ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺸﺮﻭﻥ

   ﻭﻫﻲ ﻣﻘﺎﻣﺎﻥ

   ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍلأﻭﻝ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:34)

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:67)

﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:74)

    ﻛﻨﺖ ﺃﺗﻠﻮ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻳﻮﻣﺎ، ﻓﻮﺭﺩ ﺇﻟﻬﺎﻡ ﻣﻦ ﻓﻴﺾ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻓﻲ ﻧﻜﺎﺕ ﺛـلاﺙ ﻟﻴﺼﺪّ ﺇﻟﻘﺎﺀﺍﺕ ﺇﺑﻠﻴﺲ!. ﻭﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺸﺒﻬﺔ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻫﻲ:

ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﻜﻢ ﺗﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻥّ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻣﻌﺠِﺰ، ﻭﻓﻲ ﺫﺭﻭﺓ ﺍﻟﺒـلاﻏﺔ، ﻭﺇِﻧّﻪ ﻫﺪﻯً ﻟﻠﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻭﻗﺖ ﻭﺁﻥ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺎﺫﺍ ﻳﻌﻨﻲ ﺫﻛﺮ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻭﺳﺮﺩﻫﺎ ﺳﺮﺩﺍ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺎ ﻭﺍﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﺗﻜﺮﺍﺭﻫﺎ؟ ﻭﻣﺎ ﺍﻟﺪﺍﻋﻲ ﺇﻟﻰ ﺫﻛﺮ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻛﺬﺑﺢ ﺑﻘﺮﺓٍ ﺿﻤﻦ ﻫﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﺍلأﻭﺻﺎﻑ، ﺣﺘﻰ ﺗﺴﻤّﺖ ﺍﻟﺴﻮﺭﺓ ﺑﺎﺳﻢ «ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ»؟. ﺛﻢ ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻳﺮﺷﺪ ﺃﺭﺑﺎﺏ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝ ﻋﺎﻣﺔ ﻭﻳﺬﻛﺮ ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﻣﻮﺍﺿﻌﻪ «ﺃﻓـلا ﻳﻌﻘﻠﻮﻥ» ﺃﻱ ﻳﺤﻴﻞ ﺍلأﻣﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻓﻲ ﺣﻴﻦ ﺃﻥّ ﺣﺎﺩﺛﺔَ ﺳﺠﻮﺩ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ لآﺩﻡ ﺃﻣﺮ ﻏﻴﺒﻲ ﻣﺤﺾ لا ﻳﺠﺪ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﻴـلا، ﺇلا ﺑﺎﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﺃﻭ ﺍلإﺫﻋﺎﻥ ﺑﻌﺪ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﺍﻟﻘﻮﻱ ﺍﻟﺮﺍﺳﺦ.. ﺛﻢ ﺃﻳﻦ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﻬﺪﺍﻳﺔ ﻓﻲ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺣﺎلاﺕ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﺗﺤﺪﺙ ﻣﺼﺎﺩﻓﺔً ﻟـلأﺣﺠﺎﺭ ﻭﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻭﺇﺿﻔﺎﺀ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ؟

    ﻭﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻨُﻜَﺖ ﺍﻟﻤﻠﻬَﻤﺔ ﻫﻲ ﺍلآﺗﻴﺔ: 

   ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ

    ﺇﻥّ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﺣﻮﺍﺩﺙَ ﺟﺰﺋﻴﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﻭﺭﺍﺀَ ﻛﻞ ﺣﺎﺩﺙ ﻳﻜﻤﻦ ﺩﺳﺘﻮﺭ ﻛﻠﻲ ﻋﻈﻴﻢ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺗﺬﻛﺮ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ لأﻧّﻬﺎ ﻃﺮﻑ ﻣﻦ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﻋﺎﻡ ﺷﺎﻣﻞ ﻛﻠﻲ ﻭﺟﺰﺀ ﻣﻨﻪ.

ﻓﺎلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:31) ﺗﺒﻴّﻦ ﺃﻥّ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﻣﻌﺠﺰﺓ ﻣﻦ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺁﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ، ﺇﻇﻬﺎﺭﺍ لاﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻩ ﻟﻠﺨـلاﻓﺔ. ﻭﻫﻲ ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﺇلا ﺃﻧَﻬﺎ ﻃﺮﻑ ﻟﺪﺳﺘﻮﺭ ﻛﻠﻲ ﻫﻮ: ﺃﻥّ ﺗﻌﻠﻴﻢ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ -ﺍﻟﻤﺎﻟﻚ لاﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺟﺎﻣﻊ- ﻋﻠﻮﻣﺎ ﻛﺜﻴﺮﺓ لا ﺗﺤﺪ، ﻭﻓﻨﻮﻧﺎ ﻛﺜﻴﺮﺓ لا ﺗﺤﺼﻰ ﺣﺘﻰ ﺗﺴﺘﻐﺮﻕ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺗﻌﻠﻴﻤﻪ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺷﺆﻭﻧﻪ ﺍﻟﺤﻜﻴﻤﺔ.. ﺇﻥّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻫّﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥَ ﻟﻴﻨﺎﻝ ﺃﻓﻀﻠﻴﺔ، ﻟﻴﺲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺣﺪﻫﻢ، ﺑﻞ ﺃﻳﻀﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺠﺒﺎﻝ، ﻓﻲ ﺣﻤﻞ ﺍلأﻣﺎﻧﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ.

ﻭﺇﺫ ﻳﺬﻛﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥُ ﺧـلاﻓﺔَ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺭﺽ ﺧـلاﻓﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ، ﻳﺒﻴﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﺃﻥّ ﻓﻲ ﺳﺠﻮﺩ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ لآﺩﻡ ﻭﻋﺪﻡ ﺳﺠﻮﺩ ﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﻟﻪ -ﻭﻫﻲ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻏﻴﺒﻴﺔ- ﻃﺮﻓﺎ ﻟﺪﺳﺘﻮﺭٍ ﻣﺸﻬﻮﺩ ﻛﻠﻲ ﻭﺍﺳﻊ ﺟﺪﺍ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻳﺒﻴﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻫﻲ ﺃﻥّ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﺬﻛﺮﻩ ﻃﺎﻋﺔ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻧﻘﻴﺎﺩﻫﻢ ﻟﺸﺨﺺ ﺁﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻭﺗﻜﺒُّﺮَ ﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﻭﺍﻣﺘﻨﺎﻋﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﺠﻮﺩ، ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻔﻬّﻢ ﺃﻥّ ﺃﻏﻠﺐَ ﺍلأﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻟﻠﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻭﻣﻤﺜﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﻮﻛّﻠﻴﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻣﺴﺨﺮﺓ ﻛﻠُّﻬﺎ ﻭﻣﻬﻴّﺄﺓ لإﻓﺎﺩﺓ ﺟﻤﻴﻊ ﺣﻮﺍﺱ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻓﺎﺩﺓ ﺗﺎﻣﺔ، ﻭﻫﻲ ﻣﻨﻘﺎﺩﺓ ﻟﻪ.. ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻔﺴﺪ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻔﻄﺮﻱ ﻭﻳﺴﻮﻗﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻴﺌﺎﺕ ﻭﺇﻟﻰ ﺍﻟﻀـلاﻝ ﻫﻲ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺍﻟﺸﺮﻳﺮﺓ ﻭﻣﻤﺜـلاﺗﻬﺎ ﻭﺳﻜﻨﺘﻬﺎ ﺍﻟﺨﺒﻴﺜﺔ، ﻣﻤﺎ ﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﺃﻋﺪﺍﺀً ﺭﻫﻴﺒﻴﻦ، ﻭﻋﻮﺍﺋﻖ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻖ ﺻﻌﻮﺩ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﻤﺎلاﺕ.

ﻭﺇﺫ ﻳﺪﻳﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺤﺎﻭﺭﺓ ﻣﻊ ﺁﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻭﻫﻮ ﻓﺮﺩ ﻭﺍﺣﺪ ﺿﻤﻦ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ، ﻓﺈﻧّﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻳﺪﻳﺮ ﻣﺤﺎﻭﺭﺓ ﺳﺎﻣﻴﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺑﺮﻣﺘﻬﺎ ﻭﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻗﺎﻃﺒﺔ.

   ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

    ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥّ ﺃﺭﺍﺿﻲ ﻣﺼﺮ ﺟﺮﺩﺍﺀ ﻗﺎﺣﻠﺔ، ﺇﺫ ﻫﻲ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺤﺮﺍﺀ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ، ﺇلا ﺃﻧﻬﺎ ﺗﺪﺭّ ﻣﺤﺎﺻﻴﻞ ﻭﻓﻴﺮﺓ ﺑﺒﺮﻛﺔ ﻧﻬﺮ ﺍﻟﻨﻴﻞ، ﺣﺘﻰ ﻏﺪﺕ ﻛﺄﻧّﻬﺎ ﻣﺰﺭﻋﺔ ﺗﺠﻮﺩ ﺑﻮﻓﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺎﺻﻴﻞ؛ ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥّ ﻭﺟﻮﺩ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﺍﻟﻮﺍﺭﻓﺔ ﺑﺠﻨﺐ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﺤﺮﺍﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﻄﻴﺮ ﻧﺎﺭﺍ، ﺟﻌﻞ ﺍﻟﺰﺭﺍﻋﺔَ ﻭﺍﻟﻔـلاﺣﺔ ﻣﺮﻏﻮﺑﺔً ﻓﻴﻬﺎ ﻟﺪﻯ ﺃﻫﻞ ﻣﺼﺮ ﺣﺘﻰ ﺗﻮﻏﻠﺖ ﻓﻲ ﻃﺒﺎﺋﻌﻬﻢ. ﺑﻞ ﺃﺿﻔﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﻏﺒﺔُ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺰﺭﺍﻋﺔ ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﻮ ﻭﺍﻟﻘﺪﺳﻴﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﺿﻔﺖ ﺑﺪﻭﺭﻫﺎ ﻗﺪﺳﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﻭﺍﺳﻄﺔ ﺍﻟﺰﺭﺍﻋﺔ ﻣﻦ ﺛﻮﺭ ﻭﺑﻘﺮ، ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻎ ﺍلأﻣﺮ ﺃﻥْ ﻣَﻨﺢ ﺃﻫﻞُ ﻣﺼﺮ -ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ- ﻗﺪﺳﻴﺔً ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺒﻘﺮ ﻭﺍﻟﺜﻮﺭ ﺇﻟﻰ ﺣﺪِّ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ، ﻭﻗﺪ ﺗﺮﻋﺮﻉ ﺑﻨﻮ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﺃﺣﻀﺎﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺒﻴﺌﺔ ﻭﺍلأﺟﻮﺍﺀ ﻓﺄﺧﺬﻭﺍ ﻣﻦ ﻃﺒﺎﺋﻌﻬﻢ ﺣﻈﺎ، ﻛﻤﺎ ﻳُﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﺣﺎﺩﺛﺔ «ﺍﻟﻌﺠﻞ» ﺍﻟﻤﻌﺮﻭﻓﺔ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳﻌﻠّﻤﻨﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﺬﺑﺢ ﺑﻘﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺃﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ، ﻗﺪ ﺫَﺑﺢ ﺑﺮﺳﺎﻟﺘﻪ ﻣﻔﻬﻮﻡَ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﺒﻘﺮ، ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﺳﺮﻯ ﻓﻲ ﻋﺮﻭﻕ ﺗﻠﻚ ﺍلأﻣﺔ، ﻭﺗﻨﺎﻣﻰ ﻓﻲ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺗﻬﻢ.

ﻓﺎﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺇﻧّﻤﺎ ﻳﺒﻴﻦ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺑﻴﺎﻧﺎ ﻣﻌﺠﺰﺍ، ﺩﺳﺘﻮﺭﺍ ﻛﻠﻴﺎ، ﻭﺩﺭﺳﺎ ﺿﺮﻭﺭﻳﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻳﺤﺘﺎﺟﻪ ﻛﻞّ ﺃﺣﺪ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻭﻗﺖ.

ﻓﺎﻓﻬﻢ -ﻗﻴﺎﺳﺎ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ-: ﺃﻥّ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ، ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﺗﺎﺭﻳﺨﻴﺔ، ﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻲ ﻃﺮﻑ ﻭﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﻛﻠﻴﺔ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻳﻨﺒﺊ ﻋﻨﻬﺎ، ﺣﺘﻰ ﺇﻥّ ﻛﻞ ﺟﻤﻠﺔ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻤﻞ ﺍﻟﺴﺒﻊ ﻟﻘﺼﺔ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﺍﻟﻤﻜﺮﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺗﺘﻀﻤﻦ ﺩﺳﺘﻮﺭﺍ ﻛﻠﻴﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ، ﻛﻤﺎ ﺑﻴّﻨﺎ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻨﺎ «ﺍﻟﻠﻮﺍﻣﻊ» ﺭﺍﺟﻌﻪ ﺇﻥ ﺷﺌْﺖَ.

   ﺍﻟﻨﻜﺘﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

    ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:74).

ﻋﻨﺪ ﻗﺮﺍﺀﺗﻲ ﻟﻬﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺒﻴﻨﺎﺕ، ﻗﺎﻝ ﺍﻟﻤﻮَﺳﻮﺱ: ﻣﺎﺫﺍ ﻳﻌﻨﻲ ﺫﻛﺮ ﺣﺎلاﺕ ﻃﺒﻴﻌﻴﺔ ﻭﻓﻄﺮﻳﺔ ﻟـلأﺣﺠﺎﺭ ﺍلاﻋﺘﻴﺎﺩﻳﺔ ﻭﺑﻴﺎﻧُﻬﺎ ﻛﺄﻧّﻬﺎ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻣﻊ ﺃﻧّﻬﺎ ﻣﻌﻠﻮﻣﺔ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻨﺎﺱ؟ ﻭﻣﺎ ﻭﺟﻪُ ﺍﻟﻌـلاﻗﺔ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻭﺍﻟﺴﺒﺐ؟ ﻭﻫﻞ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﺩﺍﻉٍ ﺃﻭ ﺣﺎﺟﺔ ﺇﻟﻴﻬﺎ؟

ﻓﺄﻟﻬﻢ ﻗﻠﺒﻲ ﺍلإﻟﻬﺎﻡ ﺍلآﺗﻲ ﻣﻦ ﻓﻴﺾ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻟﺼﺪّ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺒﻬﺔ: ﻧﻌﻢ، ﻫﻨﺎﻙ ﻋـلاﻗﺔ ﻭﺳﺒﺐ، ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺩﺍﻉٍ ﻭﺣﺎﺟﺔ، ﺑﻞ ﺍﻟﻌـلاﻗﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺟﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ ﻭﻋﻈﻴﻤﺔ ﺑﺤﻴﺚ لا ﻳﺘﻴﺴﺮ ﺇلا لإﻋﺠﺎﺯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭﺇﻳﺠﺎﺯﻩ ﻭﻟﻄﻒ ﺇﺭﺷﺎﺩﻩ ﺃﻥ ﻳﺴﻬّﻠﻬﺎ ﻭﻳﻴﺴّﺮﻫﺎ ﻟﻠﻔﻬﻢ.

ﺇﻥّ ﺍلإﻳﺠﺎﺯ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺃﺳﺎﺱ ﻣﻬﻢ ﻣﻦ ﺃﺳﺲ ﺍلإﻋﺠﺎﺯ، ﻭﻛﺬﺍ ﻟﻄﻒ ﺍلإﺭﺷﺎﺩ ﻭﺣﺴﻦ ﺍلإﻓﻬﺎﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻧﻮﺭ ﻣﻦ ﻫﺪﻱ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻳﻘﺘﻀﻴﺎﻥ ﺃﻥ ﺗُﺒﻴَّﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖُ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮُ ﺍﻟﻐﺎﻣﻀﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ، ﻓﻲ ﺻﻮﺭ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻣﺄﻟﻮﻓﺔ ﻟﻠﻌﻮﺍﻡ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺜﻠﻮﻥ ﻣﻌﻈﻢ ﻣﺨﺎﻃﺒﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﺃﻥ لا ﺗﺒﻴّﻦ لأﻭﻟﺌﻚ ﺍﻟﺒﺴﻄﺎﺀ ﻓﻲ ﺗﻔﻜﻴﺮﻫﻢ ﺇلا ﻃﺮﻑ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻤﻌﻈﻤﺔ ﻭﺻﻮﺭ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻣﻨﻬﺎ.. ﺯِﺩ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ: ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﺗﺒﻴّﻦ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﺘﺪﺍﺑﻴﺮ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺗﺤﺖ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺧﻮﺍﺭﻕ ﺍﻟﻌﺎﺩﺍﺕ ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺴﺘﺮﺕ ﺑﺴﺘﺎﺭ ﺍﻟﻌﺎﺩﺓ ﻭﺍلإﻟﻔﺔ، ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻣﺠﻤﻠﺔ.

ﻓﺒﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ، ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ: ﻳﺎ ﺑَﻨﻰ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﻭﻳﺎ ﺑَﻨﻰ ﺁﺩﻡ! ﻣﺎﺫﺍ ﺩﻫﺎﻛﻢ ﺣﺘﻰ ﻏﻠﻈﺖ ﻗﻠﻮﺑُﻜﻢ ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ ﺃﺻﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺠﺮ ﻭﺃﻗﺴﻰ ﻣﻨﻬﺎ! ﺃلا ﺗﺮﻭﻥ ﺃﻥّ ﺃﺻﻠﺐ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻭﺃﺻﻤَّﻬﺎ، ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺸﻜِّﻞ ﻃﺒﻘﺔً ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻣﻦ ﺍلأﺣﺠﺎﺭ ﺍﻟﺼﻠﺪﺓ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ، ﻣﻄﻴﻌﺔً ﻟـلأﻭﺍﻣﺮ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻃﺎﻋﺔ ﺗﺎﻣﺔ، ﻭﻣﻨﻘﺎﺩﺓ ﺇﻟﻰ ﺍلإﺟﺮﺍﺀﺍﺕ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺍﻧﻘﻴﺎﺩﺍ ﻛﺎﻣـلا. ﻓﻜﻤﺎ ﺗﺠﺮﻱ ﺍلأﻭﺍﻣﺮ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻓﻲ ﺗﻜﻮﻳﻦ ﺍلأﺷﺠﺎﺭ ﻭﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ، ﺗﺠﺮﻱ ﻋﻠﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺍﻟﺼَّﻤﺎﺀ ﺍﻟﺼَّﻠﺪﺓ ﺗﺤﺖ ﺍلأﺭﺽ ﺑﺎﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻭﺑﺎﻧﺘﻈﺎﻡ ﻛﺎﻣﻞ. ﺣﺘﻰ ﺇﻥّ ﺟﺪﺍﻭﻝ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻭﻋﺮﻭﻗﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺍلأﺭﺽ ﺗﺠﺮﻱ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎﻡ ﻛﺎﻣﻞ ﻭﺑﺤﻜﻤﺔ ﺗﺎﻣﺔ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﺠﺪ ﻋﺎﺋﻘﺎ ﺃﻭ ﻣﻘﺎﻭﻣﺔ ﺗُﺬﻛﺮ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ، ﻓﻴﻨﺴﺎﺏ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﺎﻧﺴﻴﺎﺏ ﺍﻟﺪﻡ ﻭﺟﺮﻳﺎﻧﻪ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻌﺮﻭﻕ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﻣﻘﺎﻭﻣﺔ ﺃﻭ ﺻﺪﻭﺩ.(حاشية) ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺣﺠﺮ ﺍﻟﺰﺍﻭﻳﺔ ﻟﻘﺼﺮ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻤﻬﻴﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭ، ﻫﻮ ﻃﺒﻘﺔ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ، ﻓﻘﺪ ﺃﻭﻛﻞ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺛـلاﺙ ﻭﻇﺎﺋﻒ ﻣﻬﻤﺔ، ﻭﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺣﺪﻩ ﺍﻟﻘﻤﻴﻦ ﺑﺄﻥ ﻳﺒﻴﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ، لا ﻏﻴﺮﻩ.

 ﻓﻮﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﺍلأﻭﻟﻰ: ﻭﻇﻴﻔﺔ ﻣﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﻓﻲ ﺣﺠﺮﻫﺎ ﺑﺎﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ، ﻭﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺑﺪﻭﺭﻩ ﻳﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍلأﻣﻮﻣﺔ ﻟﻠﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﺑﺎﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ.. ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺟﺮﻳﺎﻧﺎ ﻣﻨﺘﻈﻤﺎ ﻓﻲ ﺟﺴﻢ ﺍلأﺭﺽ، ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺸﺒﻪ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺍﻟﺪﻡ ﻭﺩﻭﺭﺍﻧﻪ ﻓﻲ ﺟﺴﻢ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ.. ﺍﻟﻮﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ: ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﺨﺰﺍﻥ ﻟـلأﻧﻬﺎﺭ ﻭﺍﻟﻌﻴﻮﻥ ﻭﺍﻟﻴﻨﺎﺑﻴﻊ، ﺳﻮﺍﺀ ﻓﻲ ﻇﻬﻮﺭﻫﺎ ﺃﻭ ﺍﺳﺘﻤﺮﺍﺭﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻭﻓﻖ ﻣﻴﺰﺍﻥ ﺩﻗﻴﻖ ﻣﻨﺘﻈﻢ.

 ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺑﻜﺎﻣﻞ ﻗﻮﺗﻬﺎ ﻭﺑﻤﻞﺀ ﻓﻤﻬﺎ ﺑﻤﺎ ﺗﺴﻜﺐ ﻣﻦ ﺃﻓﻮﺍﻫﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺎﺀ ﺑﺎﻋﺚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺗﻨﺸﺮ ﺩلاﺋﻞ ﺍﻟﻮﺣﺪﺍﻧﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺗﺴﻄﺮﻫﺎ ﻓﻮﻗﻬﺎ. (ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ)

ﺛﻢ ﺇﻥّ ﺍﻟﺠﺬﻭﺭ ﺍﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ﺗﻨﺒﺖ ﻭﺗﺘﻮﻏﻞ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺑﺄﻣﺮ ﺭﺑﺎﻧﻲ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺗﺤﺖ ﺍلأﺭﺽ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﻒ ﺃﻣﺎﻣﻬﺎ ﺣﺎﺋﻞ ﺃﻭ ﻣﺎﻧﻊ، ﻓﺘﻨﺘﺸﺮ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻛﺴﻬﻮﻟﺔ ﺍﻧﺘﺸﺎﺭ ﺃﻏﺼﺎﻥ ﺍلأﺷﺠﺎﺭ ﻭﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀ.

ﻓﺎﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻳﺸﻴﺮ ﺑﻬﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺇﻟﻰ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻭﺍﺳﻌﺔ ﺟﺪﺍ، ﻭﻳﺮﺷﺪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﺨﺎﻃﺒﺎ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﺍﻟﻘﺎﺳﻴﺔ ﻣﺮﻣﺰﺍ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺤﻮ ﺍلآﺗﻲ:

ﻳﺎ ﺑَﻨﻲ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﻭﻳﺎ ﺑَﻨﻲ ﺁﺩﻡ! ﻣﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻤﻠﻮﻧﻬﺎ ﻭﺃﻧﺘﻢ ﻏﺎﺭﻗﻮﻥ ﻓﻲ ﻓﻘﺮﻛﻢ ﻭﻋﺠﺰﻛﻢ! ﺇﻧّﻬﺎ ﺗﻘﺎﻭﻡ ﺑﻐﻠﻈﺔ ﻭﺑﻘﺴﺎﻭﺓ ﺃﻭﺍﻣﺮ ﻣﻮﻟﻰً ﺟﻠﻴﻞ ﻋﻈﻴﻢ، ﺗﻨﻘﺎﺩ ﻟﻪ ﻃﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺍﻟﺼَّﻠﺪﺓ ﺍﻟﻬﺎﺋﻠﺔ، ﻭلا ﺗﻌﺼﻲ ﻟﻪ ﺃﻣﺮﺍ، ﺑﻞ ﺗﺆﺩِّﻱ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻓﻲ ﻃﺎﻋﺔ ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻭﺍﻧﻘﻴﺎﺩ ﺗﺎﻡ؛ ﻭﻫﻲ ﻣﻐﻤﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﻇﻠﻤﺎﺕ ﺍلأﺭﺽ. ﺑﻞ ﺗﻘﻮﻡ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺑﻮﻇﻴﻔﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻮﺩﻉ ﻭﺍﻟﻤﺨﺰﻥ ﻟﻤﺘﻄﻠﺒﺎﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻟـلأﺣﻴﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺪﺑﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺗﺮﺍﺏ ﺍلأﺭﺽ. ﺣﺘﻰ ﺇﻧّﻬﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻴﻨﺔ ﻃﺮﻳﺔ ﻓﻲ ﻳﺪ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍﻟﺤﻜﻴﻤﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ، ﻃﺮﺍﻭﺓ ﺷﻤﻊ ﺍﻟﻌﺴﻞ، ﻓﺘﻜﻮﻥ ﻭﺳﺎﺋﻞ ﻟﺘﻘﺴﻴﻤﺎﺕ ﺗﺘﻢ ﺑﻌﺪﺍﻟﺔ، ﻭﺗﻜﻮﻥ ﻭﺳﺎﺋﻂ ﻟﺘﻮﺯﻳﻌﺎﺕ ﺗﻨﺘﻬﻲ ﺑﺤﻜﻤﺔ، ﺑﻞ ﺗﻜﻮﻥ ﺭﻗﻴﻘﺔ ﺭﻗﺔَ ﻫﻮﺍﺀ ﺍﻟﻨﺴﻴﻢ، ﻧﻌﻢ، ﺇﻧّﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﺠﺪﺓ ﺩﺍﺋﻤﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻈﻤﺔ ﻗﺪﺭﺗﻪ ﺟﻞ ﺟـلاﻟﻪ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻤﺔ ﺍﻟﻤﺘﻘﻨﺔ ﺍﻟﻤﺎﺛﻠﺔ ﺃﻣﺎﻣﻨﺎ ﻓﻮﻕ ﺍلأﺭﺽ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﺪﺍﺑﻴﺮ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍﻟﺠﺎﺭﻳﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻫﻲ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﻌﻴﻨﻬﺎ ﺗﺠﺮﻱ ﺗﺤﺖ ﺍلأﺭﺽ ﺑﻞ ﺗﺘﺠﻠﻰ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺑﺄﻋﺠﺐَ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﻜﻤﺔً ﻭﺃﻏﺮﺏ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻧﺘﻈﺎﻣﺎ.

ﺗﺄﻣّﻠﻮﺍ ﺟﻴﺪﺍ! ﺇﻥّ ﺃﺻﻠﺐ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻭﺃﺿﺨﻤﻬﺎ ﻭﺃﺻﻤّﻬﺎ ﺗﻠﻴﻦ ﻟﻴﻮﻧﺔَ ﺍﻟﺸﻤﻊ ﺗﺠﺎﻩ ﺍلأﻭﺍﻣﺮ ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻨﻴﺔ، ﻭلا ﺗﺒﺪﻱ ﺃﻳﺔ ﻣﻘﺎﻭﻣﺔ ﺃﻭ ﻗﺴﺎﻭﺓ ﺗُﺬﻛﺮ ﺗﺠﺎﻩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻮﻇﻔﺎﺕ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺃﻱ ﺍﻟﻤﻴﺎﻩ ﺍﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﻟﺠﺬﻭﺭ ﺍﻟﺪﻗﻴﻘﺔ ﻭﺍﻟﻌﺮﻭﻕ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﻟﻄﺎﻓﺔ ﺍﻟﺤﺮﻳﺮ، ﺣﺘﻰ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻋﺎﺷﻖ ﻳﺸﻖ ﻗﻠﺒَﻪ ﺑﻤﺲٍّ ﻣﻦ ﺃﻧﺎﻣﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺎﺕ ﻭﺍﻟﺠﻤﻴـلاﺕ، ﻓﺘﺘﺤﻮﻝ ﺗﺮﺍﺑﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﻬﻦ..

ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻭﺇﻥَّ ﻣﻨﻬﺎ ﻟَﻤَﺎ ﻳﻬﺒﻂ ﻣﻦ ﺧﺸﻴﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﻴّﻦ ﻃﺮﻓﺎ ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺟﺪﺍ ﻫﻲ: ﺃﻥّ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﻠﻰ ﺳﻄﺢ ﺍلأﺭﺽ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺠﻤّﺪﺕ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﻣﺎﺋﻌﺔ ﻭﺳﺎﺋﻠﺔ. ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ ﻛﺘـلا ﺿﺨﻤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺍﻟﺼَّﻠﺪﺓ، ﺗﺘﻔﺘﺖ ﻭﺗﺘﺼﺪﻉ، ﺑﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺟـلاﻟﻴﺔ، ﺗﺘﺠﻠﻰ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺯلاﺯﻝ ﻭﺍﻧﻘـلاﺑﺎﺕ ﺃﺭﺿﻴﺔ، ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﻨﺎﺛﺮ ﻭﺃﺻﺒﺢ ﺩﻛﺎ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺠﻠّﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺮﺏ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﻲ ﻃﻠﺐ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﺭﺅﻳﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻞّ ﺟـلاﻟﻪ.

ﻓﺘﻠﻚ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺗﻬﺒﻂ ﻣﻦ ﺫُﺭﻯ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ، ﻣﻦ ﺧﺸﻴﺔ ﻇﻬﻮﺭ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺟـلاﻟﻴﺔ ﻭﺭﻫﺒﺔ ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺘﺘﻨﺎﺛﺮ ﺃﺟﺰﺍﺅﻫﺎ. ﻓﻘﺴﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺗﺮﺍﺑﺎ ﺗﻨﺸﺄ ﻓﻴﻪ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ.. ﻭﻗﺴﻢ ﺁﺧﺮ ﻳﺒﻘﻰ ﻋﻠﻰ ﻫﻴﺌَﺔ ﺻﺨﻮﺭ ﺗﺘﺪﺣﺮﺝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺩﻳﺎﻥ ﻭﺗﻜﺘﺴﺢ ﺍﻟﺴﻬﻮﻝ ﻓﻴﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﺃﻫﻞ ﺍلأﺭﺽ ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍلأﻣﻮﺭ ﺍﻟﻨﺎﻓﻌﺔ -ﻛﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﻤﺴﺎﻛﻦ ﻣﺜـلا- ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺃﻣﻮﺭٍ ﻭﺣﻜﻢ ﻣﺨﻔﻴﺔ ﻭﻣﻨﺎﻓﻊ ﺷﺘﻰ، ﻓﻬﻲ ﻓﻲ ﺳﺠﺪﺓ ﻭﻃﺎﻋﺔ ﻟﻠﻘﺪﺭﺓ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻧﻘﻴﺎﺩ ﺗﺎﻡ ﻟﺪﺳﺎﺗﻴﺮ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ.

ﻓـلا ﺭﻳﺐ ﺃﻥّ ﺗﺮﻙ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻟﻤﻮﺍﺿﻌﻬﺎ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻣﻦ ﺧﺸﻴﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻫﺎ ﺍلأﻣﺎﻛﻦ ﺍﻟﻮﺍﻃﺌﺔ ﻓﻲ ﺗﻮﺍﺿﻊ ﺟﻢ، ﻣﺴﺒﺒﺔ ﻣﻨﺎﻓﻊ ﺟﻠﻴﻠﺔ ﺷﺘﻰ، ﺃﻣﺮ لا ﻳﺤﺪﺙ ﻋﺒﺜﺎ ﻭلا ﺳﺪﻯً ﻭﻫﻮ ﻟﻴﺲ ﻣﺼﺎﺩﻓﺔ ﻋﻤﻴﺎﺀ ﺃﻳﻀﺎ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺗﺪﺑﻴﺮ ﺭﺏ ﻗﺪﻳﺮ ﺣﻜﻴﻢ ﻳُﺤﺪﺛﻪ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﺣﻜﻤﺔ ﻭﺇﻥ ﺑَﺪﺍ ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺍلأﻣﺮ.

ﻭﺍﻟﺪﻟﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ، ﺍﻟﻔﻮﺍﺋﺪ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻓﻊ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺠﻨﻰ ﻣﻦ ﺗﻔﺘﺖ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﻭﻳﺸﻬﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﺷﻬﺎﺩﺓ لا ﺭﻳﺐ ﻓﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﺣﺴﻦ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﻟﻠﺤُﻠﻞ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺨﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﺪﺣﺮﺝ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﺗﺰﺩﺍﻥ ﺑﺎلأﺯﺍﻫﻴﺮ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﻭﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻭﺍﻟﻨﻘﻮﺵ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺭﺃﻳﺘﻢ ﻛﻴﻒ ﺃﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺜـلاﺙ ﻟﻬﺎ ﺃﻫﻤﻴﺘُﻬﺎ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ.

ﻭﺍلآﻥ ﺗﺪﺑﺮﻭﺍ ﻓﻲ ﻟﻄﺎﻓﺔ ﺑﻴﺎﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﻓﻲ ﺇﻋﺠﺎﺯ ﺑـلاﻏﺘﻪ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ، ﻛﻴﻒ ﻳﺒﻴﻦ ﻃﺮﻓﺎ ﻭﺟﺰﺀﺍ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺜـلاﺙ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ، ﻭﻫﻲ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺟﻠﻴﻠﺔ ﻭﻭﺍﺳﻌﺔ ﺟﺪﺍ، ﻳﺒﻴﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺛـلاﺙ ﻓﻘﺮﺍﺕ ﻭﻓﻲ ﺛـلاﺙ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﻣﺸﻬﻮﺭﺓ ﻣﺸﻬﻮﺩﺓ، ﻭﻳﻨﺒﻪ ﺇﻟﻰ ﺛـلاﺙ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﺃﺧﺮﻯ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﺪﺍﺭ ﻋﺒﺮﺓ لأﻭﻟﻰ ﺍلأﻟﺒﺎﺏ ﻭﻳﺰﺟﺮﻫﻢ ﺯﺟﺮﺍ لا ﻳﻘﺎﻭﻡ.

ﻓﻤﺜـلا: ﻳﺸﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻘﺮﺓ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺼﺨﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﻧﺸﻘَّﺖ ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﺗﺤﺖ ﺿﺮﺏ ﻋﺼﺎ ﻣﻮﺳﻰ ﻓﺎﻧﺒﺠﺴﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﺍﺛﻨﺘﺎ ﻋَﺸْﺮﺓَ ﻋﻴﻨﺎ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ ﻳﻮﺭﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺬﻫﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﻭﻳﻘﻮﻝ: ﻳﺎ ﺑَﻨﻲ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ! ﺇﻥّ ﺍﻟﺼﺨﻮﺭ ﺍﻟﻀﺨﻤﺔ ﺗﺘﺸﺘﺖ ﻭﺗﺘﺸﻘﻖ ﻭﺗﻠﻴﻦ ﺗﺠﺎﻩ ﻣﻌﺠﺰﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻭﺗﺬﺭﻑ ﺍﻟﺪﻣﻮﻉَ ﻛﺎﻟﺴﻴﻞ ﻣﻦ ﺧﺸﻴﺘﻬﺎ ﺃﻭ ﻣﻦ ﺳﺮﻭﺭﻫﺎ، ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺘﻤﺮﺩﻭﻥ ﺗﺠﺎﻩ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻛﻠِّﻬﺎ، ﻭلا ﺗﺪﻣﻊ ﺃﻋﻴﻨﻜﻢ ﺑﻞ ﺗﺠﻤُﺪ ﻭﺗﻐﻠﻆ ﻗﻠﻮﺑُﻜﻢ ﻭﺗﻘﺴﻮ.

ﻭﻳﺬﻛّﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻘﺮﺓ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺣﺪﺛﺖ ﻓﻲ ﻃﻮﺭ ﺳﻴﻨﺎﺀ، ﺃﺛﻨﺎﺀ ﻣﻨﺎﺟﺎﺓ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ. ﺗﻠﻚ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﺠﻠّﻲِ ﺍلإﻟﻬﻲ ﺍلأﻋﻈﻢ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﻭﺟﻌﻠﻪ ﺩﻛّﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﻔﺘﺖَ ﻭﺗﻨﺎﺛﺮ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺟﺎﺀ ﻣﻦ ﺧﺸﻴﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻭﻳُﺮﺷﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﻬﺬﺍ: ﻳﺎ ﻗﻮﻡ ﻣﻮﺳﻰ -ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ- ﻛﻴﻒ لا ﺗﺘﻘﻮﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻭلا ﺗﺨﺸﻮﻧﻪ، ﻓﺎﻟﺠﺒﺎﻝ ﺍﻟﺸﺎﻫﻘﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺻﺨﻮﺭ ﺻﻠﺪﺓ ﺗﺘﺼﺪﻉ ﻣﻦ ﺧﺸﻴﺘﻪ ﻭﺗﺘﺒﻌﺜﺮ، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺮﻭﻥ ﺃﻧّﻪ ﻗﺪ ﺃﺧﺬ ﺍﻟﻤﻴﺜﺎﻕَ ﻣﻨﻜﻢ ﺑﺮﻓﻊ ﺟﺒﻞ ﺍﻟﻄﻮﺭ ﻓﻮﻗﻜﻢ، ﻣﻊ ﻣﺸﺎﻫﺪﺗﻜﻢ ﻭﻋﻠﻤِﻜﻢ ﺗﺸﻘﻖَ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﻓﻲ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﺮﺅﻳﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ، ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺠﺮﺃﻭﻥ ﻭلا ﺗﺮﺗﻌﺪ ﻓﺮﺍﺋﺼُﻜﻢ ﻣﻦ ﺧﺸﻴﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﺑﻞ ﺗﻐﻠﻆ ﻗﻠﻮﺑُﻜﻢ؟.

ﻭﻳﺬﻛّﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻘﺮﺓ ﺍلأﻭﻟﻰ: ﴿وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ﴾ ﻣﺸﻴﺮﺍ ﺇﻟﻰ ﺃﻧﻬﺎﺭ ﻛﺎﻟﻨﻴﻞ ﻭﺩﺟﻠﺔ ﻭﺍﻟﻔﺮﺍﺕ ﺍﻟﻨﺎﺑﻌﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﻭﻳﻌﻠِّﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺪﻯ ﻧﻴﻞ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺣﺠﺎﺭ ﻟﻠﻄﺎﻋﺔ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ ﻭﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ ﺍﻟﺨﺎﺭﻕ ﺗﺠﺎﻩ ﺍلأﻭﺍﻣﺮ ﺍﻟﺘﻜﻮﻳﻨﻴﺔ ﻭﻣﺪﻯ ﻛﻮﻧِﻬﺎ ﻣﺴﺨّﺮﺓ ﻟﻬﺎ. ﻓﻴﻮﺭﺙ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻢ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏَ ﺍﻟﻤﺘﻴﻘﻈﺔ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ:

ﺇﻧّﻪ لا ﻳﻤﻜﻦ ﻗﻄﻌﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﺍﻟﻀﺨﻤﺔ ﻣﻨﺎﺑﻊَ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ ﻟﻤﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ لأﻧّﻪ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ ﺑﺤﺠﻤﻬﺎ ﺍﻟﻜﺎﻣﻞ ﻣﻤﻠﻮﺀﺓً ﺑﺎﻟﻤﺎﺀ، ﺃﻱ ﻟﻮ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﺃﺣﻮﺍﺿﺎ ﻣﺨﺮﻭﻃﻴﺔ ﻟﺘﻠﻚ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ، ﻓﺈﻧّﻬﺎ لا ﺗﻜﻔﻲ ﻟﺼﺮﻓﻴﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﺇلا ﻟﺒﻀﻌﺔ ﺷﻬﻮﺭ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺴﻴﺮﻫﺎ ﺍﻟﺴﺮﻳﻊ ﻭﺟﺮﻳﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ. ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺃﻥّ ﺍلأﻣﻄﺎﺭ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﻨﻔﺬ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ لأﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺘﺮ، لا ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻳﻀﺎ ﻭﺍﺭﺩﺍﺕ ﻛﺎﻓﻴﺔ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﺼﺮﻓﻴﺎﺕ ﺍﻟﻬﺎﺋﻠﺔ.

ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥّ ﺗﻔﺠّﺮ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﻟﻴﺲ ﺃﻣﺮﺍ ﺍﻋﺘﻴﺎﺩﻳﺎ ﻃﺒﻴﻌﻴﺎ، ﺃﻭ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ، ﺑﻞ ﺇﻥّ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻳُﺴﻴّﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﻭﺣﺪَﻫﺎ، ﻭﻳﺠﺮﻳﻬﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﺮﻳﺎﻧﺎ ﺧﺎﺭﻗﺎ. ﻭﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺃﻓﺎﺩﺕ ﺭﻭﺍﻳﺔُ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ: ﺃﻥّ ﻛُـلا ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ ﺗﻘﻄﺮُ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻛﻞ ﻭﻗﺖ ﻗﻄﺮﺍﺕ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻨﺔ، ﻟﺬﺍ ﺃﺻﺒﺤﺖ ﻣﺒﺎﺭﻛﺔ. ﻭﻓﻲ ﺭﻭﺍﻳﺔ: ﺇﻥّ ﻣﻨﺎﺑﻊ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻨﺔ. ﻭﺣﻘﻴﻘﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺔ ﻫﻲ:

ﺇﻥّ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ لا ﺗﻜﻔﻲ ﻟﺘﻔﺠّﺮ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﻭﺗﺪﻓّﻘﻬﺎ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﻜﺜﺮﺓ، ﻓـلاﺑﺪ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻣﻨﺎﺑﻌُﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﻏﻴﺐ، ﻭﺃﻧّﻬﺎ ﺗﺮِﺩ ﻣﻦ ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺭﺣﻤﺔ ﻏﻴﺒﻴﺔ، ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﺗﺘﻮﺍﺯﻥ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺍﺕ ﻭﺍﻟﺼﺮﻓﻴﺎﺕ ﻭﺗﺪﻭﻡ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳﻌﻠّﻢ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺩﺭﺳﺎ ﺑﻠﻴﻐﺎ ﻭﻳﻨﺒّﻪ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ:

ﻳﺎ ﺑَﻨﻲ ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ ﻭﻳﺎ ﺑَﻨﻲ ﺁﺩﻡ  ﺇﻧّﻜﻢ ﺑﻘﺴﺎﻭﺓ ﻗﻠﻮﺑﻜﻢ ﺗﻌﺼﻮﻥ ﺃﻭﺍﻣﺮ ﺭﺏٍّ ﺟﻠﻴﻞ، ﻭﺑﻐﻔﻠﺘﻜﻢ ﻋﻨﻪ ﺗﻐﻤﻀﻮﻥ ﻋﻴﻮﻧَﻜﻢ ﻋﻦ ﻧﻮﺭ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺍﻟﻤﺼﻮِّﺭ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﻮّﻝ ﺃﺭﺽَ ﻣﺼﺮ ﺇﻟﻰ ﺟﻨﺔ ﻭﺍﺭﻓﺔ ﺍﻟﻈـلاﻝ ﻭﺃﺟﺮﻯ ﺍﻟﻨﻴﻞ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﻙ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﻣﻦ ﺃﻓﻮﺍﻩ ﺃﺣﺠﺎﺭ ﺻﻠﺪﺓ ﺑﺴﻴﻄﺔ ﻣُﻈﻬﺮﺍ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﻗﺪﺭﺗﻪ ﻭﺷﻮﺍﻫﺪ ﻭﺣﺪﺍﻧﻴﺘﻪ ﻗﻮﻳﺔ ﺑﻘﻮﺓ ﺗﻠﻚ ﺍلأﻧﻬﺎﺭ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻭﻧﻴّﺮﺓ ﺑﺸﺪﺓ ﻇﻬﻮﺭﻫﺎ ﻭﺇﻓﺎﺿﺎﺗﻬﺎ. ﻓﻴﻀﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﻮﺍﻫﺪ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻭﻳﺴﻠّﻤﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺩﻣﺎﻍ ﺍلأﺭﺽ، ﻭﻳﺴﻴّﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻗﻠﻮﺏ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ ﻭﻓﻲ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ.

ﺛﻢ ﺇﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﺠﻌﻞ ﺻﺨﻮﺭﺍ ﺟﺎﻣﺪﺓ لا ﺗﻤﻠﻚ ﺷﻌﻮﺭﺍ ﻗﻂ (حاشية) ﻳﻨﺒﻊ ﻧﻬﺮ ﺍﻟﻨﻴﻞ ﻣﻦ ﺟﺒﻞ ﺍﻟﻘﻤﺮ، ﻭﻳﻨﺒﻊ ﺃﻫﻢ ﺭﺍﻓﺪ ﻟﺪﺟﻠﺔ ﻣﻦ ﻛﻬﻒ ﺻﺨﺮﺓ ﻓﻲ ﻧﺎﺣﻴﺔ «ﻣﻜﺲ» ﺍﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻤﺤﺎﻓﻈﺔ «ﻭﺍﻥ» ﻭﺇﻥ ﺃﻋﻈﻢ ﺭﺍﻓﺪ ﻟﻨﻬﺮ ﺍﻟﻔﺮﺍﺕ ﻳﻨﺒﻊ ﻣﻦ ﺳﻔﺢ ﺟﺒﻞ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ «ﺩﻳﺎﺩﻳﻦ». ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﺻﻞ ﺍﻟﺠﺒﺎﻝ -ﺣﻘﻴﻘﺔ- ﻣﺘﻜﻮﻧﺔ ﻣﻦ ﻣﺎﺩﺓ ﻣﺎﺋﻌﺔ ﺗﺠﻤﺪﺕ ﺃﺣﺠﺎﺭﺍ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺛﺎﺑﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ، ﻭﻛﻤﺎ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺬﻛﺮ ﺍﻟﻨﺒﻮﻱ ﻓﻲ: «ﺳﺒﺤﺎﻥ ﻣﻦ ﺑﺴﻂ ﺍلأﺭﺽ ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺀ ﺟَﻤَﺪْ» ﻣﻤﺎ ﻳﺪﻝ ﺩلاﻟﺔ ﻗﺎﻃﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﺻﻞ ﺧﻠﻖ ﺍلأﺭﺽ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍلآﺗﻲ: ﺇﻥ ﻣﺎﺩﺓ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﺎﻟﻤﺎﺀ ﻗﺪ ﺍﻧﺠﻤﺪﺕ ﺑﺎلأﻣﺮ ﺍلإﻟﻬﻲ ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ ﺣﺠﺮﺍ، ﻭﺍﻟﺤﺠﺮُ ﺃﺻﺒﺢ ﺗﺮﺍﺑﺎ ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ، ﺇﺫ ﻟﻔﻆ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺬﻛﺮ ﻳﻌﻨﻲ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺎﺀ (ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﺎﺋﻌﺔ) ﻟﻴﻦ ﻟﻄﻴﻒ ﺟﺪﺍ ﺑﺤﻴﺚ لا ﻳﻤﻜﻦ ﺍﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﺷﻲﺀ ﻋﻠﻴﻪ. ﻭﺍﻟﺤﺠﺮ ﺑﺬﺍﺗﻪ ﺻﻠﺐ ﺟﺪﺍ لا ﻳﻤﻜﻦ ﺍلاﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻨﻪ، ﻟﺬﺍ ﻧﺸﺮ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﻓﻮﻕ ﺍﻟﺤﺠﺮ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﻣﺴﺘﻘﺮﺍ ﻟﺬﻭﻱ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ.  ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ. ﺗﻨﺎﻝ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﻗﺪﺭﺗﻪ ﺣﺘﻰ ﺇﻧّﻬﺎ ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻛﺪلاﻟﺔ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﻤﺲ. ﻓﻜﻴﻒ لا ﺗﺮﻭﻥ ﻭﺗﻌﻤﻰ ﺃﺑﺼﺎﺭﻛﻢ ﻋﻦ ﺭﺅﻳﺔ ﻧﻮﺭ ﻣﻌﺮﻓﺘﻪ ﺟﻞ ﺟـلاﻟﻪ؟

ﻓﺎﻧﻈﺮ! ﻛﻴﻒ ﻟَﺒِﺴَﺖْ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺜـلاﺙ ﺣﻠﻞ ﺍﻟﺒـلاﻏﺔ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ، ﻭﺩﻗِّﻖ ﺍﻟﻨﻈﺮَ ﻓﻲ ﺑـلاﻏﺔ ﺍلإﺭﺷﺎﺩ ﻟﺘﺮﻯ ﻣﺪﻯ ﺍﻟﻘﺴﺎﻭﺓ ﻭﺍﻟﻐﻠﻈﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻠﻚ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭلا ﺗﻨﺴﺤﻖ ﺧﺸﻴﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﺫﻟﻚ ﺍلإﺭﺷﺎﺩ ﺍﻟﺒﻠﻴﻎ.

ﻓﺈﻥ ﻛﻨﺖ ﻗﺪ ﻓﻬﻤﺖ ﻣﻦ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺇﻟﻰ ﻧﻬﺎﻳﺘﻬﺎ، ﻓﺸﺎﻫﺪ ﻟﻤﻌﺔَ ﺇﻋﺠﺎﺯ ﺃﺳﻠﻮﺏ ﺍلإﺭﺷﺎﺩ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻲ ﻭﺍﺷﻜﺮ ﺭﺑﻚ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻋﻠﻴﻪ.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

 ﺍَﻟﻠّﻬﻢَّ ﻓَﻬِّﻤْﻨَﺎ ﺃﺳْﺮَﺍﺭَ ﺍﻟْﻘُﺮﺁﻥِ ﻛَﻤَﺎ ﺗُﺤِﺐُّ ﻭَﺗَﺮْﺿَﻰ ﻭَﻭَﻓِّﻘْﻨَﺎ ﻟِﺨِﺪْﻣَﺘِﻪِ.. ﺁﻣِﻴﻦَ ﺑِﺮَﺣْﻤَﺘِﻚَ ﻳَﺎ ﺍَﺭْﺣَﻢَ ﺍﻟﺮَّﺍﺣِﻤِﻴﻦَ.

 ﺍَﻟﻠّﻬﻢَّ ﺻَﻞِّ ﻭَﺳَﻠِّﻢْ ﻋَﻠَﻰ ﻣَﻦ ﺃﻧﺰِﻝَ ﻋَﻠَﻴﻪِ ﺍﻟْﻘُﺮﺁﻥُ ﺍﻟْﺤَﻜِﻴﻢ ﻭَﻋَﻠَﻰ ﺁﻟِﻪِ ﻭَﺻَﺤْﺒِﻪِ ﺃﺟْﻤَﻌِﻴﻦَ.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ

   ﺗﺨﺺ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺍلأﺣﻤﺪﻳﺔ

   ﻭﻣﺎ ﻣﺪﺣﺖُ ﻣﺤﻤﺪﺍ ﺑﻤﻘﺎﻟﺘﻲ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺪﺣﺖُ ﻣﻘﺎﻟﺘﻲ ﺑﻤﺤﻤﺪ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﻭﺍﻟﺴـلاﻡ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ، ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺸﻤﺎﺋﻞ ﺍﻟﻤﺤﻤﺪﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﻮﻕ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺟﻤّﻠﺘﻬﺎ.

 ﺗﺘﻀﻤﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ (ﺍﻟﻠﻤﻌﺔُ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ) ﺃﺭﺑﻊَ ﻋﺸﺮﺓَ ﺭﺷﺤﺔ:

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ

ﺇﻥّ ﻣﺎ ﻳُﻌﺮِّﻑ ﻟﻨﺎ ﺭﺑَّﻨﺎ ﻫﻮ ﺛـلاﺛﺔ ﻣﻌﺮّﻓﻴﻦ ﺃﺩلاﺀ ﻋﻈﺎﻡ:

ﺃﻭﻟﻪ: ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﻜﻮﻥ، ﺍﻟﺬﻱ ﺳﻤﻌﻨﺎ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻦ ﺷﻬﺎﺩﺗﻪ ﻓﻲ ﺛـلاﺙَ ﻋﺸﺮﺓَ ﻟﻤﻌﺔ «ﻣﻦ ﻟﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﻤﺜﻨﻮﻱ ﺍﻟﻌﺮﺑﻲ ﺍﻟﻨﻮﺭﻱ».

