻪ ﻭﺗﺮﻙ ﻟﺬﺗَﻪ، ﻭﻗﺪ ﺫﻫﺐ ﺿﻨﻜُﻪ ﻭﺿﻴﻘُﻪ ﻭﺛﺒﺖ ﺃﺟﺮُﻩ، ﻓﻼ ﻳﺠﻮﺯ ﺇﺫﻥ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻨﻪ، ﺑﻞ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺍﻟﺸﻜﺮ ﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺸﻮﻕ ﻭﻟﻬﻔﺔ. ﻭﻻ ﻳﺠﻮﺯ ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻻﻣﺘﻌﺎﺽُ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔ ﻭﺍﻟﺴﺨﻂ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻞ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺭﺑﻂُ ﺃﻭﺍﺻﺮ ﺍﻟﺤﺐ ﺑﻬﺎ؛ ﻷﻥ ﻋﻤﺮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺪ ﻣﻀﻰ ﻳﺘﺤﻮﻝ ﻋﻤﺮﺍً ﺳﻌﻴﺪﺍً ﺑﺎﻗﻴﺎً ﻣﺪﻳﺪﺍً ﺑﻤﺎ ﻳﻌﺎﻧﻲ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﻼﺀ. ﻓﻤﻦ ﺍﻟﺒﻼﻫﺔ ﻭﺍﻟﺠﻨﻮﻥ ﺃﻥ ﻳﺒﺪﺩ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﻗﺴﻤﺎً ﻣﻦ ﺻﺒﺮﻩ ﻭﻳﻬﺪﺭﻩ ﺑﺎﻷﻭﻫﺎﻡ ﻭﺍﻟﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﻼﻳﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻣﻀﺖ ﻭﺍﻵﻻﻡ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﻟّﺖ. ﺃﻣﺎ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻟﻤﻘﺒﻠﺔ، ﻓﺤﻴﺚ ﺇﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺄﺕ ﺑﻌﺪُ ﻭﻣﺠﻬﻮﻟﺔٌ ﻣﺒﻬﻤﺔ، ﻓﻤﻦ ﺍﻟﺤﻤﺎﻗﺔ ﺍﻟﺘﻔﻜﺮُ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻵﻥ ﻭﺍﻟﺠﺰﻉُ ﻋﻤّﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺼﻴﺐ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺮﺽ ﻭﺑﻼﺀ. ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﺣﻤﺎﻗﺔٌ ﺃﻥ ﻳﺄﻛﻞ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﺨﺒﺰ ﻭﻳﺸﺮﺏ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻟﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﺼﻴﺒَﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻮﻉ ﻭﺍﻟﻌﻄﺶ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﺪ ﺃﻭ ﺑﻌﺪ ﻏﺪ، ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﺘﺄﻟّﻢ ﻭﺍﻟﺘﻀﺠﺮُ ﻣﻦ ﺍﻵﻥ ﻟﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳُﺒﺘﻠﻰ ﺑﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻦ ﺃﻣﺮﺍﺽ ﻭﻣﺼﺎﺋﺐ ﻫﻲ ﺍﻵﻥ ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﺍﻟﻌﺪﻡ، ﻭﺇﻇﻬﺎﺭ ﺍﻟﺠﺰﻉ ﻧﺤﻮﻫﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺒﺮﺭ ﻭﺍﺿﻄﺮﺍﺭ، ﻫﻮ ﺑﻼﻫﺔٌ ﻭﺣﻤﺎﻗﺔ ﺇﻟﻰ ﺣﺪٍّ ﺗﺴﻠﺐ ﺍﻟﻌﻄﻒَ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻭﺍﻹﺷﻔﺎﻕ ﻋﻠﻴﻪ. ﻓﻮﻕ ﺃﻧﻪ ﻗﺪ ﻇﻠﻢ ﻧﻔﺴﻪ ﺑﻨﻔﺴﻪ.

ﺍﻟﺨﻼﺻﺔ: ﺇﻥ ﺍﻟﺸﻜﺮ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺰﻳﺪ ﺍﻟﻨﻌﻤﺔَ، ﻓﺎﻟﺸﻜﻮﻯ ﺗﺰﻳﺪ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔَ ﻭﺗﺴﻠﺐ ﺍﻟﺘﺮﺣﻢ ﻭﺍﻹﺷﻔﺎﻕَ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ.

ﻟﻘﺪ ﺍﺑﺘُﻠﻰ ﺭﺟﻞ ﺻﺎﻟﺢ ﻣﻦ ﻣﺪﻳﻨﺔ «ﺃﺭﺿﺮﻭﻡ» ﺑﻤﺮﺽ ﺧﻄﻴﺮ ﻭﺑﻴﻞ، ﻭﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ، ﻓﺬﻫﺒﺖُ ﺇﻟﻰ ﻋﻴﺎﺩﺗﻪ ﻭﺑﺚَّ ﻟﻲ ﺷﻜﻮﺍﻩ:

– ﻟﻢ ﺃﺫُﻕ ﻃﻌﻢَ ﺍﻟﻨﻮﻡ ﻣﻨﺬ ﻣﺎﺋﺔ ﻳﻮﻡ.

ﺗﺄﻟﻤﺖُ ﻟﺸﻜﻮﺍﻩ ﺍﻷﻟﻴﻤﺔ ﻫﺬﻩ، ﻭﻟﻜﻦ ﺗﺬﻛﺮﺕُ ﺣﻴﻨﻬﺎ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻭﻗﻠﺖ:

– «ﺃﺧﻲ! ﺇﻥ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻟﻤﺎﺋﺔ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺔ ﻟﻜﻮﻧﻬﺎ ﻗﺪ ﻭﻟّﺖ ﻭﻣﻀﺖ ﻓﻬﻲ ﺍﻵﻥ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻣﺎﺋﺔ ﻳﻮﻡ ﻣُﺴﺮِّﺓ ﻣﻔﺮﺣﺔ ﻟﻚ، ﻓﻼ ﺗﻔﻜﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﻻ ﺗﺸﻚُ ﻣﻨﻬﺎ، ﺑﻞ ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺯﻭﺍﻟﻬﺎ ﻭﺫﻫﺎﺑﻬﺎ، ﻭﺍﺷﻜﺮ ﺭﺑﻚ ﻋﻠﻴﻬﺎ. ﺃﻣﺎ ﺍﻷﻳﺎﻡ ﺍﻟﻤﻘﺒﻠﺔ ﻓﻸﻧﻬﺎ ﻟﻢ ﺗﺄﺕِ ﺑﻌﺪُ، ﻓﺘﻮﻛّﻞ ﻋﻠﻰ ﺭﺣﻤﺔ ﺭﺑﻚ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻭﺍﻃﻤﺌﻦ ﺇﻟﻴﻬﺎ. ﻓﻼ ﺗﺒﻚِ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗُﻀﺮَﺏ، ﻭﻻ ﺗﺨﻒ ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺷﻲﺀ، ﻭﻻ ﺗﻤﻨﺢ ﺍﻟﻌﺪﻡَ ﺻﺒﻐﺔَ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ. ﺍﺻﺮﻑ ﺗﻔﻜﻴﺮﻙ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﻓﺈﻥ ﻣﺎ ﺗﻤﻠﻜﻪ ﻣﻦ ﻗﻮﺓ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﺗﻜﻔﻲ ﻟﻠﺜﺒﺎﺕ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ. ﻭﻻ ﺗﻜﻦ ﻣﺜﻞَ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺎﺋﺪ ﺍﻷﺣﻤﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺷﺘّﺖ ﻗﻮﺗﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﻳﻤﻴﻨﺎً ﻭﺷﻤﺎﻻ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﻟﺘﺤﻘﺖ ﻣﻴﺴَﺮﺓُ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﺇﻟﻰ ﺻﻔﻮﻑ ﻣﻴﻤﻨﺔ ﺟﻴﺸﻪ ﻓﺄﻣﺪَّﺗْﻬﺎ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﺗﻚُ ﻣﻴﻤﻨﺔُ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﻣﺘﻬﻴﺌﺔ ﻟﻠﺤﺮﺏ ﺑﻌﺪ.. ﻓﻤﺎ ﺇﻥ ﻋﻠِﻢ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﻣﻨﻪ ﻫﺬﺍ ﺣﺘﻰ ﺳﺪّﺩ ﻗﻮﺓً ﺿﺌﻴﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺮﻛﺰ ﻭﻗﻀﻰ ﻋﻠﻰ ﺟﻴﺸﻪ.

