إفادة المرام

إفادة المرام

أقول: لما كان القرآنُ جامعاً لأشتاتِ العلوم وخطبةً لعامة الطبقات في كل الأعصار، لا يتحصّل له تفسيرٌ لائقٌ من فهم الفرد الذي قلّما يخلُص من التعصب لمسلكه ومَشربه؛ إذ فهمُه يخصُّه ليس له دعوة الغير إليه إلّا أن يُعدّيَه قبولُ الجمهور. واستنباطُه -لا بالتشهي- له العملُ لنفسه فقط، ولا يكون حُجةً على الغير إلّا أن يُصدّقه نوعُ إجماع.

فكما لابد لتنظيم الأحكام واطّرادها ورفعِ الفوضى -الناشئة من حرية الفكر مع إهمال الإجماع- من وجود هيئة عالية من العلماء المحققين الذين -بمظهريتهم لأمنية العموم واعتمادِ الجمهور- يتقلّدون كفالةً ضمنية للأُمة، فيصيرون مظهرَ سرِّ حجِّيةِ الإجماع الذي لا تصير نتيجةُ الاجتهاد شرعاً ودستوراً إلّا بتصديقه وسِكّته؛ كذلك لابد لكشف معاني القرآن وجمعِ المحاسن المتفرقة في التفاسير وتثبيت حقائقه -المتجلية بكشف الفن وتمخيض الزمان- من انتهاض هيئة عالية من العلماء المتخصصين، المختلفين في وجوه الاختصاص، ولهم مع دقةِ نظرٍ وُسْعةُ فكرٍ لتفسيره.

نتيجة المرام

إنه لابد أن يكون مفسرُ القرآن ذا دهاءٍ عال واجتهاد نافذ وولاية كاملة. وما هو الآن إلاّ «الشخص المعنوي» المتولدُ من امتزاج الأرواح وتساندِها، وتلاحقِ الأفكار وتعاونها، وتظافرِ القلوب وإخلاصها وصَمِيمِيَّتِها، من بين تلك الهيئة. فبسرّ «للكل حُكمٌ ليس لكلٍ» كثيراً ما يُرى آثارُ الاجتهاد وخاصةُ الولاية، ونورُه وضياؤها) من جماعةٍ خَلَتْ منها أفرادُها.

ثم إني بينما كنت منتظراً ومتوجهاً لهذا المقصد بتظاهر هيئة كذلك -وقد كان هذا غايةَ خيالي من زمان مديد- إذ سنح لقلبي من قبيل «الحس قبل الوقوع» تقرّبُ زلزلة عظيمة،([1]) فشرعتُ -مع عجزي وقصوري والإغلاق في كلامي- في تقييد ما سنَح لي من إشارات إعجاز القرآن في نظمه وبيان بعض حقائقه، ولم يتيسر لي مراجعة التفاسير. فإن وافقها فبِها ونِعْمَتْ، وإلّا فالعُهدةُ عليّ.

فوقعتْ هذه الطامةُ الكبرى.. ففي أثناء أداء فريضة الجهاد كلما انتهزتُ فرصةً في خط الحرب قيَّدتُ ما لاحَ لي في الأودية والجبال بعبارات متفاوتة باختلاف الحالات. فمع احتياجها إلى التصحيح والإصلاح لا يرضى قلبي بتغييرها وتبديلها؛ إذ ظهرتْ في حالةٍ من خلوص النية لا توجد الآن، فأعرِضُها لأنظار أهل الكمال لا لأنه تفسير للتنـزيل، بل ليصير -لو ظفر بالقبول- نوعَ مأخذٍ لبعض وجوه التفسير. وقد ساقني شوقي إلى ما هو فوق طوقي، فإن استحسنوه شجعوني على الدوام.

ومن الله التوفيق

سعيد النُّورْسِيّ


[1] لقد أخبرنا مراراً في أثناء الدرس وقوع زلزلة عظيمة (بمعنى الحرب العمومية فوقعت كما أخبرنا).

