اللمعة الرابعة والعشرون

«رسالة الحجاب»

كانت هذه هي المسألة الثانية والثالثة من «المذكرة الخامسة عشرة» إلّا أن أهميتها جعلتها «اللمعة الرابعة والعشرين».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (الأحزاب:59)

هذه الآية الكريمة تأمر بالحجاب، بينما تذهب المدنية الزائفة إلى خلاف هذا الحُكم الرباني، فلا ترى الحجاب أمراً فطرياً للنساء، بل تعدّه أسراً وقيداً لهن. (حاشية) هذه فقرة من اللائحة المرفوعة إلى محكمة التمييز، ألقيت أمام المحكمة، فأسكتتها، وأصبحت حاشية لهذا المقام: «وأنا أقول لمحكمة العدل!:

إن إدانة من يفسر أقدس دستور إلهي وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاث مائة وخمسون مليوناً من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاث مائة وخمسين عاماً. هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدق به ثلاث مائة وخمسون ألف مفسر، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادنا السابقون في ألف وثلاث مائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانة هذا المفسر، قرار ظالم، لابد أن ترفضه العدالة، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولابد أن ترد ذلك الحكم الصادر بحقه وتنقضه». وسنبين جواباً أربعاً من الحِكم فقط من بين حِكم غزيرة دالة على كون هذا الحُكم القرآني تقتضيه فطرةُ النساء وخلافه غيرُ فطري.

الحكمة الأولى:

إنَّ الحجاب أمر فطري للنساء، تقتضيه فطرتُهن، لأنَّ النساء جُبلْن على الرقة والضعف، فيجدن في أنفسهن حاجةً إلى رجل يقوم بحمايتهن وحماية أولادهن الذين يؤثرنهم على أنفسهن، فهن مسوقات فطرياً نحو تحبيب أنفسهن لأزواجهن وعدم جلب نفرتهم وتجنّب جفائهم واستثقالهم.

ثم، إنَّ ما يقرب من سبعة أعشار النساء: إما متقدمات في العمر، أو دميمات لا يرغبن في إظهار شيبهن أو دمامتهن، أو أنهن يحملن غيرةً شديدة في ذواتهن يخشين أن تفضل عليهن ذوات الحُسن والجمال، أو أنهن يتوجّسن خيفةً من التجاوز عليهن وتعرّضهن للتهم.. فهؤلاء النساء يرغبن فطرة في الحجاب حذراً من التعرض والتجاوز عليهن وتجنباً من أن يكنّ موضعَ تهمة في نظر أزواجهن، بل نجد أن المُسِنّات أحرص على الحجاب من غيرهن.

وربما لا يتجاوز الاثنتين أو الثلاث من كل عشر من النساء هن: شاباتٌ وحسناوات لا يتضايقن من إبداء مفاتنهن! إذ من المعلوم أنَّ الإنسان يتضايق من نظرات من لا يحبه. وحتى لو فرضنا أن حسناء جميلة ترغب في أن يراها اثنان أو ثلاثة من غير المحارم فهي حتماً تستثقل وتنزعج من نظرات سبعة أو ثمانية منهم، بل تنفر منها.

فالمرأة لكونها رقيقةَ الطبع سريعة التأثر تنفر حتماً -ما لم تفسد أخلاقُها وتتبذّل- من نظرات خبيثة تُصوَّب إليها والتي لها تأثير مادي كالسمّ -كما هو مجرب- حتى إننا نسمع: أن كثيراً من نساء أوروبا وهي موطن التكشف والتبرج، يشكين إلى الشرطة من ملاحقة النظرات إليهن قائلات: إن هؤلاء السفلة يزجّوننا في سجن نظراتهم!

نخلص مما تقدم:

أنَّ رفعَ المدنية السفيهة الحجابَ وإفساحها المجال للتبرج يناقض الفطرةَ الإنسانية. وأن أمر القرآن الكريم بالحجاب -فضلاً عن كونه فطرياً- يصون النساء من المهانة والسقوط، ومن الذلة والأسر المعنوي ومن الرذيلة والسفالة، وهن معدن الرأفة والشفقة والرفيقات العزيزات لأزواجهن في الأبد.

والنساءُ -فضلاً عما ذكرناه- يحملن في فطرتهن تخوّفاً من الرجال الأجانب، وهذا التخوف يقتضي فطرةً التحجب وعدم التكشف، حيث تتنغص لذةٌ غير مشروعة لتسع دقائق بتحمل أذى حمل جنين لتسعة أشهر، ومن بعده القيام بتربية ولدٍ لا حامي له زهاء تسع سنين! ولوقوع مثل هذه الاحتمالات بكثرة تتخوف النساءُ فطرةً خوفاً حقيقياً من غير المحارم. وتتجنّبهم جِبلّة، فتنبهها خلقتُها الضعيفة تنبيهاً جاداً، إلى التحفظ وتدفعها إلى التستر، ليحول دون إثارة شهوة غير المحارم، وليمنع التجاوز عليها، وتدلها فطرتُها على أن حجابَها هو قلعتها الحصينة وخندقها الأمين.

ولقد طرق سمعَنا: أنَّ صباغ أحذية قد تعرض لزوجة رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة المفاتن، وراودها نهاراً جهاراً في قلب العاصمة «أنقرة»! أليس هذا الفعل الشنيع صفعةً قوية على وجوه أولئك الذين لا يعرفون معنى الحياء من أعداء العفة والحجاب؟

الحكمة الثانية:

إنَّ العلاقة الوثيقة والحُب العميق بين الرجل والمرأة ليسا ناشئين عما تتطلبه الحياةُ الدنيا من الحاجات فحسب، فالمرأة ليست صاحبة زوجها في حياة دنيوية وحدَها، بل هي رفيقتُه أيضاً في حياة أبدية خالدة.

فما دامت هي صاحبتُه في حياة باقية فلا ينبغي لها أن تلفت نظر غير رفيقها الأبدي وصديقها الخالد إلى مفاتنها، ولا تزعجه، ولا تحمله على الغضب والغيرة.

وحيث إنَّ زوجَها المؤمن، بحُكم إيمانه لا يحصر محبته لها في حياة دنيوية فقط ولا يوليها محبةً حيوانية قاصرة على وقت جمالها وزمن حُسنها، وإنما يكنّ لها حباً واحتراماً خالصَين دائمين لا يقتصران على وقت شبابها وجمالها بل يدومان إلى وقت شيخوختها وزوال حسنها، لأنها رفيقتُه في حياة أبدية خالدة.. فإزاء هذا لابد للمرأة أيضاً أن تخص زوجَها وحده بجمالها ومفاتنها وتقصر محبتها به، كما هو مقتضى الإنسانية، وإلّا ستفقد الكثير ولا تكسب إلّا القليل.

ثم إنَّ ما هو مطلوب شرعاً: أن يكون الزوج كفواً للمرأة، وهذا يعني ملاءمة الواحد للآخر ومماثلتهما، وأهم ما في الكفاءة هذه هي كفاءة الدين كما هو معلوم.

فما أسعد ذلك الزوج الذي يلاحظ تديّن زوجته ويقوم بتقليدها، ويصبح ذا دين، لئلا يفقد صاحبته الوفية في حياة أبدية خالدة!

وكم هي محظوظة تلك المرأة التي تلاحظ تديّن زوجها وتخشى أن تفرط برفيق حياتها الأمين في حياة خالدة، فتتمسك بالإيمان والتقوى.

والويل ثم الويل لذلك الرجل الذي ينغمس في سفاهة تفقده زوجتَه الطيبة الصالحة.

ويا لتعاسة تلك المرأة التي لا تقلد زوجَها التقي الورع، فتخسر رفيقها الكريم الأبدي السعيد.

والويل والثبور لذينك الزوجين الشقيين اللذين يقلدان بعضُهما البعض الآخر في الفسوق والفحشاء، فيتسابقان في دفع أحدهما الآخر في النار.

الحكمة الثالثة:

إنَّ سعادة العائلة في الحياة واستمرارها إنما هي بالثقة المتبادلة بين الزوجين، والاحترام اللائق والودّ الصادق بينهما، إلاّ أن التبرج والتكشف يخلّ بتلك الثقة ويفسد ذلك الاحترام والمحبة المتبادلة. حيث تلاقي تسعةٌ من عشرة متبرجات أمامَهن رجالاً يفوقون أزواجهن جمالاً، بينما لا ترى غيرَ واحدة منهن مَن هو أقل جمالاً من زوجها ولا تحبب نفسها إليه. والأمر كذلك في الرجال فلا يرى إلّا واحدٌ من كل عشرين منهم مَن هي أقل جمالاً من زوجته، بينما الباقون يرون أمامهم من يفقن زوجاتهن حسناً وجمالاً. فهذه الحالة قد تؤدي إلى انبعاث إحساسٍ دنيء وشعور سافل قبيح في النفس فضلاً عمّا تسببه من زوال ذلك الحُب الخالص وفقدان ذلك الاحترام، وذلك:

إنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحمل فطرةً شعوراً دنيئاً حيوانياً تجاه المحارم -كالأخت- لأن سيماء المحارم تُشعِر بالرأفة والمحبة المشروعة النابعين من صلة القربى. فهذا الشعور النبيل يحدّ من ميول النفس الشهوية، إلّا أن كشف ما لا يجوز كشفُه كالساق، قد يثير لدى النفوس الدنيئة حساً سافلاً خبيثاً لزوال الشعور بالحرمة، حيث إن ملامح المحارم تُشعِر بصلة القرابة، وكونها محرماً وتتميز عن غيرهم، لذا فكشفُ تلك المواضع من الجسد يتساوى فيه المحرم وغيره، لعدم وجود تلك العلامات الفارقة التي تستوجب الامتناع عن النظر المحرّم، ولربما يهيّج لدى بعض المحارم السافلين هوى النظرة الحيوانية! فمثل هذه النظرة سقوط مريع للإنسانية تقشعر من بشاعتها الجلود.

الحكمة الرابعة:

من المعلوم أن كثرة النسل مرغوب فيها لدى الجميع، فليس هناك أمة ولا دولة لا تدعو إلى كثرة النسل، وقد قال الرسول الكريم ﷺ: (تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة). بيد أن رفع الحجاب وإفساح المجال أمام التبرج والتكشف يحدُّ من الزواج، بل يقلل من التكاثر كثيراً، لأنَّ الشاب مهما بلغ فسوقُه وتحلله، فإنه يرغب في أن تكون صاحبتُه في الحياة مصونةً عفيفة، ولا يريدها أن تكون مبتذلة متكشفة مثله، لذا تجده يفضل العزوبة على الزواج. وربما ينساق إلى الفساد. أما المرأة فهي ليست كالرجل حيث لا تتمكن من أن تحدد اختيار زوجها.

والمرأة من حيث كونها مدبّرةً لشؤون البيت الداخلية، ومأمورةً بالحفاظ على أولاد زوجها وأمواله وكل ما يخصه، فإن أعظم خصالها هي: الوفاء والثقة. إلّا أن تبرجها وتكشّفها يفسد هذا الوفاءَ ويزعزع ثقةَ الزوج بها، فتجرّع الزوج آلاماً معنوية وعذاباً وجدانياً.

حتى إن الشجاعة والسخاء وهما خصلتان محمودتان لدى الرجال إذا ما وجدتا في النساء عدتا من الأخلاق المذمومة، لإخلالهما بتلك الثقة والوفاء، إذ تفضيان إلى الوقاحة والإسراف. وحيث إن وظيفة الزوج غير قاصرة على الائتمان على أموالها، وعلى الارتباط بها بل تشمل حمايتها والرحمة بها والاحترام لها فلا يلزمه ما يلزم الزوجة، أي لا يقيد اختياره بزوجةٍ واحدة، ويمكنه أن ينكح غيرها من النساء.

إنَّ بلادنا لا تقاس ببلدان أوروبا، فهناك وسائل صارمة للحفاظ -إلى حد ما- على الشرف والعفاف في وسط متبرج متكشف، منها المبارزة وأمثالها، فالذي ينظر بخبث إلى زوجة أحد الشرفاء عليه أن يعلق كفنَه في عنقه مقدماً. هذا فضلاً عن أن طبائع الأوروبيين باردةٌ جامدة كمناخهم. أما هنا في بلاد العالم الإسلامي خاصة فهي من البلدان الحارة قياساً إلى أوروبا، ومعلوم مدى تأثير البيئة في أخلاق الإنسان. ففي تلك الأصقاع الباردة، ولدى أناس باردين قد لا يؤدي التبرج الذي يثير الهوى الحيواني ويهيج الرغبات الشهوانية إلى تجاوز الحدود مثلما يؤدي إلى الإفراط والإسراف في أناس حساسين يثارون بسرعة في المناطق الحارة.

فالتبرج وعدم الحجاب الذي يثير هوى النفس، ويطلق الشهواتِ من عقالها يؤدي حتماً إلى الإفراط وتجاوز الحدود وإلى ضعف النسل وانهيار القوى. حيث إن الرجل الذي يمكنه أن يقضي وطره الفطري في شهر أو في عشرين يوماً يظن نفسه مضطراً إلى دفعه كل بضعة أيام. وحيث إن هناك عوارض فطرية -كالحيض- تجنّبه عن أهله وقد تطول خمسة عشر يوماً، تراه ينساق إلى الفحش إن كان مغلوباً لنفسه.

ثم إن أهل المدن لا ينبغي لهم أن يقلّدوا أهلَ القرى والأرياف في حياتهم الاجتماعية ويرفعوا الحجاب فيما بينهم، لأن أهل القرى يشغلهم شاغلُ العيش وهم مضطرون إلى صرف جهود بدنية قوية لكسب معيشتهم، وكثيراً ما تشترك النساءُ في أشغال متعبة، لذا لا يهيج ما قد ينكشف من أجزاء أجسامهن الخشنة شهوات حيوانية لدى الآخرين، فضلاً عن أنه لا يوجد في القرى سفهاء عاطلون بقدر ما هو موجود في المدن. فلا تبلغ مفاسدُها إلى عُشر ما في المدينة، لهذا لا تقاس المدن على القرى والأرياف.


حوار مع المؤمنات، أخواتي في الآخرة

بِاسْمِهِ سُبْحانَهُ

حينما كنت أُشاهد في عدد من الولايات اهتمام النساء برسائل النور اهتماماً حاراً خالصاً وعلمت اعتمادهن على دروسي التي تخص النور بما يفوق حدي بكثير، جئت مرةً ثالثة إلى مدرسة الزهراء المعنوية، هذه المدينة المباركة «اسبارطة»، فسمعت أن أولئك النساء الطيبات المباركات، أخواتي في الآخرة، ينتظرن مني أن أُلقي عليهن درساً، على غرار ما يُلقى في المساجد من دروس الوعظ والإرشاد. بيد أني أعاني أمراضاً عدة، مع ضعف وإنهاك شديدين حتى لا أستطيع الكلام ولا التفكر. ومع ذلك فقد سنحت بقلبي هذه الليلة خاطرةٌ قوية، هي:

أنك قد كتبت قبل خمس عشرة سنة رسالة «مرشد الشباب» بطلبٍ من الشباب أنفسهم، وقد استفاد منها الكثيرون، بينما النساءُ هن أحوجُ إلى مثل هذا «المرشد» في هذا الزمان.

فإزاء هذه الخاطرة وعلى الرغم مما أعانيه من اضطراب ومن عجز وضعف كتبتُ في غاية الاختصار لأخواتي المباركات ولبناتي المعنويات الشابات بعض ما يلزمهن من مسائل، ضمن نكات ثلاث.

النكتة الأولى:

لما كان أهم أساس من أسس رسائل النور هو «الشفقة» وإن النساء هن رائدات الشفقة وبطلات الحنان، فقد أصبحن أكثر ارتباطاً برسائل النور فطرةً. فهذه العلاقة الفطرية تُحس بها في كثير من الأماكن ولله الحمد والمنة.

ولقد غدت التضحية التي تنطوي عليها الشفقة والحنان ذات أهمية عظمى في زماننا هذا، إذ إنها تعبر عن إخلاص حقيقي وفداءٍ دون عوَضٍ ومقابل.

نعم، إنَّ فداء الأم بروحها إنقاذاً لولدها من الهلاك من دون انتظار لأجر، وتضحيتَها بنفسها بإخلاص حقيقي لأولادها باعتبار وظيفتها الفطرية، تدلان على وجود بطولة سامية رفيعة في النساء، بحيث يستطعن أن ينقذن حياتهن الدنيوية والأخروية بانكشاف هذه البطولة وانجلائها في أنفسهن، إلّا أن تياراتٍ فاسدة تحول دون ظهور تلك السجية القيمة القويمة وتمنع انكشافها، أو تصرف تلك التيارات هذه السجية الطيبة إلى غير محالها فتسيء استعمالها.

نورد هنا مثالاً واحداً من مئات أمثلتها:

إنَّ الوالدة الحنون تضع نصبَ عينها كل فداء وتضحية لتمنع عن ولدها المصائب والهلاك، لتجعله سليماً معافىً في الدنيا. فتربي ولدَها على هذا الأساس، فتنفق جميع أموالها ليكون ابنها عظيماً وسيداً آمراً. فتراها تأخذ ولدَها من المدارس العلمية الدينية وترسله إلى أوروبا، من دون أن تفكر في حياة ولدها الأبدية التي تصبح مهددة بالخطر. فهي إذ تسعى لتنقذه من سجن دنيوي، لا تهتم بوقوعه في سجن جهنم الأبدي، فتتصرف تصرفاً مخالفاً لفطرتها مخالفةً كلية، إذ بدلاً من أن تجعل ولدها البريء شفيعاً لها يوم القيامة تجعله مُدَّعياً عليها، إذ سيشكو ذلك الولد هناك قائلا لها: «لِمَ لم تقوي إيماني حتى سببتِ في هلاكي هذا؟!». وحيث إنه لم يأخذ قسطاً وافراً من التربية الإسلامية، فلا يبالي بشفقة والدته الخارقة، بل قد يقصر في حقها كثيراً.

ولكن إذا ما سعت تلك الوالدةُ إلى إنقاذ ولدها الضعيف من السجن الأبدي الذي هو جهنم، ومن الإعدام الأبدي الذي هو الموتُ في الضلالة، بشفقتها الحقيقية الموهوبة دون الإساءة في استعمالها، فإن ولدَها سيوصل الأنوارَ دوماً إلى روحها بعد وفاتها، إذ يسجل في صحيفة أعمالها مثلُ جميع الحسنات التي يعملها الولد. كما سيكون لها ولداً طيباً مباركاً ينعمان معاً في حياة خالدة، شفيعاً لها عند الله ما وسعته الشفاعة، لا شاكياً منها ولا مُدَّعياً عليها.

نعم، إنَّ أول أستاذ للإنسان وأكثر من يؤثر فيه تعليماً، إنما هو والدتُه.

سأبين بهذه المناسبة هذا المعنى الذي أتحسسه دائماً إحساساً قاطعاً في شخصي، وهو:

أُقسم بالله أن أرسخَ درس أخذته، وكأنه يتجدد عليّ، إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم أنى قد أخذت دروساً من ثمانين ألف شخص (حاشية) اعلم! أن السائق لهذا القول، أنى رأيت نفسي مغرورة بمحاسنها. فقلتُ: لا تملكين شيئاً!. فقالت: فإذن لا أهتم بما ليس لي من البدن.. فقلت: لابد أن لا تكوني أقل من الذباب.. فإن شئتِ شاهداً فانظري إلى هذا الذباب، كيفَ ينظِّفُ جناحَيهِ برجليهِ ويمسحُ عينيه ورأسه بيديه! سبحان من ألهَمَه هذا، وصيّره أستاذاً لي وأفحمَ به نفسي!. (المثنوي العربي النوري – ذيل القطرة). بل أرى يقينا أن سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور.

بمعنى أنى أشاهد درس والدتي -رحمها الله- وتلقيناتها لفطرتي وروحي وأنا في السنة الأولى من عمري، بذورَ أساس ضمن الحقائق العظيمة التي أراها الآن وأنا في الثمانين من عمري.

مثال ذلك: أن «الشفقة» التي هي أهم أساس من الأسس الأربعة في مسلكي ومشربي في الحياة.. وإن «الرأفة والرحمة» التي هي حقيقة عظمى أيضاً من حقائق رسائل النور، أشاهدهما يقيناً بأنهما نابعتان من أفعال تلك الوالدة الرؤوف ومن أحوالها الشفيقة ومن دروسها المعنوية.