ﺛﺎﻧﻴﻪ: ﻫﻮ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺗﻢ ﺩﻳﻮﺍﻥ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ صلى الله عليه وسلم.

ﺛﺎﻟﺜﻪ: ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ.

ﻓﻌﻠﻴﻨﺎ ﺍلآﻥ ﺃﻥ ﻧﻌﺮﻑ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒﺮﻫﺎﻥ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﺍﻟﻨﺎﻃﻖ، ﻭﻫﻮ ﺧﺎﺗﻢ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺳﻴﺪ ﺍﻟﻤﺮﺳﻠﻴﻦ صلى الله عليه وسلم ﻭﻧﻨﺼﺖ ﺇﻟﻴﻪ ﺧﺎﺷﻌﻴﻦ.

ﺍﻋﻠَﻢْ ﺃﻥّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﺮﻫﺎﻥ ﺍﻟﻨﺎﻃﻖ ﻟﻪ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ.

ﻓﺈﻥ ﻗﻠﺖَ: ﻣﺎ ﻫﻮ؟ ﻭﻣﺎ ﻣﺎﻫﻴﺘﻪ؟

ﻗﻴﻞ ﻟﻚ: ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻌﻈﻤﺘﻪ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﺻﺎﺭ ﺳﻄﺢُ ﺍلأﺭﺽ ﻣﺴﺠﺪَﻩ، ﻭﻣﻜﺔُ ﻣﺤﺮﺍﺑﻪ، ﻭﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻣﻨﺒﺮﻩ.. ﻭﻫﻮ ﺇﻣﺎﻡ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﻳﺄﺗﻤّﻮﻥ ﺑﻪ ﺻﺎﻓّﻴﻦ ﺧﻠﻔﻪ.. ﻭﺧﻄﻴﺐ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻳﺒﻴّﻦ ﻟﻬﻢ ﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺳﻌﺎﺩﺍﺗﻬﻢ.. ﻭﺭﺋﻴﺲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻳﺰﻛّﻴﻬﻢ ﻭﻳﺼﺪّﻗﻬﻢ ﺑﺠﺎﻣﻌﻴﺔ ﺩﻳﻨﻪ لأﺳﺎﺳﺎﺕ ﺃﺩﻳﺎﻧﻬﻢ.. ﻭﺳﻴﺪ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﻳُﺮﺷﺪﻫﻢ ﻭﻳُﺮﺑّﻴﻬﻢ ﺑﺸﻤﺲ ﺭﺳﺎﻟﺘﻪ.. ﻭﻗﻄﺐ ﻓﻲ ﻣﺮﻛﺰ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺣﻠﻘﺔِ ﺫﻛﺮٍ ﺗﺮﻛّﺒﺖ ﻣﻦ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﺧﻴﺎﺭ ﻭﺍﻟﺼﺪﻳﻘﻴﻦ ﻭﺍلأﺑﺮﺍﺭ ﺍﻟﻤﺘﻔﻘﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﻛﻠﻤﺘﻪ، ﺍﻟﻨﺎﻃﻘﻴﻦ ﺑﻬﺎ.. ﻭﺷﺠﺮﺓ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻋﺮﻭﻗُﻬﺎ ﺍﻟﺤﻴﻮﻳﺔ ﺍﻟﻤﺘﻴﻨﺔ ﻫﻲ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﺑﺄﺳﺎﺳﺎﺗﻬﻢ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ، ﻭﺃﻏﺼﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﺨَﻀِﺮﺓ ﺍﻟﻄﺮﻳﺔ ﻭﺛﻤﺮﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﺍﻟﻨﻴّﺮﺓ ﻫﻲ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﺑﻤﻌﺎﺭﻓﻬﻢ ﺍلإﻟﻬﺎﻣﻴﺔ. ﻓﻤﺎ ﻣﻦ ﺩﻋﻮﻯ ﻳﺪّﻋﻴﻬﺎ ﺇلا ﻭﻳﺸﻬﺪ ﻟﻪ ﺟﻤﻴﻊُ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻣﺴﺘﻨﺪﻳﻦ ﺑﻤﻌﺠﺰﺍﺗﻬﻢ، ﻭﺟﻤﻴﻊُ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﻣﺴﺘﻨﺪﻳﻦ ﺑﻜﺮﺍﻣﺎﺗﻬﻢ؛ ﻓﻜﺄﻥّ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺩﻋﻮﻯً ﻣﻦ ﺩﻋﺎﻭﻳﻪ ﺧﻮﺍﺗﻢَ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﻴﻦ، ﺇﺫ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺮﺍﻩ ﻗﺎﻝ: «لا ﺇﻟﻪ ﺇلا ﺍﻟﻠﻪ» ﻭﺍﺩّﻋﻰ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ، ﻓﺈﺫﺍ ﻧﺴﻤﻊ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﻔّﻴﻦ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﻴﻦ -ﺃﻱْ ﺷﻤﻮﺱ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻧﺠﻮﻣﻪ ﺍﻟﻘﺎﻋﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺬﻛﺮ- ﻋﻴﻦَ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ، ﻓﻴﻜﺮﺭﻭﻧﻬﺎ ﻭﻳﺘﻔﻘﻮﻥ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻣﻊ ﺍﺧﺘـلاﻑ ﻣﺴﺎﻟﻜﻬﻢ ﻭﺗﺒﺎﻳﻦ ﻣﺸﺎﺭﺑﻬﻢ. ﻓﻜﺄﻧّﻬﻢ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ ﺑﺎلإﺟﻤﺎﻉ: «ﺻﺪﻗﺖَ ﻭﺑﺎﻟﺤﻖ ﻧﻄﻘﺖ». ﻓﺄﻧَّﻰ ﻟﻮﻫﻢٍ ﺃﻥ ﻳَﻤﺪَّ ﻳﺪﻩ ﻟﺮﺩِّ ﺩﻋﻮﻯً ﺗﺄﻳّﺪﺕْ ﺑﺸﻬﺎﺩﺍﺕِ ﻣَﻦ لا ﻳُﺤَﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺎﻫﺪﻳﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺗﺰﻛّﻴﻬﻢ ﻣﻌﺠﺰﺍﺗُﻬﻢ ﻭﻛﺮﺍﻣﺎﺗُﻬﻢ.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

ﺍﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺒُﺮﻫﺎﻥ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﺩﻝَّ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ ﻭﺃﺭﺷﺪ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧّﻪ ﻳﺘﺄﻳﺪ ﺑﻘﻮﺓ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺟﻨﺎﺣَﻴﻪ ﻧﺒﻮﺓً ﻭﻭلاﻳﺔً ﻣﻦ ﺍلإﺟﻤﺎﻉ ﻭﺍﻟﺘﻮﺍﺗﺮ.. ﻛﺬﻟﻚ ﺗﺼﺪّﻗُﻪ ﻣﺌﺎﺕُ ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﻜﺘﺐ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ ﻣﻦ ﺑﺸﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻮﺭﺍﺓ ﻭﺍلإﻧﺠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺰﺑﻮﺭ ﻭﺯُﺑُﺮِ ﺍلأﻭﻟﻴﻦ.. (حاشية) ﻟﻘﺪ ﺍﺳﺘﺨﺮﺝ «ﺣﺴﻴﻦ ﺍﻟﺠﺴﺮ» ﻣﺎﺋﺔ ﻭﺃﺭﺑﻊ ﻋﺸﺮﺓ ﺑﺸﺎﺭﺓ ﻣﻦ ﺑﻄﻮﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻜﺘﺐ، ﻭﺿﻤﻨﻬﺎ ﻓﻲ  ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺍﻟﺤﻤﻴﺪﻳﺔ. ﻓﻠﺌﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺒﺸﺎﺭﺍﺕ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﻒ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺪ، ﻓـلاﺷﻚ ﺃﻥ ﺻﺮﺍﺣﺎﺕ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﻗﺒﻠﻪ. ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ. ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺗُﺼﺪِّﻗﻪ ﺭﻣﻮﺯ ﺃﻟﻮﻑ ﺍلإﺭﻫﺎﺻﺎﺕ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩﺓ، ﻭﻛﺬﺍ ﺗﺼﺪﻗﻪ ﺩلالاﺕ ﻣﻌﺠﺰﺍﺗﻪ ﻣﻦ ﺃﻣﺜﺎﻝ: ﺷﻖ ﺍﻟﻘﻤﺮ، ﻭﻧﺒﻌﺎﻥ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻣﻦ ﺍلأﺻﺎﺑﻊ ﻛﺎﻟﻜﻮﺛﺮ، ﻭﻣﺠﻲﺀ ﺍﻟﺸﺠﺮ ﺑﺪﻋﻮﺗﻪ، ﻭﻧﺰﻭﻝ ﺍﻟﻤﻄﺮ ﻓﻲ ﺁﻥ ﺩﻋﺎﺋﻪ، ﻭﺷﺒﻊ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﻃﻌﺎﻣﻪ ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ، ﻭﺗﻜﻠّﻢ ﺍﻟﻀﺐ ﻭﺍﻟﺬﺋﺐ ﻭﺍﻟﻈﺒﻲ ﻭﺍﻟﺠﻤﻞ ﻭﺍﻟﺤﺠﺮ… ﺇﻟﻰ ﺃﻟﻒٍ ﻣﻦ ﻣﻌﺠﺰﺍﺗﻪ ﻛﻤﺎ ﺑﻴّﻨﻬﺎ ﺍﻟﺮﻭﺍﺓ ﻭﺍﻟﻤﺤﺪﺛﻮﻥ ﺍﻟﻤﺤﻘﻘﻮﻥ.. ﻭﻛﺬﺍ ﺗﺼﺪﻗﻪ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﺔ ﻟﺴﻌﺎﺩﺍﺕ ﺍﻟﺪﺍﺭﻳﻦ.

ﻭﺍﻋﻠﻢْ ﺃﻧّﻪ ﻛﻤﺎ ﺗُﺼﺪِّﻗﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪلاﺋﻞ ﺍلآﻓﺎﻗﻴﺔ، ﻛﺬﻟﻚ ﻫﻮ ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺫﺍﺗﻪ ﺑﺬﺍﺗﻪ، ﻓﺘﺼﺪﻗّﻪ ﺍﻟﺪلاﺋﻞ ﺍلأﻧﻔﺴﻴﺔ؛ ﺇﺫ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺃﻋﺎﻟﻲ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺧـلاﻕ ﺍﻟﺤﻤﻴﺪﺓ ﻓﻲ ﺫﺍﺗﻪ ﺑﺎلاﺗﻔﺎﻕ.. ﻭﻛﺬﺍ ﺟﻤﻊُ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺃﻓﺎﺿﻞ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺴﺠﺎﻳﺎ ﺍﻟﻐﺎﻟﻴﺔ ﻭﺍﻟﺨﺼﺎﺋﻞ ﺍﻟﻨﺰﻳﻬﺔ.. ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﺓ ﺇﻳﻤﺎﻧﻪ ﺑﺸﻬﺎﺩﺓ ﻗﻮﺓ ﺯﻫﺪﻩ ﻭﻗﻮﺓ ﺗﻘﻮﺍﻩ ﻭﻗﻮﺓ ﻋﺒﻮﺩﻳﺘﻪ.. ﻭﻛﺬﺍ ﻛﻤﺎﻝ ﻭﺛﻮﻗﻪ ﺑﺸﻬﺎﺩﺓ ﺳﻴﺮﻩ، ﻭﻛﻤﺎﻝ ﺟﺪّﻳﺘﻪ ﻭﻛﻤﺎﻝ ﻣﺘﺎﻧﺘﻪ، ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﺓ ﺃﻣﻨﻴﺘﻪ ﻓﻲ ﺣﺮﻛﺎﺗﻪ ﺑﺸﻬﺎﺩﺓ ﻗﻮﺓ ﺍﻃﻤﺌﻨﺎﻧﻪ.. ﺗُﺼﺪِّﻗﻪ ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﺴﺎﻃﻌﺔ ﻓﻲ ﺩﻋﻮﻯ ﺗﻤﺴُّﻜﻪ ﺑﺎﻟﺤﻖ ﻭﺳﻠﻮﻛﻪ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

ﺍﻋﻠﻢ ﺃﻥّ ﻟﻠﻤﺤﻴﻂ ﺍﻟﺰﻣﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﻤﻜﺎﻧﻲ ﺗﺄﺛﻴﺮﺍ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﻣﺤﺎﻛﻤﺎﺕ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝ. ﻓﺈﻥ ﺷﺌﺖَ ﻓﺘﻌﺎﻝَ ﻧﺬﻫﺐْ ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﻭﻥ ﻭﻋﺼﺮ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ ﻟﻨﺤﻈﻰ ﺑﺰﻳﺎﺭﺗﻪ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ صلى الله عليه وسلم -ﻭﻟﻮ ﺑﺎﻟﺨﻴﺎﻝ- ﻭﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱ ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﻳﻌﻤﻞ. ﻓﺎﻓﺘﺢْ ﻋﻴﻨﻴﻚ ﻭﺍﻧﻈﺮ، ﻓﺈﻥّ ﺃﻭﻝَ ﻣﺎ ﻳﺘﻈﺎﻫﺮ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺔ: ﺷﺨﺺ ﺧﺎﺭﻕ، ﻟﻪ ﺣﺴﻦُ ﺻﻮﺭﺓ ﻓﺎﺋﻘﺔ، ﻓﻲ ﺣُﺴﻦ ﺳﻴﺮﺓ ﺭﺍﺋﻘﺔ. ﻓﻬﺎ ﻫﻮ ﺁﺧﺬ ﺑﻴﺪﻩ ﻛﺘﺎﺑﺎ ﻣﻌﺠِﺰﺍ ﻛﺮﻳﻤﺎ، ﻭﺑﻠﺴﺎﻧﻪ ﺧﻄﺎﺑﺎ ﻣﻮﺟﺰﺍ ﺣﻜﻴﻤﺎ، ﻳﺒﻠّﻎ ﺧﻄﺒﺔً ﺃﺯﻟﻴﺔً ﻭﻳﺘﻠﻮﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻴﻊ ﺑﻨﻲ ﺁﺩﻡ، ﺑﻞ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ، ﺑﻞ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ.

ﻓﻴﺎ ﻟﻠﻌﺠﺐ! ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻝ؟.. ﻧﻌﻢ، ﺇﻧّﻪ ﻳﻘﻮﻝ ﻋﻦ ﺃﻣﺮٍ ﺟﺴﻴﻢ، ﻭﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻧﺒﺄٍ ﻋﻈﻴﻢ، ﺇﺫ ﻳﺸﺮﺡ ﻭﻳﺤﻞ ﺍﻟﻠﻐﺰ ﺍﻟﻌﺠﻴﺐ ﻓﻲ ﺳﺮِّ ﺧِﻠْﻘﺔ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﻳﻔﺘﺢ ﻭﻳﻜﺸﻒ ﺍﻟﻄﻠﺴﻢ ﺍﻟﻤﻐﻠﻖ ﻓﻲ ﺳﺮِّ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ، ﻭﻳﻮﺿِّﺢ ﻭﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺍلأﺳﺌﻠﺔ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ ﺍﻟﻤﻌﻀﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺷَﻐﻠﺖ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝَ ﻭﺃﻭﻗﻌﺘﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺮﺓ، ﺇﺫ ﻫﻲ ﺍلأﺳﺌﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳَﺴﺄﻝ ﻋﻨﻬﺎ ﻛﻞُّ ﻣﻮﺟﻮﺩ. ﻭﻫﻲ: ﻣَﻦ ﺃﻧﺖَ؟ ﻭﻣِﻦ ﺃﻳﻦ؟ ﻭﺇﻟﻰ ﺃﻳﻦ؟.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ

ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﻛﻴﻒ ﻳﻨﺸﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺿﻴﺎﺀً ﻧﻮّﺍﺭﺍ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﺤﻖ ﻧﻮﺭﺍ ﻣﻀﻴﺌﺎ، ﺣﺘﻰ ﺻﻴَّﺮ ﻟﻴﻞَ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻧﻬﺎﺭﺍ ﻭﺷﺘﺎﺀﻩ ﺭﺑﻴﻌﺎ؛ ﻓﻜﺄﻥّ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺗﺒﺪَّﻝ ﺷﻜﻠُﻬﺎ ﻓﺼﺎﺭ ﺍﻟﻌﺎﻟَﻢ ﺿﺎﺣﻜﺎ ﻣﺴﺮﻭﺭﺍ ﺑﻌﺪﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻋﺒﻮﺳﺎ ﻗﻤﻄﺮﻳﺮﺍ.. ﻓﺈﺫﺍ ﻣﺎ ﻧﻈﺮﺕَ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺧﺎﺭﺝَ ﻧﻮﺭ ﺇﺭﺷﺎﺩﻩ؛ ﺗﺮﻯ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻣﺄﺗﻤﺎ ﻋﻤﻮﻣﻴﺎ، ﻭﺗﺮﻯ ﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺗﻬﺎ ﻛﺎلأﺟﺎﻧﺐ ﺍﻟﻐﺮﺑﺎﺀ ﻭﺍلأﻋﺪﺍﺀ، لا ﻳﻌﺮﻑ ﺑﻌﺾ ﺑﻌﻀﺎ، ﺑﻞ ﻳﻌﺎﺩﻳﻪ، ﻭﺗﺮﻯ ﺟﺎﻣﺪﺍﺗﻬﺎ ﺟﻨﺎﺋﺰ ﺩﻫّﺎﺷﺔ، ﻭﺗﺮﻯ ﺣﻴﻮﺍﻧﺎﺗﻬﺎ ﻭﺃﻧﺎﺳﻴّﻬﺎ ﺃﻳﺘﺎﻣﺎ ﺑﺎﻛﻴﻦ ﺗﺤﺖ ﺿﺮﺑﺎﺕ ﺍﻟﺰﻭﺍﻝ ﻭﺍﻟﻔﺮﺍﻕ.

ﻓﻬﺬﻩ ﻫﻲ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻋﻨﺪ ﻣَﻦ ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻧﻮﺭﻩ. ﻓﺎﻧﻈﺮ ﺍلآﻥ ﺑﻨﻮﺭﻩ، ﻭﺑﻤﺮﺻﺎﺩ ﺩﻳﻨﻪ، ﻭﻓﻲ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺷﺮﻳﻌﺘﻪ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ. ﻛﻴﻒ ﺗﺮﺍﻫﺎ؟.. ﻓﺎﻧﻈﺮ! ﻗﺪ ﺗﺒﺪّﻝ ﺷﻜﻞُ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻓﺘﺤﻮّﻝ ﺑﻴﺖُ ﺍﻟﻤﺄﺗﻢ ﺍﻟﻌﻤﻮﻣﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺠﺪٍ ﻟﻠﺬﻛﺮِ ﻭﺍﻟﻔﻜﺮ ﻭﻣﺠﻠﺲٍ ﻟﻠﺠﺬﺑﺔ ﻭﺍﻟﺸﻜﺮ، ﻭﺗﺤﻮّﻝ ﺍلأﻋﺪﺍﺀُ ﺍلأﺟﺎﻧﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺒﺎﺏٍ ﻭﺇﺧﻮﺍﻥٍ، ﻭﺗﺤﻮّﻝ ﻛﻞ ﻣﻦ ﺟﺎﻣﺪﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﻤﻴﺘﺔ ﺍﻟﺼﺎﻣﺘﺔ ﺣﺘﻰ ﻏﺪﺍ ﻛﻞّ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﺎﺋﻨﺎ ﺣﻴّﺎ ﻣﺆﻧﺴﺎ ﻣﺄﻣﻮﺭﺍ ﻣﺴﺨَّﺮﺍ ﺗﺎﻟﻴﺎ ﻟﺴﺎﻥُ ﺣﺎﻟﻪ ﺁﻳﺎﺕِ ﺧﺎﻟﻘﻪ، ﻭﺗﺤﻮّﻝ ﺫﻭﻭ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻨﻬﺎ (ﺍلأﻳﺘﺎﻡ ﺍﻟﺒﺎﻛﻮﻥ ﺍﻟﺸﺎﻛﻮﻥ) ﺫﺍﻛﺮﻳﻦ ﻓﻲ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗﻬﻢ، ﺷﺎﻛﺮﻳﻦ ﻟﺘﺴﺮﻳﺤﻬﻢ ﻋﻦ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﻢ.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ

ﻟﻘﺪ ﺗﺤﻮّﻟﺖ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺣﺮﻛﺎﺕُ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻭﺗﻨﻮﻋﺎﺗُﻬﺎ ﻭﺗﻐﻴﺮﺍﺗُﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺒﺜﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﻔﺎﻫﺔ ﻭﻣﻠﻌﺒﺔ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ ﺇﻟﻰ ﻣﻜﺎﺗﻴﺐ ﺭﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺻﺤﺎﺋﻒ ﺁﻳﺎﺕٍ ﺗﻜﻮﻳﻨﻴﺔ، ﻭﻣﺮﺍﻳﺎ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺇﻟﻬﻴﺔ. ﺣﺘﻰ ﺗﺮﻗّﻰ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢُ ﻭﺻﺎﺭ ﻛﺘﺎﺑﺎ ﻟﻠﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺼﻤﺪﺍﻧﻴﺔ.

ﻭﺍﻧﻈﺮْ ﺇﻟﻰ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻛﻴﻒ ﺗﺮﻗَّﻰ ﻣﻦ ﺣﻀﻴﺾ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮﻯ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻌﺠﺰﻩ ﻭﻓﻘﺮﻩ ﻭﺑﻌﻘﻠﻪ ﺍﻟﻨﺎﻗﻞ لأﺣﺰﺍﻥ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﻣﺨﺎﻭﻑ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻞ، ﺗﺮﻗّﻰ ﺇﻟﻰ ﺃﻭﺝ ﺍﻟﺨـلاﻓﺔ ﺑﺘﻨﻮّﺭ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻌﺠﺰ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ. ﻓﺎﻧﻈﺮْ ﻛﻴﻒ ﺻﺎﺭﺕْ ﺃﺳﺒﺎﺏُ ﺳﻘﻮﻃﻪ -ﻣﻦ ﻋﺠﺰ ﻭﻓﻘﺮ ﻭﻋﻘﻞ- ﺃﺳﺒﺎﺏَ ﺻﻌﻮﺩﻩ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﻨﻮّﺭﻫﺎ ﺑﻨﻮﺭ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ.

ﻓﻌﻠﻰ ﻫﺬﺍ، ﻟﻮ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻟﺴﻘﻄﺖ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕُ ﻭﺍلإﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﺍﻟﻌﺪﻡ؛ لا ﻗﻴﻤﺔ ﻭلا ﺃﻫﻤﻴﺔ ﻟﻬﺎ. ﻓﻴﻠﺰﻡ ﻟﻤﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻣﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﺨﺎﺭﻕ ﺍﻟﻔﺎﺋﻖ ﺍﻟﻤﻌﺮِّﻑ ﺍﻟﻤﺤﻘﻖ، ﻓﺈﺫﺍ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﺬﺍ ﻓـلا ﺗﻜﻦ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ، ﺇﺫ لا ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻨﺎ.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ

ﻓﺈﻥ ﻗﻠﺖ: ﻣَﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﺬﻱ ﻧﺮﺍﻩ ﻗﺪ ﺻﺎﺭ ﺷﻤﺴﺎ ﻟﻠﻜﻮﻥ، ﻛﺎﺷﻔﺎ ﺑﺪﻳﻨﻪ ﻋﻦ ﻛﻤﺎلاﺕ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ؟ ﻭﻣﺎ ﻳﻘﻮﻝ؟.

ﻗﻴﻞ ﻟﻚ: ﺍﻧﻈﺮ ﻭﺍﺳﺘﻤﻊْ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺎ ﻫﻮ ﻳُﺨﺒﺮ ﻋﻦ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﺃﺑﺪﻳﺔ ﻭﻳﺒﺸّﺮ ﺑﻬﺎ، ﻭﻳﻜﺸﻒ ﻋﻦ ﺭﺣﻤﺔ ﺑـلا ﻧﻬﺎﻳﺔ، ﻭﻳﻌﻠﻨﻬﺎ ﻭﻳﺪﻋﻮ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺇﻟﻴﻬﺎ. ﻭﻫﻮ ﺩلاﻝ ﻣﺤﺎﺳﻦ ﺳﻠﻄﻨﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻭﻧَﻈَّﺎﺭُﻫﺎ، ﻭﻛﺸّﺎﻑُ ﻣﺨﻔﻴّﺎﺕ ﻛﻨﻮﺯ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻭﻣﻌﺮِّﻓُﻬﺎ.

ﻓﺎﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ «ﺭﺳﺎﻟﺘﻪ»؛ ﺗَﺮﻩُ ﺑﺮﻫﺎﻥَ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺳﺮﺍﺝَ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻭﺷﻤﺲ ﺍﻟﻬﺪﺍﻳﺔ ﻭﻭﺳﻴﻠﺔ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ.

ﺛﻢ ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ ﺷﺨﺼﻴﺘﻪ «ﻋﺒﻮﺩﻳﺘﻪ»؛ ﺗَﺮَﻩُ ﻣﺜﺎﻝَ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺮﺣﻤﺎﻧﻴﺔ ﻭﺗﻤﺜﺎﻝَ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺷﺮﻑَ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺃﻧﻮﺭَ ﺃﺯﻫﺮِ ﺛﻤﺮﺍﺕ ﺷﺠﺮﺓ ﺍﻟﺨﻠﻘﺔ.

ﺛﻢ ﺍﻧﻈﺮ! ﻛﻴﻒ ﺃﺣﺎﻁ ﻧﻮﺭُﻩُ ﻭﺩﻳﻨُﻪ ﺑﺎﻟﺸﺮﻕ ﻭﺍﻟﻐﺮﺏ ﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﺍﻟﺒﺮﻕ ﺍﻟﺸﺎﺭﻕ، ﻭﻗﺪ ﻗَﺒِﻞ ﺑﺈﺫﻋﺎﻥ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻣﺎ ﻳﻘﺮُﺏ ﻣﻦ ﻧﺼﻒ ﺍلأﺭﺽ ﻭﻣﻦ ﺧُﻤﺲ ﺑﻨﻲ ﺁﺩﻡ ﻫﺪﻳﺔَ ﻫﺪﺍﻳﺘﻪ، ﺑﺤﻴﺚ ﺗُﻔﺪﻱ ﻟﻬﺎ ﺃﺭﻭﺍﺣَﻬﺎ. ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﻟﻠﻨﻔﺲ ﻭﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﻨﺎﻗﺸﺎ ﺑـلا ﻣﻐﺎﻟﻄﺔ ﻓﻲ ﻣﺪّﻋﻴﺎﺕ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ، لاﺳﻴّﻤﺎ ﻓﻲ ﺩﻋﻮﻯً ﻫﻲ ﺃﺳﺎﺱ ﻛﻞ ﻣﺪّﻋﻴﺎﺗﻪ، ﻭﻫﻮ: «لا ﺇﻟﻪ ﺇلا ﺍﻟﻠﻪ» ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻣﺮﺍﺗﺒﻬﺎ؟..

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻌﺔ

ﻓﺈﻥ ﺷﺌﺖَ ﺃﻥ ﺗﻌﺮﻑ ﺃﻥّ ﻣﺎ ﻳﺤﺮّﻛﻪ ﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻮ ﻗﻮﺓ ﻗﺪﺳﻴﺔ، ﻓﺎﻧﻈﺮْ ﺇﻟﻰ ﺇﺟﺮﺍﺁﺗﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ. ﺃلا ﺗﺮﻯ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻗﻮﺍﻡ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﺍﻟﺒﺪﺍﺋﻴﺔ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﺤﺮﺍﺀ ﺍﻟﺸﺎﺳﻌﺔ، ﺍﻟﻤﺘﻌﺼﺒﻴﻦ ﻟﻌﺎﺩﺍﺗﻬﻢ، ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﻋﺼﺒﻴﺘﻬﻢ ﻭﺧﺼﺎﻣﻬﻢ، ﻛﻴﻒ ﺭﻓﻊ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺟﻤﻴﻊَ ﺃﺧـلاﻗﻬﻢ ﺍﻟﺴﻴﺌﺔ ﺍﻟﺒﺪﺍﺋﻴﺔ ﻭﻗﻠﻌﻬﺎ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻥ ﻗﻠﻴﻞ ﺩﻓﻌﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ؟ ﻭﺟﻬّﺰﻫﻢ ﺑﺄﺧـلاﻕ ﺣﺴﻨﺔ ﻋﺎﻟﻴﺔ؛ ﻓﺼﻴّﺮﻫﻢ ﻣﻌﻠﻤﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻲ ﻭﺃﺳﺎﺗﻴﺬ ﺍلأﻣﻢ ﺍﻟﻤﺘﻤﺪﻧﺔ.

ﻓﺎﻧﻈﺮ، ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻠﻄﻨﺘُﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ ﻓﻘﻂ؛ ﺑﻞ ﻫﺎ ﻫﻮ ﻳﻔﺘﺢ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭﺍﻟﻌﻘﻮﻝ، ﻭﻳﺴﺨِّﺮ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺍﻟﻨﻔﻮﺱ، ﺣﺘﻰ ﺻﺎﺭ ﻣﺤﺒﻮﺏَ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭﻣﻌﻠّﻢَ ﺍﻟﻌﻘﻮﻝ ﻭﻣﺮﺑﻲ ﺍﻟﻨﻔﻮﺱ ﻭﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻣﻨﺔ

ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥّ ﺭﻓﻊَ ﻋﺎﺩﺓٍ ﺻﻐﻴﺮﺓ -ﻛﺎﻟﺘﺪﺧﻴﻦ ﻣﺜـلا- ﻣﻦ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﺑﺎﻟﻜﻠﻴﺔ، ﻗﺪ ﻳَﻌْﺴَﺮُ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻛﻢ ﻋﻈﻴﻢ، ﺑﻬﻤّﺔٍ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻣﻊ ﺃﻧّﺎ ﻧﺮﻯ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺭَﻓَﻊَ -ﺑﺎﻟﻜﻠّﻴﺔ- ﻋﺎﺩﺍﺕٍ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻣﻦ ﺃﻗﻮﺍﻡ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻣﺘﻌﺼﺒﻴﻦ ﻟﻌﺎﺩﺍﺗﻬﻢ، ﻣﻌﺎﻧﺪﻳﻦ ﻓﻲ ﺣﺴﻴّﺎﺗﻬﻢ.. ﺭﻓﻌﻬﺎ ﺑﻘﻮﺓٍ ﺟﺰﺋﻴﺔ، ﻭﻫﻤّﺔ ﻗﻠﻴﻠﺔ ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺍﻟﺤﺎﻝ، ﻭﻓﻲ ﺯﻣﺎﻥ ﻗﺼﻴﺮ، ﻭﻏَﺮَﺱَ ﺑﺪَﻟَﻬﺎ ﺑﺮﺳﻮﺥ ﺗﺎﻡ ﻓﻲ ﺳﺠﻴﺘﻬﻢ ﻋﺎﺩﺍﺕ ﻋﺎﻟﻴﺔ، ﻭﺧﺼﺎﺋﻞَ ﻏﺎﻟﻴﺔ. ﻓﻴﺘﺮﺍﺀﻯ ﻟﻨﺎ ﻣﻦ ﺧﻮﺍﺭﻕ ﺇﺟﺮﺍﺁﺗﻪ ﺍلأﺳﺎﺳﻴﺔ ﺃﻟﻮﻑَ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﻨﺎ، ﻓﻤَﻦ ﻟﻢ ﻳَﺮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺍﻟﺴﻌﻴﺪ ﻧُﺪﺧﻞْ ﻓﻲ ﻋﻴﻨﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ﻭﻧﺘﺤﺪﺍﻩ. ﻓﻠﻴﺠﺮّﺏْ ﻧﻔﺴَﻪ ﻓﻴﻬﺎ. ﻓﻠﻴﺄﺧﺬﻭﺍ ﻣﺎﺋﺔً ﻣﻦ ﻓـلاﺳﻔﺘﻬﻢ ﻭﻟﻴﺬﻫﺒﻮﺍ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭَﻟﻴﻌﻤﻠﻮﺍ ﻣﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ ﻫﻞ ﻳﺘﻴﺴﺮ ﻟﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻔﻌﻠﻮﺍ ﺟﺰﺀﺍ ﻣﻦ ﻣﺎﺋﺔ ﺟﺰﺀ ﻣﻤﺎ ﻓﻌﻠﻪ صلى الله عليه وسلم  ﻓﻲ ﺳﻨﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ؟!

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ

ﺍﻋﻠﻢ -ﺇﻥ ﻛﻨﺖ ﻋﺎﺭﻓﺎ ﺑﺴﺠﻴﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮ- ﺃﻧّﻪ لا ﻳﺘﻴﺴّﺮ ﻟﻌﺎﻗﻞ ﺃﻥ ﻳﺪَّﻋﻲ -ﻓﻲ ﺩﻋﻮﻯً ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻨﺎﻇﺮﺓ- ﻛﺬﺑﺎ ﻳﺨﺠﻞ ﺑﻈﻬﻮﺭﻩ، ﻭﺃﻥ ﻳﻘﻮﻟﻪ ﺑـلا ﺣﺮﺝ ﻭﺑـلا ﺗﺮﺩﺩ ﻭﺑـلا ﺍﺿﻄﺮﺍﺏ ﻳﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺣﻴﻠﺘﻪ، ﻭﺑـلا ﺗﺼﻨﻊ ﻭﺗﻬﻴﺞ ﻳُﻮﻣِﻴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﻛﺬﺑﻪ، ﺃﻣﺎﻡ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺧﺼﻮﻣﻪ ﺍﻟﻨﻘّﺎﺩﺓ، ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﺷﺨﺼﺎ ﺻﻐﻴﺮﺍ، ﻭﻟﻮ ﻓﻲ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ، ﻭﻟﻮ ﺑﻤﻜﺎﻧﺔ ﺣﻘﻴﺮﺓ، ﻭﻟﻮ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ، ﻭﻟﻮ ﻓﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﺣﻘﻴﺮﺓ. ﻓﻜﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺪﺍﺧﻞ ﺍﻟﺤﻴﻠﺔ ﻭﺩﺧﻮﻝ ﺍﻟﺨـلاﻑ ﻓﻲ ﻣﺪَّﻋﻴﺎﺕ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻮﻇﻒ ﻋﻈﻴﻢ، ﻓﻲ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﺑﺤﻴﺜﻴﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻣﻊ ﺃﻧّﻪ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﻟﺤﻤﺎﻳﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻭﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻣﻘﺎﺑﻞ ﺧﺼﻮﻣﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻭﻓﻲ ﻣﺴﺄﻟﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻭﻓﻲ ﺩﻋﻮﻯً ﻋﻈﻴﻤﺔ؟

ﻭﻫﺎ ﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﺑـلا ﻣﺒﺎلاﺓ ﺑﻤﻌﺘﺮﺽ، ﻭﺑـلا ﺗﺮﺩّﺩ ﻭﺑـلا ﺗﺤﺮﺝ ﻭﺑـلا ﺗﺨﻮّﻑ ﻭﺑـلا ﺍﺿﻄﺮﺍﺏ، ﻭﺑﺼﻔﻮﺓ ﺻﻤﻴﻤﻴﺔ، ﻭﺑﺠﺪّﻳﺔ ﺧﺎﻟﺼﺔ، ﻭﺑﻄﺮﺯ ﻳﺜﻴﺮ ﺃﻋﺼﺎﺏ ﺧﺼﻮﻣﻪ، ﺑﺘﺰﻳﻴﻒ ﻋﻘﻮﻟﻬﻢ ﻭﺗﺤﻘﻴﺮ ﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻭﻛﺴﺮ ﻋﺰﺗﻬﻢ، ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﺷﺪﻳﺪ ﻋﻠﻮﻱّ. ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺪﺍﺧﻞ ﺍﻟﺤﻴﻠﺔ ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻋﻮﻯ ﻣﻦ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ، ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ؟ ﻛـلا! ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥّ ﺍﻟﺤﻖ ﺃﻏْﻨﻰ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳَﺪﻟَّﺲَ، ﻭﻧﻈﺮُ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺃﻋﻠﻰ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳُﺪﻟّﺲَ ﻋﻠﻴﻪ.. ﻧﻌﻢ، ﺇﻥّ ﻣﺴﻠﻜﻪ ﺍﻟﺤﻖ ﻣﺴﺘﻐﻦٍ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺪﻟﻴﺲ، ﻭﻧﻈﺮَﻩ ﺍﻟﻨﻔّﺎﺫ ﻣﻨﺰّﻩ ﻣﻦ ﺃﻥ ﻳﻠﺘﺒﺲ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝُ ﺑﺎﻟﺤﻘﻴﻘﺔ..

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮﺓ

ﺍﻧﻈﺮ ﻭﺍﺳﺘﻤﻊْ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻘﻮﻝ! ﻫﺎ ﻫﻮ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻣﺪﻫﺸﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻭﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺟﺎﺫﺑﺔ ﻟﻠﻘﻠﻮﺏ، ﺟﺎﻟﺒﺔ ﻟﻠﻌﻘﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻗﺔ ﻭﺍﻟﻨﻈﺮ؛ ﺇﺫ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥّ ﺷﻮﻕ ﻛﺸﻒ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻗﺪ ﺳﺎﻕ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﻳﻦ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﺣﺐ ﺍلاﺳﺘﻄـلاﻉ ﻭﺍﻟﻠﻬﻔﺔ ﻭﺍلاﻫﺘﻤﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﻓﺪﺍﺀ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ. ﺃلا ﺗﺮﻯ ﺃﻧّﻪ ﻟﻮ ﻗﻴﻞ ﻟﻚ: ﺇﻥ ﻓﺪﻳﺖَ ﻧﺼﻒَ ﻋﻤﺮﻙ، ﺃﻭ ﻧﺼﻒَ ﻣﺎﻟﻚ؛ ﻟﻨﺰﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻤﺮ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺸﺘﺮﻱ ﺷﺨﺺ ﻳﺨﺒﺮﻙ ﺑﻐﺮﺍﺋﺐ ﺃﺣﻮﺍﻟﻬﻤﺎ، ﻭﻳﺨﺒﺮﻙ ﺑﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﺃﻳﺎﻣﻚ؟ ﺃﻇﻨﻚ ﺗﺮﺿﻰ ﺑﺎﻟﻔﺪﺍﺀ. ﻓﻴﺎ ﻟﻠﻌﺠﺐ! ﺗﺮﺿﻰ ﻟﺪﻓﻊ ﻣﺎ ﺗﺘﻠﻬﻒ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻨﺼﻒ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﻭﺍﻟﻤﺎﻝ، ﻭلا ﺗﻬﺘﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﻘﻮﻝ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﻭﻳﺼﺪِّﻗﻪ ﺇﺟﻤﺎﻉُ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ ﻭﺗﻮﺍﺗﺮ ﺃﻫﻞ ﺍلاﺧﺘﺼﺎﺹ ﻣﻦ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺼﺪﻳﻘﻴﻦ ﻭﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﻤﺤﻘﻘﻴﻦ! ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺷﺆﻭﻥ ﺳﻠﻄﺎﻥٍ، ﻟﻴﺲ ﺍﻟﻘﻤﺮ ﻓﻲ ﻣﻤﻠﻜﺘﻪ ﺇلا ﻛﺬﺑﺎﺏ ﻳﻄﻴﺮ ﺣﻮﻝ ﻓﺮﺍﺵ، ﻭﻫﺬﺍ ﻳﺤﻮﻡ ﺣﻮﻝ ﺳﺮﺍﺝ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﻟﻮﻑٍ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻨﺎﺩﻳﻞ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﺳﺮﺟﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﺰﻝ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﻟﻮﻑِ ﻣﻨﺎﺯﻟﻪ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﻋﺪَّﻩ ﻟﻀﻴﻮﻓﻪ.. ﻭﻛﺬﺍ ﻳﺨﺒﺮ ﻋﻦ ﻋﺎﻟﻢٍ ﻫﻮ ﻣﺤﻞ ﺍﻟﺨﻮﺍﺭﻕ ﻭﺍﻟﻌﺠﺎﺋﺐ، ﻭﻋﻦ ﺍﻧﻘـلاﺏ ﻋﺠﻴﺐ، ﺑﺤﻴﺚ ﻟﻮ ﺍﻧﻔﻠﻘﺖ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺗﻄﺎﻳﺮﺕ ﺟﺒﺎﻟُﻬﺎ ﻛﺎﻟﺴﺤﺎﺏ ﻣﺎ ﺳﺎﻭﺕ ﻋُﺸﺮَ ﻣِﻌْﺸﺎﺭِ ﻏﺮﺍﺋﺐ ﺫﻟﻚ ﺍلاﻧﻘـلاﺏ. ﻓﺈﻥ ﺷﺌﺖ ﻓﺎﺳﺘﻤﻊ ﻣﻦ ﻟﺴﺎﻧﻪ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ:

﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ ﻭ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ ﻭ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ ﻭ﴿الْقَارِعَةُ﴾.

ﻭﻛﺬﺍ ﻳﺨﺒﺮ ﺑﺼﺪﻕ ﻋﻦ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ، ﻟﻴﺲ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﺇلا ﻛﻘﻄﺮﺓ ﺳﺮﺍﺏ ﺑـلا ﻃﺎﺋﻞ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺑﺤﺮ ﺑـلا ﺳﺎﺣﻞ. ﻭﻛﺬﺍ ﻳﺒﺸّﺮ ﻋﻦ ﺷﻬﻮﺩ ﺑﺴﻌﺎﺩﺓ، ﻟﻴﺴﺖ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺇلا ﻛﺒﺮﻕٍ ﺯﺍﺋﻞٍ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺷﻤﺲ ﺳﺮﻣﺪﻳﺔ.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺤﺎﺩﻳﺔ ﻋﺸﺮﺓ

ﺇﻥّ ﺗﺤﺖ ﺣﺠﺎﺏ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ -ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻌﺠﺎﺋﺐ ﻭﺍلأﺳﺮﺍﺭ- ﺗﻨﺘﻈﺮﻧﺎ ﺃﻣﻮﺭ ﺃﻋﺠﺐ. ﻭلاﺑﺪَّ ﻟـلإﺧﺒﺎﺭ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﺠﺎﺋﺐ ﻭﺍﻟﺨﻮﺍﺭﻕ ﻣﻦ ﺷﺨﺺٍ ﻋﺠﻴﺐٍ ﺧﺎﺭﻕٍ ﻳُﺴﺘَﺸﻒّ ﻣﻦ ﺃﺣﻮﺍﻟﻪ ﺃﻧّﻪ ﻳﺸﺎﻫِﺪ ﺛﻢ ﻳَﺸﻬﺪ، ﻭﻳﺒﺼﺮ ﺛﻢ ﻳُﺨﺒﺮ.

ﻧﻌﻢ، ﻧﺸﺎﻫﺪ ﻣﻦ ﺷﺆﻭﻧﻪ ﻭﺃﻃﻮﺍﺭﻩ ﺃﻧّﻪ ﻳﺸﺎﻫﺪ ﺛﻢ ﻳﺸﻬَﺪ ﻓﻴُﻨﺬﺭ ﻭﻳﺒﺸﺮ. ﻭﻛﺬﺍ ﻳُﺨﺒﺮ ﻋﻦ ﻣﺮﺿﻴﺎﺕ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ -ﺍﻟﺬﻱ ﻏﻤﺮﻧﺎ ﺑﻨﻌﻤﻪ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻭﺍﻟﺒﺎﻃﻨﺔ- ﻭﻣﻄﺎﻟﺒﻪ ﻣﻨﺎ ﻭﻫﻜﺬﺍ..

ﻓﻴﺎ ﺣﺴﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻐﺎﻓﻠﻴﻦ! ﻭﻳﺎ ﺧﺴﺎﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻀﺎﻟﻴﻦ! ﻭﻳﺎ ﻋﺠﺒﺎ ﻣﻦ ﺑـلاﻫﺔ ﺃﻛﺜﺮِ ﺍﻟﻨّﺎﺱ! ﻛﻴﻒ ﺗﻌﺎﻣَﻮﺍ ﻋﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﻖ ﻭﺗﺼﺎﻣّﻮﺍ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؟ لا ﻳﻬﺘﻤﻮﻥ ﺑﻜـلاﻡ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﻣﻊ ﺃﻥّ ﻣﻦ ﺷَﺄْﻥِ ﻣِﺜﻠﻪِ ﺃﻥ ﺗُﻔْﺪﻯ ﻟﻪ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﻳُﺴﺮﻉ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺘﺮﻙ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ؟

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ ﻋﺸﺮﺓ

ﺍﻋﻠﻢ ﺃﻥّ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩ ﻟﻨﺎ ﺑﺸﺨﺼﻴﺘﻪ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ، ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺸﺆﻭﻧﻪ ﺍﻟﻌﻠﻮﻳﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧّﻪ ﺑﺮﻫﺎﻥ ﻧﺎﻃﻖ ﺻﺎﺩﻕ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻮﺣﺪﺍﻧﻴﺔ، ﻭﺩﻟﻴﻞ ﺣﻖ ﺑﺪﺭﺟﺔ ﺣﻘﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻮﺣﻴﺪ، ﻛﺬﻟﻚ ﻫﻮ ﺑﺮﻫﺎﻥ ﻗﺎﻃﻊ ﻭﺩﻟﻴﻞ ﺳﺎﻃﻊ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ؛ ﺑﻞ ﻛﻤﺎ ﺃﻧّﻪ ﺑﺪﻋﻮﺗﻪ ﻭﺑﻬﺪﺍﻳﺘﻪ ﺳﺒﺐ ﺣﺼﻮﻝ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ ﻭﻭﺳﻴﻠﺔ ﻭﺻﻮﻟﻬﺎ، ﻛﺬﻟﻚ ﺑﺪﻋﺎﺋﻪ ﻭﻋﺒﻮﺩﻳﺘﻪ ﺳﺒﺐ ﻭﺟﻮﺩ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ ﻭﻭﺳﻴﻠﺔ ﺇﻳﺠﺎﺩﻫﺎ. ﻭﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﻧﻜﺮﺭ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺮ ﺍﻟﺬﻱ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ ﻣﺒﺤﺚ ﺍﻟﺤﺸﺮ. (حاشية) ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮﺓ، ﺍلإﺷﺎﺭﺓ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ، ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ.

ﻓﺈﻥ ﺷﺌﺖ ﻓﺎﻧﻈﺮْ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ، ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻌﻈﻤﺔ ﻭِﺳْﻌَﺘِﻬﺎ ﺻﻴّﺮﺕْ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ﺑﻞ ﺍلأﺭﺽ ﻣﺼﻠﻴﻦ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﺍﻟﻜﺒﺮﻯ.. ﺛﻢ ﺍﻧﻈﺮْ ﺃﻧّﻪ ﻳﺼﻠﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ﺍﻟﻌﻈﻤﻰ، ﺑﺪﺭﺟﺔ ﻛﺄﻧّﻪ ﻫﻮ ﺇﻣﺎﻡ ﻓﻲ ﻣﺤﺮﺍﺏ ﻋﺼﺮﻩ ﻭﺍﺻﻄَﻒَّ ﺧﻠﻔَﻪ، ﻣﻘﺘﺪﻳﻦ ﺑﻪ ﺟﻤﻴﻊُ ﺃﻓﺎﺿﻞ ﺑﻨﻲ ﺁﺩﻡ، ﻣﻦ ﺁﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﻲ ﺻﻔﻮﻑ ﺍلأﻋﺼﺎﺭ ﻣﺆﺗﻤﻴّﻦ ﺑﻪ ﻭﻣﺆﻣِّﻨﻴﻦ ﻋﻠﻰ ﺩﻋﺎﺋﻪ. ﺛﻢ ﺍﺳﺘﻤﻊ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻞ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ.. ﻓﻬﺎ ﻫﻮ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﺤﺎﺟﺔٍ ﺷﺪﻳﺪﺓ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻋﺎﻣﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﺗﺸﺘﺮﻙ ﻣﻌﻪ ﻓﻲ ﺩﻋﺎﺋﻪ ﺍلأﺭﺽ ﺑﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺑﻞ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ، ﻓﻴﻘﻮﻟﻮﻥ ﺑﺄﻟﺴﻨﺔ ﺍلأﺣﻮﺍﻝ: ﻧﻌﻢ ﻳﺎ ﺭﺑﻨﺎ ﺗﻘﺒّﻞ ﺩﻋﺎﺀﻩ؛ ﻓﻨﺤﻦ ﺃﻳﻀﺎ ﺑﻞ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﺗﺠﻠّﻰ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﺃﺳﻤﺎﺋﻚ ﻧﻄﻠﺐ ﺣﺼﻮﻝَ ﻣﺎ ﻳﻄﻠﺐ ﻫﻮ.. ﺛﻢ ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻃﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﻃﺮﺯ ﺗﻀﺮﻋﺎﺗﻪ ﻛﻴﻒ ﻳﺘﻀﺮﻉ؛ ﺑﺎﻓﺘﻘﺎﺭ ﻋﻈﻴﻢ، ﻓﻲ ﺍﺷﺘﻴﺎﻕ ﺷﺪﻳﺪ، ﻭﺑﺤﺰﻥ ﻋﻤﻴﻖ، ﻓﻲ ﻣﺤﺒﻮﺑﻴﺔ ﺣﺰﻳﻨﺔ؛ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻬﻴّﺞ ﺑﻜﺎﺀ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻓﻴﺒﻜﻴﻬﺎ ﻓﻴُﺸﺮﻛﻬﺎ ﻓﻲ ﺩﻋﺎﺋﻪ. ﺛﻢ ﺍﻧﻈﺮ لأﻱْ ﻣﻘﺼﺪ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﻳﺘﻀﺮﻉ؟ ﻫﺎ ﻫﻮ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻤﻘﺼﺪ ﻟﻮلا ﺣﺼﻮﻝ ﺫﺍﻙ ﺍﻟﻤﻘﺼﺪ ﻟﺴﻘﻂ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ، ﺑﻞ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﺑﻞ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﻔﻞ ﺳﺎﻓﻠﻴﻦ لا ﻗﻴﻤﺔ ﻟﻬﺎ ﻭلا ﻣﻌﻨﻰ. ﻭﺑﻤﻄﻠﻮﺑﻪ ﺗﺘﺮﻗّﻰ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﻣﻘﺎﻣﺎﺕ ﻛﻤﺎلاﺗﻬﺎ..

ﺛﻢ ﺍﻧﻈﺮْ ﻛﻴﻒ ﻳﺘﻀﺮﻉ ﺑﺎﺳﺘﻤﺪﺍﺩ ﻣﺪﻳﺪ، ﻓﻲ ﻏﻴﺎﺙ ﺷﺪﻳﺪ، ﻓﻲ ﺍﺳﺘﺮﺣﺎﻡ ﺑﺘﻮﺩﺩ ﺣﺰﻳﻦ، ﺑﺤﻴﺚ ﻳُﺴﻤﻊ ﺍﻟﻌﺮﺵ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، ﻭﻳﻬﻴّﺞ ﻭَﺟْﺪﻫﺎ، ﺣﺘﻰ ﻛﺄﻥّ ﺍﻟﻌﺮﺵَ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻳﻘﻮﻝ: ﺁﻣﻴﻦ ﺍﻟﻠّﻬﻢ ﺁﻣﻴﻦ.. ﺛﻢ ﺍﻧﻈﺮ ﻣﻤﻦ ﻳﻄﻠﺐ ﻣﺴﺆﻟَﻪ؛ ﻧﻌﻢ، ﻳﻄﻠﺐ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﺴﻤﻴﻊ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ ﺍﻟﺒﺼﻴﺮ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳَﺴﻤَﻊ ﺃﺧﻔﻰ ﺩﻋﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﺧﻔﻰ ﺣﻴﻮﺍﻥ ﻓﻲ ﺃﺧﻔﻰ ﺣﺎﺟﺔ؛ ﺇﺫ ﻳﺠﻴﺒﻪ ﺑﻘﻀﺎﺀ ﺣﺎﺟﺘﻪ ﺑﺎﻟﻤﺸﺎﻫﺪﺓ، ﻭﻛﺬﺍ ﻳﺒﺼﺮ ﺃﺩﻧﻰ ﺃﻣَﻞٍ ﻓﻲ ﺃﺩﻧﻰ ﺫﻱ ﺣﻴﺎﺓٍ ﻓﻲ ﺃﺩﻧﻰ ﻏﺎﻳﺔٍ، ﺇﺫ ﻳﻮﺻﻠﻪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ لا ﻳﺤﺘﺴﺐ ﺑﺎﻟﻤﺸﺎﻫﺪﺓ، ﻭﻳﻜﺮﻡ ﻭﻳﺮﺣﻢ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﺣﻜﻴﻤﺔ، ﻭﺑﻄﺮﺯ ﻣﻨﺘﻈﻢ. لا ﻳﺒﻘﻰ ﺭﻳﺐ ﻓﻲ ﺃﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺘﺮﺑﻴﺔ ﻭﺍﻟﺘﺪﺑﻴﺮ ﻣﻦ ﺳﻤﻴﻊ ﻋﻠﻴﻢ ﻭﻣﻦ ﺑﺼﻴﺮ ﺣﻜﻴﻢ.

   ﺍﻟﺮﺷﺤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ ﻋﺸﺮﺓ

ﻓﻴﺎ ﻟﻠﻌﺠﺐ!.. ﻣﺎ ﻳﻄﻠﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺭﺽ، ﻭﺟَﻤَﻊ ﺧﻠﻔﻪ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻓﺎﺿﻞ ﺑﻨﻲ ﺁﺩﻡ ﻭﺭﻓﻊ ﻳﺪﻳﻪ ﻣﺘﻮﺟﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻌﺮﺵ ﺍلأﻋﻈﻢ ﻳﺪﻋﻮ ﺩﻋﺎﺀً ﻳﺆَﻣّﻦ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺜﻘـلاﻥ. ﻭﻳُﻌﻠَﻢ ﻣﻦ ﺷﺆﻭﻧﻪ ﺃﻧّﻪ ﺷﺮﻑُ ﻧﻮﻉ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻓﺮﻳﺪُ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻭﻓﺨﺮُ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺁﻥ، ﻭﻳﺴﺘﺸﻔﻊ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﻘﺪﺳﻴﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻴﺔ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ، ﺑﻞ ﺗﺪﻋﻮ ﻭﺗﻄﻠﺐ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﻋﻴﻦَ ﻣﺎ ﻳﻄﻠﺐ ﻫﻮ؛ ﻓﺎﺳﺘﻤﻊ! ﻫﺎ ﻫﻮ ﻳﻄﻠﺐ ﺍﻟﺒﻘﺎﺀ ﻭﺍﻟﻠﻘﺎﺀ ﻭﺍﻟﺠﻨﺔ ﻭﺍﻟﺮﺿﺎ. ﻓﻠﻮ ﻟﻢ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﺎلا ﻳﻌﺪ ﻣﻦ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻤﻮﺟﺒﺔ لإﻋﻄﺎﺀ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩﺍﺕ -ﺍﻟﻤﺘﻮﻗﻒ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﺭﺣﻤﺔ ﻭﻋﻨﺎﻳﺔ ﻭﺣﻜﻤﺔ ﻭﻋﺪﺍﻟﺔ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺍلآﺧﺮﺓ- ﻭﻛﺬﺍ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﻘﺪﺳﻴﺔ -ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﻣﻘﺘﻀﻴﺔ- ﺃﺳﺒﺎﺑﺎ ﻣﻘﺘﻀﻴﺔ ﻟﻬﺎ، ﻟﻜﻔﻰ ﺩﻋﺎﺀ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ لأﻥ ﻳﺒﻨﻲ ﺭﺑُّﻪ ﻟﻪ ﻭلأﺑﻨﺎﺀ ﺟﻨﺴﻪ ﺍﻟﺠﻨﺔ، ﻛﻤﺎ ﻳُﻨﺸﺊ ﻟﻨﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﺑﻴﻊ ﺟﻨﺎﻧﺎ ﻣﺰﻳﻨﺔ ﺑﻤﻌﺠﺰﺍﺕ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ. ﻓﻜﻤﺎ ﺻﺎﺭﺕ ﺭﺳﺎﻟﺘﻪ ﺳﺒﺒﺎ ﻟﻔﺘﺢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺍﺭ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻟـلاﻣﺘﺤﺎﻥ ﻭﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ، ﻛﺬﻟﻚ ﺻﺎﺭ ﺩﻋﺎﺅﻩ ﻓﻲ ﻋﺒﻮﺩﻳﺘﻪ ﺳﺒﺒﺎ ﻟﻔﺘﺢ ﺩﺍﺭ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻟﻠﻤﻜﺎﻓﺂﺕ ﻭﺍﻟﻤﺠﺎﺯﺍﺓ.

ﻓﻬﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻘﺒﻞ ﻫﺬﺍ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﻔﺎﺋﻖ، ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ، ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﺍﻟﺤﺴﻨﺔ ﺑـلا ﻗﺼﻮﺭ، ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺑـلا ﻗﺒﺢ -ﺑﺪﺭﺟﺔ ﺃﻧﻄﻖَ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻭﺍﻟﻌﻘﻞ ﺑـ ﻟﻴﺲ ﻓﻲ ﺍلإﻣﻜﺎﻥ ﺃﺑﺪﻉ ﻣﻤﺎ ﻛﺎﻥ– ﺃﻥ ﺗﺘﻐﻴﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺇﻟﻰ ﻗﺒﺢ ﺧﺸﻴﻦ، ﻭﻇﻠﻢ ﻣﻮﺣﺶ، ﻭﺗﺸﻮﺵ ﻋﻈﻴﻢ. ﺃﻱْ ﺑﻌﺪﻡ ﻣﺠﻲﺀ ﺍلآﺧﺮﺓ؟ ﺇﺫ ﺳﻤﺎﻉ ﺃﺩﻧﻰ ﺻﻮﺕ ﻣﻦ ﺃﺩﻧﻰ ﺧﻠﻖ ﻓﻲ ﺃﺩﻧﻰ ﺣﺎﺟﺔ ﻭﻗﺒﻮﻟﻬﺎ ﺑﺄﻫﻤﻴﺔ ﺗﺎﻣﺔ، ﻣﻊ ﻋﺪﻡ ﺳﻤﺎﻉ ﺃﺭﻓﻊ ﺻﻮﺕ ﻭﺩﻋﺎﺀ ﻓﻲ ﺃﺷﺪ ﺣﺎﺟﺔ، ﻭﻋﺪﻡ ﻗﺒﻮﻝ ﺃﺣﺴﻦ ﻣﺴﺆﻭﻝ، ﻓﻲ ﺃﺟﻤﻞ ﺃﻣﻞ ﻭﺭﺟﺎﺀ؛ ﻗﺒﺢ ﻟﻴﺲ ﻣﺜﻠﻪ ﻗﺒﺢ ﻭﻗﺼﻮﺭ لا ﻳﺴﺎﻭﻳﻪ ﻗﺼﻮﺭ، ﺣﺎﺷﺎ ﺛﻢ ﺣﺎﺷﺎ ﻭﻛـلا.. لا ﻳﻘﺒﻞ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩ ﺑـلا ﻗﺼﻮﺭ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺒﺢ ﺍﻟﻤﺤﺾ.

ﻓﻴﺎ ﺭﻓﻴﻘﻲ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺴﻴﺎﺣﺔ ﺍﻟﻌﺠﻴﺒﺔ، ﺃلا ﻳﻜﻔﻴﻚ ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖَ؟ ﻓﺈﻥ ﺃﺭﺩﺕَ ﺍلإﺣﺎﻃﺔ ﻓـلا ﻳﻤﻜﻦ، ﺑﻞ ﻟﻮ ﺑﻘﻴﻨﺎ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺠﺰﻳﺮﺓ ﻣﺎﺋﺔ ﺳﻨﺔ ﻣﺎ ﺃﺣﻄﻨﺎ ﻭلا ﻣﻠﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﺑﺠﺰﺀ ﻭﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﻣﺎﺋﺔ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﻋﺠﺎﺋﺐ ﻭﻇﺎﺋﻔﻪ، ﻭﻏﺮﺍﺋﺐ ﺇﺟﺮﺍﺁﺗﻪ..

ﻓَﻠْﻨﺮﺟﻊ ﺍﻟﻘﻬﻘﺮﻯ، ﻭﻟْﻨَﻨﻈﺮْ ﻋﺼﺮﺍ ﻋﺼﺮﺍ، ﻛﻴﻒ ﺍﺧﻀﺮَّﺕْ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﺼﻮﺭ ﻭﺍﺳﺘﻔﺎﺿﺖ ﻣﻦ ﻓﻴﺾ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺼﺮ؟ ﻧﻌﻢ، ﺗﺮﻯ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﺗﻤﺮ ﻋﻠﻴﻪ ﻗﺪ ﺍﻧﻔﺘﺤﺖْ ﺃﺯﺍﻫﻴﺮُﻩ ﺑﺸﻤﺲ ﻋﺼﺮ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ، ﻭﺃﺛﻤﺮ ﻛﻞُّ ﻋﺼﺮ ﻣﻦ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺃﺑﻲ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻭﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻭﺃﺑﻲ ﻳﺰﻳﺪ ﺍﻟﺒﺴﻄﺎﻣﻲ ﻭﺍﻟﺠﻨﻴﺪ ﻭﺍﻟﺸﻴﺦ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭﺍﻟﻜﻴـلاﻧﻲ.. ﻭﺍلإﻣﺎﻡ ﺍﻟﻐﺰﺍﻟﻲ ﻭﺍﻟﺸﺎﻩ ﺍﻟﻨﻘﺸﺒﻨﺪ ﻭﺍلإﻣﺎﻡ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﻭﻧﻈﺎﺋﺮﻫﻢ ﺃﻟﻮﻑُ ﺛﻤﺮﺍﺕٍ ﻣﻨﻮﺭﺍﺕٍ ﻣﻦ ﻓﻴﺾ ﻫﺪﺍﻳﺔ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ. ﻓﻠﻨﺆﺧﺮ ﺗﻔﺼﻴـلاﺕ ﻣﺸﻬﻮﺩﺍﺗﻨﺎ ﻓﻲ ﺭﺟﻮﻋﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﻭﻗﺖ ﺁﺧﺮ، ﻭﻧﺼﻠِّﻲ ﻭﻧﺴﻠِّﻢ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﺍﻟﻬﺎﺩﻱ، ﺫﻱ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺍﺕ ﺑﺼﻠﻮﺍﺕ ﻭﺳـلاﻡ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻗﺴﻢ ﻣﻦ ﻣﻌﺠﺰﺍﺗﻪ:

 ﻋَﻠَﻰ ﻣَﻦ ﺃﻧﺰِﻝَ ﻋَﻠَﻴﻪِ ﺍﻟْﻘُﺮﺁﻥُ ﺍﻟْﺤَﻜِﻴﻢُ ﻣِﻦَ ﺍﻟﺮَّﺣْﻤﻦِ ﺍﻟﺮَّﺣِﻴﻢِ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﻌَﺮْﺵِ ﺍﻟْﻌَﻈِﻴﻢِ ﺳَﻴِّﺪِﻧَﺎ ﻣُﺤَﻤَّﺪٍ ﺃﻟﻒُ ﺃﻟﻒِ ﺻَـلاﺓٍ ﻭَﺳَـلاﻡٍ ﺑِﻌَﺪَﺩِ ﺃﻧﻔَﺎﺱِ ﺃﻣَّﺘِﻪِ.

 ﻋَﻠَﻰ ﻣَﻦ ﺑَﺸَّﺮَ ﺑِﺮِﺳَﺎﻟَﺘِﻪِ ﺍﻟﺘَّﻮْﺭَﺍﺓُ ﻭَﺍﻟْﺈﻧﺠِﻴﻞُ ﻭَﺍﻟﺰَّﺑُﻮﺭُ ﻭَﺍﻟﺰُّﺑُﺮُ، ﻭَﺑَﺸَّﺮَ ﺑِﻨُﺒُﻮَّﺗِﻪِ ﺍﻟْﺈِﺭْﻫَﺎﺻَﺎﺕُ ﻭَﻫَﻮَﺍﺗِﻒُ ﺍﻟْﺠِﻦِّ ﻭَﻛَﻮَﺍﻫِﻦُ ﺍﻟْﺒَﺸَﺮِ ﻭَﺍﻧﺸَﻖَّ ﺑِﺈِﺷَﺎﺭَﺗِﻪِ ﺍﻟْﻘَﻤَﺮُ.. ﺳَﻴِﺪِﻧَﺎ ﻣُﺤَﻤَّﺪٍ ﺃﻟﻒُ ﺃﻟﻒ ﺻَـلاﺓٍ ﻭَﺳَـلاﻡٍ ﺑِﻌَﺪَﺩِ ﺣَﺴَﻨَﺎﺕِ ﺃﻣَّﺘِﻪِ.

 ﻋَﻠَﻰ ﻣَﻦ ﺟَﺎﺀَﺕْ ﻟِﺪَﻋْﻮَﺗِﻪِ ﺍﻟﺸَّﺠَﺮُ، ﻭَﻧَﺰَﻝَ ﺳُﺮﻋَﺔً ﺑِﺪُﻋَﺎﺋِﻪِ ﺍﻟْﻤَﻄَﺮُ، ﻭَﺃﻇَﻠَّﺘﻪُ ﺍﻟْﻐَﻤَﺎﻣَﺔُ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﺤَﺮِّ، ﻭَﺷَﺒَﻊَ ﻣِﻦ ﺻَﺎﻉٍ ﻣِﻦ ﻃَﻌَﺎﻣِﻪِ ﻣِﺂﺕ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﺒَﺸَﺮِ، ﻭَﻧَﺒَﻊَ ﺍﻟْﻤَﺎﺀُ ﻣِﻦ ﺑَﻴﻦِ ﺃﺻَﺎﺑِﻌِﻪِ ﺛَـلاﺙَ ﻣَﺮَّﺍﺕٍ ﻛَﺎﻟْﻜَﻮْﺛَﺮِ، ﻭَﺃﻧﻄَﻖَ ﺍﻟﻠﻪ ﻟَﻪُ ﺍﻟﻀَّﺐَّ ﻭَﺍﻟﻈَّﺒْﻲَ ﻭَﺍﻟﺬِّﺋْﺐَ ﻭَﺍﻟْﺠِﺬْﻉَ ﻭَﺍﻟﺬِّﺭَﺍﻉَ ﻭَﺍﻟْﺠَﻤَﻞَ ﻭَﺍﻟْﺠَﺒَﻞَ ﻭَﺍﻟْﺤَﺠَﺮَ ﻭَﺍﻟْﻤَﺪَﺭَ ﻭَﺍﻟﺸَّﺠَﺮَ.. ﺻَﺎﺣِﺐ ﺍﻟْﻤِﻌْﺮَﺍﺝ ﻭَﻣَﺎ ﺯَﺍﻍَ ﺍﻟْﺒَﺼَﺮ..

 ﺳَﻴِّﺪِﻧَﺎ ﻭَﺷَﻔِﻴﻌِﻨَﺎ ﻣُﺤَﻤَّﺪٍ ﺃﻟﻒُ ﺃﻟﻒِ ﺻَـلاﺓٍ ﻭَﺳَـلاﻡٍ ﺑِﻌَﺪَﺩِ ﻛُﻞِّ ﺍﻟْﺤُﺮُﻭﻑِ ﺍﻟْﻤُﺘَﺸَﻜِّﻠَﺔِ ﻓِﻲ ﺍﻟْﻜَﻠِﻤَﺎﺕِ ﺍﻟْﻤُﺘَﻤَﺜِّﻠَﺔِ ﺑِﺈِﺫْﻥِ ﺍﻟﺮَّﺣْﻤﻦِ ﻓِﻲ ﻣَﺮَﺍﻳَﺎ ﺗَﻤَﻮُّﺟَﺎﺕِ ﺍﻟْﻬَﻮَﺍﺀِ ﻋِﻨﺪَ ﻗِﺮَﺍﺀَﺓِ ﻛُﻞِّ ﻛَﻠِﻤَﺔٍ ﻣِﻦَ ﺍﻟْﻘُﺮﺁﻥِ ﻣِﻦ ﻛُﻞِّ ﻗَﺎﺭِﺉٍ ﻣِﻦ ﺃﻭَّﻝِ ﺍﻟﻨُّﺰُﻭﻝِ ﺇﻟَﻰ ﺁﺧِﺮِ ﺍﻟﺰَّﻣَﺎﻥِ ﻭَﺍﻏﻔِﺮْ ﻟَﻨَﺎ ﻭَﺍﺭْﺣَﻤﻨَﺎ ﻳَﺎ ﺇِﻟَﻬَﻨَﺎ ﺑِﻜُﻞِّ ﺻَـلاﺓٍ ﻣِﻨﻬَﺎ.. ﺁﻣِﻴﻦَ.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺜﺎﻣﻨﺔ ﻋﺸﺮﺓ

ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﻣﻘﺎﻣﺎﻥ. ﻭﻟﻢ ﻳﻜﺘﺐ ﺑﻌﺪُ ﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ.

ﻭﺍﻟﻤﻘﺎﻡ ﺍلأﻭﻝ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﺛـلاﺙ ﻧﻘﺎﻁ.

   ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:188)

   ﻟﻄﻤﺔُ ﺗﺄْﺩﻳﺐ ﻟﻨﻔﺴﻲ ﺍلأﻣَّﺎﺭﺓ ﺑﺎﻟﺴﻮﺀ!

     ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻤﻐﺮﻣﺔ ﺑﺎﻟﻔﺨﺮ، ﺍﻟﻤﻌﺠﺒﺔ ﺑﺎﻟﺸﻬﺮﺓ، ﺍﻟﻬﺎﺋﻤﺔ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﻤﺪﺡ ﻭﺍﻟﺜﻨﺎﺀ! ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻐﻮﻳّﺔ!

ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺑُﺬﻳﺮﺓ ﺍﻟﺘﻴﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﻨﺸﺄ ﺃﻟﻮﻑ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ، ﻭﺍﻟﺴﺎﻕ ﺍﻟﻨﺤﻴﻔﺔ ﺍﻟﺼﻠﺒﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﻠﻘﺖ ﺑﻬﺎ ﻣﺌﺎﺕ ﺍﻟﻌﻨﺎﻗﻴﺪ.. ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﻌﻨﺎﻗﻴﺪ ﻣﻦ ﻋﻤﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺒﺬﻳﺮﺓ ﻭﺍﻟﺴﺎﻕ ﻭﻣﻦ ﻣﻬﺎﺭﺗﻬﻤﺎ ﻟﺰﻡ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺃﻥ ﻳﺒﺪﻱ ﺍﻟﻤﺪﺡ ﻭﻳﻈﻬﺮ ﺍﻟﺜﻨﺎﺀ ﻟﻬﻤﺎ! ﺃﻗﻮﻝ: ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻋﻮﻯ ﺣﻘﺎ، ﻓﻠﺮﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻚِ -ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ- ﺣﻖ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺨﺮ ﻭﺍﻟﻐﺮﻭﺭ ﻟﻤﺎ ﺣُﻤّﻠﺖِ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻌﻢ.

ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﻧﺖِ لا ﺗﺴﺘﺤﻘﻴﻦ ﺇلا ﺍﻟﺬﻡ، لأﻧّﻚ ﻟﺴﺖِ ﻛﺘﻠﻚ ﺍﻟﺒﺬﻳﺮﺓ ﻭلا ﻛﺘﻠﻚ ﺍﻟﺴﺎﻕ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻤﺎ ﺗﺤﻤﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺟﺰﺀ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻱ. ﻓﺘﻨﺘﻘﺼﻴﻦ ﺑﻔﺨﺮﻙِ ﻭﻏﺮﻭﺭﻙِ ﻣﻦ ﻗﻴﻤﺔ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻨﻌﻢ ﻭﺗﺒﺨﺴﻴﻦ ﺣﻘﻬﺎ، ﻭﺗﺒﻄﻠﻴﻨﻬﺎ ﺑﻜﻔﺮﺍﻧﻚ ﺍﻟﻨﻌﻢ، ﻭﺗﻐﺘﺼﺒﻴﻨﻬﺎ ﺑﺎﻟﺘﻤﻠﻚ. ﻓﻠﻴﺲ ﻟﻚِ ﺍﻟﻔﺨﺮ، ﺑﻞ ﺍﻟﺸﻜﺮ. ﻭلا ﺗﻠﻴﻖ ﺑﻚِ ﺍﻟﺸﻬﺮﺓ، ﺑﻞ ﺍﻟﺘﻮﺍﺿﻊ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺀ. ﻭﻣﺎ ﻋﻠﻴﻚِ ﺇلا ﺍلاﺳﺘﻐﻔﺎﺭ، ﻭﻣـلاﺯﻣﺔ ﺍﻟﻨﺪﻡ، لا ﺍﻟﻤﺪﺡ، ﻓﻠﻴﺲ ﻛﻤﺎﻟﻚ ﻓﻲ ﺍلأﻧﺎﻧﻴﺔِ، ﺑﻞ ﻓﻲ ﺍلاﺳﺘﻬﺪﺍﺀ.

ﻧﻌﻢ، ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ! ﺃﻧﺖِ ﻓﻲ ﺟﺴﻤﻲ ﺗﺸﺒﻬﻴﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻓﺄﻧﺘﻤﺎ (ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ) ﻗﺪ ﺧُﻠﻘﺘﻤﺎ ﻗﺎﺑﻠﻴﻦ ﻟﻠﺨﻴﺮ، ﻣﺮﺟﻌَﻴﻦ ﻟﻠﺸﺮ. ﺃﻱْ ﺃﻧﺘﻤﺎ ﻟﺴﺘﻤﺎ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﻭلا ﺍﻟﻤﺼﺪﺭ، ﺑﻞ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﻞ ﻭﻣﺤﻞ ﺍﻟﻔﻌﻞ، ﺇلا ﺃﻥّ ﻟﻜﻤﺎ ﺗﺄﺛﻴﺮﺍ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻓﻘﻂ ﻭﻫﻮ ﺗﺴﺒﺒﻜﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺮ، ﻋﻨﺪ ﻋﺪﻡ ﻗﺒﻮﻟﻜﻤﺎ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﻗﺒﻮلا ﺣﺴﻨﺎ.

ﺛﻢ ﺇﻧّﻜﻤﺎ ﻗﺪ ﺧُﻠﻘﺘﻤﺎ ﺳﺘﺎﺭَﻳﻦ، ﻛﻲ ﺗُﺴﻨَﺪ ﺇﻟﻴﻜﻤﺎ ﺍﻟﻤﻔﺎﺳﺪ ﻭﺍﻟﻘﺒﺎﺋﺢ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ لا ﻳُﺸﺎﻫﺪ ﺟﻤﺎﻟُﻬﺎ، ﻟﺘﻜﻮﻧﺎ ﻭﺳﻴﻠﺘﻴﻦ ﻟﺘﻨﺰﻳﻪ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ. ﻭﻟﻜﻨﻜﻤﺎ ﻗﺪ ﻟﺒﺴﺘﻤﺎ ﺻﻮﺭﺓ ﺗﺨﺎﻟﻒ ﻭﻇﻴﻔﺘﻜﻤﺎ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ، ﺇﺫ ﺗﻘﻠﺒﺎﻥ ﺍﻟﺨﻴﺮَ ﺇﻟﻰ ﺷﺮ لاﻓﺘﻘﺎﺭﻛﻤﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺎﺕ، ﻓﻜﺄﻧﻜﻤﺎ ﺗﺸﺎﺭﻛﺎﻥ ﺧﺎﻟﻘﻜﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻌﻞ!

ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻳﻌﺒﺪ ﺍﻟﻨﻔﺲ ﻭﻳﻌﺒﺪ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺇﺫﻥ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺤﻤﺎﻗﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻈﻠﻢ.

ﻓﻴﺎ ﻧﻔﺴﻲ! لا ﺗﻘﻮﻟﻲ: ﺇﻧّﻨﻲ ﻣﻈﻬﺮ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻳﻨﺎﻝ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻳﻜﻮﻥ ﺟﻤﻴـلا.. ﻛـلا، ﺇﻧّﻚِ ﻟﻢ ﺗﺘﻤﺜﻠﻲ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺗﻤﺜـلا ﺗﺎﻣﺎ، ﻓـلا ﺗﻜﻮﻧﻴﻦ ﻣﻈﻬﺮﺍ ﻟﻪ ﺑﻞ ﻣﻤﺮﺍ ﺇﻟﻴﻪ.

ﻭلا ﺗﻘﻮﻟﻲ ﺃﻳﻀﺎ: ﺇﻧّﻨﻲ ﻗﺪ ﺍُﻧﺘُﺨﺒﺖُ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻛﻠِّﻬﻢ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﻈﻬﺮ ﺑﻮﺳﺎﻃﺘﻲ، ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥّ ﻟﻲ ﻓﻀـلا ﻭﻣﺰﻳّﺔ! ﻛـلا.. ﻭﺣﺎﺵَ ﻟﻠﻪ.. ﺑﻞ ﻗﺪ ﺃﻋﻄﻴﺖِ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ لأﻧّﻚِ ﺃﺣﻮﺝُ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﺃﻛﺜﺮُﻫﻢ ﺇﻓـلاﺳﺎ ﻭﺃﻛﺜﺮُﻫﻢ ﺗﺄﻟﻤﺎ. (حاشية) ﺣﻘﺎ ﺇﻧﻨﻲ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻨﺎﻇﺮﺓ، ﺃﻋﺠﺒﺖ ﺃﻳﻤﺎ ﺇﻋﺠﺎﺏ ﺑﺈﻟﺰﺍﻡ ﺳﻌﻴﺪ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﻧﻔﺴَﻪ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺪ ﻣﻦ ﺍلإﻟﺰﺍﻡ ﻓﺒﺎﺭﻛﺘﻪ ﻭﻫﻨﺄﺗﻪ ﻗﺎﺋﻼ: ﺑﺎﺭﻙ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻚ ﺃﻟﻒ ﻣﺮﺓ. ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ

 

   ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

ﻧﻮﺿﺢ ﺳﺮًﺍ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ: ﴿ﺃﺣْﺴَﻦَ ﻛُﻞَّ ﺷَﻲْﺀٍ ﺧَﻠَﻘَﻪُ﴾ (ﺍﻟﺴﺠﺪﺓ:8)

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥّ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﻣﺎ ﻳﺒﺪﻭ ﺃﻧّﻪ ﺃﻗﺒﺢُ ﺷﻲﺀ، ﻓﻴﻪ ﺟﻬﺔ ﺣُﺴﻦٍ ﺣﻘﻴﻘﻴﺔ، ﻓﻤﺎ ﻣﻦ ﺷﻲﺀ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻥ، ﻭﻣﺎ ﻣﻦ ﺣﺎﺩﺙ ﻳﻘﻊ ﻓﻴﻪ ﺇلا ﻭﻫﻮ ﺟﻤﻴﻞ ﺑﺬﺍﺗﻪ، ﺃﻭ ﺟﻤﻴﻞ ﺑﻐﻴﺮﻩ، ﺃﻱْ ﺟﻤﻴﻞ ﺑﻨﺘﺎﺋﺠﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻔﻀﻲ ﺇﻟﻴﻬﺎ.. ﻓﻬﻨﺎﻙ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪﻭ ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺃﻣﺮﻫﺎ ﻗﺒﻴﺤﺔً ﻣﻀﻄﺮﺑﺔً ﻭﻣﺸﻮﺷﺔً، ﺇلا ﺃﻥّ ﺗﺤﺖ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﺘﺎﺭ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻱ ﺃﻧﻮﺍﻋﺎ ﻣﻦ ﺟﻤﺎﻝ ﺭﺍﺋﻖ، ﻭﺃﻧﻤﺎﻃﺎ ﻣﻦ ﻧﻈﻢ ﺩﻗﻴﻘﺔ.

ﻓَﺘَﺤْﺖَ ﺣﺠﺎﺏ ﺍﻟﻄﻴﻦ ﻭﺍﻟﻐﺒﺎﺭ ﻭﺍﻟﻌﻮﺍﺻﻒ ﻭﺍلأﻣﻄﺎﺭ ﺍﻟﻐﺰﻳﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺗﺨﺘﺒﺊ ﺍﺑﺘﺴﺎﻣﺎﺕ ﺍلأﺯﻫﺎﺭ ﺍﻟﺰﺍﻫﻴﺔ ﺑﺮﻭﻋﺘﻬﺎ، ﻭﺗﺤﺘﺠﺐ ﺭﺷﺎﻗﺔ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﺍﻟﻬﻴﻔﺎﺀ ﺍﻟﺴﺎﺣﺮﺓ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ.. ﻭﻓﻲ ﺛﻨﺎﻳﺎ ﺍﻟﻌﻮﺍﺻﻒ ﺍﻟﺨﺮﻳﻔﻴﺔ ﺍﻟﻤﺪﻣﺮﺓ ﺍﻟﻤﻜﺘﺴﺤﺔ ﻟـلأﺷﺠﺎﺭ ﻭﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ، ﻭﺍﻟﻬﺎﺯﺓ ﻟـلأﻭﺭﺍﻕ ﺍﻟﺨﻀﺮﺍﺀ ﻣﻦ ﻓﻮﻕ ﺍلأﻓﻨﺎﻥ، ﺣﺎﻣﻠﺔً ﻧﺬﺭ ﺍﻟﺒﻴﻦ، ﻭﻋﺎﺯﻓﺔً ﻟﺤﻦ ﺍﻟﺸﺠﻦ ﻭﺍﻟﻤﻮﺕ ﻭﺍلاﻧﺪﺛﺎﺭ، ﻫﻨﺎﻙ ﺑﺸﺎﺭﺓ ﺍلاﻧﻄـلاﻕ ﻣﻦ ﺃﺳْﺮِ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻟﻤـلاﻳﻴﻦ ﺍﻟﺤﺸﺮﺍﺕ ﺍﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ﺍﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻔﺘﺢ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﻓﻲ ﺃﻭﺍﻥ ﺗﻔﺘﺢ ﺍلأﺯﻫﺎﺭ، ﻓﺘﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﻗَﺮّ ﺍﻟﺸﺘﺎﺀ ﻭﺿﻐﻮﻁ ﻃﻘﺴﻪ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺃﻥّ ﺃﻧﻮﺍﺀ ﺍﻟﺸﺘﺎﺀ ﺍﻟﻘﺎﺳﻴﺔ ﺍﻟﺤﺰﻳﻨﺔ ﺗُﻬﻲﺀُ ﺍلأﺭﺽ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍ ﻟﻤﻘﺪﻡ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺑﻤﻮﺍﻛﺒﻪ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﺍﻟﺮﺍﺋﻌﺔ.

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥّ ﻫﻨﺎﻙ ﺗﻔﺘﺤﺎ لأﺯﻫﺎﺭ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺗﺨﺘﺒﺊُ ﺗﺤﺖ ﺳﺘﺎﺭ ﻋﺼﻒ ﺍﻟﻌﻮﺍﺻﻒ ﺇﺫﺍ ﻋﺼﻔﺖ ﻭﺯﻟﺰﻟﺔ ﺍلأﺭﺽ ﺇﺫﺍ ﺗﺰﻟﺰﻟﺖ، ﻭﺍﻧﺘﺸﺎﺭ ﺍلأﻣﺮﺍﺽ ﻭﺍلأﻭﺑﺌﺔ ﺇﺫﺍ ﺍﻧﺘﺸﺮﺕ. ﻓﺒﺬﻭﺭ ﺍﻟﻘﺎﺑﻠﻴﺎﺕ، ﻭﻧﻮﻯ ﺍلاﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍﺕ ﺍﻟﻜﺎﻣﻨﺔ -ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻢ ﺗﺴﺘﻨﺒﺖ ﺑﻌﺪُ- ﺗﺘﺴﻨﺒﻞ ﻭﺗﺘﺠﻤﻞ ﻧﺘﻴﺠﺔ ﺣﻮﺍﺩﺙ ﺗﺒﺪﻭ ﻗﺒﻴﺤﺔ ﻓﻲ ﻇﺎﻫﺮ ﺷﺄْﻧﻬﺎ، ﺣﺘﻰ ﻛﺄﻥّ ﺍﻟﺘﻘﻠﺒﺎﺕ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ، ﻭﺍﻟﺘﺤﻮلاﺕ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺇﻥ ﻫﻲ ﺇلا ﺃﻣﻄﺎﺭ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﺗﻨﺰﻝ ﻋﻠﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺒﺬﻭﺭ ﻟﺘﺴﺘﻨﺒﺘﻬﺎ.

ﺑَﻴْﺪَ ﺃﻥّ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻤﻔﺘﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﻈﺎﻫﺮ ﻭﺍﻟﻤﺘﺸﺒﺚ ﺑﻬﺎ ﻭﺍﻟﺬﻱ لا ﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﺍلأﻣﻮﺭ ﻭﺍلأﺣﺪﺍﺙ ﺇلا ﻣﻦ ﺧـلاﻝ ﺃﻧﺎﻧﻴﺘﻪ ﻭﻣﺼﻠﺤﺘﻪ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﺗﺮﺍﻩ ﺗﺘﻮﺟَّﻪ ﺃﻧﻈﺎﺭُﻩ ﺇﻟﻰ ﻇﺎﻫﺮ ﺍلأﻣﻮﺭ، ﻭﺗﻨﺤﺼﺮ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻴﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﺎﻟﻘﺒﺢ!.. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻧّﻪ ﻳﺰﻥ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺑﺤﺴﺐ ﻧﺘﺎﺋﺠﻪ ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻬﺔ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﺤﺴﺐ، ﺗﺮﺍﻩ ﻳﺤﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﺑﺎﻟﺸﺮ! ﻋﻠﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺇﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻬﺔُ ﻣﻨﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﺍﺣﺪﺓً، ﻓﺎﻟﻤﺘﻮﺟﻬﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺻﺎﻧﻌﻬﺎ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺗﻌﺪُّ ﺑﺎلأﻟﻮﻑ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺍلأﺷﺠﺎﺭ ﻭﺍلأﻋﺸﺎﺏ ﺫﺍﺕ ﺍلأﺷﻮﺍﻙ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺪﻣﻲ ﻳﺪ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻤﻤﺘﺪﺓ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻳﺘﻀﺎﻳﻖ ﻣﻨﻬﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻳﺮﺍﻫﺎ ﺷﻴﺌﺎ ﺿﺎﺭﺍ لا ﺟﺪﻭﻯ ﻣﻨﻪ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻲ ﻟﺘﻠﻚ ﺍلأﺷﺠﺎﺭ ﻭﺍلأﻋﺸﺎﺏ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلأﻫﻤﻴّﺔ ﺣﻴﺚ ﺗﺤﺮﺳﻬﺎ ﻭﺗﺤﻔﻈﻬﺎ ﻣِﻤّﻦ ﻳﺮﻳﺪ ﻣﺴَّﻬﺎ ﺑﺴﻮﺀ.

ﻭﻣﺜـلا: ﺍﻧﻘﻀﺎﺽ ﺍﻟﻌﻘﺎﺏ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺼﺎﻓﻴﺮ ﻭﺍﻟﻄﻴﻮﺭ ﺍﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﻳﺒﺪﻭ ﻣﻨﺎﻓﻴﺎ ﻟﻠﺮﺣﻤﺔ، ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻥ ﺍﻧﻜﺸﺎﻑ ﻗﺎﺑﻠﻴﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻄﻴﻮﺭ ﺍﻟﻀﻌﻴﻔﺔ ﻭﺗﺤﻔﻴﺰﻫﺎ ﻟﻠﻈﻬﻮﺭ لا ﻳﺘﺤﻘﻖ ﺇلا ﺇﺫﺍ ﺃﺣﺴَّﺖْ ﺑﺎﻟﺨﻄﺮ ﺍﻟﻤﺤﺪﻕ ﺑﻬﺎ، ﻭﺷﻌﺮﺕ ﺑﻘﺪﺭﺓ ﺍﻟﻄﻴﻮﺭ ﺍﻟﺠﺎﺭﺣﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺴﻠّﻂ ﻋﻠﻴﻬﺎ..

ﻭﻣﺜـلا: ﺇﻥّ ﻫﻄﻮﻝ ﺍﻟﺜﻠﻮﺝ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻐﻤﺮ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻓﻲ ﻓﺼﻞ ﺍﻟﺸﺘﺎﺀ ﺭﺑﻤﺎ ﻳﺜﻴﺮ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻀﻴﻖ ﻟﺪﻯ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ، لأﻧّﻪ ﻳﺤﺮﻣﻪ ﻣﻦ ﻟﺬﺓ ﺍﻟﺪﻑﺀ ﻭﻣﻨﺎﻇﺮ ﺍﻟﺨُﻀﺮﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺗﺨﺘﻔﻲ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﻠﻴﺪ ﻏﺎﻳﺎﺕ ﺩﺍﻓﺌﺔ ﺟﺪﺍ ﻭﻧﺘﺎﺋﺞ ﺣﻠﻮﺓ ﻳﻌﺠﺰ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻋﻦ ﻭﺻﻔﻬﺎ.

ﺛﻢ ﺇﻥّ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﻧﻈﺮﻩ ﺍﻟﻘﺎﺻﺮ ﻳﺤﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺑﻮﺟﻬﻪ ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﻧﻔﺴﻪ، ﻟﺬﺍ ﻳﻈﻦ ﺃﻥّ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﻦ ﺍلأﻣﻮﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺿﻤﻦ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍلآﺩﺍﺏ ﺍﻟﻤﺤﻀﺔ ﺃﻧّﻬﺎ ﻣﺠﺎﻓﻴﺔ ﻟﻬﺎ، ﺧﺎﺭﺟﺔ ﻋﻨﻬﺎ.. ﻓﺎﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﻋﻀﻮ ﺗﻨﺎﺳﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ -ﻣﺜـلا- ﻣﺨﺠﻞ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺘﺒﺎﺩﻟﻪ ﻣﻦ ﺃﺣﺎﺩﻳﺚ ﻣﻊ ﺍلآﺧﺮﻳﻦ. ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﺨﺠﻞ ﻣﻨﺤﺼﺮ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻪ ﻟﻺ ﻧﺴﺎﻥ، ﺇلا ﺃﻥّ ﺃﻭْﺟﻬَﻪُ ﺍلأﺧﺮﻯ، ﺃﻱْ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺨﻠﻘﺔ ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻐﺎﻳﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻭﺟﺪ لأﺟﻠﻬﺎ، ﻣﻮﺿﻊ ﺇﻋﺠﺎﺏ ﻭﺗﺪﺑﺮ.. ﻓﻜﻞّ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻭﺟﻪِ ﺍﻟﺘﻲ ﻓُﻄﺮ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻲ ﻭﺟﻪ ﺟﻤﻴﻞ ﻣﻦ ﺃﻭﺟﻪ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻭﺇﺫﺍ ﻫﻲ -ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﻤﻨﻈﺎﺭ- ﻣﺤﺾ ﺃﺩﺏٍ لا ﻳُﺨﺪﺵُ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚُ ﻋﻨﻬﺎ ﺍﻟﺬﻭﻕَ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺀَ..

ﺣﺘﻰ ﺇﻥّ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ -ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻣﻨﺒﻊ ﺍلأﺩﺏ ﺍﻟﺨﺎﻟﺺ- ﻳﻀﻢ ﺑﻴﻦ ﺳﻮﺭﻩ ﺗﻌﺎﺑﻴﺮ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﺷﺎﺭﺍﺕ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻠﻄﻒ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺤﻜﻴﻤﺔ ﻭﺍﻟﺴﺘﺎﺋﺮ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ، ﻓﻤﺎ ﻧﺮﺍﻩ ﻗُﺒﺤﺎ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ، ﻭﺍلآلاﻡ ﻭﺍلأﺣﺰﺍﻥ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﻠِّﻔﻬﺎ ﺑﻌﺾُ ﺍلأﺣﺪﺍﺙ ﻭﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ لا ﺗﺨﻠﻮ ﺃﻋﻤﺎﻗُﻬﺎ ﻗﻄﻌﺎ ﻣﻦ ﺃﻭﺟﻪ ﺟﻤﻴﻠﺔ، ﻭﺃﻫﺪﺍﻑ ﺧﻴﺮﺓ، ﻭﻏﺎﻳﺎﺕ ﺳﺎﻣﻴﺔ، ﻭﺣِﻜَﻢ ﺧﺒﻴﺌﺔ، ﺗَﺘَﻮﺟّﻪ ﺑﻜﻞ ﺫﻟﻚ ﺇﻟﻰ ﺧﺎﻟﻘﻬﺎ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻛﻤﺎ ﻗَﺪَّﺭ ﻭﻫَﺪَﻯ ﻭﺃﺭﺍﺩ. ﻓﺎﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍلأﻣﻮﺭ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﺪﻭ -ﻓﻲ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮ- ﻣﺸﻮﺷﺔً ﻣﻀﻄﺮﺑﺔ ﻭﻣﺨﺘﻠﻄﺔ، ﺇﻥ ﺃﻧﻌَﻤْﺖَ ﺍﻟﻨﻈﺮَ ﺇﻟﻰ ﻣﺪﺍﺧﻠﻬﺎ ﻃَﺎﻟَﻌَﺘْﻚَ -ﻣﻦ ﺧـلاﻟﻬﺎ- ﻛﺘﺎﺑﺎﺕ ﺭﺑﺎﻧﻴﺔ ﻣﻘﺪﺳﺔ ﺭﺍﺋﻌﺔ، ﻭﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻭﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﺍﻟﺨﻴﺮ ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔ.

 

   ﺍﻟﻨﻘﻄﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:31)

ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﺣﺴﻦ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﻣﻮﺟﻮﺩﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻮﻥ، ﻭﻫﻮ ﺃﻣﺮ ﻗﻄﻌﻲ ﻛﻤﺎ ﻳﺸﺎﻫﺪ، ﻳﻠﺰﻡ ﺇﺫﻥ ﺛﺒﻮﺕ ﺍﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﺍلأﺣﻤﺪﻳﺔ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﻭﺍﻟﺴـلاﻡ ﺑﻘﻄﻌﻴﺔ ﻳﻘﻴﻨﻴﺔ ﺑﺪﺭﺟﺔ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ؛ لأﻥّ ﺣُﺴﻦ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﻭﺟﻤﺎﻝ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ، ﻳﺪلاﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﻥّ ﻓﻲ ﺻﺎﻧﻌﻬﺎ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺗﺤﺴﻴﻦ ﻭﻃﻠﺐ ﺗﺰﻳﻴﻦ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻘﻮﺓ، ﻭﺃﻥّ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺍﻟﺘﺤﺴﻴﻦ ﻭﻃﻠﺐ ﺍﻟﺘﺰﻳﻴﻦ ﻳﺪلاﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﻥّ ﻓﻲ ﺻﺎﻧﻌﻬﺎ ﻣﺤﺒﺔً ﻋﻠﻮﻳﺔ ﻭﺭﻏﺒﺔً ﻗﺪﺳﻴﺔ لإﻇﻬﺎﺭ ﻛﻤﺎلاﺕ ﺻﻨﻌﺘﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻲ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ، ﻭﺃﻥّ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﻭﺍﻟﺮﻏﺒﺔ ﺗﻘﺘﻀﻴﺎﻥ ﻗﻄﻌﺎ ﺗﻤﺮﻛﺰﻫﻤﺎ ﻓﻲ ﺃﻛﻤﻞ ﻭﺃﻧﻮﺭ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﻭﺃﺑﺪﻋﻬﺎ، ﺃلا ﻭﻫﻮ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ. ﺫﻟﻚ لأﻥّ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻫﻮ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓُ ﺍﻟﻤﺠﻬّﺰﺓ ﺑﺎﻟﺸﻌﻮﺭ ﻭﺍلإﺩﺭﺍﻙ ﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺨﻠﻖ، ﻭﺇﻥّ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓ ﻫﻲ ﺃﺟﻤﻊُ ﺟﺰﺀ ﻭﺃﺑﻌﺪُﻩ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﺟﺰﺍﺀ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ، ﻭﻟﻪ ﻧﻈﺮ ﻋﺎﻡ ﻭﺷﻌﻮﺭ ﻛﻠﻲ.

ﻓﺎﻟﻔﺮﺩ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻪ ﻧﻈﺮ ﻋﺎﻡ، ﻭﺷﻌﻮﺭ ﻛﻠﻲ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺼﻠﺢ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍﻟﻤﺨﺎﻃﺐ ﻟﻠﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﻭﺍﻟﻤﺎﺛﻞ ﻓﻲ ﺣﻀﻮﺭﻩ، ﺫﻟﻚ لأﻧّﻪ ﻳﺼﺮﻑ ﻛﻞ ﻧﻈﺮﻩ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻭﻋﻤﻮﻡ ﺷﻌﻮﺭﻩ ﺍﻟﻜﻠﻲ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻌﺒﺪ ﻟﺼﺎﻧﻌﻪ ﻭﺇﻟﻰ ﺍﺳﺘﺤﺴﺎﻥ ﺻﻨﻌﺘﻪ ﻭﺗﻘﺪﻳﺮﻫﺎ ﻭﺇﻟﻰ ﺷﻜﺮ ﺁلاﺋﻪ ﻭﻧﻌﻤﺎﺋﻪ.. ﻓﺒﺎﻟﺒﺪﺍﻫﺔ ﻳﻜﻮﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺍﻟﻔﺮﻳﺪ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﺨﺎﻃﺐ ﺍﻟﻤﻘﺮﺏ ﻭﺍﻟﺤﺒﻴﺐ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺏ.

ﻭﺍلآﻥ ﺗﺸﺎﻫَﺪ ﻟﻮﺣﺘﺎﻥ ﻭﺩﺍﺋﺮﺗﺎﻥ:

ﺇﺣﺪﺍﻫﻤﺎ: ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺭﺑﻮﺑﻴﺔ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺮﻭﻋﺔ ﻭﺍﻟﻬﻴﺒﺔ ﻭﻟﻮﺣﺔ ﺻﻨﻌﺔ ﺑﺎﺭﻋﺔ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻭﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ.

ﻭﺍلأﺧﺮﻯ: ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ ﻣﻨﻮّﺭﺓ ﻣﺰﻫّﺮﺓ ﻟﻠﻐﺎﻳﺔ، ﻭﻟﻮﺣﺔ ﺗﻔﻜﺮ ﻭﺍﺳﺘﺤﺴﺎﻥ ﻭﺷﻜﺮ ﻭﺇﻳﻤﺎﻥ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺠﺎﻣﻌﻴﺔ ﻭﺍﻟﺴﻌﺔ ﻭﺍﻟﺸﻤﻮﻝ، ﺑﺤﻴﺚ ﺇﻥّ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﻫﺬﻩ ﺗﺘﺤﺮﻙ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺟﻬﺎﺗﻬﺎ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍلأﻭﻟﻰ ﻭﺗﻌﻤﻞ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﻗﻮﺗﻬﺎ ﻟﺤﺴﺎﺑﻬﺎ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳﻔﻬﻢ ﺑﺪﺍﻫﺔ ﺃﻥّ ﺭﺋﻴﺲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﺪﻡ ﻣﻘﺎﺻﺪ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ ﺑﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ ﺗﻜﻮﻥ ﻋـلاﻗﺘﻪ ﻣﻊ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﻗﻮﻳﺔ ﻣﺘﻴﻨﺔ، ﻭﻳﻜﻮﻥ ﻟﺪﻳﻪ ﻣﺤﺒﻮﺑﺎ ﻣﺮﺿﻴﺎ ﻋﻨﺪﻩ.

ﻓﻬﻞ ﻳﻘﺒﻞ ﻋﻘﻞ ﺃلا ﻳﺒﺎﻟﻲ ﻭلا ﻳﻬﺘﻢ ﺻﺎﻧﻊ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺍﻟﻤﺰﻳﻨﺔ ﺑﺄﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻤﺤﺎﺳﻦ ﻭﻣﻨﻌﻢ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻨﻌﻢ، ﺍﻟﻤﺮﺍﻋﻲ ﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﺍلأﺫﻭﺍﻕ ﺣﺘﻰ ﻓﻲ ﺃﻓﻮﺍﻩ ﺍﻟﺨﻠﻖ، ﻫﻞ ﻳﻌﻘﻞ ﺃلا ﻳﺒﺎﻟﻲ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻉ ﺍلأﺟﻤﻞِ ﺍلأﻛﻤﻞِ، ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻪِ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺎﻟﺘﻌﺒﺪ، ﻭﺃلا ﻳﻬﺘﻢ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻕ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﺰّ ﺍﻟﻌﺮﺵَ ﻭﺍﻟﻔﺮﺵَ ﺑﺘﻬﻠﻴـلاﺕ ﺍﺳﺘﺤﺴﺎﻧﻪ ﻭﺗﻜﺒﻴﺮﺍﺕ ﺗﻘﺪﻳﺮﺍﺗﻪ ﻟﻤﺤﺎﺳﻦ ﺻﻨﻌﺔ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ، ﻓﺎﻫﺘﺰّ ﺍﻟﺒﺮ ﻭﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻧﺘﺸﺎﺀً ﻣﻦ ﻧﻐﻤﺎﺕ ﺣﻤﺪﻩ ﻭﺷﻜﺮﻩ ﻭﺗﻜﺒﻴﺮﺍﺗﻪ ﻟﻨﻌﻢ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ؟ ﻭﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃلا ﻳﺘﻮﺟَّﻪ ﺇﻟﻴﻪ؟ ﻭﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃلا ﻳُﻮﺣﻲ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﻜـلاﻣﻪ؟ ﻭﻫﻞ ﻳﻤﻜﻦ ﺃلا ﻳﺠﻌﻠﻪ ﺭﺳﻮلا؟ ﻭﺃلا ﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳَﺴْﺮِﻱ ﺧُﻠُﻘُﻪ ﺍﻟﺤﺴﻦُ ﻭﺣﺎلاﺗُﻪ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨَﻠْﻖِ ﺃﺟﻤﻌﻴﻦ؟

ﻛـلا  ﺑﻞ لا ﻳﻤﻜﻦ ﺃلا ﻳﻤﻨﺤﻪ ﻛـلاﻣُﻪ ﻭﺃلا ﻳﺠﻌﻠﻪ ﺭﺳﻮلا ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻛﺎﻓﺔ.

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:19)

﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (ﺍﻟﻔﺘﺢ:29)

     ﺃﻧّﺎﺕ ﺑﻜﺎﺀٍ ﻟﻘﻠﺐ ﺁﺱٍ، ﻓَﺠْﺮَ ﺃﻳﺎﻡِ ﺃﺳْﺮٍ ﻣﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻔﺮﺍﻕ ﻭﺍلاﻏﺘﺮﺍﺏ

ﻧﺴﻴﻢ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﻳَﻬُﺐُّ ﻭﻗﺖ ﺍلأﺳﺤﺎﺭ، ﻓﺎﻧﺘﺒﻬﻲ ﻳﺎ ﻋﻴﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﺴَّﺤَﺮ، ﻭﺍﺳﺄﻟﻲ ﺍﻟﻤﻮﻟﻰ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔَ، ﻓﺎﻟﺴَّﺤَﺮُ ﻣَﺘَﺎﺑﺔُ ﺍﻟﻤﺬﻧﺒﻴﻦ، ﻓَﻬﺐَّ ﻳﺎ ﻗﻠﺒﻲ ﺗﺎﺋﺒﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﺠﺮ ﻣﺴﺘﻐﻔﺮﺍ ﻟﺪﻯ ﺑﺎﺏِ ﻣﻮلاﻙ.

