الدعاء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «اللمعات».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النُّورْسِيّ  

اللمعة الثالثة والثلاثون

اللمعة الثالثة والثلاثون

هي الحقائق التي ظهرت على قلب «سعيد الجديد» بدرجة الشهود، وسطرها باللغة العربية في رسائل موسومة بـ(«قطرة من بحر التوحيد»، «حبة من جنان القرآن»، «شمة من نسيم هداية القرآن»، «ذرة من شعاعات هداية القرآن»، «حباب من عمان القرآن»، «زهرة من رياض القرآن»،«شعلة من أنوار القرآن») مع ذيول هذه الرسائل وقد ضمت كلّها تحت عنوان «المثنوي العربي النوري» سينشر في مجلد مستقل إن شاء الله.

اللمعة الثانية والثلاثون

اللمعة الثانية والثلاثون

وهي «اللوامع» التي هي آخر ما ألّفه «سعيد القديم» في غضون عشرين يوماً من شهر رمضان وجاءت منظومة نظماً عفوياً. نشرت ملحقةً بمجموعة «الكلمات».

اللمعة الثلاثون

من المكتوب الحادي والثلاثين، وثمرة من ثمار سجن «أسكي شهر». وهي عبارة عن ست نكات.

 هذا الدرس القيّم ثمرةٌ من ثمار «سجن أسكي شهر» وحصيلةُ مدرستها اليوسفية، مثلما كانت «رسالة الثمرة» ثمرةً أينعَها «سجنُ دنيزلي» وكما كانت «رسالة الحجة الزهراء» درساً بليغاً أزهر في سجن آفيون.

تضم هذه الرسالة -وهي اللمعة الثلاثون- نكاتٍ دقيقة لستةٍ من الأسماء الحسنى.

في القسم الذي يخص اسم الله «الحي» و«القيوم» من الاسم الأعظم مسائل عميقة وواسعة جداً قد لا يستطيع كلُّ أحد أن يستوعبها كلَّها ويتذوقها جميعاً، إلّا أنه لا يبقى أحدٌ دون نصيب منها وفائدة يغنمها.


النكتة الأولى

تخص إحدى نكات اسم الله القدوس

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالْاَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ﴾ (الذاريات:48)

لقد تجلت لي نكتةٌ من نكات هذه الآية الكريمة وتجلّ من تجليات اسم الله «القدوس» وهو الاسم الأعظم أو أحدُ أنوراه الستة، وأنا نزيل سجن «أسكي شهر» أواخر شهر شعبان المبارك. فبيّن لي: الوجودَ الإلهي بوضوح تام، وكشف لي: الوحدانيةَ الربانية بجلاء، كما يأتي:

لقد تراءى لي هذا الكونُ وهذه الكرةُ الأرضية كمعمل عظيم دائبِ الحركة، وشبيهةٍ بفندق واسع، أو دارِ ضيافة تُملأ وتُخلى بلا انقطاع، علماً أن دار ضيافةٍ بهذه السعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الغادين والرائحين، تمتلئ بالنفايات والأنقاض، ويصاب كل شيء بالتلوث، وتضيق فيها أسبابُ الحياة. فإن لم تعمل يدُ التنظيف والتنسيق فيها عملاً دائماً أدّت تلك الأوساخ إلى اختناق الإنسان واستحالة عيشه.

بيد أننا لا نكاد نرى في معمل الكون العظيم هذا، وفي دار ضيافة الكرة الأرضية هذه أثراً للنفايات، كما انه لا توجد في أية زاوية من زواياهما مادة غير نافعة، أو غير ضرورية، أو أُلقِيَتْ عبثاً، حتى إن ظهرت مادةٌ كهذه فسرعان ما تُرمى في مكائن تحويل بمجرد ظهورها، تُحيلها إلى مادة نظيفة.

فهذا الأمرُ الدائب يدلنا على: أن الذي يراقب هذا المعمل إنما يراقبه بكل عناية وإتقان، وأن مالكه يأمر بتنظيفه وتنسيقه وتزيينه على الدوام حتى لا يُرى فيه -رغم ضخامته- أثرٌ للقاذورات والنفايات التي تكون متناسِبةً مع كبر المعمل وضخامته. فالمراعاةُ بالتطهير إذن مستمرة، والعناية بالتنظيف دائمة ومتناسبة مع ضخامة المعمل وسعته، لأنَّ الإنسان الفرد إن لم يستَحم ولم يقم بتنظيف غرفته خلال شهر، لضاقت عليه الحياة.. فكيف بنظافة قصر العالم العظيم؟!

إذن فالطُهر والنقاء والصفاء والبهاء المشاهَد في قصر العالم البديع هذا ما هو إلّا نابعٌ من تنظيف حكيمٍ مستمر، ومن تطهير دقيق دائم.. فلولا هذه المراقبةُ المستديمة للنظافة، والعنايةُ المستمرة بالطهر، لكانت تختنق على سطح الأرض -بأجوائها الموبوءة- مئاتُ الآلاف من الأحياء خلال سنة.. ولولا تلك المراقبةُ الدقيقة والعناية الفائقة في أرجاء الفضاء الزاخرة بالكواكب والنجوم والتوابع المعرَّضة للموت والاندثار، لكانت أنقاضُها المتطايرة في الفضاء تحطّم رؤوسَنا ورؤوس الأحياء الأخرى، بل رأسَ الدنيا! ولكانت تُمطِر علينا كتلاً هائلة بحجم الجبال، وتُرغمُنا على الفرار من وطننا الدنيوي! بينما لم تسقط منذ دهور سحيقة من الفضاء الخارجي -نتيجة الاندثار- سوى بضعةِ نيازك، ولم تُصب أحداً من الناس، بل كانت عبرةً لمن يعتبر! ولولا التنظيفُ الدائب والتطهير الدائم في سطح الأرض، لكانت الأنقاض والأوساخ والأشلاء الناتجة من تعاقب الموت والحياة اللذين يصيبان مئات الألوف من أمم الأحياء، تملأ البر والبحر معاً، ولكانت القذارةُ تصل إلى حد ينفر كلُّ من له شعور أن ينظر إلى وجه الأرض الدميم، بل كان يسوقه إلى الفرار منها إلى الموت والعدم ناهيك عن حبِّه وعشقه.

نعم، مثلما ينظّف الطيرُ أجنحته بسهولة تامة أو يطهِّر الكاتبُ صحائف كتابه بيُسر كامل، فإن أجنحة هذه الأرض الطائرة -مع الطيور السماوية في الفضاء- وصحائف هذا الكتاب العظيم -أعني الكون- ينظَّفان ويطهَّران ويجمَّلان ويزيّنان بمثل تلك السهولة واليسر، بل إن تطهير سطح الأرض هذا وتنظيفه وتنسيقه وتزيينه هو من كمال الإتقان بحيث يجعل الذين لا يرون -بإيمانهم- جمالَ الآخرة يعشقون هذا الجمال وهذه النظافة لهذا العالم الدنيوي بل قد يعبدونه!

إذن فقصر العالم الباذخ هذا، ومعمل الكون الهائل هذا، قد حَظِي بتجلٍ من تجليات اسم الله القدوس عليه، حتى إنه عندما تصدر الأوامر الإلهية المقدسة الخاصة بالتطهير والتنظيف لا تصدر للحيوانات البحرية الكبيرة المفترسة، المؤدية وظيفة التنظيف والصقور البرية الجارحة وحدها، بل يستمع لها أيضاً أنواعُ الديدان والنمل التي تجمع الجنائز وتقوم بمهمة موظفي الصحة العامة الراعين لها في هذا العالم، بل تستمع لهذه الأوامر التنظيفية حتى الكرياتُ الحمر والبيض الجارية في الدم فتقوم بمهمة التنظيف والتنقية في حجيرات البدن كما يقوم التنفس بتصفية الدم، بل حتى الأجفان الرقيقة تستمع لها فتطهر العين باستمرار، بل حتى الذباب يستمع لها فيقوم بتنظيف أجنحته دائماً..

ومثلما يستمع كل ما ذكرناه لتلك الأوامر القدسية بالتنظيف، تستمع لها أيضاً الرياحُ الهوج والسحب الثقال، فتلك تطهِّر وجهَ الأرض من النفايات، والأخرى ترشّ روضَتها بالماء الطاهر فتسكّن الغبار والتراب، ثم تنسحب بسرعة ونظام حاملةً أدواتها ليعود الجمالُ الساطع إلى وجه السماء صافياً متلألئاً.

ومثلما تستمع لتلك الأوامر الصادرة بالتطهير والتنظيف النجومُ، والعناصر، والمعادن، والنباتات بأشكالها وأنواعها، تستمع لها الذراتُ جميعاً، حتى إنها تراعي النقاوة والصفاء في دوامات تحولاتها المحيرة للألباب، فلا تجتمع في زاوية دون فائدة، ولا تزدحم في ركن دون نفع، بل إن تلوثت تُنظَّف فوراً وتُساق سوقاً من لدن قدرة حكيمة إلى أخذ أطهر الأوضاع وأنظفِها وأسطعها وأصفاها، وأخذِ أجمل الصور وأنقاها وألطفها.

وهكذا فإن فعلَ التطهير هذا الذي هو فعلٌ واحد، ويعبّر عن حقيقةٍ واحدة هو تجلٍّ أعظم من تجليات اسم «القدوس» الأعظم، يُرى ذلك التجلي الأعظم حتى في أعظم دوائر الكون وأوسعها، بحيث يبين الوجود الرباني، ويُظهر الوحدانية الإلهية مع أسمائه الحسنى ظهوراً جلياً كالشمس المنيرة، فتبصره العيونُ النافذة النظر.

وقد ثبت ببراهين دامغة في أغلب أجزاء «رسائل النور»: أن فعلَ التنظيم والنظام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الحَكَم والحكيم»، وأن فعل الوزن والميزان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «العدل والعادل»، وأن فعل التزيين والإحسان الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الجميل والكريم»، وأن فعل التربية والإنعام الذي هو تجلٍّ من تجليات اسم «الرب والرحيم».. كلُّ فعل من هذه الأفعال، هو فعلٌ واحد، وحقيقة واحدة، تشاهَد بوضوح في آفاق الكون كله، فكلٌّ منها يشير إلى وجوب وجودِ واحدٍ أحدٍ، ويبين وحدانيته بجلاء. كذلك فعلُ التنظيف والتطهير الذي هو تجلٍ من تجليات اسم «القدوس» يدل على وجود ذلك الواجب، كالشمس، ويبين وحدانيته كالنهار.. وكما أن الأفعال المذكورة من تنظيم وتقدير وتزيين وتنظيف وأمثالِها من الأفعال الحكيمة تبين خالقاً واحداً أحداً، بوحدتها النوعية، وبظهورها في أوسع الآفاق الكونية، كذلك أكثر الأسماء الحسنى، بل كل اسم من ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى له تجلٍ أعظم في أوسع دائرة من دوائر الكون كهذا. فيُظهر الفعلُ الناتج من ذلك التجلي الواحد الأحد ظهوراً جلياً يناسب سعة ذلك الفعل ووضوحه.

