الكلمة العاشرة

الكلمة العاشرة

مبحث الحشر 

تنبيه

إن سبب إيرادي التشبيه والتمثيل بصورة حكايات في هذه الرسائل هو تقريب المعاني إلى الأذهان من ناحية، وإظهار مدى معقولية الحقائق الإسلامية ومدى تناسبها ورصانتها من ناحية اخرى، فمغزى الحكايات إنما هو الحقائق التي تنتهي إليها، والتي تدل عليها كنايةً. فهي إذن ليست حكايات خيالية وإنما حقائق صادقة.

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(الروم: 50)

يا أخي! إن رمتَ إيضاح أمر الحشر وبعضَ شؤون الآخرة على وجهٍ يُلائم فهمَ عامة الناس، فاستمع معي إلى هذه الحكاية القصيرة.

ذهب اثنان معًا إلى مملكة رائعة الجمال كالجنة (التشبيه هنا للدنيا) وإذا بهما يَريان أن أهلها قد تركوا أبواب بيوتهم وحوانيتهم ومحلاتهم مفتوحة لا يهتمون بحراستها.. فالأموال والنقود في متناول الأيدي دون أن يحميها أحد. بدأ أحدهما -بما سوّلت له نفسه- يسرق حينًا ويغصب حينًا آخر مرتكبًا كل أنواع الظلم والسفاهة، والأهلون لا يبالون به كثيرًا.

فقال له صديقه:

– ويحك ماذا تفعل؟ إنك ستنال عقابك، وستلقيني في بلايا ومصائب. فهذه الأموال أموال الدولة، وهؤلاء الأهلون قد اصبحوا – بعوائلهم وأطفالهم- جنود الدولة أو موظفيها، ويُستخدمون في هذه الوظائف ببزّتهم المدنية، ولذلك لم يُبالوا بك كثيرًا. اعلم أن النظام هنا صارم، فعيون السلطان ورقباؤه وهواتفه في كل مكان. أسرع يا صاحبي بالاعتذار وبادر إلى التوسل.

ولكن صاحبه الأبله عاند قائلًا:

– دعني يا صاحبي، فهذه الأموال ليست أموال الدولة، بل هي أموال مشاعة، لا مالك لها. يستطيع كل واحد أن يتصرف فيها كما يشاء. فلا أرى ما يمنعني من الاستفادة منها، أو الانتفاع بهذه الأشياء الجميلة المنثورة أمامي. واعلم أني لا أصدّق بما لا تراه عيناي…

وبدأ يتفلسف ويتفوه بما هو من قبيل السفسطة. وهنا بدأت المناقشة الجادّة بينهما. وأخذ الحوار يشتد إذ سأل المغفل:

– وما السلطان؟ فأنا لا أعرفه. فردّ عليه صاحبه:

– إنك بلاشك تعلم أنه لا قرية بلا مختار، ولا إبرة، بلا صانع وبلا مالك، ولا حرف بلا كاتب. فكيف يسوغ لك القول: إنه لا حاكم ولا سلطان لهذه المملكة الرائعة المنتظمة المنسقة؟ وكيف تكون هذه الأموال الطائلة والثروات النفيسة الثمينة بلا مالك، حتى كأن قطارًا مشحونًا بالأرزاق الثمينة يأتي من الغيب كل ساعة ويفرغ هنا ثم يذهب!(حاشية) إشارة الى فصول السنة حيث الربيع يشبه شاحنة قطار مملوءة بالأغذية و يأتي من عالم الغيب. المؤلف. أوَ لا ترى في أرجاء هذه المملكة إعلانات السلطان وبياناته، وأعلامَه التي ترفرف في كل ركن، وختمه الخاص وسكّته وطرّته على الأموال كلها، فكيف تكون مثل هذه المملكة دون مالك؟.. يبدو أنك تعلمت شيئًا من لغة الإفرنج، ولكنك لا تستطيع قراءة هذه الكتابات الإسلامية ولا ترغب أن تسأل من يقرأها ويفهمها، فتعال إذن لأقرأ لك أهم تلك البلاغات والأوامر الصادرة من السلطان.. فقاطعه ذلك المعاند قائلًا:

– لنسلّم بوجود السلطان، ولكن.. ماذا يمكن أن تضره وتنقص من خزائنه ما أحوزه لنفسي منها؟ ثم إني لا أرى هنا عقابًا من سجن أو ما يشبهه!

أجابه صاحبه:

– يا هذا، إن هذه المملكة التي نراها ما هي إلا ميدان امتحانٍ واختبار، وساحة تدريب ومناورة، وهي معرض صنائع السلطان البديعة، ومضيف مؤقت جدًا.. ألا ترى أن قافلة تأتي يوميًا وترحل أخرى وتغيب؟ فهذا هو شأن هذه المملكة العامرة، إنها تملأ وتخلى باستمرار، وسوف تفرغ نهائيًا وتبدل بأخرى باقية دائمة، وينقل إليها الناس جميعًا فيثاب أو يُعاقب كلٌ حسب عمله.

ومرة اخرى تمرّد صديقه الخائن الحائر قائلًا:

– أنا لا أؤمن ولا أصدق! فهل يمكن أن تُباد هذه المملكة العامرة، ويرحل عنها أهلُها إلى مملكة اخرى؟ وعندها قال له صديقه الناصح الأمين:

– يا صاحبي ما دمتَ تعاند هكذا وتصرّ، فتعال أبين لك دلائل لا تعد ولا تحصى مجملةً في اثنتي عشرة صورة تؤكد لك أن هناك محكمة كبرى حقًا، ودارًا للثواب والإحسان، وأخرى للعقاب والسجن، وإنه كما تفرغ هذه المملكة من أهلها يومًا بعد يوم، فسيأتي يوم تفرغ فيه منهم نهائيًا وتباد كليًّا.

الكلمة التاسعة

الكلمة التاسعة 

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ (الروم: 17 ـ 18)

أيها الأخ! تسألني عن حكمة تخصيص الصلاة في هذه الأوقات الخمسة المعينة، فسنشير إلى حكمة واحدة فقط من بين حِكمها الوفيرة.

نعم، كما أن وقت كل صلاة، بداية انقلابٍ زمني عظيم ومهم، فهو كذلك مرآة لتصرف إلهي عظيم، تعكس الآلاء الإلهية الكلية في ذلك الوقت. لهذا فقد أُمر في تلك الأوقات بالصلاة، أي الزيادة من التسبيح والتعظيم للقدير ذي الجلال، والإكثار من الحمد والشكر لنعمه التي لا تحصى والتي تجمعت بين الوقتين. ولأجل فهم بعضٍ من هذا المعنى العميق الدقيق، ينبغي الإصغاء -مع نفسي- إلى خمس نكات.

* النكتة الأولى:

إن معنى الصلاة هو التسبيح والتعظيم والشكر لله تعالى. أي تقديسُه جل وعلا تجاه جلاله قولًا وفعلًا بقول: سبحان الله.. وتعظيمه تجاه كماله لفظًا وعملًا بقول: الله اكبر.. وشكره تجاه جماله قلبًا ولسانًا وجسمًا بقول: الحمد لله.

أي أن التسبيح والتكبير والتحميد هو بمثابة نوى الصلاة وبذورها، فوُجِدت هذه الثلاثة في جميع حركات الصلاة وأذكارها. ولهذا أيضًا تُكرّر هذه الكلمات الطيبة الثلاث ثلاثًا وثلاثين مرة عقب الصلاة، وذلك للتأكيد على معنى الصلاة وترسيخه، إذ بهذه الكلمات الموجزة المجملة يؤكد معنى الصلاة ومغزاها.

* النكتة الثانية:

إن معنى العبادة هو سجودُ العبد بمحبة خالصة وبتقدير وإعجاب في الحضرة الإلهية وأمام كمال الربوبية والقدرة الصمدانية والرحمة الإلهية مشاهدًا في نفسه تقصيرَه وعجزَه وفقرَه.

نعم، كما أن سلطنة الربوبية تتطلب العبودية والطاعة، فإن قدسيتَها ونزاهتها تتطلب أيضًا أن يُعلن العبدُ -مع استغفاره برؤية تقصيره- أن ربّه منزّهٌ عن أي نقص، وأنه مُتعالٍ على جميع أفكار أهل الضلالة الباطلة، وأنه مقدّس من جميع تقصيرات الكائنات ونقائصها. أي يعلن ذلك كله بتسبيحه، بقوله: سبحان الله.

وكذا قدرة الربوبية الكاملة تطلب من العبد أيضًا أن يلتجىء إليها، ويتوكل عليها لرؤيته ضعفَ نفسه الشديد وعجزَ المخلوقات قائلًا: الله أكبر بإعجاب وتقدير واستحسان تجاه عظمة آثار القدرة الصمدانية، ماضيًا إلى الركوع بكل خضوع وخشوع.

وكذا رحمة الربوبية الواسعة تتطلب أيضًا أن يُظهر العبدُ حاجاته الخاصة وحاجات جميع المخلوقات وفقرها بلسان السؤال والدعاء، وأن يعلن إحسان ربه وآلاءه العميمة بالشكر والثناء والحمد بقوله: الحمد لله.

أي أن أفعال وأقوال الصلاة تتضمن هذه المعاني. ولأجل هذه المعاني فُرضت الصلاة من لدنه سبحانه وتعالى.

* النكتة الثالثة:

كما أن الإنسان هو مثالٌ مصغّر لهذا العالم الكبير، وأن سورة الفاتحة مثالٌ منوّر للقرآن العظيم، فالصلاة كذلك فهرس نوراني شامل لجميع العبادات، وخريطة سامية تشير إلى أنماط عبادات المخلوقات جميعًا.

* النكتة الرابعة:

إن عقارب الساعة التي تعد الثواني والدقائق والساعات والأيام، كلٌ منها يناظر الآخر، ويمثّل الآخر، ويأخذ كلٌ منها حكم الآخر.

كذلك في عالم الدنيا الذي هو ساعة إلهية كبرى، فإن دوران الليل والنهار الذي هو بحكم الثواني للساعة، والسنوات التي تعدّ الدقائق، وطبقات عمر الإنسان التي تعد الساعات، وأدوار عمر العالم التي تعد الأيام، كل منها يناظر الآخر، ويتشابه معه، ويماثله، ويذكّر كل منها الآخر، ويأخذ حكمه.

فمثلًا:

وقت الفجر إلى طلوع الشمس: يشبه ويذكّر ببداية الربيع وأوله، وبأوان سقوط الإنسان في رحم الأم، وباليوم الأول من الأيام الستة في خلق السموات والأرض، فينبّه الإنسان إلى ما في تلك الأوقات من الشؤون الإلهية العظيمة.

أما وقت الظهر: فهو يشبه ويشير إلى منتصف الصيف، وإلى عنفوان الشباب، وإلى فترة خلق الإنسان في عمر الدنيا، ويذكّر ما في ذلك كله من تجليات الرحمة وفيوضات النعمة.

أما وقت العصر: فهو يشبه موسم الخريف، وزمن الشيخوخة، وعصر السعادة الذي هو عصر خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام، ويذكّر ما في ذلك كله من الشؤون الإلهية والآلاء الرحمانية.

أما وقت المغرب: فإنه يذكّر بغروب أغلب المخلوقات وأُفولها نهاية الخريف، ويذكّر أيضًا بوفاة الإنسان، وبدمار الدنيا عند قيام الساعة، ومع ذلك فهو يعلّم التجليات الجلالية، ويوقظ الإنسان من نوم الغفلة وينبهه.

أما وقت العشاء: فيذكّر بغشيان عالم الظلام وستره آثار عالم النهار بكفنه الأسود، ويذكّر أيضًا بتغطية الكفن الأبيض للشتاء وجه الأرض الميتة، وبوفاة حتى آثار الإنسان المتوفى ودخولها تحت ستار النسيان، وبانسداد أبواب دار امتحان الدنيا نهائيًا، ويعلن في ذلك كله تصرفات جلالية للقهار ذي الجلال.

أما وقت الليل: فإنه يذكّر بالشتاء، وبالقبر، وبعالم البرزخ، فضلًا عن أنه يذكّر روح الإنسان بمدى حاجتها إلى رحمة الرحمن.

أما التهجد في الليل: فإنه يذكّر بضرورته ضياء لليل القبر، ولظلمات عالم البرزخ، وينبّه ويذكّر بنعم غير متناهية للمنعم الحقيقي عبر هذه الانقلابات، ويعلن أيضًا عن مدى أهلية المنعم الحقيقي للحمد والثناء.

أما الصباح الثاني: فإنه يذكّر بصباح الحشر. نعم، كما أن مجيء الصبح لهذا الليل، ومجيء الربيع لهذا الشتاء معقول وضروري وحتمي، فإن مجيء صباح الحشر وربيع البرزخ هما بالقطعية والثبوت نفسيهما.

فكل وقت إذن -من هذه الأوقات الخمسة- بداية انقلاب عظيم، ويذكّر بانقلابات أخرى عظيمة، فهو يذكّر أيضًا بمعجزات القدرة الصمدانية وهدايا الرحمة الإلهية سواء منها السنوية أو العصرية أو الدهرية، بإشارات تصرفاتها اليومية العظيمة.