نعم، إنَّ الشفقة والحنان الكامنين في الأمومة والتي تحملها بإخلاص حقيقي وتضحية وفداء قد أُسيءَ استعمالها في الوقت الحاضر، إذ لا تفكر الأم بما سينال ولدُها في الآخرة من كنوز هي أثمن من الألماس، بل تصرف وجهه إلى هذه الدنيا التي لا تعدل قِطعاً زجاجية فانية، ثم تشفق على ولدها وتحنو عليه في هذا الجانب من الحياة. وما هذا إلّا إساءةٌ في استعمال تلك الشفقة.

إنَّ مما تثبت بطولةَ النساء في تضحيتهن العظيمة دون انتظار لأجر ولا عوض، من دون فائدة يجنينها لأنفسهن ومن دون رياء وإظهارٍ لأنفسهن، هي استعدادهن للفداء بأرواحهن لأجل الولد، أقول إنَّ مما يثبت ذلك هو ما نراه في الدجاجة التي تحمل مثالاً مصغراً من تلك الشفقة، شفقة الأمومة وحنانها، فهي تهاجم الأسد، وتفدي بروحها، حفاظاً على فراخها الصغار.

وفي الوقت الحاضر، إنَّ ألزم شيء وأهم أساس في التربية الإسلامية وأعمال الآخرة، إنما هو «الإخلاص» فمثل هذه البطولة الفائقة في الشفقة تضم بين جوانحها الإخلاص الحقيقي.

فإذا ما بدت هاتان النقطتان في تلك الطائفة المباركة، طائفة النساء، فإنهما سيكونان مدار سعادة عظمى في المحيط الإسلامي.

أما تضحية الآباء فلا تكون دون عوض قطعاً، وإنما تطلب الأجر والمقابل من جهات كثيرة تبلغ المائة، وفي الأقل تطلب الفخر والسمعة. ولكن مع الأسف فإن النساء المباركات يدخلن الرياء والتملق بطراز آخر وبنوع آخر نتيجة ضعفهن وعجزهن، وذلك خلاصاً من شر أزواجهن الظلمة وتسلطهم عليهن.

اللمعة الثالثة والعشرون

«رسالة الطبيعة»

كانت هذه الرسالة هي المذكّرة السادسة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة» إلّا أن أهميتها الفائقة جعلَتها «اللمعة الثالثة والعشرين» فهي تُبيد تيار الكفر النابع من مفهوم «الطبيعة» إبادة تامة وتُفتّت حجر زاوية الكفر وتحطّم ركيزته الأساس.

تنبيه

لقد بيَّنَت هذه المذكرة ماهيةَ المذهب الذي يسلكه الجاحدون من الطبيعيين، وأوضحَت مدى بُعد مسلكهم عن موازين العقل، ومدى سماجته وخرافيته، وذلك من خلال تسعة محالات مستخلَصة من تسعين محالاً في الأقل. ولما كان قسمٌ من تلك المحالات قد وضّح في رسائل أخرى فقد جاء هنا مدرجاً ضمن محالات أخرى، أو جاء مختصراً بعضَ الشيء.

والسؤال الذي يرد للخاطر هو: كيف ارتضى فلاسفةٌ مشهورون وعلماء معروفون بهذه الخرافة الفاضحة وسلّموا لها زمام عقولهم؟!

والجواب:  إنَّ أولئك لم يتبينوا حقيقةَ مسلكهم، (حاشية) إنَّ الداعي الأشد إلحاحاً إلى تأليف هذه الرسالة هو ما لمسته من هجوم صارخ على القرآن الكريم، والتجاوز الشنيع على الحقائق الإيمانية بتزييفها، وربط أواصر الإلحاد بالطبيعة، وإلصاق نعت «الخرافة» على كل ما لا تدركه عقولهم القاصرة العفنة… وقد أثار هذا الهجوم غيظاً شديداً في القلب ففجر فيه حمماً سرت إلى أسلوب الرسالة، فأنزلت هذه الحمم والصفعات على أولئك الملحدين وذوي المذاهب الباطلة المعرضين عن الحق، وإلّا فليس من دأب «رسائل النور» إلّا القول الليّن في الخطاب والرفق في الكلام. ولا باطنَ مذهبهم، ولم يدركوا ما يقتضيه مسلكهم من «محالات» وما يستلزمه مذهبهم من أمور فاسدة وممتنعة عقلاً، والتي ذكرت في بداية كل محال يرد في هذه الرسالة.

وأنا على استعداد كامل لإقامة البراهين الدامغة ونصب الحجج البديهية الواضحة لإثبات ذلك لكل مَن يساوره الشك، وأبينها لهم بإسهاب وتفصيل.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ اَفِي اللّٰهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ (إبراهيم: 10).

هذه الآية الكريمة بما فيها من استفهام إنكاري تدل دلالة قاطعة على وجود الله ووحدانيته بوضوح وجلاء بدرجة البداهة.

وقبل أن نوضح هذا السرّ نودّ أن ننبه إلى ما يأتي:

دعيتُ لزيارة «أنقرة» سنة 1338(1922م) وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلّا أنني أبصرتُ -خلال موجة الفرح هذه- زندقةً رهيبة تدبّ بخبثٍ ومكرٍ، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من أعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسُور هذه الآية الكريمة، من هذا الغول الرهيب الذي يريد أن يتعرض لأركان الإيمان، فكتبتُ برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وأفكارها من نور هذه الآية الكريمة لإثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة «يَني كون» في أنقرة.. إلّا أنني لم ألمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها إلى أذهان الناس. وسبب ذلك كونه مختصراً ومجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة المهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت أوهامُ ذلك الإلحاد واستشرت في صفوف الناس مع الأسف الشديد، مما اضطرني إلى إعادة كتابة تلك الرسالة ببراهينها بالتركية، مع شيء من البيان والتوضيح فكانت هذه الرسالة.

ولما كان بعض أقسام تلك البراهين قد وضّحت توضيحاً كافياً في بعض «رسائل النور» فسنذكرها هنا مجملة، كما أن البعض من البراهين الأخرى المبثوثة في ثنايا رسائل أخرى تبدو مندرجةً في هذه الرسالة، وكأن كل برهان منها جزء من هذه الرسالة.

المقدمة

أيها الإنسان!

اعلم أن هناك كلماتٍ رهيبة تفوح منها رائحةُ الكفر النتنة، تخرج من أفواه الناس، وترددها ألسنةُ أهل الإيمان دون علمهم بخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الخطورة:

أولاها: قولهم عن الشيء: «أوجدته الأسباب» أي إن الأسباب هي التي توجِدُ الشيء المعين.

ثانيتها: قولهم عن الشيء: «تشكّل بنفسه» أي إن الشيء يتشكل من تلقاء نفسه، ويوجِد نفسَهُ، بنفسه وينتهي إلى صورته التي انتهى إليها كما هي.

ثالثتها: قولهم عن الشيء: «اقتضته الطبيعة» أي إن الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي أوجدته واقتضته.

نعم، مادامت الموجوداتُ موجودةً وقائمة أمامنا بما لا يمكن إنكارها مطلقاً، وأن كل موجود يأتي إلى الوجود في غاية الإتقان والحكمة، وهو ليس بقديم أزلي، بل هو محدَث جديد.

فيا أيها الملحد! إما أنك تقول أن هذا الموجود -وليكن هذا الحيوان مثلاً- توجِده أسبابُ العالم، أي إنه يكتسب الوجود نتيجة اجتماع الأسباب المادية، أو إنه تشكّل بنفسه، أو أنه يرد إلى الوجود بمقتضى الطبيعة ويظهر بتأثيرها! أو عليك أن تقول:

إنَّ قدرة الخالق القدير ذي الجلال هي التي توجِده؛ لأنه لا سبيل إلى حدوثه غير هذه الطرق الأربعة، حسب موازين العقل، فإذا ما أُثبت -إثباتاً قاطعاً- أن الطرق الثلاثة الأولى محالةٌ، باطلة ممتنعة، غير ممكنة، فبالضرورة والبداهة يثبت الطريقُ الرابع، وهو طريق وحدانية الخالق بيقين جازم لا ريب فيه.

أما الطريق الأول:

وهو القول بأن: «اجتماع أسبابِ العالم يخلق الموجودات ويوجدُها، ويؤدي إلى تشكيل الأشياء» نذكر منه ثلاثة محالات فقط، من بين محالاته الكثيرة جداً.

المحال الأول:  ولنوضحه بهذا المثال:

تحوي الصيدلية مئات الدوارق والقناني المملوءة بموادَّ كيمياوية متنوعة، وقد احتجنا -لسبب ما- إلى معجون حيوي من تلك الأدوية والمواد لتركيب مادة حيوية خارقة مضادة للسموم.. فلما دخلنا الصيدلية وجدنا فيها أعداداً هائلة من أنواع ذلك المعجون الحيوي، ومن تلك المادة الحيوية المضادة للسموم، وعندما بدأنا بتحليل كل معجون رأيناه مركباً مستحضراً بدقة متناهية من موادَّ مختلفة طبق موازين محسوبة، فقد أُخذ من تلك القناني درهم (غرام واحد) من هذه.. وثلاثة غرامات من تلك.. وعشرة غرامات من الأخرى.. وهكذا فقد أُخِذَ من كل منها مقاديرُ مختلفة، بحيث لو كان ما أُخِذَ من هذه المقادير أقل منها بجزء من الغرام، أو أزيد، لفَقد المعجون خواصه الحيوية…

والآن جئنا إلى «المادة الحيوية المضادة للسموم» ودققنا فيها نظراً كيمياوياً، فرأيناها قد ركّبت بمقادير معينة أُخذت من تلك القناني على وفْق موازين حساسة بحيث إنها تفقد خاصيتها لو غلطنا في الحساب فزادت المواد المركبة منها أو نقصت بمقدار ذرة واحدة.

نخلص من هذا:  أنَّ المواد المتنوعة قد استُحضرت بمقادير مختلفة، على وفق موازين دقيقة. فهل يمكن أو يُعقل أن يتكون ذلك المعجونُ المحسوب كلُّ جزء من أجزائه حساباً دقيقاً من جرّاء مصادفة غريبة، أو من نتيجة تصادم القناني بحدوث زلزالٍ عاصف في الصيدلية يؤدي إلى سيلان تلك المقادير بموازينها المعينة، واتحادها بعضها بالبعض الآخر مكوناً معجوناً حيوياً؟!. فهل هناك محالٌ أغرب من هذا وأكثر بعداً عن العقل والمنطق؟! وهل هناك خرافة أخرق منها؟! وهل هناك باطل أوضح بطلاناً من هذا؟! والحمار نفسه لو تضاعفت حماقته ونطق لقال: يا لحماقة مَن يقول بهذا القول!.

وفي ضوء هذا المثال نقول: إنَّ كل كائن حي هو مركبٌ حيوي، ومعجون ذو حياة. وإن كل نبات شبيه بترياق حيوي مضاد للسموم إذ ركّب من أجزاء مختلفة ومن مواد متباينة، على وفق موازين دقيقة في منتهى الحساسية.. فلا ريب أنَّ إسناد خلقِ هذا الكائن البديع إلى الأسباب المادية والعناصر، والقول بأن «الأسباب أوجدَته» باطلٌ ومحالٌ وبعيد عن موازين العقل بمثل بُعدِ وبطلان ومحالية تكوّن المعجون الحيوي بنفسه من سيلان تلك المواد من القناني.

وحصيلة الذي قلناه آنفاً: هي أنَّ المواد الحيوية المستحضرة بميزان القضاء والقدر للحكيم العليم في هذا العالم الكبير الذي هو صيدليةٌ ضخمة رائعة لا يمكن أن توجد إلّا بحكمةٍ لا حدّ لها، وبعلم لانهاية له، وبإرادة تشمل كل شيء وتحيط بكل شيء، وإلّا فما أشقاه من يتوهم «أن هذه الموجودات هي نتاج عناصر الكون الكلية» وهي العمياء الصماء في جريانها وتدفقها، أو هي «من شؤون طبائع المواد» أو «من عمل الأسباب المادية»!.

لاشك أن صاحب هذا الوهم هو أشقى أشقياء العالم، وأعظمُهم حماقة، وأشدّ هذياناً من هذيان مخمور فاقد للوعي عندما يخطر بباله أن ذلك الترياق العجيب قد أوجد نفسه بنفسه من جراء تصادم القناني وسيلان ما فيها!

نعم، إنَّ ذلك الكفر هذيانُ أحمقَ وجنونُ سكرانٍ.

المحال الثاني:  هو أنه إنْ لم يُسنَد خلقُ كل شيء إلى الواحد الأحد القدير ذي الجلال، وأُسند إلى الأسباب المادية، يلزم عندئذ أن يكون لأغلب عناصر العالم وأسبابه دخلٌ وتأثير في وجود كل ذي حياة.

والحال أن اجتماع الأسباب المتضادّة والمتباينة فيما بينها، بانتظام تام، وبميزان دقيق وباتفاق كامل في جسم مخلوق صغير -كالذباب مثلاً- هو محال ظاهر إلى حد يرفضه مَن له عقل بمقدار جناح ذبابة، ويُردّه قائلاً: هذا محال.. هذا باطل.. هذا غير ممكن..!

ذلك لأنَّ جسم الذباب الصغير ذو علاقة مع أغلب عناصر الكائنات، ومع مظاهرها وأسبابها المادية، بل هو خلاصة مستخلصة منها، فإن لم يُسنَد إيجادُه إلى القدرة الإلهية المطلقة، يلزم أن تكون تلك الأسبابُ المادية حاضرةً ومحتشدة جَنبَ ذلك الجسم مباشرة عند إيجاده، بل يلزم أن تدخل في جسمه الضئيل، بل يجب دخولُها في حجيرة العين التي تمثل نموذج الجسم، ذلك لأنَّ الأسباب إنْ كانت ماديةً يلزم أنْ تكون قرب المسبَّب وداخلةً فيه، وعندئذٍ يقتضي قبولُ دخول جميع العناصر في جميع أركان العالم مع طبائعها المتباينة في ذلك المسبّب دخولاً مادياً، وعملها في تلك الحجيرة المتناهية في الصغر بمهارة وإتقان أفلا يخجل ويستحي من هذا القول حتى أشد السوفسطائيين بلاهةً؟

المحال الثالث:  هو أنَّ الموجود إنْ كانت له وحدة واحدة، فلابدّ أن يكون صادراً من مؤثر واحد، ومن يدٍ واحدة، حسب مضمون القاعدة البديهية المقررة: «الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد». فإن كان ذلك الموجود في غاية الانتظام والميزان، وفي منتهى الدقة والإتقان، وكان مالكاً لحياة جامعة، فمن البداهة أنه لم يصدر من أيدٍ متعددة قط -التي هي مدعاة الاختلاف والمنازعة- بل لابد أنه صادر من يد واحدة لواحد أحد قدير حكيم؛ لذا فإن إسناد الموجود، المنتظم، المتناسق، الموزون، الواحد، إلى أيدي الأسباب الطبيعية العمياء الصمّاء الجامدة غير المنضبطة، والتي لا شعور لها ولا عقل، وهي في اختلاط شديد يزيد من عماها وصممها، ثم الإدعاء بأن تلك الأسباب هي التي تقوم بخلق ذلك الموجود البديع واختياره من بين إمكاناتٍ واحتمالات لا حدّ لها، أقول إنَّ قبول هذا الإسناد والإدعاء هو -في الحقيقة- قبول لمائة محال ومحال، إذ هو بعيد كل البُعد عن جميع مقاييس العقل وموازينه..

دعنا نترك هذا المحال ونتجاوزه مؤقتاً، لننظر إلى تأثير «الأسباب المادية» الذي يتم بالتّماس والمباشرة. فبينما نرى أن تماسَّ تلك الأسباب الطبيعية هو تماسٌّ بظاهر الكائن الحي فحسب، ونرى أن باطن ذلك الكائن الذي لا تصل إليه أيدي تلك الأسباب المادية ولا يمكنها أن تمسّه بشيء، هو أدق نظاماً، وأكثر انسجاماً، من الظاهر، بل ألطفُ منه خلقاً وأكمل إتقاناً. بل الأحياء الصغيرة والمخلوقات الدقيقة التي لا يمكن أن تستوعب تلك الأسباب المادية قطعاً ولا تصل إليها أيديها ولا وسائلُها هي أعجبُ إتقاناً من أضخم المخلوقات وأبدع
خلقاً منها.

فلا يكون إذن إسناد خلقها إلى تلك الأسباب العمياء الصماء الجامدة الجاهلة الغليظة المتباعدة المتضادّة إلّا عمىً ما بعده عمىً، وصمماً ليس وراءه صمم.

أما المسألة الثانية:

وهي قولهم عن الشيء: «تشكّل بنفسه». فهي تنطوي على محالات كثيرة، ويتضح بطلانُها ومحاليتها من نواح كثيرة جداً إلّا أننا نتناول هنا ثلاثة محالات منها كنماذج ليس إلّا:

المحال الأول:  أيها الجاحد العنيد! إنَّ طغيان غرورك، جعلك تتردى في أحضان حماقة متناهية، فتقدِمُ على قبول مائة محال ومحال!

إنك أيها الجاحد العنيد موجودٌ بلا شك، وإنك لست من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغيّر، بل أنت معمل عظيم متقن الصنع، أجهزتُه دائمة التجدد. وأنت كالقصر المنيف، أنحاؤه دائمة التحول.. فذراتُ وجودك أنت تعمل دوماً وتسعى دون توقف، وترتبط بوشائج وأواصر مع مظاهر الوجود في الكون من حولك، فهي في أخذ وعطاء مع الكائنات، وبخاصة من حيث الرزق، ومن حيث بقاء النوع.

إنَّ الذرات العاملة في جسدك تحتاط من أن تخل بتلك الروابط، وتتحاشى أن تنفصم تلك العلاقات، فهي حذرة في تصرفها هذا، وتتخذ موقفاً ملائماً لها على وفق تلك العلاقات كأنها تنظر إلى جميع الكائنات وتشاهدها، ثم تراقب موقعك أنت منها، وأنت بدورك تستفيد حسب ذلك الوضع الخارق لتلك الذرات وتنتفع وتتمتع بمشاعرك وحواسك الظاهرة والباطنة.

فإن لم تعتقد أن تلك الذرات موظفاتٌ صغيرات لدى القدير الأزلي، ومأموراتٌ مسخرات منقادات لقوانينه سبحانه، أو هي جنود مجندة في جيشه المنظم، أو هي نهاياتُ قلم القدر الإلهي، أو هي نقاط ينقطها قلم القدرة الإلهية.. لزمك أن تقول إنَّ لكل ذرة عاملة -في عينك مثلاً- عيناً واسعة بصيرة، ترى جميعَ أجزاء جسدك ونواحيه، وتشاهد جميعَ الكائنات التي ترتبط بها، وتعلم جميعَ ماضيك ومستقبلك، وتعرف أصلك وآباءك وأجدادك مع نسلك وأحفادك وتدرك منابع عناصرك، وكنوز رزقك.. فهي إذن ذات عقل جبار!!

فيا معطّل عقله في مثل هذه المسائل! أليس في إسناد هذا العلم والشعور والعقل الذي يسع ألفاً من مثل «أفلاطون» إلى ذرة في عقل مَن لا يملكه مثلك، خرافة خرقاء، وبلاهة بلهاء؟!.

المحال الثاني:  إنَّ جسمك أيها الإنسان يشبه قصراً فخماً عامراً، له من القباب ألف قُبَّةٍ وقُبَّة، وكل قُبَّةٍ من قبابه مُعَلقة فيها الأحجارُ، ومرصوصة بعضها إلى البعض الآخر في بناء محكَم دون عمد. بل إن وجودك -لو فكرت- هو أعجبُ من هذا القصر بألوف المرات، لأنَّ قصر جسمك أنت في تجدد مستمر يبلغ الكمال في الانتظام والروعة.

فلو صرفنا النظر عما تحمله من روح ومن قلب ومن لطائف معنوية وهي معجزةٌ بذاتها، وأخذنا بنظر الاعتبار والتفكر عضواً واحداً فقط من أي عضو كان من بين أعضاء جسدك نراه شبيهاً بمنزلٍ ذي قباب. فالذرات التي فيه قد تعاونَت وتعانقت بعضها مع البعض الآخر، في انتظام تام، وموازنة كاملة -كالأحجار في تلك القباب- وكونت بناءً خارقاً، وصنعة رائعة بديعة، فأظهرت للعيان معجزة عجيبة من معجزات القدرة الإلهية «كالعين واللسان» مثلاً.