حمزة. محمد شفيق. محمد مهري. (هؤلاء من تلاميذ المؤلف).

مقدمة المؤلف

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المؤلف من الترجمة التركية

تنبيه

لقد تم تأليفُ تفسير «إشاراتُ الإعجاز» في السنة الأولى من الحرب العالمية الأولى على جبهة القتال بدون مصدر أو مَرجع. وقد اقتضت ظروفُ الحرب الشاقة وما يواكبها من حرمانٍ أن يُكْتب هذا التفسير في غاية الإيجاز والاختصار لأسباب عديدة.

وقد بقيت الفاتحةُ والنصف الأول من التفسير على نحو أشدَّ إجمالاً واختصاراً:

أولاً: لأن ذلك الزمان لم يكن يسمح بالإيضاح، نظراً إلى أن «سعيداً القديم» كان يعبّر بعبارات موجزة وقصيرة عن مرامه.

ثانياً: كان «سعيد» يضع درجة أفهام طلبته الأذكياء جداً موضعَ الاعتبار، ولم يكن يفكّر في فهم الآخرين.

ثالثاً: لما كان يبيّن أدقَّ وأرفعَ ما في نظم القرآن من الإيجاز المعجِز، جاءت العباراتُ قصيرة ورفيعة.

بيد أنني أجَلتُ النظر فيه الآن بعين «سعيد الجديد»، فوجدت أن هذا التفسير بما يحتويه من تدقيقات، يُعدُّ بحقٍّ تحفةً رائعة من تُحف «سعيد القديم» بالرغم من أخطائه وذنوبه.

ولما كان (أي سعيد القديم) يتوثب لنَيل مرتبة الشهادة أثناء الكتابة، فيكتب ما يعنّ له بنية خالصة، ويطبق قوانينَ البلاغة ودساتير علوم العربية، لم أستطع أن أقدحَ في أيّ موضع منه، إذ ربما يجعل الباري عز وجل هذا المؤلَّف كفارةً لذنوبه ويبعث رجالاً يستطيعون فهمَ هذا التفسير حقَّ الفهم.

ولولا موانعُ الحرب العالمية، فقد كانت النيّةُ تتجه إلى أن يكون هذا الجزء وقفاً على توضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن، وأن تكون الأجزاءُ الباقية كلُّ واحد منها وقفاً على سائر أوجه الإعجاز.

ولو ضمّت الأجزاءُ الباقية حقائقَ التفسير المتفرقة في الرسائل لأصبح تفسيراً بديعاً جامعاً للقرآن المعجِز البيان.

ولعل الله يبعث هيئة سعيدة من المنورين تجعل من هذا الجزء ومن «الكلمات» و«المكتوبات» الست والستين، بل المائة والثلاثين من أجزاء رسائل النور مصدراً، وتَكتب في ضوئه تفسيراً من هذا القبيل.

إن هذا التفسير القيم بين دفتيه نكات بلاغيةً دقيقة، قد لا يفهمها كثيرٌ من القراء، ولا يعيرون لها اهتمامهم، ولاسيما ما جاء ضمن الآيتين اللتين تصفان حال الكفار والآيات الاثنتي عشرة الخاصة بالمنافقين.

إنَّ ذكر نكات دقيقة في تلك الآيات والاقتصار على بيان دقائق دلالات ألفاظها وبدائع إشاراتها باهتمام بالغ، من دون تفصيل لماهية الكفر، مع تطرق يسير إلى الشبهات التي يلتزمها المنافقون -خلافاً لما جرى في سائر الآيات من تحقيق وتفصيل- أقول إنَّ سبب ذلك كلّه نلخصه في نكات ثلاث:

النكتة الأولى: لقد أحسّ سعيد القديم -بفيض من القرآن الكريم- أنه سيظهر في هذا الزمان المتأخر كفارٌ لا يهتدون بكتاب، ومنافقون من الأديان السابقة، كما ظهروا في بداية الإسلام، فاكتفى ببيان النكات الدقيقة لتلك الآيات من دون أن يخوض في حقيقة مسلَكهم وبيان نقاط ارتكازهم، بل تركَها مجملةً دون تفصيل، لئلا يعكّر صفوَ أذهان القراء الكرام.