أي أن الصلاة المفروضة التي هي وظيفة الفطرة وأساس العبودية والدَّين المفروض، لائقة جدًا ومناسبة جدًا في أن تكون في هذه الأوقات حقًا.

* النكتة الخامسة:

إن الإنسان بفطرته ضعيف جدًا، ومع ذلك فما أكثر المنغصات التي تورثه الحزن والألم، وهو في الوقت نفسه عاجز جدًا، مع أن أعداءه ومصائبه كثيرة جدًا، وهو فقير جدًا مع أن حاجاته كثيرة وشديدة، وهو كسول وبلا اقتدار مع أن تكاليف الحياة ثقيلة عليه، وإنسانيته جعلته يرتبط بالكون جميعًا مع أن فراقَ ما يحبه وزوال ما يستأنس به يؤلمانه، وعقله يريه مقاصد سامية وثمارًا باقية، مع أن يده قصيرة، وعمره قصير، وقدرته محدودة وصبره محدود.

فروح الإنسان في هذه الحالة (في وقت الفجر) أحوج ما تكون إلى أن تطرق -بالدعاء والصلاة- باب القدير ذي الجلال، وباب الرحيم ذي الجمال، عارضةً حالها أمامه، سائلة التوفيق والعون منه سبحانه، وما أشد افتقار تلك الروح إلى نقطة استناد كي تتحمل ما سيأتي أمامها من أعمال، وما ستحمل على كاهلها من وظائف في عالم النهار الذي يعقبه. ألا يُفهم ذلك بداهةً؟

وعند وقت الظهر: ذلك الوقت الذي هو ذروة كمال النهار وميلانه إلى الزوال، وهو أوان تكامل الأعمال اليومية، وفترة استراحة موقتة من عناء المشاغل، وهو وقت حاجة الروح إلى التنفس والاسترواح مما تعطيه هذه الدنيا الفانية والأشغال المرهقة الموقتة من غفلةٍ وحيرةٍ واضطراب فضلًا عن أنه أوان تظاهر الآلاء الإلهية.

فخلاصُ روح الإنسان من تلك المضايقات، وإنسلالها من تلك الغفلة والحيرة، وخروجها من تلك الأمور التافهة الزائلة، لا يكون إلاّ بالالتجاء إلى باب القيوم الباقي -وهو المنعم الحقيقي- بالتضرع والتوسل أمامه مكتوف اليدين شاكرًا حامدًا لمحصّلة نِعَمه المتجمعة، مستعينًا به وحده، مع إظهار العجز أمام جلاله وعظمته بالركوع، وإعلان الذل والخضوع -بإعجاب وتعظيم وهيام- بالسجود أمام كماله الذي لا يزول، وأمام جماله الذي لا يحول.. وهذا هو أداء صلاة الظهر، فما اجملها، وما ألذَّها، وما أجدرها، وما أعظم ضرورتها!. ومن ثم فلا يحسبنّ الإنسان نفسه إنسانًا إن كان لا يفهم هذا.

وعند وقت العصر: الذي يذكّر بالموسم الحزين للخريف، وبالحالة المحزنة للشيخوخة، وبالأيام الأليمة لآخر الزمان، وبوقت ظهور نتائج الأعمال اليومية. فهو فترة حصول المجموع الكلي الهائل للنعم الإلهية، أمثال التمتع بالصحة والتنعم بالعافية، والقيام بخدمات طيبة. وهو كذلك وقت الإعلان بأن الإنسان ضيف مأمور، وبأن كل شئ يزول وهو بلا ثبات ولا قرار، وذلك بما يشير اليه انحناء الشمس الضخمة إلى الأُفول.

نعم إن روح الإنسان التي تنشد الأبدية والخلود، وهي التي خُلقت للبقاء والأبد، وتعشق الإحسان، وتتألم من الفراق، تُنهض بهذا الإنسان ليقوم وقت العصر ويسبغ الوضوء لأداء صلاة العصر، ليناجي متضرعًا أمام باب الحضرة الصمدانية للقديم الباقي وللقيوم السرمدي، وليلتجئ إلى فضل رحمته الواسعة، وليقدم الشكر والحمد على نعمه التي لا تحصى، فيركع بكل ذلٍّ وخضوع أمام عزة ربوبيته سبحانه ويهوي إلى السجود بكل تواضع وفناء أمام سرمدية ألوهيته، ويجد السلوان الحقيقي والراحة التامة لروحه بوقوفه بعبودية تامة وباستعداد كامل أمام عظمة كبريائه جل وعلا. فما أسماها من وظيفةٍ تأديةُ صلاة العصر بهذا المعنى! وما أليقها من خدمة! بل ما أحقّه من وقتٍ لقضاء دَين الفطرة، وما أعظمه من فوزٍ للسعادة في منتهى اللذة! فمن كان إنسانًا حقًا فسيفهم هذا.

وعند وقت المغرب: الذي يذكّر بوقت غروب المخلوقات اللطيفة الجميلة لعالم الصيف والخريف في خزينة الودائع منذ ابتداء الشتاء، ويذكّر بوقت دخول الإنسان القبر عند وفاته وفراقه الأليم لجميع أحبته، وبوفاة الدنيا كلها بزلزلة سكراتها وانتقال ساكنيها جميعًا إلى عوالم أخرى. ويذكّر كذلك بإنطفاء مصباح دار الامتحان هذه. فهو وقت إيقاظٍ قوي وإنذارٍ شديد لأولئك الذين يعشقون لحد العبادة المحبوبات التي تغرب وراء أُفق الزوال. لذا فالإنسان الذي يملك روحًا صافية كالمرآة المجلوة المشتاقة فطرةً إلى تجليات الجمال الباقي، لأجل أداء صلاة المغرب في مثل هذا الوقت يولّي وجهه إلى عرش عظمة مَن هو قديم لم يزل، ومن هو باقٍ لا يزال، ومَن هو يدبر أمر هذه العوالم الجسيمة ويبدّلها، فيدّوي بصوته قائلًا: (الله أكبر) فوق رؤوس هذه المخلوقات الفانية، مُطلقًا يده منها، مكتوفًا في خدمة مولاه الحق منتصبًا قائمًا عند مَن هو دائمٌ باقٍ جل وعلا ليقول: (الحمد لله) أمام كماله الذي لا نقص فيه، وأمام جماله الذي لا مثيل له، واقفًا أمام مُثنيًا رحمته الواسعة ليقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ . ليعرض عبوديته واستعانته تجاه ربوبية مولاه التي لا معين لها وتجاه الوهيته التي لا شريك لها، وتجاه سلطنته التي لا وزير لها. فيركع إظهارًا لعجزه وضعفه وفقره مع الكائنات جميعًا أمام كبريائه سبحانه التي لا منتهى لها، وأمام قدرته التي لا حدّ لها، وأمام عزته التي لا عجز فيها، مسبّحًا ربّه العظيم قائلًا: (سبحان ربي العظيم). ثم يهوي إلى السجود أمام جمال ذاته الذي لا يزول، وأمام صفاته المقدسة التي لا تتغير، وأمام كمال سرمديته الذي لا يتبدل، مُعلنًا بذلك حبَّه وعبوديته في إعجاب وفناء وذلٍ، تاركًا ما سواه سبحانه قائلًا: (سبحان ربي الأعلى) واجدًا جميلًا باقيًا ورحيمًا سرمديًا بدلًا من كل فانٍ. فيقدس ربَّه الأعلى المنزَّه عن الزوال المبرأ من التقصير ويجلس للتشهد، فيقدّم التحيات والصلوات الطيبات لجميع المخلوقات هديةً باسمه إلى ذلك الجميل الذي لم يزل وإلى ذلك الجليل الذي لا يزال، مجددًا بيعتَه مع رسوله الأكرم بالسلام عليه مُظهرًا بها طاعته لأوامره، فيرى الانتظام الحكيم لقصر الكائنات هذا، ويُشهِدُه على وحدانية الصانع ذي الجلال، فيجدّد إيمانه وينوّره، ثم يشهد على دلاّل الربوبية ومبلّغ مرضياتها وترجمان آيات كتاب الكون الكبير ألا وهو محمد العربي صلى الله عليه وسلم . فما ألطفَ وما أنزه أداء صلاة المغرب وما أجلّها من مهمة -بهذا المضمون- وما أعزّها وأحلاها من وظيفة، وما أجملها وألذّها من عبودية، وما أعظمها من حقيقة أصيلة! وهكذا نرى كيف أنها صُحبة كريمة وجلسة مباركة وسعادة خالدة في مثل هذه الضيافة الفانية.. أفيحسب مَن لم يفهم هذا نفسه إنسانًا؟.

وعند وقت العشاء: ذلك الوقت الذي تغيب في الأفق حتى تلك البقية الباقية من آثار النهار، ويخيّم الليلُ فيه على العالم، فيذكّر بالتصرفات الربانية لـ(مقلب الليل والنهار) وهو القدير ذو الجلال في قلبه تلك الصحيفة البيضاء إلى هذه الصحيفة السوداء.. ويذكّر كذلك بالإجراءات الإلهية لـ(مسخر الشمس والقمر) وهو الحكيم ذو الكمال في قلبه الصحيفة الخضراء المزيِّنة للصيف إلى الصحيفة البيضاء الباردة للشتاء.. ويذكّر كذلك بالشؤون الإلهية لـ(خالق الموت والحياة) بانقطاع الآثار الباقية -بمرور الزمن- لأهل القبور من هذه الدنيا وانتقالها كليًا إلى عالم آخر. فهو وقت يذكّر بالتصرفات الجلالية، وبالتجليات الجمالية لخالق الأرض والسموات، وبانكشاف عالم الآخرة الواسع الفسيح الخالد العظيم، وبموت الدنيا الضيقة الفانية الحقيرة، ودمارها دمارًا تامًا بسكراتها الهائلة. إنها فترة -أو حالة- تُثبت أن المالك الحقيقي لهذا الكون بل المعبود الحقيقي والمحبوب الحقيقي فيه لا يمكن أن يكون إلاّ مَن يستطيع أن يقلّب الليل والنهار والشتاء والصيف والدنيا والآخرة بسهولة كسهولة تقليب صفحات الكتاب، فيكتب ويثبت ويمحو ويبدل، وليس هذا إلاّ شأن القدير المطلق النافذ حكمه على الجميع جلّ جلاله.

وهكذا فروح البشر التي هي في منتهى العجز وفي غاية الفقر والحاجة، والتي هي في حيرة من ظلمات المستقبل وفي وَجَل مما تخفيه الأيام والليالي.. تدفع الإنسان عند أدائه لصلاة العشاء -بهذا المضمون- أن لا يتردد في أن يردد على غرار سيدنا إبراهيم عليه السلام ﴿لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ﴾ . فيلتجئ بالصلاة إلى باب مَن هو المعبود الذي لم يزل ومَن هو المحبوب الذي لا يزال، مناجيًا ذلك الباقي السرمدي في هذه الدنيا الفانية، وفي هذا العالم الفاني، وفي هذه الحياة المظلمة والمستقبل المظلم، لينشر على أرجاء دنياه النور من خلال صحبة خاطفةٍ ومناجاة موقتة، ولينّور مستقبله ويضمد جراح الزوال والفراق عما يحبّه من أشياء وموجودات ومن أشخاص وأصدقاء وأحباب، بمشاهدة توجّه رحمةِ الرحمن الرحيم، وطلب نور هدايته، فينسى -بدوره- تلك الدنيا التي أنسته، والتي اختفت وراء العشاء، فيسكب عبرات قلبه، ولوعة صدره، على عتبة باب تلك الرحمة، ليقوم بوظيفة عبوديته النهائية قبل الدخول فيما هو مجهول العاقبة، ولا يعرف ما يُفعل به بعده، من نوم شبيه بالموت، وليختم دفتر أعماله اليومية بحسن الخاتمة. ولأجل ذلك كله يقوم بأداء الصلاة، فيتشرف بالمثول أمام مَن هو المعبود المحبوب الباقي بدلًا من المحبوبات الفانية، وينتصب قائمًا أمام مَن هو القدير الكريم بدلًا من جميع العجزة المتسولين، وليسمو بالمثول في حضرة مَن هو الحفيظ الرحيم لينجو من شر من يرتعد منهم من المخلوقات الضارة. فيستهلّ الصلاة بالفاتحة، أي بالمدح والثناء لرب العالمين الكريم الرحيم الذي هو الكامل المطلق والغني المطلق، بدلًا من مدح مخلوقات لا طائل وراءها وغير جديرة بالمدح وهي ناقصة وفقيرة وبدلًا من البقاء تحت ذلّ المنّة والأذى، فيرقى إلى مقام الضيف الكريم في هذا الكون، وإلى مقام الموظف المرموق فيه رغم أنه ضئيل وصغير بل هو معدوم، وذلك بسموه إلى مرتبة خطاب ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ أي انتسابه لمالك يوم الدين ولسلطان الأزل والأبد. فيقدّم بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُعبادات واستعانات الجماعة الكبرى والمجتمع الأعظم لجميع المخلوقات طالبًا الهداية إلى الصراط المستقيم الذي هو طريقه المنوّر الموصل إلى السعادة الأبدية عبر ظلمات المستقبل بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ ويتفكر في كبريائه سبحانه وتعالى ويتأمل في أن هذه الشموس المستترة -التي هي كالنباتات والحيوانات النائمة الآن- وهذه النجوم المنتبهة، جنود مطيعة مسخّرة لأمره جل وعلا، وأن كل واحد منها ما هو إلا مصباح في دار ضيافته هذه، وكل واحد منها خادم عامل، فيكبّر قائلًا (الله أكبر) ليبلُغَ الركوع. ثم يتأمل بالسجدة الكبرى لجميع المخلوقات كيف أن أنواع الموجودات في كل سنة، وفي كل عصر – كالمخلوقات النائمة في هذا الليل- بل حتى الأرض نفسها وحتى العالم كلّه، إنما هي كالجيش المنظم، بل كالجندي المطيع، عندما تسرّح من وظيفتها الدنيوية بأمر: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي عندما تُرسل إلى عالم الغيب تسجد في منتهى النظام في الزوال على سجادة الغروب مكبّرة (الله أكبر). وهي تُبعث وتُحشر كذلك في الربيع بنفسها أو بمثلها، بصيحة إحياء وإيقاظٍ صادر من أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ فيتأهب الجميع في خضوع وخشوع لأمر مولاهم الحق. فهذا الإنسان الضعيف اقتداء بتلك المخلوقات، يهوي إلى السجود أمام ديوان الرحمن ذي الكمال والرحيم ذي الجمال قائلًا: (الله أكبر) في حبٍ غامرٍ بالإعجاب وفي فنائيةٍ مفعمة بالبقاء وفي ذلّ مكللٍ بالعز.