فلو لم تكن هذه الذرات مأمورةً منقادة لأمر الصانع القدير، فإن كل ذرة منها إذن لابد أن تكون حاكمةً حُكماً مطلقاً على بقية ذرات الجسد ومحكومةً لها حُكماً مطلقاً كذلك، وأن تكون مثل كلٍ منها، وضدّ كل منها -من حيث الحاكمية- في الوقت نفسه وأن تكون مناط أغلب الصفات الجليلة التي لا يتصف بها إلّا الله سبحانه وتعالى، وأن تكون مقيدةً كلياً، وطليقةً كلياً في الوقت نفسه…

فالمصنوع الواحد المنتظم والمنسق الذي لا يمكن أن يكون -بسر الوحدة- إلّا أثراً من آثار الواحد الأحد محالٌ أن يُسند إلى تلك الذرات غير المحدودة، بل هو مائة محال في محال…! يدرك ذلك كل من له مِسكةٌ من عقل!

المحال الثالث:  إنْ لم يكن وجودُك هذا قد كتب بقلم الواحد الأحد القدير الأزلي، وكان مطبوعاً بمطابع الطبيعة والأسباب، فيلزم عندئذٍ وجود قوالب طبيعية بعددِ ألوف الألوف من المركبات المنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يحصرها العد، ابتداءً من أصغر الخلايا العاملة بدقة متناهية وانتهاءً بأوسع الأجهزة العاملة فيه.

ولفهم هذا المحال نأخذ الكتاب الذي بين أيدينا مثالاً، فنقول:

إنْ اعتقدتَ أنَّ هذا الكتاب مستنسخ باليد، فيكفي إذن لاستنساخه قلمٌ واحد، يُحرِّكه علمُ كاتبه ليدوّن به ما يشاء، ولكن إن لم يُعتقد أنه مستنسخ باليد ولم يُسند إلى قلم الكاتب، وافتُرِض أنه قد تشكّل بنفسه، أو أُسندت كتابتُه إلى الطبيعة، فيلزم عندئذٍ أن يكون لكل حرفٍ من حروفه قلمٌ معدني خاص به، ويكون عدد الأقلام بعدد تلك الحروف -بمثل وجود الحروف المعدنية في المطبعة والتي هي بعدد الحروف وأنماطها- أي يلزم وجودُ أقلام بعدد الحروف بدلاً من قلم واحد للاستنساخ، وقد يكون هناك في تلك الحروف، حروفٌ كبيرة مكتوب فيها بخط دقيق ما في صحيفة كاملة، فيلزم إذن لكتابة مثل هذه الحروف الكبيرة ألوف الأقلام الدقيقة.

والآن ماذا تقول لو كانت تلك الحروف متداخلةً بعضها بالبعض الآخر بانتظام كامل متخذةً هيأة جسدك وشكله؟! فيلزم عندئذٍ أن يكون لكل جزء من أجزاء كل دائرة من دوائره المذكورة قوالبُ عديدةٌ بعدد تلك المركبات التي لا يحصرها العدّ!

هَبْ أنك تقول لهذه الحالة المتضمنة لمائة محال في محال، أنها ممكنةَ الحدوث! فحتى في هذه الحالة -على فرض إمكانها- أفلا يلزم لصنع تلك الأقلام وعمل تلك القوالب والحروف المعدنية أقلامٌ وقوالب وحروفٌ بعددها لتصبّ وتسكب فيها إنْ لم يُسند صنعُها جميعاً إلى قلم واحد؟ ذلك لأنَّ جميعها مصنوعة ومحدثة منتظمة، ومفتقرة إلى صانع ليصنعها، ومُحدِثٍ ليحدثها، وهكذا الأمر يتسلسل كلما أوغلت فيه. فافهم من هذا مدى سقم هذا الفكر الذي يتضمن محالات وخرافات بعدد ذرات جسمك!

فيا أيها الجاحد… عُد إلى عقلك وانبذ هذه الضلالة المشينة!

اللمعة الثانية والعشرون

بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ

هذه الرسالة الصغيرة التي كتبتُها قبل اثنتين وعشرين سنة، وأنا نزيل ناحية «بارلا» التابعة لولاية إسبارطة، هي رسالة خاصة لأخلص إخوتي وأخصّهم. وقد كتبتها في غاية السرية ومنتهى الكتمان. ولكن لما كانت ذات علاقة بأهالي «إسبارطة» والمسؤولين فيها، فإني أقدّمها إلى واليها العادل وإلى مسؤولي دوائر العدل والأمن والانضباط فيها. وإذا ما ارتؤي أنها تستحق الطبع، فلتُطبع منها نسخٌ معدودة بالحروف القديمة أو الحديثة بالآلة الطابعة كي يعرف أولئك المترصدون الباحثون عن أسراري منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، أنه لا سرّ لنا في الخفاء، وأن أخفى أسرارنا هو هذه الرسالة.

سعيد النورسي

الإشارات الثلاث

كانت هذه الرسالة «المسألة الثالثة من المذكرة السابعة عشرة للمعة السابعة عشرة» إلّا أن قوة أسئلتها وشمولها وسطوع أجوبتها وسدادها جعَلتها «اللمعة الثانية والعشرين» من «المكتوب الحادي والثلاثين» فدخلت ضمن «اللمعات» وامتزجت بها. وعلى «اللمعات» إن تفسح لها موضعاً بينها، فهي رسالة سرية خاصة لأخص إخواننا وأخلصهم وأصدقهم.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(الطلاق:3)

هذه المسألة ثلاث إشارات

الإشارة الأولى:

سؤال مهم يخصّني بالذات ويخص «رسائل النور». يقول كثيرون:

لِم يتدخل أهلُ الدنيا بأمور آخرتك كلما وجدوا لهم فرصة، مع أنك لا تتدخل في شؤون دنياهم؟ علماً أنه لا يمسّ قانونُ أية حكومة كانت شؤونَ تاركي الدنيا المعتزلين الناس!

الجواب:  إن جواب «سعيد الجديد» عن هذا السؤال هو: السكوت؛ إذ يقول: ليُجب عني القدرُ الإلهي. ومع هذا يقول بعقل «سعيد القديم» الذي اضطر إلى استعارته: إن الذي يجيب عن هذا السؤال هو حكومة محافظة إسبارطة وأهالي هذه المحافظة؛ لأنَّ هؤلاء -المسؤولين والناس كافة- أكثر علاقة مني بالمعنى الذي ينطوي عليه السؤال.

وما دامت حكومةٌ أفرادها يربون على الألوف، وأهلون يزيدون على مئات الألوف مضطرين إلى التفكير والدفاع عوضاً عني، فلِمَ إذن أحاور -دون جدوى- المدّعين دفاعاً عن نفسي؟.

فها أنذا منذ تسع سنوات في هذه المحافظة، وكلما مرّ الزمان أدرت ظهري إلى دنياهم. ولم تبق حال من أحوالي مخفية عنهم مستورة عليهم، بل حتى أخَصُّ رسائلي وأكثرها سرية يتداولها المسؤولون في الدولة وهي في متناول عدد من النواب. فلو كان لي شيء من تدخلٍ أو محاولة ما لتعكير صفو دنياهم والإخلال بها، أو حتى التفكير في هذا الأمر، لما آثر المسؤولون في هذه المحافظة والأقضية السكوتَ تجاهي وعدم الاعتراض عليّ على الرغم من مراقبتهم إياي وترصدهم لي وتجسسهم عليّ طوال تسع سنوات، وعلى الرغم من أنني أبوح دون تردد بأسراري إلى من يزورني.

فإن كان لي عمل مُخل بسعادة الأمة وسلامة الوطن ويلحق الضرر بمستقبلها، فالمسؤول عنه جميعُ أفراد الحكومة طوال تسع سنوات ابتداءً من المحافظ إلى أصغر موظف في مخفر القرية.

فعلى هؤلاء جميعاً يقع الدفاع عني، وعليهم أن يستصغروا ما استهوَله واستعظمَه الآخرون، وذلك لينجوا من تبعات المسؤولية. ولأجل هذا أحيل جواب هذا السؤال إليهم.

أما ما يدفع مواطني هذه المحافظة عامة للدفاع عني أكثر من نفسي فهو: أنَّ هذه تسع سنوات، ومئات الرسائل التي نسعى لنشرها، قد أثبتت تأثيرها في هذا الشعب الأخ الصديق المبارك الطيب، وأظهرت مفعولها الفعلي والمادي في حياته الأبدية وفي دعم قوة إيمانه وسعادة حياته، ومن غير أن تمسّ أحداً بسوء أو تولد أي اضطراب أو قلق كان، إذ لم يشاهد منها ما يومئ إلى غرضٍ سياسي ونفع دنيوي مهما كان، حتى إنَّ هذه المحافظة، إسبارطة، قد اكتسبت ولله الحمد بوساطة «رسائل النور» مقام البركة من حيث قوة الإيمان والصلابة في الدين، من نوع البركة التي نالتها بلدة الشام الطيبة في السابق ومن نوع بركة الجامع الأزهر الذي هو مدرسة العالم الإسلامي عامة.

فهذه المحافظة لها فضل ومزيّة على المحافظات الأخرى، حيث قد كسبت من «رسائل النور» التمسك بأذيال الدين، فهيمنت فيها قوةُ الإيمان على الإهمال، وسيطرت فيها الرغبة في العبادة تجاه السفه والغي؛ ولهذا كله فالناس كلهم في هذه المحافظة، حتى لو كان فيهم ملحد (فرضاً) مضطرون إلى الدفاع عني وعن «رسائل النور».

وهكذا لا يسوقني حقي الجزئي الذي لا أهمية له ضمن حقوق دفاع ذات أهمية إلى هذا الحد، أن أُدافع عن نفسي ولاسيما أنني قد أنهيت خدماتي ولله الحمد ويسعى لها ألوفٌ من الطلاب عوضاً عن هذا العاجز. فمن كان له وكلاء دعوى ومحامون يربون على الألوف، لا يدافع عن دعواه بنفسه.

الإشارة الثانية:

جواب عن سؤال يتسم بالنقد.

يقال من جانب أهل الدنيا: لِمَ اسْتَأْتَ منّا وسكتّ فلا تراجعنا ولو لمرة واحدة. ثم تشكو منا شكاية شديدة قائلاً: «أنتم تظلمونني». فنحن أصحاب مبدأ، لنا دساتيرنا الخاصة نسير في ضوئها على وفق ما يتطلبه هذا العصر بينما أنت لا تُنَفِذُ هذه الدساتير على نفسك وترفضها، علماً أن من ينفذ القانون لا يكون ظالماً، بينما الرافض له يكون عاصياً. ففي عصرنا هذا، عصر الحرية -مثلاً- وفي عهد الجمهوريات التي بدأنا به حديثاً يجري دستور رفع الإكراه والتسلط على الآخرين. إذ المساواة قانون أساس لدينا، بينما أنت تكسب إقبال الناس نحوك وتلفت أنظارهم إليك تارة بزيّ العلم وأخرى بالتزهد، فتحاول تكوين قوةٍ وكسب مقامٍ خارج نطاق نفوذ الدولة.

هكذا يُفهم من ظاهر حالك وهكذا يدلنا مجرى حياتك السابقة. فهذه الحالة ربما تُستصوب في نطاق تحكّم البرجوازيين -بالتعبير الحديث- إلّا أن صحوة طبقة العوام وتغلبها جعلت جميع دساتير الاشتراكية والبلشفية تسيطر وتهيمن، وهي التي تلائم أمورنا أكثر من غيرها. فنحن في الوقت الذي رضينا بدساتير الاشتراكية نشمئز من أوضاعك، إذ هي تخالف مبادئنا. لذا لاحق لك في الاستياء منا ولا الشكوى من مضايقاتنا لك.

الجواب:  إنَّ من يشق طريقاً في الحياة الاجتماعية ويؤسس حركة، لا يستثمر مساعيه ولن يكون النجاح حليفَه في أمور الخير والرقي ما لم تكن الحركةُ منسجمةً مع القوانين الفطرية التي تحكم الكون، بل تكون جميعُ أعماله في سبيل التخريب والشر.

فما دام الانسجام مع قانون الفطرة ضرورياً، فإن تنفيذ قانون المساواة المطلقة لا يمكن إلّا بتغيير فطرة البشر ورفع الحكمة الأساسية في خلق النوع البشري.

نعم، إنني من حيث النسب ونمط معيشة الحياة من طبقة العوام، ومن الراضين بالمساواة في الحقوق فكراً ومشرباً، ومن العاملين على رفض سيطرة طبقة الخواص المسمَّين بالبرجوازيين واستبدادهم منذ السابق وذلك بمقتضى الرحمة وبموجب العدالة الناشئة من الإسلام. لذا فأنا بكل ما أوتيت من قوة بجانب العدالة التامة، وضد الظلم والسيطرة والتحكم والاستبداد. بَيد أنَّ فطرة النوع البشري وحكمةَ خلقه تخالفان قانونَ المساواة المطلقة، إذ الفاطر الحكيم سبحانه كما يستحصل من شيء قليل محاصيلَ كثيرة، ويكتب في صحيفة واحدة كتباً كثيرة، ويُجري بشيء واحد وظائف جمة، كذلك يُنجز بنوع البشر وظائف ألوف الأنواع، وذلك إظهاراً لقدرته الكاملة وحكمته التامة.

فلأجل تلك الحكمة العظيمة، خلق سبحانه الإنسانَ على فطرة جامعة، لها من القدرة ما يثمر ألوف سنابل الأنواع، وما يعطى طبقات كثيرة بعدد أنواع سائر الحيوانات؛ إذ لم يحدِّد سبحانه قوى الإنسان ولطائفَه ومشاعرَه كما هو الحال في الحيوانات، بل أطلقها واهباً له استعداداً يتمكن به من السياحة والجولان ضمن مقامات لا تحد، فهو في حكم ألوف الأنواع، وإن كان نوعاً واحداً.

ومن هنا أصبح الإنسان في حكم خليفة الأرض.. ونتيجة الكون.. وسلطان الأحياء.. وهكذا فإن أجلَّ خميرة لتنوع النوع البشري وأهم نابض محرك له هو التسابق لإحراز الفضيلة المتسمة بالإيمان الحقيقي. فلا يمكن رفعُ الفضيلة إلّا بتبديل الماهية البشرية وإخماد العقل وقتل القلب وإفناء الروح.

«لا يمكن بالظلم والجور محو الحرية

ارفع الإدراك إن كنت مقتدراً من الإنسانية!».

هذا الكلام الرصين أُثير خطأً في وجه رجل ذي شأن ما كان يليق به مثل هذه الصفعة، بل جدير بهذا الكلام أن يصفع به الوجه الغدار لهذا العصر الحامل لاستبداد رهيب يتستر بهذه الحرية.

فأنا أقول بدلاً من هذا الكلام:

«لا يمكن بالظلم والجور محو الحقيقة

ارفع القلب إن كنت مقتدراً من الإنسانية!».

 أو أقول:

«لا يمكن بالظلم والجور محو الفضيلة

ارفع الوجدان إن كنت مقتدراً من الإنسانية!».

نعم، إن الفضيلة المتّسمة بالإيمان، كما لا تكون وسيلة للإكراه، لا تكون سبباً للاستبداد قطعاً. إذ الإكراه والقسر والتسلط على الآخرين، رذيلة ليس إلّا ، بل إنَّ أهم مشرب لدى أهل الفضيلة هو الاندماج في المجتمع بالعجز والفقر والتواضع. ولقد مضت حياتُنا ولله الحمد وما زالت كذلك تمضي على وفق هذا المشرب. فأنا لا أدعي متفاخراً أنني صاحب فضيلة، ولكن أقول تحدّثاً بنعمة الله عليّ وبنية الشكر له سبحانه: قد أَحْسَنَ إليّ جلّ وعلا بفضله وكرمه فوفقني إلى العمل للعلوم الإيمانية والقرآنية وإدراكها وفهمها. فصرفتُ طوال حياتي -لله الحمد- هذا الإحسان الإلهي بتوفيق منه تعالى، في مصالح هذه الأمة المسلمة وبذلتُه في سبيل سعادتها، ولم يكُ في أي وقت كان وسيلة للإكراه والتسلط على الآخرين. كما أنني -بناءً على سرّ مهم- أنفر من إقبال الناس وجلب استحسانهم المرغوبين لدى أهل الغفلة؛ إذ قد ضيّعا عليّ عشرين سنة من عمري السابق، فلهذا أعدّهما مضرَّين لي. إلّا أنني أراهما أمارة على إقبال الناس على رسائل النور فلا أُسخطهم.

فيا أهل الدنيا!

في الوقت الذي لا أتدخل في دنياكم قط؛ ولا علاقة لي بأية جهة كانت بمبادئكم. ولست عازماً على التدخل مجدداً بالدنيا، بل ولا لي رغبة فيها أصلاً كما تشهد بذلك حياتي، هذه التي قضيتُها أسير المنفى طوال تسع سنوات. فلماذا تنظرون إليّ وكأنني متجبّر سابق، يضمر التسلط على الآخرين ويتحين الفرص لذلك. بأي قانون يُجرى وعلى أية مصلحة يُبنى هذا المدى من الترصد والمراقبة والعنت؟

فلا توجد في العالم كله، حكومةٌ تعمل فوق القانون، وتسمح بهذه المعاملة القاسية التي أُعامل بها والتي لا يرضى بها فرد مهما كان.

فهذه المعاملات السيئة التي تعاملونني بها لا تولد سخطي وحده، بل سخط نوع الإنسان -إن أدرك- بل سخط الكائنات.

اللمعة الحادية والعشرون

تخص الإخلاص

كانت هذه اللمعة المسألة الرابعة للمسائل السبع للمذكّرة السابعة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة» إلّا أنها أصبحت النقطة الثانية من «اللمعة العشرين». لمناسبة موضوعها -الإخلاص- وبناء على نورانيتها صارت «اللمعة الحادية والعشرين»، فدخلت في كتاب «اللمعات».

[تُقرأ هذه اللمعة كل خمسة عشر يوماً في الأقل]

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ر۪يحُكُمْ (الأنفال:46)

﴿وَقُومُوا لِلّٰهِ قَانِت۪ينَ (البقرة:238)

﴿قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكّٰيهَاۙۖ * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسّٰيهَا (الشمس:9-10)

﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِاٰيَات۪ي ثَمَنًا قَل۪يلًا (البقرة:41)

يا إخوة الآخرة! ويا أصحابي في خدمة القرآن! اعلموا -وأنتم تعلمون- أنَّ الإخلاص في الأعمال ولاسيما الأخروية منها، هو أهم أساس، وأعظم قوة، وأرجى شفيع، وأثبت مُرتكز، وأقصر طريق للحقيقة، وأبرّ دعاء معنوي، وأكرم وسيلة للمقاصد، وأسمى خصلة، وأصفى عبودية.

فما دام في الإخلاص أنوار مشعة، وقوى رصينة كثيرة أمثال هذه الخواص.. ومادام الإحسان الإلهي قد ألقى على كاهلنا مهمة مقدسة ثقيلة، وخدمة عامة جليلة، تلك هي وظيفة الإيمان وخدمة القرآن.. ونحن في غاية القلة والضعف والفقر، ونواجه أعداءً ألدّاء ومضايقات شديدة، وتُحيط بنا البدع والضلالات التي تصول وتجول في هذا العصر العصيب.. فلا مناص لنا إلّا ببذل كل ما في وسعنا من جهد وطاقة كي نظفر بالإخلاص. فنحن مضطرون إليه، بل مكلفون به تكليفاً، وأحوج ما نكون إلى ترسيخ سر الإخلاص في ذواتنا، إذ لو لم نفز به لضاع منا بعض ما كسبناه من الخدمة المقدسة -لحد الآن- ولمَا دامت ولا استمرت خدمتنا، ثم نحاسَب عليها حساباً عسيراً، حيث نكون ممن يشملهم النهي الإلهي وتهديده الشديد في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِاٰيَات۪ي ثَمَنًا قَل۪يلًا﴾ بما أَخللنا بالإخلاص فأفسدنا السعادة الأبدية، لأجل مطامع دنيوية دنيئة، مقيتة، مضرة، مكدرة، لا طائل من ورائها ولا فائدة، إرضاء لمنافع شخصية جزئية تافهة، أمثال الإعجاب بالنفس والرياء. ونكون أيضاً من المتجاوزين على حقوق إخواننا في هذه الخدمة ومن المتعدين على نهج الخدمة القرآنية، ومن الذين أساءوا الأدب فلم يقدروا قُدسِيَّة الحقائق الإيمانية وسُمُوَّها حق قدرها.