نعم، إن الحكمةَ العامة التي تُخضع كل شيء لقانونها ونظامها، والعنايةَ الشاملة التي تجمّل كل شيء وتزيّنه، والرحمةَ الواسعة التي تُدخل السرورَ والبهجة على كل شيء وتجعله في حمدٍ دائم، والرزقَ العام الذي يعتاش عليه كلُّ ذي حياة ويتمتع بلذائذه، والحياةَ والإحياء التي تربط كل شيء بالأشياء الأخرى، وتجعل الشيء ينتفع من كل شيء كأنه مالكٌ للأشياء.. هذه الحقائق وأمثالُها، المشهودة بالبداهة، والمتّسمة بالوحدة، والجاعلةُ وجهَ الكون يشرق بهاءً، ويستهلّ بِشراً وسروراً، تدل بداهةً على: «الحكيم، الكريم، الرحيم، الرزاق، الحي المحيي»، كما يدل الضوءُ على الشمس. ولله المثل الأعلى. فكلُّ فعل من هذه الأفعال الواسعة التي تربو على المئات، دليل باهر الوضوح على الوحدانية، إن لم يُسنَد إلى «الواحد الأحد» سبحانه لنتجت إذن مئاتُ المحالات بمئاتٍ من الأوجه.

فمثلاً: إنه ليست الأفعالُ كلُّها كالحكمة والعناية والرحمة والإعاشة والإحياء والإماتة التي هي من الحقائق البديهية ومن دلائل التوحيد، بل حتى فعلٌ واحد فقط منها وهو فعلُ التطهير لو لم يُسند إلى رب العالمين للزم -في طريق الكفر والضلالة- أن يكون كلُّ شيء له علاقةٌ بالتنظيف ابتداء من الذرات، إلى الحشرات، إلى العناصر، إلى النجوم، على علمٍ ومعرفةٍ بتنظيف هذا الكون العظيم وتزيينهِ وتجميله وموازنة ما فيه!! وأن يلاحظ الأمور وفقها، ويقدِر على التحرك.. أو يلزم أن يتصف كلٌّ منها بالصفات القدسية الجليلة لرب العالمين!!. أو يلزم أن يكون هناك مجلس شورى واسع سعة الكون كله لتنظيم جميع تزيينات الكون وتطهيره وتقدير كل ما يلج فيه وما يخرج منه وموازنته، وأن يشكِّل هذا المجلسَ ما لا يحد من الذرات والحشرات والنجوم!!..

وهكذا يصل سالكُ طريق الكفر إلى مئاتٍ من أمثال هذه الخرافات السخيفة والمحالات السوفسطائية كي يظهَر التزيينُ المحيط والتنظيف الشامل الظاهر في الأرجاء كافة. أي لا ينشأ محالٌ واحد بل مئات الألوف من المحالات.

نعم، إن لم يُسند ضوءُ النهار والشُميسات المتألقة المثالية في كل شيء على سطح الأرض، إلى الشمس الواحدة، ولم تُفسَّر على أنها انعكاساتٌ لتجلي تلك الشمس الواحدة، للزم وجودُ شمسٍ حقيقية في كل قطرة ماء لماعة، وفي كل قطعة زجاج شفافة، وفي كل بلورة ثلج مشعة، حتى في كل ذرة من ذرات الهواء، كي يظهر ذلك الضوءُ الذي يعم الوجود!!

وهكذا؛ فالحكمةُ ضياءٌ، والرحمةُ الواسعة ضياء، والتزيين والموازنة والتنظيم والتنظيف كلٌّ منها ضياء شامل محيط وشعاعٌ من أشعة ذلك النور الأزلي سبحانه.

فانظر الآن بنور هذا الإيمان لترى كيف يسقط أهلُ الكفر والضلالة في مستنقع آسن لا يمكنهم الخروج منه. وشاهد مدى حماقةِ أهل الضلالة وجهالتهم! واحمد الله قائلاً: «الحمد لله على دين الإسلام وكمال الإيمان».

نعم، إنَّ هذا التنظيف السامي الشامل المشاهَد الذي يجعل قصرَ العالم طاهراً نقياً نظيفاً لهو تجلٍّ من تجليات اسم «القدوس» ومقتضىً من مقتضياته. وكما تتوجه تسبيحات المخلوقات جميعِها إلى اسم «القدوس» وترنو إليه، كذلك يستدعي اسمُ «القدوس» نظافةَ تلك المخلوقات وطهارتها (حاشية) يجب ألّا ننسى أن الخصال القبيحة، والاعتقادات الباطلة، والذنوب والآثام، والبدع، كلها من الأوساخ المعنوية. حتى عدّ الحديث الشريف: «النظافة من الإيمان» الطهورَ نوراً من أنواره لارتباطه القدسي هذا، وأظهرت الآية الكريمة أن الطُهر مدعاةٌ إلى المحبة الإلهية ومدار لها، في قوله تعالى: ﴿اِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرينَ (البقرة:222).

اللمعة التاسعة والعشرون

رسالة التفكر الإيماني الرفيع

والمعرفة التوحيدية السامية

بِاسْمِهِ سُبْحَانَهُ

اخوتي!

إنَّ رسالة التفكر هذه جليلة القدر، وإن إطلاق الإمام علي رضي الله عنه عليها -من جهة- اسمَ الآية الكبرى يبين قيمتَها الرفيعة تماماً.

فهي رسالةُ معرفةٍ إيمانية وردت إلى القلب بعين اليقين، في أثناء أذكار الصلاة. وأثمرت كثيراً من الرسائل. وأصبحت غذاءً للعقل والفكر وعلاجاً لهما طوال ثلاثين سنة. فمن الأنسب أن تُدرَج ضمن «اللمعات» وأن يُطبع منها أربعون أو خمسون نسخة مستقلة.

سعيد النُّورْسِيّ

هذه اللمعة كُتبت في التجريد المطلق في سجن «اسكي شهر» قبل عشرين سنة.


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إيضاح

لقد امتزج قلبي بعقلي منذ ثلاثة عشر عاماً ضمن انتهاج مسلك التفكر الذي يأمر به القرآنُ المعجز البيان كقوله تعالى ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(البقرة:219) ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(الأعراف:176) ﴿اَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فٓي اَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللّٰهُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَٓا اِلَّا بِالْحَقِّ (الروم:8) ﴿لَاٰيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم:21) وأمثالها من الآيات التي تحث على التفكر مثلما يحث عليه حثاً عظيماً الحديث الشريف كقوله ﷺ (تفكر ساعة خير من عبادة سنة).

ولقد تواردت في غضون هذه السنوات الثلاثين على عقلي وقلبي ضمن انتهاج مسلك التفكر، أنوارٌ عظيمة وحقائقُ متسلسلة طويلة. فوضعتُ بضعَ كلمات -من قبيل الإشارات- لا للدلالة على تلك الأنوار، بل للإشارة إلى وجودها ولتسهيل التفكر فيها وللمحافظة على انتظامها.

وكنت أُردّد بيني وبين نفسي تلك الكلمات لساناً بعبارات عربية في غاية الاختلاف. وعلى الرغم من تكراري لها آلاف المرات خلال هذه الفترة الطويلة وأنا انتهج هذا التفكر لم يطرأ عليّ السأمُ ولم يعتر تذوّقَها النقصُ، ولم تنتف حاجةُ الروح إليها. لأن ذلك التفكر لمعاتٌ تلمعت من آيات القرآن الكريم فتمثلت فيه جلوةٌ من خصائص الآيات، تلك هي عدمُ الاستشعار بالسأم والملل والحفاظ على حلاوتها وطراوتها.

وقد رأيت في الآونة الأخيرة أن العقدة الحياتية القوية والأنوارَ الساطعة التي تحتويها أجزاء «رسائل النور» ما هي إلّا لمعاتُ سلسلةِ ذلك التفكر، فنويتُ كتابة مجموعها في أخريات أيام عمري، على أمل تأثيرها في غيري مثلما أثّرت فيّ. وستكون لمجموعها قوة وقيمة أخرى وإن أدرجت أهم أجزائها في الرسائل.

ولما كان آخر المطاف في رحلة العمر غير معيّن. وأن أوضاعي في سجن «اسكي شهر» قد بلغت حداً أشد من الموت بكثير، فقد كتبتُ تلك السلسلة من التفكر دون انتظار لآخر الحياة، ودون تغيير فيها، وبناءً على رغبة إخوة النور وإصرارهم بقصد استفادتهم. وجعلتُها في سبعة أبواب.

ولما كانت الأكثرية المطلقة من هذا النوع من الحقائق تخطر بالبال في أثناء أذكار الصلاة، وأن كل كلمة من كلمات الأذكار بمثابة منبع تلك الحقائق. كان ينبغي أن تُكتب على وفق ترتيبها وتسلسلها في أذكار الصلاة، أي (سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلّا الله) إلّا أن ظروف السجن الانفرادي المضطربة آنذاك قد أخلّت بذلك الترتيب.

أما الآن فستكون الأبواب على النحو الآتي:

الباب الأول: في (سبحان الله)

والباب الثاني: في (الحمد لله)

والباب الثالث: في (الله أكبر)

والباب الرابع: في (لا اله إلّا الله).

وذلك لأن معظم الشافعية يذكرون: (لا إله إلّا الله) ثلاثاً وثلاثين مرة بعد ذكرهم كلاًّ من سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين مرة.

سعيد النُّورْسِيّ


الباب الأول

في «سبحان الله»

وهو ثلاثة فصول

الفصل الأول

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فَسُبْحانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ السَّماءُ بِكَلِمَاتِ نُجُومِهَا وَشُموُسِهَا وَأقمَارِهَا، بِرُمُوزِ حِكَمِهَا.

وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الجَوُّ بِكَلِمَاتِ سَحاباتِهِ وَرُعُودِهَا وَبُرُوقِهَا وَأمطَارِهَا، بِإشاراتِ فَوَائِدِهَا.

وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ رَأسُ الأرض بِكَلِمَاتِ مَعَادِنِهَا وَنَبَاتَاتِهَا وَأشْجَارِهَا وَحَيْوَانَاتِهَا، بِدَلالاتِ انْتِظَامَاتِهَا.

وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ النَّبَاتَاتُ وَالأشْجَارُ بِكَلِمَاتِ أوْرَاقِهَا وَأزهَارهَا وَثَمَرَاتِهَا، بَتَصْريحَاتِ مَنَافِعِهَا.

وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الأزهَارُ وَالأثْمَارُ بِكَلِمَاتِ بُذُورِهَا وَأجْنِحَتِها وَنَوَاتَاتِهَا، بِعَجَائبِ صَنْعَتِهَا.

وَتُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ النَّواتَاتُ وَالبُذُورُ بَألسِنَةِ سَنَابِلِهَا وكَلِمَاتِ حَبَّاتِهَا بالمُشَاهَدةِ.

وَيُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ كُلُّ نَبَاتٍ بِغَايَةِ الوُضُوحِ وَالظُهُورِ عِنْدَ انْكِشافِ أكمَامِها وَتَبَسُّمِ بَنَاتِهَا بَأفْوَاهِ مُزَيَّنَاتِ أزاهيرِهَا وَمُنْتَظَمَاتِ سَنَابِلِهَا، بِكَلِمَاتِ مَوْزُونَاتِ بُذُورِهَا وَمَنْظُومَاتِ حَبّاتِهَا، بِلِسَانِ نِظامِهَا في ميزانِهَا في تَنْظِيمِها في تَوْزِيِنِهَا في صَنْعَتِهَا في صِبغَتِها في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في رَوَائِحِهَا في طُعُومِهَا في ألوَانِهَا في أشْكَالِهَا، (حاشية) إن اثنى عشر مشهداً وحجاباً، مشهداً فوق مشهد، برهاناً ضمن برهان، دليلاً خلال دليل؛ تنبعث كلها من زهرة واحدة بنغمات متنوعة ولمعات متباينة فتُري القلبَ المصورَ الأزلي، وتلفت عين العقل إليه. كَمَا تَصِفُ تَجَلِّيَاتِ صِفَاتِكَ وتُعَرِّفُ جَلَواتِ أسمائِكَ وَتُفَسِّرُ تَوَدُّدَكَ وَتَعَرُّفَكَ بِمَا يَتَقَطَّرُ مِنْ ظَرَافَةِ عُيُونِ أزاهيِرهَا وَمِنْ طَرَاوَةِ أسْنَانِ سَنَابِلِهَا مِنْ رَشَحَاتِ لَمَعَاتِ جَلَوَاتِ تَوَدُّدِكَ وتَعَرُّفِكَ إلى عِبَادِكَ.

سُبْحانَكَ يَا وَدُودُ يا مَعْروُفُ مَا أحسَنَ صُنْعَكَ وَمَا أزيَنَهُ وَمَا أبْيَنَهُ وَمَا أتْقَنَهُ!

سُبْحَانَكَ يا مَن تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ الأشجار بِكَمَالِ الصَّرَاحَةِ وَالبَيَانِ عِنْدَ انْفِتَاحِ أكمَامِهَا وَانْكِشافِ أزهَارِهَا وتَزايُدِ أورَاقِهَا وَتَكَامُلِ أثمَارِهَا وَرَقْصِ بَنَاتِهَا عَلى أيَادي أغْصَانِهَا حَامِدَةً بأفْوَاهِ أوراقِهَا الخَضِرَةِ بِكَرَمِكَ، وَأزهَارِهَا المُتَبَسّمَةِ بِلُطْفِكَ، وَأثمَارِهَا الضَّاحِكَةِ بِرَحْمَتِكَ، بِألسِنَةِ نِظَامِهَا في ميزَانِهَا في تَنْظيِمِهَا في تَوْزينهَا في صَنْعَتِهَا في صِبْغَتِهَا في زِينَتِهَا في نُقُوشِهَا في طُعومِهَا في رَوَائحِهَا في ألوَانِهَا في أشكَالِهَا في اختِلافِ لُحُومِهَا في كَثْرَةِ تَنَوُّعِهَا في عَجَائبِ (حاشية) هذه الدلائل الخمسة عشر، الدليل ضمن الدليل، والبرهان داخل البرهان تشير إلى الصانع الجليل. خِلقَتِهَا كَمَا تَصِفُ صِفَاتِكَ وَتُعَرِّفُ أسْمَاءَكَ وتُفَسِّرُ تَحَبُّبَكَ وَتَعَهُّدَكَ لِمَصْنُوعَاتِكَ بِمَا يَتَرَشَّحُ مِنْ شِفَاهِ ثِمَارِهَا مِنْ قَطَراتِ رَشَحَاتِ لَمَعَاتِ جَلَوَاتِ تَحَبُّبِكَ وتَعَهُّدِكَ لِمَخْلُوقَاتِكَ.

حَتّى كَأنَّ الشَّجَرَةَ المُزَهَّرَةَ قَصيِدَةٌ مَنْظُومَةٌ مُحَرَّرَةٌ، لِتُنْشِدَ للِصَّانعِ المَدَائِحَ المُبَهَّرَةَ.

أو فَتَحَتْ بِكَثْرَةٍ عُيُونَهَا المُبَصَّرَةَ لِتَنْظُرَ للفَاطِرِ العَجَائِبَ المُنَشَّرَةَ.

أوْ زَيَّنَتْ لِعيِدِهَا أعْضَاءهَا المُخَضَّرَةَ لِيَشْهَدَ سُلْطَانُهَا آثَارَهَا المُنَوَّرَة. وَتُشْهِرَ في المَشْهَرِ مُرَصَّعَاتِ الجَوْهَرِ. وَتُعْلِنَ للِبَشَرِ حِكْمَةَ خَلْقِ الشَجَرِ.

سُبْحَانَكَ مَا أحْسَنَ إحْسَانَكَ مَا أبْيَنَ تِبْيَانَكَ مَا أبْهَرَ بُرْهَانَكَ ومَا أظْهَرَهُ ومَا أنْوَرَهُ!. سُبْحَانَكَ مَا أعْجَبَ صَنْعَتَكَ!

تَلألُؤُ الضِّياءِ بدَلالَةِ حِكَمِهَا؛ مِنْ تَنْوِيرِكَ، تَشْهِيرِكَ.. تَمَوُّجُ الأعْصَارِ بِسِرّ وَظَائِفِهَا – خُصُوصَاً في نَقْلِ الكَلِمَاتِ- مِنْ تَصْرِيفِكَ، تَوْظِيفِكَ.. تَفَجُّرُ الأنْهَارِ بإشَارَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ تَدْخِيرِكَ، تَسْخِيرِكَ.. تَزَيُّنُ الأحْجَارِ والحَدِيدِ بِرُمُوزِ خَوَاصِّهَا وَمَنَافِعِها – خُصُوصاً فِي نَقْلِ الأصْواتِ والمُخَابَرَاتِ – مِن تَدْبِيرِكَ، تَصْوِيرِكَ.. تَبَسُّمُ الأزهَارِ بِعَجَائِبِ حِكَمِهَا؛ مِنْ تَحْسِينِكَ، تَزْيِينِكَ.. تَبَرُّجُ الأثْمَارِ بِدَلالَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ إنْعَامِكَ، إكْرَامِكَ.. تَسَجُّعُ الأطْيَارِ بِإشَارَةِ انْتِظَامِ شَرائطِ حَيَاتِهَا؛ مِنْ إنطَاقِكَ إرفَاقِكَ.. تَهَزُّجُ الأمْطَارِ بِشَهَادَةِ فَوَائِدِهَا؛ مِنْ تَنـزيِلِكَ، تَفْضِيلكَ.. تَحَرُّكُ الأقْمَارِ بِشَهَادَةِ حِكَمِ حَرَكَاتِهَا؛ مِنْ تَقْدِيرِكَ، تَدْبِيرِكَ، تَدْوِيرِكَ، تَنْوِيرِكَ.

سُبْحانَكَ مَا أنْوَرَ بُرهَانَكَ مَا أبْهَرَ سُلطَانَكَ!

الفصل الثاني

سُبْحَانَكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنت كَمَا أثْنَيْتَ عَلى نَفْسِكَ في فُرْقَانِكَ. وَأثنَى عَلَيْكَ حَبِيبُكَ بِإذْنِكَ. وَأثنَتْ عَلَيْكَ جَمِيعُ مَصْنُوعَاتِكَ بإنْطَاقِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا عَرَفْنَاكَ حَقَّ مَعْرِفَتِكَ يا مَعْروُفُ بِمُعْجِزَاتِ جَميعِ مَصنوُعَاتِكَ وَبِتَوصِيفَاتِ جَميِـعِ مَخْلُوقَاتِكَ وَبِتَعْرِيِفَاتِ جَميِـعِ مَوْجُوُداتِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا ذَكَرْنَاكَ حَقَّ ذِكْرِكَ يَا مَذْكُورُ بِألسِنَةِ جَميعِ مَخلُوقَاتِكَ وَبِأنفُسِ جَميعِ كَلِمَاتِ كِتَابِ كَائِنَاتِكَ وَبِتَحيَّاتِ جَميعِ ذَوي الحَيَاةِ مِنْ مَخْلُوقاتِكَ لَك وَبِمَوْزُونَاتِ جَميعِ الأورَاقِ المُهْتَزَّةِ الذّاكِرَةِ في جَميعِ أشْجَارِكَ ونَبَاتَاتِكَ.

سُبْحَانَكَ مَا شَكَرْنَاكَ حَقَّ شُكْرِكَ يا مَشْكُورُ بِأثنِيَةِ جَميعِ إحْسَانَاتِكَ عَلى إحْسَانِكَ عَلى رؤوسِ الأشْهَادِ وَبِإعْلانَاتِ جَميعِ نِعَمِكَ عَلى إنْعَامِكَ في سُوقِ الكَائنَاتِ وَبِمَنْظُومَاتِ جَميعِ ثَمَرَاتِ رَحْمَتِكَ وَنِعْمَتِكَ لَدى أنْظَارِ المَخْلُوقَاتِ وبِتَحْمِيدَاتِ جَميعِ مَوْزُونَاتِ أزاهيرِكَ وَعَنَاقيدِكَ المُنَظَّمَةِ في خُيُوطِ الأشجار وَالنَّبَاتَاتِ.

سُبْحَانَكَ مَا أعظمَ شَأنَكَ وَمَا أزيَنَ بُرْهَانَكَ وَمَا أظْهَرَهُ وَمَا أبْهَرهُ!

سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ يَا مَعْبُودَ جَميعِ المَلائِكَةِ وجَميعِ ذَوي الحَيَاةِ وجَميعِ العَنَاصِرِ والمَخْلُوقَاتِ، بِكَمَالِ الإطَاعَةِ والامْتِثَالِ والانتِظَامِ والاتِّفَاقِ والاشْتِيَاقِ.

سُبْحَانَكَ مَا سَبَّحْنَاكَ حَقَّ تَسْبِيحِكَ يا مَنْ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه(الإسراء:44) .

سُبحَانَكَ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ السَّماءُ وَالأرضُ بِجَميعِ تَسْبيِحاتِ جَميعِ مَصْنُوعَاتِكَ وَبِجَميعِ تَحْمِيدَاتِ جَميعِ مَخْلُوقَاتِكَ لَكَ.

سُبْحَانَكَ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الأرضُ وَالسَّمَاءُ بِجَميعِ تَسْبِيحَاتِ جَميعِ أنْبيَائِكَ وَأولِيَائِكَ وَمَلائِكَتِكَ عَليِهِمْ صَلَوَاتُكَ وَتَسْلِيمَاتُكَ.

سُبْحَانَكَ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الكَائِنَاتُ بِجَميعِ تَسْبِيحَاتِ حَبيبِكَ الأكرم ﷺ. وَبِجَميعِ تَحْمِيدَاتِ رَسُولِكَ الأعظم لَكَ، عَلَيهِ وَعَلى آلهِ أفْضَلُ صَلَوَاتِكَ وَأتَمُّ تَسْليمَاتِكَ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ هذِهِ الكَائِناتُ بِأصْدِيَةِ تَسْبيحَاتِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَكَ؛ إذ هُوَ الَّذِي تتَمَوَّجُ أصْدِيَةُ تَسْبيحَاتِهِ لَكَ عَلى أمْوَاجِ الأعْصَارِ وأفْوَاجِ الأجْيَالِ.