فلا شك يا أخي قد فهمت أن أداء صلاة العشاء سموٌ وصعودٌ فيما يشبه المعراج، وما أجملها من وظيفةٍ وما أحلاها من واجبٍ وما أسماها من خدمةٍ وما أعزّها وألذّها من عبودية وما أليقها من حقيقة أصيلة!

أي إن كل وقت من هذه الأوقات إشارات لانقلاب زمني عظيم، وأمارات لإجراءات ربانية جسيمة، وعلامات لإنعامات إلهية كلية، لذا فإن تخصيص صلاة الفرض -التي هي دَين الفطرة- في تلك الأوقات هو منتهى الحكمة.

 

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

اللّهم صل وسلم على مَن أرسلته معلّمًا لعبادك، ليعلّمهم كيفية معرفتك والعبودية لك، ومعرّفًا لكنوز أسمائك، وترجمانًا لآيات كتاب كائناتك، ومرآةً بعبوديته لجمال ربوبيتك، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات. آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

الكلمة الثامنة

 الكلمة الثامنة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (البقرة:255)

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: 19)

إذا أردت أن تفهم ما الدنيا وما دور الروح الإنسانية فيها، وما قيمة الدين عند الإنسان وكيف أنه لولا الدين الحق لتحولت الدنيا إلى سجن رهيب، وأن الشخص الملحد هو أشقى المخلوقات، وأن الذي يحل طلسم العالم ولغزه المحير وينقذ الروح البشرية من الظلمات إن هو إلا «يا الله…»«لا إله إلا الله..» أجل إذا كنت تريد أن تفهم كل ذلك فانصت إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة وتفكر فيها مليًا:

كان شقيقان في قديم الزمان يذهبان معًا إلى سياحة طويلة، فواصلا سيرهما سوية إلى أن وصلا إلى مفرق طريقين، فرأيا هناك رجلًا وقورًا فسألاه: أيّ الطريقين أفضل؟.

فأجابهما: في الطريق اليمين التزام إجباري للقانون والنظام، إلاّ أن في ثنايا ذلك التكليف ثمة أمان وسعادة. أما طريق الشمال ففيه الحرية والتحرر إلا أن في ثنايا تلك الحرية تهلكة وشقاء. والآن لكم الخيار في سلوك أيهما.

وبعد الاستماع إلى هذا الكلام سلك الأخ ذو الطبع الطيب طريق اليمين قائلًا: توكلت على الله. وانطلق راضيًا عن طيب نفس باتباع النظام والانتظام. أما الأخ الآخر الغاوي، فقد رجّح طريق الشمال لمجرد هوى التحرر الذي فيه.

والآن فلنتابع خيالًا هذا الرجل السائر في طريق ظاهره السهولة والخفة وباطنه من قبله الثقل والعناء. فما أن عبر الوديان العميقة والمرتفعات العالية الوعرة حتى دخل وسط مفازة خالية وصحراء موحشة؛ فسمع صوتًا مخيفًا، ورأى أن أسدًا ضخمًا غضوبًا قد انطلق من الأحراش نحوه؛ ففر منه فرارًا وهو يرتعد خوفًا وهلعًا، فصادف بئرًا معطلة على عمق ستين ذراعًا فألقى نفسه فيها طلبًا للنجاة، وفي أثناء السقوط لقَيت يداه شجرةً فتشبث بها. وكان لهذه الشجرة جذران نبتا على جدار البئر وقد سلّط عليهما فأران، أبيض وأسود. وهما يقضمان ذينك الجذرين بأسنانهما الحادة. فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد واقفًا كالحارس على فوهة البئر، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعبانًا كبيرًا جدًا قد رفع رأسه يريد الاقتراب منه وهو على مسافة ثلاثين ذراعًا، وله فم واسع سعة البئر نفسها. ورأى ثمة حشرات مؤذية لاسعة تحيط به. نظر إلى أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، إلا أنها تثمر بصورة خارقة أنواعًا مختلفة وكثيرة من فواكه الأشجار ابتداء من الجوز وانتهاء إلى الرمان.

لم يكن هذا الرجل ليفهم -لسوء ادراكه وحماقته- بأن هذا الأمر ليس اعتياديًا، ولا يمكن أن تأتي كل هذه الأشياء مصادفةً ومن دون قصد. ولم يكن يفهم أن في هذه الشؤون العجيبة أسرارًا غريبة، وأن هناك وراء كل ذلك من يدبّر هذه الأمور ويسيّرها.

فبينما يبكي قلب هذا الرجل وتصرخ روحه ويحار عقله من اوضاعه الأليمة إذا بنفسه الأمارة بالسوء أخذت تلتهم فواكه تلك الشجرة متجاهلة عما حولها وكأن شيئًا لم يحدث؛ سادّة أذنيها عن صرخات القلب وهواتف الروح، خادعة نفسها بنفسها رغم أن قسمًا من تلك الفواكه كانت مسمومة ومضرة.

وهكذا نرى أن هذا الرجل الشقي قد عومل بمثل ما جاء في الحديث القدسي ((أنا عند ظن عبدي بي)) أي: أنا أعامل عبدي مثلما يعرفني هو. فلقد عومل هكذا، وسيعامل مثلها أيضًا، بل لابد أن يرى مثل هذه المعاملة جزاء تلقيه كل ما يشاهده أمرًا عاديًا بلا قصد ولا حكمة وكأنه الحق بعينه، وذلك لسوء ظنه وبلاهته الخرقاء؛ فصار يتقلب في نار العذاب ولا يستطيع أن يموت لينجو ولا يقدر على العيش الكريم.

ونحن بدورنا سنرجع تاركين وراءنا ذلك المشؤوم يتلوى في عذابه؛ لنعرف ما جرى للأخ الآخر من أحوال.

فهذا الرجل المبارك ذو العقل الرشيد ما يزال يقطع الطريق دون أن يعاني الضيق كأخيه، ذلك لأنه لا يفكر إلا في الأشياء الجميلة -لما له من جمال الخُلق- ولا يأخذ بعنان الخيال إلا بما هو جميل ولطيف، لذا كان يستأنس بنفسه ولا يلاقي الصعوبة والمشقة كأخيه. ذلك لأنه يعرف النظام، ويعمل بمقتضى الولاء والاتباع. فيرى الأمور تسهل له، ويمضي حرًا منطلقًا مستظلًا بالأمان والاستقرار. وهكذا مضى حتى وجد بستانًا فيه أزهار جميلة وفواكه لطيفة مع ثمة جثث حيوانات وأشياء منتنة مبعثرة هنا وهناك بسبب اهمال النظافة. كان أخوه الشقي قد دخل -من قبل- في مثل هذا البستان أيضًا غير أنه انشغل بمشاهدة الجيف الميتة وإنعام النظر فيها مما أشعره بالغثيان والدوار. فغادره دون أن يأخذ قسطًا من الراحة لمواصلة السير. أما هذا الأخ فعملًا بقاعدة ((انظر إلى الأحسن من كل شي)) فقد أهمل الجيف ولم يلتفت إليها مطلقًا، بل استفاد مما في البستان من الأشياء والفواكه. وبعدما استراح فيه الراحة التامة مضى إلى سبيله.

ودخل – هو أيضًا كأخيه – في صحراء عظيمة ومفازة واسعة. وفجأة سمع صوت أسد يهجم عليه فخاف إلا أنه دون خوف أخيه، حيث فكّر بحُسن ظنه وجمال تفكيره قائلًا: لابد أن لهذه الصحراء حاكمًا، فهذا الأسد إذن يحتمل أن يكون خادمًا أمينًا تحت أمرته.. فوجد في ذلك اطمئنانًا، غير أنه فرّ كذلك حتى وصل وجهًا لوجه إلى بئر معطلة بعمق ستين ذراعًا فألقى نفسه فيها وأمسك -كصاحبه- بشجرة في منتصف الطريق من البئر.. وبقي معلقًا بها، فرأى حيوانين اثنين يقطعان جذري تلك الشجرة رويدًا رويدًا.. فنظر إلى الأعلى فرأى الأسد، ونظر إلى الأسفل فرأى ثعبانًا ضخمًا، ونظر إلى نفسه فوجدها -كأخيه تمامًا- في وضع عجيب غريب. فدهش من الأمر هو كذلك إلا أنه دون دهشة أخيه بألف مرة، لما منحه الله من حُسن الخلق وحُسن التفكير والفكر الجميل الذي لا يريه إلا الجهة الجميلة من الأشياء. ولهذا السبب فقد فكّر هكذا: أن هذه الأمور العجيبة ذات علاقات مترابطة بعضها ببعض، وأنها لتظهر كأن آمرًا واحدًا يحركها؛ فلابد إذن أن يكون في هذه الأعمال المحيرة سرّ مغلق وطلسم غير مكشوف.

أجل! إن كل هذا يرجع إلى أوامر حاكم خفي، فأنا إذن لست وحيدًا، بل إن ذلك الحاكم الخفي ينظر إلي ويرعاني ويختبرني، ولحكمة مقصودة يسوقني إلى مكان، ويدعونني إليه. فنشأ لديه من هذا التفكير الجميل والخوف اللذيذ شوقٌ أثار هذا السؤال: مَن يكون يا ترى هذا الذي يجرّبني ويريد أن يعرّفني نفسه؟ ومَن هذا الذي يسوقني في هذا الطريق العجيب إلى غاية هادفة؟ ثم نشأ من الشوق إلى التعرف محبة صاحب الطلسم، ونمت من تلك المحبة رغبة حل الطلسم، ومن تلك الرغبة انبثقت رغبة اتخاذ وضع جميل وحالة مقبولة لدى صاحب الطلسم حسب ما يحبه ويرضاه.

ثم نظر أعلى الشجرة فرأى أنها شجرة تين، غير أن في نهاية أغصانها آلاف الأنواع من الأثمار والفواكه، وعندها ذهب خوفه وزال نهائيًا، لأنه علم علمًا قاطعًا بأن شجرة التين هذه إنما هي فهرس ومعرض، حيث قلد الحاكم الخفي نماذخ ما في بستانه وجناته بشكل معجز عليها وزيّنها بها، اشارةً لما أعدّه من أطعمة ولذائذ لضيوفه.. وإلا فإن شجرة واحدة لن تعطي أثمار آلاف الأشجار. فلم يرَ أمامه إلا الدعاء والتضرع، فألح متوسلًا بانكسار إلى أن اُلهم مفتاح الطلسم فهتف قائلًا:

((يا حاكم هذه الديار والآفاق! التجئ إليك وأتوسل وأتضرع، فأنا لك خادم، أريد رضاك وأنا أطلبك وأبحث عنك))..

فانشق جدار البئر فجأة بعد هذا الدعاء، عن باب يفتح إلى بستان فاخر طاهر جميل، وربما انقلب فم ذلك الثعبان إلى ذلك الباب واتخذ كل من الأسد والثعبان صورة الخادم وهيأته.. فأخذا يدعوانه إلى البستان حتى أن ذلك الأسد تقمص شكل حصان مسخّر بين يديه.

فيا نفسي الكسلى! ويا صاحبي في الخيال..

تعالا لنوازن بين أوضاع هذين الأخوين كي نعلم كيف أن الحسنة تجلب الحسنة وأن السيئة تأتي بالسيئة.