فيا إخوتي! إن الأمور المهمة للخير والدروب العظيمة للصلاح، تعترضها موانع وعقبات مضرة كثيرة. فالشياطين يكدون أنفسهم ويجهدونها مع خُدام تلك الدعوة المقدسة، لذا ينبغي الاستناد إلى الإخلاص والاطمئنانُ إليه، لدفع تلك الموانع وصَدِّ تلك الشياطين. فاجتنبوا – يا إخوتي – الأسبابَ التي تقدح بالإخلاص وتثلمه كما تجتنبون العقارب والحيات. فلا وثوق بالنفس الأمارة ولا اعتماد عليها قط، كما جاء في القرآن الكريم على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: ﴿وَمَٓا اُبَرِّئُ نَفْس۪يۚ اِنَّ النَّفْسَ لَاَمَّارَةٌ بِالسُّٓوءِ اِلَّا مَا رَحِمَ رَبّ۪ي﴾ (يوسف:53) فلا تخدعنّكم الأنانيةُ والغرور ولا النفس الأمارة بالسوء أبداً.

ولأجل الوصول إلى الظفر بالإخلاص وللحفاظ عليه، ولدفع الموانع وإزالتها، اجعلوا الدساتير الآتية رائدكم:

دستوركم الأول:

ابتغاء مرضاة الله في عملكم. فإذا رضي هو سبحانه فلا قيمةَ لإعراض العالم أجمع ولا أهمية له. وإذا ما قَبِل هو سبحانه فلا تأثير لردّ الناس أجمعين. وإذا أراد هو سبحانه واقتضته حكمتُه بعد ما رضي وقَبِل العمل، جعل الناس يقبلونه ويرضون به، وإن لم تطلبوه أنتم، لذا ينبغي جعل رضى الله وحده دون سواه القصد الأساس في هذه الخدمة.. خدمة الإيمان والقرآن.

دستوركم الثاني:

هو عدم انتقاد إخوانكم العاملين في هذه الخدمة القرآنية، وعدم إثارة نوازع الحسد بالتفاخر والاستعلاء. لأنه كما لا تحاسد في جسم الإنسان بين اليدين، ولا انتقاد بين العينين، ولا يعترض اللسان على الأذن، ولا يرى القلبُ عيبَ الروح، بل يكمّل كلٌّ منه نقصَ الآخر ويستر تقصيره ويسعى لحاجته، ويعاونه في خدمته.. وإلّا انطفأت حياة ذلك الجسد، ولغادرته الروحُ وتمزق الجسم… وكما لا حسدَ بين تروس المعمل ودواليبه، ولا يتقدم بعضها على بعض ولا يتحكم، ولا يدفع أحدها الآخر إلى التعطل بالنقد والتجريح وتتبع العورات والنقائص، ولا يثبط شوقه إلى السعي، بل يعاون كل منها الآخر بكل ما لديه من طاقة موجهاً حركات التروس والدواليب إلى غايتها المرجوة، فيسير الجميع إلى ما وُجدوا لأجله، بالتساند التام والاتفاق الكامل. بحيث أنه لو تدخل شيء غريب أو تحكّم في الأمر -ولو بمقدار ذَرة- لاختل المعمل وأصابه العطبُ ويقوم صاحبه بدوره بتشتيت أجزائه وتقويضه من الأساس.

فيا طلاب رسائل النور ويا خدام القرآن! نحن جميعاً أجزاء وأعضاء في شخصية معنوية جديرة بأن يُطلق عليها: الإنسان الكامل.. ونحن جميعاً بمثابة تروسِ ودواليبِ معمل ينسج السعادة الأبدية في حياة خالدة. فنحن خدام عاملون في سفينة ربانية تسير بالأمة المحمدية إلى شاطئ السلامة وهي دار السلام.

نحن إذن بحاجة ماسة بل مضطرون إلى الإتحاد والتساند التام وإلى الفوز بسر الإخلاص الذي يهيئ قوة معنوية بمقدار ألف ومائة وأحد عشر «1111» ناتجة من أربعة أفراد. نعم، إنْ لم تتحد ثلاث «ألفات» فستبقى قيمتُها ثلاثاً فقط، أما إذا اتحدت وتساندت بسر العددية، فإنها تكسب قيمة مائة وأحد عشر «111»، وكذا الحال في أربع «أربعات» عندما تكتب كل «4» منفردة عن البقية فإن مجموعها «16» أما إذا اتحدت هذه الأرقام واتفقت بسر الأخوة ووحدة الهدف والمهمة الواحدة على سطر واحد فعندها تكسب قيمة أربعة آلاف وأربعمائة وأربع وأربعين «4444» وقوتها. هناك شواهد ووقائع تاريخية كثيرة جداً أثبتت أن ستة عشر شخصاً من المتآخين المتحدين المضحين بسر الإخلاص التام تزيد قوتُهم المعنوية وقيمتُهم على أربعة آلاف شخص.

أما حكمة هذا السر فهي أنَّ كل فرد من عشرة أشخاص متفقين حقيقةً يمكنه أن يرى بعيون سائر إخوانه ويسمع بآذانهم. أي إن كلاً منهم يكون له من القوة المعنوية والقيمة ما كأنه ينظر بعشرين عيناً ويفكر بعشرة عقول ويسمع بعشرين أُذناً ويعمل بعشرين يداً. (حاشية) نعم، كما أنّ تسانداً حقيقياً، واتحاداً تاماً، نابعاً من «الإخلاص» هو محور تدور عليه منافع لا تنتهي، كذلك فهو ترس عظيم، ومرتكز قوي للوقوف تجاه المخاوف العديدة، بل أمام الموت، لأن الموت لا يسلب إلا روحاً واحدة، فالذي ارتبط بإخوانه بسر الاخوة الخالصة في الأمور المتعلقة بالآخرة وفي سبيل مرضاة الله، يحمل أرواحاً بعدد إخوانه، فيلقى الموت مبتسماً وقائلاً: لتَسلَم أرواحي الأخرى.. ولتبق معافاة، فإنها تديم لي حياة معنوية بكسبها الثواب لي دائما. فأنا لم أمت إذن. ويُسلّم روحه وهو قرير العين، ولسان حاله يقول: أنا أعيش بتلك الأرواح من حيث الثواب ولا أموت إلا من حيث الذنوب والآثام.

دستوركم الثالث:

اعلموا أنَّ قوتكم جميعاً في الإخلاص والحق.

نعم، إنَّ القوة في الحق والإخلاص، حتى إن أهل الباطل يحرزون القوةَ لما يبدون من ثبات وإخلاص في باطلهم.

نعم، إن خدمتنا هذه في سبيل الإيمان والقرآن هي دليل بذاتها على أن القوة في الحق والإخلاص. فشيء يسير من الإخلاص في سبيل هذه الخدمة يُثبت دعوانا هذه ويكون دليلاً عليه. ذلك: لأن ما قمنا به في أزيد من عشرين سنة في مدينتي وفي إستانبول من خدمة في سبيل الدين والعلوم الشرعية، قد قمنا معكم بأضعافه مائة مرة هنا في غضون ثماني سنوات. علماً بأن الذين كانوا يعاونونني هناك هم أكثر مائة مرة بل ألف مرة ممن يعاونونني هنا. إنَّ خدماتنا هنا في ثماني سنوات مع أنني وحيد غريب شبه أمّي وتحت رقابة موظفين لا إنصاف لهم وتحت مضايقاتهم قد أكسبتنا بفضل الله قوة معنوية أظهرت التوفيق والفلاح بمائة ضعف مما كان عليه سابقاً، لذا حصلت لديّ قناعة تامة من أن هذا التوفيق الإلهي ليس إلّا من صميم إخلاصكم. وإنني أعترف بأنكم أنقذتموني بإخلاصكم التام -إلى حد ما- من الرياء، ذلك الداء الوبيل الذي يداعب النفس تحت ستار الشهرة والصيت. نسأل الله أن يوفقكم جميعاً إلى الإخلاص الكامل وتقحموني فيه معكم.

تعلمون أنَّ الإمام علياً رضي الله عنه والشيخ الكيلاني (قدس الله سره)، قد توجها إليكم ونظرا بعين اللطف والاهتمام والتسلية في كراماتهما الخارقة، ويباركان خدماتكم معنىً. فلا يساورنّكم الشك في أن ذلك التوجه والالتفات والتسلية ليس إلّا بما تتمتعون به من إخلاص. فإن أفسدتم هذا الإخلاص متعمدين، تستحقون إذن لطماتهما. تذكّروا دائماً «لطمات الرأفة والرحمة» التي هي في «اللمعة العاشرة». ولو أردتم أن يظل هذان الفاضلان أستاذَين وظهيرَين معنويين لكم فاظفروا بالإخلاص الأتم بامتثالكم الآية الكريمة:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلٰٓى اَنْفُسِهِمْ﴾ (الحشر: 9). أي عليكم أن تفضلوا إخوانكم على أنفسكم في المراتب والمناصب والتكريم والتوجّه، حتى في المنافع المادية التي تهش لها النفس وترتاح إليها.

بل في تلك المنافع التي هي خالصة زكية كتعليم حقائق الإيمان إلى الآخرين، فلا تتطلعوا ما استطعتم أن يتم ذلك بأيديكم، بل ارضوا واطمئنوا أن يتم ذلك بيد غيركم لئلا يتسرب الإعجابُ إلى أنفسكم. وربما يكون لدى أحدكم التطلع للفوز بالثواب وحده، فيحاول أن يبين أمراً مهماً في الإيمان بنفسه، فرغم أن هذا لا إثم فيه ولا ضرر فقد يعكر صفو الإخلاص فيما بينكم.

اللمعة العشرون

تخص الإخلاص

 (حاشية) تنبيه: إن ما يوجب الشكر على هذه البلدة الطيبة «اسبارطة» أن قد أتاها الله حظاً عظيماً ، فلا يبدو بين من فيها من المتقين والصالحين وأهل الطرق الصوفية والعلماء اختلاف مشوب بالحسد، حتى لو ظهر فهو أخف بكثير مما هو عليه في سائر المناطق. وعلى الرغم من أن المحبة الخالصة والاتفاق التام غير موجودين كما ينبغي فإن الاختلاف المضر والحسد الممقوت مفقودان أيضا بالنسبة للمناطق الأخرى.

أحرز هذا البحث أهميةً خاصة أهّلته ليكون «اللمعة العشرين» بعد أن كان النقطة الأولى من خمس نقاط من المسألة الثانية من المسائل السبع للمذكّرة السابعة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اِنَّٓا اَنْزَلْنَٓا اِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللّٰهَ مُخْلِصًا لَهُ الدّ۪ينَۜ * اَلَا لِلّٰهِ الدّ۪ينُ الْخَالِصُ(الزمر2- 3)

وقال الرسول الأعظم ﷺ: (هَلَكَ النَّاسُ إلّا الْعَالِمُونَ وَهَلَكَ الْعَالِمونَ إلّا العَامِلُونَ وَهَلَكَ الْعَامِلوُنَ إلّا الْمُخْلِصُونَ وَالْمُخْلِصُونَ عَلى خَطَرٍ عَظيمٍ) أو كما قال.

تدلنا هذه الآية الكريمة والحديث النبوي الشريف معاً على مدى أهمية الإخلاص في الإسلام، ومدى عظمته أساساً تستند إليه أمور الدين. فمن بين النكت التي لا حصر لها لمبحث «الإخلاص» نبين باختصار خمس نقاط فقط.

النقطة الأولى

سؤال مهم ومثير للدهشة:

لماذا يختلف أصحابُ الدين والعلماء وأرباب الطرق الصوفية وهم أهل حق ووفاق ووئام بالتنافس والتزاحم، في حين يتفق أهلُ الدنيا والغفلة بل أهل الضلالة والنفاق من دون مزاحمة ولا حسد فيما بينهم، مع أن الاتفاق هو من شأن أهل الوفاق والوئام، والخلاف ملازمٌ لأهل النفاق والشقاق. فكيف استبدل الحق والباطل مكانهما؛ فأصبح الحق بجانب هؤلاء والباطل بجانب أولئك؟

الجواب:  سنبين سبعة من الأسباب العديدة لهذه الحالة المؤلمة التي تقض مضجع الغيارى الشهمين.

السبب الأول: 

إنَّ اختلاف أهل الحق غير نابع من فقدان الحقيقة، كما أن اتفاق أهل الغفلة ليس نابعاً من ركونهم إلى الحقيقة. بل إن وظائف أهل الدنيا والسياسة والمثقفين وأمثالهم من طبقات المجتمع قد تعيّنت وتميزت؛ فلكل طائفة وجماعة وجمعية مهمة خاصة تنشغل بها، وما ينالونه من أجرة مادية -لقاء خدماتهم ولإدامة معيشتهم- هي كذلك متميزة ومتعيّنة، كما أن ما يكسبونه من أجرة معنوية كحب الجاه وذيوع الصيت والشهرة، هي الأخرى متعينة ومخصصة ومتميزة. (حاشية) تحذير: إنَّ إقبال الناس وتوجههم لا يُطلب، بل يوهب، ولو حصل الإقبال فلا يُسرّ به. وإذا ما ارتاح المرء لتوجه الناس إليه فقد ضيع الإخلاص ووقع في الرياء. أما التطلع إلى نيل الشهرة والصيت التي تتضمن توجه الناس والرغبة في إقبالهم فهو ليس بأجرة ولا ثواب، بل عتاب وعقاب نابعان من فقدان الإخلاص. نعم ، إن توجه الناس وإقبالهم لا يراد، لأن ما فيه من لذة جزئية تضر بالإخلاص الذي هو روح الأعمال الصالحة، ثم إنه لا يستمر إلا إلى حد باب القبر. فضلا عن أنه يكتسب ما وراء القبر صورة أليمة من عذاب القبر. فلا يُرغب في توجه الناس ونيل رضاهم إذن، بل يلزم الفرار والتهيب منه. فليصغ إلى هذا عُباد الشهرة والمتلهفون على كسب رضى الناس. فليس هناك إذن ما يولد منافسة أو مزاحمة أو حسداً فيما بينهم. وليس هناك ما يوجب المناقشة والجدال، لذا تراهم يتمكنون من الاتفاق مهما سلكوا من طرق الفساد.

أما أهل الدين وأصحاب العلم وأرباب الطرق الصوفية فإن وظيفة كل منهم متوجهة إلى الجميع، وأن أجرتهم العاجلة غير متعينة وغير متخصصة، كما أن حظهم من المقام الاجتماعي وتوجه الناس إليهم والرضى عنهم لم يتخصص أيضاً. فهناك مرشحون كثيرون لمقام واحد، وقد تمتد أيدٍ كثيرةٌ جداً إلى أية أجرة مادية كانت أو معنوية. ومن هنا تنشأ المزاحمة والمنافسة والحسد والغيرة؛ فيتبدل الوفاقُ نفاقاً والاتفاق اختلافاً وتفرقاً.

فلا يشفي هذا المرض العضال إلّا مرهمُ الإخلاص الناجع، أي أن ينال المرء شرف امتثال الآية الكريمة: ﴿اِنْ اَجْرِيَ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ(يونس:72) بإيثار الحق والهدى على اتباع النفس والهوى، وبترجيح الحق على أثَرة النفس.. وأن يحصل له امتثال بالآية الكريمة:
﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ اِلَّا الْبَلَاغُ الْمُب۪ينُ(النور:54) باستغنائه عن الأجر المادي والمعنوي المقبلَين من الناس (حاشية) لابد من جعل شيمة «الإيثار» التي تحلَّى بها الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم ونالوا بها ثناء القرآن الكريم نصب العين، واتخاذها دليلاً ومرشداً، وهذا يعني: تفضيل الآخرين على النفس عند قبول الهدايا والصدقات، وعدم قبول شئ مقابل ما يقوم به المرء من خدمات في سبيل الدين، بل لا يطلبه قلباً. وإذا حصل شئ من هذا القبيل فليعده إحساناً إلهياً محضاً، من دون البقاء تحت منة الناس. إذ ما ينبغي أن يُسأل شيء في الدنيا لقاء خدمات في سبيل الدين، لئلا يضيع الإخلاص. فالأمة وإن كان عليها أن تضمن معاش هؤلاء، كما انهم يستحقون الزكاة، إلا أن هؤلاء العاملين لا يسألون الناس شيئاً وربما يوهب لهم، حتى لو وهب لهم شيء فلا يأخذونه لقيامهم في خدمة الدين. فالأفضل إيثار من هم أهل لها على النفس، والرضى بما قسم الله من رزق والقناعة به، كي يحظى المرء بالثناء القرآني العظيم ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلٰٓى اَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (الحشر:9)، وعندئذ يكون ظافراً بالإخلاص ومنقذاً نفسه من شرور هذه التهلكة الخطرة. مدركاً أَنَّ استحسان الناس كلامَه وحسن تأثيره فيهم ونيل توجههم إليه هو مما يتولاه الله سبحانه وتعالى ومن إحسانه وفضله وحده، وليس داخلاً ضمن وظيفته التي هي منحصرةٌ في التبليغ فحسب. بل لا يلزمه ذلك ولا هو مكلف به أصلاً. فمن وفّقه الله إلى ما ذُكر آنفاً يجد لذة الإخلاص، وإلّا يفوته الخير الكثير.

السبب الثاني:

إن اتفاق أهل الضلالة نابع من ذلتهم، بينما اختلاف أهل الهداية نابع من عزّتهم؛ إذ لما كان أهل الدنيا والضلالة الغافلون لا يستندون إلى الحق والحقيقة فهم ضعفاء وأذلاء، يشعرون بحاجة ماسة إلى اكتساب القوة ويتشبثون بشدة إلى معاونة الآخرين والاتفاق معهم، ويحرصون على هذا الاتفاق ولو كان مسلكهم ضلالة، فكأنهم يعملون حقاً في تساندهم على الباطل، ويخلصون في ضلالهم، ويبدون ثباتاً وإصراراً على إلحادهم، ويتفقون في نفاقهم، فلأجل هذا يوفّقون في عملهم، لأن الإخلاص التام ولو كان في الشر لا يذهب سُدىً، ولا يكون دون نتيجة. فما من سائل يسأل بإخلاص أمراً إلّا قضاه الله له. (حاشية) نعم، إن «من طلب وَجَدّ وَجَدَ» دستور من دساتير الحقيقة له من السعة والشمول ما يشمل مسلكنا أيضاً.

أما أهل الهداية والدين وأصحاب العلم والطريقة فلأنهم يستندون إلى الحق والحقيقة، ولأن كلاً منهم أثناء سيره في طريق الحق لا يرجو إلّا رضى ربه الكريم ويطمئن إليه كل الاطمئنان، وينال عزة معنوية في مسلكه نفسه، إذ حالما يشعر بضعف ينيب إلى ربه دون الناس، ويستمد منه وحده القوة، زد على ذلك يرى أمامه اختلاف المشارب مع ما هو عليه، لذا تراه لا يستشعر بدواعي التعاون مع الآخرين بل لا يتمكن من رؤية جدوى الاتفاق مع مخالفيه ظاهراً ولا يجد في نفسه الحاجة إليه. وإذا ما كان ثمة غرورٌ وأنانية في النفس يتوهم المرء نفسه محقاً ومخالفيه على باطل فيقع الاختلاف والمنافسة بدل الاتفاق والمحبة، وعندها يفوته الإخلاصُ ويحبط عمله ويكون أثراً بعد عين.

والعلاج الوحيد لهذه الحالة والحيلولة دون رؤية نتيجتِها الوخيمة هو في تسعة أمور آتية:

1 – العمل الإيجابي البنّاء، وهو: عملُ المرء بمقتضى محبته لمسلكه فحسب، من دون أن يرد إلى تفكيره، أو يتدخل في علمه عداءُ الآخرين أو التهوينُ من شأنهم، أي لا ينشغل بهم أصلاً.