اللهمَّ فَأبِّدْ عَلى صَفَحَاتِ الكَائِنَاتِ وَأوْرَاق الأوْقَاتِ إلى قيَامِ العَرَصَاتِ أصْدِيَةَ تَسْبيحَاتِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَلاةُ والتَّسْليماتُ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الدُنْيَا بِآثَارِ شَريِعَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ. اللّهمَّ فَزَيِّنِ الدُّنيَا بِآثارِ دِيَانَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسّلامُ إلى يَوْمِ القِيَامِ.

سُبْحَانَكَ يا مَنْ تُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ الأرضُ سَاجِدَةً تَحتَ عرْشِ عَظَمَةِ قُدْرَتِكَ بِلِسَانِ مُحَمَّدِهَا عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.

اللّهمَّ فَأنْطِقِ الأرض بِأقْطَارِهَا بِلِسَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى يَوْم البَعْثِ والقيَامِ.

سُبْحَانَكَ يَا مَنْ يُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ جَميعُ المُؤمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ في جَميعِ الأمْكِنَةِ وَالأوْقَاتِ بِلِسانِ مُحَمَّدِهِمْ عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.

اللهمَّ فَأنْطِقِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ إلى يَومِ القِيَامِ بِأصْدِيَةِ تَسْبيحَاتِ مُحَمَّدٍ لك عَلَيه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.

الفصل الثالث

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله الوَاحِدِ الأحَدِ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ الأضْدَادِ وَالأنْدَادِ وَالشُرَكَاءِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله القَدِيرِ الأزَليّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ المُعينِ وَالوُزَرَاءِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله القَدِيمِ الأزَليِّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنْ مُشَابَهَةِ المُحْدثَاتِ الزَّائِلاتِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله الوَاجِبِ وُجُوُدُهُ المُمْتَنِعِ نَظيرُهُ المُمكِنِ كُلُّ مَا سِوَاهُ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنْ لَوَازِمِ ماهيَّاتِ المُمْكِنَاتِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله الَّذي ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌ وَهُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ(الشورى:11) المُتَقَدِّسُ المُتَنـزِّهُ عَمَّا تَتَصوَّرُهُ الأوْهَامُ القَاصِرَةُ الخَاطِئَةُ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله الَّذي ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ (الروم:27) المُتَقَدِّسُ المُتَنـزِّهُ عَمَّا تَصِفُهُ العَقَائِدُ النَاقِصَةُ البَاطِلَةُ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله القَديرِ المُطْلَقِ الغَنيِّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ العَجْزِ والاحْتِياجِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله الكاملِ المُطْلَقِ في ذاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأفْعالِهِ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ القُصُورِ والنُّقْصَانِ، بِشَهَادَاتِ كَمَالاتِ الكائِنَاتِ؛ إذ مَجْمُوعُ مَا في الكائِنَاتِ مِن الكَمالِ وَالجَمَالِ ظِلٌّ ضَعيفٌ بِالنّسْبَةِ إلى كَمَالهِ سُبْحَانَهُ، بالحَدْسِ الصَّادِقِ وَبِالبُرْهَانِ القَاطِعِ وبالدَّليل الوَاضِحِ. إذ التَّنْويرُ لا يَكُونُ إلّا مِنَ النُّورانِيِّ وبِدَوَامِ تَجَلّي الجَمَالِ وَالكَمَالِ مَعَ تَفَانِي المَرَايا وسَيَّاليَّةِ المَظَاهِرِ ، وبِإجْمَاع وَاتِّفَاقِ جَمَاعَةٍ كَثيرَةٍ مِنَ الأعَاظِمِ المُخْتَلِفِينَ في المَشَارِبِ والكَشْفِيَّاتِ المُتَّفِقِينَ عَلى ظِلِّيَّةِ كَمَالاتِ الكَائِنَاتِ لأنْوَارِ كَمالِ الذَّاتِ الوَاجِبِ الوُجُودِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله الأزَليِّ الأبدي السَّرْمَديِّ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ التَّغَيُّرِ والتَّبَدُّلِ اللّازِمَيْنِ للمُحْدَثَاتِ المُتَجَدّدات المُتكامِلاتِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله خَالِقِ الكَوْنِ وَالمَكَانِ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ التَّحَيُّز وَالتَّجَزُّءِ اللَّازِمَيْنِ للمَادِّيَّاتِ وَالمُمْكِنَاتِ الكَثِيفَاتِ الكَثِيراتِ المُقَيَّدَاتِ المَحْدُودَاتِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله القَديِمِ الباقِي المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ الحُدُوثِ وَالزَّوَالِ.

ذُو الجَلال سُبْحَانَ الله الوَاجِبِ الوُجُودِ المُتَقَدِّسِ المُتَنـزِّهِ عَنِ الوَلَدِ وَالوَالِدِ وَعَنِ الحُلُول والاتّحَادِ وَعَنِ الحَصْرِ وَالتَّحْدِيدِ وَعَمَّا لا يَلِيقُ بِجَنَابِهِ وَمَا لا يُنَاسِبُ وُجوُبَ وُجُودِهِ وَعَمَّا لا يُوَافِقُ أزَلِيَّتَهُ وَأبَدِيَّتَهُ.

جَلَّ جَلالُهُ. وَلا إلهَ إلّا هُوَ.

اللمعة الثامنة والعشرون

هذه اللمعة عبارة عن فقرات مختصرة كتبتُها لبعث السلوان إلى قلوب إخواني الذين كانوا معي، حينما كنت ممنوعاً عن التكلم والاختلاط مع الآخرين في سجن «أسكي شهر».

محاورة لطيفة

مع سليمان رشدي الذي هو رمز الوفاء والإخلاص، المتميز بنقاء السريرة.

عندما يقترب زمن تسريح الذباب من مهمة الحياة وذلك في موسم الخريف، يستعمل بعض من يقصد نفعه بالذات مبيداً لمكافحة الذباب ليحولوا دون أن يمسهم شيء من الإزعاج. فمسَّ ذلك رقة قلبي وأثّر فيَّ كثيراً. علماً أن الذباب قد تكاثر أكثر من قبل على الرغم من استعمال المبيد القاتل. وكان في غرفتي في السجن حبلٌ لنشر الملابس لأجل تنشيفها فكانت تلك الطويرات الصغيرة جداً تتراصف على ذلك الحبل مساءً تراصفاً جميلاً منتظماً. فقلت لرشدي: لا تتعرض لهذه الطويرات الصغيرة، انشر الملابس في مكان آخر. فردّ عليّ بجدّ: إننا بحاجة إلى هذا الحبل، فلتجد الذبان لها موضعاً آخر!

وعلى كل حال، ولمناسبة المحاورة اللطيفة التي جرت بيننا انفتح بابُ البحث عن الذباب والنحل وما شابههما من الحشرات الكثيرة، فدار الكلام حولها.

فقلت له:

إنَّ مثل هذه الأنواع من الحيوانات التي تتكاثر نسَخُها بكثرة هائلة، لها وظائفُ مهمة. فالكتاب يُطبع طبعات كثيرة نظراً لقيمته. بمعنى أن جنس الذباب له وظيفةٌ مهمة وقيمة كبيرة حيث يُكثر الفاطرُ الحكيم من نسخ تلك الرسائل القَدَرية وكلمات القدرة الإلهية.

نعم، إنَّ هذه الطائفة من الذباب التي تنظّف وجهَها وعينَيها وجناحيها كل حين، وكأنها تتوضأ، تشكّل موضوعاً مهماً للآية الكريمة: ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ اِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَاِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـًٔا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج:73).

بمعنى أن الأسباب وما يدّعيه أهلُ الضلالة من ألوهية من دون الله لو اجتمعت على خلق ذبابة واحدة لعجَزت. أي إن خلقَ الذباب معجزةٌ ربانية وآيةٌ تكوينية عظيمة، بحيث لو اجتمعت الأسباب كلها لما خلقت مثلَ تلك الآية الربانية ولا استطاعت أن تعارضها ولا تقلدها قطعاً. فتلك المعجزة قهرت نمرود، ودافعتْ عن حكمة خلقها دفاعاً فاق ألفَ اعتراض، لمّا شكى موسى عليه السلام من ازعاجاتها قائلاً: يا رب لِمَ أكثرتَ من نسل هذه المخلوقات المزعجة.. أُجيب إلهاماً: لقد اعترضتَ مرة على الذبان، وهي كثيراً ما تسأل: يا رب إن هذا الإنسان الكبير ذا الرأس الضخم لا يذكرك إلّا بلسان واحد بل يغفل أحياناً عن ذكرك، فلو خلقتَ من رأسه فحسب مخلوقاتٍ من أمثالنا لكانت ألوفُ المخلوقات ذاكرةً لك.

وفضلاً عن هذا فإن الذباب يرعى النظافةَ أيمّا رعاية، إذ ينظف وجهَه وعينيه باستمرار ويمسح على أجنحته دوماً ويؤدي كل ذلك كمن يتوضأ. إذن لهذه الطائفة وظائفُ مهمة وجليلة بلا شك، إلّا أن نظرَ الحكمة البشرية وعلمَها قاصرٌ لم يحط بعدُ بتلك الوظائف.

نعم، إنَّ الله سبحانه وتعالى قد خلق قسماً من الحيوانات مفترسةً آكلة للحوم، وكأنها موظفات صحيّات ومأمورات للتنظيف تؤدي وظيفتها في غاية الإتقان، بتنظيفها وجهَ البحر وجمعِها لجثث ملايين الحيوانات البحرية يومياً، وإنقاذ وجه البحر من المناظر القذرة. (حاشية) نعم، إن سمكة واحدة تضع ألوفاً من البويضات، فتخرج منها ألوفاً من الصغار وأحياناً تخرج من مبيضها مليوناً من البويضات، فتكون مواليد الأسماك متناسبة مع وفياتها، كي يمكن أن تحافظ على التوازن في البحر. ومن ألطاف تجليات الرحمن الإلهية أن تتفاوت أجسام الوالدات تفاوتاً كبيراً مع أجسام صغارها، فلا تستطيع أن تقود صغارها أينما ذهبت، حيث لا يمكنها الدخول في أماكن تدخلها الصغار، فيولّد الحكيم الرحيم سبحانه قائداً صغيراً من بين الصغيرات ويسخّرها في وظيفة الوالدات. فإن لم توف هذه الحيوانات بوظيفتها الصحية حق الوفاء وعلى أجمل وجه لما تلألأ وجهُ البحر كالمرآة الساطعة، ولكان البحر يورث الكآبة والحزن.

وكذا فإنه سبحانه قد خلق حيوانات مفترسة وطيوراً جارحة بمثابة مأمورات للنظافة والأمور الصحية، تقوم بتنظيف وجه الأرض يومياً من جثث مليارات من الحيوانات البرية والطيور وإنقاذها من التعفن، وإنقاذ ذوي الحياة من ذلك المنظر الكئيب الأليم. حيث تستطيع تلك الحيوانات أن تتحسس مواضعَ تلك الجثث الخفية والبعيدة من مسافة تبلغ حوالي ست ساعات، وذلك بسَوق من إلهام رباني، فتنطلق إلى تلك المواضع وتزيل الجثث. فلولا هذه الموظفات الصحيات البرية وهي تؤدي وظائفها على أفضل وجه لكان وجهُ الأرض في حالة يرثى لها.