ومن المعلوم أن نهج رسائل النور هو: عدمُ ترك أثرٍ سيء مهما كان في ذهن القارئ، إذ تجيب أجوبةً قاطعة على الشبهات التي يثيرها أعداءُ الإسلام من دون أن تذكر الشبهةَ نفسها -بخلاف سائر العلماء- فتسدُّ بهذا دخول أية شبهة كانت في ذهن القارئ. فانتهج سعيد القديم في تفسيره هذا مسلك «رسائل النور»، فأولى اهتمامه بالجانب البلاغي لتلك الآيات وبيان ألفاظها وإشاراتها لئلا يكدّر الأذهان ويعكر صفوها.

النكتة الثانية: لما كانت قراءة كلِّ حرف من القرآن الكريم فيها عشرُ حسنات أو مائة حسنة أو ألفٌ من ثمرات الآخرة أو أُلوفٌ منها، فلا يُعدّ إذن إيضاح «سعيد القديم» لنكات دقيقة تخص كلمات القرآن الكريم إسرافاً في الكلام، إذ رغم دقةِ الأهداب وصغر بؤبؤ العين فإن لهما أهميةً عظمى؛ فلقد أحسّ «سعيد القديم» في النكات البلاغية مثل هذه الأهمية، لذا لم تثنه شراسةُ المعارك وهولُ الحرب في الجبهة الأمامية عن إملاء أدقّ النكات القرآنية على تلاميذه.

النكتة الثالثة: إنَّ الترجمة التركية لهذا التفسير لم توفِ بلاغته الفائقة حق الوفاء، بل جاءت مختصرةً في مواضع عدة. وسنلحق بها -بإذن الله- التفسير العربي رفعاً لهذا النقص ما لم يكن من مانع. فيرجى بذل المستطاع ليكون طبعُه مطابقاً للأصل محافظاً على توافقاته الرائعة التي لم تمسها إرادةُ إنسان، وذلك لئلا تضيع علامات قبوله.

سعيد النورسي

هذا التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

هذا التحقيق ([1])

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.

وبعد؛ ففي أيام قاحلة وشهور عجاف أكرمني الله العلي القدير بقراءة هذا التفسير الجليل قراءة لا أرجو من ورائها سوى شرح للصدر، وتغذية للروح وتنضير للذهن.

كررت قراءته مرات ومرات، فأطفأ -بإذن الله- ظمأ القلب بعذبٍ برود.. ولكن..

ولكن لمستُ أنه بحاجة إلى تنسيق جديد وتحقيق سديد ليسهُل تناوله ولا يتعذر فهمُه لكل من يريد أن يستفيد.

وشاء القدر الإلهي أن يأتيني أخ كريم بنسخة مخطوطة منه وآخر بطبعته الأولى، وقد كنت أحتفظ بترجمته التركية وبطبعته الثانية والأخيرة.. فاستجمعت العناصر الأولى للتحقيق. فإيفاءً لشكره تعالى على ما أنعم عليّ وإعداداً لنسخة جيدة من هذا التفسير الجليل هممتُ أن أقوم بتحقيقه، ولكن..

ولكن قصوري، وقلة خبرتي، وضخامة الموضوع، وجلال المقام، وخشية الزلل.. كانت تكفني عن القيام بالتحقيق.. بيد أن النظر إلى ما عند الله، وفضله العميم، والثقة به، وحسن القصد إليه في خدمة كتابه العزيز.. كانت تدفعني إلى العمل.. فتخليت عن الإحجام، ولازمت الإقدام، متوكلاً على العلي العلام، وسرت بخطوات متئدة، كالآتي:

أولاً: قابلت بين النسخ التي توفرت لديّ وهي:

أ- نسخة بخط «الملا عبد المجيد النورسي» مصححة من قبل المؤلف نفسه. فاعتبرتها الأساس في التحقيق.([2])

ب- الطبعة الأولى من الكتاب، المطبوع سنة 1334 في مطبعة «أوقاف إسلامية» بإسطنبول ومصححة من قبل المؤلف وعليها بعض الهوامش بخط يده. وقد رمزت
إليها بـ«ط1».