2 – بل عليه أن يتحرى روابط الوحدة الكثيرة التي تربط المشارب المعروضة في ساحة الإسلام -مهما كان نوعها- والتي ستكون منابع محبة ووسائل أخوة واتفاق فيما بينها فيتفق معها.

3- واتخاذ دستور الإنصاف دليلاً ومرشداً، وهو: أن صاحبَ كل مسلك حق يستطيع القول: «إن مسلكي حق وهو أفضل وأجمل» من دون أن يتدخل في أمر مسالك الآخرين، ولكن لا يجوز له أن يقول: «الحق هو مسلكي فحسب» أو «أن الحسن والجمال في مسلكي وحده» الذي يقضي على بطلان المسالك الأخرى وفسادها.

4- العلم بأن الاتفاق مع أهل الحق هو أحد وسائل التوفيق الإلهي وأحد منابع العزة الإسلامية.

5 – الحفاظ على الحق والعدل بإيجاد شخص معنوي؛ وذلك بالاتفاق مع أهل الحق للوقوف تجاه أهل الضلالة والباطل الذين أخذوا يغيرون بدهاء شخص معنوي قوي في صورة جماعة على أهل الحق -بما يتمتعون به من تساند واتفاق- ثم الإدراك بأن أية مقاومة فردية -مهما كانت قوية- مغلوبةٌ على أمرها تجاه ذلك الشخص المعنوي للضلالة.

6 – ولأجل إنقاذ الحق من صولة الباطل:

7 – ترك غرور النفس وحظوظها.

8 – وترك ما يُتصور خطأً أنه من العزة والكرامة.

9 – وترك دواعي الحسد والمنافسة والأحاسيس النفسانية التافهة.

بهذه النقاط التسع يُظفَر بالإخلاص ويوفي الإنسان وظيفته حق الوفاء ويؤديها على الوجه المطلوب. (حاشية) لقد ثبت في الحديث الصحيح أن المتدينين الحقيقيين من النصارى سيتفقون في آخر الزمان مستندين إلى أهل القرآن للوقوف معاً تجاه عدوهم المشترك الزندقة، لذا فأهل الإيمان والحقيقة في زماننا هذا ليسوا بحاجة إلى الاتفاق الخالص فيما بينهم وحده، بل مدعوون أيضا إلى الاتفاق حتى مع الروحانيين المتدينين الحقيقيين من النصارى، فيتركوا مؤقتا كل ما يثير الخلافات والمناقشات دفعاً لعدوهم المشترك الملحد المتعدي.

السبب الثالث:

إنَّ اختلاف أهل الحق ليس ناشئاً عن الوضاعة وفقدان الهمة، كما أن اتفاق أهل الضلالة ليس ناشئاً عن علو الهمة، بل إن اختلاف أهل الهداية نابع من سوء استعمال علو الهمة والإفراط فيه، واتفاق أهل الضلالة مردّه الضعف والعجز الحاصلان من انعدام الهمة.

والذي يسوق أهل الهداية إلى سوء استعمال علو الهمة وبالتالي إلى الاختلاف والغيرة والحسد، إنما هو المبالغة في الحرص على الثواب الأخروي -الذي هو في حد ذاته خصلة ممدوحة- وطلب الاستزادة منها دون قناعة وحصرها على النفس. وهذا يستدرج الحريص شيئاً فشيئاً حتى يصل به الأمر إلى أن يتخذ وضعاً منافساً إزاء أخيه الحقيقي الذي هو بأمس الحاجة إلى محبته ومعاونته وأُخوته والأخذ بيده. كأن يقول -مثلاً- لأغنم أنا بهذا الثواب، ولأرشد أنا هؤلاء الناس وليسمعوا مني وحدي الكلام، وأمثالها من طلب المزيد من الثواب لنفسه.أو يقول: لماذا يذهب تلاميذي إلى فلان وعلان؟ ولماذا لا يبلغ تلاميذي عدد تلاميذه وزيادة؟ فتجد روح الأنانية لديه -بهذا الحوار الداخلي- الفرصة سانحة لترفع رأسها وتبرز، فتسوقه تدريجياً إلى التلوث بصفة مذمومة، تلك هي التطلع إلى حب الجاه، فيفوته الإخلاص وينسد دونه بابه، بينما ينفتح باب الرياء له على مصراعيه.

إنَّ علاج هذا الخطأ الجسيم والجرح البليغ والمرض الروحي العضال هو:

العلم بأن رضى الله لا يُنال إلّا بالإخلاص، فرضاه سبحانه ليس بكثرة التابعين ولا باطراد النجاح والتوفيق في الأعمال، ذلك لأن تكثير التابعين والتوفيق في الأعمال هو مما يتولاه الله سبحانه بفضله وكرمه، فلا يُسأل ولا يُطلب بل يؤتيه الله سبحانه من يشاء.

نعم، رُبّ كلمة واحدة تكون سبباً للنجاة من النار وتصبح موضع رضى الله سبحانه، ورُبّ إرشاد شخص واحد يكون موضع رضى الله سبحانه بقدر إرشاد ألف من الناس. فلا ينبغي أن تُؤخذ الكمية بنظر الاعتبار كثيراً.

ثم إنَّ الإخلاص في العمل ونشدان الحق فيه إنما يُعرف بصدق الرغبة في إفادة المسلمين عامةً أياً كان مصدر الاستفادة ومن أي شخص صدر. وإلّا فحصر النظر بأن يؤخذ الدرس والإرشاد مني فقط لأفوز بالثواب الأخروي هو حيلة النفس وخديعة الأنانية.

فيا من يحرص على المزيد من الثواب ولا يقنع بما قام به من أعمال للآخرة!

اعلم أن الله سبحانه قد بعث أنبياءً كراماً، وما آمن معهم إلّا قليل. ومع ذلك نالوا ثواب النبوة العظيم كاملاً غير منقوص. فليس السبق والفضل إذن في كثرة التابعين المؤمنين، وإنما في نيل شرف رضى الله سبحانه. فمَنْ أنت أيها الحريص حتى ترغب أن يسمعك الناس كلهم، وتتغافل عن واجبك وتحاول أن تتدخل في تدبير الله وتقديره؟ اعلم واجبَك، ولا تحاول أن تتدخل في تدبير الله وتقديره. اعلم أن تصديق الناس كلامك وقبولهم دعوتك وتجمعهم حولك إنما هو من فضل الله يؤتيه من يشاء، فلا تُشغل نفسك فيما يخصه سبحانه من تقدير وتدبير، بل اجمع همّك في القيام بما أُنيط بك من واجب.

ثم إن الإصغاء إلى الحق والحقيقة، ونوال المتكلم بهما الثواب ليس منحصراً على الجنس البشري وحده، بل لله عباد من ذوي الشعور ومن الروحانيين والملائكة قد ملأوا أركان الكون وعمروها. فإن كنت تريد مزيداً من الثواب الأخروي فاستمسك بالإخلاص واتخذه أساساً لعملك واجعل مرضاة الله وحدها الهدف والغاية في عملك، كي تحيا أفراد تلك الكلمات الطيبة المنطوقة من شفتيك منتشرة في جو السماء بالإخلاص وبالنية الخالصة لتصل إلى أسماع مخلوقات من ذوي المشاعر الذين لا يحصرهم العدّ، فتنوّرهم، وتنال بها الثواب العظيم أضعافاً مضاعفة. ذلك لأنك إذا قلت: «الْحَمْدُ لله» مثلاً فستُكتب بأمر الله على إثر نطقك بهذه الكلمة ملايين الملايين من «الحَمْد لله» صغيرة وكبيرة في الفضاء. فلقد خلق سبحانه ما لا يعد من الآذان والأسماع تصغي إلى تلك الكلمات الكثيرة الطيبة، حيث لا عبث ولا إسراف في عمل البارئ الحكيم. فإذا ما بعث الإخلاصُ والنيةُ الصادقة الحياةَ في تلك الكلمات المنتشرة في ذرات الهواء فستدخل أسماع أولئك الروحانيين لذيذة طيبة كلذة الفاكهة الطيبة، ولكن إذا لم يبعث رضى الله والإخلاص الحياةَ في تلك الكلمات، فلا تستساغ، بل تنبو عنها الأسماع، ويبقى ثوابها منحصراً فيما تفوّه به الفم. فليصغِ إلى هذا قراء القرآن الكريم الذين يتضايقون من افتقار أصواتهم إلى الجودة والإحسان فيشكون من قلة السامعين لهم.

اللمعة التاسعة عشرة

«رسالة الاقتصاد»

(هذه الرسالة تحضّ على الاقتصاد والقناعة وتحذّر من مغبة الإسراف والتبذير)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ (الأعراف:31)

(هذه الآية الكريمة تلقّن درساً في غاية الأهمية وترشد إرشاداً حكيماً بليغاً بصيغة الأمر إلى الاقتصاد، ونهي صريحٍ عن الإسراف. تتضمن هذه المسالة سبعَ نكات).

النكتة الأولى

إنَّ الخالق الرحيم سبحانه يطلب من البشرية شكراً وحمداً إزاء ما أَغدقَ عليها من النعم والآلاء، إلّا أَنَّ الإسراف منافٍ للشكر وهو استخفاف خاسر ووخيم تجاه النعمة، بينما الاقتصاد توقيرٌ مربح إزاء النعمة.

أَجل! إنَّ الاقتصاد كما هو شكرٌ معنوي، فهو توقير للرحمة الإلهية الكامنة في النعم والإحسان.. وهو سبب حاسم للبركة والاستكثار.. وهو مدار صحة الجسد كالحِمية.. وهو سبيل إلى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستجداء المعنوي.. وهو وسيلة قوية للاحساس بما في النعم والآلاء من لذة.. وهو سبب متين لتذوق اللذائذ المخبأَة في ثنايا نعَمٍ تبدو غير لذيذة.. ولكون الإسراف يخالف الحِكَم المذكورة آنفاً باتت عواقبُه وخيمة.

النكتة الثانية

لقد خلق الفاطر الحكيم جسم الإنسان بما يشبه قصراً كاملَ التقويم وبما يماثل مدينة منتظمة الأجزاء، وجعل حاسةَ الذوق المغروزة في فمه كالبوّاب الحارس، والأعصاب والأوعية بمثابة أسلاك هاتف وتلغراف (تتم خلالها دورة المخابرة الحساسة بين القوة الذائقة والمعدة التي هي في مركز كيان الإنسان) بحيث تقوم حاسةُ الذوق تلك بإبلاغ ما حلّ في الفم من المواد، وتحجز عن البدن والمعدة الأشياء الضارة التي لا حاجةَ للجسم لها قائلة: «ممنوع الدخول» نابذةً إياها، بل لا تلبث أَنْ تدفع وتبصق باستهجان في وجهِ كل ما هو غير نافع للبدن فضلاً عن ضرره ومرارته.

ولما كانت القوة الذائقة في الفم تؤدي دور الحارس. وإن المعدة هي سيدةُ الجسد وحاكمته من حيث الإدارة، فلو بلغت قيمةُ هديةٍ تُقدَّم إلى حاكم القصر مائة درجة فإنَّ خُمساً منها فقط يجوز أن يعطى هبةً للحارس لا أكثر، كيلا يختال الحارس وينسى وظيفتَه ويقحمَ في القصر كل مخلّ عابث يرشوه قرشاً أكثر.

وهكذا، بناءً على هذا السرّ، نفترض الآن أمامنا لقمتان، لقمة منها من مادة مغذّية -كالجبن والبيض مثلاً- يُقدّر ثمنها بقرش واحد، واللقمة الأخرى حلوى من نوع فاخر يُقدّر ثمنها بعشرة قروش، فهاتان اللقمتان متساويتان قبل دخولهما الفم ولا فرق بينهما، وهما متساويتان كذلك من حيث إنماء الجسم وتغذيته بعد دخولهما الفم ونزولهما عبر البلعوم. بل قد يغذّي الجبن -الذي هو بقرش واحد- تغذية أفضل وتنمية أقوى من اللقمة الأخرى. إذن ليس هناك من فرق إلّا ملاطفةَ القوة الذائقة في الفم التي لا تستغرق سوى نصف دقيقة. فليقدَّر إذن مدى ضرر الإسراف ويوازَن مدى التفاهة في صرف عشرة قروش بدلاً عن قرش واحد في سبيل الحصول على لذة تستغرق نصف دقيقة!

وهكذا فإن إثابة الحارس تسعة أضعاف ما يُقدّم إلى حاكم القصر من هدايا تُفضي به لا محالة إلى الغرور والجشع وتدفعه بالتالي إلى القول: إنما أنا الحاكم. فمَنْ كافأه بهبة أكثر ولذة أزيد دفعه إلى الداخل، مسبّباً إخلال النظام القائم هناك، مضرماً فيه ناراً مستعرة وملزماً صاحبه الاستغاثة صارخاً: هيّا أسرعوا إلى بالطبيب حالاً ليخفف شدة حرارتي ويطفئ لظى نارها.

فالاقتصاد والقناعة منسجمان انسجاماً تاماً مع الحكمة الإلهية، إذ يتعاملان مع القوة الذائقة معاملة الحارس، ويقفانها عند حدّها ويكافئانها حسب تلك الوظيفة. أما الإسراف فلأنه يسلك سلوكاً مخالفاً لتلك الحكمة، فسرعان ما يتلقّى المسرف صفعات موجِعة، إذ تحدث الاختلاطات المؤلمة في المعدة التي تؤدي إلى فقدان الشهية الحقيقية نحو الأكل، فيأكل بشهية كاذبة مصطنعة بتنويع الأطعمة مما يسبب عُسراً في الهضم، فيسبب المرض.

النكتة الثالثة

قلنا في النكتة الثانية آنفاً: إنَّ القوة الذائقة تؤدي دور الحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لم يَسمُوا بعدُ روحياً والذين لم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه. نعم إنه لا ينبغي اللجوء إلى الإسراف -كصرف عشرة أضعاف الثمن- لأجل تلذذ تلك الحاسة الحارسة. ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى أهل الحقيقة وأَهل القلوب وأُولي الأَبصار بمثابة راصدة وناظرة مفتشة لمطابخ الرحمة الإلهية (كما وضح ذلك في المقارنة المعقودة في الكلمة السادسة). وإن ما يتم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيمة النعم الإلهية ومن التعّرف عليها بأنواعها المختلفة بما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الأطعمة، إنما هو لإبلاغ الجسد والمعدة، بما ينمّ عن شكر معنوي.

فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الجسد رعايةً مادية وحدَها، بل هي أَيضاً أَرقى حكماً من وظيفة المعدة وأَرفع منزلة منها، لما لها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها، علماً أنها تستطيع أن تمضي في سبيل الحصول على لذتها -بشرط عدم الإسراف- إنجازاً لمهمة الشكر الخالص المقدّرة لها، وبنيّة التعرف والإطلاع على أَنواع النعم الإلهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستجداء، أي إننا نستطيع أن نستعمل ذلك اللسان الحامل للقوة الذائقة في الشكر لأجل التفضيل بين الأَطعمة اللذيذة.

وإليكم هذه الحادثة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي كرامة من كرامات الشيخ الكيلاني «قُدس سره»:

كان لعجوز رقيقة لطيفة ابنٌ وحيد يتربّى على يد الشيخ، دخلت تلك العجوز الموقرة ذات يوم على ابنها ورأت أنه يأكل من كِسرة خبز يابس أسمر مزاولاً رياضة روحية حتى ضعفَ ونحل جسمه. أَثارت هذه الحالة شفقة والدته الرؤوم ورقّت لحاله فذهبت لتشتكيه إلى الشيخ الكيلاني وإذا بها ترى الشيخ يأكل دجاجاً مشوياً. ولشدة رقتها ولطافتها قالت: أيها الشيخ إن ابني يكاد يموت جوعاً وها أنت ذا تأكل الدجاج! فخاطب الشيخ الدجاج قائلاً: «قم بإذن الله» فوثب ذلك الدجاج المطبوخ إلى خارج الوعاء بعد أَن اكتمل دجاجاً حياً بالتئام عظامه. لقد نقل هذا الخبر بالتواتر المعنوي ثقاتٌ كثيرون إظهاراً لكرامة واحدة من صاحب الكرامات المشهورة في العالم، الشيخ الكيلاني قُدس سرّه. ومما قاله الشيخ لتلك العجوز : متى ما بلغ ابنك هذه الدرجة.. فليأكل الدجاج هو الآخر.

فمغزى هذا الأمر الصادر من الشيخ الكيلاني هو: متى حَكمت روحُ ابنك جَسَدَهُ وهيمن قلبُه على نفسِه، وسادَ عقلُه معدتَه، والتمس اللذةَ لأجل الشكر.. عندئذ يمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة.

النكتة الرابعة

إنَّ المقتصد لا يعاني فاقةَ العائلة وعَوَزها كما هو مفهوم الحديث الشريف: (لَا يَعُولُ مَن اقتَصَد). أَجل هناك من الدلائل القاطعة التي لا يحصرها العدّ بأن الاقتصاد سببٌ جازم لإنزال البركة، وأساسٌ متين للعيش الأفضل. أذكر منها ما رأيته في نفسي وبشهادة الذين عاونوني في خدمتي وصادقوني بإخلاص فأقول:

لقد حصلتُ أحياناً وحصل أصدقائي على عشرة أضعاف من البركة بسبب الاقتصاد. حتى إنه قبل تسع سنوات عندما أصرّ عليّ قسمٌ من رؤساء العشائر المنفيين معي إلى «بوردور» على قبول زكاتهم كي يحولوا بيني وبين وقوعي في الذلة والحاجة لقلة ما كانت عندي من النقود، فقلت لأولئك الرؤساء الأثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً إلّا أنني أَملك الاقتصاد، وقد تعودتُ على القناعة، فأنا أَغنى منكم بكثير. فرفضتُ تكليفهم المتكرر الملحّ.. ومن الجدير بالملاحظة أن قسماً من أولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الدَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، إلّا أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني -ولله الحمد- ببركة الاقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم يُرَق مني ماء الوجه، ولم يدفعني لعرض حاجتي إلى الناس، ولم يفسد عليّ ما اتخذته دستوراً لحياتي وهو «الاستغناء عن الناس».

نعم إنَّ من لا يقتصد، مدعوّ للسقوط في مهاوي الذلّة، ومعرّضٌ للانزلاق إلى الاستجداء والهوان معنىً.

إنَّ المال الذي يُستعمل في الإسراف في زماننا هذا لهو مالٌ غالٍ وباهظ جداً، حيث تُدفع أحياناً الكرامةُ والشرف ثمناً ورشوة له، بل قد تُسلب المقدسات الدينية، ثم يُعطى نقوداً منحوسة مشؤومة، أي يقبض بضعة قروش من نقود مادية، على حساب مئات الليرات من النقود المعنوية. بينما لو اقتصر الإنسان على الحاجات الضرورية واختصرها وحصر همّه فيها، فسيجد رزقاً يكفُل عيشه من حيث لا يحتسب وذلك بمضمون الآية الكريمة: ﴿اِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَت۪ينُ﴾ (الذاريات: 58) وإن صراحة الآية الكريمة: ﴿وَمَا مِنْ دَٓابَّةٍ فِي الْاَرْضِ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهَا﴾ (هود:6) تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً.

نعم، إن الرزق قسمان:

القسم الأول: وهو الرزق الحقيقي الذي تتوقف عليه حياة المرء، وهو تحت التعهد الرباني بحكم هذه الآية الكريمة، يستطيع المرءُ الحصولَ على ذلك الرزق الضروري مهما كانت الأحوال، إنْ لم يتدخل سوءُ اختيار البشر، دون أن يضطر إلى فداء دينه ولا التضحية بشرفه وعزته.