إن المسافر الشقي إلى جهة الشمال معرّض في كل آن أن يلج في فم الثعبان فهو يرتجف خوفًا وهلعًا. بينما هذا السعيد يُدعى إلى بستان أنيق بهيج مثمر بفواكه شتى.. وإن قلب ذلك الشقي يتمزق في خوف عظيم ورعب أليم بينما هذا السعيد يرى غرائب الأشياء وينظر إليها بعبرة حلوة وخوف لذيذ ومعرفة محبوبة.. وإن ذلك الشقي المسكين ليعاني من الوحشة واليأس واليتم عذابًا وأي عذاب! بينما هذا السعيد يتلذذ في الأنس ويترفل في الأمل والشوق.. ثم إن ذلك المنكود يرى نفسه محكومًا عليه  كالسجين – بهجمات الحشرات المؤذية، بينما هذا السعيد المحظوظ يتمتع متعة ضيف عزيز. وكيف لا وهو ضيف عند مضيّف كريم، فيستأنس مع عجائب خدمه. ثم أن ذلك السئ الحظ ليعجّل عذابه في النار بأكله مأكولات لذيذة الطعم ظاهرًا ومسمومة حقيقةً ومعنىً، إذ إن تلك الفواكه ما هي إلا نماذج، قد اُذن للتذوق منها فحسب ليكون طالبًا لحقائقها وأُصولها ويكون شاريها الأصيل وإلاّ فلاسماح للشراهة منها كالحيوان. أما هذا السعيد المحمود فإنه يتذوق منها إذ يعي الأمر، مؤخِّرًا أكلها وملتذًا بالانتظار.. ثم إن ذلك الشقي يكون قد ظلم نفسه بنفسه؛ جارًا عليها وضعًا مظلمًا وأوهامًا ذات ظلمات حتى كأنه في جحيم، بانعدام بصيرته عن حقائق ساطعة كالنهار وأوضاع جميلة باهرة، فلا هو مستحق للشفقة ولا له حق الشكوى، مَثَله في هذا مثل رجل وسط أحبائه في موسم الصيف وفي حديقة جميلة بهيجة في وليمة طيبة للأفراح، فلعدم قناعته بها راح يرتشف كؤوس الخمر -أم الخبائث- حتى أصبح سكيرًا ثملًا؛ فشرع بالصراخ والعويل، وبدأ بالبكاء، ظانًا نفسه أنه في قلب الشتاء القارس، ومتصورًا أنه جائع وعار وسط وحوش مفترسة. فمثلما أن هذا الرجل لا يستحق الشفقة والرأفة، إذ ظلم نفسه بنفسه متوهمًا أصدقاءه وحوشًا، محتقرًا لهم.. فكذلك هذا المشؤوم.

ولكنما ذلك السعيد يبصر الحقيقة، والحقيقة بذاتها جميلة، ومع ادراك جمال الحقيقة فإنه يحترم كمال صاحب الحقيقة ويوقّره فيستحق رحمته.

فاعلم إذن سرًا من أسرار: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾ (النساء:79)

فلو وازنت سائر هذه الفروق وأمثالها لعلمت أن النفس الأمارة للأول قد أحضرت له جهنم معنوية، بينما الآخر قد نال بحسن نيته وحسن ظنه وحسن خصلته وحسن فكره- الفيض والسعادة والإحسان العميم.

فيا نفسي. ويا أيها الرجل المنصت معي إلى هذه الحكاية!

إذا كنت تريد أن لا تكون مثل ذلك الأخ المشؤوم وترغب في أن تكون كالأخ السعيد فاستمع إلى القرآن الكريم وأرضخ لحكمه واعتصم به واعمل بأحكامه.

وإذا كنت قد وعيت ما في هذه الأقصوصة التمثيلية من حقائق؛ فإنك تستطيع أن تطبق عليها الحقيقة الدينية والدنيوية والإنسانية والإيمانية كلها. وسأقول لك الأسس، واستخرج بنفسك الدقائق!

فالإخوان الاثنان: أحدهما روح المؤمن وقلب الصالح، والآخر روح الكافر وقلب الفاسق.. أما اليمين من تلكما الطريقين فهو طريق القرآن وطريق الإيمان وأما الشمال فطريق العصيان والكفران.. وأما ذلك البستان في الطريق فهو الحياة الاجتماعية المؤقتة للمجمتع البشري والحضارة الإنسانية التي يوجد فيها الخير والشر والطيب والخبيث والطاهر والقذر معًا. فالعاقل هو مَن يعمل على قاعدة: ((خذ ما صفا.. دع ما كدر)) فيسير مع سلامة القلب واطمئنان الوجدان.

وأما تلك الصحراء فهي هذه الدنيا وهذه الأرض.. وأما ذلك الأسد فهو الأجل والموت.. وأما تلك البئر فهي جسد الإنسان وزمان الحياة. وأما ذلك العمق البالغ ستين ذراعًا فهو اشارة إلى العمر الغالب، وهو معدل العمر ستون سنة.. وأما تلك الشجرة فهي مدة العمر ومادة الحياة.. وأما الحيوانان الإثنان، الأسود والأبيض فهما الليل والنهار.. وأما ذلك الثعبان فهو فم القبر المفتوح إلى طريق البرزخ ورواق الآخرة، إلا أن ذلك الفم هو للمؤمن باب يفتح من السجن إلى البستان.. وأما تلك الحشرات المضرة فهي المصائب الدنيوية، إلا أنها للمؤمن في حكم الإيقاظات الإلهية الحلوة والالتفاتات الرحمانية لئلا يغفل.. وأما مطعومات تلك الشجرة فهي النعم الدنيوية التي صنعها ربّ العزة الكريم لكي تكون فهرسًا للنعم الأخروية ومذكِّرة بها، بمشابهتها لها، وقد خلقها البارئ الحكيم على هيئة نماذج لدعوة الزبائن إلى فواكه الجنة، وإن اعطاء تلك الشجرة على وحدتها الفواكه المختلفة المتباينة اشارة إلى آية الصمدانية وختم الربوبية الآلهية وطغراء سلطنة الألوهية. ذلك لأن ((صنع كل شئ من شئ واحد)) أي صنع جميع النباتات وأثمارها من تراب واحد، وخلق جميع الحيوانات من ماء واحد، وابداع جميع الأجهزة الحيوانية من طعام بسيط. وكذا ((صنع الشئ الواحد من كل شئ)) كبناء لحم معين وجلد بسيط لذي حياة من مطعومات مختلفة الأجناس.. إنما هي الآية الخاصة للذات الأحدية الصمدية والختم المخصوص للسلطان الأزلي الأبدي وطغراؤه التي لا يمكن تقليدها أبدًا.

نعم إن خلق شئ من كل شئ وخلق كل شئ من شئ، إنما هو خاصية تعود إلى خالق كل شئ.. وعلامة مخصوصة للقادر على كل شئ. وأما ذلك الطلسم فهو سر حكمة الخلق الذي يُفتح بسر الإيمان.

وأما ذلك المفتاح فهو ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾  و ((يا الله)) و ﴿لاإله إلا الله.. ﴾

وأما انقلاب فم ذلك الثعبان إلى باب البستان فهو رمز إلى أن القبر هو سجن الوحشة والنسيان والإهمال والضيق، فهو كبطن الثعبان لأهل الضلالة والطغيان. ولكنه لأهل الإيمان والقرآن باب مفتوح على مصراعيه من سجن الدنيا إلى بستان البقاء، ومن ميدان الامتحان إلى روضة الجنان، ومن زحمة الحياة إلى رحمة الرحمن.. وأما انقلاب ذلك الأسد المفترس إلى حصان مسخر وإلى خادم مؤنس فهو اشارة إلى أن الموت لأهل الضلال فراق أبدي أليم من جميع الأحبة، وخروج من جنة دنيوية كاذبة إلى وحشة سجن انفرادي للقبر، وضياع في تيه سحيق، بينما هو لأهل الهداية وأهل القرآن رحلة إلى العالم الآخر، ووسيلة إلى ملاقاة الأحبة والأصدقاء القدامى، وواسطة إلى دخول الوطن الحقيقي ومنازل السعادة الأبدية، ودعوة كريمة من سجن الدنيا إلى بساتين الجنان، وانتظار لأخذ الأجرة للخدمات تفضلًا من الرحمن الرحيم، وتسريح من تكاليف الحياة واجازة من وظيفتها، واعلان الانتهاء من واجبات العبودية وامتحانات التعليم والتعليمات.

نحصل من هذا كله:

أن كل من يجعل الحياة الفانية مبتغاه فسيكون في جهنم حقيقةً ومعنىً، حتى لو كان يتقلب ظاهرًا في بحبوحة النعيم.

وإن كل من كان متوجهًا إلى الحياة الباقية ويسعى لها بجد وإخلاص فهو فائز بسعادة الدارين وأهل لهما معًا حتى لو كانت دنياه سيئة وضيقة، إلا أنه سيراها حلوة طيبة، وسيراها قاعة انتظار لجنته، فيتحملها ويشكر ربه فيها وهو يخوض غمار الصبر.

اللهم اجعلنا من أهل السعادة والسلامة والقرآن والإيمان .. آمين.

اللّهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه بعدد جميع الحروفات المتشكلة في جميع الكلمات المتمثلة بإذن الرحمن في مرايا تموجات الهواء عند قراءة كل كلمة من القرآن من كل قارئ من أول النزول إلى آخر الزمان.

وارحمنا ووالدينا وارحم المؤمنين والمؤمنات بعددها برحمتك يا أرحم الراحمين آمين .. والحمد لله رب العالمين.

 

الكلمة السابعة

الكلمة السابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

آمنت بالله وباليوم الآخر

إن كنت ترغب أن تفهم كيف أن الإيمان بالله وباليوم الآخر، أثمن مفتاحين يحلاّن لروح البشر طلسم الكون ولغزه، ويفتحان أمامها باب السعادة والهناء.. وكيف أن توكّل الإنسان على خالقه صابرًا، والرجاء من رزّاقه شاكرًا، أنفع علاجين ناجعين.. وأن الإنصات إلى القرآن الكريم، والانقياد لحكمه، وأداء الصلوات وترك الكبائر، أغلى زاد للآخرة، وأسطع نور للقبر، وأيسر تذكرة مرور في رحلة الخلود.. أجل! إن كنت تريد أن تفهم هذه الأمور كلها فأنصت معي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وقع جندي -في الحرب العالمية- في مأزق عصيب ووضع محيّر، إذ أصبح جريحًا بجرحين غائرين في يمينه وفي شماله. وخلفه أسد هصور يوشك أن ينقضّ عليه. وأمامه مشنقة تبيد جميع أحبته وتنتظره أيضًا، زد على ذلك كانت أمامه رحلة نفي شاقة طويلة رغم وضعه الفظيع المؤلم!.. وبينما كان هذا المسكين المبتلى مستغرقًا في تفكير يائس من واقعه المفجع هذا، إذا برجل خيّرٍ كأنه الخضر عليه السلام يتلألأ وجهه نورًا يظهر عن يمينه ويخاطبه:

– لا تيأس ولا تقنط. سأعلمك طلسمين اثنين، إن أحسنتَ استعمالهما ينقلب ذلك الأسد فرسًا أمينًا مسخرًا لخدمتك، وتتحول تلك المشنقة أرجوحة مريحة لطيفة تأنس بها.. وسأناولك دواءين اثنين، إن احسنت استعمالهما يصيّران جرحيك المنتنين زهرتين شذّيتين، وسأزودك بتذكرة سفر تستطيع بها أن تقطع مسافة سنة كاملة في يوم واحد كأنك تطير!! وإن لم تصدّق بما أقول فجرّبه مرة، وتيقنّ من صحته وصدقه… فجرَّب الجندي شيئًا منه، فرآه صدقًا وصوابًا.

نعم، وأنا كذلك -هذا المسكين سعيد- أصدّقه، لأنني جربته قليلًا، فرأيته صدقًا وحقًا خالصًا.

ثم، على حين غرة رأى رجلًا لعوبًا دساسًا -كأنه الشيطان- يأتيه من جهة اليسار مع زينة فاخرة، وصور جذابة، ومُسْكرات مغرية، ووقف قبالته يدعوه:

– إليّ اإليّ أيها الصديق، أقبل لنلْهُ معًا ونستمتع بصور الحسناوات هذه، ونطرب بسماع هذه الألوان من الأغاني ونتلذذ بهذه المأكولات اللذيذة.. ولكن يا هذا! ما هذه التمتمة التي ترددها؟!

– إنه طلسم ولغز!

– دع عنك هذا الشئ الغامض، فلا تعكّر صفو لذتنا، وأُنسَ نشوتنا الحاضرة.. يا هذا… وما ذلك بيدك؟

– إنه دواء!

– إرمه بعيدًا، إنك سالم صحيح ما بك شئ، ونحن في ساعة طرب وأُنس ومتعة. وما هذه البطاقة ذات العلامات الخمس؟

– إنها تذكرة سفر، وأمر إداري للتوظيف!

– مزّقها، فلسنا بحاجة إلى سفر في هذا الربيع الزاهي!

وهكذا حاول بكل مكر وخديعة أن يقنع الجندي، حتى بدأ ذلك المسكين يركن شيئًا قليلًا إلى كلامه.