نعم، إنَّ الرزق الحلال للحيوانات الوحشية المفترسة هو لحوم الحيوانات الميتة، وحرام عليها لحوم الحيوانات الحية، بل لها جزاء إن أكلت منها. فالحديث الشريف: (حتى يقتصّ الجمّاءُ من القَرناء) يدل على أن الحيوانات التي تبقى أرواحُها رغم فناء أجسادِها لها جزاءٌ وثواب يناسبها في دار البقاء. فعلى هذا يصح القول: إن لحومَ الحيوانات الحية حرام على المفترسات.

وكذا النمل موظف بجمع شتات القطع الصغيرة للنعم الإلهية وصيانتها من التلف والامتهان لئلا تُداس تحت الأقدام، فضلاً عن جمعه جثث الحيوانات الصغيرة وكأنه موظف صحي.

وكذا الذبان لها وظائف -أهم مما ذكر- فهذه الحشرات مأمورة بتنظيف ما لا يراه الإنسان من جراثيم مرضية وتطهير المواد السامة. فهي ليست ناقلة للجراثيم، بل على العكس، هي تُهلك تلك الجراثيم المضرة وتمحيها بمصّها لها وأكلها، وتحيل تلك المواد السامة إلى مواد أخرى. فتحُول دون سريان كثير من الأمراض، وتُوقِفها عند حدّها.

والدليل على أن الذبان موظفات صحيات، ومأمورات تنظيف وكيمياويات حاذقات، وأن لوجودها حكمة إلهية واسعة.. هو كثرتها المتناهية، إذ المواد النافعة والثمينة يكثّر منها.

أيها الإنسان الذي يقصد نفع ذاته وحده!

انظر إلى فائدة واحدة للذباب تعود إليك فحسب مما سوى فوائده ومنافعه للحياة. وتخلّ عن عدائك له. فكما أنه يورثك الأُنس والسلوان في الاغتراب والوحدة والانفراد، كذلك يوقظك من نوم الغفلة وغمرات تشتت الفكر، فيذكّرك بوظائف إنسانية كالوضوء والصلاة والحركة والنشاط والنظافة بوضعيته اللطيفة ووضوئه وتنظيفه وجهه وعيونه، كما هو مشاهد.

وكذا النحل -وهي صنف من الذباب- تُطعمك العسلَ الذي هو ألذّ غذاء وألطفه، وهي الملهمة بالوحي الإلهي كما نص عليه القرآن الكريم. فعليك أن توليها حبَّك.

إنَّ العداء للذباب لا معنى له، بل هو ظلم وإجحاف بحق تلك الحيوانات التي تعاون الإنسان وتسعى لصداقته وتتحمل أذاه. وإنما يجوز مكافحة المضرة منها فحسب، وذلك دفعاً لأضرارها، كدفع ضرر الذئاب عن الأغنام.

فيا ترى أليس من المحتمل أن يكون البعوضُ والبرغوث المسلطان علينا حجّامات فطرية، أي موظفات بمصّ الدم الفاسد الجاري في الأوردة وقت الحر وزيادة الدم أكثر من حاجة الجسم؟.. سبحان من تحيّر في صُنعه العقول..

كنت يوماً في جدال مع نفسي، إذ اغترّت بما أنعم الله عليها، وتوهمت أنها مالكةٌ لها، وبدأت بالفخر والمدح.

فقلت لها: إنكِ لا تملكين شيئاً بل هو أمانة. فتركت الغرورَ والفخر. ولكنها تكاسلت قائلة: لِمَ أرعى ما ليس لي؟ وماذا عليّ لو ضاع؟.

وفجأة رأيت ذبابةً وقفت على يدي وبدأت بتنظيف وجهها وعينها وجناحيها وهي أمانات لديها تنظيفاً على أجمل ما يكون، مثلما ينظف الجندي سلاحه وملابسه التي سلّمتها له الدولةُ، فقلت لنفسي: انظري إلى هذه الذبابة، فنظرتْ وتعلّمت منها درساً بليغاً. وهكذا أصبح الذبابُ أستاذاً لنفسي الكسلانة.

إنَّ فضلات الذباب لا ضرر لها من حيث الطب، بل قد تكون شراباً حلواً (وغذاءً لحشرات أخرى) إذ ليس من المستبعد عن الحكمة الإلهية، بل من شأنها أن تجعل من الذباب مكائن تصفية وأجهزة استحالة، نظراً لأكلها ألوفَ الأصناف من مواد هي منشأ الجراثيم والسموم.

نعم إنَّ من طوائف الذباب -مما سوى النحل- طائفةٌ تأكل المواد المتعفنة المختلفة (حاشية) إن طائفة صغيرة جداً من الذباب تُخلق على هيئة كتلة سوداء، على أغصان اللوز والمشمش، في أواخر الربيع، وتبقى ملتصقة بالغصن، وتسيل منها بدلاً من الفضلات، قطرات شبيهة بالعسل فتتجمع حولها أنواع الذباب الأخرى وتمصها. وطائفة أخرى من الذباب تستخدم في تلقيح بعض أزاهير النباتات والأشجار المثمرة، كالتين. وطائفة أخرى للذباب، هي اليراع، المتلمعة ليلاً، وهي أعجوبة تلفت الأنظار وتدعو الى التدبر والتأمل، كما أن قسماً منها تتلمع لمعان الذهب. و لا ينبغي أن ننسى البعوض والزنابير المجندات الحاملات للرماح. فلو لم تكن زمام هذه الذبان بيد الخالق الرحيم، وأغارت على الأحياء والإنسان لأفنت نوع الإنسان كما قتلت نمرود، ولفسّرت لنا المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿وَاِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـًٔا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾. ولهذا فان جنس الذباب الذي يضم مائة من الطوائف المالكة للمزايا والخواص المذكورة، لها أهميتها التي أهّلتها لتكون موضوع الآية الكريمة ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾.. فتقطر دوماً قطرات من مواد حلوة بدلاً من فضلاتها -كنـزول المنّ على أوراق الأشجار- فتثبت أنها مكائن استحالة.

وهكذا يتبين أمام الأنظار مدى عظمة أمة الذباب الصغير هذا، ومدى عظمة وظائفها. وكأنها تقول بلسان الحال: لا تنظروا إلى صغر أجسامنا بل إلى عِظَم وظائفنا. وقولوا: سبحان الله.


«الحروف القرآنية»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس:82)

يفهم من إشارة هذه الآية الكريمة: أنَّ الخلق يتم بالأمر، وأن خزائن القدرة الإلهية بين الكاف والنون. ولهذا السر الدقيق وجوهٌ كثيرة، وقد ذُكر بعضُها في الرسائل.

أما الآن فنحاول أن نفهم هذا السر وفق مثالٍ مادي محسوس لأجل تقريب الأحاديث النبوية الواردة حول خواص الحروف القرآنية ومزاياها وتأثيراتها المادية -ولاسيما الحروف المقطّعة في أوائل السور- إلى نظر هذا العصر المادي، وذلك:

إنَّ للخالق الجليل ذي العرش العظيم سبحانه وتعالى أربعةَ عروشٍ إلهية، هي محاورُ لتدبير أمور المخلوقات الموجودة على كرة الأرض، التي هي بمثابة مركز معنوي للعالم وقلبِ الكائنات وقبلتِها.

أحدها: هو عرش الحفظ والحياة وهو التراب، المُظهِر لتجلي اسم الحفيظ والمحيي.

ثانيها: هو عرش الفضل والرحمة وهو عنصر الماء.

ثالثها: هو عرش العلم والحكمة وهو عنصر النور.

رابعها: هو عرش الأمر والإرادة وهو عنصر الهواء.

إننا نشاهد بأبصارنا ظهورَ المعادن التي تدور عليها حاجات غير محدودة حيوانية وإنسانية، وظهورَ ما لا يحد من النباتات المختلفة، من تراب بسيط. كما نشاهد ظهور ما لا يحد من معجزات الصنعة الإلهية ولاسيما من نطف الحيوانات التي هي سائلٌ شبيه بالماء، ظهورَها في الأحياء المختلفة من الماء.. أي ظهور تلك الكثرة الكاثرة والأنواع المختلفة من عنصر بسيط (التراب، الماء)، وبانتظام تام وكتابتها على صحيفة بسيطة على صورة نقوش بديعة لا تحد، مما يدلنا على أن «النور والهواء» أيضاً -كهذين العرشين- مظاهر لمعجزات عجيبة لقلم عِلم المصوّر الأزلي العليم الجليل وقلمِ إرادته وأمره كالعرشين السابقين، رغم بساطتهما.

سندع حالياً عنصر النور. ولمناسبة مسألتنا نحاول كشف الحجاب عما يستر عجائبَ الأمر والإرادة وغرائبهما في عنصر الهواء الذي يمثّل عرش الأمر والإرادة بالنسبة إلى كرة الأرض. وذلك:

كما أننا نزرع الحروف والكلمات بالهواء الذي في أفواهنا، وإذا بها تتسنبل وتثمر، أي أن الكلمة تُصبح حبةً في آن واحد كأنها بلا زمان وتتسنبل في الهواء الخارجي، هواءً حاوياً على ما لا يحد من الكلمة نفسها، صغيرها وكبيرها. كذلك ننظر إلى عنصر الهواء فنرى أنه مطيعٌ ومنقاد لأمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ومسخَّر له إلى حدّ عظيم حتى كأن كلَّ ذرة من ذراته جنديٌ لجيش منظم متأهب لتلقي الأمر في كل آن، ويُظهر الطاعةَ والامتثال للإرادة المتجلية في أمر «كن» بلا زمان، سواءً في ذلك أبعدُ الذرات وأقربُها.

مثلاً: إنَّ الخطاب الذي يلقيه إنسان من الإذاعة يُسمَع في كل مكان في الأرض في الوقت نفسه وكأنه بلا زمان -بشرط وجود الراديوات- مما يبين مدى امتثال كل ذرة من ذرات الهواء لتجلي أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ امتثالاً كاملاً.

فالأمر كذلك في الحروف التي هي غير مستقرة في الهواء، يمكن أن تصبح بكيفياتها القدسية مظاهرَ لتأثيرات خارجية ولخواصَّ مادية كثيرة حسب سر الامتثال هذا. فتشاهَد فيها خاصيةٌ، كأنها تقلب المعنويات إلى ماديات وتحوّل الغيبَ إلى شهادة.

وهكذا بمثل هذه الأمارة، فإن أمارات أخرى لا تحد تُظهِر لنا أن الحروفَ التي هي موجودات هوائية، ولاسيما الحروف المقدسة والحروف القرآنية وبخاصة حروف الشفرات الإلهية وهي المقطعات التي في أوائل السور، تسمع الأوامرَ وتمتثلها امتثالاً في غاية الانتظام والشعور التام والحساسية الكاملة وبلا حاجة إلى زمان. فلا شك أن هذا يحمل المرءَ على التسليم بالخواص المادية والمزايا الخارقة المرويّة للحروف التي في ذرات الهواء ومن حيث القدسية، والتي ينعكس فيها تجلي الإرادة الأزلية وجلوةٌ من أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ.