ﻓﻴﺎ ﺃﺧﻲ ﻻ ﺗﻜﻦ ﻛﻬﺬﺍ، ﺑﻞ ﺣﺸِّﺪ ﻛﻞ ﻗﻮﺍﻙ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ ﻓﻘﻂ، ﻭﺗﺮﻗَّﺐ ﺭﺣﻤﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ، ﻭﺗﺄﻣﻞ ﻓﻲ ﺛﻮﺍﺏ ﺍﻵﺧﺮﺓ، ﻭﺗﺪﺑّﺮ ﻓﻲ ﺗﺤﻮﻳﻞ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﻟﻌﻤﺮﻙ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺍﻟﻘﺼﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻋﻤﺮ ﻣﺪﻳﺪ ﺑﺎﻕ، ﻓﻘﺪِّﻡ ﺍﻟﺸﻜﺮَ ﺍﻟﻮﺍﻓﺮ ﺍﻟﻤﺴﺮّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻠﻲ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺑﺪﻻ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺍﻟﻤﺮﻳﺮﺓ».

ﺍﻧﺸﺮﺡ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻜﻼﻡ ﻭﺍﻧﺒﺴﻄﺖ ﺃﺳﺎﺭﻳﺮُﻩ ﺣﺘﻰ ﺷﺮﻉ ﺑﺎﻟﻘﻮﻝ: «ﺍﻟﺤﻤﺪ ﻟﻠﻪ. ﻟﻘﺪ ﺗﻀﺎﺀﻝ ﺃﻟﻤﻲ ﻛﺜﻴﺮﺍً».

ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ

ﻭﻫﻲ ﺛﻼﺙ ﻣﺴﺎﺋﻞ

ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ:

ﺇﻥَّ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺪّ ﻣﺼﻴﺒﺔً ﺣﻘﺎً ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣُﻀﺮﺓٌ ﻓﻌﻼ، ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﻴﺐ ﺍﻟﺪﻳﻦ. ﻓﻼﺑﺪ ﻣﻦ ﺍﻻﻟﺘﺠﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺍﻻﻧﻄﺮﺍﺡ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﻭﺍﻟﺘﻀﺮﻉ ﺇﻟﻴﻪ ﺩﻭﻥ ﺍﻧﻘﻄﺎﻉ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐُ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻤﺲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻓﻬﻲ ﻓﻲ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻷﻣﺮ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﻤﺼﺎﺋﺐَ، ﻷﻥ ﻗﺴﻤﺎً ﻣﻨﻬﺎ:

ﺗﻨﺒﻴﻪٌ ﺭﺣﻤﺎﻧﻲ ﻳﺒﻌﺜﻪ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺇﻟﻰ ﻋﺒﺪﻩ ﻟﻴﻮﻗﻈَﻪ ﻣﻦ ﻏﻔﻠﺘﻪ، ﺑﻤﺜﻞ ﺗﻨﺒﻴﻪ ﺍﻟﺮﺍﻋﻲ ﻟﺸﻴﺎﻫﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﻣﺮﻋﺎﻫﺎ، ﻓﻴﺮﻣﻴﻬﺎ ﺑﺤﺠﺮ، ﻭﺍﻟﺸﻴﺎﻩ ﺑﺪﻭﺭﻫﺎ ﺗﺸﻌﺮ ﺃﻥ ﺭﺍﻋﻴﻬﺎ ﻳﻨﺒﻬﻬﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﺠﺮ ﻭﻳﺤﺬّﺭﻫﺎ ﻣﻦ ﺃﻣﺮ ﺧﻄﻴﺮ ﻣﻀﺮ، ﻓﺘﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﻋﺎﻫﺎ ﺑﺮﺿﻰ ﻭﺍﻃﻤﺌﻨﺎﻥ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﺍﺋﺐُ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﻨﺒﻴﻪ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﺇﻳﻘﺎﻅ ﺭﺣﻤﺎﻧﻲ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻵﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﻓﻬﻮ ﻛﻔﺎﺭﺓٌ ﻟﻠﺬﻧﻮﺏ.

ﻭﻗﺴﻢ ﺁﺧﺮ ﺃﻳﻀﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﻫﻮ ﻣﻨﺤﺔٌ ﺇﻟﻬﻴﺔ ﻟﺘﻄﻤﻴﻦ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺇﻓﺮﺍﻍ ﺍﻟﺴﻜﻴﻨﺔ ﻓﻴﻪ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﺪﻓﻊ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﻴﺐ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥَ، ﻭﺇﺷﻌﺎﺭﻩ ﺑﻌﺠﺰﻩ ﻭﻓﻘﺮﻩ ﺍﻟﻜﺎﻣﻨﻴﻦ ﻓﻲ ﺟﺒﻠﺘﻪ.

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﺎﺏ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻤﺮﺽ -ﻓﻜﻤﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﺁﻧﻔﺎ- ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﺑﻤﺼﻴﺒﺔ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ، ﺑﻞ ﻫﻲ ﻟﻄﻒٌ ﺭﺑﺎﻧﻲ ﻷﻧﻪ ﺗﻄﻬﻴﺮٌ ﻟﻺﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻧﻮﺏ ﻭﻏﺴﻞٌ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺃﺩﺭﺍﻥ ﺍﻟﺨﻄﺎﻳﺎ، ﻛﻤﺎ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ: (ﻣَﺎ ﻣِﻦْ ﻣُﺴْﻠِﻢٍ ﻳُﺼِﻴﺒُﻪُ ﺃَﺫًﻯ، ﺇِﻟَّﺎ ﺣَﺎﺕَّ ﺍﻟﻠﻪ ﻋَﻨْﻪُ ﺧَﻄَﺎﻳَﺎﻩُ، ﻛَﻤَﺎ ﺗَﺤَﺎﺕُّ ﻭَﺭَﻕُ ﺍﻟﺸَّﺠَﺮِ).