ج- مخطوط بخط السيد «طاهر بن محمد الشوشي» انتهى منه سنة 1373هـ، وضم فيه تعليقات واستدراكات جيدة على النسّاخ، مع وضع لعناوين صغيرة لأهم الموضوعات في الصفحة، وقد رمزت اليه بـ«ش». فكل إضافة أو تعليق مذيل بـ«ش» هو منه.

د- الترجمة التركية له، والتي قام بها «الملا عبد المجيد النورسي» ونَشرَتْها «دار سوزلر في إسطنبول» سنة 1976. وقد رمزت إليها بـ«ت».

هـ- تحقيق قام به الشيخ «صدر الدين البدليسي»، حيث وضع بعض الهوامش وصحح أخطاء مطبعية، فرمزت إليها بـ«ب».

و- الطبعة الأخيرة المطبوعة في مؤسسة الخدمات الاجتماعية في بيروت سنة 1394 (1974) وقد لاحظت فيها:

1) ترجمة السيد عاصم الحسيني لمقدمة الكتاب التي كتبها الأستاذ النورسي بالتركية، اقتصرتُ على قسمٍ منها، فأجريتُ فيها تغييرات طفيفة لتفي بمراد المؤلف، ثم أتممت ترجمة بقية المقدمة.

2) كلمة ثناء أو «تقريظ» للشيخ صدر الدين البدليسي، أدرجها في آخر الكتاب، وهي كلمة قيمة لبيان ظروف تأليف التفسير، ومقارنته مع تفاسير أخرى مشهورة، فأبقيتها كما هي.

3) هناك في ختام الكتاب ثلاث عشرة شهادة من شهادات الفلاسفة وعلماء أوربا حول أحقية القرآن، أهملتُها لركاكة ترجمتها أولاً ولعدم عثوري على أصولها كي أُترجمها مجدداً، ووضعت بدلاً منها ما قدّمه الأستاذ الدكتور «عماد الدين خليل» مشكوراً فصلاً من كتابه القيم: «قالوا عن الإسلام» وهو الفصل الأول الخاص بالقرآن الكريم، فألحقناه كاملاً بالكتاب، فجزاه الله عنا خيراً على عمله الجليل.

ثانياً: وبعد المقابلة أو في أثنائها صححتُ الأخطاء المطبعية والإملائية، مع تشكيل وضبط الكثير من الكلمات، ثم عزوت الآيات الكريمة إلى سورها. وخرّجت الأحاديث الشريفة الواردة فيه من الكتب المعتمدة المتوفرة لديّ.

ثالثاً: راجعت أمهات القواميس كالمحيط والمصباح ومختار الصحاح وغيرها لتفسير بعض ما استغلق عليّ من كلمات..

رابعاً: استخرجت الأمثال الواردة فيه، وقابلتها مع أصولها في «مجمع الأمثال للميداني».

خامساً: وضحت بعض ما أُبهم عليّ من العبارات، استناداً إلى الترجمة التركية، حيث جاءت فيها تلك العبارات أكثر وضوحاً. وأدرجتُها في الهامش مع تذييلها بـ«ت» ورقم الصفحة.

سادساً: استشكلت عليّ أمورٌ نحوية ومسائل لغوية. اضطرتني إلى مراجعة أمهات الكتب اللغوية كالمغني والأشموني وغيرهما، حتى اطمأن القلب وحصلت القناعة التامة بأن ما أقره الأستاذ النورسي هو الصواب، أو فيه جواز، وأن ما ألِفتهُ وتَعلّمتهُ من قواعد النحو ما هو إلا النَّـزر اليسير من بحر محيط عظيم بل ما هو إلّا الوجه الشائع من بين وجوه كثيرة.