وهكذا فإن تعابير القرآن الكريم التي تبين أحياناً أثرَ القدرة كأنها صادرةٌ من صفة الإرادة وصفة الكلام مبنيٌّ على هذا السر. فتلك التعابير القرآنية تدل على أن الموجودات تُخلَق في منتهى السرعة ومسخّرةٌ ومنقادة انقياداً تاماً للأوامر حتى لكأنَّ الأمرَ يُنفّذ حُكمَه كالقدرة. أي إن الحروف الآتية من الأمر التكويني تؤثر في وجود الأشياء وكأنها قوةٌ مادية، ويَظهر الأمر التكويني كأنه القدرةُ نفسها والإرادةُ نفسها. نعم، إنَّ هذه الموجودات الخفية التي وجودُها المادي هوائي وهي في غاية الخفاء، حتى كأنها موجودات نصف معنوية ونصف مادية، تشاهَد فيها آثارُ الأمر والإرادة بحيث يشبه الأمرُ التكويني القدرة بعينها، بل يصبح القدرةَ نفسَها.

وهكذا لأجل جلب الأنظار والحث على التدبّر في موجودات كأنها برزخ بين المعنويات والماديات يقول القرآن الكريم: ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. لذا فمن المعقول جداً أن تكون الحروف المقطّعة التي في أوائل السور أمثال: ﴿الٓمٓ، ﴿طٰسٓ، ﴿حٰمٓ، وماشابهها من الشفرات الإلهية، عُقَداً وأزراراً حرفية تستطيع أن تهزّ أوتار العلاقات الدقيقة الخفية بين ذرات الهواء بلا زمان، بل من شأن تلك الحروف ومن وظائفها أن تؤدي مخابرات قدسية -كاللاسلكي المعنوي- من الأرض إلى العرش.

نعم، إنَّ كل ذرة بل كل ذرات الهواء المنتشرة في أقطار العالم تمتثل الأوامر وتنقلها عبر اللاسلكي والهاتف والبرقية، فضلاً عن نقلها سائر السيالات اللطيفة كالكهرباء. فلقد شاهدتُ بالحدس القطعي بل بالمشاهدة الحقة إحدى وظائفها -مما سوى المذكورة- في أَزاهير اللوز، وهي: أن الأشجار المنتشرة في أقطار الأرض كأنها جيش منظم يستلم الأمر نفسه في آن واحد. فبمجرد هبوب نسيم رقيق تستلم الأمر من تلك الذرات، وتظهر وضعاً معيناً. مما أورثتني تلك الحالة يقيناً تاماً وقناعة كاملة. بأن قيام الهواء في سطح الأرض كخادم أمين نشط فعال، يخدم ضيوفَ الرحمن الرحيم الذين يسكنون سطح الأرض، يبلّغ في الوقت نفسه أوامر الرحمن بذراته الشبيهة باللاسلكي إلى النباتات والحيوانات، بحيث تكون ذراتُه كلُّها في حكم خدّام الأمر وشبيهة بلاقطات اللاسلكي والهاتف. وفي الوقت نفسه يؤدي بأمر «كن» مهمات جليلة ووظائف منتظمة كثيرة، من أمثال تشكيل الحروف في الفم بعد خروجه منه، وتهوية الأنفاس واسترواح النفوس، أي بعد أدائه وظيفة تنقية الدم الباعث على الحياة، وإشعال الحرارة الغريزية التي هي وقود الحياة، ثم يخرج الهواء من الفم ويكون مبعثَ نطق الحروف وانطلاقها.. وهكذا تجري وظائفٌ كثيرة بأمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ.

فبناءً على خاصية الهواء هذه، فإن الحروف التي هي موجودات هوائية كلما اكتسبت قداسةً، أي اتخذت أوضاعَ البث والالتقاط يصبح لها حظٌ وافر من تلك الخاصية.

لذا فلكون حروف القرآن، في حُكم العُقد، وحروف المقطعات في حكم المركز لرؤوس تلك المناسبات الخفية، وفي حكم عقَدها وأزرارها الحساسة، يكون وجودُها الهوائي مالكاً لهذه الخاصية، كما أن وجودَها الذهني، بل وجودُها النقشي أيضاً، لهما خاصية من تلك الخاصية.

أي يمكن بقراءة تلك الحروف وبكتابتها كسبُ الشفاء -كالدواء المادي- والحصول على مقاصد أخرى.

سعيد النُّورْسِيّ

اللمعة السادسة والعشرون

«رسالة الشيوخ»

«هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين نورَ رجاءٍ وضياءَ تسلٍ»

تنبيه

إنَّ السبب الذي دعاني إلى تسجيل ما كنت أُعانيه من آلامٍ معنوية في مستهل كل رجاء بأسلوب مؤثر جداً إلى حدٍّ يثير فيكم الألمَ أيضاً، إنما هو لبيان مدى قوة مفعول العلاج الوارد من القرآن الحكيم وشدة تأثيره الخارق.

بيد أن هذه «اللمعة» التي تخصّ الشيوخ لم تحافظ على حسن البيان، وجمال الإفادة لعدة أسباب:

أولها: لأنها تخص أحداث حياتي الشخصية ووقائعَها، فالذهاب عبرَ الخيال إلى تلك الأزمنة، ومعايشة أحداثها، ومن ثم تناولها بالكتابة بتلك الحالة، سبّب عدم المحافظة على الانتظام في البيان والتعبير.

ثانيها: اعترى البيانَ شيء من الاضطراب، لأنَّ الكتابة كانت بعد صلاة الفجر، حيث كنت أَشعر حينها بتعبٍ وإنهاكٍ شديدين، فضلاً عن الاضطرار إلى الإسراع في الكتابة.

ثالثها: لم يكن لدينا متسع من الوقت للقيام بالتصحيح الكامل؛ فالكاتب الذي كان مرهقاً بشؤون «رسائل النور» وكثيراً ما كان يعتذر عن الحضور مما أفقد المضمونَ التناسق المطلوب.

رابعها: لم نستطع إلّا الاكتفاء بالتصحيحات والتعديلات العابرة دون التوغل في أعماق المعاني؛ لما كنا نحسّ به من تعبٍ ونصبٍ عقب التأليف، فلا جرم أنْ رافق الموضوع شيءٌ من التقصير في التعبير والأداء.

لذا نهيب بالشيوخ الكرام أن ينظروا بعين الصفح والسماح إلى قصوري في الأداء، وأن يجعلوني ضمن دعواتهم عندما يرفعون أكّفهم متضرعين إلى الله الرحيم الذي لا يردّ دعوات الشيوخ الطيبين…

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿كٓهٰيٰعٓصٓ * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * اِذْ نَادٰى رَبَّهُ نِدَٓاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ اِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ اَكُنْ بِدُعَٓائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (مريم:1-4).

(هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين رجاء)

الرجاء الأول

يا من بلغتم سنّ الكمال، أيها الأخوة الشيوخ الأعزاء، ويا أيتها الأخوات العجائز المحترمات! إنني مثلُكم شيخ كبير، سأكتب لكم بعضَ ما مرّ عليّ من أحوال، وما وجدته بين حين وآخر من أبواب الأمل، وبوارق الرجاء في عهد الشيخوخة، لعلكم تشاركونني في أنوار السلوة المشعة من تلكم الرجايا والآمال. إنَّ ما رأيته من الضياء، وما فتحه الله عليّ من أبواب النور والرجاء، إنما شاهدتُه حسب استعدادي الناقص وقابلياتي المشوشة، وستجعل استعداداتكم الخالصة الصافية -بإذن الله- ذلك الضياء أسطعَ وأبهر مما رأيته، وذلكم الرجاء أقوى وأمتن مما وجدته.

ولا ريب أنّ منبع ما سنذكره من الأضواء ومصدر ما سنورده من الرجايا ما هو إلّا «الإيمان».

الرجاء الثاني

حينما شارفت على الشيخوخة، وفي أحد أيام الخريف، وفي وقت العصر، نظرت إلى الدنيا من فوق ذروة جبل، فشعرت فجأة حالة في غاية الرقة والحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في أعماقي.. رأيت نفسي: أنني بلغت من العمر عتياً، والنهارُ قد غدا شيخاً، والسنةُ قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزّني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزّاً عنيفاً. فلقد دنا أوانُ فراق الدنيا، وأوشك أوان فراق الأحباب أن يحلّ.. وبينما أتململ يائساً حزيناً إذا بالرحمة الإلهية تنكشف أمامي انكشافاً حوّل ذلك الحزنَ المؤلم إلى فرحة قلبية مشرقة، وبدّل ذلك الفراق المؤلم للأحباب إلى عزاء يضيء جنبات النفس كلها.

نعم يا أمثالي من الشيوخ! إنَّ الله سبحانه وتعالى الذي يقدّم ذاته الجليلة إلينا، ويعرّفها لنا في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، بصفة «الرحمن الرحيم».. والذي يرسل رحمته بما يسبغ على وجه الأرض دوماً من النِّعَم، مدداً وعوناً لمن استرحمه من ذوي الحياة، والذي يبعث بهداياه من عالم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنِعَم لا تعد ولا تحصى، يبعثها إلينا نحن المحتاجين إلى الرزق، مُظهِراً بها بجلاء تجليات رحمته العميمة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا. فرحمة خالقنا الرحيم هذه أعظم رجاءً، وأكبر أملاً في عهد شيخوختنا هذه، بل هي أسطع نوراً لنا.

إنَّ إدراك تلك الرحمة والظفر بها، إنما يكون بالانتساب إلى ذلك «الرحمن» بالإيمان، وبالطاعة له سبحانه بأداء الفرائض والواجبات.

الرجاء الثالث

حينما أفقتُ على صبح المشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت إلى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر نزولاً من علٍ إلى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي المصري:

بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر    غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

فجسمي الذي هو مأوى روحي، بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الأيام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة إلى الدنيا، بدأت أوثاقُها تنفصم وتنقطع. فدبّ فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لا يحصى من الأحبة والأصدقاء، فأخذتُ أبحثُ عن ضماد لهذا الجرح المعنوي الغائر، الذي لا يُرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لم أستطع أن أعثر له على علاج، فقلت أيضاً كما قال نيازي المصري:

حكمة الإله تقضى فناء الجسد                والقـلب تواق إلى الأبد

لهف نفسي من بلاء وكمـد                  حار لقمان في إيجاد الضمد

وبينما كنت في هذه الحالة إذا بنور الرسول الكريم ﷺ الذي هو رحمة الله على العالمين، ومثالُها الذي يعبّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، وإذا بشفاعته، وبما أتاه من هدية الهداية إلى البشرية، يصبح بلسماً شافياً، ودواءً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويبدل ذلك اليأس القاتم الذي أحاطني إلى نور الرجاء الساطع.