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺃﻳﻮﺏ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻟﻢ ﻳﺪﻉُ ﻓﻲ ﻣﻨﺎﺟﺎﺗﻪ ﻷﺟﻞ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﺗﻄﻤﻴﻨﺎً ﻟﺮﺍﺣﺘﻪ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻃﻠﺐ ﻛﺸﻒَ ﺍﻟﻀﺮ ﻣﻦ ﺭﺑﻪ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺻﺒﺢ ﺍﻟﻤﺮﺽُ ﻣﺎﻧﻌﺎً ﻟﺬﻛﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﺴﺎﻧﺎً، ﻭﺣﺎﺋﻼ ﻟﻠﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻣﻠﻜﻮﺕ ﺍﻟﻠﻪ ﻗﻠﺒﺎً. ﻓﻄﻠﺐ ﺍﻟﺸﻔﺎﺀ ﻷﺟﻞ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔً ﻛﺎﻣﻠﺔ. ﻓﻴﺠﺐ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻧﺤﻦ ﺃﻳﻀﺎً ﺃﻥ ﻧﻘﺼﺪ -ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ- ﺃﻭﻝ ﻣﺎ ﻧﻘﺼﺪ: ﺷﻔﺎﺀَ ﺟﺮﻭﺣﻨﺎ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻭﺷﺮﻭﺧﻨﺎ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﺩﻣﺔ ﻣﻦ ﺍﺭﺗﻜﺎﺏ ﺍﻵﺛﺎﻡ ﻭﺍﻗﺘﺮﺍﻑ ﺍﻟﺬﻧﻮﺏ، ﻭﻋﻠﻴﻨﺎ ﺍﻻﻟﺘﺠﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺤُﻮﻝ ﺍﻷﻣﺮﺍﺽُ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﺩﻭﻥ ﻗﻴﺎﻣﻨﺎ ﺑﺎﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﻓﻨﺘﻀﺮﻉ ﺇﻟﻴﻪ ﻋﻨﺪﺋﺬ ﺑﻜﻞ ﺫﻝ ﻭﺧﻀﻮﻉ ﻭﻧﺴﺘﻐﻴﺜﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺒﺪﺭ ﻣﻨﺎ ﺃﻱُّ ﺍﻋﺘﺮﺍﺽ ﺃﻭ ﺷﻜﻮﻯ، ﺇﺫ ﻣﺎﺩﻣﻨﺎ ﺭﺍﺿﻴﻦ ﻛﻞ ﺍﻟﺮﺿﺎ ﺑﺮﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ ﺍﻟﺮﺿﺎ ﻭﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﺑﻤﺎ ﻳﻤﻨﺤﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻟﻨﺎ ﺑﺮﺑﻮﺑﻴﺘﻪ.. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﻣﺊ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﻋﺘﺮﺍﺽ ﻋﻠﻰ ﻗﻀﺎﺋﻪ ﻭﻗﺪَﺭﻩ، ﻭﺇﻇﻬﺎﺭِ ﺍﻟﺘﺄﻓﻒ ﻭﺍﻟﺘﺤﺴﺮ، ﻓﻬﻲ ﺃﺷﺒﻪ ﻣﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻨﻘﺪٍ ﻟﻠﻘﺪﺭ ﺍﻹﻟﻬﻲ ﺍﻟﻌﺎﺩﻝ ﻭﺍﺗﻬﺎﻡٍ ﻟﺮﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ.. ﻓﻤﻦ ﻳﻨﻘﺪ ﺍﻟﻘﺪﺭَ ﻳﺼﺮﻋﻪ ﻭﻣَﻦ ﻳﺘﻬﻢ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔَ ﻳُﺤﺮﻡ ﻣﻨﻬﺎ. ﺇﺫ ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﺍﻟﻴﺪ ﺍﻟﻤﻜﺴﻮﺭﺓ ﻟﻠﺜﺄﺭ ﻳﺰﻳﺪﻫﺎ ﻛﺴﺮﺍً، ﻓﺈﻥ ﻣﻘﺎﺑﻠﺔ ﺍﻟﻤﺒﺘﻠﻰ ﻣﺼﻴﺒﺘﻪ ﺑﺎﻟﺸﻜﻮﻯ ﻭﺍﻟﺘﻀﺠﺮ ﻭﺍﻻﻋﺘﺮﺍﺽ ﻭﺍﻟﻘﻠﻖ ﺗﻀﺎﻋﻒ ﺍﻟﺒﻼﺀ.

ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ:

ﻛﻠﻤﺎ ﺍﺳﺘﻌﻈﻤﺖَ ﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻋﻈُﻤَﺖ، ﻭﻛﻠﻤﺎ ﺍﺳﺘﺼﻐﺮﺗَﻬﺎ ﺻﻐُﺮﺕ. ﻓﻤﺜﻼ: ﻛﻠﻤﺎ ﺍﻫﺘﻢ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻤﺎ ﻳﺘﺮﺍﺀﻯ ﻟﻪ ﻣﻦ ﻭﻫْﻢ ﻟﻴﻼ ﻳﻀﺨﻢ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻩ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺇﺫﺍ ﺃﻫﻤﻠﻪ ﻳﺘﻼﺷﻰ. ﻭﻛﻠﻤﺎ ﺗﻌﺮﺽ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻮﻛﺮ ﺍﻟﺰﻧﺎﺑﻴﺮ ﺍﺯﺩﺍﺩ ﻫﺠﻮﻣُﻬﺎ ﻭﺇﺫﺍ ﺃﻫﻤﻠﻬﺎ ﺗﻔﺮﻗﺖ.

ﻓﺎﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻛﺬﻟﻚ، ﻛﻠﻤﺎ ﺗﻌﺎﻇﻤﻬﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍﻫﺘﻢ ﺑﻬﺎ ﻭﻗﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﺴﺮﺑﺖ ﻣﻦ ﻧﺎﻓﺬﺓ ﺍﻟﺠﺴﺪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﺳﺘﻘﺮﺕ ﻓﻴﻪ، ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﺗﺘﻨﺎﻣﻰ ﻣﺼﻴﺒﺔٌ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺗﻜﻮﻥ ﺭﻛﻴﺰﺓً ﻟﻠﻤﺎﺩﻳﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﺘﺴﺘﻤﺮ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻭﺗﻄﻮﻝ. ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺘﻰ ﻣﺎ ﺃﺯﺍﻝ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﺍﻟﻘﻠﻖَ ﻭﺍﻟﻮﻫﻢ ﻣﻦ ﺟﺬﻭﺭﻩ ﺑﺎﻟﺮﺿﺎ ﺑﻘﻀﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ، ﻭﺑﺎﻟﺘﻮﻛﻞ ﻋﻠﻰ ﺭﺣﻤﺘﻪ، ﺗﻀﻤﺤﻞ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔُ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﺗﺪﺭﻳﺠﻴﺎً ﻭﺗﺬﻫﺐ، ﻛﺎﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻮﺕ ﻭﺗﺠﻒ ﺃﻭﺭﺍﻗُﻬﺎ ﺑﺎﻧﻘﻄﺎﻉ ﺟﺬﻭﺭﻫﺎ.

ﻭﻟﻘﺪ ﻋﺒّﺮﺕُ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﻮﻣﺎً ﺑﻤﺎ ﻳﺄﺗﻲ:

ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺑﻼﺀٌ.

ﺩﻋﻬﺎ ﻳﺎ ﻣﺴﻜﻴﻦ ﻭﺗﻮﻛﻞْ.

ﻧﺠﻮﺍﻙَ ﻟﻠﻮﻫﺎﺏِ ﻓﺴَﻠِّﻢ.

ﻓﺈﺫﺍ ﺍﻟﻜﻞُّ ﻋﻄﺎﺀ. 

ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻟﻜﻞُّ ﺻﻔﺎﺀ.

ﻓﺒﻐﻴﺮ ﺍﻟﻠﻪ، ﺩﻧﻴﺎﻙ ﻣﺘﺎﻫﺎﺕٌ ﻭﺧﻮﻑ!