    ﺳَﺤَﺮْ ﺣَﺸْﺮِﻳﺴْﺖ، ﺩَﺭُﻭ ﻫُﺸْﻴَﺎﺭْ ﺩَﺭْ ﺗَﺴْﺒِﻴﺢْ ﻫَﻤَﻪ ﺷَﻰْ

    ﺑَﺨَﻮﺍﺏِ ﻏَﻔْﻠَﺖْ ﺳَﺮْﺳَﻢْ ﻧَﻔْﺴَﻢْ ﺣَﺘَﻰ ﻛَﻰْ؟

    ﻋُﻤُﺮْ ﻋَﺼْﺮِﻳﺴْﺖ ﺳَﻔَﺮْ ﺑَﺎ ﻗَﺒِﺮْ ﻣِﻰ ﺑَﺎﻳَﺪْ ﺯِ ﻫَﺮْ ﺣَﻰْ

    ﺑِﺒَﺮْﺧِﻴﺰْ ﻧَﻤَﺎﺯِﻯ ﭼُﻮ ﻧِﻴَﺎﺯِﻯ ﮔُﻮ؛ ﺑِﻜُﻦْ ﺁﻭَﺍﺯِﻯ ﭼُﻮﻥْ ﻧَﻰْ

    ﺑِﮕُﻮ: ﻳَﺎﺭَﺏْ! ﭘَﺸِﻴﻤَﺎﻧَﻢْ، ﺧَﺠِﻴﻠَﻢْ، ﺷَﺮْﻣَﺴَﺎﺭَﻡْ ﺍَﺯْ ﮔُﻨَﺎﻩ ﺑِﻰ ﺷُﻤَﺎﺭَﻡْ، ﭘَﺮِﻳﺸَﺎﻧَﻢْ، ﺫَﻟِﻴﻠَﻢْ، ﺍَﺷْﻚ ﺑَﺎﺭَﻡْ ﺍَﺯْ ﺣَﻴَﺎﺕْ ﺑِﻰ ﻗَﺮَﺍﺭَﻡْ، ﻏَﺮِﻳﺒَﻢْ، ﺑِﻰ ﻛَﺴَﻢْ، ﺿَﻌِﻴﻔَﻢْ،

    ﻧَﺎ ﺗُﻮَﺍﻧَﻢْ، ﻋَﻠِﻴﻠَﻢْ، ﻋَﺎﺟِﺰَﻡْ، ﺍِﺧْﺘِﻴَﺎﺭَﻡْ، ﺑِﻰ ﺍِﺧْﺘِﻴَﺎﺭَﻡْ، ﺍَلاﻣَﺎﻥ ﮔُﻮﻳَﻢْ،

    ﻋَﻔﻮ ﺟُﻮﻳَﻢْ، ﻣَﺪَﺩْ ﺧَﻮﺍﻫَﻢْ ﺯِ ﺩَﺭْ ﻛَﺎﻫَﺖْ ﺍِﻟَﻬِﻰ.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:٧-٨)

 ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ (ﺍلأﻧﻌﺎﻡ:32)

   ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﻋﺒﺎﺭﺓ ﻋﻦ ﻣﻘﺎﻣﻴﻦ ﻋﺎﻟﻴﻴﻦ ﻭﺫﻳﻞ ﺳﺎﻃﻊ.

    ﺇﻥّ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻭﺍﻟﺮﺯﺍﻕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﻋﻴﺪ ﺑﻬﻴﺞ ﻭﺍﺣﺘﻔﺎﻝ ﻣﻬﻴﺐ ﻭﻣﻬﺮﺟﺎﻥ ﻋﻈﻴﻢ ﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ، ﻭﺯﻳّﻨﻬﺎ ﺑﺎلآﺛﺎﺭ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ لأﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻭﺧﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺭﻭﺡ -ﺻﻐﻴﺮﺍ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﻛﺒﻴﺮﺍ، ﻋﺎﻟﻴﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﺳﺎﻓـلا-، ﺟﺴﺪﺍ ﻋﻠﻰ ﻗﺪّﻩ ﻭﻗﺪﺭﻩ، ﻭﺟﻬّﺰﻩ ﺑﺎﻟﺤﻮﺍﺱ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ ﻭﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻮﺍﻓﻘﻪ ﻟـلاﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﺍلآلاﺀ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﻭﺍﻟﻨﻌﻢ ﺍﻟﻤﺘﻨﻮﻋﺔ ﺍﻟﺘﻲ لا ﺗﻌﺪ ﻭلا ﺗﺤﺼﻰ، ﻭﺍﻟﻤﺒﺜﻮﺛﺔ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﺍﻟﺒﻬﻴﺞ، ﻭﺍﻟﻤﻌﺮﻭﺿﺔ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ. ﻭﻣﻨﺢ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻟﻜﻞ ﺭﻭﺡ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﺟﺴﻤﺎﻧﻴﺎ (ﻣﺎﺩﻳﺎ) ﻭﺃﺭﺳﻠﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﻭﺍﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻥ ﻣﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺛﻢ ﻗﺴّﻢ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻊ ﺟﺪﺍ ﺯﻣﺎﻧﺎ ﻭﻣﻜﺎﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﻋﺼﻮﺭ ﻭﺳﻨﻮﺍﺕ ﻭﻣﻮﺍﺳﻢ، ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﺇﻟﻰ ﺃﻳﺎﻡ ﻭﺃﺟﺰﺍﺀ ﺃﻳﺎﻡ، ﺟﺎﻋـلا ﻣﻦ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﺳﻨﺔ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ، ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﺰﺀ ﻣﻦ ﻳﻮﻡ، ﻣﻬﺮﺟﺎﻧﺎ ﺳﺎﻣﻴﺎ ﻭﻋﻴﺪﺍ ﺭﻓﻴﻌﺎ ﻭﺍﺳﺘﻌﺮﺍﺿﺎ ﻋﺎﻣﺎ ﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺗﻪ ﺫﻭﺍﺕ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﻭﻣﻦ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﻴﺔ، ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﺳﻄﺢُ ﺍلأﺭﺽ، ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﻭﺍﻟﺼﻴﻒ، ﺟﺎﻋـلا ﺃﻋﻴﺎﺩﺍ ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ، ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ ﺗﻠﻮ ﺍلآﺧﺮ، ﻟﻄﻮﺍﺋﻒ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﺣﺘﻰ ﻏﺪﺍ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﻴﺪ ﻋﻴﺪﺍ ﺭﺍﺋﻌﺎ ﺟﺬﺍﺑﺎ ﻟَﻔَﺖَ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺒﻘﺎﺕ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻭﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ  ﻭﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﻣﺸﺎﻫﺪﺗﻪ، ﻭﺟﻠﺐ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻄﺎﻟﻌﺘﻪ ﺑﻤﺘﻌﺔ ﺇﻟﻰ ﺣﺪ ﻳﻌﺠﺰ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻋﻦ ﺍﺳﺘﻜﻨﺎﻩ ﻣﺘﻌﺘﻬﺎ.. ﻭﻟﻜﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻀﻴﺎﻓﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍﻟﻌﻴﺪ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ، ﻭﻣﺎ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﺳﻢ (ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ) ﻭ(ﺍﻟﻤﺤﻴﻲ) ﻳﻜﺘﻨﻔﻬﺎ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﻭﺍﻟﻤﻮﺕ، ﺣﻴﺚ ﻳﺒﺮﺯ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻠﻪ (ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ) ﻭ(ﺍﻟﻤﻤﻴﺖ) ﻭﺭﺑّﻤﺎ ﻫﺬﺍ لا ﻳﻮﺍﻓﻖ -ﻛﻤﺎ ﻳﺒﺪﻭ- ﺷﻤﻮﻝ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:156). ﻭﻟﻜﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻨﺎﻙ ﺟﻬﺎﺕ ﻋﺪﺓ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﺍلاﻧﺴﺠﺎﻡ ﻭﺍﻟﻤﻮﺍﻓﻘﺔ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ، ﻧﺬﻛﺮ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﻬﺔً ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻓﻘﻂ:

ﻭﻫﻲ ﺃﻧﻪ ﺑﻌﺪ ﺍﻧﺘﻬﺎﺀ ﺍلاﺳﺘﻌﺮﺍﺽ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﻟﻜﻞ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻮﺍﺋﻒ، ﻭﺑﻌﺪ ﺍﺳﺘﺤﺼﺎﻝ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩﺓ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺮﺽ، ﻳﺘﻔﻀﻞ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻮﺍﺋﻒ، ﻓﻴﻤﻨﺤﻬﻢ ﺭﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ ﻭﺍﺷﺘﻴﺎﻗﺎ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭﻣﻴـلا ﺇﻟﻰ ﺍلاﻧﺘﻘﺎﻝ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢٍ ﺁﺧﺮ، ﻭﻳُﺴﺌﻤﻬﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺑﺄﺷﻜﺎﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻔﻮﺭ ﻭﺍﻟﺴﺄﻡ ﺭﺣﻤﺔً ﺑﻬﻢ.

ﻭﺣﻴﻨﻤﺎ ﻳُﺮﺧّﺼﻮﻥ ﻣﻦ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﻳُﺴﺮّﺣﻮﻥ ﻣﻦ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﺎ، ﻳُﻨﺒّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻓﻲ ﺃﺭﻭﺍﺣﻬﻢ ﺭﻏﺒﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻭﺣﻨﻴﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﻣﻮﻃﻨﻬﻢ ﺍلأﺻﻠﻲ. ﻭﻛﻤﺎ ﻳﻤﻨﺢ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﻟﺠﻨﺪﻱ ﺑﺴﻴﻂ ﻳُﻘﺘﻞ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ ﺃﺩﺍﺀ ﺍﻟﺨﺪﻣﺔ ﻭﻳﻬﻠﻚ ﻓﻲ ﻣﻬﻤﺔ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ، ﻭﻛﻤﺎ ﻳﻤﻨﺢ ﺍﻟﺸﺎﺓ ﺍلأﺿﺤﻴﺔ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﻣﺎﺩﻳﺎ ﻓﻲ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻭﻳﻜﺎﻓﺆﻫﺎ ﺑﺠﻌﻠﻬﺎ ﻣﻄﻴﺔ ﻛﺎﻟﺒﺮﺍﻕ ﻟﺼﺎﺣﺒﻬﺎ ﻣﺎﺭﺓ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﺮﺍﻁ ﺍﻟﻤﺴﺘﻘﻴﻢ، ﻓﻠﻴﺲ ﺑﻌﻴﺪﺍ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺃﻥ ﻳﻤﻨﺢ ﻟﺬﻭﻱ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﺛﻮﺍﺑﺎ ﺭﻭﺣﺎﻧﻴﺎ ﻳـلاﺋﻤﻬﻢ ﻭﺃﺟﺮﺍ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﻳﻮﺍﻓﻖ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﻫﻢ، ﻣﻦ ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ، ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﻗﺎﺳﻮﺍ ﺍﻟﻤﺸﻘﺎﺕ ﻭﻫﻠﻜﻮﺍ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺃﺩﺍﺀ ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﻢ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﻢ، ﻭﻋﺎﻧﻮﺍ ﻣﺎ ﻋﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﻃﺎﻋﺘﻬﻢ ﻟـلأﻭﺍﻣﺮ ﺍﻟﺴﺒﺤﺎﻧﻴﺔ. ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺌـلا ﻳﺘﺄﻟﻤﻮﺍ ﺃﻟﻤﺎ ﺷﺪﻳﺪﺍ ﻟﺪﻯ ﺗﺮﻛﻬﻢ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﺑﻞ ﻳﻜﻮﻧﻮﻥ ﺭﺍﺿﻴﻦ ﻣﺮﺿﻴﻴﻦ.. ﻭلا ﻳﻌﻠﻢ ﺍﻟﻐﻴﺐ ﺇلا ﺍﻟﻠﻪ.

ﺑَﻴْﺪَ ﺃﻥّ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺃﺷﺮﻑ ﺫﻭﻱ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﺃﻛﺜﺮﻫﻢ ﺍﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﻴﺪ -ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻜﻤﻴﺔ ﻭﺍﻟﻨﻮﻋﻴﺔ- ﻳﻮﻫﺐ ﻟﻪ ﺑﺮﺣﻤﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﻟﻄﻒ ﻣﻨﻪ ﺣﺎﻟﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﺍﻟﺮﻭﺣﻲ ﺗﻨﻔّﺮﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺍﺑﺘﻠﻲ ﺑﻬﺎ، ﻛﻲ ﻳﻌﺒﺮ ﺇﻟﻰ ﺍلآﺧﺮﺓ ﺑﺄﻣﺎﻥ. ﻓﺎلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻢ ﺗﻐﺮﻕ ﺇﻧﺴﺎﻧﻴﺘﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﻀـلاﻟﺔ ﻳﺴﺘﻔﻴﺪ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﻓﻴﺮﺣﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻗﻠﺒﻪ ﻣﻄﻤﺌﻦ ﺑﺎلإﻳﻤﺎﻥ.

ﻧﺒﻴﻦ ﻫﻨﺎ ﺧﻤﺴﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻮﺭﺙ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﻟﺔ ﺍﻟﺮﻭﺣﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ:

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍلأﻭﻝ: ﺇﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳُﻈﻬﺮ ﻟﻺ ﻧﺴﺎﻥ -ﺑﺤﻠﻮﻝ ﺍﻟﺸﻴﺨﻮﺧﺔ- ﺧﺘﻢ ﺍﻟﻔﻨﺎﺀ ﻭﺍﻟﺰﻭﺍﻝ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺪﻧﻴﻮﻳﺔ ﺍﻟﻔﺘﺎﻧﺔ، ﻭﻳﻔﻬّﻤﻪ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﺍﻟﻤﺮﻳﺮﺓ؛ ﻣﻤﺎ ﻳﺠﻌﻠﻪ ﻳﻨﻔﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﻳﺴﺮﻉ ﻟﻠﺘﺤﺮﻱ ﻋﻦ ﻣﻄﻠﻮﺏ ﺑﺎﻕ ﺧﺎﻟﺪ ﺑﺪلا ﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻔﺎﻧﻲ ﺍﻟﺰﺍﺋﻞ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺇﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳُﺸﻌﺮ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺷﻮﻗﺎ ﻭﺭﻏﺒﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺣﻴﺚ ﺭﺣﻞ ﺗﺴﻊ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺘﻪ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﻣﻌﻬﻢ ﻭﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﺳﺘﻘﺮﻭﺍ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺁﺧﺮ، ﻓﺘﺪﻓﻊ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺤﺒﺔ ﺍﻟﺠﺎﺩﺓ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻭﺍلأﺟﻞَ ﺑﺴﺮﻭﺭ ﻭﻓﺮﺡ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺇﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﺪﻓﻊ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻟﻴﺴﺘﺸﻌﺮ ﺿﻌﻔﻪ ﻭﻋﺠﺰﻩ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺘﻨﺎﻫﻴﻴﻦ، ﺳﻮﺍﺀ ﺑﻤﺪﻯ ﺛﻘﻞ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺃﻭ ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﺍﻟﻌﻴﺶ ﺃﻭ ﺃﻣﻮﺭ ﺃﺧﺮﻯ، ﻓﻴﻮﻟﺪ ﻟﺪﻳﻪ ﺭﻏﺒﺔ ﺟﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﻠﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ ﻭﺷﻮﻗﺎ ﺧﺎﻟﺼﺎ ﻟﻠﻤﻀﻲ ﺇﻟﻰ ﺩﻳﺎﺭ ﺃﺧﺮﻯ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ: ﺇﻧﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﺒﻴّﻦ ﻟﻺ ﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ -ﺑﻨﻮﺭ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ- ﺃﻥّ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﻟﻴﺲ ﺇﻋﺪﺍﻣﺎ ﺑﻞ ﺗﺒﺪﻳﻞ ﻣﻜﺎﻥ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻟﻴﺲ ﻓﻮﻫﺔ ﺑﺌﺮ ﻋﻤﻴﻘﺔ ﺑﻞ ﺑﺎﺏ ﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺒﺎﻫﺠﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﺳﺠﻦ ﺿﻴﻖ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺴﻌﺔ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻭﺟﻤﺎﻟﻬﺎ. ﻓـلا ﺷﻚ ﺃﻥّ ﺍﻟﺨﺮﻭﺝ ﻣﻦ ﺳﺠﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﻟﻨﺠﺎﺓ ﻣﻦ ﺿﻴﻘﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺑﺴﺘﺎﻥ ﺍﻟﺠﻨﺎﻥ ﺍلأﺧﺮﻭﻳﺔ، ﻭﺍلاﻧﺘﻘﺎﻝ ﻣﻦ ﻣﻨﻐﺼﺎﺕ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﻤﺰﻋﺠﺔ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺮﺍﺣﺔ ﻭﺍﻟﻄﻤﺄﻧﻴﻨﺔ ﻭﻃﻴﺮﺍﻥ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ، ﻭﺍلاﻧﺴـلاﺥ ﻣﻦ ﺿﺠﻴﺞ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻭﺻﺨﺒﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻀﺮﺓ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻬﺎﺩﺋﺔ ﺍﻟﻤﻄﻤﺌﻨﺔ ﺍﻟﺮﺍﺿﻴﺔ، ﺳﻴﺎﺣﺔ ﺑﻞ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﻣﻄﻠﻮﺑﺔ ﺑﺄﻟﻒِ ﻓﺪﺍﺀ ﻭﻓﺪﺍﺀ.

ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺨﺎﻣﺲ: ﺇﻧّﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳُﻔﻬّﻢ ﺍﻟﻤﻨﺼﺖَ ﻟﻠﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﻭﻳﻌﻠّﻤﻪ ﺑﻨﻮﺭ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﺣﺘﻰ ﻳﻐﺪﻭ ﻋﺸﻘﻬﺎ ﻭﺍﻟﺮﻛﻮﻥ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﺗﺎﻓﻬﺎ لا ﻣﻌﻨﻰ ﻟﻪ.. ﺃﻱْ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻪ ﻭﻳُﺜﺒﺖ: ﺃﻥّ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻛﺘﺎﺏ ﺭﺑﺎﻧﻲ ﺻﻤﺪﺍﻧﻲ ﻣﻔﺘﻮﺡ ﻟـلأﻧﻈﺎﺭ، ﺣﺮﻭﻓﻪ ﻭﻛﻠﻤﺎﺗﻪ لا ﺗﻤﺜﻞ ﻧﻔﺴَﻬﺎ، ﺑﻞ ﺗﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺫﺍﺕ ﺑﺎﺭﺋﻬﺎ ﻭﻋﻠﻰ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﻭﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﻭﻟﻬﺬﺍ، ﺍﻓﻬﻢ ﻣﻌﺎﻧﻴﻬﺎ ﻭﺧﺬ ﺑﻬﺎ، ﻭﺩَﻉ ﻋﻨﻚ ﻧﻘﻮﺷﻬﺎ ﻭﺍﻣﺾِ ﺇﻟﻰ ﺷﺎﻧﻚ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺰﺭﻋﺔ ﻟﻶ ﺧﺮﺓ، ﻓﺎﺯﺭﻉ ﻭﺍﺟﻦِ ﺛﻤﺮﺍﺗﻬﺎ ﻭﺍﺣﺘﻔﻆ ﺑﻬﺎ، ﻭﺃﻫﻤﻞ ﻗﺬﺍﺭﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﻔﺎﻧﻴﺔ.. ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺠﺎﻣﻴﻊ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻣﺘﻌﺎﻗﺒﺔ، ﻓﺘﻌﺮّﻑ ﺇﻟﻰ ﻣَﻦ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﻋﺎﻳﻦ ﺃﻧﻮﺍﺭﻩ، ﻭﺃﺩﺭﻙ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﻤﺘﺠﻠﻴﺔ ﻓﻴﻬﺎ ﻭﺍﺣﺒﺐ ﻣﺴﻤّﺎﻫﺎ، ﻭﺍﻗﻄﻊ ﻋـلاﻗﺘﻚ ﻋﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﻄﻊ ﺍﻟﺰﺟﺎﺟﻴﺔ ﺍﻟﻘﺎﺑﻠﺔ ﻟﻠﻜﺴﺮ ﻭﺍﻟﺰﻭﺍﻝ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﻮﺿﻊ ﺗﺠﺎﺭﺓ ﺳﻴّﺎﺭ، ﻓﻘﻢ ﺑﺎﻟﺒﻴﻊ ﻭﺍﻟﺸﺮﺍﺀ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻣﻨﻚ، ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻠﻬﺚَ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﻘﻮﺍﻓﻞ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻫﻤﻠﺘﻚ ﻭﺟﺎﻭﺯﺗﻚ، ﻓﺘﺘﻌﺐ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺘﻨﺰﻩ ﻣﺆﻗﺖ ﻓﺎﺳﺮﺡ ﺑﺒﺼﺮﻙ ﻓﻴﻬﺎ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ، ﻭﺩﻗﻖ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﻤﺘﺴﺘﺮ، ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺒﺎﻗﻲ، ﻭﺃﻋﺮﺽ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺟﻪ ﺍﻟﻘﺒﻴﺢ ﺍﻟﺪﻣﻴﻢ ﺍﻟﻤﺘﻮﺟﻪ ﺇﻟﻰ ﻫﻮﻯ ﺍﻟﻨﻔﺲ، ﻭلا ﺗﺒﻚ ﻛﺎﻟﻄﻔﻞ ﺍﻟﻐﺮﻳﺮ ﻋﻨﺪ ﺍﻧﺴﺪﺍﻝ ﺍﻟﺴﺘﺎﺋﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﻳﻚ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﻇﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ..

ﻭﺍﻋﻠﻢ ﺃﻧﻬﺎ ﺩﺍﺭ ﺿﻴﺎﻓﺔ، ﻭﺃﻧﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﺿﻴﻒ ﻣﻜﺮﻡ، ﻓﻜُﻞْ ﻭﺍﺷﺮﺏْ ﺑﺈﺫﻥِ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﻀﻴﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟﻜﺮﻡ، ﻭﻗﺪّﻡ ﻟﻪ ﺍﻟﺸﻜﺮ، ﻭلا ﺗﺘﺤﺮﻙ ﺇلا ﻭﻓﻖ ﺃﻭﺍﻣﺮﻩ ﻭﺣﺪﻭﺩﻩ، ﻭﺍﺭﺣﻞ ﻋﻨﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻰ ﻭﺭﺍﺋﻚ.. ﻭﺇﻳّﺎﻙ ﺃﻥ ﺗﺘﺪﺧﻞ ﺑﻔﻀﻮﻝ ﺑﺄﻣﻮﺭ لا ﺗﻌﻮﺩ ﺇﻟﻴﻚ ﻭلا ﺗﻔﻴﺪﻙ ﺑﺸﻲﺀ، ﻓـلا ﺗﻐﺮﻕ ﻧﻔﺴﻚ ﺑﺸﺆﻭﻧﻬﺎ ﺍﻟﻌﺎﺑﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﺎﺭﻗﻚ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺑﻤﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻳﺨﻔﻒ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻋﻦ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﻦ ﺁلاﻡ ﻓﺮﺍﻕ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﺤﺒﺒﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻨﺎﺑﻬﻴﻦ ﺍﻟﻴﻘﻈﻴﻦ، ﺑﻤﺎ ﻳﻈﻬﺮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ، ﻭﺇﻧﻪ ﺃﺛﺮٍ ﻣﻦ ﺁﺛﺎﺭ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﺄْﻥ. ﻭﺇﺫْ ﻳﺸﻴﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺨﻤﺴﺔ، ﻓﺈﻥّ ﺁﻳﺎﺕٍ ﻛﺮﻳﻤﺔ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻭﺟﻮﻩ ﺧﺎﺻﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻛﺬﻟﻚ.

   ﻓﻴﺎ ﻟﺘﻌﺎﺳﺔ ﻣﻦ ﻟﻴﺲ ﻟﻪ ﺣﻆ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﺟﻮﻩ ﺍﻟﺨﻤﺴﺔ.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﻳﺲ:82-83)

ﻛﺘﺒﺖُ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﻟﺘﻤﻨﺢ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻌﻤﻴﺎﺀَ ﺑﺼﻴﺮﺓً، ﻭﻟﺘﺒﺪﺩ ﺍﻟﻈﻠﻤﺎﺕ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﻭﻟﺘﻜﻮﻥ ﻣﺒﻌﺜﺎ لاﻃﻤﺌﻨﺎﻧﻬﺎ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﺈﺭﺍﺀﺗﻬﺎ ﺃﺭﺑﻊ ﺃﺷﻌﺎﺕ ﻣﻦ ﻧﻮﺭ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍلأﻭﻝ

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﺠﺎﻫﻠﺔ! ﺗﻘﻮﻟﻴﻦ: ﺇﻥّ ﺃﺣﺪﻳﺔ ﺫﺍﺕِ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﻣﻊ ﻛﻠﻴﺔ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ، ﻭﻭﺣﺪﺓ ﺫﺍﺗﻪ ﻣﻊ ﻋﻤﻮﻣﻴﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺩﻭﻥ ﻣﻌِﻴﻦ، ﻭﻓﺮﺩﻳﺘﻪ ﻣﻊ ﺷﻤﻮﻝ ﺗﺼﺮﻓﺎﺗﻪ ﺩﻭﻥ ﺷﺮﻳﻚ، ﻭﺣﻀﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻜﺎﻥ ﻣﻊ ﺗﻨﺰﻫﻪ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﻭﺭﻓﻌﺘﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻣﻊ ﻗﺮﺑﻪ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﻭﺣﺪﺍﻧﻴﺘﻪ ﻣﻊ ﺃﻥ ﻛﻞَّ ﺷﻲﺀ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺘﻪ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ.. ﻭﺗﻘﻮﻟﻴﻦ: ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺣﻜﻴﻢ، ﻭﺍﻟﺤﻜﻴﻢ لا ﻳﺤﻤّﻞ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻣﺎ لا ﻳﻘﺒﻠﻪ. ﺑَﻴْﺪَ ﺃﻥ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻳﺮﻯ ﻣﻨﺎﻓﺎﺓ ﻇﺎﻫﺮﺓ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻣﻮﺭ. ﻟﺬﺍ ﺃﻃﻠﺐُ ﺇﻳﻀﺎﺣﺎ ﻳﺴﻮﻕ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ.

   ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﻣﺎﺩﺍﻡ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ، ﻭﺗﻄﻠﺒﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﻟﺒﻠﻮﻍ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ، ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﻘﻮﻝ ﻣﺴﺘﻨﺪﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﻓﻴﺾ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ: ﺇﻥ ﺍﺳﻢ (ﺍﻟﻨﻮﺭ) -ﻭﻫﻮ ﻣﻦ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ- ﻗﺪ ﺣﻞّ ﻛﺜﻴﺮﺍ ﻣﻦ ﻣﺸﻜـلاﺗﻨﺎ، ﻭﻳﺤﻞّ ﺑﺈﺫﻥ ﺍﻟﻠﻪ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺃﻳﻀﺎ.

ﻧﻘﻮﻝ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺍلإﻣﺎﻡ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﺃﺣﻤﺪ ﺍﻟﻔﺎﺭﻭﻗﻲ ﺍﻟﺴﺮﻫﻨﺪﻱ، ﻣﻨﺘﻘﻴﻦ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺍﻟﻮﺍﺿﺢ ﻟﻠﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻤﻨﻮﺭ ﻟﻠﻘﻠﺐ:

     ﻧَﻪ ﺷَﺒَﻢْ ﻧَﻪ ﺷَﺐْ ﭘَﺮَﺳْﺘَﻢْ ﻣَﻦْ     ﻏُـلاﻡِ ﺷَﻤْﺴَﻢْ ﺍَﺯْ ﺷَﻤْﺲِ ﻣِﻰ ﮔُﻮﻳَﻢْ ﺧَﺒَﺮْ

 (حاشية) ﻳﻌﻨﻲ: ﻭﺇﻧﻲ ﻏـلاﻡ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺃﺭﻭﻱ ﺣﺪﻳﺜَﻬﺎ ﻓﻤﺎ ﻟﻲ ﻭﻟﻠّﻴﻞ ﻓﺄﺭﻭﻱ ﺣﺪﻳﺜَﻪ.

ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺃﺳﻄﻊ ﻣﺮﺁﺓ ﻋﺎﻛﺴﺔ لإﻋﺠﺎﺯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻓﻨﺤﻦ ﺃﻳﻀﺎ ﺳﻨﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺮ ﻣﻦ ﺧـلاﻝ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ. ﻭﺫﻟﻚ: ﺃﻥ ﺷﺨﺼﺎ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻳﻜﺴﺐ ﺻﻔﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ، ﻓﺒﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﺟﺰﺋﻲ ﺣﻘﻴﻘﻲ ﻳﺼﺒﺢ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻛﻠﻲ ﻣﺎﻟﻚ ﻟﺸﺆﻭﻥ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻋﺎﻣﺔ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻭﻫﻲ ﺟﺰﺋﻲ ﻣﺸﺨّﺺ، ﻭﻟﻜﻦ ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﺗﺼﺒﺢ ﺑﺤﻜﻢ ﺍﻟﻜﻠﻲ ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻬﺎ ﺗﻤﻸ ﺳﻄﺢ ﺍلأﺭﺽ ﺑﺼﻮﺭﻫﺎ ﻭﺍﻧﻌﻜﺎﺳﺎﺗﻬﺎ، ﺑﻞ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺠﻠﻮﺍﺕ ﺑﻌﺪﺩ ﺍﻟﻘﻄﺮﺍﺕ ﻭﺍﻟﺬﺭﺍﺕ ﺍﻟﺴﺎﻃﻌﺔ. ﻭﺣﺮﺍﺭﺓ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺿﻴﺎﺅﻫﺎ، ﻭﻣﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻟﻮﺍﻥ ﺳﺒﻌﺔ، ﻳﺤﻴﻂ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﺎلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﻭﻳﺸﻤﻠﻬﺎ ﻭﻳﻌﻤّﻬﺎ ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ ﻓﺎﻥ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺷﻔﺎﻑ ﻳﺨﺒﺊ ﻓﻲ ﺑﺆﺑﺆ ﻋﻴﻨﻪ -ﻣﻊ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺸﻤﺲ- ﺍﻟﺤﺮﺍﺭﺓ ﻭﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﻟﻮﺍﻥ ﺍﻟﺴﺒﻌﺔ ﺃﻳﻀﺎ، ﺟﺎﻋـلا ﻣﻦ ﻗﻠﺒﻪ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮ ﻋﺮﺷﺎ ﻟﻬﺎ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﺼﻔﺔ ﻭﺍﺣﺪﻳﺘﻬﺎ ﺑﺠﻤﻴﻊ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺎﺑﻠﻬﺎ، ﻓﻬﻲ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺃﺣﺪﻳﺘﻬﺎ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻨﻮﻉٍ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻲ ﺫﺍﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﻊ (ﺧﺎﺻﻴﺘﻬﺎ) ﻭﺃﻭﺻﺎﻓﻬﺎ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ.

ﻭﻣﺎ ﺩﻣﻨﺎ ﻗﺪ ﺍﻧﺘﻘﻠﻨﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻤﺜّﻞ، ﻓﺴﻨﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺛـلاﺛﺔ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻟﻴﻜﻮﻥ ﻣﺤﻮﺭ ﻣﺴﺄﻟﺘﻨﺎ ﻫﺬﻩ.

ﺃﻭﻟﻬﺎ: ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻸ ﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﺍﻟﻜﺜﻴﻔﺔ، ﻫﻲ ﻏﻴﺮ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻋﻴﻨﺎ، ﻭﻫﻲ ﻣﻮﺍﺕ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻣﺎﻟﻜﺔ لأﻳﺔ ﺧﺎﺻﻴﺔ ﻏﻴﺮ ﻫﻮﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺼﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ.

ﻓﻤﺜـلا: ﺇﺫﺍ ﺩﺧﻠﺖَ -ﻳﺎ ﺳﻌﻴﺪ- ﺇﻟﻰ ﻣﺨﺰﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ، ﻓﻴﻜﻮﻥ ﺳﻌﻴﺪ ﻭﺍﺣﺪ ﺃﻟﻒ ﺳﻌﻴﺪ، ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﻠﻚ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻟﻮﻑ، ﻫﻮ ﺃﻧﺖ ﻓﻘﻂ لا ﻏﻴﺮ، ﻭﺍﻟﺒﻘﻴﺔ ﺃﻣﻮﺍﺕ ﻟﻴﺴﺖ ﻟﻬﻢ ﺧﻮﺍﺹ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ.

ثانيها: ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻠﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ؛ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻋﻴﻨﺎ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﻏﻴﺮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ، ﺇﺫ لا ﺗﺴﺘﻮﻋﺐ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ؛ ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻣﺎﻟﻜﺔ لأﻛﺜﺮ ﺧﻮﺍﺹ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻲ؛ ﻓﺘﻌﺘﺒﺮ ﺫﺍﺕ ﺣﻴﺎﺓ ﻣﺜﻠﻪ.

ﻓﻤﺜـلا: ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻨﺸﺮ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺃﺷﻌﺘﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﺗﻈﻬﺮ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺁﺓ، ﻓﻜﻞ ﺻﻮﺭﺓ ﻣﻨﻌﻜﺴﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﺗﺤﻤﻞ ﻣﺎ ﻳﻤﺎﺛﻞ ﺧﺼﺎﺋﺺ ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻣﻦ ﺿﻮﺀ ﻭﺃﻟﻮﺍﻥ ﺳﺒﻌﺔ. ﻓﻠﻮ ﺍﻓﺘﺮﺿﺖ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺫﺍﺕ ﺷﻌﻮﺭ، ﻭﺃﺻﺒﺤﺖ ﺣﺮﺍﺭﺗﻬﺎ ﻋﻴﻦ ﻗﺪﺭﺗﻬﺎ، ﻭﺿﻴﺎﺅﻫﺎ ﻋﻴﻦ ﻋﻠﻤﻬﺎ، ﻭﺃﻟﻮﺍﻧﻬﺎ ﺍﻟﺴﺒﻌﺔ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ ﺍﻟﺴﺒﻊ، ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺗﻮﺟﺪ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻔﺮﻳﺪﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺁﺓ، ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴِﻬﺎ، ﻭلاﺗﺨﺬﺕ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻋﺮﺷﺎ ﻟﻬﺎ ﻳﺨﺼﻬﺎ، ﻭﻣﻦ ﻛﻞ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﻫﺎﺗﻒ؛ ﻓـلا ﻳﻤﻨﻊ ﺷﻲﺀ ﺷﻴﺌﺎ؛ ﻭلأﻣﻜﻨﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻘﺎﺑﻞ ﻛـلا ﻣﻨﺎ ﺑﺎﻟﻤﺮﺁﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻲ ﺃﻳﺪﻳﻨﺎ، ﻭﻣﻊ ﺃﻧﻨﺎ ﺑﻌﻴﺪﻭﻥ ﻋﻨﻬﺎ؛ ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻴﻨﺎ ﻣﻦ ﺃﻧﻔﺴﻨﺎ.

ﺛﺎﻟﺜﻬﺎ: ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻟﻸﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ؛ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭ ﺣﻴﺔ، ﻭﻫﻲ ﻋﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴِﻪ، ﻭﻟﻜﻦ لأﻥّ ﻇﻬﻮﺭﻫﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻭﻓﻖ ﻗﺎﺑﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ، ﻓﺎﻟﻤﺮﺁﺓ لا ﺗﺴﻊ ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ. ﻓﻤﺜـلا: ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺟﺒﺮﻳﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻳﺤﻀﺮ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺲ ﺍﻟﻨﺒﻮﺓ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﻲ ﺩﺣﻴﺔ ﺍﻟﻜﻠﺒﻲ؛ ﻛﺎﻥ ﻳﺴﺠﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍلإﻟﻬﻲ ﺑﺄﺟﻨﺤﺘﻪ ﺍﻟﻤﻬﻴﺒﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻌﺮﺵ ﺍلأﻋﻈﻢ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻛﻦ لا ﺗﻌﺪّ ﻭلا ﺗﺤﺼﻰ، ﺇﺫ ﻛﺎﻥ ﻳﺒﻠّﻎ ﺍلأﻭﺍﻣﺮ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ. ﻓﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻓﻌﻞ ﻳﻤﻨﻊ ﻓﻌـلا.

ﻭﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺮ ﻧﻔﻬﻢ ﻛﻴﻒ ﻳﺴﻤﻊ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم، ﺻﻠﻮﺍﺕِ ﺃﻣّﺘﻪ ﻛﻠِّﻬﺎ، ﻓﻲ ﺍلأﻧﺤﺎﺀ ﻛﺎﻓﺔ، ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ، ﺇﺫ ﻣﺎﻫﻴﺘﻪ ﻧﻮﺭ ﻭﻫﻮﻳﺘﻪ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ.. ﻭﻧﻔﻬﻢ ﻛﺬﻟﻚ ﻛﻴﻒ ﺃﻧﻪ صلى الله عليه وسلم ﻳﻘﺎﺑﻞ ﺍلأﺻﻔﻴﺎﺀ ﻳﻮﻡ ﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻓﻲ ﻭﻗﺖ ﻭﺍﺣﺪ، ﻓـلا ﻳﻤﻨﻊ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪُ ﺍلآﺧﺮ.. ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺍﻛﺘﺴﺒﻮﺍ ﻣﺰﻳﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻄﻠﻖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺍﺳﻢ (ﺍلأﺑﺪﺍﻝ) ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﻳﻘﺎﻝ ﺇﻧﻬﻢ ﻳﺸﺎﻫَﺪﻭﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﺤﻈﺔ ﻧﻔﺴﻬﺎ، ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻛﻦ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ. ﻭﻳُﺮﻭﻯ ﻋﻨﻬﻢ ﺃﻥ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻧﻔﺴَﻪ ﻳﻨﺠﺰ ﺃﻋﻤﺎلا ﻣﺘﺒﺎﻳﻨﺔ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ. ﺇﺫ  ﻛﻤﺎ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﺰﺟﺎﺝ ﻭﺍﻟﻤﺎﺀ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻟﻸﺟﺴﺎﻡ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﻛﺬﻟﻚ ﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻭﺍلأﺛﻴﺮ ﻭﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ، ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻣﺮﺍﻳﺎ ﻟﻠﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ ﻭﻭﺳﺎﺋﻂ ﺳﻴﺮ ﻭﺗﺠﻮﺍﻝ ﻟﻬﺎ ﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﺍﻟﺒﺮﻕ ﻭﺍﻟﺨﻴﺎﻝ. ﻓﺘﺘﺠﻮﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ ﻭﺗﺴﻴﺢ ﻓﻲ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻨﺎﺯﻝ ﺍﻟﻠﻄﻴﻔﺔ ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﻳﺎ ﺍﻟﻨﻈﻴﻔﺔ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﺍﻟﺨﻴﺎﻝ، ﻓﺘﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺃﻟﻮﻑ ﺍلأﻣﺎﻛﻦ ﻓﻲ ﺁﻥ ﻭﺍﺣﺪ.

ﻓﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻋﺎﺟﺰﺓ ﻭﻣﺴﺨﺮﺓ ﻛﺎﻟﺸﻤﺲ، ﻭﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺷﺒﻪ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻣﻘﻴﺪﺓ ﺑﺎﻟﻤﺎﺩﺓ ﻛﺎﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻲ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻊ ﻭﺍﺣﺪ ﻭﻓﻲ ﻋﺪﺓ ﻣﻮﺍﺿﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ، ﺑﺴﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ، ﺇﺫ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻫﻮ ﺟﺰﺋﻲ ﻣﻘﻴّﺪ ﻳﻜﺴﺐ ﺣُﻜﻤﺎ ﻛﻠﻴﺎ ﻣﻄﻠﻘﺎ، ﻳﻔﻌﻞ ﺑﺎﺧﺘﻴﺎﺭ ﺟﺰﺋﻲ ﺃﻋﻤﺎلا ﻛﺜﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺁﻥ ﻭﺍﺣﺪ.. ﻓﻜﻴﻒ ﺇﺫﻥ ﺑﻤﻦ ﻫﻮ ﻣﺠﺮﺩ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ ﻭﻣﻘﺪﺱ ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻣﻦ ﻫﻮ ﻣﻨﺰّﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺤﺪﻳﺪ ﺑﺎﻟﻘﻴﺪ ﻭﻇﻠﻤﺔ ﺍﻟﻜﺜﺎﻓﺔ ﻭﻣُﺒﺮّﺃ ﻋﻨﻬﺎ.. ﺑﻞ ﻣﺎ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻧﻮﺍﺭ ﻭﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺎﺕ ﻛﻠﻬﺎ ﺇلا ﻇـلاﻝ ﻛﺜﻴﻔﺔ لأﻧﻮﺍﺭ ﺃﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ، ﺑﻞ ﻣﺎ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻛﻠﻬﺎ، ﻭﻋﺎﻟﻢ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻭﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺇلا ﻣﺮﺍﻳﺎ ﺷﺒﻪ ﺷﻔﺎﻓﺔ لإﻇﻬﺎﺭ ﺟﻤﺎﻝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺪﻭﺱ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺍﻟﺬﻱ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﻣﺤﻴﻄﺔ ﺑﻜﻞ ﺷﻲﺀ ﻭﺷﺆﻭﻧﻪ ﺷﺎﻣﻠﺔ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ.. ﺗُﺮﻯ ﺃﻱُّ ﺷﻲﺀ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺘﺴﺘﺮ ﻋﻦ ﺗﻮﺟﻪ ﺃﺣﺪﻳﺘﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺿﻤﻦ ﺗﺠﻠﻲ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﺍﻟﻤﺤﻴﻄﺔ ﻭﺗﺠﻠﻲ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﺑﺈﺭﺍﺩﺗﻪ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻋﻠﻤﻪ ﺍﻟﻤﺤﻴﻂ.. ﻭﺃﻱُّ ﺷﻲﺀ ﻳﺼﻌﺐ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺃﻱُّ ﺷﻲﺀ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻳﺘﺨﻔَّﻰ ﻋﻨﻪ.. ﻭﺃﻱُّ ﻓﺮﺩ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻈﻞ ﺑﻌﻴﺪﺍ ﻋﻨﻪ.. ﻭﺃﻳﺔ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻘﺘﺮﺏَ ﻣﻨﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻥ ﺗﻜﺘﺴﺐَ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ؟

ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﻧﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻄﻠﻴﻖ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﻘﻴﺪ، ﻭﺑﻮﺳﺎﻃﺔ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﺑﺆﺑﺆ ﻋﻴﻨﻚ، ﻭﻣﻊ ﻫﺬﺍ ﻓﺄﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﻌﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ، لأﻧﻚ ﻣﻘﻴﺪ، ﻓﻴﻠﺰﻡ ﺍﻟﺘﺠﺮﺩ ﻣﻦ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ، ﻭﻗﻄﻊ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﺗﺠﺎﻭﺯﻫﺎ ﻛﻲ ﺗﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﻭﻫﺬﺍ ﻳﺴﺘﻠﺰﻡ ﺃﻥ ﺗﻜﺒﺮ ﻛﺒﺮ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﻭﺗﻌﻠﻮ ﻋُﻠﻮّ ﺍﻟﻘﻤﺮ، ﻭﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺘﻘﺮﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍلأﺻﻠﻴﺔ ﻟﻠﺸﻤﺲ -ﺇﻟﻰ ﺣﺪٍ ﻣﺎ- ﻭﺗﺘﻘﺎﺑﻞ ﻣﻌﻬﺎ ﺩﻭﻥ ﺣﺠﺎﺏ.

ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﻤﺲ، ﻛﺬﻟﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، ﻭﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺫﻱ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ-، ﻓﻬﻮ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻭﺃﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﻌﺪﺍ لا ﺣَﺪَّ ﻟﻪ. ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻚ ﻗﻮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻠﺐ، ﻭﻋﻠﻮّ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﻘﻞ، ﻓﺤﺎﻭﻝْ ﺃﻥ ﺗﻄﺒﻖ ﺍﻟﻨﻘﺎﻁ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ

    ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (ﻳﺲ:82) ﻭﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ (ﻳﺲ:53)

ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻐﺎﻓﻠﺔ! ﺗﻘﻮﻟﻴﻦ ﺃﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬَﺎ ﺗﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺧُﻠﻘﺖ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺃﻣﺮ ﺇﻟﻬﻲ، ﻭﻇَﻬَﺮﺕ ﻟﻠﻮﺟﻮﺩ ﺩﻓﻌﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍلآﺗﻴﺔ: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (ﺍﻟﻨﻤﻞ:٨٨) ﻭ﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (ﺍﻟﺴﺠﺪﺓ:٧) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺗﺒﻴﻦ ﺃﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭُﺟﺪﺕْ ﺗﺪﺭﻳﺠﻴﺎ، ﺑﻘﺪﺭﺓ ﻋﻈﻴﻤﺔ، ﻭﻋﻠﻢ ﻣﺤﻴﻂ، ﻭﺇﺗﻘﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺼُّﻨﻊ ﺿﻤﻦ ﺣﻜﻤﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ. ﻓﺄﻳﻦَ ﻭﺟﻪُ ﺍﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؟

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﻧﻘﻮﻝ ﻣﺴﺘﻨﺪﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﻓﻴﺾ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ:

ﺃﻭلا: لا ﻣﻨﺎﻓﺎﺓَ ﺑﻴﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ، ﺇﺫ ﻗﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻳُﺨﻠﻖ ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍلأﻭﻟﻰ، ﻛﺎلإﻳﺠﺎﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺪﺀ، ﻭﻗﺴﻢ ﺁﺧﺮ ﻳﻜﻮﻥ ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻛﺈﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟﻤﺜﻞ.

ﺛﺎﻧﻴﺎ: ﺇﻥ ﻣﺎ ﻳُﺸﺎﻫﺪ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻣﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺤﺴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﻭﻛﻤﺎﻝ ﺍﻟﺨﻠﻘﺔ، ﺿﻤﻦ ﺳﻬﻮﻟﺔ ﻭﺳﺮﻋﺔ ﻭﻛﺜﺮﺓ ﻭﺳﻌﺔ، ﻳﺸﻬﺪ ﺑﻮﺟﻮﺩ ﺣﻘﺎﺋﻖ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﻘﺴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺷﻬﺎﺩﺓ ﻣﻄﻠﻘﺔ. ﻟﺬﺍ لا ﺩﺍﻋﻲ لأﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺪﺍﺭُ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺗﺤﻘﻖ ﻫﺬﻩ ﺍلأﻣﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ. ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻳﺼﺢ ﺃﻥ ﻳﻘﺎﻝ: ﻣﺎ ﺳﺮُّ ﺣﻜﻤﺔ ﻫﺬﻳﻦ ﺍﻟﻘﺴﻤﻴﻦ ﻣﻦ ﺍلإﻳﺠﺎﺩ ﻭﺍﻟﺨﻠﻖ؟.. ﻟﺬﺍ ﻧﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺑﻘﻴﺎﺱ ﺗﻤﺜﻴﻠﻲ؛ ﻓﻨﻘﻮﻝ ﻣﺜـلا:

ﺇﻥّ ﺻﺎﻧﻌﺎ ﻣﺎﻫﺮﺍ -ﻛﺎﻟﺨﻴّﺎﻁ ﻣﺜـلا- ﻳﺼﺮﻑ ﻣﺒﺎﻟﻎ ﻭﻳﺒﺬﻝ ﺟﻬﺪﺍ ﻭﻳﺰﺍﻭﻝ ﻣﻬﺎﺭﺓً ﻭﻓﻨﺎ، ﻟﻜﻲ ﻳﻮﺟﺪ ﺷﻴﺌﺎ ﺟﻤﻴـلا ﻳﺨﺺ ﺻﻨﻌﺘﻪ، ﻓﻴﻌﻤﻞ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ (ﻣﻮﺩﻳـلا) ﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺗﻪ، ﺇﺫ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻤﻞ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﺑـلا ﻣﺼﺎﺭﻳﻒ ﻭلا ﺗﻜﺎﻟﻴﻒ ﻭﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﺗﺎﻣﺔ، ﺑﻞ ﻗﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺍلأﻣﺮ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﺳﻬـلا ﻭﻳﺴﻴﺮﺍ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﻭﻛﺄﻧﻪ ﻳﺄﻣﺮ ﻭﺍﻟﻌﻤﻞ ﻳُﻨﺠَﺰ، ﻭﺫﻟﻚ لأﻧﻪ ﻗﺪ ﻛﺴﺐ ﺍﻧﺘﻈﺎﻣﺎ ﻭﺍﻃﺮﺍﺩﺍ ﺩﻗﻴﻘﺎ ﻛﺎﻟﺴﺎﻋﺔ ﻭﻛﺄﻥ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻳﺘﻢ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍلأﻣﺮ ﻟﻪ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﻭﺍﻟﻤﺼﻮﺭ ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ، ﻗﺪ ﺃﺑﺪﻉ ﻗﺼﺮ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻣﻊ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻴﻪ، ﺛﻢ ﺃﻭﺩﻉ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻓﻴﻪ، ﺟﺰﺋﻴﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﻛﻠﻴﺎ، ﺟﺰﺀﺍ ﻛﺎﻥ ﺃﻡ ﻛـلا، ﻣﻘﺪﺍﺭﺍ ﻣﻌﻴﻨﺎ، ﺑﻨﻈﺎﻡ ﻗﺪﺭﻱ ﺷﺒﻴﻪ ﺑﻨﻤﻮﺫﺝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻲﺀ.

ﻓﺈﻥ ﺗﺄﻣﻠﺖَ ﻓﻲ ﺃﻋﻤﺎﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺼﻮﺭ ﺍلأﺯﻟﻲ، ﺗﺮﺍﻩ ﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ (ﻣﻮﺩﻳـلا) ﻳُﻠﺒﺴﻪ ﻋﺎﻟﻤﺎ ﺑﻜﺮﺍ ﺟﺪﻳﺪﺍ ﻟﻄﻴﻔﺎ ﻣﺰﻳﻨﺎ ﺑﻤﻌﺠﺰﺍﺕ ﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺳﻨﺔ ﻣﻘﻴﺎﺳﺎ ﻳﻨﺴﺞ -ﺑﺨﻮﺍﺭﻕ ﺭﺣﻤﺘﻪ- ﻛﺎﺋﻨﺎﺕٍ ﺑِﻜﺮﺍ ﻋﻠﻰ ﻗﺪِّﻩ، ﻭﻳﺠﻌﻞ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺳﻄﺮﺍ ﻳﻜﺘﺐ ﻓﻴﻪ ﻣﻮﺟﻮﺩﺍﺕٍ ﺑِﻜﺮﺍ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﻣﺰﻳﻨﺔ ﺑﺪﻗﺎﺋﻖ ﺣﻜﻤﺘﻪ. ﺛﻢ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ ﻛﻤﺎ ﺟﻌﻞ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ ﻭﻛﻞ ﺳﻨﺔ ﻭﻛﻞ ﻳﻮﻡ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﺳﻄﺢ ﺍلأﺭﺽ ﺃﻳﻀﺎ، ﺑﻞ ﻛﻞ ﺟﺒﻞ ﻭﺻﺤﺮﺍﺀ، ﻭﻛﻞ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻭﺑﺴﺘﺎﻥ ﻭﻛﻞ ﺷﺠﺮ ﻭﺯﻫﺮ ﺃﻧﻤﻮﺫﺟﺎ ﻭﻳُﻨﺸﺊ ﻛﺎﺋﻨﺎﺕٍ ﺟﺪﻳﺪﺓً ﻏﻀّﺔً ﻣﺘﺠﺪﺩﺓ ﻣﺘﺮﺍﺩﻓﺔ ﻋﻠﻰ ﺍلأﺭﺽ، ﻓﻴﺨﻠﻖ ﺩﻧﻴﺎ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﻭﻳﺄﺗﻲ ﺑﻌﺎﻟﻢ ﻣﻨﺴَّﻖ ﺟﺪﻳﺪ ﺑﻌﺪ ﺃﻥ ﺳﺤﺐ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ﻣﻦ ﻋﺎﻟﻢ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻳُﻈﻬﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕٍ ﺑﻜﺮٍ ﻟﻘﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻳُﺒﺮﺯ ﻫﺪﺍﻳﺎ ﻣﺠﺪﺩﺓ ﻟﺮﺣﻤﺘﻪ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻭﺑﺴﺘﺎﻥ، ﻓﻴﻜﺘﺐ ﻛﺘﺎﺏ ﺣﻜﻤﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺑِﻜﺮ، ﻭﻳﻨﺼﺐ ﻣﻄﺒﺦ ﺭﺣﻤﺘﻪ ﻣﺘﺠﺪﺩﺍ ﻭﻳُﻠﺒﺲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩَ ﺣُﻠّﺔ ﺑﺪﻳﻌﺔ ﺟﺪﻳﺪﺓ، ﻭﻳﺨﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﺠﺮ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﺑﻴﻊ ﻭﺷﺎﺡ ﺍﻟﺴﻨﺪﺱ ﻭﻳﺰﻳّﻨﻪ ﺑﻤﺮﺻﻌﺎﺕ ﺟﺪﻳﺪﺓ ﺑﻜﺮ ﻛﺎﻟﻨﺠﻮﻡ ﺍﻟﻤﺘﻸ ﻟﺌﺔ، ﻭﻳﻤﻸ  ﺃﻳﺪﻳﻬﺎ ﺑﻬﺪﺍﻳﺎ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ..