أجل، أيها الشيوخ وأيتها العجائز الموقرون، ويا من تشعرون كلكم بالشيخوخة مثلي!. إننا راحلون ولا مناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالمكوث هنا بمخادعة النفس وإغماض العين، فنحن مساقون إلى المصير المحتوم. ولكن عالم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الأوهام الناشئة من الغفلة، وبما قد يصوّره أهل الضلالة، فليس هو بعالم الفراق، ولا بعالم مظلم، بل هو مجمع الأحباب، وعالم اللقاء مع الأحبة والأخلّاء، وفي طليعتهم حبيبُ رب العالمين وشفيعنا عنده يوم القيامة عليه أفضل الصلاة والسلام.

نعم، إنَّ مَن هو سلطان ثلاثمائة وخمسين مليوناً من الناس في كل عصر، عبر ألف وثلاثمائة وخمسين سنة وهو مربّي أرواحهم، ومرشدُ عقولهم، ومحبوب قلوبهم، والذي يُرفع إلى صحيفة حسناته يومياً أمثال ما قدمت أمته من حسنات، إذ «السبب كالفاعل» والذي هو مدار المقاصد الربانية، ومحور الغايات الإلهية السامية في الكون، والذي هو السبب لرقي قيمة الموجودات وسمّوها، ذلك الرسول الأكرم ﷺ، فكما أنه قال في الدقائق الأولى التي تشرّف العالم به «أمتي.. أمتي..» كما ورد في الروايات الصحيحة والكشفيات الصادقة، فإنه ﷺ يقول في المحشر أيضاً: «أمتي.. أمتي..» ويسعى بشفاعته إلى إمداد أمته وإغاثتها بأعظم رحمة وأسماها وأقدسها وأعلاها، في الوقت الذي يقول كلّ فرد من الجموع العظيمة: «نفسي.. نفسي». فنحن إذن ذاهبون إلى العالم الذي ارتحل إليه هذا النبي الكريم، راحلون إلى العالم الذي استنار بنور ذلك السراج المنير وبمن حوله من نجوم الأصفياء والأولياء الذين لا يحصرهم العد.

نعم، إنَّ اتباع السُّنة الشريفة لهذا النبي الكريم ﷺ هو الذي يقود إلى الانضواء تحت لواء شفاعته والاقتباس من أنواره، والنجاة من ظلمات البرزخ.

الرجاء الرابع

حينما وطأت قدمايَ عتبةَ الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدّها قد اعتلّت أيضاً فاتفقت الشيخوخةُ والمرض معاً على شن الهجوم عليّ، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنّي. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدتُ أنَّ عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلما صاح نيازي المصري:

ذهب العُمر هباءً، لم أفز فيه بشيء

ولقد جئت أسير الدرب، لكنْ

رحل الرّكبُ بعيداً

وبقيتْ

ذلك النائي الغريب

وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً أطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!

كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، وأسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من أعماقي أَطلب إمداد العون، وضياء الرجاء.. وإذا بالقرآن الحكيم المعجز البيان يمدّني، ويسعفني، ويفتح أمامي بابَ رجاء عظيم، ويمنحني نوراً ساطعاً من الأمل والرجاء يستطيع أن يزيل أضعاف أضعاف يأسي، ويمكنه أن يبدد تلك الظلمات القاتمة من حولي.

نعم، أيها الشيوخ وأيتها العجائز المحترمون، يا مَن بدأت أوثاق صلتهم بالانفصام عن الدنيا مثلي! إنَّ الصانع ذا الجلال الذي خلق هذه الدنيا أكملَ مدينة وأنظمها، حتى كأنها قصرٌ منيف، هل يمكن لهذا الخالق الكريم ألّا يتكلم مع أحبّائه وأكرم ضيوفه في هذه المدينة أو في هذا القصر؟ وهل يمكن ألّا يقابلهم؟!!

فما دام قد خلق هذا القصر الشامخ بعلم، ونظّمه بإرادة، وزيّنه باختيار، فلابد أنه يتكلم؛ إذ كما أنَّ الباني يعلم، فالعالم يتكلم. وما دام قد جعل هذا القصر دار ضيافة جميلة بهيجة، وهذه المدينة متجراً رائعاً، فلابد أنْ يكون له كتبٌ وصحفٌ يبيّن فيها ما يريده منا، ويوضح علاقاته معنا.

ولا شك أنَّ أكمل كتاب من تلك الكتب المقدسة التي أنـزلها، إنما هو القرآن الحكيم المعجز، الذي ثبت إعجازُه بأربعين وجهاً من وجوه الإعجاز، والذي يُتلى في كل دقيقة بألسنة مائة مليون شخص في الأقل، والذي ينشر النور ويهدي السبيل. والذي في كل حرفٍ من حروفه عشر حسنات، وعشر مثوبات في الأقل، وأحياناً عشرة آلاف حسنة، بل ثلاثين ألف حسنة، كما في ليلة القدر. وهكذا يمنح من ثمار الجنة ونور البرزخ ما شاء الله أن يمنح. فهل في الكون أجمع كتاب يناظره في هذا المقام، وهل يمكن أن يدّعي ذلك أحد قط؟

فما دام هذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين، وهو أمره المبلّغ إلينا، وهو منبع رحمته التي وسعت كل شيء، وهو صادر من خالق السماوات والأرض ذي الجلال، من جهة ربوبيته المطلقة، ومن جهة عظمة ألوهيته، ومن جانب رحمته المحيطة الواسعة، فاستمسك به واعتصم، ففيه دواءٌ لكل داء، ونورٌ لكلِّ ظلام، ورجاء لكل يأس.. وما مفتاح هذه الخزينة الأبدية إلّا الإيمان والتسليم، والاستماع إليه، والانقياد له، والاستمتاع بتلاوته.

اللمعة الخامسة والعشرون

وهي خمسة وعشرون دواء

هي عيادة للمريض، وبلسم للمرضى، ومرهمُ تسلية لهم، ووصفة معنوية، وقد كُتبت بمثابة القول المأثور: «ذهب البأس وحمداً لله على السلامة».

تنبيه و اعتذار

تم تأليف هذه الوصفة المعنوية بسرعة تفوق جميع ما كتبناه (حاشية) نعم نشهد أن تأليف هذه الرسالة قد تم خلال أربع ساعات ونصف الساعة. (رشدي، رأفت، خسرو، سعيد). ولضيق الوقت كان تصحيحُها وتدقيقها -بخلاف الجميع- بنظرة خاطفة في غاية السرعة كتأليفها، فظلت مشوشة كالمسودة الأولى، ولم نَرَ حاجة للقيام بتدقيقات جديدة، حيث إنَّ الخواطر التي ترد القلب فطرياً لا ينبغي إفسادها بزخرف القول والتفنن والتدقيق، فالرجاء من القراء وبخاصة المرضى منهم ألّا يضجروا من العبارات غير المأنوسة والجمل الصعبة وأن يدعوا لي بظهر الغيب.

سعيد النُّورْسِيّ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156)

﴿وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾  (الشعراء:79-80)

في هذه اللمعة نبين خمسة وعشرين دواءً بياناً مجملاً تلك الأدوية التي يمكن أن تكون تسليةً حقيقية ومرهماً نافعاً لأهل البلاء والمصائب وللمرضى العليلين الذين هم عُشر أقسام البشرية.

الدواء الأول

أيها المريض العاجز! لا تقلق، اصبر! فإن مرضك ليس علّة لك بل هو نوع من الدواء؛ ذلك لأن العمر رأسُ مال يتلاشى، فإن لم يُستثمَر فسيضيع كل شيء، وبخاصة إذا انقضى بالراحة والغفلة وهو يحث الخطى إلى نهايته، فالمرض يكسب رأسَ مالك المذكور أرباحاً طائلة، ولا يسمح بمضيّه سريعاً، فهو يُبطئ خطواتِ العمر، ويمسكه، ويطوّله، حتى يؤتىَ ثماره، ثم يغدو إلى شأنه. وقد ذهب طولُ العمر بالأمراض مثلاً، فقيل: ألا ما أطولَ زمنَ النوائب وما أقصر زمن الهناء!.

الدواء الثاني

أيها المريض النافدُ الصبر! تجمّل بالصبر! بل تجمّل بالشكر، فإنَّ مرضك هذا يمكنه أن يجعلَ من دقائق عمرك في حكم ساعاتٍ من العبادة، ذلك لأن العبادة قسمان:

الأولى: العبادة الإيجابية المتجسّدة في إقامة الصلاة والدعاء وأمثالها.

الثانية: العبادة السلبية التي يتضرع فيها المصاب ملتجئاً إلى خالقه الرحيم مستجيراً به متوسلاً إليه، منطلقاً من أحاسيسه التي تُشعره بعَجزه وضعفه أمام تلك الأمراض والمصائب. فينال بذلك التضرع عبادةً معنوية خالصة متجردة من كل أنواع الرياء.

نعم، هناك رواياتٌ صحيحة على أن العمر الممزوجَ بالمرض والسقم يُعدّ للمؤمن
عبادة على شرط عدم الشكوى من الله سبحانه. بل هو ثابت بعدة روايات صحيحة وكشفيات صادقة كون دقيقة واحدة من مرض قسم من الشاكرين الصابرين هي بحكم ساعةِ عبادة كاملة لهم، وكونُ دقيقة منه لقسم من الكاملين هي بمثابة يوم عبادة كاملة لهم. فلا تشكُ -يا أخي- من مرضٍ يجعل من دقيقة عصيبة عليك ألفَ دقيقة ويمدّك بعمرٍ طويل مديد! بل كن شاكراً له.

الدواء الثالث

أيها المريض الذي لا يطيق! إنَّ الإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا للتمتع والتلذذ. والشاهد على ذلك: رحيل كل آتٍ، وتشيّب الشباب، وتدحرجُ الجميع في دوّامة الزوال والفراق. وبينا ترى الإنسان أكملَ الأحياء وأسماها وأغناها أجهزةً بل هو السيد عليها جميعاً، إذا به بالتفكر في لذات الماضي وبلايا المستقبل، يقضي حياته في كدَرٍ ومشقة هاوياً بنفسه إلى دركاتٍ أدنى من الحيوان.

فالإنسان إذن لم يأت إلى هذه الدنيا لقضاء عيش ناعم جميل مغمور بنسمات الراحة والصفاء، بل جاء إلى هنا ليغنم سعادةَ حياةٍ أبدية دائمة بما يُسّر له من سبُل التجارة برأس ماله العظيم الذي هو العمر. فإذا انعدم المرضُ، وقع الإنسان في الغفلة نتيجة الصحة والعافية، وبدت الدنيا في عينيه حلوةً خضرة لذيذة، فيصيبه عندئذ مرضُ نسيان الآخرة، فيرغب عن ذكر الموت والقبر، ويهدر رأسَ مال عمره الثمين هباءً منثوراً.. في حين أن المرض سرعان ما يوقظه مفتّحاً عينيه، قائلاً له: «أنت لست خالداً ولست سائباً، بل أنت مسخّر لوظيفة، دع عنك الغرور، اذكر خالقك.. واعلم بأنك ماضٍ إلى القبر، وهيئ نفسك وجهّزها هكذا».

فالمرض إذن يقوم بدور مرشد ناصح أمين موقظ، فلا داعي بعدُ إلى الشكوى منه، بل يجب التفيّؤ في ظِلال الشكر -من هذه الناحية- وإذا ما اشتدت وطأتُه كثيراً فعليك بطلب الصبر منه تعالى.