ﺃﻓﻴﺸﻜﻮ ﻣَﻦ ﻋﻠﻰ ﻛﺎﻫﻠﻪ ﻳﺤﻤﻞ ﻛﻞَّ ﺍﻟﺮﺍﺳﻴﺎﺕ ﺣﺒﺔَ ﺭﻣﻞٍ ﺿﺌﻴﻠﺔ؟

ﺇﻧﻤﺎ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺑﻼﺀٌ ﻓﻲ ﺑﻼﺀ.

ﻭﺃﺛﺎﻡٌ ﻓﻲ ﺃﺛﺎﻡ ﻭﻋﻨﺎﺀ

ﺃﻧﺖ ﺇﻥْ ﺗَﺒْﺴُﻢ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺒﻼﺀ.

ﻋﺎﺩﺕ ﺍﻷﺭﺯﺍﺀُ ﺗﺬﻭﻱ ﻭﺗﺬﻭﺏ.

ﺗﺤﺖ ﺷﻤﺲ ﺍﻟﺤﻖ ﺣﺒّﺎﺕِ ﺑَﺮَﺩ

ﻓﺈﺫﺍ ﺩﻧﻴﺎﻙ ﺑَﺴﻤﺔ،

ﺑﺴﻤﺔٌ ﻣﻦ ﺛﻐﺮﻫﺎ ﻳﻨﺴﺎﺏُ ﻳﻨﺒﻮﻉُ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ.

ﺑﺴﻤﺔٌ ﻧﺸﻮﻯ ﺑﺈﺷﺮﺍﻕ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ.

ﺑﺴﻤﺔٌ ﺣﻴﺮﻯ ﺑﺄﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ.

ﻧﻌﻢ..!ﺇﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺨﻔﻒ ﺣﺪَّﺓ ﺧﺼﻤﻪ ﺑﺎﺳﺘﻘﺒﺎﻟﻪ ﺑﺎﻟﺒِﺸﺮ ﻭﺍﻻﺑﺘﺴﺎﻣﺔ، ﻓﺘﺘﻀﺎﺀﻝ ﺳَﻮﺭﺓ ﺍﻟﻌﺪﺍﻭﺓ ﻭﺗﻨﻄﻔﺊ ﻧﺎﺭُ ﺍﻟﺨﺼﻮﻣﺔ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﺗﻨﻘﻠﺐ ﺻﺪﺍﻗﺔً ﻭﻣﺼﺎﻟﺤﺔً، ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻷﻣﺮ ﻓﻲ ﺍﺳﺘﻘﺒﺎﻝ ﺍﻟﺒﻼﺀ ﺑﺎﻟﺘﻮﻛﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﻳُﺬﻫِﺐُ ﺃﺛﺮﻩ.

ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ:

ﺃﻥ ﻟﻜﻞ ﺯﻣﺎﻥ ﺣُﻜﻤَﻪ، ﻭﻗﺪ ﻏﻴّﺮ ﺍﻟﺒﻼﺀُ ﺷﻜﻠَﻪ ﻓﻲ ﺯﻣﻦ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ ﻫﺬﺍ، ﻓﻼ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺒﻼﺀُ ﺑﻼﺀً ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺩﻭﻣﺎً، ﺑﻞ ﺇﺣﺴﺎﻧﺎً ﺇﻟﻬﻴﺎً ﻭﻟﻄﻔﺎً ﻣﻨﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻭﺃﺭﻯ ﺍﻟﻤﺒﺘﻠﻴﻦ ﺑﺎﻟﻀﺮ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻣﺤﻈﻮﻇﻴﻦ ﺳﻌﺪﺍﺀ ﺑﺸﺮﻁ ﺃﻟّﺎ ﻳﻤﺲ ﺩﻳﻨَﻬﻢ، ﻓﻼ ﻳﻮﻟﺪ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﻭﺍﻟﺒﻼﺀ ﻋﻨﺪﻱ ﻣﺎ ﻳﺠﻌﻠﻬﻤﺎ ﻣﻀﺮَّﻳﻦ ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻱ ﺣﺘﻰ ﺃُﻋﺎﺩﻳﻬﻤﺎ، ﻭﻻ ﻳﻮﺭﺛﺎﻧﻨﻲ ﺍﻹﺷﻔﺎﻕ ﻭﺍﻟﺘﺄﻟﻢ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﻤﺎ، ﺫﻟﻚ ﻣﺎ ﺃﺗﺎﻧﻲ ﺷﺎﺏ ﻣﺮﻳﺾ ﺇﻟّﺎ ﻭﺃﺭﺍﻩ ﺃﻛﺜﺮ ﺍﺭﺗﺒﺎﻃﺎً ﻣﻦ ﺃﻣﺜﺎﻟﻪ ﺑﺎﻟﺪﻳﻦ، ﻭﺃﻛﺜﺮ ﺗﻌﻠﻘﺎً ﻣﻨﻬﻢ ﺑﺎﻵﺧﺮﺓ.. ﻓﺄﻓﻬﻢ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﺑﺤﻖ ﻫﺆﻻﺀ ﻟﻴﺲ ﺑﻼﺀ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻧﻌﻤﺔٌ ﻣﻦ ﻧﻌﻤﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻌﺪ ﻭﻻ ﺗﺤﺼﻰ، ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﻳﻤﺪ ﺻﺎﺣﺒَﻪ ﺑﻤﻨﺎﻓﻊ ﻏﺰﻳﺮﺓ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻷﺧﺮﻭﻳﺔ ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻟﻪ ﺿﺮﺑﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻣﻊ ﺃﻧﻪ ﻳﻤﺲ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺰﺍﺋﻠﺔ ﺑﺸﻲﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺸﻘﺔ.

ﻧﻌﻢ، ﻗﺪ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺎﺏ ﺃﻥ ﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ ﻓﻲ ﻣﺮﺿﻪ ﻣﻦ ﺍﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﺑﺎﻷﻭﺍﻣﺮ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﻓﻴﻤﺎ ﺇﺫﺍ ﻭﺟﺪ ﺍﻟﻌﺎﻓﻴﺔ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﻨﺠﺮﻑ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻔﺎﻫﺔ ﺑﻄﻴﺶ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ ﻭﻧﺰﻭﺍﺗﻪ ﻭﺑﺎﻟﺴﻔﺎﻫﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﺸﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ.