ﻓﺎﻟﺬﻱ ﻳﻘﻮﻡ ﺑﻬﺬﻩ ﺍلأﻋﻤﺎﻝ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻛﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﺍﻟﺬﻱ ﻳﺒﺪّﻝ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﺍﻟﻤﻨﺸﻮﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺣﺒﻞ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻳﻌﻘﺐ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﻌﻀﺎ، ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﻭﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻭﺍلإﺗﻘﺎﻥ، لا ﺭﻳﺐ ﺃﻧﻪ ﻗﺪﻳﺮ ﻣﻄﻠﻖ ﻭﺣﻜﻴﻢ ﻣﻄﻠﻖ ﻭﺑﺼﻴﺮ ﻣﻄﻠﻖ ﻭﻋﻠﻴﻢ ﻣﻄﻠﻖ، لا ﻳﻤﻜﻦ ﺑﺤﺎﻝ ﻣﻦ ﺍلأﺣﻮﺍﻝ ﺃﻥ ﺗﺒﺪﻭ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ ﻗﻄﻌﺎ، ﻓﺬﻟﻜﻢ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻳﻘﻮﻝ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (ﻳﺲ:83) ﻭ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ (ﺍﻟﻨﺤﻞ:٧٧) ﻓﻴﻌﻠﻦ ﻗﺪﺭﺗﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻳﺒﻴﻦ ﺃﻥ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﻭﺍﻟﻴﺴﺮ، ﻭﺍﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻛﻠَّﻬﺎ ﻣﺴﺨّﺮﺓ لأﻭﺍﻣﺮﻩ ﻭﻣﻨﻘﺎﺩﺓ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻛﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ، ﻭﺃﻧﻪ ﻳﺨﻠﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺩﻭﻥ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻭلا ﻣﺰﺍﻭﻟﺔ ﻭلا ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﻭلأﺟﻞ ﺍلإﻓﺎﺩﺓ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻓﻲ ﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻋﺒّﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ ﺃﻧﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍلأﻣﺮ.

ﻭﺍﻟﺨـلاﺻﺔ: ﺃﻥّ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻳﻌﻠﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻓﻲ ﺧﻠﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺑﺪﺍﻳﺔ ﺍﻟﺨﻠﻖ. ﻭﻗﺴﻤﺎ ﺁﺧﺮ ﻳﺒﻴﻦ ﺍﻟﺴﻬﻮﻟﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﺍﻟﺴﺮﻋﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ ﻭﻋﺪﻡ ﺍﻟﻜﻠﻔﺔ ﻓﻲ ﺇﻳﺠﺎﺩ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭلاﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺗﻜﺮﺍﺭ ﺇﻳﺠﺎﺩﻫﺎ ﻭﺇﻋﺎﺩﺗﻬﺎ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻤﻮﺳﻮﺳﺔ! ﻳﺎ ﻣﻦ ﺗﺠﺎﻭﺯﺕِ ﺣﺪّﻙِ   ﺇﻧﻚ ﺗﻘﻮﻟﻴﻦ: ﺇﻥ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (ﻫﻮﺩ:56) ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (ﻳﺲ:83) ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ﻕ:16).. ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﺍلإﻟﻬﻲ ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺁﻳﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﺜﻞ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﻳﺲ:83) ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺝ:٤) ﻭﻛﺬﺍ ﻗﻮﻝ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ صلى الله عليه وسلم ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ (..ﺳﺒﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﺣﺠﺎﺏ) ﻭﻛﺬﺍ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝ.. ﻛﻞ ﻫﺬﻩ ﺗﺒﻴﻦ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺑُﻌْﺪِﻧﺎ ﻋﻨﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ. ﻓﺄﺭﻳﺪُ ﺇﻳﻀﺎﺣﺎ ﻟﺘﻘﺮﻳﺐ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﺮ ﺍﻟﻐﺎﻣﺾ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺫﻫﺎﻥ؟

ﺍﻟﺠﻮﺍﺏ: ﻭﻟﻬﺬﺍ ﺍﺳﺘﻤﻊ:

  ﺃﻭلا: ﻟﻘﺪ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻓﻲ ﺧﺘﺎﻡ ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍلأﻭﻝ؛ ﺃﻥّ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺑﻨﻮﺭﻫﺎ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﻘﻴّﺪ، ﻭﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﺑﺆﺑﺆ ﻋﻴﻨﻚ -ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﻟﻨﺎﻓﺬﺓ ﺭﻭﺣﻚ- ﺇلا ﺃﻧﻚ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﻌﺪ، لأﻧﻚ ﻣﻘﻴﺪ ﻭﻣﺤﺒﻮﺱ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ. ﻭلا ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺃﻥ ﺗﻤﺲ ﺇلا ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺻﻮﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﻨﻌﻜﺴﺔ ﻭﻇـلاﻟﻬﺎ ﻭلا ﺗﻘﺎﺑﻞ ﺇلا ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﺟﻠﻮﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﻭلا ﺗﺘﻘﺮﺏ ﺇلا لأﻟﻮﺍﻧﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻲ ﺣﻜﻢ ﺻﻔﺎﺗﻬﺎ، ﻭﻟﻄﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺃﺷﻌﺘﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺃﺳﻤﺎﺋﻬﺎ.

ﻭﻟﻮ ﺃﺭﺩﺕَ ﺃﻥ ﺗﺘﻘﺮﺏَ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍلأﺻﻠﻴﺔ ﻟﻠﺸﻤﺲ، ﻭﺃﺭﺩﺕَ ﺃﻥ ﺗﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﺑﺬﺍﺗﻬﺎ، ﻟَﺰِﻡَ ﻋﻠﻴﻚ ﺍﻟﺘﺠﺮﺩُ ﻋﻦ ﻛﺜﻴﺮ ﺟﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﻭﺍﻟﻤﻀﻲ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﻛﻠﻴﺔ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﻭﻛﺄﻧﻚ ﺗَﻜْﺒُﺮُ ﻣﻌﻨﻰً -ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺘﺠﺮﺩ- ﺑﻘﺪﺭ ﺍﻟﻜﺮﺓ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﻭﺗﻨﺒﺴﻂ ﺭﻭﺣﺎ ﻛﺎﻟﻬﻮﺍﺀ، ﻭﺗﺮﺗﻔﻊ ﻋﺎﻟﻴﺎ ﻛﺎﻟﻘﻤﺮ، ﻭﺗﻘﺎﺑﻞ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻛﺎﻟﺒﺪﺭ. ﻭﻣﻦ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻳﻤﻜﻨﻚ ﺃﻥ ﺗﺪّﻋﻲ ﻧﻮﻋﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﺩﻭﻥ ﺣﺠﺎﺏ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﺎﻟﺠﻠﻴﻞ ﺫﻭ ﺍﻟﻜﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﺠـلاﻝ، ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﺍﺟﺐ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ، ﺍﻟﻤﻮﺟﺪ  ﻟﻜﻞ ﻣﻮﺟﻮﺩ، ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺍﻟﺴﺮﻣﺪ، ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﺯﻝ ﻭﺍلأﺑﺪ، ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻴﻚ ﻣﻦ ﻧﻔﺴﻚ، ﻭﺃﻧﺖ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﺪﻳﻚ ﻗﻮﺓ ﺍلاﺳﺘﻨﺒﺎﻁ، ﻓﻄﺒّﻖ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻗﺎﺋﻖ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ.

ﺛﺎﻧﻴﺎ: ﺇﻥ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻘﺎﺋﺪ -ﻣﺜـلا- ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﻳﻈﻬﺮ ﻓﻲ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﻣﺘﺪﺍﺧﻠﺔ ﻓﻲ ﺩﻭﻟﺘﻪ، ﻓﺎﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻱ ﻭﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤﺸﻴﺮ ﻭﺍﻟﻔﺮﻳﻖ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﻠﻎ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤـلاﺯﻡ ﻭﺍﻟﻌﺮﻳﻒ. ﺃﻱ ﺃﻥّ ﺗﺠﻠِّﻲ ﻇﻬﻮﺭِﻩِ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﻭﺍﺳﻌﺔ ﻭﺩﻭﺍﺋﺮ ﺿﻴﻘﺔ ﻭﺑﺸﻜﻞ ﻛﻠﻲ ﻭﺟﺰﺋﻲ.

ﻓﺎﻟﺠﻨﺪﻱ، ﺃﺛﻨﺎﺀ ﺧﺪﻣﺘﻪ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ، ﻳﺘﺨﺬ ﻣﻦ ﻣﻘﺎﻡ ﺍﻟﻌﺮﻳﻒ ﻣﺮﺟﻌﺎ ﻟﻪ، ﻟﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻇﻬﻮﺭ ﺟﺰﺋﻲ ﺟﺪﺍ ﻟﻠﻘﻴﺎﺩﺓ. ﻭﻳﺘﺼﻞ ﺑﻘﺎﺋﺪﻩ ﺍلأﻋﻠﻰ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻟﺘﺠﻠﻲ ﺍﻟﺠﺰﺋﻲ لاﺳﻤﻪ، ﻭﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻪ ﺑﻌـلاﻗﺔ. ﻭﻟﻜﻦ ﻟﻮ ﺃﺭﺍﺩ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﻨﺪﻱ ﺃﻥ ﻳﺘﺼﻞ ﺑﺎﻟﻘﺎﺋﺪ ﺍلأﻋﻠﻰ ﺑﺎﺳﻤﻪ ﺍلأﺻﻠﻲ، ﻭﺃﻥ ﻳﻘﺎﺑﻠﻪ ﺑﺬﻟﻚ ﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻟﻪ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﻭﻗﻄﻊ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﻛﻠﻬﺎ ﻣﻦ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻌﺮﻳﻒ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﻌﺎﻡ. ﺃﻱ ﺇﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺠﻨﺪﻱ ﺑﺎﺳﻤﻪ ﻭﺣﻜﻤﻪ ﻭﻗﺎﻧﻮﻧﻪ ﻭﻋﻠﻤﻪ ﻭﻫﺎﺗﻔﻪ ﻭﺗﺪﺑﻴﺮﻩ، ﻭﺍﻥ ﻛﺎﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺎ ﻭﻣﻦ ﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍلأﺑﺪﺍﻝ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻜﻮﻥ ﻗﺮﻳﺒﺎ ﺇﻟﻴﻪ ﺑﺤﻀﻮﺭﻩ ﺑﺎﻟﺬﺍﺕ، ﺇﺫ لا ﻳﻤﻨﻊ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻭلا ﻳﺤﻮﻝ ﺩﻭﻧﻪ ﺷﻲﺀ. ﻭﻣﻊ ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺠﻨﺪﻱ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ، ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﻌﺪ ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻮﻝ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻭﻫﻨﺎﻙ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺠﺐ ﺗﻔﺼﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻳﺸﻔﻖ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪ ﺍﻟﺠﻨﻮﺩ ﻓﻴﺄﺧﺬﻩ ﺇﻟﻰ ﺣﻀﻮﺭ ﺩﻳﻮﺍﻧﻪ  ﺧـلاﻑ ﺍﻟﻤﻌﺘﺎﺩ  ﻭﻳﺴﺒﻎ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﻓﻀﺎﻟﻪ ﻭﺃﻟﻄﺎﻓﻪ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﺎﻟﻤﺎﻟﻚ لأﻣﺮ (ﻛﻦ ﻓﻴﻜﻮﻥ) ﺍﻟﻤﺴﺨّﺮ ﻟﻠﺸﻤﻮﺱ ﻭﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻛﺎﻟﺠﻨﻮﺩ ﺍﻟﻤﻨﻘﺎﺩﺓ؛ ﻓﻬﻮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺃﻱ ﺷﻲﺀ ﻛﺎﻥ، ﻣﻊ ﺃﻥ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺑﻌﻴﺪ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪﺍ لا ﺣﺪﻭﺩ ﻟﻪ. ﻭﺇﺫﺍ ﺃﺭﻳﺪ ﺍﻟﺪﺧﻮﻝ ﺇﻟﻰ ﺩﻳﻮﺍﻥ ﻗﺮﺑﻪ ﻭﺣﻀﻮﺭﻩ ﺍﻟﻤﻘﺪﺱ ﺑـلا ﺣﺠﺎﺏ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺴﺘﻠﺰﻡ ﺍﻟﻤﺮﻭﺭ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﺳﺒﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﺣﺠﺎﺏ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﺠﺐ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﻈﻠﻤﺔ، ﺃﻱ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ ﻭﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻭﺍلأﺳﻤﺎﺋﻴﺔ ﻭﺍﻟﺼﻔﺎﺗﻴﺔ، ﺛﻢ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺍﺳﻢ ﻣﻦ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻪ ﺃﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺨﺼﻮﺻﻴﺔ ﻭﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻭﺍﻟﻤﺮﻭﺭ ﺇﻟﻰ ﻃﺒﻘﺎﺕ ﺻﻔﺎﺗﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﻭﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺛﻢ ﺍﻟﻌﺮﻭﺝ ﺇﻟﻰ ﻋﺮﺷﻪ ﺍلأﻋﻈﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﻈﻲ ﺑﺎلاﺳﻢ ﺍلأﻋﻈﻢ؛ ﻓﺎﻥ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻫﻨﺎﻙ ﺟﺬﺏ ﻭﻟﻄﻒ ﺇﻟﻬﻲ ﻳﻠﺰﻡ ﺃﻟﻮﻓﺎ ﻣﻦ ﺳﻨﻲّ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻭﺍﻟﺴﻠﻮﻙ.

ﻣﺜﺎﻝ: ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﺕ ﺃﻥ ﺗﺘﻘﺮﺏ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ) ﻓﻌﻠﻴﻚ ﺍلاﺭﺗﺒﺎﻁ ﻭﺗﻜﻮﻳﻦ ﻋـلاﻗﺔ ﺃﻭلا ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﺧﺎﻟﻘﻚ ﺍﻟﺨﺎﺹ، ﺛﻢ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺇﻧﻪ ﺧﺎﻟﻖ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻨﺎﺱ، ﺛﻢ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﺃﻧﻪ ﺧﺎﻟﻖ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻜﺎﺋﻨﺎﺕ ﺍﻟﺤﻴﺔ، ﺛﻢ ﺑﺎﺳﻢ ﺧﺎﻟﻖ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻛﻠِّﻬﺎ. ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﺗﺘﺪﺭﺝ ﻫﻜﺬﺍ ﺗﺒﻘﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﻈﻞ ﻭلا ﺗﺠﺪ ﺇلا ﺟﻠﻮﺓ ﺟﺰﺋﻴﺔ.

ﺗﻨﺒﻴﻪ: ﺇﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻗﺪ ﻭﺿﻊ ﻓﻲ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﺓ ﻭﺳﺎﺋﻂ ﻛﺎﻟﻤﺸﻴﺮ ﻭﺍﻟﻔﺮﻳﻖ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻌﺠﺰﻩ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﺎلأﻋﻤﺎﻝ ﺑﻨﻔﺴﻪ. ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺬﻱ ﺑﻴﺪﻩ ﻣﻠﻜﻮﺕ ﻛﻞِّ ﺷﻲﺀ، ﻭﺫﻟﻚ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ، ﻓﻬﻮ ﻣﺴﺘﻐﻦٍ ﻋﻦ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻂ، ﺑﻞ ﻟﻴﺴﺖ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻂ ﺇلا ﺃﻣﻮﺭﺍ ﻇﺎﻫﺮﻳﺔ ﺑﺤﺘﺔ، ﺗﻤﺜﻞ ﺳﺘﺎﺭ ﺍﻟﻌﺰﺓ ﻭﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﻭﺩلاﺋﻞ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻣﻦ ﺧـلاﻝ ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ ﻭﻋﺠﺰ ﻭﺍﻓﺘﻘﺎﺭ ﻭﺍﻧﺒﻬﺎﺭ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ، ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻮﺳﺎﺋﻂ ﻣُﻌﻴﻨﺔ ﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭلا ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺷﺮﻳﻜﺔ ﻓﻲ ﺳﻠﻄﻨﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻗﻄﻌﺎ لأﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺇلا ﻭﺳﺎﺋﻞ ﻟﻠﻤﺸﺎﻫﺪﺓ ﻭﺍﻟﺘﻔﺮﺝ.

   ﺍﻟﺸﻌﺎﻉ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ ﺍﻟﻜﺴﻮﻟﺔ!. ﺇﻥّ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻛﻤﻌﺮﺍﺝ ﺍﻟﻤﺆﻣﻦ ﺷﺒﻴﻬﺔ ﺑﻘﺒﻮﻝ ﺩﺧﻮﻝ ﺟﻨﺪﻱ ﺑﺴﻴﻂ ﺇﻟﻰ ﺩﻳﻮﺍﻥ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﻋﻈﻢ ﺑﻤﺤﺾ ﻟﻄﻔﻪ -ﻛﻤﺎ ﺫﻛﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ- ﻓﻘﺒﻮﻟﻚ ﺃﻳﻀﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺜﻮﻝ ﺃﻣﺎﻡ ﺟـلاﻟﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﻤﺤﺾ ﻟﻄﻒ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺫﻱ ﺍﻟﺠﻤﺎﻝ ﻭﺍﻟﻤﻌﺒﻮﺩ ﺫﻱ ﺍﻟﺠـلاﻝ. ﻓﺄﻧﺖ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﻘﻮﻝ: ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ. ﺗﻤﻀﻲ ﻣﻌﻨﻰً ﻭﺗﻘﻄﻊ ﺧﻴﺎلا ﺃﻭ ﻧﻴّﺔً ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍلآﺧﺮﺓ، ﺣﺘﻰ ﺗﺘﺠﺮﺩ ﻋﻦ ﺍﻟﻘﻴﻮﺩ ﺍﻟﻤﺎﺩﻳﺔ، ﻓﺘﺼﻌﺪ ﻣﻜﺘﺴﺒﺎ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻋﺒﻮﺩﻳﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﺃﻭ ﻇـلا ﻣﻦ ﻇـلاﻝ ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﺃﻭ ﺑﺼﻮﺭﺓ ﻣﻦ ﺻﻮﺭﻫﺎ، ﻭﺗﺘﺸﺮﻑ ﺑﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ ﻭﺍﻟﻤﺜﻮﻝ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻳﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻓﺘﻨﺎﻝ ﺣﻈﻮﺓ ﻋﻈﻤﻰ ﺑﺨﻄﺎﺏ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ﻛﻞّ ﺣﺴﺐَ ﺩﺭﺟﺘﻪ.

ﺣﻘﺎ ﺇﻥ ﻛﻠﻤﺔ (ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ.. ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ) ﻭﺗﻜﺮﺍﺭَﻫﺎ ﻓﻲ ﺣﺮﻛﺎﺕ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﻭﺃﻓﻌﺎﻟِﻬﺎ ﻫﻲ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻟﻘﻄﻊ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﻭﺍﻟﻌﺮﻭﺝ ﺇﻟﻰ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺮﻗﻲ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ، ﻭﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﻣﻦ ﺍﻟﺪﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ، ﻓﻬﻲ ﻋﻨﻮﺍﻥ ﻟﻤﺠﻤﻞ ﻛﻤﺎلاﺕ ﻛﺒﺮﻳﺎﺀ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺧﺎﺭﺝ ﻧﻄﺎﻕ ﻣﻌﺮﻓﺘﻨﺎ، ﻭﻛﺄﻥّ ﻛﻞَّ ﻛﻠﻤﺔ ﻣﻦ (ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ) ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻗﻄﻊ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻣﻦ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻤﻌﺮﺍﺝ. ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺒﻠﻮﻍ ﺇﻟﻰ ﻇﻞ ﺃﻭ ﺷﻌﺎﻉ ﻣﻦ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺼـلاﺓ ﻫﺬﻩ، ﻣﻌﻨﻰً ﺃﻭ ﻧﻴﺔً ﺃﻭ ﺗﺼﻮﺭﺍ ﺃﻭ ﺧﻴﺎلا ﻟﻬﻮ ﻧﻌﻤﺔ ﻋﻈﻤﻰ ﻭﺳﻌﺎﺩﺓ ﻛﺒﺮﻯ. ﻭلأﺟﻞ ﻫﺬﺍ ﻳُﺮﺩﺩ ﺫﻛﺮ (ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ) ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺞ ﺑﻜﺜﺮﺓ ﻫﺎﺋﻠﺔ. لأﻥ ﺍﻟﺤﺞ؛ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﻓﻲ ﻣﺮﺗﺒﺔ ﻛﻠﻴﺔ ﻟﻜﻞ ﺣﺎﺝ ﺑﺎلأﺻﺎﻟﺔ.

ﻓﺎﻟﺠﻨﺪﻱ ﺍﻟﺒﺴﻴﻂ ﻳﺬﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺤﻀﻮﺭ ﺍﻟﻤﻠﻜﻲ ﻓﻲ ﻳﻮﻡ ﺧﺎﺹ -ﻛﺎﻟﻌﻴﺪ- ﻣﺜﻠﻤﺎ ﻳﺬﻫﺐ ﺍﻟﻔﺮﻳﻖ ﻓﻴﻨﺎﻝُ ﻟﻄﻒَ ﻣﻠﻴﻜﻪ ﻭﻛﺮﻣﻪ. ﻛﺬﻟﻚ ﺍﻟﺤﺎﺝ -ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻮﺍﻡ- ﻓﻬﻮ ﻣﺘﻮﺟِّﻪ ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﺭﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ، ﻛﺎﻟﻮﻟﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻗﻄﻊ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ، ﻓﻬﻮ ﻣﺸﺮّﻑ ﺑﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﻛﻠﻴﺔ، ﻓـلاﺑﺪَّ ﺃﻥ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ ﻟﻠﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﺘﺢ ﺑﻤﻔﺘﺎﺡ ﺍﻟﺤﺞ، ﻭﺁﻓﺎﻕ ﻋﻈﻤﺔ ﺍلأﻟﻮﻫﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺑﻤﻨﻈﺎﺭ ﺍﻟﺤﺞ، ﻭﺩﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺘﻮﺳﻊ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ ﺍﻟﺤﺎﺝ ﻭﺧﻴﺎﻟﻪ، ﻛﻠﻤﺎ ﻗﺎﻡ ﻭﺃﺩّﻯ ﻣﻨﺎﺳﻚ ﺍﻟﺤﺞ، ﻭﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻜﺒﺮﻳﺎﺀ ﻭﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﻭﺃﻓﻖ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﻨﺢ ﺣﺮﺍﺭﺓ ﺍﻟﺸﻮﻕ، ﻭﺍلإﻋﺠﺎﺏ ﻭﺍلاﻧﺒﻬﺎﺭ، ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻈﻤﺔ ﺍلأﻟﻮﻫﻴﺔ ﻭﻫﻴﺒﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ، لا ﻳﺴﻜّﻦ ﺇلا ﺑـ(ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ.. ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ)! ﻭﺑﻪ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻌﻠﻦ ﻋﻦ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻤﻨﻜﺸﻔﺔ ﺍﻟﻤﺸﻬﻮﺩﺓ ﺃﻭ ﺍﻟﻤﺘﺼﻮﺭﺓ.

ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺘﺠﻠﻰ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺤﺞ ﻓﻲ ﺻـلاﺓ ﺍﻟﻌﻴﺪ، ﺑﺪﺭﺟﺎﺕ ﻋﻠﻮﻳﺔ ﻭﻛﻠﻴﺔ ﻭﻣﺘﻔﺎﻭﺗﺔ، ﻭﻛﺬﺍ ﻓﻲ ﺻـلاﺓ ﺍلاﺳﺘﺴﻘﺎﺀ ﻭﺻـلاﺓ ﺍﻟﻜﺴﻮﻑ ﻭﺍﻟﺨﺴﻮﻑ ﻭﺻـلاﺓ ﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺔ.

ﻭﻣﻦ ﻫﺬﺍ ﺗﻈﻬﺮ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﺸﻌﺎﺋﺮ ﺍلإﺳـلاﻣﻴﺔ ﺣﺘﻰ ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ﺍﻟﺴﻨﻦ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ.

ﺳﺒﺤﺎﻥ ﻣﻦ ﺟﻌﻞ ﺧﺰﺍﺋﻨﻪ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻜﺎﻑ ﻭﺍﻟﻨﻮﻥ.

 ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (ﻳﺲ:83)

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

 ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾

﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾

ﻭَﺻَﻞِّ ﻭَﺳَﻠِّﻢْ ﻋَﻠَﻰ ﺭَﺳُﻮﻟِﻚَ ﺍْلأﻛْﺮَﻡِ، ﻣَﻈْﻬَﺮِ ﺍﺳْﻤِﻚَ ﺍْلأﻋْﻈَﻢِ، ﻭَﻋَﻠَﻰ ﺁﻟِﻪِ ﻭَﺃﺻْﺤَﺎﺑِﻪِ ﻭَﺇﺧْﻮَﺍﻧِﻪِ ﻭَﺃﺗْﺒَﺎﻋِﻪِ ﺁﻣِﻴﻦَ ﻳَﺎ ﺃﺭْﺣَﻢَ ﺍﻟﺮَّﺍﺣِﻤِﻴﻦَ.

   ﺫﻳﻞ ﺻﻐﻴﺮ

    ﺇﻥ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﻌﻠﻴﻢ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ، ﻳُﻈﻬﺮ ﻗﺪﺭﺗَﻪ ﻭﺣﻜﻤﺘﻪ، ﻭﻋﺪﻡَ ﺗﺪﺧﻞ ﺍﻟﻤﺼﺎﺩﻓﺔ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻓﻌﻞ ﻣﻦ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﻗﻄﻌﺎ، ﺑﺎﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻈﻬﺮﻩ ﻋﺎﺩﺍﺗُﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺭﺓ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ.. ﻭﻛﺬﺍ ﻳُﻈﻬﺮ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﺸﻮﺍﺫ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ، ﻭﺑﺨﻮﺍﺭﻕ ﻋﺎﺩﺍﺗﻪ، ﻭﺑﺎﻟﺘﻐﻴﺮﺍﺕ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ، ﻭﺑﺎﺧﺘـلاﻑ ﺍﻟﺘﺸﺨﺼﺎﺕ، ﻭﺑﺘﺒﺪﻝ ﺯﻣﺎﻥ ﺍﻟﻨﺰﻭﻝ ﻭﺍﻟﻈﻬﻮﺭ.. ﻳُﻈﻬﺮ ﻣﺸﻴﺌﺘَﻪ ﻭﺇﺭﺍﺩﺗَﻪ، ﻭﺃﻧﻪ ﺍﻟﻔﺎﻋﻞ ﺍﻟﻤﺨﺘﺎﺭ، ﻭﺃﻥ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻩ لا ﻳﺮﺿﺦ لأﻱ ﻗﻴﺪ ﻛﺎﻥ، ﻣﻤﺰّﻗﺎ ﺑﻬﺬﺍ ﺳﺘﺎﺭ ﺍﻟﺮﺗﺎﺑﺔ ﻭﺍلاﻃﺮﺍﺩ، ﻓﻴُﻌﻠﻢ: ﺃﻥّ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺁﻥ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺷﺄﻥ ﻣﻦ ﺷﺆﻭﻧﻪ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﺨﺼﻪ ﻭﻳﻌﻮﺩ ﺇﻟﻴﻪ، ﻣﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻴﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ، ﻣﻨﻘﺎﺩ ﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺘﻪ.. ﻭﺑﻬﺬﺍ ﻳُﺸﺘﺖ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔَ، ﻭﻳﺼﺮﻑُ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ، ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ ﻋﻦ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺒﺐ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ.

ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍلأﺳﺎﺱ ﺗﺘﻮﺟﻪ ﺑﻴﺎﻧﺎﺕ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ.

ﻓﻤﺜـلا: ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻲ ﺃﻏﻠﺐ ﺍلأﻣﺎﻛﻦ، ﺃﻥ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلأﺷﺠﺎﺭ ﺍﻟﻤﺜﻤﺮﺓ، ﺗﺜﻤﺮ ﺳﻨﺔ، ﺃﻱ ﺗُﻌﻄﻰ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﺰﻳﻨﺔ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﻭﻫﻲ ﺑﺪﻭﺭﻫﺎ ﺗﺴﻠّﻤﻬﺎ ﺇﻟﻴﻨﺎ. ﻭﻟﻜﻦ ﺍﻟﺴﻨﺔ ﺍلأﺧﺮﻯ ﺗﺘﺴﻠﻢ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓ ﺇلا ﺃﻧﻬﺎ لا ﺗﻌﻄﻴﻬﺎ، ﺭﻏﻢ ﻭﺟﻮﺩ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﻟﻸﺛﻤﺎﺭ.

ﻭﻣﺜـلا: ﺇﻥ ﺃﻭﻗﺎﺕَ ﻧﺰﻭﻝ ﺍﻟﻤﻄﺮ -ﺑﺨـلاﻑ ﺍلأﻣﻮﺭ ﺍﻟـلاﺯﻣﺔ ﺍلأﺧﺮﻯ- ﻣﺘﺤﻮﻟﺔ ﻭﻣﺘﻐﻴﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﺩﺭﺟﺔ ﺩﺧﻠﺖ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻤﻐﻴّﺒﺎﺕ ﺍﻟﺨﻤﺴﺔ ﺇﺫ ﺇﻥ ﺃﻫﻢَّ ﻣﻮﻗﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻫﻮ ﻟﻠﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ، ﻭﺍﻟﻤﻄﺮ ﻣﻨﺸﺄ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺼﺔ، ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﺍﻟﺒﺎﻋﺚ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻤﻬﺪﺍﺓ، لا ﻳﺪﺧﻞ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻘﺎﻋﺪﺓ ﺍﻟﻤﻄﺮﺩﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﺠﺐ ﻋﻦ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺗﻮﺭﺙ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ، ﺑﻞ ﺗﻜﻮﻥ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺔ ﺫﻱ ﺍﻟﺠـلاﻝ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺣﺠﺎﺏ ﻭﺿﻤﻦ ﺗﺼﺮﻑ ﺍﻟﻤﻨﻌﻢ ﺍﻟﻤﺤﻴﻲ ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ. ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻜﻲ ﺗﺒﻘﻰ ﺃﺑﻮﺍﺏُ ﺍﻟﺪﻋﺎﺀ ﻭﺍﻟﺸﻜﺮ ﻣﻔﺘﻮﺣﺔً ﺩﺍﺋﻤﺎ.

ﻭﻣﺜـلا: ﺇﻥ ﺇﻋﻄﺎﺀ ﺍﻟﺮﺯﻕ، ﻭﺗﺸﺨﻴﺺَ ﺳﻴﻤﺎﺀ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻣـلاﻣِﺤﻪ ﻭﺻﻮﺭﺗِﻪ، ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺇﺣﺴﺎﻥ ﺇﻟﻬﻲ ﻳﻮﻫﺒﻪ ﻟﻪ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ لا ﻳُﺤﺘﺴﺐ، ﻣﻤﺎ ﻳﺒﻴّﻦ ﺑﺠـلاﺀ ﻃـلاﻗﺔ ﺍﻟﻤﺸﻴﺌﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﻭﺍلاﺧﺘﻴﺎﺭ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ.

ﻭﻗﺲ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺗﺼﺮﻳﻒ ﺍﻟﺮﻳﺎﺡ ﻭﺗﺴﺨﻴﺮ ﺍﻟﺴﺤﺎﺏ ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺆﻭﻥ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ (ﺍﻟﻤﻠﻚ:٥)

    ﻳﺎ ﻣَﻦ ﺗَﻌﻠَّﻢ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺪﺍﺭﺱ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻣﺴﺎﺋﻞَ ﻓﺎﻗﺪﺓً ﻟﻠﺮﻭﺡ ﻓﻲ ﻋﻠﻢ ﺍﻟﻔﻠﻚ، ﻓﻀﺎﻕ ﺫﻫﻨُﻪ، ﻭﺍﻧﺤﺪﺭ ﻋﻘﻠﻪ ﺇﻟﻰ ﻋﻴﻨﻪ ﺣﺘﻰ ﺍﺳﺘﻌﺼﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﺳﺘﻴﻌﺎﺏ ﺍﻟﺴﺮ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻟﻬﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ. ﺍﻋﻠﻢ ﺃﻥّ ﻟﻠﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺳﻤﺎﺀ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺳُﻠّﻤﺎ ﺫﺍ ﺳَﺒْﻊِ ﺩﺭﺟﺎﺕٍ ﻭﻣﺮﺍﺗﺐَ، ﻫﻴّﺎ ﻧﺼﻌﺪْ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻣﻌﺎ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍلأﻭﻟﻰ

    ﺇﻥ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺗﻘﺘﻀﻴﺎﻥ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻟﻠﺴﻤﺎﺀ ﺃﻫﻠﻮﻥ ﻳﻨﺎﺳﺒﻮﻧﻬﺎ -ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺽ- ﻭﻳﺴﻤﻰ ﻓﻲ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺍلأﺟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ.

ﻧﻌﻢ، ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﻫﻜﺬﺍ، ﺇﺫ ﺇﻥ ﻣَﻞﺀ ﺍلأﺭﺽ، ﻣﻊ ﺻﻐﺮﻫﺎ ﻭﺣﻘﺎﺭﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﺑﺬﻭﻱ ﺣﻴﺎﺓ ﻭﺇﺩﺭﺍﻙ، ﻭﺇﻋﻤﺎﺭﻫﺎ ﺣﻴﻨﺎ ﺑﻌﺪ ﺣﻴﻦ ﺑﺬﻭﻱ ﺇﺩﺍﺭﻙ ﺁﺧﺮﻳﻦ ﺑﻌﺪ ﺇﺧـلاﺋﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺎﺑﻘﻴﻦ ﻳﺸﻴﺮ -ﺑﻞ ﻳﺼﺮّﺡ- ﺑﺎﻣﺘـلاﺀ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺫﺍﺕِ ﺍﻟﺒﺮﻭﺝ ﺍﻟﻤﺸﻴﺪﺓ، ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻘﺼﻮﺭ ﺍﻟﻤﺰﻳﻨﺔ، ﺑﺬﻭﻱ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻭﺷﻌﻮﺭ. ﻓﻬﺆلاﺀ ﻛﺎﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ، ﻣُﺸﺎﻫﺪﻭ ﻗﺼﺮِ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻣُﻄﺎﻟﻌﻮ ﻛﺘﺎﺏ ﺍﻟﻜﻮﻥ، ﺃﺩلاﺀ ﺇﻟﻰ ﻋﻈﻤﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﻭﻣﻨﺎﺩﻭﻥ ﺇﻟﻴﻬﺎ؛ لأﻥ ﺗﺰﻳﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﺗﺠﻤﻴﻠَﻪ ﺑﻤﺎ لا ﻳُﻌﺪ ﻭلا ﻳﺤﺼﻰ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺰﻳﻴﻨﺎﺕ ﻭﺍﻟﻤﺤﺎﺳﻦ ﻭﺍﻟﻨﻘﻮﺵ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ، ﻳﻘﺘﻀﻲ -ﺑﺪﺍﻫﺔً- ﺟﻠﺐَ ﺃﻧﻈﺎﺭٍ ﻣﺘﻔﻜﺮﻳﻦ ﻣﺴﺘﺤﺴﻨﻴﻦ ﻭﻣﻘﺪّﺭﻳﻦ ﻣﻌﺠﺒﻴﻦ، ﺇﺫ لا ﻳُﻈْﻬَﺮ ﺍﻟﺤﺴﻦُ ﺇلا ﻟﻌﺎﺷﻖ، ﻛﻤﺎ لا ﻳُﻌﻄﻰ ﺍﻟﻄﻌﺎﻡ ﺇلا ﻟﺠﺎﺋﻊ، ﻣﻊ ﺃﻥ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﻦ لا ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﺎﻥ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺇلا ﺑﻮﺍﺣﺪ ﻣﻦ ﻣﻠﻴﻮﻥ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩﺓ ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺍلإﺷﺮﺍﻑ  ﺍﻟﻤﻬﻴﺐ ﻭﺍﻟﻌﺒﻮﺩﻳﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻟﻤﺘﻨﻮﻋﺔ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﻤﺘﻨﺎﻫﻴﺔ ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﺍﻟﺘﻲ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻬﺎ ﺗﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ لا ﻳﻌﺪ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺃﺟﻨﺎﺱ ﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ. ﻭﻛﺬﺍ، ﺑﻨﺎﺀً ﻋﻠﻰ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﺮﻭﺍﻳﺎﺕ ﻭﺍلآﺛﺎﺭ، ﻭﺑﻤﻘﺘﻀﻰ ﺣﻜﻤﺔ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ:

ﺇﻥّ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلأﺟﺴﺎﻡ ﺍﻟﺴﻴّﺎﺭﺓ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺑﺎﻟﻘﻄﺮﺍﺕ ﺍﻟﺪﻗﻴﻘﺔ، ﻣﺮﺍﻛﺐ ﻟﻘﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ، ﻓﻬﻢ ﻳﺮﻛﺒﻮﻥ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺟﺴﺎﻡ  ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ  ﻭﻳﺘﺠﻮﻟﻮﻥ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﻭﻳﺘﻔﺮﺟﻮﻥ ﻋﻠﻴﻪ.

ﻭﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ ﺃﻳﻀﺎ: ﺇﻥ ﻗﺴﻤﺎ ﻣﻦ ﺍلأﺟﺴﺎﻡ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﻴﺔ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﻃﻴﻮﺭ ﺍﻟﺠﻨﺔ ﺍﻟﻤﻮﺻﻮﻓﺔ ﺑـ (ﻃﻴﺮ ﺧﻀﺮ) -ﻛﻤﺎ ﻭﺭﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ- ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺑﺎﻟﺬﺑﺎﺏ ﻭﺍﻟﺒﻌﻮﺽ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺽ، ﻃﻴﺎﺭﺍﺕ ﻟﺠﻨﺲ ﻣﻦ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ، ﺗﺪﺧﻞ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﻓﻲ ﺃﺟﻮﺍﻓﻬﺎ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﻠﻪ (ﺍﻟﺤﻖ) ﻭﺗﺸﺎﻫﺪُ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺠﺴﻤﺎﻧﻴﺎﺕ، ﻭﺗُﻄﻞُّ ﻣﻦ ﻧﻮﺍﻓﺬ ﺣﻮﺍﺱِ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻣﺸﺎﻫﺪﺓَ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕِ ﺍﻟﻔﻄﺮﺓ ﺍﻟﺠﺴﻤﺎﻧﻴﺔ.

ﻓﺎﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺨﻠﻖ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺍﻟﻜﺜﻴﻒ ﻭﺍﻟﻤﺎﺀ ﺍﻟﻌﻜﺮ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕٍ ﺫﻭﺍﺕ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻣﻨﻮﺭﺓ، ﻭﺣﻴﺎﺓ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻟﻄﻴﻔﺔ، لا ﺭﻳﺐ ﺃﻥ ﻟﻪ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕٍ ﺫﻭﺍﺕ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﻭﺷﻌﻮﺭ ﻳﺨﻠﻘﻬﺎ ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﺑﻞ ﻣﻦ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﻈﻠﻤﺎﺕ، ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﺃﻟﻴﻖ ﻟﻠﺮﻭﺡ ﻭﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﻭﺃﻧﺴﺐ ﻟﻬﻤﺎ. ﺑﻞ ﻫﻲ ﻣﻮﺟﻮﺩﺓ ﺑﻜﺜﺮﺓ ﻫﺎﺋﻠﺔ.

ﻓﺈﻥ ﺷﺌﺖ ﻓﺮﺍﺟﻊ ﺭﺳﺎﻟﺔ (ﻧﻘﻄﺔ ﻣﻦ ﻧﻮﺭ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻠﻪ ﺟﻞّ ﺟـلاﻟﻪ) ﻭ(ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ) ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺُّ ﺇﺛﺒﺎﺕَ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕ. ﻓﻘﺪ ﺃﺛﺒﺘﻨﺎ ﻭﺟﻮﺩﻫﻢ ﺇﺛﺒﺎﺗﺎ ﺟﺎﺯﻣﺎ ﻗﺎﻃﻌﺎ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺜﺎﻧﻴﺔ

    ﺇﻥ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺫﺍﺕُ ﻋـلاﻗﺔٍ ﺑﻌﻀﻬﺎ ﺑﺒﻌﺾ، ﻛﻌـلاﻗﺔ ﻣﻤﻠﻜﺘﻴﻦ ﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻓﺒﻴﻨﻬﻤﺎ ﺍﺭﺗﺒﺎﻁ ﻭﺛﻴﻖ ﻭﻣﻌﺎﻣـلاﺕ ﻣﻬﻤﺔ، ﻓﻤﺎ ﻫﻮ ﺿﺮﻭﺭﻱ ﻟـلأﺭﺽ ﻣﻦ ﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﻭﺍﻟﺤﺮﺍﺭﺓ ﻭﺍﻟﺒﺮﻛﺔ ﻭﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﻭﻣﺎ ﺷﺎﺑﻬﻬﺎ ﺗﺄﺗﻲ ﻛﻠُّﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺭﺽ، ﺃﻱ ﺗُﺮﺳﻞ ﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ.

ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺒﺈﺟﻤﺎﻉ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺩﻳﺎﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻨﺪﺓ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺣﻲ ﺍلإﻟﻬﻲ، ﻭﺑﺎﻟﺘﻮﺍﺗﺮ ﺍﻟﺤﺎﺻﻞ ﻣﻦ ﺷﻬﻮﺩ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻜﺸﻒ، ﺇﻥّ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺎﺕِ ﻳﺄﺗﻮﻥ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺇﻟﻰ ﺍلأﺭﺽ. ﻓﺒﺎﻟﺤﺪﺱ ﺍﻟﻘﻄﻌﻲ -ﺃﻗﺮﺏ ﺇﻟﻰ ﺍلاﺳﺘﺸﻌﺎﺭ ﻭﺍلإﺣﺴﺎﺱ- ﺇﻥّ ﻟﺴﻜﻨﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻃﺮﻳﻘﺎ ﻳﺼﻌﺪﻭﻥ ﺑﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ. ﺇﺫ ﻛﻤﺎ ﻳﺮﻧﻮ ﻋﻘﻞ ﻛﻞ ﻓﺮﺩ ﻭﺧﻴﺎﻟﻪ ﻭﻧﻈﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺣﻴﻦ، ﻛﺬﻟﻚ ﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺧﻔّﻮﺍ ﺑﻮﺿﻊ ﺃﺛﻘﺎﻟﻬﻢ، ﻭﺃﺭﻭﺍﺡ ﺍلأﻣﻮﺍﺕ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺧﻠﻌﻮﺍ ﺃﺟﺴﺎﺩﻫﻢ ﻳﺼﻌﺪﻭﻥ ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲّ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﺧﻔّﻮﺍ ﻭﻟﻄﻔﻮﺍ ﻳﺬﻫﺒﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﻫﻨﺎﻙ، ﻓـلاﺑﺪَّ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﺒﺴﻮﻥ ﺟﺴﺪﺍ ﻣﺜﺎﻟﻴﺎ، ﻭﺍﻟﻠﻄﻴﻔﻴﻦ ﺍﻟﺨﻔﻴﻔﻴﻦ ﻟﻄﺎﻓﺔ ﺍﻟﺮﻭﺡ ﻭﺧﻔﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺳﻜﻨﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻳﻤﻜﻨﻬﻢ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺜﺎﻟﺜﺔ

    ﺇﻥ ﺳﻜﻮﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺳﻜﻮﺗَﻬﺎ ﻭﺍﻧﺘﻈﺎﻣَﻬﺎ ﻭﺍﻃﺮﺍﺩَﻫﺎ ﻭﻭﺳﻌَﺘﻬﺎ ﻭﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺘَﻬﺎ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﻫﻠﻬﺎ ﻟﻴﺴﻮﺍ ﻛﺄﻫﻞ ﺍلأﺭﺽ، ﺑﻞ ﻛﻞُّ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﻄﻴﻌﻮﻥ ﻳﻔﻌﻠﻮﻥ ﻣﺎ ﻳﺆﻣَﺮﻭﻥ، ﻓﻠﻴﺲ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺎ ﻳﻮﺟﺐ ﺍﻟﻤﺰﺍﺣﻤﺔ ﻭﺍلاﺧﺘـلاﻓﺎﺕ، لأﻥّ ﺍﻟﻤﻤﻠﻜﺔ ﻭﺍﺳﻌﺔ ﻓﺴﻴﺤﺔ ﺟﺪﺍ، ﻭﻫﻢ ﻣﻔﻄﻮﺭﻭﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺼﻔﺎﺀ ﻭﺍﻟﻨﻘﺎﺀ، ﻣﻌﺼﻮﻣﻮﻥ لا ﺫﻧﺐ ﻟﻬﻢ، ﻭﻣﻘﺎﻣﻬﻢ ﺛﺎﺑﺖ ﺑﺨـلاﻑ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﺟﺘﻤﺎﻉ ﺍلأﺿﺪﺍﺩ ﻭﺍﺧﺘـلاﻁ ﺍلأﺷﺮﺍﺭ ﺑﺎلأﺑﺮﺍﺭ، ﻣﻤﺎ ﻭﻟّﺪ ﺍلاﺧﺘـلاﻓﺎﺕ ﺍﻟﻤﺆﺩﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍلاﺿﻄﺮﺍﺑﺎﺕ ﻭﺍﻟﻘـلاﻗﻞ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﺟﺮﺍﺕ. ﻭﺍﻧﻔﺘﺢ ﺑﺬﻟﻚ ﺑﺎﺏ ﺍلاﻣﺘﺤﺎﻥ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﺑﻘﺔ ﻭﻇﻬﺮﺕ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺮُّﻗﻲ ﻭﺩﺭﻛﺎﺕِ ﺍﻟﺘﺪﻧﻲ.

ﻭﺣﻜﻤﺔ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﺃﻥ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻫﻮ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓ ﺍﻟﻨﻬﺎﺋﻴﺔ ﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺨِﻠْﻘﺔ، ﻭﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻡ ﺃﻥ ﺍﻟﺜﻤﺮﺓ ﻫﻲ ﺃﺑﻌﺪُ ﺃﺟﺰﺍﺀ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﻭﺃﺟﻤﻌﻬﺎ ﻭﺃﻟﻄﻔﻬﺎ، ﻟﺬﺍ ﻓﺎلإﻧﺴﺎﻥ ﻫﻮ ﺛﻤﺮﺓ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﺃﺟﻤﻊ ﻭﺃﺑﺪﻉ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ، ﻭﺃﻛﺜﺮﻫﺎ ﻋﺠﺰﺍ ﻭﺿﻌﻔﺎ ﻭﻟﻄﻔﺎ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻓﺈﻥ ﻣﻬﺪ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻣﺴﻜﻨﻪ -ﻭﻫﻮ ﺍلأﺭﺽ- ﻛﻒﺀ ﻟﻠﺴﻤﺎﺀ ﻣﻌﻨﻰً ﻭﺻﻨﻌﺔً. ﻭﻣﻊ ﺻِﻐﺮ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺣﻘﺎﺭﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻓﻬﻲ ﻗﻠﺐُ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻭﻣﺮﻛﺰﻩ.. ﻭﻣﺸﻬﺮُ ﺟﻤﻴﻊِ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ.. ﻭﻣﻈﻬﺮُ ﺟﻤﻴﻊ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﻭﺑﺆﺭﺗﻬﺎ.. ﻭﻣﻌﻜﺲ ﺍﻟﻔﻌﺎﻟﻴﺎﺕ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ ﻭﻣﺤﺸﺮﻫﺎ.. ﻭﺳﻮﻕ ﻋﺮﺽ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺑﺠﻮﺩ ﻣﻄﻠﻖ، ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﻋﺮﺿُﻬﺎ ﻟﻜﺜﺮﺓ ﻛﺎﺛﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ.. ﻭﻫﻲ ﻧﻤﻮﺫﺝ ﻣﺼﻐّﺮ ﻟﻤﺎ ﻳﻌﺮﺽ  ﻓﻲ ﻋﻮﺍﻟﻢ ﺍلآﺧﺮﺓ ﻣﻦ ﻣﺼﻨﻮﻋﺎﺕ.. ﻭ ﻣﺼﻨﻊ ﻳﻌﻤﻞ ﺑﺴﺮﻋﺔ ﻓﺎﺋﻘﺔ لإﻧﺘﺎﺝ ﺍﻟﻤﻨﺴﻮﺟﺎﺕ ﺍلأﺑﺪﻳﺔ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﻇﺮ ﺍﻟﺴﺮﻣﺪﻳﺔ ﺍﻟﻤﺘﺒﺪﻟﺔ ﺑﺴﺮﻋﺔ.. ﻭﻫﻲ ﻣﺰﺭﻋﺔ ﺿﻴﻘﺔ ﻣﺆﻗﺘﺔ لاﺳﺘﻨﺒﺎﺕ ﺑﺬﻭﺭ ﺍﻟﺒﺴﺎﺗﻴﻦ ﺍﻟﺪﺍﺋﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ.

ﻭﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻌﻈﻤﺔ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻟـلأﺭﺽ (حاشية) ﻧﻌﻢ، ﺇﻥ ﺍلأﺭﺽ ﻣﻊ ﺻﻐﺮﻫﺎ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻌﺪﻝ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، لأﻧﻪ ﻳﺼﺢ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﺇﻥ ﻧﺒﻌﺎ ﺩﺍﺋﻢ ﺍﻟﻌﻄﺎﺀ ﻫﻮ ﺃﻛﺒﺮ ﻣﻦ ﺑﺤﻴﺮﺓ لا ﻳﺠﻨﻰ ﻣﻨﻬﺎ ﺷﻲﺀ. ﺛﻢ ﺇﻧﻪ ﺇﺫﺍ ﻛﻴﻞ ﺷﻲﺀ ﻣﺎ ﺑﻤﻜﻴﺎﻝ، ﻭﻭﺿﻊ ﺟﺎﻧﺒﺎ، ﺛﻢ ﻛﻴﻠﺖ ﻣﺤﺎﺻﻴﻠﻪ ﺑﺎﻟﻤﻜﻴﺎﻝ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻭﺿﻌﺖ ﺇﻟﻰ ﺟﺎﻧﺐ ﺁﺧﺮ، ﻓﻤﻬﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺃﺿﺨﻢ ﻭﺃﻛﺒﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻜﻴﺎﻝ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﻟﻮ ﺑﺄﻟﻮﻑ ﺍﻟﻤﺮﺍﺕ ﻇﺎﻫﺮﺍ، ﺇلا ﺃﻥ ﺍﻟﻤﻜﻴﺎﻝ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻌﺎﺩﻝ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺠﺴﻢ ﻭﻳﻘﺎﺭﻥ ﻣﻌﻪ.

 ﻛﺬﻟﻚ ﺍلأﺭﺽ، ﻓﻘﺪ ﺧﻠﻘﻬﺎ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ: ﻣﺸﻬﺮ ﺻﻨﻌﺘﻪ، ﻣﺤﺸﺮ ﺇﻳﺠﺎﺩﻩ، ﻣﺪﺍﺭ ﺣﻜﻤﺘﻪ، ﻣﻈﻬﺮ ﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻣﺰﻫﺮ ﺭﺣﻤﺘﻪ، ﻣﺰﺭﻋﺔ ﺟﻨﺘﻪ، ﻣﻜﻴﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ  ﺃﻱ ﻭﺣﺪﺓ ﻗﻴﺎﺱ ﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ  ﻭﺧﻠﻘﻬﺎ ﻧﺒﻌﺎ ﻓﻴﺎﺿﺎ ﺗﺴﻴﻞ ﻣﻨﻪ  ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ  ﺇﻟﻰ ﺑﺤﺎﺭ ﺍﻟﻤﺎﺿﻲ ﻭﺇﻟﻰ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻐﻴﺐ. ﻭﺧﻠﻘﻬﺎ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﺒﺪّﻝ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﻨﻮﻳﺎ ﺃﺛﻮﺍﺑﻬﺎ ﺍﻟﻤﻨﺴﻮﺟﺔ ﺑﺒﺪﺍﺋﻊ ﺻﻨﻌﻪ، ﻳﺒﺪﻟﻬﺎ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺗﻠﻮ ﺍلأﺧﺮﻯ، ﺑﻤﺌﺎﺕ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍلأﻧﻮﺍﻉ ﻭﺍلأﺷﻜﺎﻝ.