الدواء الرابع

أيها المريض الشاكي! اعلم أنه ليس لك حق في الشكوى، بل عليك الشكر، عليك الصبر؛ لأنَّ وجودك وأعضاءك وأجهزتك ليست بملكك أنت، فأنت لم تصنعها بنفسك، وأنت لم تبتعها من أية شركة أو مصنع ابتياعاً، فهي إذن ملكٌ لآخر. ومالكُ تلك الأشياء يتصرف في ملكه كيف يشاء، كما ورد ذلك في مثال في «الكلمة السادسة والعشرين الخاصة بالقَدَر» وهو: أنَّ صانعاً ثرياً ماهراً يكلّف رجلاً فقيراً لقاء أُجرة معينة ليقوم له لمدة ساعة بدور «الموديل» النموذج. فلأجل إظهار صنعته الجميلة وثروته القيّمة يُلبسه القميصَ المزركش الذي حاكه، والحُلَّة القشيبة المرصعة التي نسجها في غاية الجمال والصنعة، وينجز عليه أعمالاً ويُظهِر أوضاعاً وأشكالاً شتى لبيان خوارق صنعته وبدائع مهارته، فيقصّ ويبدل، ويطوّل، ويقصر، وهكذا..

فيا تُرى أ يحقُّ لذلك الفقير الأجير أن يقول لذلك الصانع الماهر: «إنك تتعبني وترهقني وتضيّق عليّ بطلبك مني الانحناء مرةً والاعتدال أخرى.. وإنك تشوّه الجمال المتألق على هذا القميص الذي يجمّل هندامي ويزيّن قامتي بقصّك وتقصيرك له.. إنك تظلمني ولا تنصفني؟».

وكذلك الحال بالنسبة للصانع الجليل سبحانه وتعالى – ﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى – الذي ألبسك أيها المريض قميص الجسد، وأودع فيه الحواس النورانية المرصعة كالعين والأذن والعقل، فلأجل إظهار نقوش أسمائه الحسنى، يبدّلك ضمن حالات متنوعة ويضعك في أوضاع مختلفة. فكما أنك تتعرف على اسمه «الرزاق» بتجرّعك مرارةَ الجوع، تتعرف على اسمه «الشافي» بمرضك.

ونظراً لظهور قسم من أحكام أسمائه الحسنى بالآلام وانكشافه بالمصائب، ففيها لمعاتُ الحكمة وشعاعات الرحمة وأنوار الجمال. فإذا ما رُفع الحجاب فستجد فيما وراء مرضك الذي تستوحش منه وتنفر، معانيَ عميقةً جميلة محببة ترتاح إليها، تلك التي كانت تنزوي خلف حجاب المرض.

الدواء الخامس

أيها المبتلى بالمرض! لقد توافرت لديّ القناعة التامة خلال تجربتي في هذا الزمان، بأنَّ المرض نوعٌ من الإحسان الإلهي والهدية الرحمانية لقسم من الناس. فقد التقاني بعضُ الشباب في هذه السنوات الثماني أو التسع، لمعاناتهم المرض، ابتغاء دعائي لهم، رغم أنى لست أهلاً لذلك. فلاحظت أن مَن كان منهم يعاني مرضاً هو أكثر تفكراً في الآخرة وتذكراً لها، وليس ثملاً بغفلة الشباب، بل كان يقي نفسَه -إلى حدّ ما- تحت أوجاع المرض وأوصابه ويحافظ عليها من الشهوات الحيوانية. وكنت أذكّرهم بأني أرى أن أمراضَهم هذه، ضمن قابليتهم على التحمّل إنما هي إحسانٌ إلهي وهبة منه سبحانه. وكنت أقول: «يا أخي! أنا لست ضد مرضك هذا ولا عليه، فلا أشعر بشفقة عليك ورأفة لأجل مرضك، كي أقوم بالدعاء لك، فحاول التجمل بالصبر والثبات أمام هذا المرض، حتى تتحقق لك الإفاقة والصحوة؛ إذ بعد أن ينهي المرض مهامَّه سيشفيك الخالقُ الرحيم إن شاء». وكنت أقول أيضاً: «إنَّ قسماً من أمثالك يزعزعون حياتهم الأبدية بل يهدمونَها مقابل متاع ظاهري لساعة من حياة دنيوية، وذلك لمضيّهم سادرين في الغفلة الناشئة من بلاء الصحة، هاجرين الصلاة ناسين الموت وغافلين عن الله عز وجل. أما أنت فترى بعين المرض القبرَ الذي هو منزلُك الذي لا مناص من الذهاب إليه، وترى كذلك ما وراءه من المنازل الأخروية الأخرى، ومن ثم تتحرك وتتصرف على وفق ذلك. فمرضُك إذن إنما هو بمثابة صحةٍ لك، والصحةُ التي يتمتع بها قسم من أمثالك إنما هي بمثابة مرضٍ لهم».

الدواء السادس

أيها المريض الشاكي من الألم! أسألك أن تعيد في نفسك ما مضى من عمرك وأن تتذكر الأيام الهانئة اللذيذة السابقة من ذلك العمر والأوقات العصيبة والأليمة التي فيه.

فلا جرم أنك ستنطق لساناً أو قلباً: إما بـ«أوه» أو «آه». أي أما ستتنفس الصعداء وتقول: «الحمد لله والشكر له» أو ستتنهد عميقاً قائلاً: «وا حسرتاه!. وا اسفاه!». فانظر كيف أنَّ الآلام والنوائب التي عانيتَ منها سابقاً عندما خَطَرتْ بذهنك غمرتك بلذة معنوية، حتى هاج قلبُك بـ«الحمد لله والشكر له»؛ ذلك لأنَّ زوال الألم يولّد لذة وشعوراً بالفرح.

ولأنَّ تلك الآلام والمصائب قد غَرست بزوالها لذةً كامنة في الروح سالت بتخطرها على البال وخروجها من مكمنها حلاوةً وسروراً وتقطرت حمداً وشكراً. أما حالات اللذة والصفاء التي قضيتَها والتي تنفث عليها الآن دخان الألم بقولك: «وا أسفاه، وا حسرتاه» فإنها بزوالها غَرست في روحك ألماً مضمراً دائماً، وها هو ذا الألم تتجدّد غصّاتُه الآن بأقل تفكرٍ في غياب تلك اللذات، فتنهمر دموعُ الأسف والحسرة. فما دامت اللذةُ غير المشروعة ليوم واحد تذيق الإنسان -أحياناً- ألماً معنوياً طوال سنة كاملة، وأن الألم الناتج من يوم مرض مؤقت يوفر لذةً معنوية لثواب أيام عدة فضلاً عن اللذة المعنوية النابعة من الخلاص منه، فتذكّر جيداً نتيجة المرض المؤقت الذي تعانيه وفكّر في الثواب المرجو المنتشر في ثناياه، وتشبث بالشكر وترفّع عن الشكوى وقل: «يا هذا.. كل حالٍ يزول..».

الدواء السادس

(حاشية) نظراً لورود هذه اللمعة فطرياً دون تكلف وتعمّد، فقد كُتبت في المرتبة السادسة دواءان، وإحجاماً عن الإقحام في فطريتها، فقد تركناها كما هي ولم نجرؤ على تبديل شيء منها خوفاً من وجود سرّ في المسألة. أيها الأخ المضطرب من المرض بتذكر أذواق الدنيا ولذائذها! لو كانت هذه الدنيا دائمةً فعلاً، ولو انزاح الموت عن طريقنا فعلاً، ولو انقطعت أعاصيرُ الفراق والزوال عن الهبوب بعد الآن، ولو تفرغ المستقبل العاصف بالنوائب عن مواسم الشتاء المعنوية، لانخرطتُ في صفك ولرثيتُك باكياً لحالك. ولكن مادامت الدنيا ستخرجنا منها قائلة: «هيا اخرجوا..!.» صامّة آذانَها عن صراخنا واستنجادنا. فعلينا نحن قبل أن تطردنا هي نابذة لنا، أن نهجر عشقَها والإخلاد إليها من الآن، بإيقاظات الأمراض والسعي لأجل التخلي عن الدنيا قلباً ووجداناً قبل أن تتخلى هي عنّا.

نعم، إن المرض بتذكيره إيانا هذا المعنى اللطيف والعميق، يهمس في سرائر قلوبنا قائلاً:

«بنيتُك ليست من الصُلبِ والحديد بل من موادَّ متباينةٍ مركبة فيك، ملائمة كل التلاؤم للتحلل والتفسخ والتفرق حالاً، دع عنك الغرور وأدرك عجزَك وتعرّف على مالكك، وافهم ما وظيفتُك وتعلّم ما الحكمة والغاية من مجيئك إلى الدنيا؟».

ثم ما دامت أذواق الدنيا ولذاتُها لا تدوم، وبخاصة إذا كانت غيرَ مشروعة، بل تبعث في النفس الألمَ وتكسبه ذنباً وجريرة، فلا تبك على فقدك ذلك الذوق بحُجة المرض، بل تفكّر

في معنى العبادة المعنوية التي يتضمنها مرضُك والثواب الأخروي الذي يخفيه لك، واسعَ لتنال ذلك الذوق الخالص الزكي.

الدواء السابع

أيها المريض الفاقد لنعمة الصحة! إنَّ مرضك لا يُذهب بلذة النعمة الإلهية في الصحة بل على العكس، إنه يذيقك إيّاها ويطيّبها ويزيدها لذة، ذلك أنَّ شيئاً ما إذا دام واستمر على حاله يفقد طعمَه وتأثيره. حتى اتفق أهلُ الحق على القول: «إنما الأشياء تُعرف بأضدادها..» فمثلاً: لولا الظلمةُ لما عُرف النور ولظل دون لذة، ولولا البرودة لما عُرفت الحرارة ولبقيت دون استساغة، ولولا الجوع لما أعطى الأكل لذتَه وطعمه، ولولا حرارة المعدة لما وَهَبنا احتساءُ الماء ذوقاً، ولولا العلّة لكانت العافية بلا ذوق، ولولا المرض لباتت الصحةُ عديمةَ اللذة.

إنَّ الفاطر الحكيم لمّا أراد إشعارَ الإنسان وإحساسه بمختلف إحساناته وإذاقته أنواع نِعَمه سَوقاً منه إلى الشكر الدائم، جهّزه بأجهزة في غاية الكثرة لتُقبل على تذوّق تلك الآلاف المؤلفة من أنواع النعم المختلفة، لذا فلابد من أنه سيُنزل الأمراض والأسقام والعلل أيضاً مثلما يُلطف ويرزق بالصحة والعافية.

وأسألك: «لو لم يكن هذا المرض الذي أصاب رأسَك أو يدك أو معدتك.. هل كان بمقدورك أن تتحسس اللذةَ الكامنة في الصحة التي كانت باسطةً ظِلالَها على رأسك أو يدك أو معدتك؟ وهل كنت تتمكن من أن تتذوق وتشكر النعمة الإلهية التي جسّدتها تلك النعمة؟ بل كان الغالب عليك النسيان بدلاً من الشكر، أو لكنتَ تصرف تلك الصحة بطغيان الغفلة إلى سفاهة دون شعور!».