ﺧﺎﺗﻤﺔ

ﺇﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻗﺪ ﺃﺩﺭﺝ ﻓﻲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻋﺠﺰﺍً ﻻ ﺣﺪ ﻟﻪ، ﻭﻓﻘﺮﺍً ﻻ ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ، ﺇﻇﻬﺎﺭﺍً ﻟﻘﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﺇﺑﺮﺍﺯﺍً ﻟﺮﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ. ﻭﻗﺪ ﺧﻠﻘﻪ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﻌﻴﻨﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺘﺄﻟﻢ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﺤﺼﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻬﺎﺕ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﻠﺬﺫ ﺑﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻬﺎﺕ، ﺇﻇﻬﺎﺭﺍً ﻟﻠﻨﻘﻮﺵ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﻷﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ. ﻓﺄﺑﺪﻋﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﺎﻛﻨﺔ ﻋﺠﻴﺒﺔ ﺗﺤﻮﻱ ﻣﺌﺎﺕ ﺍﻵﻻﺕ ﻭﺍﻟﺪﻭﺍﻟﻴﺐ، ﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺁﻻﻣﻬﺎ ﻭﻟﺬﺍﺋﺬﻫﺎ ﻭﻣﻬﻤﺘﻬﺎ ﻭﺛﻮﺍﺑﻬﺎ ﻭﺟﺰﺍﺅﻫﺎ، ﻓﻜﺄﻥ ﺍﻷﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻛﺒﻴﺮ ﺗﺘﺠﻠﻰ ﺃﻛﺜﺮُﻫﺎ ﺃﻳﻀﺎً ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻋﺎﻟﻢ ﺃﺻﻐﺮ، ﻭﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻣﻮﺭ ﻧﺎﻓﻌﺔ -ﻛﺎﻟﺼﺤﺔ ﻭﺍﻟﻌﺎﻓﻴﺔ ﻭﺍﻟﻠﺬﺍﺋﺬ ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ- ﺗﺪﻓﻌﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﻜﺮ ﻭﺗﺴﻮﻕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺎﻛﻨﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﻮﻇﺎﺋﻔﻬﺎ ﻣﻦ ﻋﺪﺓ ﺟﻬﺎﺕ، ﺣﺘﻰ ﻳﻐﺪﻭ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥُ ﻛﺄﻧﻪ ﻣﺎﻛﻨﺔ ﺷﻜﺮ. ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻷﻣﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐ ﻭﺍﻷﻣﺮﺍﺽ ﻭﺍﻵﻻﻡ ﻭﺳﺎﺋﺮ ﺍﻟﻤﺆﺛﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﻬﻴﺠﺔ ﻭﺍﻟﻤﺤﺮﻛﺔ، ﺗﺴﻮﻕ ﺍﻟﺪﻭﺍﻟﻴﺐَ ﺍﻷﺧﺮﻯ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﻤﺎﻛﻨﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻭﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﻭﺗﺜﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﻣﻜﻤﻨﻬﺎ ﻓﺘﻔﺠّﺮ ﻛﻨﻮﺯَ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﻭﺍﻟﻀﻌﻒ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ﺍﻟﻤﻨﺪﺭﺟﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﻫﻴﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ. ﻓﻼ ﺗﻤﻨﺢ ﺍﻟﻤﺼﺎﺋﺐُ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥَ ﺍﻻﻟﺘﺠﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺎﺭﺉ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﻭﺍﺣﺪ، ﺑﻞ ﺗﺠﻌﻠﻪ ﻳﻠﺘﺠﺊ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻳﺴﺘﻐﻴﺜﻪ ﺑﻠﺴﺎﻥ ﻛﻞ ﻋﻀﻮ ﻣﻦ ﺃﻋﻀﺎﺋﻪ. ﻭﻛﺄﻥ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﻤﺆﺛﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﻌﻠﻞ ﻭﺍﻟﻌﻘﺒﺎﺕ ﻭﺍﻟﻌﻮﺍﺭﺽ ﻳﻐﺪﻭ ﻗﻠﻤﺎً ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺁﻻﻑ ﺍﻷﻗﻼﻡ، ﻓﻴﻜﺘﺐ ﻣﻘﺪّﺭﺍﺕ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﻓﻲ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﺣﻴﺎﺗﻪ ﺃﻭ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻮﺡ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻲ، ﻭﻳﻨﺴﺞ ﻟﻮﺣﺔً ﺭﺍﺋﻌﺔ ﻟﻸﺳﻤﺎﺀ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻭﻳﺼﺒﺢ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻗﺼﻴﺪﺓ ﻋﺼﻤﺎﺀ ﻭﻟﻮﺣﺔ ﺇﻋﻼﻥ.. ﻓﻴﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﻓﻄﺮﺗﻪ.

اللمعة الأولى

 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ:87)

﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ:83)

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ (ﺍﻟﺘﻮﺑﺔ:129)

﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:173)

 (ﻻ ﺣﻮﻝَ ﻭﻻ ﻗﻮﺓَ ﺇﻟّﺎ ﺑﺎﻟﻠﻪ ﺍﻟﻌَﻠﻲِّ ﺍﻟﻌَﻈﻴﻢِ)

(ﻳﺎ ﺑَﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒَﺎﻗﻲ.. ﻳﺎ ﺑَﺎﻗﻲ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ)

 ﴿لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ﴾ (ﻓﺼﻠﺖ:٤٤)

    ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺍﻷﻭﻝ ﻣﻦ «ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺏ ﺍﻟﺤﺎﺩﻱ ﻭﺍﻟﺜﻼﺛﻴﻦ» ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺳﺖ ﻟﻤﻌﺎﺕ ﺗﺒﻴﻦ ﻛﻞٌّ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻮﺭﺍً ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﺭٍ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻟﻠﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻛﺔ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻘﺮﺍﺀﺗﻬﺎ ﺛﻼﺛﺎً ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ ﻣﺮﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻭﻗﺖ ﻓﻀﺎﺋﻞُ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻭﻻﺳﻴﻤﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻐﺮﺏ ﻭﺍﻟﻌﺸﺎﺀ.

   ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺍﻷﻭﻟﻰ

ﺇﻥَّ ﻣﻨﺎﺟﺎﺓ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻳﻮﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺘّﻰ -ﻋﻠﻰ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻭﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼﻡ- ﻫﻲ ﻣﻦ ﺃﻋﻈﻢ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ ﻭﺃﺭﻭﻋِﻬﺎ، ﻭﻣﻦ ﺃﺑﻠﻎِ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻞ ﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻭﻗﺒﻮﻟﻪ.

ﺗﺘﻠﺨﺺ ﻗﺼﺘُﻪ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺭﺓ ﺑﺄﻧﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻗﺪ ﺃُﻟﻘﻲَ ﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ، ﻓﺎﻟﺘﻘﻤﻪ ﺍﻟﺤﻮﺕُ، ﻭﻏﺸﻴَﺘْﻪ ﺃﻣﻮﺍﺝُ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻬﺎﺋﺠﺔُ، ﻭﺃﺳﺪﻝ ﺍﻟﻠﻴﻞُ ﺍﻟﺒﻬﻴﻢ ﺳﺘﺎﺭَﻩ ﺍﻟﻤﻈﻠﻢَ ﻋﻠﻴﻪ. ﻓﺪﺍﻫَﻤَﺘﻪ ﺍﻟﺮﻫﺒﺔُ ﻭﺍﻟﺨﻮﻑ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ ﻭﺍﻧﻘﻄﻌﺖ ﺃﻣﺎﻣَﻪ ﺃﺳﺒﺎﺏُ ﺍﻟﺮﺟﺎﺀ ﻭﺍﻧﺴﺪﺕ ﺃﺑﻮﺍﺏُ ﺍﻷﻣﻞ.. ﻭﺇﺫﺍ ﺑﻤﻨﺎﺟﺎﺗﻪ ﺍﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ﻭﺗﻀﺮﻋﻪ ﺍﻟﺨﺎﻟﺺ ﺍﻟﺰﻛﻲ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (ﺍﻷﻧﺒﻴﺎﺀ:87) ﻳُﺼﺒﺢ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﻭﺍﺳﻄﺔَ ﻧﺠﺎﺓ ﻭﻭﺳﻴﻠﺔ ﺧﻼﺹ.

ﻭﺳﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻫﻮ ﺃﻥَّ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻗﺪ ﻫَﻮﺕ ﻛﻠﻴﺎً ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﺿﻊ ﺍﻟﻤﺮﻋﺐ، ﻭﺳﻘﻄﺖ ﻧﻬﺎﺋﻴﺎً ﻓﻠﻢ ﺗﺤﺮّﻙ ﺳﺎﻛﻨﺎً ﻭﻟﻢ ﺗﺘﺮﻙ ﺃﺛﺮﺍً، ﺫﻟﻚ ﻷﻥَّ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﺬﻩ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ، ﻟﻴﺲ ﺇﻟّﺎ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻨﻔُﺬُ ﻗﺪﺭﺗُﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻮﺕ، ﻭﺗﻬﻴﻤﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺗﺴﺘﻮﻟﻲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺟﻮّ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ؛ ﺣﻴﺚ ﺇﻥَّ ﻛﻼ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺍﻟﺤﺎﻟﻚ ﻭﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻬﺎﺋﺞ ﻭﺍﻟﺤﻮﺕ ﺍﻟﻬﺎﺋﻞ ﻗﺪ ﺍﺗﻔﻖ ﻋﻠﻰ ﺍﻻﻧﻘﻀﺎﺽ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻼ ﻳُﻨﺠﻴﻪ ﺳﺒﺐٌ، ﻭﻻ ﻳﺨﻠّﺼﻪ ﺃﺣﺪٌ، ﻭﻻ ﻳﻮﺻﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﺳﺎﺣﻞ ﺍﻟﺴﻼﻣﺔ ﺑﺄﻣﺎﻥ، ﺇﻟّﺎ ﻣَﻦ ﺑﻴﺪﻩ ﻣﻘﺎﻟﻴﺪ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﺯﻣﺎﻡ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺍﻟﺤﻮﺕ ﻣﻌﺎً، ﻭﻣَﻦ ﻳﺴﺨّﺮ ﻛﻞَّ ﺷﻲﺀ ﺗﺤﺖ ﺃﻣﺮﻩ.. ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺨﻠﻖُ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ ﺗﺤﺖ ﺧﺪﻣﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻭﺭﻫﻦ ﺇﺷﺎﺭﺗﻪ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻮﻗﻒ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ، ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻳﻨﻔﻌﻮﻧﻪ ﺑﺸﻲﺀ!.

ﺃﺟﻞ ﻻ ﺗﺄﺛﻴﺮ ﻟﻸﺳﺒﺎﺏ ﻗﻂ.. ﻓﻤﺎ ﺇﻥ ﺭﺃﻯ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺑﻌﻴﻦ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ ﺃﻟّﺎ ﻣﻠﺠﺄ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺃﻣﺮﻩ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺇﻟّﺎ ﺍﻟﻠﻮﺍﺫ ﺇﻟﻰ ﻛﻨﻒ ﻣﺴﺒّﺐ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ، ﺍﻧﻜﺸﻒ ﻟﻪ ﺳﺮُّ ﺍﻷﺣﺪﻳﺔ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﺍﻟﺴﺎﻃﻊ، ﺣﺘﻰ ﺳﺨّﺮﺕْ ﻟﻪ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓُ ﺍﻟﺨﺎﻟﺼﺔ ﺍﻟﻠﻴﻞَ ﻭﺍﻟﺒﺤﺮَ ﻭﺍﻟﺤﻮﺕَ ﻣﻌﺎً، ﺑﻞ ﺗﺤﻮّﻝ ﻟﻪ ﺑﻨﻮﺭ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﺍﻟﺨﺎﻟﺺ ﺑﻄﻦُ ﺍﻟﺤﻮﺕ ﺍﻟﻤﻈﻠﻢ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺟﻮﻑَ ﻏﻮﺍﺻﺔ ﺃﻣﻴﻨﺔ ﻫﺎﺩﺋﺔ ﺗﺴﻴﺮ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺒﺤﺮ، ﻭﺃﺻﺒﺢ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺤﺮُ ﺍﻟﻬﺎﺋﺞ ﺑﺎﻷﻣﻮﺍﺝ ﺍﻟﻤﺘﻼﻃﻤﺔ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﻤﺘﻨﺰّﻩ ﺍﻵﻣﻦ ﺍﻟﻬﺎﺩﺉ، ﻭﺍﻧﻘﺸﻌﺖ ﺍﻟﻐﻴﻮﻡُ ﻋﻦ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ -ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ- ﻭﻛﺸﻒ ﺍﻟﻘﻤﺮُ ﻋﻦ ﻭﺟﻬﻪ ﺍﻟﻤﻨﻴﺮ ﻛﺄﻧﻪ ﻣﺼﺒﺎﺡ ﻭﺿﻲﺀ ﻳﺘﺪﻟﻰ ﻓﻮﻕ ﺭﺃﺳﻪ..

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻏﺪﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕُ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻬﺪّﺩﻩ ﻭﺗُﺮﻋﺒﻪ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺻﻮﺏٍ ﻭﺗﻀﻴّﻖ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺨﻨﺎﻕ، ﻏﺪﺕ ﺍﻵﻥ ﺗُﺴﻔﺮ ﻟﻪ ﻋﻦ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﻭﺗﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺎﻟﻮﺩّ ﻭﺍﻟﺤﻨﺎﻥ، ﺣﺘﻰ ﺧﺮﺝ ﺇﻟﻰ ﺷﺎﻃﺊ ﺍﻟﺴﻼﻣﺔ ﻭﺷﺎﻫﺪَ ﻟُﻄﻒ ﺍﻟﺮﺏ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﺗﺤﺖ ﺷﺠﺮﺓ ﺍﻟﻴَﻘﻄﻴﻦ.

ﻓﻠﻨﻨﻈﺮ ﺑﻨﻮﺭ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻔﺴﻨﺎ.. ﻓﻨﺤﻦ ﻓﻲ ﻭﺿﻊ ﻣﺨﻴﻒ ﻭﻣﺮﻋﺐ ﺃﺿﻌﺎﻑ ﺃﺿﻌﺎﻑ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻳﻮﻧﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ، ﺣﻴﺚ ﺇﻥ:

ﻟﻴﻠَﻨﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﻴّﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ، ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ.. ﻓﻤﺴﺘﻘﺒﻠُﻨﺎ ﺇﺫﺍ ﻧﻈﺮﻧﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻨﻈﺮ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ ﻳﺒﺪﻭ ﻣﻈﻠﻤﺎً ﻣﺨﻴﻔﺎً، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺃﺣﻠﻚ ﻇﻼﻣﺎً ﻭﺃﺷﺪ ﻋﺘﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻳﻮﻧﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﺑﻤﺎﺋﺔ ﻣﺮﺓ.

ﻭﺑﺤﺮَﻧﺎ، ﻫﻮ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﺍﻷﺭﺿﻴﺔ، ﻓﻜﻞ ﻣﻮﺟﺔ ﻣﻦ ﺃﻣﻮﺍﺝ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺘﻼﻃﻢ ﺗﺤﻤﻞ ﺁﻻﻑ ﺍﻟﺠﻨﺎﺋﺰ، ﻓﻬﻮ ﺇﺫﻥ ﺑﺤﺮ ﻣﺮﻋﺐ ﺭﻫﻴﺐ ﺑﻤﺎﺋﺔ ﺿﻌﻒ ﺭﻫﺒﺔ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﺃُﻟﻘﻲ ﻓﻴﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ.