وبعد الفراغ من العمل بتوفيق الله سبحانه وتعالى، وضعت كل ما قمت به بين يدي أخي الأستاذ الدكتور «محسن عبد الحميد» ليدلّني على عثراتي ويبصرني على ثغرات العمل؛ إذ هو الذي صاحَبَ «الرازي» سنين، ولازم «الآلوسي» سنين أخرى، وخَبَر أصول التفسير وضوابطه درسا وتدريساً لسنين طويلة، ومازال، فكلل جهدي جزاه الله خيراً بمقدمة وافية شافية.

وبعد، فلقد بذلت ما بوسعي في تحقيق الكتاب، ولست زاعماً أني أوفيتُ حقه، ولكن حسبي أنني حاولت، وبذلتُ ما استطعتُ ابتغاء أن يكون من العمل الصالح عند الله، ورجاء أن تنالي دعوة خالصة ممن ينتفع به.

والله نسأل أن يوفقنا إلى حُسن القصد وصحة الفهم وصواب القول وسداد العمل.

وصلِّ اللّهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.

إحسان قاسم الصالحي     

ليلة النصف من شعبان سنة 1407هـ


[1] أبقيت هذه المقدمة للتحقيق على ما هي عليه في الطبعة الأولى المطبوعة في العراق سنة 1409هـ – 1993م. إلّا ما استوجب من حذف وإضافة ليوافق هذه الطبعة. (المحقق).

[2] هذه النسخة مع مجموعتين كاملتين من كليات رسائل النور المستنسخة باليد والمصححة من قبل المؤلف قد بعثها المؤلف سنة 1951م إلى مدينة «أورفة» داخل صندوقين، وهي محفوظة الآن لدى الدكتور «عبد القادر بادللي».

مقدمة د. محسن عبد الحميد

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة([1])

الدكتور محسن عبد الحميد 

أستاذ التفسير والفكر الإسلامي

جامعة بغداد      

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مَن أُنزل عليه القرآن الحكيم محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والرسل، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد؛

فيكاد يجمع المنصفون من العلماء والدارسين المطلعين على تطور أوضاع المسلمين في العصور الأخيرة، أن الأستاذ الجليل «بديع الزمان سعيد النُّورْسي» كان شخصية إسلامية كبيرة، صادق الإيمان، عظيم الإخلاص، عزيز النفس، عارفاً بحقائق التوحيد، نابغة من نوابغ الزمان، غزير العلم، نافذ الفكر، داعية ثبتاً إلى الله تعالى على بصيرة، حَمل همومَ المسلمين منذ شبابه، وقضى حياته في الجهاد الدائب في سبيل توضيح عقيدة الإسلام وبيان عِلل أحكامه، ودحضِ الأفكار المنحرفة والفلسفات الجاحدة المناقضة له، والتخطيط العملي لأجل إنقاذ المسلمين من الغزو الفكري الجارف الذي تعرضوا له منذ أوائل القرن الرابع عشر الهجري، بل قبلَه.

ولقد لقيَ -رحمه الله تعالى- في سبيل ذلك ما لقي، مما ليس جزاؤه إلّا عند الله تعالى البصير بعباده الصالحين وأوليائه الصادقين وعلمائه المجاهدين، الذين صدقوا العهد مع الله تعالى، ولم يخشوا فيه سبحانه لومة لائم.

وهذا الكتاب الذي بين يديك -قارئي العزيز- جليلُ القدر، رصينُ السبك، قوي الحُجة، يمثل أجلى تمثيل القُدرة السَرَيانية الفائقة للأستاذ «النورسي»، وراءَ المعاني الدقيقة في كتاباته كلها، لاسيما العلمية المختصة منها. ولقد كانت تلك موهبة عبقرية، وهَبه الله تعالى إياها، لينظر في كتاب الله تعالى من خلالها ببصيرة نافذة، ومعرفة كلامية وبلاغية عميقة، وذوق ذاتي رفيع، ومنهج عقلي سديد، يلتمس الكشفَ عن الحقيقة، ويبغي إيصال الإنسان إلى اقتناع كامل بكون هذا القرآن معجزاً، بحيث يجد العقلاء والفصحاء في أنفسهم ضرورةَ الإيمان والاعتراف بأنه الكتاب الحق الذي نزل من عند علام الغيوب على رسوله الأكرم محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، كي يضع الإنسانية على طريق دعوة الحق، وينور بصيرتها بنور الإيمان، وإدراك اليقين للوصول إلى العبودية الخالصة لرب العالمين.