نعم، إن الإنسان ينخدع، ولقد خُدعت أنا كذلك لمثل هذا الماكر!

وفجأة دوّى صوت كالرعد عن يمينه يحذّره:

– إياك أن تنخدع.. قل لذلك الماكر الخبيث:

إن كنت تستطيع قتل الأسد الرابض خلفي، وأن ترفع أعواد المشنقة من أمامي، وأن تبرأني من جرحيّ الغائرين في يميني وشمالي، وأن تحول بيني وبين رحلتي الشاقة الطويلة.. نعم إن كنت تقدر على إيجاد سبيل لكل هذا فهيا أرنيه، وهات ما لديك، ولك بعد ذلك أن تدعوني إلى اللهو والطرب، وإلاّ فاسكت أيها الأبله، ليتكلم هذا الرجل السامي -الشبيه بالخضر- ليقول ما يروم.

فيا نفسي الباكية على ما ضحكتْ أيام شبابها. اعلمي! إن ذلك الجندي المسكين المتورط هو أنتِ، وهو الإنسان.. وأن ذلك الأسد هو الأجل.. وأن أعواد المشنقة تلك هي الموت والزوال والفراق الذي تذوقه كل نفس.. ألا تَرَين كيف يفارقنا كل حبيب إثر حبيب ويودعنا ليل نهار.. أما الجرحان العميقان، فأحدهما: العجز البشري المزعج الذي لا حدّ له. والآخر: هو الفقر الإنساني المؤلم الذي لا نهاية له.. أما ذلك النفي والسفر المديد فهو رحلة الامتحان والابتلاء الطويلة لهذا الإنسان، التي تنطلق من عالم الأرواح مارةً من رحم الأم ومن الطفولة والصِبا ثم من الشيخوخة ومن الدنيا ثم من القبر والبرزخ ومن الحشر والصراط.. وأما الطلسمان فهما الإيمان بالله وباليوم الآخر. نعم إن الموت بهذا الطلسم القدسي يلبس صورة فرس مسخّر بدلًا عن الأسد، بل يتخذ صورة بُراق يُخرج الإنسان المؤمن من سجن الدنيا إلى روضة الجنان، إلى روضة الرحمن ذي الجلال. ومن هنا كان الكاملون من الناس يحبّون الموت ويطلبونه، حيث رأوا حقيقته. ثم إن سير الزمان ومروره على كل شيء ونفوذ الزوال والفراق والموت والوفاة فيه يتخذ بهذا الطلسم الإيماني صورةً وضّاءة حيث تحفِز الإنسان إلى رؤية الجِدَّة بتجدد كل شئ، بل يكون مبعث التأمل في ألوان مختلفة متنوعة وأنواع متباينة لمعجزات إبداع الخالق ذي الجلال وخوارق قدرته، وتجليات رحمته سبحانه ومشاهدتها باستمتاع وبهجة كاملين. بمثل ما يضفي تبدل المرايا العاكسة لألوان نور الشمس، وتغيّر الصور في شاشة السينما من جمال وروعة إلى تكون المناظر الجذابة وتشكلها.

أما ذانك العلاجان.

فأحدهما: التوكل على الله والتحلي بالصبر، أي الاستناد إلى قدرة الخالق الكريم والثقة بحكمته سبحانه.

– أهو كذلك؟

نعم، إن من يعتمد بهوية «عجزه» على سلطان الكون الذي بيده أمر ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ كيف يجزع ويضطرب؟ بل يثبت أمام أشد المصائب، واثقًا بالله ربه، مطمئن البال مرتاح القلب وهو يردد: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

نعم، إن العارف بالله يتلذذ من عجزه وخوفه من الله سبحانه. وحقًا إن في الخوف لذة! فلو تمكنّا من الاستفسار من طفل له من العمر سنة واحدة، مفترضين فيه العقل والكلام: ما أطيب حالاتك وألذها؟ فربما يكون جوابه: هو عندما ألوذ بصدر أمي الحنون بخوفي ورجائي وعجزي.. علمًا أن رحمة جميع الوالدات وحنانهن ما هي إلاّ لمعةُ تجلٍ من تجليات الرحمة الإلهية الواسعة.

ومن هنا وجد الذين كَمُل إيمانُهم لذة تفوق أية لذة كانت في العجز ومخافة الله،حتى إنهم تبرأوا إلى الله براءة خالصة من حولهم وقوتهم ولاذوا بعجزهم إليه تعالى واستعاذوا به وحده، مقدِّمين هذا العجز والخوف وسيلتين وشفيعين لهم عند البارئ الجليل.

أما العلاج الآخر فهو: الدعاء والسؤال ثم القناعة بالعطاء، والشكر عليه والثقة برحمة الرزاق الرحيم.

– أهو هكذا؟

نعم! إن من كان ضيفًا لدى الذي فَرَش له وجه الأرض مائدةً حافلة بالنعم، وجعل الربيع كأنه باقة أنيقة من الورود ووضعها بجانب تلك المائدة العامرة بل نثرها عليها، إن مَن كان ضيفًا عند هذا الجواد الكريم جلَّ وعلا كيف يكون الفقر والحاجة لديه مؤلمًا وثقيلًا؟. بل يتخذ فقره وفاقته إليه سبحانه صورة مُشهٍّ لتناول النِعم. فيسعى إلى الاستزادة من تلك الفاقة كمن يستزيد من شهيته. وهنا يكمن سبب افتخار الكاملين واعتزازهم بالفقر إلى الله تعالى.. «واياك أن تظن خلاف ما نقصد بالفقر؛ إنه استشعار الإنسان بالفقر إليه سبحانه والتضرع إليه وحده والسؤال منه، وليس المقصود إظهار الفقر إلى الناس والتذلل لهم والسؤال منهم بالتسول والاستجداء!».

أما ذلك المستند أو الأمر الإداري أو البطاقة فهو أداء الفرائض وفي مقدمتها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر.

– أهو هكذا؟

نعم! إن جميع أهل الاختصاص والشهود وجميع أهل الذوق والكشف من العلماء المدققين والأولياء الصالحين متفقون على أن زاد طريق أبد الآباد، وذخيرة تلك الرحلة الطويلة المظلمة ونورها وبُراقها ليس إلاّ امتثال أوامر القرآن الكريم واجتناب نواهيه،وإلاّ فلا يغني العلم والفلسفة والمهارة والحكمة شيئًا في تلك الرحلة، بل تقف جميعها منطفئة الأضواء عند باب القبر.

فيا نفسي الكسول! ما أخفّ أداء الصلوات الخمس واجتناب الكبائر السبع وما أريحها وأيسرها أمام عِظَم فوائدها وثمراتها وضرورتها! إن كنتِ فطنة تفهمين ذلك. ألا قولي لمن يدعوكِ إلى الفسق واللهو والسفاهة، وإلى ذلك الشيطان الخبيث الماكر:

لو كانت لديك وسيلة لقتل الموت، ولإزالة الزوال عن الدنيا، ولو كان عندك دواء لرفع العجز والفقر عن البشرية، ووساطة لغلق باب القبر إلى الأبد، فهاتها إذن وقُلها لأسمع وأطيع.. وإلاّ فاخرس، فإن القرآن الكريم يتلو آيات الكائنات في مسجد الكون الكبير هذا. فلننصت إليه، ولنتنّور بنوره، ولنعمل بهديه الحكيم، حتى يكون لساننا رطبًا بذكره وتلاوته.

نعم! إن الكلام كلامه. فهو الحق، وهو الذي يُظهر الحقيقة وينشر آيات نور الحكمة.

اللّهم نوِّر قلوبَنا بنور الإيمان والقرآن. اللهم أغنِنا بالافتقار إليك ولا تُفقِرنا بالاستغناء عنك، تبرأنا إليك مِن حولنا وقوتنا والتجأنا إلى حولك وقوتك فاجعلنا من المتوكلين عليك ولا تكِلْنا إلى أنفسنا واحفظنا بحفظك وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

وصلِّ وسلم على سيّدنا محمد عبدك ونبيك وصفيك وخليلك وجمال ملكك ومليك صنعك وعين عنايتك وشمس هدايتك ولسان محبتك ومثال رحمتك ونور خلقك وشرف موجوداتك وسراج وحدتك في كثرة مخلوقاتك وكاشف طلسم كائناتك ودلاّل سلطنة ربوبيتك ومبلّغ مرضياتك ومعرّف كنوز أسمائك ومعلم عبادك وترجمان آياتك ومرآة جمال ربوبيتك ومدار شهودك وإشهادك وحبيبك ورسولك الذي أرسلته رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وعلى ملائكتك المقربين وعلى عبادك الصالحين… آمين .

 

الكلمة السادسة

الكلمة السادسة

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ(التوبة: 111)

إذا أردت أن تعلم أن بيع النفس والمال إلى الله تعالى، والعبودية له، والجندية في سبيله أربح تجارة واشرفها! فأنصت إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

وضع سلطان -ذات يوم- لدى اثنين من رعاياه وديعةً وأمانةً، لكل منهما مزرعة واسعة، فيها كل ما تتطلبه من مكائن وآلات وأسلحة وحيوانات وغيرها.. وتوافق أن كان الوقت آنذاك وقت حرب طاحنة، لا يقرّ قرار لشئ؛ فإما أن تبدّله الحرب وتغيّره أو تجعله أثرًا بعد عين. فأرسل السلطان رحمةً منه وفضلًا أحدَ رجاله المقربين مصحوبًا بأمره الكريم ليقول لهما:

«بيعوا لي ما لديكم من أمانتي لأحفظها لكم، فلا تذهب هباء في هذا الوقت العصيب، وسأردّها لكم حالما تضع الحرب أوزارها.. وسأوفي ثمنها لكم غاليًا، كأن تلك الأمانة ملككم.. وستُشغّل تلك المكائن والآلات التي في حوزتكم الآن في معاملي وبأسمي وعهدتي.. وسترتفع اثمانها من الواحد إلى الألف، فضلًا عن أن جميع الأرباح ستعود إليكم أيضًا.. وسأتعهد عنكم بجميع تكاليفها ومصاريفها، حيث أنكم عاجزون فقراء لا تتحملون مصاريف تلك المكائن.. وسأرد لكم جميع وارداتها ومنافعها، علمًا أني سأبقيها عندكم لتستفيدوا منها وتتمتعوا بها إلى أن يحين وقت أخذها.

فلكم خمس مراتب من الأرباح في صفقة واحدة.

وإن لم تبيعوها لي فسيزول حتمًا كل ما لديكم، حيث ترون أن أحدًا لا يستطيع أن يمسك بما عنده.. وستحرمون من تلك الأثمان الغالية.. وستهمل تلك الآلات الدقيقة النفيسة والموازين الحساسة والمعادن الثمينة، وتفقد قيمتها كليًا، وذلك لعدم استعمالها في أعمال راقية.. وستتحملون وحدكم إدارتها وتكاليفها وسترون جزاء خيانتكم للأمانة.. فتلك خمس خسائر في صفقة واحدة. وفوق هذا كله إن هذا البيع يعني أن البائع يصبح جنديًا حرًا أبيًا خاصًا بي، يتصرف باسمي ولا يبقى أسيرًا عاديًا وشخصًا سائبًا..».

أنصت الرجلان مليًا إلى هذا الكلام الجميل والأمر السلطاني الكريم. فقال العاقل الرزين منهما:

سمعًا وطاعة لأمر السلطان، رضيت بالبيع بكل فخر وشكر.

أما الآخر المغرور المتفرعن الغافل فقد ظن أن مزرعته لا تبيد أبدًا، ولا تصيبها تقلبات الدهر واضطرابات الدنيا، فقال:

«لا!.. ومَن السلطان؟ لا ابيع ملكي ولا أفسد نشوتي!».

ودارت الأيام.. فأصبح الرجل الأول في مقام يغبطه الناس جميعًا، إذ اضحى يعيش في بحبوحة قصر السلطان، يتنعم بألطافه ويتقلب على أرائك أفضاله. أما الآخر فقد ابتلي شرّ بلاء حتى رثى لحاله الناس كلهم، رغم إنهم قالوا: إنه يستحقها! إذ هو الذي ورّط نفسه في مرارة العذاب جزاء ما ارتكب من خطأ، فلا دامت له نشوته ولا دام له ملكه.

فيا نفسي المغرورة!

انظري من خلال منظار هذه الحكاية إلى وجه الحقيقة الناصعة. فالسلطان هو سلطان الأزل والأبد وهو ربك وخالقك. وتلك المزرعة والمكائن والآلات والموازين هي ما تملكينه في الحياة الدنيا من جسم وروح وقلب، وما فيها من سمع وبصر وعقل وخيال، أي جميع الحواس الظاهرة والباطنة. وأما الرسول الكريم فهو سيدنا محمد صلىى الله عليه وسلم. وأما الأمر السلطاني المحكم فهو القرآن الكريم الذي يعلن هذا البيع والتجارة الرابحة في هذه الآية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: 111) وأما الميدان المضطرب والحرب المدمّرة فهي أحوال هذه الدنيا، إذ لا قرار فيها ولا ثبات، كلها تقلبات تلحّ على فكر الإنسان بهذا السؤال:

«إن جميع ما نملك لا يستقر ولا يبقى في أيدينا، بل يفنى ويغيب عنّا، أليس هناك من علاج لهذا؟ ألا يمكن أن يحل البقاء بهذا الفناء؟!».