ﻭﺣﻮﺗَﻨﺎ، ﻫﻮ ﻣﺎ ﻧﺤﻤﻠﻪ ﻣﻦ ﻧﻔﺲ ﺃﻣﺎﺭﺓ ﺑﺎﻟﺴﻮﺀ، ﻓﻬﻲ ﺣﻮﺕ ﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳﻠﺘﻘﻢ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﺍﻷﺑﺪﻳﺔ ﻭﻳَﻤﺤَﻘَﻬﺎ. ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﻮﺕُ ﺃﺷﺪ ﺿﺮﺍﻭﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻮﺕ ﺍﻟﺬﻱ ﺍﺑﺘﻠﻊ ﺳﻴﺪَﻧﺎ ﻳﻮﻧﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ؛ ﺇﺫ ﻛﺎﻥ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻘﻀﻲ ﻋﻠﻰ ﺣﻴﺎﺓ ﺃﻣﺪُﻫﺎ ﻣﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺣﻮﺗُﻨﺎ ﻧﺤﻦ ﻳﺤﺎﻭﻝ ﺇﻓﻨﺎﺀ ﻣﺌﺎﺕ ﺍﻟﻤﻼﻳﻴﻦ ﻣﻦ ﺳﻨﻲ ﺣﻴﺎﺓ ﺧﺎﻟﺪﺓ ﻫﻨﻴﺌﺔ ﺭﻏﻴﺪﺓ.

ﻓﻤﺎ ﺩﺍﻣﺖ ﻫﺬﻩ ﺣﻘﻴﻘﺔَ ﻭﺿﻌﻨﺎ، ﻓﻤﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺇﺫﻥ ﺇﻟّﺎ ﺍﻻﻗﺘﺪﺍﺀ ﺑﺴﻴﺪﻧﺎ ﻳﻮﻧﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻭﺍﻟﺴﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻫﺪﻳﻪ، ﻣُﻌﺮﺿﻴﻦ ﻋﻦ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﺟﻤﻴﻌﺎً، ﻣُﻘﺒﻠﻴﻦ ﻛﻠﻴﺎً ﻋﻠﻰ ﺭﺑﻨﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﺴﺒّﺐ ﺍﻷﺳﺒﺎﺏ ﻣﺘﻮﺟﻬﻴﻦ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻘﻠﻮﺑﻨﺎ ﻭﺟﻮﺍﺭﺣﻨﺎ، ﻣﻠﺘﺠﺌﻴﻦ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻗﺎﺋﻠﻴﻦ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ ﻣﺪﺭﻛﻴﻦ ﺑﻌﻴﻦ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ ﺃﻥْ ﻗﺪ ﺍﺋﺘﻤﺮ ﻋﻠﻴﻨﺎ -ﺑﺴﺒﺐ ﻏﻔﻠﺘﻨﺎ ﻭﺿﻼﻟﻨﺎ- ﻣﺴﺘﻘﺒﻠُﻨﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﺗﻘﺒﻨﺎ، ﻭﺩﻧﻴﺎﻧﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻀﻤﻨﺎ، ﻭﻧﻔﻮﺳُﻨﺎ ﺍﻷﻣّﺎﺭﺓ ﺑﺎﻟﺴﻮﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻴﻦ ﺟﻨﺒﻴﻨﺎ، ﻣﻮﻗﻨﻴﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺪﺭ ﺃﻥ ﻳﺪﻓﻊ ﻋﻨﺎ ﻣﺨﺎﻭﻑَ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻭﺃﻭﻫﺎﻣﻪ، ﻭﻻ ﻳﺰﻳﻞ ﻋﻨﺎ ﺃﻫﻮﺍﻝ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻣﺼﺎﺋﺒﻬﺎ، ﻭﻻ ﻳُﺒﻌﺪ ﻋﻨﺎ ﺃﺿﺮﺍﺭ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﺍﻷﻣّﺎﺭﺓ ﺑﺎﻟﺴﻮﺀ ﻭﺩﺳﺎﺋﺴﻬﺎ، ﺇﻟّﺎ ﻣَﻦ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞُ ﺗﺤﺖ ﺃﻣﺮﻩ، ﻭﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺗﺤﺖ ﺣُﻜﻤﻪ، ﻭﺃﻧﻔﺴُﻨﺎ ﺗﺤﺖ ﺇﺩﺍﺭﺗﻪ.

ﺗُﺮﻯ ﻣَﻦ ﻏﻴﺮُ ﺧﺎﻟﻖ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺿﻴﻦ ﻳﻌﺮﻑ ﺧﻠﺠﺎﺕ ﻗﻠﻮﺑﻨﺎ، ﻭﻣَﻦ ﻏَﻴﺮُﻩ ﻳﻌﻠﻢ ﺧﻔﺎﻳﺎ ﺻﺪﻭﺭﻧﺎ، ﻭﻣَﻦ ﻏَﻴﺮُﻩ ﻗﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ ﺇﻧﺎﺭﺓ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻟﻨﺎ ﺑﺨﻠﻖ ﺍﻵﺧﺮﺓ، ﻭﻣَﻦ ﻏﻴﺮُﻩ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﺬﻧﺎ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﻟﻮﻑ ﺃﻣﻮﺍﺝ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﻤﺘﻼﻃﻤﺔ ﺑﺎﻷﺣﺪﺍﺙ؟!. ﺣﺎﺵَ ﻟﻠﻪ ﻭﻛﻠّﺎ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻨﺎ ﻣﻨﺞٍ ﻏﻴﺮُﻩ ﻭﻣﺨﻠّﺺٌ ﺳﻮﺍﻩ، ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻮﻻ ﺇﺭﺍﺩﺗُﻪ ﺍﻟﻨﺎﻓﺬﺓ ﻭﻟﻮﻻ ﺃﻣﺮُﻩ ﺍﻟﻤﻬﻴﻤﻦ ﻟَﻤﺎ ﺗﻤﻜّﻦ ﺷﻲﺀٌ ﺃﻳﻨﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻭﻛﻴﻔﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﻤﺪ ﻳﺪَﻩ ﻟﻴﻐﻴﺚ ﺃﺣﺪﺍً ﺑﺸﻲﺀ!.