لقد استطاع الأستاذ النُّورسي أن يصقُل موهبته الفذة بدراسة العلوم الإسلامية والفلسفات القديمة والعلوم الإنسانية والصرفة المعاصرة، زيادةً على اطلاعه الواسع على الأدب والبلاغة العربية في كتب أمثال «الجاحظ» و«الزمخشري» و«السكاكي» لاسيما كتب النحوي البلاغي الكبير الإمام «عبد القاهر الجرجاني» حيث آمن بنظريته المشهورة في النظم وأعجب بها أيّما إعجاب في هذا الكتاب.

ولم تكن «نظرية النظم» جديدة اخترعها «الجرجاني» من غير مقدمات، وإنما لفتَ النظرَ إليها «الجاحظُ» في كتابه «نظم القرآن»، و«الواسطي» في كتابه «إعجاز القرآن في نظمه»، و«الباقلاني» في كتابه «إعجاز القرآن»، غير أن «الجرجاني» شرحها شرحاً نحوياً بيانياً وافياً مترابطاً، وصاغ منها نظرية متكاملة تقوم على أساس عدم الفصل بين اللفظ ومعناه وبين الشكل والمضمون، وقرر أن البلاغة في النظم لا في الكلمة المفردة ولا في مجرد المعاني دون تصوير الألفاظ لها. وبناءً على ذلك فإنه يعرّف النظم بأنه: «تعليق الكلمة بعضها على بعض، وجعل بعضها بسبب من بعض»، أي تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه فلا تزيغ عنها.

وكأني بالأستاذ النورسي درس نظرية النظم هذه دراسة متقنة ثم ظهر له أن المفسرين الذين سبقوه كـالزمخشري والرازي وأبي السعود لم يحاولوا تطبيقها من حيث هي منظومة متكاملة تشمل ترتيب السور والآيات والألفاظ سورة بعد سورة وآية بعد آية ولفظاً بعد لفظ، بتفاصيلها الكاملة، فأراد أن يقتدي بهؤلاء المفسرين العظام فيؤلف تفسيراً يطبق فيه نظريةَ النظم تطبيقاً تفصيلياً شاملاً من حيث المباني والمعاني ومن حيث المعارف اللغوية والعقلية والذوقية، الكلية منها والجزئية، والتي اعتمد عليها في الكشف عن تفاصيل المنظومة القرآنية التي بها يظهر الإعجاز، وتتكشف دقائق خصائص الأسلوب القرآني التي خالفت خصائص التعبير العربي البليغ قبله، والتي حيّرت البلغاء وأخرست الفصحاء، ليحقّ عليهم التحدي المعجز إلى يوم القيامة.

ولم تتوجه جهود النورسي إلى بيان نظرية النظم، مقدمةً لإثبات إعجاز القرآن البلاغي فحسب، بل اتجهت كذلك إلى التغلغل في معاني الآيات، حيث أراد بناءها تفصيلاً على المرتكزات العقلية للوصول إلى إظهار العقائد الإسلامية وارتباطها بحقائق الوجود.

ومن الواضح جداً لمَن تأمل في الكتاب وترتيبه أنه كان يريد أن يؤلف تفسيراً كاملاً في هذا الاتجاه. ولو قُدِّر للأستاذ -رحمه الله تعالى- أن ينهي عمله العظيم هذا كاملاً، إذن لقدّم تفسيراً بلاغياً وعقلياً كاملاً شاملاً، كان جديراً بأن يأخذ منه عمره كله، حيث كان من المحقق أن يحوي حينئذ عشرات المجلدات الضخام، لو أنه مشى في ضوء منهجه هذا الذي نقرؤه في هذا الكتاب.