وبينما الإنسان غارق في هذا التفكير، إذا به يسمع صدى القرآن السماوي يدوّي في الآفاق ويقول له بتلك الآية الكريمة: نعم! إن هناك علاجًا لهذا الداء، بل هو علاج لطيف فيه ربح عظيم في خمس مراتب.

سؤال: وما العلاج؟

الجواب: بيعُ الأمانة إلى مالكها الحقيقي، في هذا البيع خمس درجات من الربح في صفقة واحدة.

الربح الأول: المال الفاني يجد البقاء، لأن العمر الزائل الذي يوهب للحي القيوم الباقي، ويبذل في سبيله سبحانه، ينقلب عمرًا أبديًا باقيًا. عندئذٍ تثمر دقائق العمر ثمارًا يانعة وأزاهير سعادة وضاءة في عالم البقاء مثلما تفنى البذور ظاهرًا وتنشق عنها الأزهار والسنابل.

الربح الثاني: الثمن هو الجنة.

الربح الثالث: يرتفع ثمن كل عضو وحاسة ويغلو من الواحدة إلى الألف.

فمثلًا: العقل عضو وآلة، إن لم تبعه -يا أخي- لله ولم تستعمله في سبيله، بل جعلته في سبيل الهوى والنفس، فإنه يتحول إلى عضو مشؤوم مزعج وعاجز، إذ يحمّلك آلام الماضي الحزينة وأهوال المستقبل المخيفة، فينحدر عندئذٍ إلى درك آلة ضارة مشؤومة، ألا ترى كيف يهرب الفاسق من واقع حياته وينغمس في اللهو أو السكر إنقاذًا لنفسه من إزعاجات عقله؟ ولكن إذا بيع العقل إلى الله، واُستُعمل في سبيله ولأجله، فإنه يكون مفتاحًا رائعًا بحيث يفتح ما لا يعد من خزائن الرحمة الإلهية وكنوز الحكمة الربانية فأينما ينظر صاحبه وكيفما يفكر يرى الحكمة الإلهية في كل شئ، وكل موجود، وكل حادثة. ويشاهد الرحمة الإلهية متجلية على الوجود كله، فيرقى العقل بهذا إلى مرتبة مرشدٍ رباني يهئ صاحبه للسعادة الخالدة.

ومثلًا: العين حاسة، تطل الروح منها على هذا العالم، فإن لم تستعملها في سبيل الله، واستعملتها لأجل النفس والهوى، فإنها بمشاهدتها بعض المناظر الجميلة المؤقتة الزائلة تصبح في درك الخادمة والسمسارة الدنيئة لإثارة شهوات النفس والهوى. ولكن إن بعتها إلى خالقها البصير واستعملتها فيما يرضيه، عندئذٍ تكون العين مطالِعة لكتاب الكون الكبير هذا وقارئة له، ومشاهِدة لمعجزات الصنعة الربانية في الوجود، وكأنها نحلة بين أزاهير الرحمة الإلهية في بستان الأرض، فتقطّر من شَهْد العبرة والمعرفة والمحبة نور الشهادة إلى القلب المؤمن.

ومثلًا: إن لم تبع حاسة الذوق -التي في اللسان- إلى فاطرها الحكيم، واستعملتها لأجل المعدة والنفس، فحينئذٍ تهوي إلى درك بوّاب معمل المعدة واصطبلها، فتهبط قيمتها. ولكن إن بعتَها إلى الرزاق الكريم، فإنها ترقى إلى درجة ناظر ماهر لخزائن الرحمة الإلهية، ومفتش شاكر لمطابخ القدرة الصمدانية.

فيا أيها العقل! أفق، أين الآلة المشؤومة من مفتاح كنوز الكائنات؟

ويا أيتها العين! أبصري جيدًا، أين السمسرة الدنيئة من الإمعان في المكتبة الإلهية؟

-ويا أيها اللسان! ذق بحلاوة أين بواب المعمل والإصطبل من ناظر خزينة الرحمة الإلهية؟.

فإن شئت -يا أخي- فقس بقية الأعضاء والحواس على هذا، وعندها تفهم أن المؤمن يكسب حقًا خاصية تليق بالجنة، كما أن الكافر يكتسب ماهية توافق جهنم. فما جوزي كل منهما بهذا الجزاء العادل إلاّ لأن المؤمن يستعمل بإيمانه أمانة خالقه سبحانه بأسمه وضمن دائرة مرضاته، وأن الكافر يخون الأمانة فيستعملها لهواه ولنفسه الأمارة بالسوء.

الربح الرابع: إن الإنسان ضعيف بينما مصائبه كثيرة، وهو فقير ولكن حاجته في ازدياد، وعاجز إلاّ أن تكاليف عيشه مرهقة، فإن لم يتوكل هذا الإنسان على العلي القدير ولم يستند إليه، وإن لم يسلّم الأمر إليه ولم يطمئن به، فسيظل يقاسي في وجدانه آلامًا دائمة، وتخنقه حسراته وكدحه العقيم، فإما يحوله إلى مجرم قذر أو سكير عابث.

الربح الخامس: إنه من المتفق عليه إجماعًا بين أهل الاختصاص والشهود والذوق والكشف أن العبادات والأذكار والتسبيحات التي تقوم بها الأعضاء عندما تعمل ضمن مرضاته سبحانه تتحول إلى ثمار طيبة لذيذة من ثمار الجنة، وتقدّم إليك في وقت أنت في أمس الحاجة إليها.

وهكذا.. ففي هذه التجارة ربح عظيم فيه خمس مراتب من الأرباح، فإن لم تقم بها فستحرم من أرباحها جميعها، فضلًا عن خسرانك خمس خسارات اخرى هي:

الخسارة الأولى: إن ما تحبه من مال وأولاد، وما تعشقه من هوى النفس وما تعجب به من حياة وشباب، سيضيع كله ويزول، مخلفًا آثامه وآلامه مثقل بها ظهرك.

الخسارة الثانية: ستنال عقاب من يخون الأمانة. لأنك باستعمالك أثمن الآلات والأعضاء في أخس الأعمال قد ظلمت نفسك.

الخسارة الثالثة: لقد افتريت وجنيت على الحكمة الإلهية، إذ اسقطت جميع تلك الأجهزة الإنسانية الراقية إلى دركات الأنعام بل أضل.

الخسارة الرابعة: ستدعو بالويل والثبور دائمًا، وستئن من صدمة الفراق والزوال ووطأة تكاليف الحياة التي أرهقت بها كاهلك الـضعيف مع أن فقرك قائم وعجزك دائم.

الخسارة الخامسة: إن هدايا الرحمن الجميلة -كالعقل والقلب والعين وما شابهها- ما وُهبت لك إلاّ لتهيئك لفتح أبواب السعادة الأبدية، فما أعظمها خسارة أن تتحول تلك الهدايا إلى صورة مؤلمة تفتح لك أبواب جهنم!.

والآن.. سننظر إلى البيع نفسه. أهو ثقيل متعب حقًا بحيث يهرب منه الكثيرون؟.

– كلا، ثم كلا.. فلا تعب فيه ولا ثقل أبدًا. لأن دائرة الحلال واسعة فسيحة، تكفي للراحة والسعادة والسرور. فلا داعي للولوج في الحرام.

أما ما افترضهَّ الله علينا فهو كذلك خفيف وضئيل، وأن العبودية لله بحد ذاتها شرف عظيم إذ هي جندية في سبيله سبحانه وفيها من اللذة وراحة الوجدان ما لا يوصف.

أما الواجب فهو أن تكون ذلك الجندي، فتبدأ باسم الله، وتعمل باسم الله، وتأخذ وتعطي في سبيله ولأجله، وتتحرك وتسكن ضمن دائرة مرضاته وأوامره، وإن كان هناك تقصير فدونك باب الاستغفار، فتضرع إليه وقل:

اللّهم اغفر لنا خطايانا، واقبلنا في عبادك، واجعلنا أمناء على ما أمّنته عندنا إلى يوم لقائك … آمـين.

 

الكلمة الخامسة

الكلمة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(النحل:128)

إذا أردت أن ترى أن إقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالإنسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته.. فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة واستمع إليها:

كان في الحرب العالمية الأولى، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه. والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه. كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله بأوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث أنه أدرك يقينًا أن إعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد بل حتى مداواته إذا تمرض بل حتى وضع اللقمة -إذا احتاج الأمر- في فمه، إنما هو من واجب الدولة. وأما واجبه الأساس فهو التدّرب على أمور الجهاد ليس إلاّ، مع علمه أن هذا لا يمنع من أن يقوم بشؤون التجهيز وبعض أعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الأثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما أقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعًا، ولا يجيب: إنني أسعى لأجل كسب لوازم العيش.

أما الجندي الآخر، الجاهل بواجباته فلم يكن ليبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب. فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بأمور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يَدَع الفوج ليزاول البيع والشراء في الأسواق.

قال له صديقه المجدّ ذات يوم:

– يا أخي!! إن مهمتك الأصلية هي التدرّب والاستعداد للحرب، وقد جئ بك إلى هنا من أجل ذلك؛ فاعتمد على السلطان واطمئن إليه في أمر معاشك، فلن يَدَعَك جائعًا، فذلك واجبُه ووظيفته. ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدير أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدّونك عاصيًا لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة.

نعم؛ إن وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا:

أحداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه باعاشتنا. ونحن قد نُستخدم مجانًا في إنجاز تلك الوظيفة.

وأُخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي: التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدّم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة.

فيا أخي تأمل لو لم يُعِر الجندي المهمِل سمعًا لكلام ذلك المجاهد المدرَّب كم يكون خاسرًا ومتعرضًا للأخطار والتهلكة؟!

فيا نفسي الكسول!!

إن تلك الساحة التي تمور مورًا بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة.. وأمّا ذلك الجيش المقسم إلى الأفواج فهو الأجيال البشرية.. وأمّا ذلك الفوج نفسه فهو المجتمع المسلم المعاصر.. وأمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والإنس، إنقاذًا لقلبه وروحه معًا من الهلاك الأبدي والخسران المبين.

وأما تانك الوظيفتان الإثنتان؛ فأحداهما منح الحياة ورعايتها. والأخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه والتوكل عليه والاطمئنان إليه.

أجل! إن الذي وهب الحياة؛ وأنشأها صنعةً صمدانية معجزة تتلمع، وجعلها حكمةً ربانية خارقة تتألق، هو الذي يربيها، وهو وحده الذي يرعاها ويديمها بالرزق.

أوَ تريد الدليل؟!

إن أضعف حيوان وأبلده ليُرزَق بأفضل رزق وأجوده (كالأسماك وديدان الفواكه). وإن أعجز مخلوق وأرقه ليأكل أحسن رزق وأطيبه (كالأطفال والصغار).

ولكي تفهم أن وسيلة الرزق الحلال ليست الاقتدار والاختيار، بل هي العجز والـضعف، يكفيك أن تعقد مقارنه بين الأسماك البليدة والثعالب، وبين الصغار الذين لا قوة لهم والوحوش الكاسرة، وبين الأشجار المنتصبة والحيوانات اللاهثة.

فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسوّل متسكعًا في الأسواق. بينما الذي يقيم الصلاة دون أن ينسى نصيبه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضًا.

ثم إن فطرة الإنسان وما أودع الله فيه من أجهزة معنوية تدلاّن على أنه مخلوق للعبادة؛ لأن ما أودع فيه من قدرات وما يؤديه من عمل لحياته الدنيا لا تبلغه مرتبة أدنى عصفور -الذي يتمتع بالحياة أكثر منه وأفضل- بينما يكون الإنسان سلطان الكائنات وسيد المخلوقات من حيث حياته المعنوية والأخروية بما أودع الله فيه من علم به وافتقار إليه وقيام بعبادته.

فيا نفسي!

إن كنت تجعلين الحياة الدنيا غاية المقصد وافرغت في سبيلها جهدك فسوف تكونين في حكم أصغر عصفور.

اما إن كنت تجعلين الحياة الأخرى غاية المنى وتتخذين هذه الحياة الدنيا وسيلة لها ومزرعة، وسعيتِ لها سعيها.. فسوف تكونين في حكم سيد الأحياء والعبد العزيز لدى خالقه الكريم وستصبحين الـضيف المكرم الفاضل في هذه الدنيا.

فدونك طريقان اثنان، فاختاري أيّما تشائين.

واسألي الرب الرحيم الهداية و التوفيق.