 ﻭﺍلآﻥ ﺧﺬ ﺃﻣﺎﻡ ﻧﻈﺮﻙ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻌﻮﺍﻟﻢ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺐ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻐﻴﺐ، ﻭﺗﻠﻚ ﺍلأﺛﻮﺍﺏ ﺍﻟﻜﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻠﺒﺴﻬﺎ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺗﻨﺰﻋﻬﺎ، ﺃﻱ ﺍﻓﺘﺮﺽ ﺟﻤﻴﻊ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍلأﺭﺽ ﺣﺎﺿﺮﺍ، ﺛﻢ ﻗﺎﺑﻠﻬﺎ ﻣﻊ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻋﻠﻰ ﻭﺗﻴﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﻭﺑﺴﺎﻃﺔ ﻏﻴﺮ ﻣﻌﻘﺪﺓ، ﻭﻭﺍﺯﻥ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ، ﺗﺮ ﺃﻥ ﺍلأﺭﺽ، ﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﺜﻘﻞ ﻋﻠﻰ ﻛﻔﺔ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻓـلا ﺗﺒﻘﻰ ﻗﺎﺻﺮﺓ ﻋﻨﻬﺎ. ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﺗﻔﻬﻢ ﺳﺮ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ:

 ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ .ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ. ﻭﺃﻫﻤﻴﺘﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﺼﻨﻌﺔ، ﺟﻌﻠﻬﺎ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻛُﻔﺆﺍ ﻟﻠﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻭﻋﺪلا ﻟﻬﺎ، ﻣﻊ ﺃﻧﻬﺎ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻠﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻛﺎﻟﺜﻤﺮﺓ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺑﺸﺠﺮﺗﻬﺎ ﺍﻟﻀﺨﻤﺔ، ﻓﻴﺠﻌﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻔﺔٍ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﻓﻲ ﻛﻔﺔ ﺃﺧﺮﻯ، ﻓﻴﻜﺮﺭ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.

ﺛﻢ ﺇﻥ ﺗﺤﻮﻝ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺴﺮﻳﻊ، ﻭﺗﻐﻴّﺮﻫﺎ ﺍﻟﺪﺍﺋﻢ -ﺑﻨﺎﺀ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ- ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﺗﻄﺮﺃ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻴﻬﺎ ﺃﻳﻀﺎ ﺗﺤﻮلاﺕ ﻣﻤﺎﺛﻠﺔ ﻟﻬﺎ. ﻭﻛﺬﺍ ﺇﻥ ﺍلأﺭﺽ ﻣﻊ ﻣﺤﺪﻭﺩﻳﺘﻬﺎ، ﻧﺎﻟﺖْ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺑﻌﺪﻡ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻗﻮﻯ ﺃﻫﻠﻴﻬﺎ ﺫﻭﻱ ﺍﻟﺸﺄﻥ ﻭﻫﻤﺎ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ؛ ﺑﺤﺪّ ﻓﻄﺮﻱ ﺃﻭ ﻗﻴﺪٍ ﺧﻠﻘﻲ ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﻓﻲ ﺳﺎﺋﺮ ﺫﻭﻱ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ. ﻟﺬﺍ ﻏﺪﺕ ﺍلأﺭﺽ ﻣﻌﺮﺿﺎ ﻟﺮﻗﻲٍّ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ ﻭﻟﺘﺪﻥٍ لا ﻏﺎﻳﺔ ﻟﻪ. ﻓﺎﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍلأﻧﺒﻴﺎﺀ ﻭﺍلأﻭﻟﻴﺎﺀ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺑﺎﻟﻨﻤﺎﺭﺩﺓ ﺍﻟﻄﻐﺎﺓ ﻭﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﻭﺍﺳﻊ ﺟﺪﺍ ﻟـلاﻣﺘﺤﺎﻥ ﻭﺍلاﺧﺘﺒﺎﺭ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ ﻓﺈﻥّ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺍﻟﻤﺘﻔﺮﻋﻨﺔ ﺳﺘﻘﺬﻑ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﻫﻠﻬﺎ ﺑﺸﺮﺍﺭﺍﺗﻬﺎ ﻏﻴﺮِ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩﺓ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ

    ﺇﻥّ ﻟﺮﺏ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻴﻦ ﻭﺧﺎﻟِﻘﻬﺎ ﻭﻣﺪﺑِّﺮ ﺃﻣﺮﻫﺎ ﺫﻱ ﺍﻟﺠـلاﻝ ﻭﺍلإﻛﺮﺍﻡ، ﺃﺳﻤﺎﺀً ﺣﺴﻨﻰ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻣﺘﻐﺎﻳﺮﺓً ﺃﺣﻜﺎﻣُﻬﺎ، ﻣﺘﻔﺎﻭﺗﺔً ﻋﻨﺎﻭﻳﻨُﻬﺎ. ﻓﺎلاﺳﻢ ﻭﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻭﺍﻟﺼﻔﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺇﺭﺳﺎﻝ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻟﻠﻘﺘﺎﻝ ﻓﻲ ﺻﻒ ﺍﻟﺼّﺤﺎﺑﺔ ﺍﻟﻜﺮﺍﻡ ﻣﻊ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم  ﻟﺪﻯ ﻣﺤﺎﺭﺑﺔ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ، ﻫﻮ ﺍلاﺳﻢ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻧﻔﺴُﻪ ﻭﺍﻟﺼﻔﺔ ﻧﻔﺴُﻬﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺤﺎﺭﺑﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ، ﻭﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻣﺒﺎﺭﺯﺓ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﻴﻦ ﺍلأﺧﻴﺎﺭ ﻭﺍلأﺭﺿﻴﻴﻦ ﺍلأﺷﺮﺍﺭ.

ﺇﻥّ ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺍﻟﻤﺎﻟﻚ لأﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻜﻔﺎﺭ ﻭﺃﻧﻔﺎﺳﻬﻢ ﻭﻧﻔﻮﺳﻬﻢ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺔ ﻗﺪﺭﺗﻪ لا ﻳُﻔﻨﻴﻬﻢ ﺑﺄﻣﺮ ﻣﻨﻪ، ﻭلا ﺑﺼﻴﺤﺔ، ﺑﻞ ﻳَﻔﺘﺢ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻣﺘﺤﺎﻥ ﻭﻣﺒﺎﺭﺯﺓ، ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ، ﻭﺑﺄﺳﻤﺎﺋﻪ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ  ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ،  ﺍﻟﻤﺪﺑّﺮ .

ﻓﻤﺜـلا -ﻭلا ﻣﺸﺎﺣﺔ ﻓﻲ ﺍلأﻣﺜﺎﻝ-: ﻧﺮﻯ ﺃﻥّ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﻟﻪ ﻋﻨﺎﻭﻳﻦُ ﻣﺨﺘﻠﻔﺔ ﻭﺃﺳﻤﺎﺀ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﺣﺴﺐَ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺣﻜﻮﻣﺘﻪ، ﻓﺎﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻌﺪﻟﻴﺔ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻌﺎﺩﻝ)، ﻭﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻌﺴﻜﺮﻳﺔ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﻘﺎﺋﺪ ﺍﻟﻌﺎﻡ)، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﻤﺸﻴﺨﺔ ﺗﺬﻛﺮﻩ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺨﻠﻴﻔﺔ)، ﻭﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺍﻟﺮﺳﻤﻴﺔ ﺗﻌﺮﻓﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ)، ﻭﺍلأﻫﻠﻮﻥ ﺍﻟﻤﻄﻴﻌﻮﻥ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎﻥ ﻳﺬﻛﺮﻭﻧﻪ ﺑﺎﺳﻢ (ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ)، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻌﺼﺎﺓ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: ﺇﻧﻪ (ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻘﻬﺎﺭ). ﻭﻗِﺲْ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ، ﻓﺈﻥّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺍﻟﻤﺎﻟﻚ ﻟﻨﺎﺻﻴﺔ ﺍلأﻫﻠﻴﻦ ﻛﺎﻓﺔً، لا ﻳﻌﺪﻡ ﺑﺄﻣﺮٍ ﻣﻨﻪ ﺷﺨﺼﺎ ﻋﺎﺟﺰﺍ ﻋﺎﺻﻴﺎ ﺫﻟﻴـلا، ﺑﻞ ﻳﺴﻮﻗﻪ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺤﻜﻤﺔ ﺑﺎﺳﻢ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﺍﻟﻌﺎﺩﻝ، ﺛﻢ ﺇﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ لا ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺍﻟﺘﻔﺎﺗﺔَ ﺗﻜﺮﻳﻢٍ ﺇﻟﻰ ﺃﺣﺪٍ ﻣﻦ ﻣﻮﻇﻔﻴﻪ ﺍﻟﺠﺪﻳﺮﻳﻦ ﺑﻬﺎ ﺣَﺴَﺐَ ﻋﻠﻤﻪ ﺑﻪ ﻭلا ﻳﻜﺮﻣﻪ ﺑﻬﺎﺗﻔﻪ ﺍﻟﺨﺎﺹ. ﺑﻞ ﻳﻔﺘﺢ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﻣﺴﺎﺑﻘﺔ، ﻭﻳُﻬﻴﺊ ﻟﻪ ﺍﺳﺘﻘﺒﺎلا ﺭﺳﻤﻴﺎ، ﻳﺄﻣﺮ ﻭﺯﻳﺮﻩ ﻭﻳﺪﻋﻮ ﺍلأﻫﻠﻴﻦ ﺇﻟﻰ ﻣﺸﺎﻫﺪﺓ ﺍﻟﻤﺴﺎﺑﻘﺔ، ﺛﻢ ﻳﻜﺎﻓﺊ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻮﻇﻒَ ﺑﻌﻨﻮﺍﻥ ﻫﻴﺌﺔ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﺇﺩﺍﺭﺓ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ، ﻓﻴﻌﻠﻦ ﻣﻜﺎﻓﺄﺗَﻪ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻴﺪﺍﻥ ﻧﻈﻴﺮَ ﺍﺳﺘﻘﺎﻣﺘﻪ، ﺃﻱ ﻳﻜﺮﻣﻪ ﻭﻳﺘﻔﻀﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻣﺎﻡ ﺟﻤﻮﻉ ﻏﻔﻴﺮﺓ ﻣﻦ ﺃﺷﺨﺎﺹ ﺳﺎﻣﻴﻦ، ﺑﻌﺪ ﺍﻣﺘﺤﺎﻥ ﻣﻬﻴﺐ، لإﺛﺒﺎﺕ ﺟَﺪﺍﺭﺗﻪ ﺃﻣﺎﻣﻬﻢ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ -ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ- ﻓﻠﻠّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﺃﺳﻤﺎﺀ ﺣﺴﻨﻰ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻭﻟﻪ ﺷﺆﻭﻥ ﻭﻋﻨﺎﻭﻳﻦ ﻛﺜﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ، ﻭﻟﻪ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﺟـلاﻟﻴﺔ ﻭﻇﻮﺍﻫﺮ ﺟﻤﺎﻟﻴﺔ. ﻓﺎلاﺳﻢ ﻭﺍﻟﻌﻨﻮﺍﻥ ﻭﺍﻟﺸﺄﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﻭﺟﻮﺩَ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﺍﻟﻈـلاﻡ، ﻭﺍﻟﺼﻴﻒ ﻭﺍﻟﺸﺘﺎﺀ، ﻭﺍﻟﺠﻨﺔ ﻭﺍﻟﻨﺎﺭ، ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺷﻤﻮﻝ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﻧﻮﻋﺎ ﻣﺎ ﻭﺗﻌﻤﻴﻤﻪ ﺃﻳﻀﺎ ﻛﻘﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻞ ﻭﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺴﺎﺑﻘﺔ ﻭﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﺘﻌﺎﻭﻥ ﻛﺄﻣﺜﺎﻟﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﺃﻱ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺷﻤﻮﻝ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺑﻴﻦ ﺍلإﻟﻬﺎﻣﺎﺕ ﻭﺍﻟﻮﺳﺎﻭﺱ ﺍﻟﺪﺍﺋﺮﺓ ﺣﻮﻝ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭﺍﻧﺘﻬﺎﺀً ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﻟﺤﺎﺻﻠﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﻓﻲ ﺁﻓﺎﻕ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ

    ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺫﻫﺎﺏ ﻣﻦ ﺍلأﺭﺽ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﻌﻮﺩﺓ ﻣﻨﻬﺎ، ﻓﺎﻟﻨﺰﻭﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻭَﺍﺭِﺩ ﺃﻳﻀﺎ، ﺑﻞ ﺍﻟﻠﻮﺍﺯﻡ ﻭﺍﻟﻀﺮﻭﺭﻳﺎﺕ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﺗُﺮﺳﻞ ﻣﻦ ﻫﻨﺎﻙ. ﻭﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﻄﻴﺒﺔ ﺗﻨﻄﻠﻖ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﻦ ﺍلأﺭﺽ، ﻓـلاﺑﺪَّ ﺃﻥ ﺗﺘﺸﺒﺚ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ ﺍﻟﺨﺒﻴﺜﺔ ﻭﺗﺤﺎﻭﻝ ﺗﻘﻠﻴﺪ ﺍﻟﻄﻴﺒﻴﻦ ﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺬﻫﺎﺏ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﻠﻄﺎﻓﺘﻬﺎ ﻭﺧﻔﺘﻬﺎ، ﻭلاﺑﺪ ﺃلا ﻳﻘﺒﻠﻬﺎ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﺑﻞ ﻳﻄﺮﺩﻭﻧﻬﺎ ﻟﻤﺎ ﻓﻲ ﻃﺒﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﺷﺆﻡ ﻭﺷﺮ.

ﺛﻢ لاﺑﺪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻌﺎﻣﻠﺔ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ، لأﻥ ﻋﻈﻤﺔ ﺍﻟﺮﺑﻮﺑﻴﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﺗﻀﻊ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺼﺮﻓﺎﺕ ﺍﻟﻐﻴﺒﻴﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ ﺍﻟﻤﻬﻤﺔ ﻭﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﻴﺒﺼﺮﻫﺎ ﺫﻭﻭ ﺍلإﺩﺭﺍﻙ ﻭﺍﻟﺸﻌﻮﺭ ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﺎﻣﻞ لأﺟﻞِّ ﻭﻇﻴﻔﺔ ﻭﻫﻲ ﺍﻟﻤﺸﺎﻫﺪﺓ ﻭﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﻭﺍﻟﺪﻋﻮﺓ ﻭﺍلإﺷﺮﺍﻑ. ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﺳﺒُﺤﺎﻧﻪ ﻗﺪ ﺟﻌﻞ ﺍﻟﻤﻄﺮ ﺇﺷﺎﺭﺓً ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺠﺰﺍﺕ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ، ﻭﺟﻌﻞ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﺓ ﻋـلاﻣﺔً ﻋﻠﻰ ﺧﻮﺍﺭﻕ ﺻﻨﻌﺘﻪ، ﺟﺎﻋـلا ﺃﻫﻞ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﺸﻬﺎﺩﺓ ﺷﺎﻫﺪﻳﻦ ﻋﻠﻴﻬﺎ؛ ﻓـلا ﺭﻳﺐ ﺃﻧﻪ ﻳﺠﻠﺐ ﺃﻧﻈﺎﺭ ﺟﻤﻴﻊ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺃﻫﻞ ﺍلأﺭﺽ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﺸﻬﺪ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﺍﻟﻌﺠﻴﺐ، ﻓﻴﻈﻬﺮ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻌﻈﻴﻤﺔ ﻛﺎﻟﻘﻠﻌﺔ ﺍﻟﺤﺼﻴﻨﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺯﻳﻨﺖ ﺑﺮﻭﺟﻬﺎ ﺑﺤﺮﺍﺱ ﻣﺼﻄﻔﻴﻦ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﺃﻭ ﻛﺎﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺍﻟﻌﺎﻣﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺸﻮِّﻕُ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺄﻣﻞ ﻓﻴﻬﺎ.

ﻓﻤﺎﺩﺍﻡ ﺇﻋـلاﻥُ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺿﺮﻭﺭﻳﺔ ﺗﻘﺘﻀﻴﻬﺎ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻓـلاﺑﺪ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩ ﺇﺷﺎﺭﺓ ﻋﻠﻴﻬﺎ. ﺑﻴﻨﻤﺎ لا ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺃﻳَّﺔ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ ﺍﻟﺠﻮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ ﺗـلاﺋﻢ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻋـلاﻥ ﻭﺗﻨﺎﺳﺒﻪ. ﻓﺈﻥ ﻣﺎ ﺫﻛﺮﻧﺎﻩ ﺇﺫﻥ ﻫﻮ ﺃﻧﺴﺐ ﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻴﻬﺎ، لأﻥ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ ﺍﻟﻨﺠﻤﻴﺔ، ﻣﻦ ﺭﻣﻲ ﺍﻟﺸﻬﺐ ﺍﻟﺸَّﺒِﻴﻪِ ﺑﺮﻣﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻧﻴﻖ، ﻭﺇﻃـلاﻕ ﻃﻠﻘﺎﺕ ﺍﻟﺘﻨﻮﻳﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘـلاﻉ ﺍﻟﻌﺎﻟﻴﺔ ﻭﺑﺮﻭﺟﻬﺎ ﺍﻟﺤﺼﻴﻨﺔ، ﻣﻤﺎ ﻳﻔﻬﻢ ﺑﺪﺍﻫﺔً ﻣﺪﻯ ﻣﻨﺎﺳﺒﺘﻬﺎ ﻭﻣـلاﺀﻣﺘﻬﺎ ﺑﺮﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺑﺎﻟﺸﻬﺐ، ﻣﻊ ﺃﻧﻪ لا ﺗﻌﺮﻑ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ (ﺭﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ) ﻏﻴﺮ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ، ﻭلا ﺗﻌﺮﻑ ﻟﻬﺎ ﻏﺎﻳﺔ ﺗﻨﺎﺳﺒﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺫﻛﺮﻧﺎﻫﺎ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺃﻥ ﺭﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺣﺎﺩﺛﺔ ﻣﺸﻬﻮﺭﺓ ﻣﻨﺬ ﺯﻣﻦ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﺁﺩﻡ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺴـلاﻡ ﻭﻣﺸﻬﻮﺩﺓ ﻟﺪﻯ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ، ﺧـلاﻑ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺎﺕ ﺍلأﺧﺮﻯ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺴﺎﺩﺳﺔ

    ﻟﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﻦ ﻳﺤﻤـلاﻥ ﺍﺳﺘﻌﺪﺍﺩﺍ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻪ ﻟﻠﺸﺮ ﻭﺍﻟﺠﺤﻮﺩ، ﻓﻬﻤﺎ ﻗﺎﺩﺭﺍﻥ ﻋﻠﻰ ﺗﻤﺮﺩ ﻭﻃﻐﻴﺎﻥ لا ﻧﻬﺎﻳﺔ ﻟﻬﻤﺎ، ﻟﺬﺍ ﻳﺰﺟﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺑﺒـلاﻏﺘﻪ ﺍﻟﻤﻌﺠﺰﺓ، ﻭﺑﺄﺳﺎﻟﻴﺐ ﺑﺎﻫﺮﺓ ﺳﺎﻣﻴﺔ ﻭﻳﻀﺮﺏ ﺍلأﻣﺜﺎﻝ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺍﻟﻘﻴﻤﺔ ﻭﻳﺬﻛﺮ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺩﻗﻴﻘﺔ، ﻳﺰﺟﺮ ﺑﻬﺎ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﻐﻴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻌﺼﻴﺎﻥ ﺯﺟﺮﺍ ﻋﻨﻴﻔﺎ ﻳﻬﺰّ ﺍﻟﻜﻮﻥ ﻛﻠَّﻪ.

ﻓﻤﺜـلا ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ:  ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ﴾ (ﺍﻟﺮﺣﻤﻦ:33-35).

ﺗﺄﻣَّﻞْ ﺍﻟﻨﺬﻳﺮَ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﻤﺮﻳﻊ ﻭﺍﻟﺰﺟﺮ ﺍﻟﻌﻨﻴﻒ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ، ﻭﻛﻴﻒ ﺗﻜﺴﺮ ﺗﻤﺮﺩ ﺍﻟﺠﻦ ﻭﺍلإﻧﺲ ﺑﺒـلاﻏﺔ ﻣﻌﺠﺰﺓ، ﻣﻌﻠﻨﺔً ﻋﺠﺰﻫﻤﺎ، ﻣﺒﻴﻨﺔً ﻣﺪﻯ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﻣﻦ ﺿﻌﻒ ﺃﻣﺎﻡ ﻋﻈﻤﺔ ﺳﻠﻄﺎﻧﻪ ﻭﺳﻌﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺟﻞّ ﻭﻋـلا. ﻓﻜﺄﻥ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ، ﻭﻛﺬﺍ ﺍلآﻳﺔ ﺍلأﺧﺮﻯ ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ﴾ (ﺍﻟﻤﻠﻚ:٥) ﺗﺨﺎﻃﺒﺎﻥ ﻫﻜﺬﺍ:

ﺃﻳﻬﺎ ﺍلإﻧﺲ ﻭﺍﻟﺠﺎﻥ، ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻤﻐﺮﻭﺭﻭﻥ ﺍﻟﻤﺘﻤﺮﺩﻭﻥ، ﺍﻟﻤﺘﻮﺣﻠﻮﻥ ﺑﻌﺠﺰﻫﻢ ﻭﺿﻌﻔﻬﻢ! ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﺎﻧﺪﻭﻥ ﺍﻟﺠﺎﻣﺤﻮﻥ ﺍﻟﻤﺘﻤﺮﻏﻮﻥ ﻓﻲ ﻓﻘﺮﻫﻢ ﻭﺿﻌﻔﻬﻢ ﺇﻧﻜﻢ ﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﻄﻴﻌﻮﺍ ﺃﻭﺍﻣﺮﻱ، ﻓﻬﻴّﺎ ﺍﺧﺮﺟﻮﺍ ﻣﻦ ﺣﺪﻭﺩ ﻣﻠﻜﻲ ﻭﺳﻠﻄﺎﻧﻲ ﺇﻥ ﺍﺳﺘﻄﻌﺘﻢ! ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺘﺠﺮﺅﻭﻥ ﺇﺫَﻥ ﻋﻠﻰ ﻋﺼﻴﺎﻥ ﺃﻭﺍﻣﺮ ﺳﻠﻄﺎﻥ ﻋﻈﻴﻢ؛ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻭﺍلأﻗﻤﺎﺭ ﻭﺍﻟﺸﻤﻮﺱ ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺘﻪ، ﺗﺄﺗﻤﺮ ﺑﺄﻭﺍﻣﺮﻩ، ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺟﻨﻮﺩ ﻣﺘﺄﻫﺒﻮﻥ.. ﻓﺄﻧﺘﻢ ﺑﻄﻐﻴﺎﻧﻜﻢ ﻫﺬﺍ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺒﺎﺭﺯﻭﻥ ﺣﺎﻛﻤﺎ ﻋﻈﻴﻤﺎ ﺟﻠﻴـلا ﻟﻪ ﺟﻨﻮﺩ ﻣﻄﻴﻌﻮﻥ ﻣﻬﻴﺒﻮﻥ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﺃﻥ ﻳﺮﺟﻤﻮﺍ ﺑﻘﺬﺍﺋﻒ ﻛﺎﻟﺠﺒﺎﻝ، ﺣﺘﻰ ﺷﻴﺎﻃﻴﻨﻜﻢ ﻟﻮ ﺗﺤﻤﻠﺖ.. ﻭﺃﻧﺘﻢ ﺑﻜﻔﺮﺍﻧﻜﻢ ﻫﺬﺍ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﺘﻤﺮﺩﻭﻥ ﻓﻲ ﻣﻤﻠﻜﺔ ﻣﺎﻟﻚ ﻋﻈﻴﻢ ﺟﻠﻴﻞ، ﻟﻪ ﺟﻨﻮﺩ ﻋﻈﺎﻡ ﻳﺴﺘﻄﻴﻌﻮﻥ ﺃﻥ ﻳﻘﺼﻔﻮﺍ ﺃﻋﺪﺍﺀً ﻛﻔﺮﺓً -ﻭﻟﻮ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﺿﺨﺎﻣﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺠﺒﺎﻝ- ﺑﻘﺬﺍﺋﻒ ﻣﻠﺘﻬﺒﺔ ﻭﺷﻈﺎﻳﺎ ﻣﻦ ﻟﻬﻴﺐ ﻛﺄﻣﺜﺎﻝ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺠﺒﺎﻝ، ﻓﻴﻤﺰﻗﻮﻧﻜﻢ  ﻭﻳﺸﺘﺘﻮﻧﻜﻢ!. ﻓﻜﻴﻒ ﺑﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺿﻌﻴﻔﺔ ﺃﻣﺜﺎﻟﻜﻢ؟.. ﻭﺃﻧﺘﻢ ﺗﺨﺎﻟﻔﻮﻥ ﻗﺎﻧﻮﻧﺎ ﺻﺎﺭﻣﺎ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻪ ﻣﻦ ﻟﻪ ﺍﻟﻘﺪﺭﺓ -ﺑﺈﺫﻥ ﺍﻟﻠﻪ- ﺃﻥ ﻳﻤﻄﺮ ﻋﻠﻴﻜﻢ ﻗﺬﺍﺋﻒ ﻭﺭﺍﺟﻤﺎﺕٍ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ.

ﻧﻌﻢ ﺇﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﺗﺤﺸﻴﺪﺍﺕٍ ﺫﺍﺕَ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺑﺎﻟﻐﺔ، ﻓﻬﻲ ﻟﻴﺴﺖ ﻧﺎﺗﺠﺔ ﻣﻦ ﻗﻮﺓ ﺍلأﻋﺪﺍﺀ، ﺑﻞ ﻣﻦ ﺃﺳﺒﺎﺏ ﺃﺧﺮﻯ ﻛﺈﻇﻬﺎﺭ ﻋﻈﻤﺔ ﺍلأﻟﻮﻫﻴﺔ ﻭﻓﻀﺢ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﻭﺷﻨﺎﻋﺘﻪ.

ﺛﻢ ﺃﺣﻴﺎﻧﺎ ﺗﺤﺸّﺪ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺃﻋﻈﻢ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﻭﺃﻗﻮﺍﻫﺎ لأﺻﻐﺮ ﺷﻲﺀ ﻭﺃﺿﻌﻔﻪ، ﻭﺗﻘﺮﻥ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﺩﻭﻥ ﺗﺠﺎﻭﺯٍ ﻟﻠﻀﻌﻴﻒ، ﻭﺫﻟﻚ ﺇﻇﻬﺎﺭﺍ ﻟﻜﻤﺎﻝ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﻭﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻭﻧﻬﺎﻳﺔ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻭﻗﻮﺓ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ. ﻓﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ (ﺍﻟﺘﺤﺮﻳﻢ:٤) ﻳﺒﻴﻦ ﻣﺪﻯ ﺍلاﺣﺘﺮﺍﻡ ﺍﻟـلاﺋﻖ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﻈﻲ ﺑﻪ ﺍﻟﻨﺒﻲ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ  صلى الله عليه وسلم، ﻭﻣﺪﻯ ﺍﻟﺮﺣﻤﺔ ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻤﻞ ﺣﻘﻮﻕ ﺍﻟﺰﻭﺟﺎﺕ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﺸﻮﺩ ﺇﻧﻤﺎ ﺗﻔﻴﺪ ﺇﻓﺎﺩﺓ ﺭﺣﻴﻤﺔ ﻓﻲ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﻋﻈﻤﺔ ﺍﻟﻨﺒﻲ صلى الله عليه وسلم ﻭﻋﻠﻮ ﻣﻜﺎﻧﺘﻪ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻭﺑﻴﺎﻥ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺷﻜﻮﻯ ﺯﻭﺟﺘﻴﻦ ﺿﻌﻴﻔﺘﻴﻦ ﻭﻣﺪﻯ ﺍﻟﺮﻋﺎﻳﺔ ﻟﺤﻘﻮﻗﻬﻤﺎ.

   ﺍﻟﻤﺮﺗﺒﺔ ﺍﻟﺴﺎﺑﻌﺔ

    ﺗﺘﺒﺎﻳﻦ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻓﻴﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﺎ ﺗﺒﺎﻳﻨﺎ ﻛﺒﻴﺮﺍ، ﻛﻤﺎ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻓﻲ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﻭﺍلأﺳﻤﺎﻙ، ﻓﻤﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺼﻐﺮ ﻭﻣﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻜﺒﺮ، ﺣﺘﻰ ﺃﻃﻠﻖ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻳﻠﻤﻊ ﻓﻲ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺑﺎﻟﻨﺠﻢ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﻨﻮﻉ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺃﺟﻨﺎﺱ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﻫﻮ ﻟﺘﺰﻳﻴﻦ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻠﻄﻴﻒ، ﻭﻛﺄﻥ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮَ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﻗﺪ ﺧﻠﻘﻬﺎ ﻛﺎﻟﺜﻤﺎﺭ ﺍﻟﻨﻴﺮﺓ ﻟﺘﻠﻚ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ، ﺃﻭ ﻛﺎلأﺳﻤﺎﻙ ﺍﻟﻤﺴﺒّﺤﺔ ﻟﻠﻪ ﻟﺬﻟﻚ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻮﺍﺳﻊ. ﻭﻛﺎلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻨﺎﺯﻝ ﻟﻤـلاﺋﻜﺘﻪ، ﻭﺧﻠﻖ ﺃﻳﻀﺎ ﻧﻮﻋﺎ ﺻﻐﻴﺮﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺠﻮﻡ ﺃﺩﺍﺓً ﻟﺮﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ.

ﻓﺎﻟﺸﻬﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﺗُﺮﺳﻞ ﻟﺮﺟﻢ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺗﺤﻤﻞ ﺛـلاﺛﺔ ﻣﻌﺎﻥٍ:

ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍلأﻭﻝ: ﺃﻧّﻪ ﺭﻣﺰ ﻭﻋـلاﻣﺔ ﻋﻠﻰ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﺍﻟﻤﺒﺎﺭﺯﺓ ﻓﻲ ﺃﻭﺳﻊ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻣﻦ ﺩﻭﺍﺋﺮ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ.

ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ: ﺃﻥّ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ ﺣﺮﺍﺳﺎ ﻳﻘﻈﻴﻦ ﻭﺃﻫﻠﻴﻦ ﻣﻄﻴﻌﻴﻦ، ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺸﻬﺐ ﺇﺷﺎﺭﺓ  ﻭﺇﻋـلاﻥ ﻋﻦ ﺍﻣﺘﻌﺎﺽ ﺟﻨﻮﺩ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻦ ﺍﺧﺘـلاﻁ ﺍلأﺭﺿﻴﻴﻦ ﺍﻟﺸﺮﻳﺮﻳﻦ ﺑﻬﻢ ﻭﺍﺳﺘﺮﺍﻕ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﺇﻟﻴﻬﻢ.

ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ: ﺃﻥ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻬﺐ ﻭﻛﺄﻧﻬﺎ ﻣﺠﺎﻧﻴﻖ ﻭﻗﺬﺍﺋﻒ ﺗﻨﻮﻳﺮٍ ﻫﻲ لإﺭﻫﺎﺏ ﺟﻮﺍﺳﻴﺲِ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﺴﺘﺮﻗﻮﻥ ﺍﻟﺴﻤﻊ ﻭﺍﻟﺬﻳﻦ ﻳﻤﺜﻠﻮﻥ ﺍﻟﻤﺴﺎﻭﺉ ﺍلأﺭﺿﻴﺔ ﺃﺳﻮﺃ ﺗﻤﺜﻴﻞ، ﻭﻃﺮﺩﻫﻢ ﻣﻦ ﺃﺑﻮﺍﺏ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺌَـلا ﻳﻠﻮﺛﻮﺍ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺳﻜﻨﻰ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮﻳﻦ، ﻭﻟﻴﺤﻮﻟﻮﺍ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﺑﺎﻟﺘﺠﺴﺲ ﻟﺤﺴﺎﺏ ﺍﻟﻨﻔﻮﺱ ﺍﻟﺨﺒﻴﺜﺔ.

ﺃﻳﻬﺎ ﺍﻟﻔﻠﻜﻲ ﺍﻟﻤﻌﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﻋﻘﻠﻪ ﺍﻟﻘﺎﺻﺮ، ﺍﻟﺬﻱ لا ﻳﺘﺠﺎﻭﺯ ﻧﻮﺭُﻩ ﻧﻮﺭَ ﺍﻟﻴﺮﺍﻋﺔ  ﻭﻳﺎ ﻣﻦ ﻳُﻐﻤﺾُ ﻋﻴﻨَﻪ ﻋﻦ ﻧﻮﺭ ﺷﻤﺲ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻤﺒﻴﻦ! ﺗﺄﻣَّﻞْ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﺴﺒﻊ، ﺗﺄﻣﻠﻬﺎ ﺩﻓﻌﺔً ﻭﺍﺣﺪﺓ، ﺃﺑْﺼِﺮْ، ﺩَﻉْ ﻋﻨﻚ ﺑﺼﻴﺺَ ﻋﻘﻠﻚ، ﻭﺷﺎﻫﺪْ ﻣﻌﻨﻰ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻓﻲ ﻧﻮﺭ ﺇﻋﺠﺎﺯﻫﺎ ﺍﻟﻮﺍﺿﺢ ﻭﺿﻮﺡَ ﺍﻟﻨﻬﺎﺭ، ﻭﺧُﺬْ ﻧﺠﻢَ ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻣﻦ ﺳﻤﺎﺀ ﺗﻠﻚ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﻭﺍﻗﺬﻑْ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﺍﻟﻘﺎﺑﻊَ ﻓﻲ ﺫﻫﻨﻚ ﻭﺍﺭﺟﻤﻪ ﺑﻬﺎ! ﻭﻧﺤﻦ ﻛﺬﻟﻚ ﻧﻔﻌﻞ ﻫﺬﺍ. ﻭﻟﻨَﻘُﻞْ ﻣﻌﺎ: ﴿رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ (ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ:97).

   .. ﻓﻠﻠّﻪ ﺍﻟﺤﺠﺔ ﺍﻟﺒﺎﻟﻐﺔ ﻭﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻘﺎﻃﻌﺔ.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

 (حاشية) ﻣـلاﺣﻈﺔ: ﺫﻳﻞ ﻫﺬﻩ (ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺨﺎﻣﺴﺔ ﻋﺸﺮﺓ) ﻫﻮ (ﺣﺠﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺸﻴﻄﺎﻥ ﻭﺣﺰﺑﻪ) ﻭﻫﻮ ﺍﻟﻤﺒﺤﺚ ﺍلأﻭﻝ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻜﺘﻮﺏ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ ﻭﺍﻟﻌﺸﺮﻳﻦ. ﻓﻠﻴﺮﺍﺟﻊ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻌﻪ ﺭﺟﺎﺀً.

ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﺮﺍﺑﻌﺔ ﻋﺸﺮﺓ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(ﻫﻮﺩ:١)

ﺳﻨﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﻧﻈﺎﺋﺮ ﻗﺴﻢ ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻟﻠﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ، ﻭﻟﻤﻔﺴّﺮﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻒ، ﻭﺫﻟﻚ ﻟﺘﻜﻮﻥ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺩﺭﺟﺎﺕ ﺳُﻠّﻢٍ ﻟﻠﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ، ﻟﻜﻲ ﺗُﺴﻌِﻒ ﺍﻟﻘﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻘﺼﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﻠﻴﻢ ﻭﺍلاﻧﻘﻴﺎﺩ. ﻭﻓﻲ ﺧﺎﺗﻤﺔ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺳﻴُﺒﻴَّﻦ ﺩﺭﺱ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ ﻭﺳﺮّ ﻣﻦ ﺃﺳﺮﺍﺭ ﺍﻟﻌﻨﺎﻳﺔ ﺍلإﻟﻬﻴﺔ.

ﻭﻧﻜﺘﻔﻲ ﻫﻨﺎ ﺑﺬﻛﺮ ﻧﻤﺎﺫﺝَ ﻟﺨﻤﺲ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﻓﺤﺴﺐ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﻘﺎﺋﻖ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ؛ ﺣﻴﺚ ﺇﻥ ﺍﻟﻨﻈﺎﺋﺮ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺨﺺ ﺍﻟﺤﺸﺮ ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻗﺪ ﺫُﻛﺮﺕ ﻓﻲ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ ﺍﻟﻌﺎﺷﺮﺓ ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺘﺎﺳﻌﺔ ﻣﻨﻬﺎ ﻭلا ﺩﺍﻋﻲ ﻟﻠﺘﻜﺮﺍﺭ.

      ﺃﻭلاﻫﺎ: ﻣﺜﺎﻝ:ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:54)

ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺔ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺗﺸﻴﺮ ﺇﻟﻰ ﺃﻥّ ﺩﻧﻴﺎ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﻭﻋﺎﻟﻢَ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻥ ﻳﻌﻴﺸﺎﻥ ﺳﺘﺔ ﺃﻳﺎﻡ ﻣﻦ ﺍلأﻳﺎﻡ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺯﻣﻦ ﻣﺪﻳﺪ ﻭﻟﺮﺑﻤﺎ ﻫﻮ ﻛﺄﻟﻒ ﺳﻨﺔ ﺃﻭ ﻛﺨﻤﺴﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﺳﻨﺔ. ﻓـلأﺟﻞ ﺍلإﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ ﻭﺍلاﻗﺘﻨﺎﻉ ﺍﻟﺘﺎﻡ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻧﺒﻴﻦ ﻟـلأﻧﻈﺎﺭ ﻣﺎ ﻳﺨﻠﻘﻪ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻣﻦ ﻋﻮﺍﻟﻢ ﺳﻴّﺎﻟﺔ ﻭﻛﺎﺋﻨﺎﺕ ﺳﻴّﺎﺭﺓ ﻭﺩُﻧﻰً ﻋﺎﺑﺮﺓ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻳﻮﻡ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺳﻨﺔ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﻋﺼﺮ، ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺑﺤﻜﻢ ﻳﻮﻡ ﻭﺍﺣﺪ.

ﺣﻘﺎ، ﻛﺄﻥّ ﺍﻟﺪُّﻧﻰ ﺿﻴﻮﻑ ﻋﺎﺑﺮﺓ ﺃﻳﻀﺎ ﻛﺎﻟﻨﺎﺱ. ﻓﻴﻤﺘﻠﺊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﻔﺎﻃﺮ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻛﻞَّ ﻣﻮﺳﻢ ﻭﻳُﺨﻠﻰ.

      ﺛﺎﻧﻴﺘﻬﺎ: ﻣﺜﺎﻝ: ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (ﺍلأﻧﻌﺎﻡ:59) ﴿ﻭَﻛُﻞَّ ﺷَﻲْﺀٍ ﺃﺣْﺼَﻴْﻨَﺎﻩُ ﻓِﻲ ﺇِﻣَﺎﻡٍ ﻣُﺒِﻴﻦٍ﴾ (ﻳﺲ:12) ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (ﺳﺒﺄ:3) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻔﻴﺪ ﺃﻥ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺟﻤﻴﻌَﻬﺎ ﻭﺑﺄﺣﻮﺍﻟﻬﺎ ﻛﻠِّﻬﺎ، ﻣﻜﺘﻮﺑﺔ، ﻗﺒﻞ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﻭﺑﻌﺪ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ، ﻭﺑﻌﺪ ﺫﻫﺎﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ.

ﻧﺒﻴّﻦ ﺃﻣﺎﻡ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ ﻣﺎ ﻳﺄﺗﻲ ﻟﻴﺼﻞ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ: ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﺭﺉ ﺍﻟﻤﺼﻮﺭ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳُﺪﺭﺝ ﻓﻬﺎﺭﺱ ﻭﺟﻮﺩِ ﻣﺎ لا ﻳﺤﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﺴﻘﺔ ﻭﺗﻮﺍﺭﻳﺦ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﻭﺩﺳﺎﺗﻴﺮ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﺎ، ﻳُﺪﺭﺟﻬﺎ ﺩﺭﺟﺎ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﻣﺤﺎﻓﻈﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﺑﺬﻭﺭ ﻭﻧﻮﻯً ﻭﺃﺻﻮﻝِ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ، ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺗﺒﺪﻳﻠﻬﺎ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﻮﺳﻢ، ﻋﻠﻰ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻛﺎﻓﺔ، ﻭلاﺳﻴّﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ. ﻛﻤﺎ ﺃﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪُ ﻳﺪﺭﺟﻬﺎ ﺑﻘﻠﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﻧﻔﺴِﻪ ﺩَﺭْﺟﺎ ﻣﻌﻨﻮﻳﺎ ﺑﻌﺪ ﺯﻭﺍﻝ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻓﻲ ﺛﻤﺮﺍﺗﻬﺎ ﻭﻓﻲ ﺑُﺬﻳﺮﺍﺗﻬﺎ ﺍﻟﺪﻗﻴﻘﺔ، ﺣﺘﻰ ﺇﻧﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻳﻜﺘﺐ ﻛﻞ ﻣﺎ ﻫﻮ ﺭﻃﺐ ﻭﻳﺎﺑﺲ ﻣﻦ ﻣﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺍﻟﺴﺎﺑﻖ ﻓﻲ ﺑﺬﻭﺭﻫﺎ ﺍﻟﻤﺤﺪﻭﺩﺓ ﺍﻟﺼﻠﺒﺔ ﻛﺘﺎﺑﺔً ﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍلإﺗﻘﺎﻥ ﻭﻳﺤﺎﻓﻆ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ. ﺣﺘﻰ ﻟﻜﺄﻥّ ﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﺑﻤﺜﺎﺑﺔ ﺯﻫﺮﺓ ﻭﺍﺣﺪﺓ ﻭﻫﻲ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺘﻨﺎﺳﻖ ﻭﺍلإﺑﺪﺍﻉ، ﺗﻀﻌﻬﺎ ﻳﺪُ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺎﻣﺔ ﺍلأﺭﺽ ﺛﻢ ﻳﻘﻄﻔﻬﺎ ﻣﻨﻬﺎ.

ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ ﻫﺬﻩ؛ ﺃﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻀﻞ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺃﻋﺠﺐَ ﺿـلاﻟﺔ، ﻭﻫﻲ ﺇﻃـلاﻗﻪ ﺇﺳﻢ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻜﺘﺎﺑﺔ ﺍﻟﻔﻄﺮﻳﺔ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺒﺪﻳﻌﺔ، ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﻠﺔ ﺍﻟﻤﺴﻄّﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ ﺍلأﺭﺽ ﻛﺎﻓﺔً ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﻟﺘﺠﻞٍّ ﻣﻦ ﺗﺠﻠﻴﺎﺕ ﻣﺎ ﺳُﻄّﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻮﺡ ﺍﻟﻤﺤﻔﻮﻅ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺻﺤﻴﻔﺔ ﻗﻠﻢ ﺍﻟﻘﺪﺭ ﺍلإﻟﻬﻲ  ﺃﻟﻴﺲ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺠﺐ ﺃﻥ ﻳﻌﺘﻘﺪ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺑﺎﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﻭﺃﻧّﻬﺎ ﻣﺆﺛﺮﺓ ﻭﻣﺼﺪﺭ ﻓﺎﻋﻞ؟

  ﺃﻳﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺠﻠﻴﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﻈﻨﻪ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ؟ ﺃﻳﻦ ﺍﻟﺜَّﺮﻯ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﺮﻳﺎ؟ 

    ﺛﺎﻟﺜﺘﻬﺎ:

ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺨﺒﺮ ﺍﻟﺼﺎﺩﻕ صلى الله عليه وسلم ﻗﺪ ﺻﻮّﺭ -ﻣﺜـلا- ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ ﺍﻟﻤﻮﻛَّﻠﻴﻦ ﺑﺤﻤﻞ ﺍﻟﻌﺮﺵ، ﻭﻛﺬﺍ ﺣﻤَﻠﺔ ﺍلأﺭﺽ ﻭﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕ، ﺃﻭ ﻣـلاﺋﻜﺔ ﺁﺧﺮﻳﻦ، ﺑﺄﻥّ ﻟِﻠﻤَﻠَﻚ ﺃﺭﺑﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒَ ﺭﺃﺱ، ﻓﻲ ﻛﻞ ﺭﺃﺱ ﺃﺭﺑﻌﻮﻥ ﺃﻟﻒَ ﻟﺴﺎﻥ، ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ ﻳﺴﺒّﺢ ﺑﺄﺭﺑﻌﻴﻦ ﺃﻟﻒ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﺎﺕ. ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﻓﻲ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍلأﺣﺎﺩﻳﺚ ﺍﻟﺸﺮﻳﻔﺔ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﺍﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺒﺎﺩﺓ ﻭﻛﻠﻴﺘﻬﺎ ﻭﺷﻤﻮﻟﻬﺎ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻤـلاﺋﻜﺔ، ﻓـلأﺟﻞ ﺍﻟﺼﻌﻮﺩ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﻧﺒﻴّﻦُ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﻭﻧﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﺪﺑّﺮ ﻓﻴﻬﺎ، ﻭﻫﻲ:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (ﺍلإﺳﺮﺍﺀ:٤٤) ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾ (ﺹ:18) ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ..﴾ (ﺍلأﺣﺰﺍﺏ:72) ﻭﺃﻣﺜﺎﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺼﺮّﺡ ﺃﻥّ لأﺿﺨﻢ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﺃﻛﺜَﺮﻫﺎ ﺳَﻌﺔً ﻭﺷﻤﻮلا ﺗﺴﺒﻴﺤﺎ ﺧﺎﺻﺎ ﻣﻨﺴﺠﻤﺎ ﻣﻊ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﻭﻛﻠﻴﺘﻪ، ﻭﺍلأﻣﺮ ﻭﺍﺿﺢ ﻭﻣﺸﺎﻫﺪ؛ ﺇﺫ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﺍﺕُ ﺍﻟﺸﺎﺳﻌﺔ ﻣﺴﺒّﺤﺔ ﻟﻠﻪ، ﻭﻛﻠﻤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺸﻤﻮﺱ ﻭﺍلأﻗﻤﺎﺭ ﻭﺍﻟﻨﺠﻮﻡ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻄﺎﺋﺮﺓ ﻓﻲ ﺟﻮِّ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ ﻣﺴﺒّﺤﺔ ﺣﺎﻣﺪﺓ ﻟﻠﻪ، ﻭﺃﻟﻔﺎﻇُﻬﺎ ﺍﻟﺘﺤﻤﻴﺪﻳﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻭﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍلأﺷﺠﺎﺭ.

ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻥ ﻟﻜﻞ ﺷﺠﺮﺓ ﻭﻟﻜﻞ ﻧﺠﻢ، ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻪ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻪ، ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺃﻥّ ﻟـلأﺭﺽ ﺑِﺮُﻣَّﺘﻬﺎ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ ﺑﻬﺎ. ﻓﻬﻲ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻠﻴﺔ ﺗﻀﻢ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻞِّ ﺟﺰﺀٍ ﻭﻗﻄﻌﺔٍ ﻣﻨﻬﺎ ﺑﻞ ﻛﻞِّ ﻭﺍﺩٍ ﻭﺟﺒﻞٍ ﻭﻛﻞ ﺑﺤﺮٍ ﻭﺑﺮٍ ﻓﻴﻬﺎ. ﻓﻜﻤﺎ ﺃﻥ ﻟـلأﺭﺽ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗِﻬﺎ ﺑﺄﺟﺰﺍﺋﻬﺎ ﻭﻛﻠﻴﺘﻬﺎ ﻛﺬﻟﻚ ﻟﻠﺴﻤﺎﻭﺍﺕِ ﻭﺍلأﺑﺮﺍﺝِ ﻭﺍلأﻓـلاﻙِ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗُﻬﺎ ﺍﻟﻜﻠﻴﺔ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﺘﻲ ﻟﻬﺎ ﺃﻟﻮﻑُ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ، ﻭﻣﺌﺎﺕُ ﺍلأﻟﻮﻑ ﻣﻦ ﺍلأﻟﺴﻨﺔ ﻟﻜﻞِّ ﺭﺃﺱ، لاﺷﻚ ﺃﻥّ ﻟﻬﺎ ﻣَﻠَﻜﺎ ﻣُﻮﻛـلا ﺑﻬﺎ ﻳﻨﺎﺳﺒﻬﺎ، ﻳﺘﺮﺟﻢ ﺃﺯﺍﻫﻴﺮَ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ ﻭﺛﻤﺮﺍﺕِ ﺗﺤﻤﻴﺪﺍﺗﻪ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎﺋﺔ ﺃﻟﻒِ ﻧَﻤَﻂٍ ﻣﻦ ﺃﻧﻤﺎﻁ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺢ ﻭﺍﻟﺘﺤﻤﻴﺪ، ﻳﺘﺮﺟﻤﻬﺎ ﻭﻳﺒﻴّﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ، ﻭﻳﻤﺜﻠﻬﺎ ﻭﻳﻌﻠﻦ ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍلأﺭﻭﺍﺡ. ﺇﺫ ﻟﻮ ﺩﺧﻠﺖ ﺃﺷﻴﺎﺀ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺓ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺃﻭ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ، ﻟﺘﺸﻜﻠﺖْ ﻟﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ، ﻭﺇﺫﺍ ﺍﻣﺘﺰﺟﺖ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ ﻭﺍﺗﺤﺪﺕ، ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻬﺎ ﺷﺨﺼﻴﺔ ﻣﻌﻨﻮﻳﺔ ﺗﻤﺜﻠﻬﺎ، ﻭﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺭﻭﺣﻬﺎ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ، ﻭَﻣَﻠَﻚ ﻣُﻮﻛﻞ ﻳﺆﺩﻱ ﻭﻇﻴﻔﺘﻬﺎ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﻴﺔ.

ﻓﺎﻧﻈﺮ ﻣﺜـلا  ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﻤﻨﺘﺼﺒﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﻏﺮﻓﺘﻨﺎ، ﻭﻫﻲ ﺷﺠﺮﺓ ﺍﻟﺪُّﻟﺐ ﺫﺍﺕ ﺍلأﻏﺼﺎﻥ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ؛ ﻓﻬﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻛﻠﻤﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻳﻨﻄﻖ ﺑﻬﺎ ﻟﺴﺎﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺠﺒﻞ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﻓﻢ (ﺑﺎﺭلا) ﺃلا ﺗَﺮﻯ ﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺃﻟﺴﻨﺔ ﺍلأﻏﺼﺎﻥ ﻟﻜﻞ ﺭﺃﺱ ﻣﻦ ﺭﺅﻭﺱ ﺍﻟﺸﺠﺮﺓ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ، ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺛﻤﺮﺍﺕ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﺍﻟﻤﻮﺯﻭﻧﺔ ﺍﻟﻤﻨﺘﻈﻤﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ؟ ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺌﺎﺕ ﺣﺮﻭﻑ ﺍﻟﺒُﺬﻳﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺠﻨﺤﺔ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺛﻤﺮﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺜﻤﺮﺍﺕ؟ ﺃلا ﻳﺴﺒّﺢ ﻛﻞّ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺮﺅﻭﺱ ﻭﺍلأﻟﺴﻨﺔ ﻟﻤﺎﻟﻚ ﺍﻟﻤُﻠْﻚِ ﺍﻟﺬﻱ ﻟﻪ ﺃﻣﺮُ ﻛﻦ ﻓﻴﻜﻮﻥ؟ ﺃلّا ﻳﺴﺒِّﺢ ﺑﻜـلاﻡ ﻓﺼﻴﺢ، ﻭﺑﺜﻨﺎﺀ ﺑﻠﻴﻎ ﻭﺍﺿﺢ؛ ﺣﺘﻰ ﺇﻧّﻚ ﺗﺸﺎﻫﺪ ﺗﺴﺒﻴﺤﺎﺗِﻬﺎ ﻭﺗﺴﻤﻌﻬﺎ؟!

ﻓﺎﻟﻤَﻠَﻚ ﺍﻟﻤُﻮﻛﻞ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺃﻳﻀﺎ ﻳﻤﺜﻞ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﺴﺒﻴﺤﺎﺕ ﻓﻲ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﻌﻨﻰ ﺑﺄﻟﺴﻨﺔٍ ﻣﺘﻌﺪﺩﺓ.