ولكن الله سبحانه وتعالى قدّر له الأفضل من ذلك؛ إذ وفّقه لعمل أجلّ من ذلك وأعظم، عملٍ استطاع فيه أن يضع مسلمِي بلدِه في ظروف عصره في مواجهة القرآن الكريم، دون إشغالهم بقضايا بلاغته وإعجازه اللغوي والتي لم تكن مشكلة عصره من خلال التحقيق في جزئيات دقيقة لا يقوى على فهمها إلا الخواصُّ جداً. وكان من المؤكد حينئذ أن يبقى الجمهورُ الأعظم من المسلمين في عصره بمعزل عن الاستفادة من مواهبه الفذة وحماسه الإيماني المنقطع النظير، وكذلك بمعزل عن الصراع الفكري الحضاري الرهيب غير المتكافئ مع الغزو الفكري المادي الجاحد، الذي بدأ يتسلل رويداً رويداً إلى الحياة الإسلامية حتى تصدر السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والفن والإعلام في كثير من بلاد الإسلام.

من أجل ذلك، وقف النورسي عند هذا المجلد من التفسير، ودفعته ظروفُ عصره وبلده إلى أتون الصراع، ولكن في قالب جديد ممثلا بـ«سعيد الجديد» سمتُه الهدوء، والتدرج، والبناء، والنفوذ المُحكم إلى عقول المسلمين وقلوبهم دون صراخ عاطفي أو تهريج مدمّر، أو صدامات فوقية، لم يكن الوضع الإسلامي يومئذ مهيَّأ لها ويقوى فيها على مجابهة الأعداء الأقوياء في الداخل والخارج.

لقد كان أسلوب «رسائل النور» في وضوحه الحاسم، وهدوئه العلمي الباهر، وبيانه الذوقي الرفيع، وحججه العقلية الدامغة هو البديل العصري الذكي لأسلوب إثبات إعجاز القرآن اللغوي والبياني والعقلي من خلال نظرية النظم، لأن ما أثاره الأعداء لم يكن يتصل بالطعن في بلاغة القرآن أو مناقشة ما يتعلق بإعجازه أو بتناسب سوَره وآيه وكلماته، وإنما كان يركز على شن هجوم عام شامل على أصول الإيمان، وحكمة التشريعات، ومحاولة تفكيك النظام الأخلاقي الذي جاء به القرآن الكريم.

لقد وعى الأستاذ النورسي التغييرات الهائلة التي أحدثها الصراع الجديد فتوجّه إليها بحقائق القرآن التي قدّمها من خلال أصول المنطق العقلي الفطري وعلومِ ومعارفِ عصره.

إنه استطاع أن يُثبت من خلال جزء كامل من هذا الكتاب إعجازَ القرآن الكريم، وبرهن للدارسين وطلاب الحقيقة أنه من السهل أن يستمر في ضوء منهجه العلمي والعقلي والذوقي الرفيع إلى النهاية، إذن فليكن هذا كافياً، وليتوجه بكليته وبقية حياته العامرة إلى القضية الأساس، وهي إنقاذ إيمان المسلمين في عصر الصراع الإعلامي الرهيب، فأنتج في هذا المجال أيما إنتاج من خلال عشرات الكتب والرسائل التي وجهها إلى النشء الجديد، لإلحاق الهزيمة العقدية والفكرية بأعداء الإسلام من الملاحدة وأرباب التغريب.