ﻓﻤﺎ ﺩﺍﻣﺖ ﻫﺬﻩ ﺣﻘﻴﻘﺔَ ﻭﺿﻌﻨﺎ ﻓﻤﺎ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺇﻟّﺎ ﺃﻥ ﻧﺮﻓﻊ ﺃﻛﻒّ ﺍﻟﻀﺮﺍﻋﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﺘﻮﺳﻠﻴﻦ، ﻣﺴﺘﻌﻄﻔﻴﻦ ﻧﻈﺮَ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺇﻟﻴﻨﺎ، ﺇﻗﺘﺪﺍﺀً ﺑﺴﺮ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺟﺎﺓ ﺍﻟﺮﺍﺋﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺳﺨّﺮﺕ ﺍﻟﺤﻮﺕَ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻳﻮﻧﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻛﺄﻧﻪ ﻏﻮﺍﺻﺔ ﺗﺴﻴﺮ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺒﺤﺮ، ﻭﺣﻮّﻟﺖ ﺍﻟﺒﺤﺮَ ﻣﺘﻨﺰّﻩٍ ﺟﻤﻴﻞٍ، ﻭﺃﻟﺒَﺴﺖ ﺍﻟﻠﻴﻞَ ﺟﻠﺒﺎﺏ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺍﻟﻮﺿﻲﺀ ﺑﺎﻟﺒﺪﺭ ﺍﻟﺴﺎﻃﻊ. ﻓﻨﻘﻮﻝ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.. ﻓﻨﻠﻔﺖ ﺑﻬﺎ ﻧﻈﺮَ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻹﻟﻬﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻨﺎ ﺑﻘﻮﻟﻨﺎ: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾ ﻭﻧﻠﻔﺘﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺩﻧﻴﺎﻧﺎ ﺑﻜﻠﻤﺔ: ﴿ﺳُﺒْﺤﺎﻧَﻚَ﴾ ﻭﻧﺮﺟﻮﻫﺎ ﺃﻥ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻔﺴﻨﺎ ﺑﻨﻈﺮ ﺍﻟﺮﺃﻓﺔ ﻭﺍﻟﺸﻔﻘﺔ ﺑﺠﻤﻠﺔ: ﴿إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾. ﻛﻲ ﻳﻌﻢّ ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻨﺎ ﻧﻮﺭ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭﺿﻴﺎﺀ ﺑﺪﺭ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﻳﻨﻘﻠﺐ ﺭﻋﺐُ ﻟﻴﻠﻨﺎ ﻭﺩﻫﺸﺘُﻪ ﺇﻟﻰ ﺃﻣﻦ ﺍﻷﻧﺲ ﻭﻃﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ﺍﻟﺒﻬﺠﺔ. ﻭﻟﺘﻨﺘﻬﻲ ﻣﻬﻤﺔُ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ ﻭﻧﺨﺘﺘﻢ ﻭﻇﻴﻔﺘَﻬﺎ ﺑﺎﻟﻮﺻﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺷﺎﻃﺊ ﺍﻷﻣﻦ ﻭﺍﻷﻣﺎﻥ ﺩﺧﻮﻻ ﻓﻲ ﺭﺣﺎﺏ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻹﺳﻼﻡ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﺃﻋﺪّﻫﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﻓﻨﺒﺤﺮ ﺑﻬﺎ ﻋﺒﺎﺏ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻓﻮﻕ ﺃﻣﻮﺍﺝ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ ﻭﺍﻟﻘﺮﻭﻥ ﺍﻟﺤﺎﻣﻠﺔ ﻟﺠﻨﺎﺋﺰ ﻻ ﻳﺤﺼﺮﻫﺎ ﺍﻟﻌﺪ، ﻭﻳﻘﺬﻓﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺪﻡ ﺑﺘﺒﺪﻝ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺗﻨﺎﻭﺑﻬﻤﺎ ﺍﻟﺪﺍﺋﺒﻴﻦ ﻓﻲ ﺩﻧﻴﺎﻧﺎ ﻭﺃﺭﺿﻨﺎ. ﻓﻨﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺸﻬﺪ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ ﺑﻤﻨﻈﺎﺭ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺒﺎﻫﺮ، ﻭﺇﺫﺍ ﻫﻮ ﻣﻨﺎﻇﺮ ﻣﺘﺒﺪّﻟﺔ، ﻣﺘﺠﺪﺩﺓ، ﻳُﺤَﻮِّﻝ ﺗﺠﺪُّﺩُﻫﺎ ﺍﻟﻤﺴﺘﻤﺮ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺣﺸﺔ ﺍﻟﺮﻫﻴﺒﺔ ﺍﻟﻨﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﻫﺒﻮﺏ ﺍﻟﻌﻮﺍﺻﻒ ﻭﺣﺪﻭﺙ ﺍﻟﺰﻻﺯﻝ ﻟﻠﺒﺤﺮ ﺇﻟﻰ ﻧﻈﺮٍ ﺗﻘْﻄﺮ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻌﺒﺮﺓُ، ﻭﻳﺒﻌﺚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺄﻣﻞ ﻭﺍﻟﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﺧﻠﻖ ﺍﻟﻠﻪ. ﻓﺘﺴﺘﻀﻲﺀ ﻭﺗﺘﺄﻟﻖ ﺑﺒﻬﺠﺔِ ﺍﻟﺘﺠﺪﺩ ﻭﻟﻄﺎﻓﺔِ ﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ. ﻓﻼ ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﻋﻨﺪﻫﺎ ﻧﻔﻮﺳُﻨﺎ ﺍﻷﻣّﺎﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﻗﻬﺮﻧﺎ، ﺑﻞ ﻧﻜﻮﻥ ﻧﺤﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻧﻘﻬﺮُﻫﺎ ﺑﻤﺎ ﻣﻨَﺤﻨﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﺮ ﺍﻟﻠﻄﻴﻒ، ﺑﻞ ﻧﻤﺘﻄﻴﻬﺎ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻤﻨﺒﺜﻘﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ. ﻓﺘُﺼﺒِﺢ ﺍﻟﻨﻔﺲُ ﺍﻷﻣّﺎﺭﺓ ﻃﻮﻉَ ﺇﺭﺍﺩﺗﻨﺎ، ﻭﺗﻐﺪﻭ ﻭﺳﻴﻠﺔً ﻧﺎﻓﻌﺔ ﻭﻭﺳﺎﻃﺔَ ﺧﻴﺮ ﻟﻠﻔﻮﺯ ﺑﺤﻴﺎﺓ ﺧﺎﻟﺪﺓ.

  اﻟﺨﻼﺻﺔ: ﺇﻥَّ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻤﺎ ﻳﺤﻤﻞ ﻣﻦ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺟﺎﻣﻌﺔ ﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻤّﻰ ﺍﻟﺒﺴﻴﻄﺔ ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ ﺯﻟﺰﻟﺔ ﺍﻷﺭﺽ ﻭﻫﺰّﺍﺗﻬﺎ، ﻭﻳﺘﺄﻟﻢ ﻣﻦ ﺯﻟﺰﺍﻝ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻋﻨﺪ ﻗﻴﺎﻡ ﺍﻟﺴﺎﻋﺔ. ﻭﻳﺨﺎﻑ ﻣﻦ ﺟﺮﺛﻮﻣﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﻛﻤﺎ ﻳﺨﺎﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺬﻧﺒﺎﺕ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻷﺟﺮﺍﻡ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ. ﻭﻳﺤﺐ ﺑﻴﺘَﻪ ﻭﻳﺄﻧﺲ ﺑﻪ ﻛﻤﺎ ﻳﺤﺐ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ. ﻭﻳﻬﻮﻯ ﺣﺪﻳﻘﺘﻪ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﻭﻳﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ ﻭﻳﺘﻮﻕ ﺇﻟﻴﻬﺎ.

ﻓﻤﺎ ﺩﺍﻡ ﺃﻣﺮُ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻫﻜﺬﺍ، ﻓﻼ ﻣﻌﺒﻮﺩَ ﻟﻪ ﻭﻻ ﺭﺏَّ ﻭﻻ ﻣﻮﻟﻰ ﻭﻻ ﻣﻨﺠﻰً ﻭﻻ ﻣﻠﺠﺄ ﺇﻟّﺎ ﻣَﻦ ﺑﻴﺪﻩ ﻣﻘﺎﻟﻴﺪُ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍﻷﺭﺽ ﻭﺯﻣﺎﻡ ﺍﻟﺬﺭﺍﺕ ﻭﺍﻟﻤﺠﺮﺍﺕ، ﻭﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺗﺤﺖ ﺣُﻜﻤﻪ، ﻃﻮﻉَ ﺃﻣﺮﻩ.. ﻓﻼﺑﺪ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﺤﺎﺟﺔ ﻣﺎﺳﺔ ﺩﺍﺋﻤﺎً ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻮﺟّﻪ ﺇﻟﻰ ﺑﺎﺭﺋﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺘﻀﺮﻉ ﺇﻟﻴﻪ ﺍﻗﺘﺪﺍﺀً ﺑﺴﻴﺪﻧﺎ ﻳﻮﻧﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ. ﻓﻴﻘﻮﻝ:

﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