القسم الثاني: هو الرزق المجازي، فالذي يسيء استعماله لا يستطيع أن يتخلّى عن الحاجات غير الضرورية، التي غدت ضروريةً عنده نتيجة الابتلاء ببلاء التقليد. وثمن الحصول على هذا الرزق باهظ جداً ولاسيما في هذا الزمان، حيث لا يدخل ضمن التعهد الرباني، إذ قد يتقاضى ذلك المال لقاء تضحيته بعزته سلفاً راضياً بالذل، بل قد يصل به حد السقوط في هاوية الاستجداء المعنوي، والتنازل إلى تقبيل أقدام أناسٍ منحطين وضيعين، لا بل قد يحصل على ذلك المال المنحوس الممحوق بالتضحية بمقدساته الدينية التي هي نور حياته الخالدة. ثم إنَّ الألم الذي ينتاب ذوي الوجدان من حيث العاطفة الإنسانية -بما يرونه من آلام يقاسيها المحتاجون البائسون في هذا الزمان الذي خيّم عليه الفقرُ والحاجة- يشوّب لذتَهم التي يحصلونها بأموال غير مشروعة، وتزداد مرارتُها إن كانت لهم ضمائر. إنه ينبغي في هذا الزمان العجيب الاكتفاء بحدّ الضرورة في الأموال المريبة، لأنه حسب قاعدة «الضرورة تُقَدّر بقدرها» يمكن أن يؤخذ باضطرارٍ من المال الحرام حدُّ الضرورة وليس أكثر من ذلك. وليس للمضطر أن يأكل من الميتة إلى حدّ الشبع، بل له أن يأكل بمقدار ما يحول بينه وبين الموت. وكذا لا يؤكل الطعام بشراهة أمام مائة من الجائعين.

نورد هنا حادثة واقعية للدلالة على كون الاقتصاد سبب العزة والكمال:

أقام «حاتم الطائي» المشهور بكرمه وسخائه ضيافة عظيمة ذات يوم وأغدق هدايا ثمينة على ضيوفه. ثم خرج للتجوال في الصحراء، فرأى شيخاً فقيراً يحمل على ظهره حملاً ثقيلاً من الحطب والكلأ والشوك والدم يسيل من بعض جسمه.. فخاطبه قائلاً:

– أيها الشيخ، إنَّ حاتماً الطائي يقيم اليوم ضيافة كريمة ويوزع هدايا ثمينة، بادر إليه لعلك تنال منه أموالاً أضعاف أضعاف ما تناله من هذا الحمل!.

قال له ذلك الشيخ المقتصد: سأحمل حملي هذا بعزة نفسي وعرق جبيني، ولا أرضى أن أقع تحت طائل منّة حاتم الطائي.

ولما سُئل حاتم الطائي يوماً:

– مَنْ من الناس وجدتَهم أعزَّ منك وأكرم؟.

قال:  ذلك الشيخ المقتصد الذي لقيتُه في المفازة ذات يوم، لقد رأيتُه حقاً أعزّ مني وأكرم.

اللمعة السابعة عشرة

(عبارة عن سبع عشرة مذكِّرة تألقت من الزُّهرة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة

قبل اثنتي عشرة سنة من تأليف هذه اللمعة وفقني المولى الكريم وشملني بعنايته ولُطفه، فكتبتُ بعض ما تَألَّق من مسائل التوحيد وبعض ما تظاهر منها في أثناء تأملٍ فكريّ، وتجوالٍ قلبيّ، وانكشافٍ روحيّ عبر العروج في مراتب المعرفة الإلهية، كتبتُها باللغة العربية على صورة مذكِّرات في رسائل موسومة بـ«زُهرة» و«شعلة» و«حبّة» و«شمّة» و«ذرة» و«قطرة» وأمثالِها.

وحيث إن تلك المذكِّرات قد كُتبتْ لأجل إراءة بدايةِ حقيقةٍ عظيمة واسعة، وإبراز مقدمتِها فحسب، ولأجل إظهار شعاعٍ من أشعة نور ساطع باهر، فقد جاءت على شكل خواطر وملحوظات وتنبيهات. سجلتُها لنفسي وحدَها، الأمر الذي جعل الاستفادةَ منها محدودةً، وبخاصة أن القسم الأعظم من أخلص إخواني وخلاصتهم لم يدرسوا اللغةَ العربية، فاضطررتُ إزاء إصرارهم وإلحاحهم إلى كتابةِ إيضاحات باللغة التركية لقسم من تلك المذكّرات واللمعات. وأَكتفي بترجمة القسم الآخر منها.
ولقد جاءت الترجمة إلى التركية نصاً دون تغيير حيث تراءت «لسعيد الجديد» هذه الخواطر الواردة في الرسائل العربية رؤيةً أشبه ما تكون بالشهود، وذلك حينما شرع بالاغتراف من منهل علم «الحقيقة».. ولأجل هذا فقد ذُكرت بعض الجمل بالرغم من أنها مذكورة في رسائل أخرى بينما ذُكر البعض الآخر في غاية الإجمال ولم يوضّح التوضيح المطلوب وذلك لئلا يفقدَ لطافته الأصلية.

سعيد النورسي

المذكّرة الأولى

كنت قد خاطبتُ نفسي قائلاً: اعلم أيها السعيد الغافل! إنه لا يليق بك أن تربط قلبَك وتعلّقه بما لا يرافقك بعد فناءِ هذا العالم، بل يُفارقُك بخراب الدنيا! فليس من العقل في شيء ربطُ القلب بأشياءَ فانيةٍ! فكيف بما يتركك بانقراض عصرك ويدير ظهرَه لك؟ بل فكيف بما لا يصاحبُك في سَفر البرزخ؟ بل فكيف بما لا يشيّعك إلى باب القبر؟ بل فكيف بما يفارقُك خلال سنة أو سنتين فراقاً أبدياً، مُورّثاً إثْمَه ذمَّتَك، محمّلاً خطاياه على ظهرك؟ بل فكيف بما يتركك على رغمك في آنِ سرورك بحصوله؟

فإنْ كنت فطناً عاقلاً فلا تهتمّ ولا تغتم، واترك ما لا يقتدرُ أن يرافقَك في سفر الأبد والخلود، بل يضمحل ويفنى تحت مصادمات الدنيا وانقلاباتها، وتحت تطورات البرزخ، وتحت انفلاقات الآخرة.

ألا ترى أن فيك لطيفةً لا ترضى إلّا بالأبد والأبدي، ولا تتوجه إلّا إلى ذلك الخالد، ولا تتنزل لما سواه؟ حتى إذا ما أُعطيت لها الدنيا كُلها، فلا تُطَمْأن تلك الحاجة الفطرية.. تلك هي سلطانُ لطائفك ومشاعرك.. فأَطِعْ سلطان لطائفك المطيع لأمر فاطره الحكيم جلّ جلاله، وانجُ بنفسك..

المذكِّرة الثانية

لقد رأيت في رؤيا صادقةٍ ذات حقيقة، أَنني أُخاطب الناس: أيها الإنسان! إنَّ من دساتير القرآن الكريم وأحكامه الثابتة: أن لا تحسبنَّ ما سوى الله تعالى أعظم منك فترفعَه إلى مرتبة العبادة، ولا تحسَبنَّ أنك أعظم من شيء من الأشياء بحيث تتكبّر عليه. إذ يتساوى ما سواه تعالى في البعد عن «المعبودية» وفي نسبة المخلوقية.

المذكِّرة الثالثة

اعلم أَيها السعيد الغافل! أنك ترى الدنيا الزائلة سريعاً، كأَنها دائمةٌ لا تموت، فعندما تنظر إلى ما حولك من الآفاق وتراها ثابتةً مستمرةً -إلى حدٍ ما- نوعاً وجملةً، ومن ثم ترجع بالمنظار نفسِه فتنظر إلى نفسك الفانية، تظنّها ثابتةً أيضاً. وعندها لا تندهش إلّا من هَول القيامة، وكأنك تدوم إلى أن تقوم الساعة!.

عُدْ إلى رشدك، فأنت ودنياك الخاصة بك معرّضان في كلّ آن إلى ضربات الزوال والفناء.. إن مَثَلَكَ في خطأ شعورك وغَلَط حسِّك هذا، يشبه مَن في يده مرآةٌ تواجه قصراً أو بلداً أو حديقةً، وترتسم الصورة المثاليةُ للقصر أو البلد أو الحديقة فيها، فإذا ما تحركت المرآة أَدنى حركة، وتغيرت أَقلّ تغيّر، فسيحدث الهرجُ والمرج في تلك الصورة المثالية، فلا يفيدُك بَعدُ البقاءُ والدوام الخارجيان في نفس القصر أو البلد أو الحديقة، إذ ليس لك منها إلّا ما تعطيك مرآتُك بمقياسها وميزانها.

فاعلم أَنَّ حياتك وعمرَك مرآة! وأنها عمادُ دنياك وسندها ومرآتها ومركزها. فتأمل في مرآتك، وإمكان موتها، وخرابِ ما فيها في كل دقيقة، فهي في وضع كأَنَّ قيامتَك ستقوم في كل دقيقة. فما دام الأمر هكذا فلا تُحمِّل حياتَك ودنياك ما لا طاقةَ لهما به.

المذكِّرة الرابعة

اعلم أن من سُنَّة الفاطر الحكيم -في الأكثر- ومن عاداته الجارية إعادةُ ما له أهمية وقيمة غالية بعينه لا بمثله. فعندما يجدد أكثرَ الأشياء بمثلها عند تبدل الفصول وتغيرّ العصور، يُعيد تلك الأشياء الثمينة بعينها. فانظر إلى الحشر اليومي -أي الذي يتم في كل يوم- وإلى الحشر السنوي، وإلى الحشر العصري، ترَ هذه القاعدة المطّردة واضحةً جلية في الكل. وبناء على هذه القاعدة الثابتة نقول:

قد اتفقت الفنونُ وشهدت العلومُ على أَنَّ الإنسان هو أَكملُ ثمرةٍ في شجرة الخليقة، وأَنَّه أَهم مخلوق بين المخلوقات، وأَغلى موجود بين الموجودات، وأَنَّ فرداً منه بمثابة نوع من سائر الأحياء، لذا يُحكم بالحدس القطعي على أَنَّ كلَّ فردٍ من أفراد البشر سيُعاد في الحشر الأَعظم والنشر الأَكبر بعينِه وجسمهِ واسمهِ ورسمهِ.

اللمعة السادسة عشرة

ﺑِﺎﺳْﻤِﻪِ ﺳُﺒْﺤَﺎﻧَﻪُ

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾

ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻭﺭﺣﻤﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺑﺮﻛﺎﺗﻪ

ﺇﺧﻮﺗﻲ ﺍﻷﻋﺰﺍﺀ ﺍﻟﺼﺪّﻳﻘﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺻﺒﺮﻱ، ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻲ، ﻣﺴﻌﻮﺩ، ﺍﻟﻤﺼﻄﻔﻮﻥ، ﺧﺴﺮﻭ، ﺭﺃﻓﺖ، ﺑﻜﺮ ﺑﻚ، ﺭﺷﺪﻱ، ﻟﻄﻔﻴﻮﻥ، ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﺃﺣﻤﺪ، ﺍﻟﺸﻴﺦ ﻣﺼﻄﻔﻰ ﻭﺁﺧﺮﻭﻥ.

ﻟﻘﺪ ﺃﺣﺴﺴﺖ ﺇﺣﺴﺎﺳﺎً ﻗﻠﺒﻴﺎً ﺃﻥ ﺃُﺑﻴّﻦ ﻟﻜﻢ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎﺭ ﺃﺭﺑﻊَ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﻬﻤﺔ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﻣﻮﺿﻊَ ﺗﺴﺎﺅﻝ.. ﺃُﺑﻴّﻨﻬﺎ ﻟﻜﻢ ﻟﻠﻌﻠﻢ ﻭﺍﻻﻃﻼﻉ.

ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻷﻭﻝ ﺍﻟﻤﺜﻴﺮ:

ﺃﺧﺒﺮ ﺃﺣﺪُ ﺇﺧﻮﺍﻧﻨﺎ ﻭﻫﻮ «ﺍﻟﺴﻴﺪ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﭼﺎﺑﺮﺍ ﺯﺍﺩﺓ» ﻛﻤﺎ ﺃَﺧﺒﺮ ﺃُﻧﺎﺱ ﺁﺧﺮﻭﻥ ﺃﻳﻀﺎً: ﺃَﻥَّ ﺃَﻫﻞَ ﺍﻟﻜﺸﻒ ﻗﺪ ﻗﺎﻟﻮﺍ ﺑﺤﺪﻭﺙ ﺑﺸﺎﺭﺍﺕٍ ﻭﻓﺘﻮﺡ ﻷﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻭﺗﻜﺸَﻒ ﻋﻨﻬﻢ ﺍﻟﻐﻤﺔُ ﻓﻲ ﺭﻣﻀﺎﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ، ﻭﻟﻜﻦ ﻟﻢ ﻳﻈﻬﺮ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺒﻴﻞ.

ﻓﺴﺄﻟﻮﻧﻲ: ﻛﻴﻒ ﻳُﺨﺒﺮ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺆﻻﺀ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻮﻻﻳﺔ ﻭﺍﻟﻜﺸﻒ ﻋﻤﺎ ﻫﻮ ﺧﻼﻑ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ؟

ﻭﺧﻼﺻﺔ ﻣﺎ ﺃﺟﺒﺘﻬﻢ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓً ، ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﺳﻮﺍﻧﺢ ﺍﻟﻘﻠﺐ، ﻫﻲ:

ﺃﻧﻪ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ ﻣﺎ ﻣﻌﻨﺎﻩ: ﺃﻥ ﺍﻟﺒﻼﺀ ﻳﻨﺰﻝ ﻭﺗﻘﺎﺑﻠﻪ ﺍﻟﺼﺪﻗﺔ ﻓﺘﺮﺩّﻩ.

ﻳﺘﺒﻴﻦ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ: ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻘﺪَّﺭﺍﺕ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﻟﻠﻮﻗﻮﻉ، ﺗﺄﺗﻲ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔً ﺑﺒﻌﺾ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ، ﻓﺘﺘﺄﺧﺮ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﻗﻮﻉِ ﺑﺘﺄﺧﺮ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ. ﻓﺘﺘﺄﺧﺮ ﺃﻳﻀﺎً ﺍﻟﻤﻘﺪَّﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﻃﻠﻊ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻷﻭﻟﻴﺎﺀُ ﻣﻦ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺍﻟﻜﺸﻒ؛ ﺇﺫ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻘﺪّﺭﺍﺕٍ ﻣﻄﻠﻘﺔً، ﺑﻞ ﻣﻘﻴﺪﺓً ﺑﺒﻌﺾ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ، ﻓﻠﻌﺪﻡ ﺣﺪﻭﺙِ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﻻ ﺗﻘﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔُ؛ ﺇﺫ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﻛﺎﻷﺟﻞ ﺍﻟﻤﻌﻠّﻖ، ﻗﺪ ﻛﺘﺒﺖ ﻓﻲ ﻟﻮﺡ ﺍﻟﻤﺤﻮ ﻭﺍﻹﺛﺒﺎﺕ، ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻧﻮﻉٌ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺳﺠﻞ ﺍﻟﻠﻮﺡ ﺍﻷﺯﻟﻲ. ﻓﺎﻟﻜﺸﻒ ﻗﻠّﻤﺎ ﻳﺮﻗﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻮﺡ ﺍﻷﺯﻟﻲ، ﺑﻞ ﻻ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﻣﻌﻈﻢُ ﺍﻟﻜﺸﻮﻑ ﺍﻟﺮﻗﻲ ﺇﻟﻰ ﻫﻨﺎﻙ. ﻓﺒﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ:

ﺇﻥَّ ﺍﻷﺧﺒﺎﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﺃُﺧﺒﺮ ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺷﻬﺮ ﺭﻣﻀﺎﻥ ﺍﻟﻔﺎﺋﺖ ﻭﻋﻴﺪ ﺍﻷﺿﺤﻰ ﻭﻓﻲ ﺃﻭﻗﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ، ﻭﺑﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﺍﻻﺳﺘﻨﺒﺎﻁ ﺃﻭ ﺑﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺸﻔﻴﺎﺕ، ﻟﻢ ﺗﺠﺪ ﺷﺮﻭﻃَﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﻠّﻘﺔ ﺑﻬﺎ، ﻟﺬﺍ ﻟﻢ ﺗﺄﺕ ﺇﻟﻰ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﻮﺍﻗﻊ. ﻓﺎﻟﻤﺨﺒﺮﻭﻥ ﻋﻨﻬﺎ ﻻ ﻳُﻜﺬَّﺑﻮﻥ، ﻷﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻘﺪَّﺭﺓ، ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻬﺎ ﻻ ﺗﻘﻊ ﺇﻟّﺎ ﺑﻤﺠﻲﺀ ﺷﺮﻭﻃﻬﺎ، ﻭﺇﺫ ﻟﻢ ﺗﺄﺕ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁُ ﻓﻼ ﺗﻘﻊ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥَّ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﺍﻟﺨﺎﻟﺺ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺮﻓﻌﻪ ﻣﻌﻈﻢُ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﻓﻲ ﺭﻣﻀﺎﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ ﺩﻓﻌﺎً ﻟﻠﺒﺪﻉ، ﻛﺎﻥ ﺷﺮﻃﺎً ﻭﺳﺒﺒﺎً ﻣﻬﻤﺎً ﻟﻪ، ﻭﻟﻜﻦ ﺩﺧﻮﻝَ ﺍﻟﺒﺪﻉ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻮﺍﻣﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻬﺮ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ ﻣﻊ ﺍﻷﺳﻒ ﺣﺠﺒﺖ ﺍﻻﺳﺘﺠﺎﺑﺔَ ﻭﺍﻟﻘﺒﻮﻝ، ﻓﻠﻢ ﺗﻔﺮّﺝ ﺍﻟﻜﺮﺑﺔُ ﻭﻟﻢ ﺗُﻜﺸَﻒ ﺍﻟﻐﻤّﺔ؛ ﺇﺫ ﻛﻤﺎ ﺗﺪﻓﻊ ﺍﻟﺼﺪﻗﺔُ ﺍﻟﺒﻼﺀَ -ﺑﺪﻻﻟﺔ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ- ﻓﺎﻟﺪﻋﺎﺀُ ﺍﻟﺨﺎﻟﺺ ﻣﻦ ﺍﻷﻛﺜﺮﻳﻦ ﻳﺠﺬﺏ ﺍﻟﻔﺮﺝَ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﺸﺎﻣﻞ. ﻭﻟﻜﻦ ﻷﻥ ﺍﻟﻘﻮﺓَ ﺍﻟﺠﺎﺫﺑﺔ ﻟﻢ ﺗﺄﺕِ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﻓﻠﻢ ﺗﻮﻫﺐ ﺍﻟﻔَﺮَﺝَ ﻭﺍﻟﻔﺘﺢَ.

ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺍﻟﻤﺜﻴﺮ:

ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡُ ﺑﻤﺤﺎﻭﻟﺔ، ﻭﺍﻟﺸﺮﻭﻉُ ﺑﺘﺪﺑﻴﺮ، ﺇﺯﺍﺀ ﻭﺿﻊ ﺳﻴﺎﺳﻲ ﻣﻬﻴّﺞ، ﻓﻲ ﻏﻀﻮﻥ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﺸﻬﺮﻳﻦ، ﺇﺫ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺆﺩﻱ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﻟﺔ -ﺑﺎﺣﺘﻤﺎﻝ ﻗﻮﻱ- ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻔﺮّﺣﻨﻲ ﻭﻳﺪﺧﻞ ﺍﻟﺒﻬﺠﺔَ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺏ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﺇﺧﻮﺗﻲ ﺍﻟﻤﻘﺮّﺑﻴﻦ؛ ﻟﻢ ﺃَﻋﺒﺄْ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﻮﺿﻊ، ﺑﻞ ﻗﻤﺖُ ﺧﻼﻓﺎً ﻟﻪ ﺃَﺣﻤﻞ ﻓﻜﺮﺍً ﻓﻲ ﺻﺎﻟﺢ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻀﺎﻳﻘﻮﻧﻨﻲ ﻓﻈﻞّ ﺍﻟﺒﻌﺾُ ﻓﻲ ﺣﻴﺮﺓ ﻣﻀﺎﻋﻔﺔ ﻣﻦ ﺃَﻣﺮﻱ، ﺇﺫ ﻗﺎﻟﻮﺍ: ﺇﻥَّ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺘﺒﻌﻬﺎ ﺿﺪَّﻙ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺒﺘﺪﻉُ ﻭﺛُﻠَّﺔٌ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ ﺍﻟﺮﺅﺳﺎﺀ، ﻛﻴﻒ ﺗﺠﺪﻫﺎ ﺣﺘﻰ ﻻ ﺗﻬﺎﺟﻤﻬﺎ؟

ﻭﺧﻼﺻﺔ ﺟﻮﺍﺑﻲ:

ﻫﻲ ﺃﻥَّ ﺃَﻋﻈﻢ ﺧﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻫﻮ ﻓﺴﺎﺩُ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭﺗﺰﻋﺰﻉُ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺑﻀﻼﻝ ﻗﺎﺩﻡ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻭﺍﻟﻌﻠﻮﻡ. ﻭﺇﻥ ﺍﻟﻌﻼﺝ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪ ﻹﺻﻼﺡ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺇﻧﻘﺎﺫ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﻨﻮﺭُ ﻭﺇﺭﺍﺀﺓ ﺍﻟﻨﻮﺭ. ﻓﻠﻮ ﻋُﻤﻞ ﺑﻬﺮﺍﻭﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﻭﺻﻮﻟﺠﺎﻧﻬﺎ ﻭﺃُﺣﺮﺯ ﺍﻟﻨﺼﺮُ، ﺗَﺪَّﻧﻰ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭُ ﺇﻟﻰ ﺩَﺭَﻙِ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ. ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻖ -ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﻌﻠﻮﻡ- ﺃَﺷﺪُّ ﺧﻄﺮﺍً ﻣﻦ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮ ﻭﺃَﻓﺴﺪُ ﻣﻨﻪ. ﻓﺼﻮﻟﺠﺎﻥ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺇﺫﻥ ﻻ ﻳُﺼﻠِﺢ ﺍﻟﻘﻠﺐَ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﻗﺖ، ﺣﻴﺚ ﻳُﻨﺰﻝ ﺍﻟﻜﻔﺮَ ﺇﻟﻰ ﺃﻋﻤﺎﻕ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﻳﺘﺴﺘﺮ ﻫﻨﺎﻙ ﻭﻳﻨﻘﻠﺐ ﻧﻔﺎﻗﺎً.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺷﺨﺼﺎً ﻋﺎﺟﺰﺍً ﻣﺜﻠﻲ، ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﺍﻟﻨﻮﺭَ ﻭﺍﻟﻬﺮﺍﻭﺓَ ﻣﻌﺎً ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﻗﺖ، ﻟﺬﺍ ﻓﺄﻧﺎ ﻣﻀﻄﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻻﻋﺘﺼﺎﻡ ﺑﺎﻟﻨﻮﺭ ﺑﻤﺎ ﺃَﻣﻠِﻚُ ﻣﻦ ﻗﻮﺓ، ﻓﻴﻠﺰﻡ ﻋﺪﻡَ ﺍﻻﻟﺘﻔﺎﺕ ﺇﻟﻰ ﻫﺮﺍﻭﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺃﻳﺎً ﻛﺎﻥ ﻧﻮﻋﻬﺎ. ﺃﻣﺎ ﻣﺎ ﻳﻘﺘﻀﻴﻪ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩُ ﺍﻟﻤﺎﺩﻱ، ﻓﺘﻠﻚ ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻨﺎﻃﺔً ﺑﻨﺎ ﺣﺎﻟﻴﺎً. ﻧﻌﻢ، ﺇﻥَّ ﺍﻟﻬﺮﺍﻭﺓ ﻫﻲ ﻟﻮﻗﻒ ﺗﺠﺎﻭﺯ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺮﺗﺪ ﻋﻨﺪ ﺣﺪّﻩ، ﻭﻟﻜﻦ ﻻ ﻧﻤﻠﻚ ﺳﻮﻯ ﻳﺪﻳﻦ، ﺑﻞ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻨﺎ ﻣﺎﺋﺔٌ ﻣﻦ ﺍﻷﻳﺪﻱ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﻜﻔﻲ ﺇﻟّﺎ ﻟﻠﻨﻮﺭ ﻓﻼ ﻳﺪَ ﻟﻨﺎ ﺗﻤﺴﻚ ﺑﻬﺮﺍﻭﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ.

ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﺍﻟﻤﺜﻴﺮ:

ﺇﻥَّ ﻫﺠﻮﻡ ﺍﻷﺟﺎﻧﺐ ﻛﺈﻧﻜﻠﺘﺮﺍ ﻭﺇﻳﻄﺎﻟﻴﺎ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﻓﻲ ﺍﻵﻭﻧﺔ ﺍﻷﺧﻴﺮﺓ ﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﺇﺛﺎﺭﺓ ﺍﻟﺤﻤﻴﺔ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ ﻭﻫﻲ ﺭﻛﻴﺰﺓ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻭﻣﻨﺒﻊ ﻗﻮﺓ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﻟﺤﻜﻮﻣﺎﺕ ﺧﻠﺖ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﻃﻦ ﻣﻨﺬ ﺃﻣﺪ ﺑﻌﻴﺪ ﻭﺳﺘُﺼﺒﺢ ﻭﺳﻴﻠﺔ ﻹﺣﻴﺎﺀ ﺍﻟﺸﻌﺎﺋﺮ ﺍﻹﺳﻼﻣﻴﺔ -ﺇﻟﻰ ﺣﺪٍ ﻣﺎ- ﻭﻟﺪﻓﻊ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺪﻉ.. ﻓﻠِﻢَ ﻋﺎﺭﺿﺖَ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﺑﺸﺪﺓ ﻭﺳﺄَﻟﺖَ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﺗﺤﻞ ﺍﻟﻘﻀﻴﺔ ﺑﺴﻼﻡ ﻭﺃﻣﺎﻥ. ﻓﻘﺪ ﺃﺻﺒﺤﺖَ ﻣﻨﺤﺎﺯﺍً ﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺍﻟﻤﺒﺘﺪﻋﻴﻦ، ﻭﻫﺬﺍ ﺑﺬﺍﺗﻪ ﻭﺑﻨﺘﺎﺋﺠﻪ ﻣﻮﺍﻻﺓ ﻟﻠﺒﺪﻉ؟

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﻧﺤﻦ ﻧﺴﺄﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﻟﻔﺮﺝ ﻭﺍﻟﺒﺸﺎﺭﺓ ﻭﺍﻟﺴﺮﻭﺭ ﻭﺍﻟﻔﺘﺢ، ﻭﻟﻜﻦ ﻟﻴﺲ ﺑﺴﻴﻒ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ.. ﻓﺴﺤﻘﺎً ﻟﺴﻴﻮﻓﻬﻢ ﻭﻟﺘﻜﻦ ﻭﺑﺎﻻ ﻋﻠﻴﻬﻢ. ﻧﺤﻦ ﻟﺴﻨﺎ ﺑﺤﺎﺟﺔ ﻭﻻ ﻧﺮﺟﻮ ﺍﻟﻔﺎﺋﺪﺓَ ﻣﻦ ﺳﻴﻮﻓﻬﻢ، ﻷﻥ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍﻷﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﻤﺘﻤﺮﺩﻳﻦ ﻫﻢ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺳﻠﻄﻮﺍ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻞ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥ، ﻭﻫﻢ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺭﺑّﻮﺍ ﺍﻟﺰﻧﺎﺩﻗﺔ ﻓﻲ ﺃﺣﻀﺎﻧﻬﻢ.

ﺃﻣﺎ ﻣﺼﻴﺒﺔُ ﺍﻟﺤﺮﺏ ﻭﺑﻼﺅﻫﺎ، ﻓﻬﻲ ﺿﺮﺭٌ ﺑﺎﻟﻎ ﻟﺨﺪﻣﺘﻨﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ، ﻷﻥَّ ﻣﻌﻈﻢَ ﺇﺧﻮﺍﻧﻨﺎ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﺍﻟﻤﻀﺤﻴﻦ ﺍﻟﻔﻀﻼﺀ ﻻ ﺗﺘﺠﺎﻭﺯ ﺃﻋﻤﺎﺭُﻫﻢ ﺍﻟﺨﻤﺲ ﻭﺍﻷﺭﺑﻌﻴﻦ ﺳﻨﺔ، ﻓﻴﻀﻄﺮﻭﻥ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﻟﻠﺤﺮﺏ ﺗﺎﺭﻛﻴﻦ ﺍﻟﺨﺪﻣﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﻘﺪﺳﺔ. ﻭﻟﻮ ﺃﻥَّ ﻟﻲ ﻣﺒﻠﻐﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﻝ، ﻟﻜﻨﺖ ﺃَﺩﻓﻌﻪ -ﺑﻜﻞ ﺭﺿﺎﻱ- ﻷﺟﻞ ﺇﻧﻘﺎﺫ ﻫﺆﻻﺀ ﺍﻹﺧﻮﺓ ﺍﻷﻛﺎﺭﻡ، ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﺪﻝ ﺍﻟﻨﻘﺪﻱ ﺃﻟﻒ ﻟﻴﺮﺓ! ﺇﻥ ﺍﻧﺨﺮﺍﻁ ﻣﺌﺎﺕٍ ﻣﻦ ﺇﺧﻮﺍﻧﻨﺎ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻨﺪﻳﺔ، ﻭﻣﺰﺍﻭﻟﺘﻬﻢ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ ﺍﻟﻤﺎﺩﻱ ﺧﺴﺎﺭﺓٌ ﻓﺎﺩﺣﺔ ﻟﺨﺪﻣﺘﻨﺎ، ﺃَﺷﻌﺮ ﺃﻧﻬﺎ ﺗﻌﺪِﻝ ﺃﻛﺜﺮَ ﻣﻦ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒ ﻟﻴﺮﺓ. ﺑﻞ ﺇﻥ ﺫﻫﺎﺏ «ﺫﻛﺎﺋﻲ» ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻨﺪﻳﺔ ﺧﻼﻝ ﺍﻟﺴﻨﺘﻴﻦ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴﺘﻴﻦ، ﺃﻓﻘﺪﻧﺎ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﻟﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻮﺍﺋﺪ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ.

ﻭﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺣﺎﻝ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺫﺍ ﺍﻟﺠﻼﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻄﻬّﺮ ﻭﺟﻪَ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻤﻠﺒّﺪ ﺑﺎﻟﻐﻴﻮﻡ ﻭﻳﺒﺮﺯ ﺍﻟﺸﻤﺲَ ﺍﻟﺴﺎﻃﻌﺔ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻼﻣﻊ ﺧﻼﻝ ﺩﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻫﻮ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭُ ﺃﻳﻀﺎً ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﺰﻳﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻐﻴﻮﻡ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﺀ ﺍﻟﻤﻈﻠﻤﺔ ﺍﻟﻔﺎﻗﺪﺓ ﻟﻠﺮﺣﻤﺔ، ﻭﻳُﻈﻬﺮ ﺣﻘﺎﺋﻖَ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﻤﻨﻴﺮﺓ ﺑﻜﻞ ﻳُﺴﺮ ﻭﺳﻬﻮﻟﺔ ﻭﺑﻐﻴﺮ ﺧﺴﺎﺭﺓ.

ﺇﻧﻨﺎ ﻧﺮﺟﻮ ﻫﺬﺍ ﻣﻦ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ، ﻭﻧﺴﺄﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺃﻟّﺎ ﻳﻜّﻠﻔﻨﺎ ﺫﻟﻚ ﺛﻤﻨﺎً ﻏﺎﻟﻴﺎً. ﻭﺃﻥ ﻳﻤﻨﺢ ﺭﺅﻭﺱَ ﺍﻟﺮﺅﺳﺎﺀ ﺍﻟﻌﻘﻞَ ﻭﻳﻬﺐ ﻟﻘﻠﻮﺑﻬﻢ ﺍﻹﻳﻤﺎﻥَ. ﻭﻫﺬﺍ ﺣﺴﺒﻨﺎ، ﻭﺣﻴﻨﻬﺎ ﺗﺘﻌﺪﻝ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺑﻨﻔﺴﻬﺎ ﻭﺗﺴﺘﻘﻴﻢ.

ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ ﺍﻟﻤﺜﻴﺮ:

ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﻓﻲ ﺃﻳﺪﻳﻜﻢ ﻧﻮﺭﺍً، ﻭﻟﻴﺲ ﻫﺮﺍﻭﺓً ﻭﺻﻮﻟﺠﺎﻧﺎً، ﻓﺎﻟﻨﻮﺭ ﻻ ﻳُﻌﺎﺭَﺽ ﻭﻻ ﻳُﻬﺮَﺏ ﻣﻨﻪ، ﻭﻻ ﻳﻨﺠﻢ ﻣﻦ ﺇﻇﻬﺎﺭﻩ ﺿﺮﺭٌ. ﻓﻠِﻢَ ﺇﺫﻥ ﺗﻮﺻﻮﻥ ﺃﺻﺪﻗﺎﺀﻛﻢ ﺑﺄﺧﺬ ﺍﻟﺤﺬﺭ ﻭﺗﻤﻨﻌﻮﻧﻬﻢ ﻣﻦ ﺇﺑﺮﺍﺯ ﺭﺳﺎﺋﻞَ ﻧﻴّﺮﺓٍ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻛﺎﻓﺔ؟.

ﻣﻀﻤﻮﻥ ﺟﻮﺍﺏ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎﺭ ﻫﻮ: ﺃﻥ ﺭﺅﻭﺱ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺅﺳﺎﺀ ﻣﺨﻤﻮﺭﺓ، ﻻ ﻳﻘﺮﺃﻭﻥ، ﻭﺇﺫﺍ ﻗﺮﺃﻭﺍ ﻻ ﻳﻔﻬﻤﻮﻥ، ﻓﻴﺆﻭّﻟﻮﻧﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﻨﻰ ﺧﻄﺄ، ﻭﻳﻌﺘﺮﺿﻮﻥ ﻭﻳﻬﺎﺟﻤﻮﻥ. ﻭﻟﺴﺪّ ﺍﻟﻄﺮﻳﻖ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﻫﺠﻮﻣﻬﻢ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﺪﻡ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻟﻬﻢ ﻟﺤﻴﻦ ﺇﻓﺎﻗﺘﻬﻢ ﻭﺍﺳﺘﺮﺟﺎﻉ ﺭﺷﺪﻫﻢ. ﺛﻢ ﺇﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻏﻴﺮَ ﻣﻨﺼﻔﻴﻦ ﻛﺜﻴﺮﻳﻦ، ﻳﻨﻜﺮﻭﻥ ﺍﻟﻨﻮﺭ، ﺃﻭ ﻳﻐﻤﻀﻮﻥ ﺃﻋﻴﻨَﻬﻢ ﺩﻭﻧﻪ، ﻷﻏﺮﺍﺽ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﺧﺎﺻﺔ، ﺃﻭ ﺧﻮﻓﺎً ﺃﻭ ﻃﻤﻌﺎً. ﻭﻷﺟﻞ ﻫﺬﺍ ﺃُﻭﺻﻰ ﺇﺧﻮﺗﻲ ﺃﻳﻀﺎً ﻟﻴﺄﺧﺬﻭﺍ ﺣِﺬْﺭَﻫﻢ ﻭﻳﺤﺘﺎﻃﻮﺍ ﻟﻸﻣﺮ، ﻭﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻟّﺎ ﻳﻌﻄﻮﺍ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖَ ﺃﺣﺪﺍً ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﺃﻫﻠﻬﺎ، ﻭﺃﻟّﺎ ﻳﻘﻮﻣﻮﺍ ﺑﻌﻤﻞ ﻳﺜﻴﺮ ﺃﻭﻫﺎﻡَ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺷﺒﻬﺎﺗﻬﻢ ﻋﻠﻴﻬﻢ. (حاشية) ﺣﺎﺩﺛﺔ ﻟﻄﻴﻔﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻭﺳﻴﻠﺔ ﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺟﺎﺩﺓ:

ﺟﺎﺀﻧﻲ ﺃﻭﻝ ﺃﻣﺲ ﺍﻟﺴﻴﺪ ﻣﺤﻤﺪ ﻭﻫﻮ ﺻﻬﺮ ﺃﺣﺪ ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻲ، ﻭﻗﺎﻝ ﻣﺴﺮﻭﺭﺍً ﻭﻣﺒﺸﺮﺍً: ﻟﻘﺪ ﻃﺒﻌﻮﺍ ﻓﻲ ﺇﺳﺒﺎﺭﻃﺔ ﻛﺘﺎﺑﺎً ﻣﻦ ﻛﺘﺒﻚ. ﻭﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻳﻘﺮﺃﻭﻧﻪ. ﻗﻠﺖ: ﺫﻟﻚ ﻟﻴﺲ ﻃﺒﻌﺔً ﻣﺤﻈﻮﺭﺓً، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﻣﺎ ﺃﺧﺬ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺴﺦ، ﻓﻼ ﺗﻌﺘﺮﺽ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ. ﻭﻗﻠﺖ ﻟﻪ ﺃﻳﻀﺎً: ﺇﻳﺎﻙ ﺃﻥ ﺗﺤﺪﺙ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﺻﺪﻳﻘَﻴﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻘَﻴﻦ، ﺇﺫ ﻫﻤﺎ ﻳﺘﺤﺮﻳﺎﻥ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻟﻴﺠﻌﻠﻮﻫﺎ ﻭﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﻬﺠﻮﻡ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻴﺎ ﺇﺧﻮﺗﻲ! ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺻﻬﺮ ﺃﺣﺪ ﺃﺻﺪﻗﺎﺋﻲ، ﻓﻴﻌﺪّ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺎﺑﻲ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ، ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻪ ﺑﺤﻜﻢ ﻣﻬﻨﺘﻪ: ﺍﻟﺤﻼﻗﺔ ﺻﺪﻳﻖ ﻟﻠﻤﻌﻠﻢ ﺍﻟﻔﺎﻗﺪ ﻟﻠﻮﺟﺪﺍﻥ ﻭﻟﻠﻤﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻖ. ﻭﻗﺪ ﺃﺧﺒﺮﻩ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺨﺒﺮ ﺃﺣﺪ ﺇﺧﻮﺍﻧﻨﺎ ﻫﻨﺎﻙ ﺩﻭﻥ ﻋﻠﻢ ﻣﻨﻪ. ﻭﺣﺴﻨﺎً ﻓﻌﻞ ﺃﻥ ﺍﺧﺒﺮﻧﻲ ﻷﻭﻝ ﻣﺮﺓ ﻓﻨﺒﻬﺘﻪ. ﻭﺑﺪﻭﺭﻱ ﻧﺒﻬﺖ ﺍﻹﺧﻮﺓ ﺃﻳﻀﺎً. ﻭﺳﺪّ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﻔﺴﺎﺩ. ﻭﻧﺸﺮﺕ ﺁﻟﺔ ﺍﻟﺮﻭﻧﻴﻮ ﺃﻟﻮﻑ ﺍﻟﻨﺴﺦ ﺗﺤﺖ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺘﺎﺭ.

ﺧﺎﺗﻤﺔ

ﺗﺴﻠﻤﺖ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺭﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ «ﺍﻟﺴﻴﺪ ﺭﺃﻓﺖ»، ﻭﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺳﺆﺍﻟﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﺤﻴﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﺃﻗﻮﻝ: ﺇﻧﻪ ﺛﺎﺑﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ: ﺃﻥ ﻋﺪﺩ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺳﻘﻄﺖ ﻣﻦ ﻟﺤﻴﺘﻪ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ صلى الله عليه وسلم ﻣﺤﺪﻭﺩٌ، ﻭﻫﻮ ﻋﺪﺩ ﻗﻠﻴﻞ، ﻳﺘﺮﺍﻭﺡ ﺑﻴﻦ ﺛﻼﺛﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﺃﺭﺑﻌﻴﻦ، ﺃﻭ ﻻ ﻳﺘﺠﺎﻭﺯ ﺍﻟﺨﻤﺴﻴﻦ ﻭﺍﻟﺴﺘﻴﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺕ، ﻭﻟﻜﻦ ﻭﺟﻮﺩَ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺕ ﻓﻲ ﺃﻟﻮﻑ ﺍﻷﻣﺎﻛﻦ، ﺍﺳﺘﻮﻗﻔﻨﻲ ﻭﺩﻓﻌﻨﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺄﻣﻞ ﻭﺍﻟﺘﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﺣﻴﻨﻪ، ﻓﻮﺭﺩ ﺇﻟﻰ ﺧﺎﻃﺮﻱ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ:

ﺇﻥَّ ﺷﻌﺮﺍﺕ ﺍﻟﻠﺤﻴﺔ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺓ ﺍﻵﻥ -ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ- ﻟﻴﺴﺖ ﻫﻲ ﺷﻌﺮﺍﺕِ ﺍﻟﻠﺤﻴﺔ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﻭﺣﺪَﻫﺎ، ﺑﻞ ﺭﺑﻤﺎ ﺷﻌﺮﺍﺕٌ ﻣﻦ ﺭﺃﺳﻪ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ صلى الله عليه وسلم، ﺇﺫ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ ﺍﻟﻜﺮﺍﻡ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻟﻴﻀﻴّﻌﻮﺍ ﺷﻴﺌﺎً ﻣﻨﻪ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺣﺎﻓﻈﻮﺍ ﻋﻠﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﻨﻮﺭﺓ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻛﺔ -ﻛﻠﻤﺎ ﺣَﻠَﻖَ- ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻘﻰ ﺩﺍﺋﻤﺎً، ﻓﺘﻠﻚ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺕ ﺗﺮﺑﻮ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻟﻮﻑ ﻭﻫﺬﺍ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻜﺎﻓﺌﺎً ﻟﻠﻤﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ.