ﺑﻞ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺍلأﻣﺮ ﻫﻜﺬﺍ!

      رﺍﺑﻌﺘﻬﺎ:

ﻣﺜـلا: ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (ﻳﺲ:82) ﴿وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ﴾ (ﺍﻟﻨﺤﻞ:٧٧)﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ﻕ:16) ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﺝ:4)  ﻭﺃﻣﺜﺎﻝ ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻌﺒّﺮ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﺴﺎﻣﻴﺔ ﺍلآﺗﻴﺔ ﻭﻫﻲ: ﺃﻥّ ﺍﻟﻠﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ، ﺍﻟﻘﺪﻳﺮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﺊ، ﻳﺨﻠﻖ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﻓﻲ ﺳﺮﻋﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺩُﻭﻥَ ﺃﻳﺔِ ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﺃﻭ ﻣﺒﺎﺷﺮﺓ، ﺣﺘﻰ ﺗﺒﺪﻭ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻛﺄﻧّﻬﺎ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺍلأﻣﺮ.

ﺛﻢ ﺇﻥّ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺼﺎﻧﻊ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻗﺮﻳﺐ ﺟﺪﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻤﺼﻨﻮﻋﺎﺕ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻪ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﺒﻌﺪ. ﺛﻢ ﺇﻧّﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻣﻊ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻪ ﺍﻟﻤﻄﻠﻖ، لا ﻳﺪﻉ ﺃﺣﻘﺮ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻭﺃﻛﺜَﺮﻫﺎ ﺟﺰﺋﻴﺔ ﻭﺧﺴّﺔً ﺧﺎﺭﺝَ ﺇﺗﻘﺎﻧﻪ

ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﻳﺸﻬﺪ ﻟﻬﺎ ﺟﺮﻳﺎﻥ ﺍلاﻧﺘﻈﺎﻡ ﺍلأﻛﻤﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻭﺑﺴﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ. ﻛﻤﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﺘﻤﺜﻴﻞ ﺍلآﺗﻲ ﺑﻴّﻦ ﺳﺮَّ ﺣﻜﻤﺘﻬﺎ: ﻓﻤﺜـلا (ﻭﻟﻠﻪ ﺍﻟﻤﺜﻞ ﺍلأﻋﻠﻰ) ﺇﻥّ ﺍﻟﻮﻇﺎﺋﻒ ﺍﻟﺘﻲ ﻗﻠّﺪﻫﺎ ﺍلأﻣﺮ ﺍﻟﺮﺑﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﺘﺴﺨﻴﺮَ ﺍلإﻟﻬﻲ ﻟﻠﺸﻤﺲ -ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻤﺜﻞ ﻣﺮﺁﺓً ﻛﺜﻴﻔﺔً لاﺳﻢ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻣﻦ ﺍلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ- ﺗﻘﺮّﺏ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﻬﻢ. ﻭﺫﻟﻚ ﺃﻧّﻪ ﻣﻊ ﻋﻠّﻮ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺭﻓﻌﺘِﻬﺎ، ﻗﺮﻳﺒﺔ ﺟﺪﺍ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﻭﺍﻟـلاﻣﻌﺔ، ﺑﻞ ﺇﻧﻬﺎ ﺃﻗﺮﺏُ ﺇﻟﻰ ﺫﻭﺍﺕ ﺗﻠﻚ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﻣﻦ ﺃﻧﻔﺴِﻬﺎ. ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﺃﻥّ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺗﺠﻌﻞ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺗﺘﺄﺛَّﺮُ ﺑﻬﺎ ﺑﺠﻠﻮﺍﺗﻬﺎ ﻭﺑﻀﻮﺋﻬﺎ ﻭﺑﺠﻬﺎﺕ ﺃﺧﺮﻯ ﺷﺒﻴﻬﺔٍ ﺑﺎﻟﺘﺼﺮﻑ ﻓﻴﻬﺎ، ﺇلا ﺃﻥّ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﻮﺍﺩ  ﺍﻟﺸﻔﺎﻓﺔ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻬﺎ ﺑﺄﻟﻮﻑ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ، ﻓـلا ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﺗﺆﺛﺮ ﻓﻴﻬﺎ ﻗﻄﻌﺎ، ﺑﻞ لا ﻳﻤﻜﻨﻬﺎ ﺇﺩّﻋﺎﺀَ ﺍﻟﻘﺮﺏ ﻣﻨﻬﺎ.

ﻭﻛﺬﺍ ﻳُﻔﻬﻢ ﻣﻦ ﺭﺅﻳﺔ ﺍﻧﻌﻜﺎﺱ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺻﻮﺭﺗﻬﺎ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺫﺭﺓ ﺷﻔﺎﻓﺔ ﺣﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ ﻭﻟﻮﻧﻬﺎ، ﺃﻥ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﺣﺎﺿﺮﺓ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺫﺭﺓ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻧﺎﻇﺮﺓ ﺃﻳﻨَﻤﺎ ﺑﻠﻐﺖْ ﺃﺷﻌﺘﻬﺎ. ﻭﻛﺬﺍ ﻓﺈﻥّ ﻧﻔﻮﺫ ﺃﺷﻌﺔ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺷﻤﻮﻟَﻬﺎ ﻭﺇﺣﺎﻃَﺘﻬﺎ ﺗﺰﺩﺍﺩ ﺑﻌِﻈﻢ ﻧﻮﺭﺍﻧﻴﺘﻬﺎ؛ ﻓﻌﻈﻤﺔُ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻀﻢ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﺩﺍﺧﻞ ﺇﺣﺎﻃﺘﻬﺎ ﺍﻟﺸﺎﻣﻠﺔ ﺣﺘﻰ لا ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺷﻲﺀ ﻣﻬﻤﺎ ﺻﻐﺮ ﺃﻥ ﻳﺨﺘﺒﺊَ ﻋﻨﻬﺎ ﺃﻭ ﻳﻬﺮﺏَ ﻣﻨﻬﺎ؛ ﺃﻱ ﺇﻥّ ﻋﻈﻤﺔ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻬﺎ لا ﺗﺮﻣﻰ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﺣﺘﻰ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﺑﻞ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻫﻮ ﺍﻟﺼﺤﻴﺢ ﺃﻱ ﺃﻧَّﻬﺎ ﺗﻀﻢ ﺟﻤﻴﻌﻬﺎ -ﺑﺴﺮ ﺍﻟﻨﻮﺭﺍﻧﻴﺔ- ﺿﻤﻦ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﺇﺣﺎﻃﺘﻬﺎ.

ﻓﻠﻮ ﻓﺮﺿﻨﺎ ﺍﻟﺸﻤﺲ -ﻓَﺮْﺿﺎ ﻣﺤﺎلا- ﺃﻧّﻬﺎ ﻓﺎﻋﻠﺔ ﻣﺨﺘﺎﺭﺓ ﻓﻴﻤﺎ ﻧﺎﻟﺖ ﻣﻦ ﻭﻇﺎﺋﻒ ﻭﺟﻠﻮﺍﺕ، ﻓﺈﻧﻨﺎ ﻧﺴﺘﻄﻴﻊ ﺃﻥ ﻧﺘﺼﻮﺭ ﺃﻥّ ﺃﻓﻌﺎﻟﻬﺎ ﺗﺴﺮﻱ -ﺑﺈﺫﻥ ﺇﻟﻬﻲ- ﻓﻲ ﻣُﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴُّﻬﻮﻟﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴّﺮﻋﺔ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﺴَّﻌﺔ ﻭﺍﻟﺸﻤﻮﻝ، ﺍﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﺍﻟﺬﺭﺍﺕ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻘﻄﺮﺍﺕ ﻭﺇﻟﻰ ﻭﺟﻪ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﻭﺇﻟﻰ ﺍﻟﻜﻮﺍﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭﺓ؛ ﻓﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﺬﺭﺓ ﻭﺍﻟﻜﻮﻛﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺭ ﺳﻴّﺎﻥ ﺗﺠﺎﻩ ﺃﻣﺮﻫﺎ؛ ﺇﺫ ﺍﻟﻔﻴﺾ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺒﺜﻪ ﺇﻟﻰ ﺳﻄﺢ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺗﻌﻄﻴﻪ ﺑﺎﻧﺘﻈﺎﻡ ﻛﺎﻣﻞ ﺃﻳﻀﺎ ﻟﻠﺬﺭﺓ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ ﺣﺴﺐ ﻗﺎﺑﻠﻴﺘﻬﺎ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺍﻟﺘﻲ ﻫﻲ ﻓﻘﺎﻋﺔ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﺟﺪﺍ ﻣﻀﻴﺌﺔ ﻟﻤّﺎﻋﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﻄﺢ ﺑﺤﺮ ﺍﻟﺴﻤﺎﺀ، ﻭﻫﻲ ﻣﺮﺁﺓ ﺻﻐﻴﺮﺓ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﺗﻌﻜﺲ ﺗَﺠﻠّﻲ ﺍﺳﻢ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻟﻠﻘﺪﻳﺮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ.. ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﺗﺒﻴّﻦ ﻧﻤﺎﺫﺝَ ﺍلأﺳﺲ ﺍﻟﺜـلاﺛﺔ ﻟﻬﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ. ﺇﺫ لاﺷﻚ ﺃﻥ ﺿﻮﺀ ﺍﻟﺸﻤﺲ ﻭﺣﺮﺍﺭﺗَﻬﺎ ﻛﺜﻴﻔﺔ ﻛﺜﺎﻓﺔَ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺑﺎﻟﻨﺴﺒﺔ ﻟﻌﻠﻢ ﻭﻗﺪﺭﺓ ﻣَﻦ ﻫﻮ ﻧﻮﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻣﻨﻮِّﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ ﻭﻣﻘﺪِّﺭ ﺍﻟﻨﻮﺭ.

ﻓﺬﻟﻚ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﺇﺫﻥ ﻗﺮﻳﺐ ﺇﻟﻰ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻗُﺮﺑﺎ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﺑﻌﻠﻤﻪ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﻫﻮ ﺣﺎﺿﺮ ﻋﻨﺪﻩ ﻭﻧﺎﻇﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑﻌﻴﺪﺓ ﻋﻨﻪ ﺑﻌﺪﺍ ﻣﻄﻠﻘﺎ. ﻭﺇﻧﻪ ﻳﺘﺼﺮﻑ ﻓﻲ ﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺑـلا ﺗﻜﻠﻒ ﻭلا ﻣﻌﺎﻟﺠﺔ ﻭﻓﻲ ﺳﻬﻮﻟﺔ ﻣﻄﻠﻘﺔ ﺑﺤﻴﺚ ﻳﻔﻬﻢ ﺃﻧﻪ ﻳﺄﻣﺮ -ﻣُﺠﺮّﺩَ ﺍلأﻣﺮِ- ﻭﺍلأﺷﻴﺎﺀ ﺗﻮﺟﺪ ﺑﻴﺴﺮ ﻭﺳﺮﻋﺔ ﻣﻄﻠﻘﻴﻦ. ﻭﺇﻧﻪ ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎﻙ ﺷﻲﺀ، ﻣﻬﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺟﺰﺋﻴﺎ ﺃﻭ ﻛﻠﻴﺎ، ﺻﻐﻴﺮﺍ ﺃﻭ ﻛﺒﻴﺮﺍ ﺧﺎﺭﺝَ ﺩﺍﺋﺮﺓ ﻗﺪﺭﺗﻪ، ﻭﺑﻌﻴﺪﺍ ﻋﻦ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﻛﺒﺮﻳﺎﺋﻪ ﺟﻞَّ ﺟـلاﻟﻪ.

ﻫﻜﺬﺍ ﻧَﻔﻬﻢ، ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻧﺆﻣﻦ ﺇﻳﻤﺎﻧﺎ ﻳﻘﻴﻨﺎ ﻭﺑﺪﺭﺟﺔ ﺍﻟﺸﻬﻮﺩ، ﺑﻞ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺆﻣﻦ ﻫﻜﺬﺍ.

     ﺧﺎﻣﺴﺘﻬﺎ:

ﺇﻥ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﻜﺮﻳﻤﺔ ﺍﻟﺘﺎﻟﻴﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﺗﻌﺎﻟﻰ ﻭﻛﺒﺮﻳﺎﺀﻩ ﺍﻟﻤﻄﻠﻘﻴﻦ: ﻓﺎﺑﺘﺪﺍﺀً ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾(ﺍﻟﺰﻣﺮ:67)  ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (ﺍلأﻧﻔﺎﻝ:24)  ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (ﺍﻟﺰﻣﺮ:62) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻳَﻌْﻠَﻢُ ﻣَﺎ ﻳُﺴِﺮُّﻭﻥَ ﻭَﻣَﺎ ﻳُﻌْﻠِﻨُﻮﻥَ﴾ (ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ:٧٧) ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﺧَﻠَﻖَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ (ﺍلأﻋﺮﺍﻑ:54) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﺧَﻠَﻘَﻜُﻢْ ﻭَﻣَﺎ ﺗَﻌْﻤَﻠُﻮﻥَ﴾ (ﺍﻟﺼﺎﻓﺎﺕ:96). ﻭﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻣَﺎ ﺷَﺎﺀَ ﺍﻟﻠﻪُ لَا ﻗُﻮَّﺓَ ﺇَِّﻻ ﺑِﺎﻟﻠﻪِ﴾ (ﺍﻟﻜﻬﻒ:39) ﺇﻟﻰ ﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﴿ﻭَﻣَﺎ ﺗَﺸَﺎﺀُﻭﻥَ ﺇَِّﻻ ﺃَﻥْ ﻳَﺸَﺎﺀَ ﺍﻟﻠﻪُ﴾ (ﺍلإﻧﺴﺎﻥ:30) ﻫﺬﻩ ﺍلآﻳﺎﺕ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺒﻴﻦ ﺇﺣﺎﻃﺔ ﺣﺪﻭﺩ ﻋﻈﻤﺔ ﺭﺑﻮﺑﻴﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﻭﻛﺒﺮﻳﺎﺀ ﺃﻟﻮﻫﻴﺘﻪ ﺑﻜﻞ ﺷﻲﺀ.. ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ، ﺳﻠﻄﺎﻥ ﺍلأﺯﻝ ﻭﺍلأﺑﺪ ﻳﻬﺪﺩ ﺑﺸﺪﺓ ﻭﻳﻌﻨّﻒ ﻭﻳﺰﺟﺮ ﻭﻳﺘﻮﻋﺪ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻀﻌﻒ ﻭﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻔﻘﺮ، ﻭﺍﻟﺬﻱ لا ﻳﻤﻠﻚ ﺇلّا ﺟﺰﺀﺍ ﺿﺌﻴـلا ﻣﻦ ﺇﺭﺍﺩﺓ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﻳﺔ ﻭﻛﺴﺒﺎ ﻓﻘﻂ، ﻓـلا ﻗﺪﺭﺓ ﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﺍلإﻳﺠﺎﺩ ﻗﻄﻌﺎ.

    ﻭﺍﻟﺴﺆﺍﻝ ﺍﻟﻮﺍﺭﺩ ﻫﻮ: ﻣﺎ ﺃﺳﺎﺱ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺒﻨﻰ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺰﻭﺍﺟﺮ ﻭﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪﺍﺕ ﺍﻟﻤﺮﻋﺒﺔ ﻭﺍﻟﺸﻜﺎﻭﻯ ﺍﻟﻘﺮﺁﻧﻴﺔ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭﺓ ﻣﻦ ﻋﻈﻤﺘﻪ ﺍﻟﺠﻠﻴﻠﺔ ﺗﺠﺎﻩ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻀﻌﻴﻒ، ﻭﻛﻴﻒ ﻳﺘﻢ ﺍلاﻧﺴﺠﺎﻡ ﻭﺍﻟﺘﻮﻓﻴﻖ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ؟.

ﺃﻗﻮﻝ: لأﺟﻞ ﺍﻟﺒﻠﻮﻍ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻃﻤﺌﻨﺎﻥ ﺍﻟﻘﻠﺒﻲ، ﺍﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﺍﻟﻌﻤﻴﻘﺔ ﺟﺪﺍ ﻭﺍﻟﺮﻓﻴﻌﺔ ﺟﺪﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻴﻦ ﺍلآﺗﻴﻴﻦ:

   ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍلأﻭﻝ:

ﺑﺴﺘﺎﻥ ﻋﻈﻴﻢ ﺟﺪﺍ ﻳﺤﻮﻱ ﻣﺎ لا ﻳﻌﺪ ﻭلا ﻳﺤﺼﻰ ﻣﻦ ﺍلأﺛﻤﺎﺭ ﺍﻟﻴﺎﻧﻌﺔ ﻭﺍلأﺯﺍﻫﻴﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ، ﻋُﻴّﻦ ﻋﺪﺩ ﻛﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻭﺍﻟﻤﻮﻇﻔﻴﻦ ﻟﻠﻘﻴﺎﻡ ﺑﺨﺪﻣﺎﺕ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺪﻳﻘﺔ ﺍﻟﺰﺍﻫﺮﺓ. ﺇلّا ﺃﻥّ ﺍﻟﻤﻜﻠّﻒ ﺑﻔﺘﺢ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺠﺮﻱ ﻣﻨﻪ ﺍﻟﻤﺎﺀ ﻟﻠﺸﺮﺏ ﻭﺳﻘﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ، ﺗﻜﺎﺳﻞ ﻋﻦ ﺃﺩﺍﺀ ﻣﻬﻤﺘﻪ ﻭﻟﻢ ﻳﻔﺘﺢ ﺍﻟﻤﻨﻔﺬ، ﻓﻠﻢ ﻳﺠﺮ ﺍﻟﻤﺎﺀ. ﺑﻤﻌﻨﻰ ﺃﻧّﻪ ﺃﺧَﻞَّ ﺑﻜﻞ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﺃﻭ ﺳﺒّﺐ ﻓﻲ ﺟﻔﺎﻓﻪ!

ﻭﻋﻨﺪﻫﺎ ﻓﺈﻥ ﻟﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺴﺘﺎﻥ ﺣﻖَّ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﻤﺘﻘﺎﻋﺲ ﻋﻦ ﺍﻟﻌﻤﻞ، ﻓﻀـلا ﻋﻦ ﺷﻜﺎﻭﻯ ﻣﺎ ﺃﺑﺪﻋﻪ ﺍﻟﺮﺏ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻭﺍﻟﺨﺎﻟﻖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﻣﺎ ﻫﻮ ﺗﺤﺖ ﻧﻈﺮ ﺷﻬﻮﺩﻩ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﺑﻞ ﺣﺘﻰ ﻟﻠﺘﺮﺍﺏ ﻭﺍﻟﻬﻮﺍﺀ ﻭﺍﻟﻀﻴﺎﺀ ﺣﻖ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﻣﻞ ﺍﻟﻜﺴـلاﻥ، ﻟﻤﺎ ﺳﺒّﺐ ﻣﻦ ﺑَﻮﺍﺭ ﻣﻬﻤﺎﺗﻬﻢ ﻭﻋُﻘْﻢِ ﺧﺪﻣﺎﺗﻬﻢ ﺃﻭ ﺇﺧـلاﻝٍ ﺑﻬﺎ ﻓﻲ ﺍلأﻗﻞ!

      ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ:

ﺳﻔﻴﻨﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﻟﻠﺴﻠﻄﺎﻥ. ﺇﻥ ﺗﺮﻙ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﺎﻣﻞ ﺑﺴﻴﻂ ﻭﻇﻴﻔﺘﻪ ﺍﻟﺠﺰﺋﻴﺔ، ﻓﺴﻴﺆﺩﻱ ﺗﺮﻛُﻪ ﻫﺬﺍ ﺇﻟﻰ ﺇﺧـلاﻝ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ ﻭﺇﻫﺪﺍﺭﻫﺎ. لأﺟﻞ ﺫﻟﻚ ﻓﺎﻥ ﺻﺎﺣﺐ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ، ﻭﻫﻮ ﺍﻟﺴﻠﻄﺎﻥ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ، ﺳﻴﻬﺪﺩ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻘﺼّﺮ ﺗﻬﺪﻳﺪﺍ ﺷﺪﻳﺪﺍ ﺑﺈﺳﻢ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻌﺎﻣﻠﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺴﻔﻴﻨﺔ. ﻓﻲ ﺣﻴﻦ لا ﻳﻘﺪﺭ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻤﻘﺼّﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻘﻮﻝ: ﻣَﻦ ﺃﻧﺎ ﺣﺘﻰ ﺍﺳﺘﺤﻖ ﻛﻞ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﻤﺮﻭّﻉ، ﻭﻣﺎ ﻋﻤﻠﻲ ﺇلّا ﺇﻫﻤﺎﻝ ﺗﺎﻓﻪ ﺟﺰﺋﻲ  ﺫﻟﻚ لأﻥ ﻋﺪﻣﺎ ﻭﺍﺣﺪﺍ ﻳﺆﺩﻱ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ لّا ﻳﺘﻨﺎﻫﻰ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻌﺪﻡ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻳﺜﻤﺮ ﺛﻤﺮﺍﺕ ﺣﺴﺐ ﻧﻮﻋﻪ. لأﻥ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺸﻲﺀ ﻳﺘﻮﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻮﺩ ﺟﻤﻴﻊ ﺍلأﺳﺒﺎﺏ ﻭﺍﻟﺸﺮﻭﻁ، ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺍﻧﻌﺪﺍﻡ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺸﻲﺀ ﻭﺍﻧﺘﻔﺎﺅﻩ ﻣﻦ ﺣﻴﺚ ﺍﻟﻨﺘﻴﺠﺔ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺑﺎﻧﺘﻔﺎﺀ ﺷﺮﻁ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻭﺑﺎﻧﻌﺪﺍﻡ ﺟﺰﺀ ﻣﻨﻪ.

ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ ﻏﺪﺍ (ﺍﻟﺘﺨﺮﻳﺐ ﺃﺳﻬﻞ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻌﻤﻴﺮ) ﺩﺳﺘﻮﺭﺍ ﻣﺘﻌﺎﺭﻓﺎ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻨﺎﺱ. ﻭﻟﻤﺎ ﻛﺎﻧﺖ ﺃﺳﺲُ ﺍﻟﻜﻔﺮ ﻭﺍﻟﻀـلاﻝ ﻭﺍﻟﻄﻐﻴﺎﻥ ﻭﺍﻟﻤﻌﺼﻴﺔ، ﺇﻧﻜﺎﺭﺍ ﻭﺭﻓﻀﺎ ﻭﺗﺮﻛﺎ ﻟﻠﻌﻤﻞ ﻭﻋﺪﻡ ﻗﺒﻮﻝ، ﻓﺼﻮﺭﺗﻬﺎ ﺍﻟﻈﺎﻫﺮﻳﺔ ﻣَﻬْﻤَﺎ ﺑﺪﺕْ ﺇﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻭﺫﺍﺕَ ﻭﺟﻮﺩ، ﺇلّا ﺃﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺣﻘﻴﻘﺘﻬﺎ ﺍﻧﺘﻔﺎﺀ ﻭﻋﺪﻡ، ﻟﺬﺍ ﻓﻬﻲ ﺟﻨﺎﻳﺔ ﺳﺎﺭﻳﺔ.

ﻓﻬﺬﻩ ﺍلأﻣﻮﺭ ﻣﺜﻠﻤﺎ ﺗُﺨِﻞُّ ﺑﻨﺘﺎﺋﺞ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻛﺎﻓﺔً، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺗُﺴﺪﻝ ﺳﺘﺎﺭﺍ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﺘﺠﻠﻴﺎﺕ ﺍﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ ﻟـلأﺳﻤﺎﺀ ﺍﻟﺤﺴﻨﻰ ﻭﺗﺤﺠﺒﻬﺎ ﻋﻦ ﺍلأﻧﻈﺎﺭ.

ﻭﻫﻜﺬﺍ ﻓﺎﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺍﺕ ﻟﻬﺎ ﺣﻖُّ ﺍﻟﺸﻜﻮﻯ ﺑـلا ﺣﺪﻭﺩ، ﻭﺃﻥّ ﺳﻠﻄﺎﻧﻬﺎ ﺍﻟﺠﻠﻴﻞ ﻳﻬﺪّﺩ ﺑﺎﺳﻤﻬﺎ ﻫﺬﺍ ﺍلإﻧﺴﺎﻥ ﺍﻟﻌﺎﺻﻲ ﻭﻳﺰﺟﺮﻩ ﺃﺷﺪَّ ﺍﻟﺰﺟﺮ. ﻭﻫﺬﺍ ﻫﻮ ﻋﻴﻦ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ؛ لأﻥ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻌﺎﺻﻲ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺑـلا ﺭﻳﺐ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﺍﻟﺮﻫﻴﺐ ﻛﻤﺎ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺃﻧﻮﺍﻋﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻮﻋﻴﺪ ﺍﻟﻤﺮﻋﺐ.

 

   ﺧﺎﺗﻤﺔ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 ﴿ﻭَﻣَﺎ ﺍﻟْﺤَﻴَﺎﺓُ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ﺇِلّا ﻣَﺘَﺎﻉُ ﺍﻟْﻐُﺮُﻭﺭِ﴾ (ﺁﻝ ﻋﻤﺮﺍﻥ:185)

    (ﺩﺭﺱ ﻟﻠﻌﺒﺮﺓ ﻭﺻﻔﻌﺔ ﻗﻮﻳﺔ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ)

    ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ .. ﺃﻳﺘﻬﺎ ﺍﻟﺴﺎﺩﺭﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻐﻔﻠﺔ! ﻳﺎ ﻣَﻦ ﺗَﺮﻳﻦَ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺣﻠﻮﺓ ﻟﺬﻳﺬﺓ ﻓﺘﻄﻠﺒﻴﻦ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺗﻨﺴﻴﻦ ﺍلآ ﺧﺮﺓ.. ﻫﻞ ﺗﺪﺭﻳﻦَ ﺑﻢَ ﺗَﺸﺒﻬﻴﻦَ؟ ﺇﻧّﻚ ﻟﺘﺸﺒﻬﻴﻦ ﺍﻟﻨﻌﺎﻣﺔ.. ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺮﻯ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ ﻓـلا ﺗﺴﺘﻄﻴﻊ ﺍﻟﻄﻴﺮﺍﻥ، ﺑﻞ ﺗُﻘﺤﻢ ﺭﺃﺳﻬﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺮﻣﺎﻝ ﺗﺎﺭﻛﺔً ﺟﺴﻤَﻬﺎ ﺍﻟﻀَّﺨﻢَ ﻓﻲ ﺍﻟﺨﺎﺭﺝ ﻇَﻨﺎ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﻥّ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ لا ﻳﺮﺍﻫﺎ. ﺇلّا ﺃﻥ ﺍﻟﺼﻴﺎﺩ ﻳﺮﻯ، ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﻫﻲ ﻭﺣﺪﻫﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺃﻃﺒﻘﺖْ ﺟﻔﻨﻴﻬﺎ ﺗﺤﺖ ﺍﻟﺮﻣﺎﻝ ﻓﻠﻢ ﺗَﻌُﺪْ ﺗﺮﻯ!

ﻓﻴﺎ ﻧﻔﺴﻲ! ﺍﻧﻈﺮﻱ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﻭﺗﺄﻣّﻠﻲ ﻓﻴﻪ، ﻛﻴﻒ ﺃﻥّ ﺣﺼﺮ ﺍﻟﻨﻈﺮ ﻛﻠِّﻪ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻳُﺤﻮّﻝ ﺍﻟﻠﺬﺓ ﺍﻟﺤﻠﻮﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻟﻢ ﻣﺮﻳﺮ!.

ﻫَﺐْ ﺃﻧّﻪ ﻓﻲ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﺮﻳﺔ (ﺑﺎﺭلا) ﺭﺟـلاﻥ ﺍﺛﻨﺎﻥ: ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ ﻗﺪ ﺭَﺣَﻞَ ﺗﺴﻌﺔ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ ﻣﻦ ﺃﺣﺒّﺘﻪ ﺇﻟﻰ ﺇﺳﻄﻨﺒﻮﻝ ﻭﻫﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﻋِﻴﺸﺔ ﻃﻴﺒﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ، ﻭﻟﻢ ﻳﺒﻖَ ﻣﻨﻬﻢ ﻫﻨﺎ ﺳﻮﻯ ﺷﺨﺺ ﻭﺍﺣﺪ ﻓﻘﻂ ﻭﻫﻮ ﺃﻳﻀﺎ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻘﻪ ﺇﻟﻰ ﺍلاﻟﺘﺤﺎﻕ ﺑﻬﻢ، ﻟﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻣﺸﺘﺎﻕ ﺇﻟﻰ ﺇﺳﻄﻨﺒﻮﻝ ﺃﺷﺪَّ ﺍلاﺷﺘﻴﺎﻕ ﺑﻞ ﻳﻔﻜﺮ ﺑﻬﺎ، ﻭﻳﺮﻏﺐ ﻓﻲ ﺃﻥ ﻳﻠﺘﻘﻲ ﺍلأﺣﺒﺎﺏَ ﺩﺍﺋﻤﺎ. ﻓﻠﻮ ﻗﻴﻞ ﻟﻪ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻭﻗﺖ ﻣﻦ ﺍلأﻭﻗﺎﺕ: (ﻫﻴَّﺎ ﺍﺫﻫﺐْ ﺇﻟﻰ ﻫﻨﺎﻙ) ﻓﺈﻧّﻪ ﺳﻴﺬﻫﺐُ ﻓﺮﺣﺎ ﺑﺎﺳﻤﺎ..

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ ﻓﻘﺪ ﺭَﺣَﻞَ ﻣﻦ ﺃﺣﺒﺘﻪ ﺗﺴﻌﺔ ﻭﺗﺴﻌﻮﻥ ﺑﺎﻟﻤﺎﺋﺔ، ﻭﻳﻈﻦ ﺃﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓَﻨِﻲَ، ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣَﻦ ﺍﻧﺰﻭﻯ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻛﻦ لا ﺗُﺮﻯ. ﻓَﻬَﻠَﻜُﻮﺍ ﻭﺗﻔﺮَّﻗﻮﺍ ﺣَﺴْﺐَ ﻇﻨﻪ. ﻓﻬﺬﺍ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﻤﺴﻜﻴﻦ ﺫﻭ ﺩﺍﺀ ﻋُﻀﺎﻝ ﻳﺒﺤﺚ ﻋﻦ ﺃﻧﻴﺲ ﻭﻋﻦ ﺳُﻠﻮﺍﻥ ﺣﺘﻰ ﻋﻨﺪ ﺳﺎﺋﺢ ﻭﺍﺣﺪ، ﺑﺪلا ﻣﻦ ﺃﻭﻟﺌﻚ ﺟﻤﻴﻌﺎ، ﻭﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳﻐﻄّﻲ ﺑﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻟﻢ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ.

ﻓﻴﺎ ﻧﻔﺴﻲ! ﺇﻥّ ﺃﺣﺒَّﺘﻚ ﻛﻠَّﻬﻢ، ﻭﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻬﻢ ﻭﻓﻲ ﻣﻘﺪﻣﺘﻬﻢ ﺣﺒﻴﺐُ ﺍﻟﻠﻪ  صلى الله عليه وسلم، ﻫﻢ ﺍلآﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ. ﻓﻠﻢ ﻳﺒﻖ ﻫﻨﺎ ﺇلّا ﻭﺍﺣﺪ ﺃﻭ ﺍﺛﻨﺎﻥ ﻭﻫﻢ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﺘﺄﻫﺒﻮﻥ ﻟﻠﺮّﺣﻴﻞ. ﻓـلا ﺗُﺪﻳﺮﻥّ ﺭﺃﺳَﻚِ ﺟَﻔِﻠَﺔً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻮﺕ، ﺧﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ، ﺑﻞ ﺣَﺪِّﻗﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺒﺮ ﻭﺍﻧﻈﺮﻱ ﺇﻟﻰ ﺣﻔﺮﺗﻪ ﺑﺸﻬﺎﻣﺔ ﻭﺍﺳﺘﻤﻌﻲ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻳﻄﻠﺐ. ﻭﺍﺑﺘﺴﻤﻲ ﺑﻮﺟﻪ ﺍﻟﻤﻮﺕ ﺑﺮﺟﻮﻟﺔ، ﻭﺍﻧﻈﺮﻱ ﻣﺎﺫﺍ ﻳﺮﻳﺪ؟ ﻭﺇﻳﺎﻙِ ﺃﻥ ﺗﻐﻔﻠﻲ ﻓﺘﻜﻮﻧﻲ ﺃﺷْﺒَﻪ ﺑﺎﻟﺮﺟﻞ ﺍﻟﺜﺎﻧﻲ!.

ﻳﺎ ﻧﻔﺴﻲ! لا ﺗﻘﻮﻟﻲ ﺃﺑﺪﺍ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﺰﻣﺎﻥ ﻗﺪ ﺗﻐﻴّﺮ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻌﺼﺮ ﻗﺪ ﺗﺒﺪّﻝ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻗﺪ ﺍﻧﻐﻤﺴﻮﺍ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭﺍﻓﺘﺘﻨﻮﺍ ﺑﺤﻴﺎﺗﻬﺎ، ﻓﻬﻢ ﺳُﻜﺎﺭﻯ ﺑﻬﻤﻮﻡ ﺍﻟﻌﻴﺶ.. ﺫﻟﻚ لأﻥّ ﺍﻟﻤﻮﺕ لا ﻳﺘﻐﻴﺮ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ لا ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﺎﺀ ﻓـلا ﻳﺘﻐﻴﺮ ﺃﻳﻀﺎ، ﻭﺃﻥّ ﺍﻟﻌﺠﺰ ﺍلإﻧﺴﺎﻧﻲ ﻭﺍﻟﻔﻘﺮ ﺍﻟﺒﺸﺮﻱ ﻫﻤﺎ ﺃﻳﻀﺎ لا ﻳﺘﻐﻴﺮﺍﻥ ﺑﻞ ﻳﺰﺩﺍﺩﺍﻥ، ﻭﺃﻥّ ﺭﺣﻠﺔ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳﺔ لا ﺗﻨﻘﻄﻊ، ﺑﻞ ﺗَﺤُﺚُّ ﺍﻟﺴﻴﺮ ﻭﺗﻤﻀﻲ. ﺛﻢ لا ﺗﻘﻮﻟﻲ ﻛﺬﻟﻚ: (ﺃﻧﺎ ﻣﺜﻞ ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ). ﺫﻟﻚ لأﻥّ ﻣﺎ ﻣﻦ ﺃﺣﺪٍ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻳﺼﺎﺣﺒﻚ ﺇلّا ﺇﻟﻰ ﻋﺘﺒﺔ ﺑﺎﺏ ﺍﻟﻘﺒﺮ.. لا ﻏﻴﺮ. ﻭﻟﻮ ﺫﻫﺒﺖِ ﺗﻨﺸﺪﻳﻦ ﺍﻟﺴُّﻠﻮﺍﻥ ﻓﻴﻤﺎ ﻳﻘﺎﻝ ﻋﻦ ﻣﺸﺎﺭﻛﺔ ﺍلآﺧﺮﻳﻦ ﻣﻌﻚ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺼﻴﺒﺔ ﻭﻣﻌﻴﺘﻬﻢ ﻟﻚ، ﻓﺎﻥّ ﻫﺬﺍ ﺃﻳﻀﺎ لا ﺣﻘﻴﻘﺔ ﻟﻪ ﻭلا ﺃﺳﺎﺱ ﻣﻄﻠﻘﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻄﺮﻑ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻘﺒﺮ!.

ﻭلا ﺗَﻈّﻨﻲ ﻧﻔﺴَﻚ ﺳﺎﺭﺣﺔً ﻣﻔﻠﺘﺔَ ﺍﻟﺰﻣﺎﻡ، ﺫﻟﻚ لأﻧّﻚِ ﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﻧﻈﺮﺕ ﺇﻟﻰ ﺩﺍﺭ ﺿﻴﺎﻓﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻫﺬﻩِ ﻧَﻈﺮ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻭﺍﻟﺮﻭّﻳﺔ.. ﻓﻠﻦ ﺗﺠﺪﻱ ﺷﻴﺌﺎ ﺑـلا ﻧﻈﺎﻡ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ، ﻓﻜﻴﻒ ﺗﺒﻘﻴﻦ ﺇﺫﻥ ﻭﺣﺪَﻙ ﺑـلا ﻧﻈﺎﻡ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ؟  ﻓﺤﺘﻰ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺍﻟﻜﻮﻧﻴﺔ ﻭﺍﻟﻮﻗﺎﺋﻊ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﺔ ﺑﺎﻟﺰلاﺯﻝ ﻟﻴﺴﺖ ﺃﻟﻌﻮﺑﺔً ﺑﻴﺪ ﺍﻟﺼﺪﻓﺔ.

    ﻓﻤﺜـلا: ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﺎﻫﺪﻳﻦ ﻓﻴﻪ ﺑﺄﻥّ ﺍلأﺭﺽ ﻗﺪ ﺃﻟﺒﺴﺖ ﺣُﻠـلا ﻣﺰﺭﻛﺸﺔ ﺑﻌﻀُﻬﺎ ﻓﻮﻕ ﺑﻌﺾ ﻣﻜﺘﻨﻔﺔً ﺑﻌﻀُﻬﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺍلآﺧﺮ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻨﺒﺎﺗﺎﺕ ﻭﺍﻟﺤﻴﻮﺍﻧﺎﺕ ﻓﻲ ﻣﻨﺘﻬﻰ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﻭﻓﻲ ﻏﺎﻳﺔ ﺍﻟﻨﻘﺶ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻝ، ﻭﺗﺮﻳﻨﻬﺎ ﻣﺠﻬّﺰﺓ ﻛﻠَّﻬﺎ ﻣﻦ ﻗﻤﺔ ﺍﻟﺮﺃﺱ ﺇﻟﻰ ﺃﺧﻤﺺ ﺍﻟﻘﺪﻡ ﺑﺎﻟﺤﻜﻢ، ﻭﻣﺰﻳﻨﺔ ﺑﺎﻟﻐﺎﻳﺎﺕ. ﻭﻓﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺪﻭﺭ ﺑﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺟﺬﺑﺔَ ﺣﺐّ ﻭﺷﻮﻕ ﻣﻮﻟﻮﻳﺔ ﺑﻜﻤﺎﻝ ﺍﻟﺪﻗﺔ ﻭﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺿﻤﻦ ﻏﺎﻳﺎﺕ ﺳﺎﻣﻴﺔ.. ﻓﻔﻲ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺸﻬﺪﻳﻦ ﻫﺬﺍ، ﻭﺗﻌﻠﻤﻴﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻜﻴﻒ ﻳﺴﻮﻍ ﺇﺫﻥ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺍﻟﺰﻟﺰﻟﺔ ﺍﻟﺸﺒﻴﻬﺔ ﺑﻬﺰّ ﻋﻄﻒ ﻛﺮﺓ ﺍلأﺭﺽ (حاشية) ﻛﺘﺐ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺑﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﺍﻟﺰﻟﺰﺍﻝ ﺍﻟﺬﻱ ﺣﺪﺙ ﻓﻲ ﺇﺯﻣﻴﺮ. ﺍﻟﻤﺆﻟﻒ. ﻣﻈﻬﺮﺓً ﺑﻬﺎ ﻋﺪﻡَ ﺭﺿﺎﻫﺎ ﻋﻦ ﺛُﻘﻞ  ﺍﻟﻀِّﻴﻖ ﺍﻟﻤﻌﻨﻮﻱ ﺍﻟﻨﺎﺷﺊ ﻣﻦ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮ، ﻭلا ﺳﻴﻤﺎ ﺃﻫﻞ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ ﻣﻨﻬﻢ، ﻛﻴﻒ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﺤﺎﺩﺛﺔ ﺍﻟﻤﻠﻴﺌﺔ ﺑﺎﻟﻤﻮﺕ، ﺑـلا ﻗﺼﺪ ﻭلا ﻏﺎﻳﺔ ﻛﻤﺎ ﻧﺸﺮﻩ ﻣﻠﺤﺪ ﻇﻨﺎ ﻣﻨﻪ ﺃﻧﻬﺎ ﻣﺠﺮﺩُ ﻣﺼﺎﺩﻓﺔ، ﻣﺮﺗﻜﺒﺎ ﺑﺬﻟﻚ ﺧﻄﺄ ﻓﺎﺣﺸﺎ ﻭﻣﻘﺘﺮﻓﺎ ﻇﻠﻤﺎ ﻗﺒﻴﺤﺎ؟ ﺇﺫ ﺻﻴَّﺮ ﺟﻤﻴﻊَ ﻣﺎ ﻓﻘﺪﻩ ﺍﻟﻤﺼﺎﺑﻮﻥ ﻣﻦ ﺃﻣﻮﺍﻝ ﻭﺃﺭﻭﺍﺡ ﻫﺒﺎﺀً ﻣﻨﺜﻮﺭﺍ ﻗﺎﺫﻓﺎ ﺑﻬﻢ ﻓﻲ ﻳﺄﺱ ﺃﻟﻴﻢ. ﻭﺍﻟﺤﺎﻝ ﺃﻥّ ﻣﺜﻞ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺤﻮﺍﺩﺙ ﺗﺪّﺧﺮ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﺃﻣﻮﺍﻝ ﺃﻫﻞ ﺍلإﻳﻤﺎﻥ، ﻣﺤﻮﻟﺔً ﺇﻳﺎﻫﺎ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﺤﻜﻴﻢ ﺍﻟﺮﺣﻴﻢ، ﺇﻟﻰ ﺻَﺪَﻗﺔٍ ﻟﻬﻢ. ﻭﻫﻲ ﻛﻔّﺎﺭﺓ ﻟﺬﻧﻮﺏ ﻧﺎﺷﺌﺔ ﻣﻦ ﻛﻔﺮﺍﻥ ﺍﻟﻨﻌﻢ.

ﻓﻠﺴﻮﻑ ﻳﺄﺗﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻮﻡ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﺠﺪ ﺍلأﺭﺽ ﺍﻟﻤﺴﺨﺮﺓ ﻭﺟْﻬَﻬَﺎ ﺩﻣﻴﻤﺎ ﻗﺒﻴﺤﺎ ﺑﻤﺎ ﻟَﻄَّﺦَ ﺯﻳﻨﺘَﻬﺎ ﺷﺮﻙُ ﺃﻋﻤﺎﻝ ﺍﻟﺒﺸﺮ ﻭﻟﻮّﺛﻬﺎ ﻛﻔﺮﺍﻧﻪ، ﻓﺘﻤﺴﺢ ﻋﻨﺪﺋﺬٍ ﻭﺟﻬﻬﺎ ﺑﺰﻟﺰﻟﺔ ﻋﻈﻴﻤﺔ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﺨﺎﻟﻖ، ﻭﺗﻄﻬّﺮﻩ ﻣﻔﺮﻏﺔً ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﺮﻙ ﺑﺄﻣﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻲ ﺟﻬﻨﻢ، ﻭﺩﺍﻋﻴﺔً ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺸﻜﺮ: (ﻫﻴﺎ ﺗﻔﻀﻠﻮﺍ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺠﻨﺔ).

الكلمة الثالثة عشرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الإسراء: 82)

﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

إذا أردتَ أن تعقد موازنة ومقارنة بين حكمة القرآن الحكيم والعلوم الفلسفية، وأردت أن تعرف ما يمكن أن يُستخلص من كل منهما من دروس العبرة والعظة، ورمتَ أن تلمس ما ينطويان عليه من علوم.. فأمعن النظر وتأمل فيما يأتي:

إن القرآن الكريم، ببياناته القوية النافذة، إنما يمزّق غطاء الأُلفة وستار العادة الملقى على موجودات الكون قاطبة، والتي لا تُذكر الاّ أنها عادية مألوفة مع أنها خوارق قدرةٍ بديعة ومعجزاتها العظيمة. فيكشف القرآن بتمزيقه ذلك الغطاء حقائق عجيبة لذوي الشعور، ويُلفت أنظارهم إلى ما فيها من دروس بليغة للاعتبار والعظة، فاتحًا كنزًا لا يفنى للعلوم أمام العقول.

أما حكمة الفلسفة، فهي تخفي جميع معجزات القدرة الإلهية وتسترها تحت غطاء الأُلفة والعادة، فتجاوزها دون اكتراث. بل تتجاهلها دون مبالاة بها، فلا تعرض أمام أنظار ذوي الشعور إلا أفرادًا نادرة شذّت عن تناسق الخلقة، وتردّت عن كمال الفطرة السليمة مدّعية أنها نماذج حكمةٍ ذات عبرة.

فمثلًا: إن الإنسان السوي الذي هو في أحسن تقويم جامعٍ لمعجزات القدرة الإلهية، تنظر إليه حكمةُ الفلسفة نظرها إلى شئ عادي مألوف، بينما تلفت الأنظار إلى ذلك الإنسان المشوّه الذي شذّ عن كمال الخلقة، كأن يكون له ثلاثة أرجل أو رأسين مثلًا، فتثير حوله نظر العبرة والاستغراب.

ومثلًا: إن إعاشة جميع الصغار من خزائن الغيب إعاشةً في منتهى الانتظام التي تمثل ألطف معجزة من معجزات رحمته تعالى وأعمّها في الوجود، تنظر إليها حكمة الفلسفة أمرًا مألوفًا عاديًا، فتسترها بستار الكفران، بينما تلفت الأنظار إلى إعاشة حشرة شذت عن النظام ونأت عن طائفتها وظلت وحيدة في الغربة فريدة في أعماق البحر، فبدأت تقتات على ورق نبات أخضر هناك حتى أنها لتثير أشجان الصيادين إلى ما يتجلى منها من لطف وكرم بل تدفعهم إلى البكاء والحزن (حاشية) لقد وقعت هذه الحادثة فعلًا في أمريكا. المؤلف.

فشاهد في ضوء هذه الأمثلة ثروة القرآن الطائلة وغناه الواسع في معرفة الله في ميدان العلم والحكمة.. وإفلاس الفلسفة وفقرها المدقع في دروس العبرة والعلم بمعرفة الصانع الجليل.

ولأجل هذا السر فالقرآن الكريم الذي هو جامع لحقائق باهرة ساطعة لا نهاية لها، مستغنٍ عن خيالات الشعر.. وثمة سبب آخر لتنزه القرآن عن الشعر هو أن القرآن مع أنه في أتم نظام خارق وأكمل انتظام معجز ويفسّر -بأساليبه المنتظمة- تناسق الصنعة الإلهية في الكون نراه غير منظوم، فكل آية من نجوم آياته لا تتقيد بنظام الوزن، لذا تصبح كأنها مركز لأكثر الآيات وشقيقتها. إذ تمثل خيوط العلاقة بين الآيات المترابطة في المعنى دائرة واسعة. فكأن كل آيةٍ حرةٍ -غير مقيدة بنظام الوزن- تملك عيونًا باصرة إلى أكثر الآيات، ووجوهًا متوجهة إليها.

ومن هذا نجد في القرآن الكريم آلافًا من القرائين حتى أنه يهب لكل ذي مشرب قرآنًا منه. فسورة الإخلاص -مثلًا- تشتمل على خزينة عظيمة لعلم التوحيد، تضم ستًا وثلاثين سورة إخلاصٍ، تتكون من تراكيب جملها الست ذات العلاقات المترابطة بعضها ببعض، كما وضّح ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.

نعم! إن عدم الانتظام الظاهر في نجوم السماء، يجعل كل نجم منها غير مقيد وكأنها مركز لأكثر النجوم ضمن دائرة محيطها. فتمد خيوط العلاقات وخطوط الأواصر إلى كل منها إشارة إلى العلاقات الخفية فيما بين الموجودات قاطبة. وكأن كل نجمة -كنجوم الآيات الكريمة- تملك عيونًا باصرة إلى النجوم كافة ووجوهًا متوجهة إليها جميعًا .

فشاهد كمال الانتظام في عدم الانتظام. واعتبر! واعلم من هذا سرًا من أسرار الآية الكريمة ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)

واعلم أيضًا حكمةً أخرى لـ﴿وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾ (يس:69)مما يأتي:

إن شأن الشعر هو تجميل الحقائق الصغيرة الخامدة، وتزيينها بالخيال البراق، وجعلها مقبولة تجلب الإعجاب.. بينما حقائق القرآن من العظمة والسمو والجاذبية بحيث تبقى أعظم الخيالات وأسطعها قاصرة دونها، وخافته أمامها.

فمثلًا:قوله تعالى ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104) ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾ (الأعراف:54) ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ﴾ (يس:53). وأمثالها من الحقائق التي لا حدّ لها في القرآن الكريم شاهدات على ذلك.

إذا شئت أن تشاهد وتتذوق كيف تنشر كلُ آية من القرآن الكريم نورَ إعجازها وهدايتها وتبدّد ظلمات الكفر كالنجم الثاقب؛ تصوَّر نفسَك في ذلك العصر الجاهلي وفي صحراء تلك البداوة والجهل. فبينا تجد كل شئ قد أسدل عليه ستار الغفلة وغشيه ظلام الجهل ولفّ بغلاف الجمود والطبيعة، إذا بك تشاهد وقد دّبت الحياة في تلك الموجودات الهامدة أو الميتة في أذهان السامعين فتنهض مسبّحةً ذاكرةً الله بصدى قوله تعالى ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (الجمعة:1) وما شابهها من الآيات الجليلة.

ثم إن وجه السماء المظلمة التي تستعر فيها نجومٌ جامدة، تتحول في نظر السامعين،بصدى قوله تعالى ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ﴾ (الإسراء:44) إلى فمٍ ذاكرٍ لله، كل نجم يرسل شعاع الحقيقة ويبث حكمة حكيمة بليغة.

وكذا وجه الأرض التي تضم المخلوقات الضعيفة العاجزة تتحول بذلك الصدى السماوي إلى رأس عظيم، والبر والبحر لسانين يلهجان بالتسبيح والتقديس وجميع النباتات والحيوانات كلمات ذاكرة مسبّحة؛ حتى لكأن الأرض كلها تنبض بالحياة.

وهكذا بانتقالك الشعوري إلى ذلك العصر تتذوق دقائق الإعجاز في تلك الآية الكريمة. وبخلاف ذلك تُحرَم من تذوق تلك الدقائق اللطيفة في الآية الكريمة.

نعم! إنك إذا نظرت إلى الآيات الكريمة من خلال وضعك الحاضر الذي استنار بنور القرآن منذ ذلك العصر حتى غدا معروفًا، وإضاءته سائر العلوم الإسلامية، حتى وضحت بشمس القرآن. أي إذا نظرت إلى الآيات من خلال ستار الأُلفة، فإنك بلا شك لا ترى رؤية حقيقية مدى الجمال المعجز في كل آية، وكيف إنها تبدد الظلمات الدامسة بنورها الوهاج. ومن بعد ذلك لا تتذوق وجه إعجاز القرآن من بين وجوهه الكثيرة.

وإذا أردت مشاهدة أعظم درجة لأعجاز القرآن الكثيرة، فاستمع إلى هذا المثال وتأمل فيه: لنفرض شجرة عجيبة في منتهى العلو والغرابة وفي غاية الانتشار والسعة؛ قد أُسدل عليها غطاء الغيب، فاستترت طيَّ طبقات الغيب.

فمن المعلوم أن هناك توازنًا وتناسبًا وعلاقاتِ ارتباط بين أغصان الشجرة وثمراتها وأوراقها وأزاهيرها -كما هو موجود بين أعضاء جسم الإنسان- فكل جزء من أجزائها يأخذ شكلًا معينًا وصورة معينة حسب ماهية تلك الشجرة.

فإذا قام أحدٌ -من قِبل تلك الشجرة التي لم تُشاهَد قط ولا تُشاهد- ورسم على شاشةٍ صورةً لكل عضو من أعضاء تلك الشجرة، وحدّ له، بأن وضع خطوطًا تمثل العلاقات بين أغصانها وثمراتها وأوراقها، وملأ ما بين مبدئها ومنتهاها -البعيدين عن بعضهما بما لايحد- بصورٍ وخطوط تمثل أشكال أعضائها تمامًا وتبرز صورها كاملة.. فلا يبقى أدنى شك في أن ذلك الرسام يشاهد تلك الشجرة الغيبية بنظره المطلع على الغيب ويحيط به علمًا، ومن بعد ذلك يصوّرها.