على أنني أظلم هذا الكتاب إذا ادّعيت أنه خلا من منهج مواجهة الصراع الجديد، بل أزعم هنا -على قدر ما لي من علم بأفكار النورسي من خلال قراءتي لبعض رسائله في عهده الجديد- أنه ما من فكرة شرحها أو بسطها أو مثَّل عليها إلا وتجد لها بذوراً موجزة أو مفصلة في هذا الكتاب العلمي الرصين الذي بين يديك، لاسيما في عرض أصول العقائد الإسلامية بأسلوب عصري علمي. غير أنه اتجه في كتابه هذا إلى مخاطبةِ خاصةِ تلامذته من خلال دمج المصطلحات الكلامية القديمة ببدايات منهجه الجديد الذي استقر عليه فيما بعد في رسائل النور.

ولعل هذا هو سر تسمية رسائل النور بأنها تفسير حقيقي للقرآن الكريم. والحق أن تفسير القرآن ومخاطبة المسلمين بآياته لم يبارح قط فكر النورسي إلى آخر لحظة من لحظات حياته الحافلة بالمِحن والأحزان، والعلم والدعوة إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ.

إنَّ نشر هذا الكتاب بثوبه الجديد هذا سيضع نموذجاً تحليلياً بلاغياً رائعاً أمام المهتمين بالدراسات الإعجازية والبلاغية والنقدية المعاصرة. لاسيما في الأوساط العلمية. وسيجد المهتمون بدراسات العقائد الإسلامية من وجهة المنطق العقلاني زادهم فيه من خلال المباحث العقلية والعلمية العميقة التي قدمها الأستاذ تعليقاً على الآيات التي حللها من أوائل سورة البقرة.

لقد أحسن الأستاذ الفاضل «إحسان قاسم الصالحي» بتحقيقه هذا الكتاب من جديد، حيث أغناه بتدقيقاته المفيدة وشروحه القيمة في الحواشي. وهذا فضل يكمل به أفضاله السابقة على قراء العربية حين قضى سنوات عدة في ترجمة مجموعة متنوعة من رسائل النور التي دبجها يراع الإمام المُمتحن سعيد النورسي حجة الإسلام بحق في حياة تركيا الحديثة.

فجزى الله الأستاذ النورسي خير الجزاء ونفع المسلمين بعلمه وحججه الدامغة وكلماته النورانية الصادقة في خدمة كتاب الله تعالى وسنة رسوله الأكرم ﷺ.

وفي ختام هذه الكلمات أدعو الله تعالى أن يوفق المحقق الكريم إلى تقديم ترجمة كاملة لـرسائل النور إلى قراء العربية المجيدة.([2])

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

د. محسن عبد الحميد  

كلية التربية – جامعة بغداد
2 شعبان 1407هـ   


[1] ثبتنا مقدمة الدكتور محسن عبد الحميد التي قدّمها مشكوراً للطبعة الأولى المطبوعة في العراق سنة 1409هـ-1989م. (المحقق).

[2] لقد استجاب المولى الكريم هذا الدعاء وأمثاله من الدعوات الخالصة لإخوة كرام بررة فوفقنا لترجمة كاملة لكليات رسائل النور وطبعها ونشرها، فالحمد لله أولاً وآخراً. (المحقق).

الدعاء

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا اَللّه، يَا رَحْمنُ، يَا رَحِيمُ، يَا فَردُ، يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ، يَا حَكَمُ، يَا عَدْلُ، يَا قُدُّوسُ

بحق الاسم الأعظم وبحرمة القرآن المعجِز البيان وبكرامة الرسول الأعظم ، أدخل الذين قاموا بطبع هذه المجموعة ومعاونيهم الميامين جنةَ الفردوس والسعادة الأبدية.. آمين. ووفّقهم في خدمة الإيمان والقرآن دوما وأبدا.. آمين. واكتب في صحيفة حسناتهم ألفَ حسنة لكل حرف من حروف كتاب «الشعاعات».. آمين. وأحسِن إليهم الثبات والدوام والإخلاص في نشر رسائل النور.. آمين

يا أرحم الراحمين! آت جميع طلاب النور في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة.. آمين. واحفظهم من شر شياطين الجن والإنس.. آمين. واعف عن ذنوب هذا العبد العاجز الـضعيف سعيد.. آمين

باسم جميع طلاب النور

سعيد النُّورْسِيّ