 

الكلمة الرابعة

الكلمة الرابعة

بسم الله الرحمن الرحيم

«الصلاة عماد الدين»

إن كنت تريد أن تعرف أهمية الصلاة وقيمتها، وكم هو يسير نيلها وزهيد كسبها، وأن من لا يقيمها ولا يؤدي حقها أبله خاسر.. نعم! إن كنت تريد أن تعرف ذلك كله بيقين تام -كحاصل ضرب الإثنين في اثنين يساوي أربعًا- فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

يُرسل حاكمٌ عظيم -ذات يوم- إثنين من خَدَمه إلى مزرعته الجميلة، بعد أن يمنح كلًا منهما أربعًا وعشرين ليرة ذهبية، ليتمكنا بها من الوصول إلى المزرعة التي هي على بُعد شهرين.. ويأمرهما: «أنفقا من هذا المبلغ لمصاريف التذاكر ومتطلبات السفر، واقتنيا ما يلزمكما هناك من لوزام السكن والإقامة.. هناك محطة للمسافرين على بُعد يوم واحد، توجد فيها جميع أنواع وسائط النقل من سيارة وطائرة وسفينة وقطار.. ولكلٍ ثمنه».

يخرج الخادمان بعد تسلمهما الأوامر.. كان أحدهما سعيدًا محظوظًا، إذ صرف شيئًا يسيرًا مما لديه لحين وصوله المحطة، صرفه في تجارة رابحة يرضى بها سيدُه، فارتفع رأس ماله من الواحد إلى الألف.

أما الخادم الآخر، فلسوء حظه وسفاهته صرف ثلاثًا وعشرين مما عنده من الليرات الذهبية في اللّهو والقمار، فأضاعها كلها إلا ليرة واحدة منها لحين بلوغه المحطة..

خاطبه صاحبه:

-يا هذا.. اشتر بهذه الليرة الباقية لديك تذكرة سفر، فلا تضيّعها كذلك، فسيدُنا كريمٌ رحيمٌ، لعلّه يشملك برحمته وينالك عفوه عما بدر منك من تقصير، فيسمحوا لك بركوب الطائرة، ونبلغ معًا محل إقامتنا في يوم واحد. فإن لم تفعل ما أقوله لك فستضطر إلى مواصلة السير شهرين كاملين في هذه المفازة مشيًا على الأقدام، والجوع يفتك بك، والغربة تخيم عليك وأنت وحيد شارد في هذه السفرة الطويلة.

تُرى لو عاند هذا الشخص، فصرف حتى تلك الليرة الباقية في سبيل شهوة عابرة، وقضاء لذة زائلة، بدلًا من اقتناء تذكرة سفر هي بمثابة مفتاح كنزٍ له. ألا يعني ذلك أنه شقي خاسر، وأبله بليد حقًا.. ألا يُدرك هذا أغبى إنسان؟

فيا من لا يؤدي الصلاة! ويا نفسي المتضايقة منها!

إن ذلك الحاكم هو ربُّنا وخالقنا جلّ وعلا..

أما ذلكما الخادمان المسافران، فأحدهما هو المتديّن الذي يقيم الصلاة بشوق ويؤديها حق الأداء، والآخر هو الغافل التارك للصلاة..

وأما تلك الليرات الذهبية الأربعة والعشرون فهي الأربع والعشرون ساعة من كل يوم من أيام العمر..

وأما ذلك البستان الخاص فهو الجنة..

وأما تلك المحطة فهي القبر..

وأما تلك السياحة والسفر الطويل فهي رحلة البشر السائرة نحو القبر والماضية إلى الحشر والمنطلقة إلى دار الخلود. فالسالكون لهذا الطريق الطويل يقطعونه على درجات متفاوتة، كلٌ حسب عمله ومدى تقواه، فقسم من المتقين يقطعون في يوم واحد مسافة ألف سنة كأنهم البرق، وقسم منهم يقطعون في يوم واحد مسافة خمسين ألف سنة كأنهم الخيال. وقد أشار القرآن العظيم إلى هذه الحقيقة في آيتين كريمتين..

أما تلك التذكرة فهي الصلاة التي لا تستغرق خمسُ صلوات مع وضوئها أكثر من ساعة!

فيا خسارة مَن يصرف ثلاثًا وعشرين من ساعاته على هذه الحياة الدنيا القصيرة ولا يصرف ساعةً واحدة على تلك الحياة الأبدية المديدة!. ويا له من ظالم لنفسه مبين! ويا له من أحمق أبله!

لئن كان دفع نصف ما يملكه المرء ثمنًا لقمار اليانصيب -الذي يشترك فيه أكثر من ألف شخص- يعدّ أمرًا معقولًا، مع أن احتمال الفوز واحد من ألف، فكيف بالذي يحجم عن بذل واحدٍ من اربعة وعشرين مما يملكه، في سبيل ربح مضمون، ولأجل نيل خزينة أبدية، باحتمال تسع وتسعين من مائة.. ألا يُعدّ هذا العمل خلافًا للعقل، ومجانبًا للحكمة.. ألا يدرك ذلك كلُّ من يعدّ نفسه عاقلًا؟

إن الصلاة بذاتها راحة كبرى للروح والقلب والعقل معًا. فضلًا عن أنها ليست عملًا مرهقًا للجسم. وفوق ذلك فإن سائر أعمال المصلي الدنيوية المباحة ستكون له بمثابة عبادة لله، وذلك بالنية الصالحة.. فيستطيع إذن أن يحوّل المصلي جميع رأس مال عمره إلى الآخرة، فيكسب عمرًا خالدًا بعمره الفاني.

 

الكلمة الثالثة

الكلمة الثالثة 

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا..﴾ (البقرة: 21)

إن كنت تريد أن تفهم كيف أن العبادة تجارة عظمى وسعادة كبرى، وأن الفسق والسفه خسارة جسيمة وهلاك محقق، فانظر إلى هـذه الحكاية التمثيليـة وانصت اليها:

تسلَّم جنديان اثنان -ذات يوم- أمرًا بالذهاب إلى مدينة بعيدة، فسافرا معًا، إلى أن وصلا مفرق طريقين، فوجدا هناك رجلًا يقول لهما:

«إن هذا الطريق الأيمن، مع عدم وجود الـضرر فيه، يجد المسافرون الذين يسلكونه الراحة والاطمئنان والربح مضمونًا بنسبة تسعة من عشرة. أما الطريق الأيسر، فمع كونه عديم النفع يتضرر تسعة من عشرة من عابريه. علمًا أن كليهما في الطول سواء، مع فرق واحد فقط، هو أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيسر -غير المرتبط بنظامٍ وحكومة- يمضي بلا حقيبة متاع ولا سلاح، فيجد في نفسه خفَّة ظاهرة وراحة موهومة. غير أن المسافر المتجه نحو الطريق الأيمن -المنتظم تحت شرف الجندية- مضطر لحمل حقيبة كاملة من مستخلصات غذائية تزن أربع أوقيات وسلاحًا حكوميًا يزن اوقيتين يستطيع أن يغلب به كل عدو».

وبعد سماع هذين الجنديين كلام ذلك الرجل الدليل، سلك المحظوظ السعيد الطريق الأيمن، ومضى في دربه حاملًا على ظهره وكتفه رطلًا من الأثقال إلا أن قلبه وروحه قد تخلّصا من آلاف الأرطال من ثقل المنَّة والخوف.

بينما الرجل الشقي المنكود الذي آثر ترك الجندية ولم يرد الانتظام والالتزام، سلك سبيل الشمال، فمع أن جسمه قد تخلص من ثقل رطل فقد ظل قلبه يرزح تحت آلاف الأرطال من المنَّ والأذى، وانسحقت روحه تحت مخاوف لا يحصرها الحد. فمضى في سبيله مستجديًا كل شخص، وجلًا مرتعشًا من كل شئ، خائفًا من كل حادثة، إلى أن بلغ المحل المقصود فلاقى هناك جزاء فراره وعصيانه.

أما المسافر المتوجه نحو الطريق الأيمن -ذلك المحب لنظام الجندية والمحافظ على حقيبته وسلاحه- فقد سار منطلقًا مرتاح القلب مطمئن الوجدان من دون أن يلتفت إلى منَّة أحد أو يطمع فيها أو يخاف من أحد.. إلى أن بلغ المدينة المقصودة وهنالك وجد ثوابَه اللائق به كأي جندي شريف أنجز مهمته بالحسنى.

فيا أيتها النفس السادرة السارحة!

اعلمي أن ذينك المسافرين؛ أحدهما أولئك المستسلمون المطيعون للقانون الإلهي، والآخر هم العصاة المتبعون للأهواء..

وأما ذلك الطريق فهو طريق الحياة الذي يأتي من عالم الأرواح ويمر من القبر المؤدي إلى عالم الآخرة..

وأما تلك الحقيبة والسلاح فهما العبادة والتقوى، فمهما يكن للعبادة من حمل ثقيل ظاهرًا إلا أن لها في معناها راحة وخفة عظيمتين لا توصفان، ذلك لأن العابد يقول في صلاته: «لا إله إلا الله» أي لا خالق ولا رازق إلا هو، النفع والـضر بيده، وإنه حكيم لا يعمل عبثًا كما أنه رحيم واسع الرحمة والاحسان.

فالمؤمن يعتقد بما يقول لذا يجد في كل شئٍ بابًا ينفتح إلى خزائن الرحمة الإلهية، فيطرقه بالدعاء، ويرى أن كل شئ مسخَّر لأمر ربه، فيلتجىء إليه بالتضرع. ويتحصَّن أمام كل مصيبة مستندًا إلى التوكل، فيمنحه إيمانه هذا الأمان التام والاطمئنان الكامل.

نعم! إن منبع الشجاعة ككل الحسنات الحقيقية هو الإيمان والعبودية، وأن منبع الجبُن ككل السيئات هو الضلالة والسفاهة.

فلو أصبحت الكرة الأرضية قنبلة مُدمِّرة وانفجرت، فلربما لا تخيف عابدًا لله ذا قلب منوَّر، بل قد ينظر اليها أنها خارقة من خوارق القدرة الصمدانية، ويتملاها بإعجاب ومتعة، بينما الفاسق ذو القلب الميت ولو كان فيلسوفًا -ممن يُعدّ ذا عقل راجح- اذا رأى في الفضاء نجمًا مذنبًا يعتوره الخوف ويرتعش هلعًا ويتساءل بقلق: ألا يمكن لهذا النجم أن يرتطم بأرضنا؟ فيتردى في وادي الأوهام (لقد ارتعد الأمريكان يومًا من نجم مذنب ظهر في السماء حتى هجر الكثيرون مساكنهم أثناء ساعات الليل).

نعم! رغم أن حاجات الإنسان تمتد إلى ما لا نهاية له من الأشياء، فرأس ماله في حُكم المعدوم. ورغم أنه معرَّض إلى ما لانهاية له من المصائب فاقتداره كذلك في حكم لا شئ، إذ إن مدى دائرتي رأس ماله واقتداره بقدر ما تصل إليه يده، بينما دوائر آماله ورغائبه وآلامه وبلاياه واسعة سعة مد البصر والخيال.

فما أحوج روح البشر العاجزة الـضعيفة الفقيرة إلى حقائق العبادة والتوكل، وإلى التوحيد والاستسلام! وما أعظم ما ينال منها من ربح وسعادة ونعمة! فمن لم يفقد بصره كليًا يرى ذلك ويدركه. إذ من المعلوم أن الطريق غير الـضار يُرجَّح على الطريق الـضار حتى لو كان النفع فيه احتمالًا واحدًا من عشرة احتمالات. علمًا أن مسألتنا هذه، طريق العبادة، فمع كونه عديم الـضرر، واحتمال نفعه تسعة من عشرة، فإنه يعطينا كنزًا للسعادة الأبدية، بينما طريق الفسق والسفاهة – باعتراف الفاسق نفسه – فمع كونه عديم النفع فإنه سبب الشقاء والهلاك الأبديين، مع يقين للخسران وانعدام الخير بنسبة تسعة من عشرة… وهذا الأمر ثابت بشهادة ما لا يحصى من (أهل الاختصاص والإثبات) بدرجة التواتر والاجماع. وهو يقين جازم في ضوء أخبار أهل الذوق والكشف.

نحصل من هذا: أن سعادة الدنيا أيضًا -كالآخرة- هي في العبادة وفي الجندية الخالصة لله.

فعلينا إذن أن نردد دائمًا: الحمد لله على الطاعة والتوفيق وأن نشكره سبحانه وتعالى على أننا مسلمون.

 

الكلمة الثانية

الكلمة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

إن كنت تريد أن تعرف مدى ما في الإيمان من سعادة ونعمة، ومدى ما فيه من لذة وراحة، فاستمع إلى هذه الحكاية القصيرة:

خرج رجلان في سياحة ذات يوم، من أجل الاستجمام والتجارة. فمضى أحدهما وكان أنانيًا شقيًا إلى جهة، ومضى الآخر وهو رباني سعيد إلى جهة ثانية.