ﻭﻭﺭﺩ ﺃﻳﻀﺎً ﺇﻟﻰ ﺧﺎﻃﺮﻱ: ﺗُﺮﻯ ﻫﻞ ﺍﻟﺸَّﻌﺮُ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺟﺎﻣﻊٍ ﺑﺴﻨﺪٍ ﺻﺤﻴﺢ ﻫﻮ ﺛﺎﺑﺖٌ ﺃﻳﻀﺎً ﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺷﻌﺮﻩ صلى الله عليه وسلم ﺣﺘﻰ ﺗﻜﻮﻥ ﺯﻳﺎﺭﺗُﻨﺎ ﻟﻪ ﻣﻌﻘﻮﻟﺔ؟

ﻓﺴﻨﺢ ﺑﺒﺎﻟﻲ ﻓﺠﺄﺓ: ﺃﻥ ﺯﻳﺎﺭﺓ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﻌﺮﺍﺕ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻭﺳﻴﻠﺔٌ، ﻭﻫﻲ ﺳﺒﺐ ﻟﻘﺮﺍﺀﺓ ﺍﻟﺼﻠﻮﺍﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم، ﻭﻫﻲ ﻣَﺪﺍﺭُ ﻣﺤﺒﺘﻪ ﻭﺗﻮﻗﻴﺮﻩ. ﻓﻼ ﺗُﻨﻈَﺮ ﺇﻟﻰ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻮﺳﻴﻠﺔ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﺟﻬﺔ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻭﺳﻴﻠﺔ، ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﻫﻲ ﺷﻌﺮﺓً ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻣﻦ ﺷﻌﺮﺍﺗﻪ صلى الله عليه وسلم ﻓﻬﻲ ﺗﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺔَ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﻣﺎ ﺩﺍﻣﺖ ﺗﺤﺴﺐ -ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ- ﻫﻜﺬﺍ، ﻭﺗﻠﻘﺎﻫﺎ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺷﻌﺮﺓً ﻣﻦ ﺷﻌﺮﺍﺗﻪ صلى الله عليه وسلم. ﻓﺘﻜﻮﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﻌﺮﺓ ﻭﺳﻴﻠﺔً ﻟﺘﻮﻗﻴﺮﻩ صلى الله عليه وسلم ﻭﻣﺤﺒﺘﻪ ﻭﺃﺩﺍﺀ ﺍﻟﺼﻠﻮﺍﺕ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻼ ﻳﻠﺰﻡ ﺍﻟﺴﻨﺪ ﺍﻟﻘﻄﻌﻲ ﻟﺘﺸﺨﻴﺺ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺸﻌﺮ ﻭﺗﻌﻴﻴﻨﻪ ﺑﻞ ﻳﻜﻔﻲ ﺃﻟّﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺩﻟﻴﻞ ﻗﺎﻃﻊ ﺑﺨﻼﻓﻪ، ﻷﻥ ﻣﺎ ﻳﺘﻠﻘﺎﻩ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻭﻣﺎ ﻗﺒﻠﺘﻪ ﺍﻷﻣﺔ ﻭﺭﺿﻴﺖ ﺑﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﻧﻮﻉٍ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺠﺔ. ﻭﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﺍﻋﺘﺮﺽ ﺑﻌﺾُ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺘﻘﻮﻯ ﻋﻠﻰ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﺳﻮﺍﺀً ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﺘﻘﻮﻯ ﺃﻭ ﺍﻷﺧﺬ ﺑﺎﻷﺣﻮﻁ ﺃﻭ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﺑﺎﻟﻌﺰﻳﻤﺔ ﻓﺈﻧﻤﺎ ﻳﻌﺘﺮﺿﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺷﻌﺮﺍﺕ ﺧﺎﺻﺔ، ﻭﻟﻮ ﻗﻴﻞ ﺇﻧﻬﺎ ﺑﺪﻋﺔ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺩﺍﺧﻠﺔ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﺒﺪﻋﺔ ﺍﻟﺤﺴﻨﺔ، ﻷﻧﻬﺎ ﺍﻟﻮﺳﻴﻠﺔ ﻟﻠﺼﻠﻮﺍﺕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم.

ﻭﻳﻘﻮﻝ «ﺍﻟﺴﻴﺪ ﺭﺃﻓﺖ» ﻓﻲ ﺭﺳﺎﻟﺘﻪ: «ﺇﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﻗﺪ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﻣﺜﺎﺭَ ﺍﻟﻤﻨﺎﻗﺸﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻹﺧﻮﺍﻥ». ﻓﺄﻭﺻﻲ ﺇﺧﻮﺍﻧﻲ: ﺃَﻟّﺎ ﻳﻨﺎﻗﺸﻮﺍ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻨﺠﻢ ﻋﻨﻪ ﺍﻻﻧﺸﻘﺎﻕُ ﻭﺍﻻﻓﺘﺮﺍﻕ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﺘﻌﻠﻤﻮﺍ ﺑﺤﺚ ﺍﻷﻣﻮﺭ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﻧﺰﺍﻉ، ﻭﻋﻠﻰ ﻧﻤﻂ ﺗﺪﺍﻭﻝ ﻓﻲ ﺍﻷﻓﻜﺎﺭ.


ﺑِﺎﺳْﻤِﻪِ ﺳُﺒْﺤَﺎﻧَﻪُ

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾

ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻭﺭﺣﻤﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺑﺮﻛﺎﺗﻪ

ﺍﺧﻮﺗﻲ ﺍﻷﻋﺰﺍﺀ ﻣﻦ «ﺳﻨﺮﻛﻨﺖ» ﺍﻟﺴﺎﺩﺓ: ﺇﺑﺮﺍﻫﻴﻢ، ﺷﻜﺮﻱ، ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﺑﻜﺮ، ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﺣﺴﻴﻦ، ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﺭﺟﺐ.

ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺍﻟﺜﻼﺙ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺭﺳﻠﺘﻤﻮﻫﺎ ﺑﻴﺪ ﺍﻟﺤﺎﻓﻆ ﺗﻮﻓﻴﻖ، ﻳﻌﺘﺮﺽ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﻠﺤﺪﻭﻥ ﻣﻨﺬ ﺃﻣﺪ ﺑﻌﻴﺪ:

ﺃﻭﻻﻫﺎ: ﺇﻥ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻱ ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ﺣﺘﻰ ﺍﺫﺍ ﺑَﻠَﻎَ ﻣَﻐْﺮﺏَ ﺍﻟﺸَﻤْﺲِ ﻭَﺟَﺪَﻫﺎ ﺗَﻐْﺮُﺏُ ﻓﻲ ﻋَﻴﻦٍ ﺣَﻤﺌﺔٍ﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:86). ﻫﻮ: ﺃﻧﻪ ﺭﺃﻯ ﻏﺮﻭﺏ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻓﻲ ﻣﺎﺀِ ﻋﻴﻦٍ ﺫﻱ ﻃﻴﻦ ﻭﺣﺮﺍﺭﺓ.

ﺛﺎﻧﻴﺘﻬﺎ: ﺃﻳﻦ ﻳﻘﻊ ﺳﺪُّ ﺫﻱ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ؟

ﺛﺎﻟﺜﺘﻬﺎ: ﻧﺰﻭﻝ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻴﺴﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴﻼﻡ ﻭﻗﺘﻠﻪ ﺍﻟﺪﺟﺎﻝَ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ.

ﺇﻥَّ ﺃﺟﻮﺑﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺳﺌﻠﺔ ﻃﻮﻳﻠﺔ، ﺇﻟّﺎ ﺃﻧﻨﺎ ﻧﺸﻴﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺑﺎﺧﺘﺼﺎﺭ ﻓﻨﻘﻮﻝ:

ﺇﻥَّ ﺁﻳﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻣﺒﻨﻴﺔٌ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ، ﻭﺑﻮﺟﻪٍ ﻳﻔﻬﻤﻪ ﻋﻤﻮﻡُ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺑﻈﺎﻫﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮ، ﻟﺬﺍ ﻛﺜﻴﺮﺍً ﻣﺎ ﺑُﻴّﻨﺖ ﺍﻟﻤﺴﺎﺋﻞ ﺑﺎﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﻭﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ.

ﻓﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ﺗﻐﺮﺏ ﻓﻲ ﻋﻴﻦ ﺣﻤﺌﺔٍ﴾ ﻳﻌﻨﻲ: ﺃﻥَّ ﺫﺍ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ ﻗﺪ ﺷﺎﻫﺪ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺗﻐﺮﺏ ﻓﻲ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﻋﻴﻨﺎً ﻣﻮﺣﻠﺔً ﻭﺣﺎﻣﻴﺔ، ﻋﻨﺪ ﺳﺎﺣﻞ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ، ﺃﻭ ﺷﺎﻫﺪ ﻏﺮﻭﺑَﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﻴﻦ ﺟﺒﻞٍ ﺑﺮﻛﺎﻧﻲ ﺫﻱ ﻟﻬﻴﺐ ﻭﺩﺧﺎﻥ.

ﺃﻱ ﺇﻧﻪ ﺷﺎﻫﺪ ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻏﺮﻭﺑَﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﻮﺍﺣﻞ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ، ﻭﻓﻲ ﺟﺰﺀ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺮﺍﺀﻯ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻛﺄﻧﻪ ﺑِﺮﻛﺔٌ ﺃﻭ ﺣﻮﺽُ ﻋﻴﻦٍ ﻭﺍﺳﻌﺔ، ﻓﺸﺎﻫﺪ ﻏﺮﻭﺑﻬﺎ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻱ ﺧﻠﻒ ﺍﻷﺑﺨﺮﺓ ﺍﻟﻜﺜﻴﻔﺔ ﺍﻟﻤﺘﺼﺎﻋﺪﺓ ﻣﻦ ﻣﻴﺎﻩ ﺍﻟﻤﺴﺘﻨﻘﻌﺎﺕ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﺔ ﻋﻨﺪ ﺳﻮﺍﺣﻞ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ، ﻟﺸﺪﺓ ﺣﺮﺍﺭﺓ ﺷﻤﺲ ﺍﻟﺼﻴﻒ.. ﺃﻭ ﺷﺎﻫﺪ ﺍﺧﺘﻔﺎﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ -ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ- ﻓﻲ ﻋﻴﻦ ﻣﻠﺘﻬﺒﺔ ﺍﻧﻔﻠﻘﺖ ﺣﺪﻳﺜﺎً ﻋﻠﻰ ﻗﻤﺔ ﺟﺒﻞٍ ﺑﺮﻛﺎﻧﻲ ﺗﻘﺬﻑ ﺑﺤﻤﻤﻬﺎ ﻣﺎﺯﺟﺔً ﺍﻟﺘﺮﺍﺏَ ﻭﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻭﺍﻟﻤﻌﺎﺩﻥ ﺍﻟﺴﺎﺋﻠﺔ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺗﻌﺎﺑﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺍﻟﺒﻠﻴﻐﺔ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ ﺗﺮﺷﺪ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻛﺜﻴﺮﺓ:

ﻓﺄﻭﻻ ﺇﻥ ﺳﻴﺎﺣﺔ ﺫﻱ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﺇﻟﻰ ﺟﻬﺔ ﺍﻟﻐﺮﺏ.. ﻭﻓﻲ ﻭﻗﺖ ﻋﺰّ ﺍﻟﺤﺮّ.. ﻭﻧﺤﻮ ﺍﻟﻤﺴﺘﻨﻘﻌﺎﺕ.. ﻭﻣﻮﺍﻓﻘﺘﻬﺎ ﺃﻭﺍﻥ ﻏﺮﻭﺏ ﺍﻟﺸﻤﺲ.. ﻭﺣﻴﻦ ﺍﻧﻔﻼﻕ ﺟﺒﻞ ﺑﺮﻛﺎﻧﻲ.. ﻛﻞُّ ﻫﺬﺍ ﺗﺸﻴﺮ ﺑﻪ ﺍﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺎﺋﻞَ ﻣﻠﻴﺌﺔٍ ﺑﺎﻟﻌِﺒﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﺳﺘﻴﻼﺀ ﺫﻱ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺇﻓﺮﻳﻘﻴﺎ ﺍﺳﺘﻴﻼﺀً ﺗﺎﻣﺎً.

ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩﺓ ﻟﻠﺸﻤﺲ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺣﺮﻛﺔٌ ﻇﺎﻫﺮﻳﺔ، ﻭﻫﻲ ﺩﻟﻴﻞٌ ﻋﻠﻰ ﺣﺮﻛﺔ ﺍﻷﺭﺽ ﺍﻟﺨﻔﻴﺔ -ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺴﻮﺱ ﺑﻬﺎ- ﻭﻫﻲ ﺗُﺨﺒﺮ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺮﻛﺔ. ﻭﻟﻴﺲ ﺍﻟﻤﺮﺍﺩ ﺣﻘﻴﻘﺔَ ﺍﻟﻐﺮﻭﺏ.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﻛﻠﻤﺔ ﴿ﻋﻴﻦ﴾ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻟﻠﺘﺸﺒﻴﻪ، ﺇﺫ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻳُﺮﻯ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﻛﺤﻮﺽ ﺻﻐﻴﺮ، ﻓﺘﺸﺒﻴﻪ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺸﺎﻫﺪ ﻣﻦ ﺧﻠﻒ ﺍﻟﻀﺒﺎﺏ ﻭﺍﻷﺑﺨﺮﺓ ﺍﻟﻤﺘﻮﻟﺪﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺘﻨﻘﻌﺎﺕ ﻭﺍﻟﺒُﺮَﻙ ﺑﻠﻔﺢ ﺍﻟﺤﺮﺍﺭﺓ ﺑ﴿ﻋﻴﻦ ﺣﻤﺌﺔٍ﴾ ﺃﻱ ﻋﻴﻦ ﺗﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﻃﻴﻦ، ﻭﻛﺬﺍ ﺍﺳﺘﻌﻤﺎﻝ ﻛﻠﻤﺔ ﴿ﻋﻴﻦ﴾ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ: ﺍﻟﻴﻨﺒﻮﻉ ﻭﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺍﻟﺒﺼﺮ، ﻳﻨﻄﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﺳﺮّ ﺑﻼﻏﻲ ﺩﻗﻴﻖ ﻭﻋﻼﻗﺔ ﻭﺛﻴﻘﺔ. (حاشية) ﺇﻥ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﺑ«ﻋﻴﻦ» ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ (ﻋﻴﻦ ﺣﻤﺌﺔ) ﻳﺬﻛّﺮ ﺑﺮﻣﺰٍ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻄﻴﻒ ﻭﺳﺮ ﺩﻗﻴﻖ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﺒﻼﻏﺔ، ﻭﻫﻮ: ﺃﻥ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺑﻌﺪ ﻣﺸﺎﻫﺪﺗﻪ ﺑﻌﻴﻦ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺟﻤﺎﻝ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻷﺭﺽ، ﻭﺍﻥ ﻭﺟﻪ ﺍﻷﺭﺽ ﻋﻘﺐ ﺭﺅﻳﺘﻪ ﺑﻌﻴﻦ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﺗُﻄﺒﻖ ﺍﻟﻌﻴﻨﺎﻥ ﺇﺣﺪﺍﻫﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻓﺘﻄﺒﻖ ﺍﻟﻌﻴﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻷﺭﺽ.. ﻓﺎﻵﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺗﺬﻛﺮ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻭﺑﺈﻋﺠﺎﺯ ﺟﻤﻴﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﻠﻄﻴﻒ ﻣﺸﻴﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻨﻬﻰ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﻌﻴﻮﻥ. ﻓﻜﻤﺎ ﺑﺪﺍ ﺍﻟﻐﺮﻭﺏ ﻟﻨﻈﺮ ﺫﻱ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ ﻣﻦ ﺑُﻌﺪ ﻫﻜﺬﺍ. ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻲ ﺍﻟﻨﺎﺯﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺮﺵ ﺍﻷﻋﻈﻢ ﺍﻟﻤﻬﻴﻤﻦ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﺟﺮﺍﻡ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ، ﺣﺮﻱٌّ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺨﻄﺎﺏ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻱ ﻭﻣﻨﺴﺠﻢ ﻣﻊ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﻭﺭﻓﻌﺘﻪ ﻗﻮﻟﻪ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﻤﺴﺨّﺮﺓ ﺳﺮﺍﺟﺎً ﻓﻲ ﻣﻀﻴﻒ ﺭﺣﻤﺎﻧﻲ، ﺗﺨﺘﻔﻲ ﻓﻲ ﻋﻴﻦ ﺭﺑﺎﻧﻴﺔ ﻭﻫﻲ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ، ﻣﻌﺒﺮﺍً ﺑﺄﺳﻠﻮﺑﻪ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰ ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻋﻴﻦ ﺣﺎﻣﻴﺔ. ﻧﻌﻢ ﻫﻜﺬﺍ ﻳﺒﺪﻭ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻟﻠﻌﻴﻮﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ.

ﺣﺎﺻﻞ ﺍﻟﻜﻼﻡ: ﺇﻥ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺮ ﺑ ﴿ﻋﻴﻦ ﺣﻤﺌﺔٍ﴾ ﻟﻠﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺬﻱ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﺭﺃﻯ ﻣﻦ ﺑُﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻛﺄﻧﻪ ﻋﻴﻦُ ﻣﺎﺀ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻗﺮﻳﺐ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻓﻼ ﻳﻨﻈﺮ ﻧﻈﺮ ﺫﻱ ﺍﻟﻘﺮﻧﻴﻦ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺪﺍﺧﻠﻪ ﺧﺪﺍﻉُ ﺍﻟﺒﺼﺮ، ﺑﻞ ﻷﻧﻪ ﻧﺰﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﻄﻠﻌﺎً ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻭﻷﻧﻪ ﻳﺮﻯ ﺍﻷﺭﺽ ﻣﻴﺪﺍﻧﺎً ﺃﻭ ﻗﺼﺮﺍً ﻭﺃﺣﻴﺎﻧﺎً ﻣﻬﺪﺍً ﺃﻭ ﺻﺤﻴﻔﺔ، ﻓﺈﻥ ﺗﻌﺒﻴﺮﻩ ﺑ ﴿ﻋﻴﻦ﴾ ﻟﻠﺒﺤﺮ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ ﺍﻷﻃﻠﺴﻲ ﺍﻟﻐﺮﺑﻲ ﺍﻟﻤﻐﻄﻰ ﺑﺎﻟﻀﺒﺎﺏ ﻭﺍﻷﺑﺨﺮﺓ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺒﻴﻦ ﻋﻠﻮّﻩ ﻭﺭﻓﻌﺘَﻪ ﻭﺳﻤﻮّﻩ ﻭﻋﻈﻤﺘﻪ.

اللمعة الخامسة عشرة

اللمعة الخامسة عشرة

  ﻭﻫﻲ ﻓﻬﺎﺭﺱ ﻛﻠﻴﺎﺕ ﺭﺳﺎﺋﻞ ﺍﻟﻨﻮﺭ: ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ، ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺑﺎﺕ، ﻭﺍﻟﻠﻤﻌﺎﺕ -ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻠﻤﻌﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ- ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﻛﻞ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﺧﺼّﺖ ﺑﻔﻬﺮﺳﺘﻬﺎ ﻟﺬﺍ ﻟﻢ ﺗﺪﺭﺝ ﻫﻨﺎ.