فالأناني المغرور الذي كان متشائمًا لقي بلدًا في غاية السوء والشؤم في نظره، جزاءًا وفاقًا على تشاؤمه، حتى إنه كان يرى -أينما اتجه- عجزةً مساكين يصرخون ويولولون من ضربات أيدي رجال طغاة قساة ومن أعمالهم المدمّرة. فرأى هذه الحالة المؤلمة الحزينة في كل ما يزوره من أماكن، حتى اتخذت المملكة كلها في نظره شكل دار مأتم عام. فلم يجد لنفسه علاجًا لحاله المؤلم المظلم غير السُكر، فرمى نفسه في نشوته لكيلا يشعر بحاله، إذ صار كل واحد من أهل هذه المملكة يتراءى له عدوًا يتربص به، واجنبيًا يتنكر له، فظل في عذاب وجداني مؤلم لما يرى فيما حوله من جنائز مرعبة ويتامى يبكون بكاءًا يائسًا مريرًا.

أمّا الآخر الرجل الربّاني العابد لله، والباحث عن الحق، فقد كان ذا أخلاق حسنة بحيث لقي في رحلته مملكة طيّبة هي في نظره في منتهى الروعة والجمال.

فهذا الرجل الصالح يرى في المملكة التي دخلها احتفالات رائعة ومهرجانات بارعة قائمة على قدم وساق. وفي كل طرف سـرورًا، وفي كل زاويـة حبـورًا، وفي كل مكان محاريب ذكر. حتى لقد صار يرى كل فرد من أفراد هذه المملكة صديقًا صدوقًا وقريبًا حبيبًا له. ثم يرى أن المملكة كلها تعلن -في حفل التسريح العام- هتافات الفرح بصيحة مصحوبة بكلمات الشكر والثناء. ويسمع فيهم أيضًا أصوات الجوقة الموسيقية وهي تقدم ألحانها الحماسية مقترنة بالتكبيرات العالية والتهليلات الحارة بسعادة واعتزاز للذين يساقون إلى الخدمة والجندية.

فبينما كان ذلك الرجل الأول المتشائم منشغلًا بألمه وآلام الناس كلهم.. كان الثاني السعيد المتفائل مسرورًا مع سرور الناس كلهم فرحًا مع فرحهم. فضلًا عن أنه غنم لنفسه تجارة حسنة مباركة فشكر ربه وحمده.

ولدى عودته إلى أهله، يلقى ذلك الرجل فيسأل عنه، وعن أخباره، فيعلم كل شئ عن حاله فيقول له:

ــ «يا هذا لقد جننتَ! فإن ما في باطنك من الشؤم انعكس على ظاهرك بحيث أصبحتَ تتوهم أن كل ابتسامة صراخ ودموع، وأن كل تسريح وإجازة نهب وسلب. عُد إلى رشدك، وطهّر قلبك.. لعل هذا الغشاء النكد ينزاح عن عينيك. وعسى أن تبصر الحقيقة على وجهها الأبلج. فإن صاحب هذه المملكة ومالكها وهو في منتهى درجات العدل والمرحمة والربوبية والاقتدار والتنظيم المبدع والرفق.. وإن مملكة بمثل هذه الدرجة من الرقي والسمو مما تريك من آثار بأم عينيك… لا يمكن أن تكون بمثل ما تريه أوهامك من صور».

وبعد ذلك بدأ هذا الشقي يراجع نفسه ويرجع إلى صوابه رويدًا رويدًا، ويفكر بعقله ويقول متندمًا:

ــ نعم لقد اصابني جنون لكثرة تعاطي الخمر.. ليرضَ الله عنك؛ فلقد انقذتني من جحيم الشقاء.

فيا نفسي!

اعلمي أن الرجل الأول هو الكافر أو الفاسق الغافل فهذه الدنيا في نظره بمثابة مأتم عام، وجميع الأحيـاء أيتام يبكون تألمًا من ضــربات الزوال وصفعات الفراق..

أما الإنسان والحيوان فمخلوقات سائبة بلا راع ولا مالك، تتمزق بمخالب الأجل وتعتصر بمعصرته..

وأما الموجودات الضخام -كالجبال والبحار- فهي في حكم الجنائز الهامدة والنعوش الرهيبة..

وأمثال هذه الأوهام المدهشة المؤلمة الناشئة من كفر الإنسان وضلالته تذيق صاحبها عذابًا معنويًا مريرًا.

أما الرجل الثاني، فهو المؤمن الذي يعرف خالقه حق المعرفة ويؤمن به، فالدنيا في نظره دار ذكر رحماني، وساحة تعليم وتدريب البشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار الإنس والجان..

أما الوفيات كافة ـ من حيوان وإنسان – فهي اعفاء من الوظائف، وإنهاء من الخدمات، فالذين أنهوا وظائف حياتهم، يودّعون هذه الدار الفانية وهم مسرورون معنويًا، حيث إنهم ينقلون إلى عالم آخر غير ذي قلق، خال من اوضار المادة واوصاب الزمان والمكان وصروف الدهر وطوارق الحدثان، لينفسح المجال واسعًا لموظفين جدد يأتون للسعي في مهامهم..

أما المواليد كافة -من حيوان وإنسان- فهي سَوقة تجنيد عسكرية، وتسلُّم سلاح، وتسنّم وظائف وواجبات، فكل كائن إنما هو موظف وجندي مسرور، ومأمور مستقيم راضٍ قانع.. .

وأما الاصوات المنبعثة والاصداء المرتدة من أرجاء الدنيا فهي إما ذكر وتسبيح لتسنم الوظائف والشروع فيها، أو شكر وتهليل إيذانًا بالانتهاء منها، أو أنغام صادرة من شوق العمل وفرحته..

فالموجودات كلها -في نظر هذا المؤمن- خدام مؤنسون، وموظفون أخلاّء، وكتبٌ حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم.. وهكذا يتجلى من إيمانه كثير جدًا من أمثال هذه الحقائق التي هي في غاية اللطف والسمو واللذة والذوق.

فالإيمان إذن يضم حقًا بذرة معنوية منشقة من طوبى الجنة..

أما الكفر فإنه يخفي بذرة معنوية قد نفثته زقوم جهنم.

فالسلامة والأمان إذن لا وجود لهما إلاّ في الإسلام والإيمان.

فعلينا أن نردد دائمًا:

الحمد لله على دين الاسلام وكمال الإيمان..

 

الكلمة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد

وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أيها الأخ!

لقد سألتني بعض النصائح، فها أنذا أسدي إليك بضع حقائق ضمن ثماني حكايات قصيرة، فاستمع إليها مع نفسي التي أراها أحوج ما تكون إلى النصيحة، وسأوردها لك بأمثلة عسكرية لكونك جنديًا، فلقد خاطبتُ بها نفسي يومًا خطابًا مسهبًا، في ثماني (كلمات) أفدتها من ثماني آيات كريمات، اذكرها الآن لنفسي ذكرًا مقتضبًا، وبلسان العوام، فمن يجد في نفسه الرغبة فليُلق السمع معنا.

الكلمة الأولى

«بسم الله» رأس كل خير وبدء كل أمر ذي بال، فنحن أيضًا نستهل بها.

فيا نفسي إعلمي! ان هذه الكلمة الطيبة المباركة كما أنها شعار الإسلام، فهي ذكر جميع الموجودات بألسنة أحوالها.

فإن كنت راغبة في إدراك مدى ما في ((بسم الله)) من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة:

إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابدّ له أن ينتمي إلى رئيس قبيلة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتدارك حاجاته، وإلاّ فسيبقى وحده حائرًا مضطربًا أمام كثرة من الأعداء، ولا حد لها من الحاجات.

وهكذا.. فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان أحدهما متواضعًا، والآخر مغرورًا، فالمتواضع انتسب إلى رئيس، بينما المغرور رفض الانتساب. فتجولا في هذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له: ((إنني اتجول باسم ذلك الرئيس)).. فيتخلى عنه الشقي. أما المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسوّل مستديم، فأذلّ نفسه وأهانها.

فيا نفسي المغرورة! اعلمي!.. إنك أنتِ ذلك السائح البدوي. وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وإن ((فقرك)) و ((عجزك)) لاحد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما. فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجي من ذُلّ التسول أمام الكائنات، ومهانة الخوف أمام الحادثات.

نعم! إن هذه الكلمة الطيبة ((بسم الله)) كنز عظيم لا يفنى أبدًا، إذ بها يرتبط((فقرك)) برحمة واسعة مطلقة أوسع من الكائنات، ويتعلق ((عجزك)) بقدرة عظيمة مطلقة تمسك زمام الوجود من الذرات إلى المجرات، حتى انه يصبح كل من عجزك وفقرك شفيعين مقبولين لدى القدير الرحيم ذي الجلال.

ان الذي يتحرك ويسكن ويصبح ويمسي بهذه الكلمة ((بسم الله)) كمن انخرط في الجندية؛ يتصرف باسم الدولة ولا يخاف أحدًا، حيث انه يتكلم باسم القانون وباسم الدولة، فينجز الاعمال ويثبت امام كل شئ.

وقد ذكرنا في البداية: ان جميع الموجودات تذكر بلسان حالها اسم الله، اي انها تقول: ((بسم الله)).. أهو كذلك؟

نعم! فكما لو رأيت ان أحدًا يسوق الناس إلى صعيد واحد، ويرغمهم على القيام بأعمال مختلفة، فانك تتيقن ان هذا الشخص لا يمثل نفسه ولا يسوق الناس باسمه وبقوته، وانما هو جندي يتصرف باسم الدولة، ويستند إلى قوة سلطان.

فالموجودات أيضًا تؤدي وظائفها باسم الله؛ فالبذيرات المتناهية في الصغرتحمل فوق رؤوسها باسم الله اشجارًا ضخمة واثقالًا هائلة. أي ان كل شجرة تقول: ((بسم الله)) وتملأ ايديها بثمرات من خزينة الرحمة الإلهية وتقدمها إلينا.. وكل بستان يقول: ((بسم الله)) فيغدو مطبخًا للقدرة الإلهية تنضج فيه انواع من الاطعمة اللذيذة.. وكل حيوان من الحيوانات ذات البركة والنفع ـ كالابل والمعزى والبقر ـ يقول: ((بسم الله)) فيصبح ينبوعًا دفاقًا للّبن السائغ، فيقدم إلينا باسم الرزاق ألطف مغذّ وانظفه.. وجذور كل نبات وعشب تقول ((بسم الله)) وتشق الصخور الصلدة باسم الله وتثقبها بشعيراتها الحريرية الرقيقة فيُسخَّر أمامها باسم الله وباسم الرحمن كل أمر صعب وكل شئ صلد!.

نعم، ان انتشار الاغصان في الهواء وحملها للأثمار، وتشعب الجذور في الصخور الصماء، وخزنها للغذاء في ظلمات التراب.. وكذا تحمّل الاوراق الخضراء شدة الحرارة ولفحاتها، وبقاءها طرية ندية.. كل ذلك وغيره صفعة قوية على افواه الماديين عَبَدة الاسباب، وصرخة مدوية في وجوههم، تقول لهم: ان ما تتباهون به من صلابة وحرارة أيضًا لا تعملان بنفسيهما، بل تـؤديان وظائفـهما بأمر آمر واحد، بحيث يجعل تلك العروق الدقيقة الرقيقة كــأنها عصا موســى تشق الصخـور وتمتثـل أمر ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ (البقرة:60) ويجعل تلك الاوراق الطرية الندية كأنها اعضاء ابراهيم عليه السلام تقرأ تجاه لفحة الحرارة: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا….﴾  (الانبياء:69).

فما دام كل شئ في الوجود يقول معنىً ((بسم الله)) ويجلب نِعَم الله باسم الله ويقدمّها إلينا، فعلينا أن نقول أيضًا ((بسم الله)) ونعطي باسم الله ونأخذ باسم الله. وعلينا أيضًا ان نردّ أيدي الغافلين الذين لم يعطوا باسم الله.

سؤال: إننا نبدي احترامًا وتوقيرًا لمن يكون سببًا لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منا ربنُّا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟

الجواب: إن ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة أمور ثمنًا لتلك النعم الغالية:

الأول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر..

فـ ((بسم الله)) بدءًا هي ذكرٌ، و((الحمد لله)) ختامًا هي شكرٌ، وما يتوسطهما هو ((فكر)) أي التأمل في هذه النعم البديعة، والإدراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصمد وهدايا رحمته الواسعة… فهذا التأمل هو الفكر.

ولكن أليس الذي يقبّل أقدام الجندي الخادم الذي يقدّم هدية السلطان يرتكب حماقة فظيعة وبلاهة مشينة؟ إذن فما بال مَن يُثني على الأسباب المادية الجالبة للنعم، ويخصصها بالحب والود، دون المنعم الحقيقي! ألا يكون مقترفًا بلاهة أشد منها ألف مرة؟

فيا نفس!! إن كنت تأبين أن تكوني مثل الأحمق الأبله،

فاعطي باسم الله..

وخذي باسم الله..

وابدأي باسم الله..

واعملي باسم الله..

والسـلام.

(حاشية) وضع الأستاذ المؤلف ((المقام الثاني من اللمعة الرابعة عشرة)) عقب هذه الكلمة الأولى، لمناسبة المقام حبث يضم ستة من اسرار ((بسم الله الرحمن الرحيم)). وسيجده القارئ الكريم في موضعه من كتاب ((اللمعات)) فليراجع . ـ المترجم .