فالقرآن المبين -كهذا المثال  أيضًا فإن بياناته المعجزة التي تخص حقيقة الموجودات (تلك الحقيقة التي تعود إلى شجرة الخلق الممتدة من بدء الدنيا إلى نهاية الآخرة والمنتشرة من الفرش إلى العرش ومن الذرات إلى الشموس) قد حافظت -تلك البيانات الفرقانية- على الموازنة والتناسب وأعطت لكل عضو من الأعضاء ولكل ثمرة من الثمرات صورة تليق بها بحيث خَلُص العلماء المحققون -لدى إجراء تحقيقاتهم وأبحاثهم- إلى الانبهار والإنشداه قائلين: ما شاء الله.. بارك الله. إن الذي يحل طلسم الكون ويكشف معمّى الخلق إنما هو أنت وحدك أيها القرآن الحكيم!

فلنمثل -ولله المثل الأعلى– الأسماء الإلهية وصفاتها الجليلة والشؤون الربانية وأفعالها الحكيمة كأنها شجرة طوبى من نور تمتد دائرة عظمتها من الأزل إلى الأبد، وتسع حدود كبريائها الفضاء المطلق غير المحدود وتحيط به. ويمتد مدى إجراءاتها من حدود ﴿فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى﴾ (الأنعام:95) ﴿يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾ (الأنفال:24) ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ﴾ (آل عمران:6) إلى ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ (هود:7) وإلى ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ (الزمر:67) ﴿وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ فنرى أن القرآن الكريم يبين تلك الحقيقة النورانية بجميع فروعها وأغصانها وبجميع غاياتها وثمراتها بيانًا في منتهى التوافق والانسجام بحيث لا تعيق حقيقةٌ حقيقةً أخرى ولا يفسد حكمُ حقيقةٍ حُكْمًا لأُخرى، ولا تستوحش حقيقة من غيرها. وعلى هذه الصورة المتجانسة المتناسقة بيّنَ القرآن الكريم حقائق الأسماء الإلهية والصفات الجليلة والشؤون الربانية والأفعال الحكيمة بيانًا معجزًا بحيث جعل جميع أهل الكشف والحقيقة وجميع أولي المعرفة والحكمة الذين يجولون في عالم الملكوت، يصّدقونه قائلين أمام جمال بيانه المعجز والإعجابُ يغمرهم: ((سبحان الله! ما أصوبَ هذا! وما أكثر انسجامه وتوافقه وتطابقه مع الحقيقة وما أجمله وأليقه)).

فلو أخذنا مثلًا أركانَ الإيمان الستة التي تتوجه إلى جميع دائرة الموجودات المختلفة ودائرة الوجوب الإلهي والتي تعد غصنًا من تلكما الشجرتين العظميين، يصورها القرآن الكريم بجميع فروعها وأغصانها وثمراتها وأزاهيرها مراعيًا في تصويره انسجامًا بديعًا بين ثمراتها وأزاهيرها معّرفًا طرز التناسب في منتهى التوازن والاتساق بحيث يجعل عقل الإنسان عاجزًا عن إدراك أبعاده ومبهوتًا أمام حسن جماله.

ثم إن الإسلام الذي هو فرع من غصن الإيمان، أبدع القرآن الكريم وأتى بالرائع المعجب في تصوير أدق فروع أركانه الخمسة وحافظ على جمال التناسب وكمال التوازن فيما بينها، بل حافظ على أبسط آدابها ومنتهى غاياتها وأعمق حِكَمها وأصغر فوائدها وثمراتها وأبهر دليل على ذلك هو كمال انتظام الشريعة العظمى النابعة من نصوص ذلك القرآن الجامع ومن إشاراته ورموزه..

فكمال انتظام هذه الشريعة الغراء وجمال توازنها الدقيق وحسن تناسب أحكامها ورصانتها كل منها شاهِدُ عدلٍ لا يجرح وبرهان قاطع باهر لا يدنو منه الريب ابدًا على أحقية القرآن الكريم بمعنى أن البيانات القرآنية لا يمكن أن تستند إلى علم جزئي لبشر، ولا سيما إنسان أميّ، بل لابد أن تستند إلى علم واسع محيط بكل شئ والبصير بجميع الأشياء معًا..

فهو كلام ذات الله الجليل البصير بالأزل والأبد معًا والشاهد بجميع الحقائق في آن واحد. ومما يشير إلى هذه الحقيقة الآية الكريمة:

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾ (الكهف:1)

 

اللهم يا منزِّل القرآن! بحق القرآن وبحقّ من أُنزل عليه القرآن نوّر قلوبنا وقبورنا بنور الإيمان والقرآن آمين يا مستعان!!

الكلمة الثانية عشرة

 

بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيمِ

﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (البقرة: 269)

هذه الكلمة تشير إلى موازنة إجمالية بين حكمة القرآن الكريم المقدسة وحكمة الفلسفة، وتشير أيضًا إلى خلاصة مختصرة لما تلقنه حكمة القرآن من تربية الإنسان في حياتيه الشخصية والاجتماعية فضلًا عن أنها تضم إشارة إلى جهة ترجح القرآن الكريم وأفضليته على سائر الكلام الإلهي وسموه على الأقوال قاطبة. بمعنى أن هناك أربعة أسس في هذه الكلمة:

* الأساس الأول:

من خلال منظار هذه الحكاية التمثيلية أنظر إلى الفروق بين حكمة القرآن الكريم وحكمة العلوم:

أراد حاكم عظيم ذو تقوى وصلاح وذو مهارة وإبداع أن يكتب القرآن الحكيم كتابة تليق بقدسية معانيه الجليلة وتناسب إعجازه البديع في كلماته، فأراد أن يُلبِس القرآن الكريم ما يناسب إعجازه السامي من ثوب قشيب خارق مثله.

فطفق بكتابة القرآن، وهو مصور مبدع، كتابة عجيبة جدًا مستعملًا جميع أنواع الجواهر النفيسة والأحجار الكريمة ليشير بها إلى تنوع حقائقه العظيمة فكتب بعض حروفه المجسمة بالألماس والزمرد وقسمًا منها باللؤلؤ والمرجان وطائفة منها بالجوهر والعقيق ونوعًا منها بالذهب والفضة، حتى أضفى جمالًا رائعًا وحسنًا جالبًا للأنظار يعجب بها كل من يراها سواء أعلم القراءة أم جهلها. فالجميع يقفون أمام هذه الكتابة البديعة مبهوتين يغمرهم التبجيل والإعجاب، ولا سيما أهل الحقيقة الذين بدأوا ينظرون إليها نظرة إعجاب وتقدير أشد، لما يعلمون أن الجمال الباهر هذا يشف عما تحته من جمال المعاني وهو في منتهى السطوع واللمعان وغاية اللذة والذوق.

ثم عرض ذلك الحاكم العظيم، هذا القرآن البديع الكتابة، الرائع الجمال، على فيلسوف أجنبي وعلى عالم مسلم وأمرهما:

«ليكتب كل منكما كتابًا حول حكمة هذا القرآن! » ملمحًا إلى اختبارهما ليكافئهما.

كتب الفيلسوف كتابًا. وكتب العالم المسلم كتابًا. كان كتاب الفيلسوف يبحث عن نقوش الحروف وجمالها، وعلاقة بعضها ببعض، وأوضاع كل منها، وخواص جواهرها وميزاتها وصفاتها فحسب. ولم يتعرض في كتابه إلى معاني ذلك القرآن العظيم قط، إذ إنه جاهل باللغة العربية جهلًا مطبقًا، بل لم يدرك أن ذلك القرآن البديع هو كتاب عظيم تنم حروفه عن معان جليلة، وإنما حصر نظره في روعة حروفه وجمالها الخارق. ومع هذا فهو مهندس بارع، ومصور فنان، وكيميائي حاذق، وصائغ ماهر، لذا فقد كتب كتابه هذا وفق ما يتقنه من مهارات ويجيده من فنون.

أما العالم المسلم، فما أن نظر إلى تلك الكتابة البديعة حتى علم أنه: كتاب مبين وقرآن حكيم. فلم يصرف اهتمامه إلى زينته الظاهرة، ولا أشغل نفسه بزخارف حروفه البديعة، وإنما توجه كليًا -وهو التواق للحق- إلى ما هو أسمى وأثمن وألطف وأشرف وأنفع وأشمل مما انشغل به الفيلسوف الأجنبي بملايين الأضعاف، فبحث عما تحت تلك النقوش الجميلة من حقائق سامية جليلة وأسرار نيرة بديعة فكتب كتابه تفسيرًا قيمًا لهذا القرآن الحكيم، فأجاد وأتقن.

قدّم كلٌ منهما ما كتبه إلى الحاكم العظيم. تناول الحاكم أولًا مؤلَّف الفيلسوف ونظر إليه مليًا. فرأى أن ذلك المعجب بنفسه والمقدس للطبيعة، لم يكتب حكمةً حقيقية قط، مع أنه بذل كل ما في طوقه، إذ لم يفهم معاني ذلك الكتاب، بل ربما زاغ واختلط عليه الأمر، وأظهر عدم توقير وإجلال لذلك القرآن، حيث أنه لم يكترث بمعانيه السامية، وظن أنه مجرد نقوش جميلة وحروف بديعة، فبخس حق القرآن وازدراه من حيث المعنى. لذا رد الحاكم الحكيم مؤلَّف ذلك الفيلسوف وضربه على وجهه وطرده من ديوانه.

ثم أخذ مؤلَّف العالم المسلم المحقق المدقق، فرأى أنه تفسير قيم جدًا، بالغ النفع. فبارك عمله، وقدر جهده، وهنّأه عليه وقال: هذه هي الحكمة حقًا، وإنما يطلق اسم العالم والحكيم حقًا على صاحب هذا المؤلَّف، وليس الآخر إلاَّ فنان صنَّاع قد أفرط وتجاوز حدّه. وعلى أثره كافأ ذلك العالم المسلم وأجزل ثوابه، آمرًا أن تمنح عشر ليرات ذهبية لكل حرف من حروف كتابه.

فإذا فهمت -يا أخي- أبعاد هذه الحكاية التمثيلية، فانظر إلى وجه الحقيقة:

فذلك القرآن الجميل الزاهي، هو هذا الكون البديع.. وذلك الحاكم المهيب هو سلطان الأزل والأبد سبحانه. والرجلان: الأول -أي ذلك الأجنبي- هو علم الفلسفة وحكماؤها. والآخر: هو القرآن الكريم وتلاميذه.

نعم، إن القرآن الكريم ((المقروء)) هو أعظم تفسير وأسماه، وأبلغ ترجمان وأعلاه لهذا الكون البديع، الذي هو قرآن آخر عظيم ((منظور)).

نعم! إن ذلك الفرقان الحكيم هو الذي يرشد الجن والإنس إلى الآيات الكونية التي سطَّرها قلمُ القدرة الإلهية على صحائف الكون الواسع ودبجها على أوراق الأزمنة والعصور. وهو الذي ينظر إلى الموجودات -التي كل منها حرف ذو مغزى- بالمعنى الحرفي، أي ينظر إليها من حيث دلالتها على الصانع الجليل. فيقول: ما أحسنَ خلقه! ما أجملَ خلقه! ما أعظم دلالته على جمال المبدع الجليل. وهكذا يكشف أمام الأنظار الجمالَ الحقيقي للكائنات.

أما ما يسمونه بعلم الحكمة وهي الفلسفة، فقد غرقت في تزيينات حروف الموجودات، وظلّت مبهوتة أمام علاقات بعضها ببعض، حتى ضلت عن الحقيقة. فبينما كان عليها أن تنظر إلى كتاب الكون نظرتها إلى الحروف -الدالة على كاتبها- فقد نظرت إليها بالمعنى الاسمي، أي أن الموجودات قائمة بذاتها، وبدأت تتحدث عنها على هذه الصورة فتقول: ما أجمل هذا! بدلًا من: ما أجمل خلق هذا، سالبة بهذا القول الجمال الحقيقي للشئ. فأهانت بإسنادها الجمال إلى الشئ نفسه جميع الموجودات حتى جعلت الكائنات شاكية عليها يوم القيامة..

نعم! إن الفلسفة الملحدة إنما هي سفسطة لا حقيقة لها وتحقير للكون وإهانة له.

* الأساس الثاني:

للوصول إلى مدى الفرق بين التربية الأخلاقية التي يربي بها القرآن الكريم تلاميذه، والدرس الذي تلقنه حكمة الفلسفة، نرى أن نضع تلميذيهما في الموازنة:

فالتلميذ المخلص للفلسفة ((فرعون)) ولكنه فرعون ذليل، إذ يعبد أخس شئ لأجل منفعته، ويتخذ كل ما ينفعه ربًا له.

ثم أن ذلك التلميذ الجاحد ((متمرد وعنود)) ولكنه متمرد مسكين يرضى لنفسه منتهى الذل في سبيل الحصول على لذة، وهو عنود دنئ إذ يتذلل ويخنع لأشخاص هم كالشياطين، بل يقبّل أقدامهم!

ثم أن ذلك التلميذ الملحد ((مغرور، جبار)) ولكنه جبار عاجز لشعوره بمنتهى العجز في ذاته، حيث لا يجد في قلبه من يستند إليه.

ثم أن ذلك التلميذ ((نفعي ومصلحي)) لا يرى إلاّ ذاته. فغاية همته تلبية رغبات النفس والبطن والفرج، وهو ((دسّاس مكّار)) يتحرى عن مصالحه الشخصية ضمن مصالح الأمة.

بينما تلميذ القرآن المخلص هو ((عبد)) ولكنه عبد عزيز لا يستذل لشئ حتى لأعظم مخلوق، ولا يرضى حتى بالجنة، تلك النعمة العظمى غاية لعبوديته لله.

ثم أنه تلميذ ((متواضع، ليّن هيّن)) ولكنه لا يتذلل بإرادته لغير فاطره الجليل ولغير أمره وإذنه.

ثم أنه ((فقير وضعيف)) موقن بفقره وضعفه، ولكنه مستغنٍ عن كل شئ بما ادخره له مالكُه الكريم من خزائن لا تنفد في الآخرة. وهو ((قوي)) لاستناده إلى قوة سيده المطلقة.

ثم أنه لا يعمل إلاّ لوجه الله، بل لا يسعى إلاّ ضمن رضاه بلوغًا إلى الفضائل ونشرها.

وهكذا تفهم التربية التي تربي بها الحكمتان، لدى المقارنة بين تلميذيهما.

* الأساس الثالث:

أما ما تعطيه حكمة الفلسفة وحكمة القرآن من تربية للمجتمع الإنساني فهي:

أن حكمة الفلسفة ترى ((القوة)) نقطة الاستناد في الحياة الاجتماعية. وتهدف إلى ((المنفعة)) في كل شئ. وتتخذ ((الصراع)) دستورًا للحياة. وتلتزم ((بالعنصرية والقومية السلبية)) رابطة للجماعات.

أما ثمراتها فهي إشباع رغبات الأهواء والميول النفسية التي من شأنها تأجيج جموح النفس وإثارة الهوى.

ومن المعلوم أن شأن ((القوة)) هو ((الاعتداء)).. وشأن ((المنفعة)) هو ((التزاحم)) إذ لا تفي لتغطية حاجات الجميع وتلبية رغباتهم.. وشأن ((الصراع)) هو ((النزاع والجدال)).. وشأن ((العنصرية)) هو ((الاعتداء)) إذ تكبر بابتلاع غيرها وتتوسع على حساب العناصر الأخرى.

ومن هنا تلمس لِمَ سُلبت سعادةُ البشرية، من جراء اللهاث وراء هذه الحكمة.

أما حكمة القرآن الكريم، فهي تقبل ((الحق)) نقطة استناد في الحياة الاجتماعية، بدلًا من ((القوة))..

وتجعل ((رضى الله سبحانه)) ونيل الفضائل هو الغاية، بدلًا من ((المنفعة))..

وتتخذ دستور ((التعاون)) أساسًا في الحياة، بدلًا من دستور ((الصراع)) ..

وتلتزم برابطة ((الدين)) والصنف والوطن لربط فئات الجماعات بدلًا من العنصرية والقومية السلبية..

وتجعل غاياتها الحد من تجاوز النفس الأمارة ودفع الروح إلى معالي الأمور، وإشباع مشاعرها السامية لسوق الإنسان نحو الكمال والمثل الإنسانية.

إن شأن (الحق) هو (الاتفاق).. وشأن (الفضيلة) هو (التساند).. وشأن دستور (التعاون) هو (إغاثة كل للآخر).. وشأن (الدين) هو (الأخوة والتكاتف).. وشأن (إلجام النفس) وكبح جماحها وأطلاق الروح وحثها نحو الكمال هو (سعادة الدارين).

* الأساس الرابع:

إذا أردت أن تفهم كيف يسمو القرآن على سائر الكلمات الإلهية وتعرف مدى تفوّقه على جميع الكلام. فانظر وتأمل في هذين المثالين:

المثال الأول: أن للسطان نوعين من المكالمة، وطرازين من الخطاب والكلام:

الأول: مكالمة خاصة بوساطة هاتف خاص مع أحد رعاياه من العوام، في أمر جزئي يعود إلى حاجة خاصة به.

والآخر: مكالمة باسم السلطنة العظمى، وبعنوان الخلافة الكبرى وبعزة الحاكمية العامة، بقصد نشر أوامره السلطانية في الآفاق، فهي مكالمة يجريها مع أحد مبعوثيه أو مع أحد كبار موظيفه.. فهي مكالمة بأمر عظيم يهم الجميع.

المثال الثاني: رجل يمسك مرآة تجاه الشمس، فالمرآة تلتقط -حسب سعتها- نورًا وضياء يحمل الألوان السبعة في الشمس. فيكون الرجل ذا علاقة مع الشمس بنسبة تلك المرآة، ويمكنه أن يستفيد منها فيما إذا وجهها إلى غرفته المظلمة، أو إلى مشتله الخاص الصغير المسقف، بيد أن استفادته من الضوء تنحصر بمقدار قابلية المرآة على ما تعكسه من نور الشمس وليست بمقدار عِظمَ الشمس.

بينما رجل آخر يترك المرآة، ويجابه الشمس مباشرة، ويشاهد هيبتها ويدرك عظمتها، ثم يصعد على جبل عال جدًا وينظر إلى شعشعة سلطانها الواسع المهيب ويقابلها بالذات دون حجاب ثم يرجع ويفتح من بيته الصغير ومن مشتله المسقف الخاص نوافذ واسعة نحو الشمس، واجدًا سبلًا إلى الشمس التي هي في أعالي السماء ثم يجري حوارًا مع الضياء الدائم للشمس الحقيقية. فيناجي الشمس بلسان حاله ويحاورها بهذه المحاورة المكللة بالشكر والامتنان فيقول: (إيه يا شمس! يا من تربعت على عرش جمال العالم! يا لطيفة السماء وزهراءها! يا من أضفيت على الأرض بهجة ونورًا، ومنحت الأزهار ابتسامة وسرورًا، فلقد منحت الدفء والنور معًا لبيتي ومشتلي الصغير كما وهبت للعالم أجمع الدفء والنور).

بينما صاحب المرآة السابق لا يستطيع أن يناجي الشمس ويحاورها بهذا الأسلوب، إذ إن آثار ضوء الشمس محددة بحدود المرآة وقيودها، وهي محصورة بحسب قابلية تلك المرآة واستيعابها للضوء.

وبعد.. فانظر من خلال منظار هذين المثالين إلى القرآن الكريم لتشاهد إعجازه، وتدرك قدسيته وسموه.

أجل إن القرآن الكريم يقول:﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(لقمان:27).

وهكذا فإن منح القرآن الكريم أعلى مقام من بين الكلمات جميعًا، تلك الكلمات التي لا تحدها حدود، مردّه أن القرآن قد نزل من الاسم الأعظم ومن أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى، فهو كلام الله، بوصفه رب العالمين، وهو أمره بوصفه إله الموجودات، وهو خطابُه بوصفه خالق السموات والأرض، وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة، وهو خطابُه الأزلي باسم السلطنة الإلهية العظمى. وهو سجلُ الالتفات والتكريم الرحماني نابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ. وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية، إذ في بدايات بعضها رموز وشفرات. وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة.

ولأجل هذه الأسرار أُطلق على القرآن الكريم ما هو أهله ولائق به اسم (كلام الله).

أما سائر الكلمات الإلهية: فإن قسمًا منها كلام نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجل جزئي لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فدرجات هذه الكلمات مختلفة متفاوتة من حيث الخاص والكلي، فأكثر الإلهامات من هذا القسم إلاّ أن درجاتها متفاوتة جدًا.

فمثلًا: إن أبسطها وأكثرها جزئية هي إلهام الحيوانات، ثم إلهام عوام الناس، ثم إلهام عوام الملائكة، ثم إلهام الأولياء، ثم إلهام كبار الملائكة.

ومن هذا السر نرى أن وليًا يقول: ((حدّثنى قلبي عن ربي)) أي: بهاتف قلبه. ومن دون وساطة مَلَك، فهو لا يقول: حدّثني رب العالمين. أو نراه يقول: إن قلبي عرشٌ ومرآة عاكسة لتجليات ربي. ولا يقول: عرش رب العالمين؛ لأنه يمكن أن ينال حظًا من الخطاب الرباني وفق استعداداته وحسب درجة قابلياته وبنسبة رفع ما يقارب سبعين ألف حجاب.

نعم! إنه بمقدار علو كلام السلطان الصادر من حيث السلطنة وسموه على مكالمته الجزئية مع أحد رعاياه من العوام، وبمقدار ما يفوق الاستفادة من فيض تجلي الضوء من الشمس التي هي في السماء على استفادة فيضها من المرآة، يمكن فهم سمو القرآن الكريم على جميع الكلام الإلهي والكتب السماوية.

فالكتب المقدسة والصحف السماوية تأتي بالدرجة الثانية بعد القرآن الكريم في درجة العلو والسمو. كل له درجته وتفوقه، كل له حظه من ذلك السر للتفوق، فلو اجتمع جميع الكلام الطيب الجميل للإنس والجن -الذي لم يترشح عن القرآن الكريم- فإنه لا يمكن أن يكون نظيرًا قط للقرآن الكريم ولا يمكن أن يدنو إلى أن يكون مثله.

وإذا كنت تريد أن تفهم شيئًا من أن القرآن الكريم قد نزل من الاسم الأعظم ومن المرتبة العظمى لكل اسم من الأسماء الحسنى فتدبّر في (آية الكرسي) وكذا الآيات الكريمة التالية وتأمل في معانيها الشاملة العامة السامية:

﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ﴾ (الأنعام :59)

﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ (آل عمران :26)

﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف:54)

﴿وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾ (هود:44)

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (الإسراء:44)

﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (لقمان:28)

﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ (الأحزاب:72)

﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104)

﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الزمر:67)

﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ.﴾ (الحشر:21)

وأمثالها من الآيات الجليلة، ثم دقق النظر في السور المبتدئة بـ ﴿ الحمد لله﴾ و﴿ تسبح..﴾ . لترى شعاع هذا السر العظيم ثم انظر إلى السور المستهلة بـ﴿ الم﴾ و﴿ ألر﴾ ، و﴿ حم﴾ لتفهم أهمية القرآن لدى رب العالمين.

وإذا فهمت السر اللطيف لهذا الأساس الرابع، تستطيع أن تفهم: السر في أن أكثر الوحي النازل إلى الأنبياء إنما هو بوساطة ملك، أما الإلهام فبلا وساطة.

وتفهم السر في أن أعظم ولي من الأولياء لا يبلغ أي نبي كان من الأنبياء. وتفهم السر الكامن في عظمة القرآن وعزته القدسية وعلو إعجازه.. وتفهم سر لزوم المعراج وحكمة ضرورته، أي تفهم السر في رحلته صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلا وإلى سدرة المنتهى حتى كان قاب قوسين أو أدنى ومن ثم مناجاته معه سبحانه، مع أنه جل جلاله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ ثم عودته بطرف العين إلى مكانه.

أجل! إن شق القمر كما أنه معجزة لإثبات الرسالة، أظهرت نبوته إلى الجن والإنس. كذلك المعراج هو معجزة عبوديته صلى الله عليه وسلم أظهرت محبوبيته إلى الأرواح والملائكة.

اللّهم صل وسلم عليه وعلى آله، كما يليق برحمتك وبحرمته

آمين

 

الكلمة الحادية عشرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا..﴾ (الشمس:1ـ7)

أيها الأخ ! إن شئت أن تفهم شيئًا من أسرار حكمة العالم وطلسمه، ولغز خلق الإنسان، ورموز حقيقة الصلاة، فتأمل معي في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة.

كان في زمان ما سلطان له ثروات طائلة وخزائن هائلة تحوي جميع أنواع الجواهر والألماس والزمرد، مع كنوز خفية أخرى عجيبة جدًا. وكان صاحب علمٍ واسع جدًا، وإحاطة تامة، واطلاع شامل على العلوم البديعة التي لاتحد، مع مهارات فائقة وبدائع الصنعة.

وحيث أن كل ذي جمال وكمالٍ يحب أن يشهَد ويُشاهِد جمالَه وكمالَه، كذلك هذا السلطان العظيم، أراد أن يفتح معرضًا هائلًا لعرض مصنوعاته الدقيقة كي يُلفت أنظار رعيته إلى أبهة سلطنته، وعظمة ثروته ويُظهِر لهم من خوارق صنعته الدقيقة وعجائب معرفته وغرائبها، ليشاهِد جمالَه وكمالَه المعنويين على وجهين:

الأول: أن يرى بالذات معروضاته بنظره البصير الثاقب الدقيق.

والثاني: أن يراها بنظر غيره.

ولأجل هذه الحكمة بدأ هذا السلطان بتشييد قصر فخم شامخ جدًا، وقسّمه بشكل بارع إلى منازل ودوائر مزيّنًا كلَّ قسمٍ بمرصعات خزائنه المتنوعة، وجمّله بما عملت يداه من ألطف آثار إبداعه وأجملها، ونظّمه ونسقه بأدق دقائق فنون علمه وحكمته، فجهزه وحسّنه بالآثار المعجزة لخوارق علمه.

وبعد أن أتمه وكمله، أقام في القصر موائد فاخرة بهيجة تضم جميع أنواع أطعمته اللذيذة، وأفضل نِعَمه الثمينة، مخصصًا لكل طائفة ما يليق بها ويوافقها من الموائد، فأعدّ بذلك ضيافة فاخرة عامة، مبينًا سخاءًا وإبداعا وكرمًا لم يشهد له مثيل، حتى كأن كل مائدة من تلك الموائد قد امتلأت بمئات من لطائف الصنعة الدقيقة وآثارها، بما مَدّ عليها من نِعمٍ غالية لا تحصى.

ثم دعا أهالي أقطار مملكته ورعاياه، للمشاهدة والتنزه والضيافة، وعلّم كبير رُسُل القصر المكرّمين ما في هذا القصر العظيم من حكمٍ رائعة، وما في جوانبه ومشتملاته من معان دقيقة، مخصصًا إياه معلمًا رائدًا وأستاذًا بارعًا على رعيته، ليعلّم الناس عظمة باني القصر وصانع ما فيه من نقوش بديعة موزونة ، ومعرّفًا لكل الداخلين رموزَه وما تعنيه هذه المرصعات المنتظمة والإشارات الدقيقة التي فيه، ومدى دلالتها على عظمة صاحب القصر وكماله الفائق ومهارته الدقيقة. مبينًا لهم أيضًا تعليمات مراسيم التشريفات بما في ذلك آداب الدخول والتجول، وأصول السير وفق ما يرضي السلطان الذي لا يُرى إلاّ من وراء حجاب.

وكان هذا المعلم الخبير يتوسط تلامذته في أوسع دائرة من دوائر القصر الضخم وكان مساعدوه منتشرين في كلٍ من الدوائر الأخرى للقصر.

بدأ المعلم هذا بالقاء توجيهاته إلى المشاهدين كافة قائلًا:

«أيها الناس إن سيدنا مليك هذا القصر الواسع البديع، يريد ببنائه هذا وبإظهار ما ترونه أمام أعينكم من مظاهر، أن يعرّف نفسه إليكم، فاعرفوه واسعوا لحسن معرفته.

وأنه يريد بهذه التزيينات الجمالية، أن يحبب نفسه إليكم، فحببوا أنفسكم إليه، باستحسانكم أعماله وتقديركم لصنعته.

وأنه يتودد إليكم ويريكم محبته بما يسبغه عليكم من آلائه ونعمه وأفضاله فأحبوه بحسن إصغائكم لأوامره وبطاعتكم إياه.

وأنه يظهر لكم شفقته ورحمته بهذا  الإكرام والإغداق من النعم فعظّموه أنتم بالشكر.

وأنه يريد أن يظهر لكم جماله المعنوي بآثار كماله في هذه المصنوعات الجميلة الكاملة فأظهروا أنتم شوقكم ولهفتكم للقائه ورؤيته، ونيل رضاه.

وأنه يريد منكم أن تعرفوا أنه السلطان المتفرد بالحاكمية والاستقلال، بما ترون من شعاره الخاص، وخاتمه المخصص، وطرته التي لاتقلد على جميع المصنوعات.. فكل شئٍ له، وخاص به، صدر من يد قدرته. فعليكم أن تدركوا جيدًا، أن لا سلطان ولا حاكم إلاّ هو. فهو السلطان الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا مثيل..».

كان هذا المعلم الكبير يخاطب الداخلين للقصر والمتفرجين، بأمثال هذا الكلام الذي يناسب مقام السلطان وعظمته وإحسانه.

ثم انقسم الداخلون إلى فريقين:

الفريق الأول: وهم ذوو العقول النيرة، والقلوب الصافية المطمئنة، المدركون قدر أنفسهم، فحيثما يتجولون -في آفاق هذا القصر العظيم- ويسرحون بنظرهم إلى عجائبه يقولون: لابد أن في هذا شأنًا عظيمًا !! ولابد أن وراءه غاية سامية!.. فعلِموا أن ليس هناك عبث، وليس هو بلعب، ولا بلهو صبياني.. ومن حيرتهم بدأوا يقولون:

«يا تُرى أين يكمن حل لغز القصر، وما الحكمة في ما شاهدناه ونشاهده»؟!

وبينما هم يتأملون ويتحاورون في الأمر، إذا بهم يسمعون صوت خطبة الأستاذ العارف وبياناته الرائعة، فعرفوا أن لديه مفاتيح جميع الأسرار وحلّ جميع الألغاز، فأقبلوا إليه مسرعين:

– السلام عليكم أيها الأستاذ.. إن مثل هذا القصر الباذخ ينبغي أن يكون له عرّيفًا صادقًا مدققًا أمينًا مثلك، فالرجاء أن تعلّمنا مما علّمك سيدُنا العظيم.

فذكَّرهم الأستاذ بخطبته المذكورة آنفًا، فاستمعوا إليه خاشعين، وتقبّلوا كلامه بكل رضى واطمئنان، فغنموا أيمّا غنيمة، إذ عملوا ضمن مرضاة سلطانهم، فرضي عنهم السلطان بما أبدوا من رضى وسرور لأوامره. فدعاهم إلى قصر أعظم وأرقى لايكاد يوصف، وأكرمهم بسعادة دائمة، بما يليق بالمالك الجواد الكريم، وتلائم هؤلاء الضيوف الكرام المتأدبين، وحريّ بهؤلاء المطيعين المنقادين للاوامر.

أما الفريق الآخر:  وهم الذين قد فسدت عقولهم، وانطفأت جذوة قلوبهم، فما أن دخلوا القصر، حتى غلبتْ عليهم شهواتُهم، فلم يعودوا يلتفتون إلا لما تشتهيه أنفسُهم من الأطعمة اللذيذة، صارفين أبصارهم عن جميع تلك المحاسن، سادّين آذانهم عن جميع تلك الإرشادات الصادرة من ذلك المعلم العظيم، وتوجيهات تلاميذه.. فأقبلوا على المأكولات بشراهة ونهم، كالحيوانات، فأطبقت عليهم الغفلة والنوم وغشيهم السُكرُ، حتى فقدوا أنفسهم لكثرة ما أفرطوا في شرب ما لم يؤذن لهم به فأزعجوا الضيوف الآخرين بجنونهم وعربدتهم. فأساءوا الأدب مع قوانين السلطان المعظم وأنظمته، لذا أخذهم جنوده وساقوهم إلى سجن رهيب لينالوا عقابهم الحق، جزاءً وفاقًا على ما عملوا من سوء الخُلق.

فيا من ينصت معي إلى هذه الحكاية؛ لابد أنك قد فهمت أن ذلك السلطان قد بنى هذا القصر الشامخ لأجل تلك المقاصد المذكورة، فحصول تلك المقاصد يتوقف على أمرين:

أحدهما:وجود ذلك المعلم الأستاذ الذي شاهدناه وسمعنا خطابه، إذ لولاه لذهبت تلك المقاصد هباءًا منثورًا، كالكتاب المبهم الذي لا يُفهم معناه، ولا يبينه أستاذ، فيظل مجرد أوراق لا معنى لها!..

ثانيهما:إصغاء الناس إلى كلام ذلك المعلم، وتقبّلهم له.

بمعنى أن وجود الأستاذ مدعاة لوجود القصر. واستماع الناس إليه سبب لبقاء القصر، لذا يصح القول: لم يكن السلطان العظيم ليبني هذا القصر لولا هذا الأستاذ. وكذا يصح القول: حينما يصبح الناس لا يصغون إليه ولا يلقون بالًا إلى كلامه، فسيغير السلطان هذا القصر ويبدله.

إلى هنا انتهت القصة يا صديقي. فإن كنت قد فهمت سر الحكاية، فانظر من خلالها إلى وجه الحقيقة:

إن ذلك القصر هو هذا العالم، المسقف بهذه السماء المتلألئة بالنجوم المتبسمة، والمفروش بهذه الأرض المزيّنة من الشرق إلى الغرب بالأزهار المتجددة كل يوم.

وذلك السلطان العظيم، هو الله تعالى سلطان الأزل والأبد الملك القدوس ذو الجلال والإكرام الذي ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ..﴾ حيث أن ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ (النور: 41) وهو القدير ﴿الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ﴾ (الأعراف: 54).

أما منازل ذلك القصر فهي ثمانية عشر ألفا من العوالم التي تزينت كل منها وانتظمت بما يلائمها من مخلوقات.. أما الصنائع الغريبة في ذلك القصر فهي معجزات القدرة الإلهية الظاهرة في عالمنا لكل ذي بصر وبصيرة.. وما تراه من الأطعمة اللذيذة التي فيه، هي علامات الرحمة الإلهية من الأثمار والفواكه البديعة التي تشاهد بكل وضوح في جميع مواسم السنة وخاصة في الصيف وبالأخص في بساتين (بارلا).

ومطبخ هذا القصر هو سطح الأرض وقلبها الذي يتّقد نارًا.

وما رأيته في الحكاية من الجواهر في تلك الكنوز الخفية، هي في الواقع أمثلة لتجليات الأسماء الحسنى المقدسة.

وما رأيناه من النقوش ورموزها، هي هذه المخلوقات المزينِّة للعالم وهي نقوش موزونة لقلم القدرة الإلهية الدالة على أسماء القدير ذي الجلال.

أما ذلك المعلم الأستاذ فهو سيدنا، وسيد الكونين محمد  صلى الله عليه وسلم ، ومساعدوه هم الأنبياء عليهم السلام. وتلاميذه هم الأولياء الصالحون، والعلماء الأصفياء.

أما خدّام السلطان العظيم فهم إشارة إلى الملائكة عليهم السلام في هذا العالم.

وأما جميع من دُعُوا إلى دار ضيافة الدنيا فهم إشارة إلى الإنس والجن وما يخدم الإنسان من حيوانات وإنعام.

أما الفريقان:

فالأول: هم أهل الإيمان الذين يتتلمذون على مائدة القرآن الكريم الذي يفسّر آيات كتاب الكون.

والآخر: هم أهل الكفر والطغيان الصمّ البكم الضالون الذين اتبعوا أهواءهم والشيطان، فما عرفوا من الحياة إلاّ ظاهرها، فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا.

أما الفريق الأول الذين هم الأبرار السعداء؛ فقد أنصتوا إلى المعلم العظيم والأستاذ الجليل ذي الحقيقتين؛ إذ هو عبد، وهو رسول؛ فمن حيث العبودية يعرِّف ربَّه ويوصفه بما يليق به من أوصاف الجلال، فهو إذًا في حكم ممثلٍ عن أمته لدى الحضرة الإلهية.. ومن حيث الرسالة يبلّغ أحكام ربّه إلى الجن والإنس كافة بالقرآن العظيم.

فهذه الجماعة السعيدة بعدما أصغوا إلى ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وانصاعوا لأوامر القرآن الحكيم، إذا بهم يرون أنفسهم قد قُلِّدوا مهمات لطيفة تترقى ضمن مقامات سامية كثيرة، تلك هي الصلاة، فهرس أنواع العبادات.

نعم! لقد شاهدوا بوضوح تفاصيل فريضة الصلاة وارتقوا في مقاماتها الرفيعة التي تشير إليها أذكارُها وحركاتُها المتنوعة، على النحو الآتي:

أولًا: بمشاهدتهم الآثار الربانية المبثوثة في الكون، وجدوا أنفسهم في مقام المشاهدين محاسن عظمة الربوبية، بمعاملة غيابية، فأدّوا وظيفة التكبير والتسبيح، قائلين: الله أكبر.

ثانيًا: وبظهورهم في مقام الدعاة والأدلاّء إلى بدائع صنائعه سبحانه وآثاره الساطعة، التي هي جلوات أسمائه الحسنى، أدّوا وظيفة التقديس والتحميد بقولهم: سبحان الله والحمد لله.

ثالثًا: وفي مقام إدراك النعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية وتذوقها بحواسَ ظاهرة وباطنة شرعوا بوظيفة الشكر والحمد.

رابعًا: وفي مقام معرفة جواهر كنوز الأسماء الحسنى وتقديرها حق قدرها بموازين الأجهزة المعنوية المودعة فيهم، بدأوا بوظيفة التنزيه والثناء.

خامسًا: وفي مقام مطالعة الرسائل الربانية المسطرّة بقلم قدرته تعالى على صحيفة القَدَر، باشروا بوظيفة التفكر والإعجاب والاستحسان.

سادسًا: وفي مقام التنزيه بإمتاع النظر إلى دقة اللطف في خلق الأشياء، ورقة الجمال في إتقانها، دخلوا وظيفة المحبة والشوق إلى جمال الفاطر الجليل والصانع الجميل.

وهكذا.. بعد أداء هذه الوظائف في المقامات السابقة، والقيام بالعبادة اللازمة بمعاملة غيابية، لدى مشاهدة المخلوقات، ارتقوا إلى درجة النظر إلى معاملة الصانع الحكيم وشهودها ومعاملة أفعاله معاملةً حضورية، وذلك أنهم:

قابلوا أولًا تعريفَ الخالق الجليل نفسَه لذوي الشعور بمعجزات صنعته، قابلوه بمعرفةٍ ملؤها العَجب والحيرة قائلين: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروف بمعجزات جميع مخلوقاتك.

ثم استجابوا لتحبّب ذلك الرحمن بثمرات رحمته سبحانه، بمحبةٍ وهيام مرددين : إياك نعبد وإياك نستعين.

ثم لَبّوا ترحمّ ذلك المنعم الحقيقي بنِعَمه الطيبة وإظهار رأفته عليهم، بالشكر والحمد، وبقولهم: سبحانك ما شكرناك حق شكرك يا مشكورُ بألسنة أحوالٍ فصيحة تنطق بها جميع إحساناتك المبثوثة في الكون، وتعلن الحمدَ والثناء إعلاناتُ نِعَمِك المعدّة في سوق العالم والمنثورة على الأرض كافة. فجميع الثمرات المنضّدة لرحمتك الواسعة، وجميع الأغذية الموزونة لنعمك العميمة، توفي شكرها بشهادتها على جُودك وكرمك لدى أنظار المخلوقات.

ثم قابلوا إظهار كبرياء جماله وجلاله وكماله سبحانه في مرايا الموجودات المتبدلة على وجه الكون، بقولهم: الله أكبر، وركعوا في عجز مكلّل بالتعظيم، وهَوَوا إلى السجود في محبة مفعمة بالذل والفناء لله، وفي غمرة إعجاب وتعظيم وإجلال.

ثم أجابوا إظهار ذلك الغني المطلق سبحانه ثروتَه التي لا تنفد ورحمته التي وسعت كل شئ، بالدعاء الملح والسؤال الجاد، بإظهار فقرهم وحاجتهم قائلين: إياك نستعين.

ثم استقبلوا عرضَ ذلك الخالق الجليل للطائف صنائعه وروائع بدائعه ونشره لها في معارضَ أمام أنظار الأنام، بالإعجاب والتقدير اللازمين، قائلين: ما شاء الله، تبارك الله، ما أجمل خلقَ هذا.. شاهدين مستحسنين لها، هاتفين: هلموا لمشاهدة هذه البدائع، حيّ على الفلاح.. اشهدوها وكونوا شهداء عليها.

ثم أجابوا إعلان ذلك السلطان العظيم -سلطان الأزل والأبد- لربوبية سلطنته في الكون كله، وإظهاره وحدانيته للوجود كافة، بقولهم: سمعنا واطعنا.. فَسمعوا، وانقادوا وأطاعوا.

ثم استجابوا لإظهار رب العالمين أُلوهيته الجليلة، بخلاصة عبودية تنمّ عن ضعفهم الكامن في عجزهم، وفقرهم المندمج في حاجاتهم.. تلك هي الصلاة.

وهكذا بمثل هذه الوظائف المتنوعة للعبودية، أدّوا فريضة عمرهم ومهمة حياتهم في هذا المسجد الأكبر المسمى بدار الدنيا، حتى اتخذوا صورة أحسن تقويم، واعتلوا مرتبةً تفوق جميع المخلوقات قاطبة، إذ أصبحوا خلفاء أمناء في الأرض، بما أُودع فيهم من الإيمان والأمانة..

وبعد انتهاء مدة الامتحان والخروج من قبضة الاختبار يدعوهم ربهم الكريم إلى السعادة الأبدية والنعيم المقيم ثوابًا لإيمانهم، ويرزقهم الدخول إلى دار السلام جزاء إسلامهم، ويكرمهم -وقد أكرمهم- بنعمٍ لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطرت على قلب بشر، إذ المشاهد المشتاق لجمال سرمدي والعاشق الذي يعكسه كالمرآة، لابد أن يظل باقيًا ويمضي إلى الأبد.

هذه هي عقبى تلاميذ القرآن.. اللّهمّ اجعلنا منهم!.

أما الفريق الآخر وهم الفجار والأشرار فما أن دخلوا بسن البلوغ قصر هذا العالم إلاّ وقابلوا بالكفر دلائل الوحدانية كلها، وبالكفران الآلاء التي تُسبغ عليهم، واتهموا الموجودات كلها بالتفاهة وحقّروها بالعبثية ورفضوا تجليات الأسماء الإلهية على الموجودات كلها، فارتكبوا جريمة كبرى في مدة قصيرة، مما استحقوا عذابًا خالدًا.

نعم، إن الإنسان لم يُوهَب له رأس مال العمر، ولم يودَع فيه أجهزة إنسانية راقية إلاّ ليؤهله ذلك على تأدية الوظائف الجليلة المذكورة.

فيا نفسي الحائرة ويا صديقي المغرم بالهوى!

أتحسبون أن ((مهمة حياتكم)) محصورة في تلبية متطلبات النفس الأمارة بالسوء ورعايتها بوسائل الحضارة إشباعًا لشهوة البطن والفرج؟ أم تظنون أن الغاية من درج ما أُودع فيكم من لطائف معنوية رقيقة، وآلات وأعضاء حساسة، وجوارح وأجهزة بديعة، ومشاعر وحواس متجسسة، إنما هي لمجرد استعمالها لإشباع حاجات سفلية لرغبات النفس الدنيئة في هذه الحياة الفانية؟ حاشَ وكلا!!

بل إن خلق تلك اللطائف والحواس والمشاعر في وجودكم وإدراجَها في فطرتكم إنما يستند إلى أساسين اثنين:

الأول: أن تجعلكم تستشعرون بالشكر تجاه كل نوع من أنواع النعم التي أسبغها عليكم المنعم سبحانه. أي عليكم الشعور بها والقيام بشكره تعالى وعبادته.

الثاني: أن تجعلكم تعرفون أقسام تجليات الأسماء الحسنى التي تعم الوجود كله، معرفتها وتذوقها فردًا فردًا.أي عليكم الإيمان بتلك الأسماء ومعرفتها معرفة ذوقية خالصة.

وعلى هذين الأساسين تنمو الكمالات الإنسانية، وبهما يغدو الإنسان إنسانًا حقًا.

فانظر الآن -من خلال هذا المثال- لتعرف أن الإنسان بخلاف الحيوان لم يزوّد بالأجهزة لكسب هذه الحياة الدنيا فقط:

أعطى سيدٌ خادمَه عشرين ليرة ليشتري بها بدلة لنفسه، من قماش معين. فراح الخادم واشتراها من أجود أنواع الأقمشة ولبسها. ثم أعطى السيد نفسه خادمًا آخر ألف ليرة ولكن وضع في جيبه ورقة تعليمات وأرسله للتجارة.

فكل مَن يملك مسكة من العقل يدرك يقينًا أن هذا المبلغ ليس لشراء بدلة، إذ قد اشتراها الخادم الأول بعشرين ليرة!

فلو لم يقرأ هذا الثاني ماكُتب له في الورقة، وأعطى كل ما لديه إلى صاحب حانوتٍ واشترى منه بدلة -تقليدًا لصديقه الآخر- ومن أردأ أنواع البدلات، ألا يكون قد ارتكب حماقة متناهية، ينبغي تأديبه بعنف وعقابه عقابًا رادعًا؟

فيا صديقي الحميم، ويا نفسي الأمارة بالسوء!

استجمعوا عقولكم، ولا تهدروا رأس مال عمركم، ولا تبددوا طاقات حياتكم واستعداداتها لهذه الدنيا الفانية الزائلة، وفي سبيل لذة مادية ومتاع حيواني.. فالعاقبة وخيمة، إذ تُردّون إلى دَرَكةٍ أدنى من أخس حيوان، علمًا أن رأس مالكم أثمن من أرقى حيوان!

فيا نفسي الغافلة!

إن كنت تريدين أن تفهمي شيئًا من: غاية حياتك، ماهية حياتك، صورة حياتك، سر حقيقة حياتك، كمال سعادة حياتك.. فانظري إلى مجمل ((غايات حياتك)) فإنها تسعة أمور:

أولها: القيام بالشكر الكلي، ووزن النِعم المدخرة في خزائن الرحمة الإلهية بموازين الحواس المغروزة في جسمك.

ثانيها: فتح الكنوز المخفية للأسماء الإلهية الحسنى بمفاتيح الأجهزة المودعة في فطرتك، ومعرفة الله جل وعلا بتلك الأسماء الحسنى.

ثالثها: إعلان ما ركّبت فيك الأسماء الحسنى من لطائف تجلياتها وبدائع صنعتها، وإظهار تلك اللطائف البديعة أمام أنظار المخلوقات بعلمٍ وشعور، وبجوانب حياتك كافة في معرض الدنيا هذه.

رابعها: إظهار عبوديتك أمام عظمة ربوبية خالقك، بلسان الحال والمقال.

خامسها: التجمل بمزايا اللطائف الإنسانية التي وهبتْها لك تجليات الأسماء، وإبرازها أمام نظر الشاهد الأزلي جل وعلا.. مثلك في هذا كمثل الجندي الذي يتقلد الشارات المتنوعة التي منحها السلطان في مناسبات رسمية، ويعرضها أمام نظره ليُظهر آثار تكرّمه عليه وعنايته به.

سادسها: شهود مظاهر الحياة لذوي الحياة، شهود علمٍ وبصيرة، إذ هي تحياتُها ودلالاتها بحياتها على بارئها سبحانه.. ورؤية تسبيحاتها لخالقها، رؤيةً بتفكرٍ وعبرة، إذ هي رموز حياتها.. وعرض عبادتها إلى واهب الحياة سبحانه والشهادة عليها، إذ هي غايةُ حياتها ونتيجتها.

سابعها: معرفة الصفات المطلقة للخالق الجليل، وشؤونه الحكيمة، ووزنها بما وهب لحياتك من علم جزئي وقدرة جزئية وارادة جزئية، أي بجعلها نماذج مصغرة ووحدة قياسية لمعرفة تلك الصفات المطلقة الجليلة.

فمثلًا: كما أنك قد شيدت هذه الدار بنظام كامل، بقدرتك الجزئية وإرادتك الجزئية، وعلمك الجزئي، كذلك عليك أن تعلم -بنسبة عظمة بناء قصر العالم ونظامه المتقن- أن بنّاءه قدير، عليم، حكيم، مدبِّر.

ثامنها: فهم الأقوال الصادرة من كل موجود في العالم وإدراك كلماته المعنوية -كل حسب لسانه الخاص- فيما يخص وحدانية خالقه وربوبية مبدعه.

تاسعها: إدراك درجات القدرة الإلهية والثروة الربانية المطلقتين، بموازين العجز والضعف والفقر والحاجة المنطوية في نفـسك، إذ كما تُدرك أنـواع الأطعمة ودرجاتها ولذاتها، بدرجات الجوع وبمقدار الاحتياج إليها، كذلك عليك فهم درجات القدرة الإلهية وثروتها المطلقتين بعجزك وفقرك غير المتناهيين.

فهذه الأمور التسعة وأمثالها هي مجمل ((غايات حياتك)).

أما ((ماهية حياتك الذاتية)) فمجملها هو:

إنها فهرس الغرائب التي تخص الأسماء الإلهية الحسنى..

ومقياس مصغر لمعرفة الشؤون الإلهية وصفاتها الجليلة..

وميزان للعوالم التي في الكون..

ولائحة لمندرجات هذا العالم الكبير..

وخريطة لهذا الكون الواسع ..

وفذلكة لكتاب الكون الكبير..

ومجموعة مفاتيح تفتح كنوز القدرة الإلهية الخفية..

وأحسن تقويمٍ للكمالات المبثوثة في الموجودات، والمنشورة على الأوقات والأزمان..

فهذه وأمثالها هي ((ماهية حياتك)).

وإليك الآن ((صورة حياتك)) وطرز وظيفتها، وهي:

إن حياتك كلمة حكيمة مكتوبة بقلم القدرة الإلهية ..

وهي مقالة بليغة تدل على الأسماء الحسنى المشهودة والمسموعة ..

فهذه وأمثالها هي صورة حياتك.

أما ((حقيقة حياتك)) وسرّها فهي:

إنها مرآة لتجلي الأحدية، وجلوة الصمدية، أي أن حياتك كالمرآة تنعكس عليها تجلي الذات الأحد الصمد تجليًا جامعًا، وكأن حياتك نقطةٌ مركزيةٌ لجمع أنواع تجليات الأسماء الإلهية المتجلية على العالم أجمع.

أما ((كمال سعادة حياتك)) فهو:

الشعور بما يتجلى من أنوار التجليات الإلهية في مرآة حياتك وحبها، وإظهار الشوق إليها، وأنت مالكٌ للشعور، ثم الفناء في محبتها، وترسيخ تلك الأنوار المنعكسة وتمكينها في بؤبؤ عين قلبك.

ولأجل هذا قيل بالفارسية هذا المعنى للحديث النبوي القدسي الذي رفعك إلى أعلى عليين:

من نكنجم درسموات وزمين

أز عجب كنجم بقلب مؤمنين

 (حاشية) هذا معنى الحديث «ما وسعني سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»

فيا نفسي!

إن حياتك التي تتوجه إلى مثل هذه الغايات المثلى، وهي الجامعة لمثل هذه الخزائن القيّمة.. هل يليق عقلًا وإنصافًا أن تُصرف في حظوظ تافهة، تلبية لرغبات النفس الأمارة، واستمتاعًا بلذائذ دنيوية فانية، فتهدر وتضيّع بعد ذلك.

فان كنت راغبة في عدم ضياعها سدىً، ففكّري وتدبّري في القَسَم وجواب القَسَم في سورة ((الشمس)) ثم اعملي مع تذكر الحكاية التمثيلية المذكورة في المقدمة، التي ترمز إلى تلك السورة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (الشمس:1ـ10)

اللهم صلّ وسلم على شمس سماء الرسالة وقمر برج النبوة، وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية.

وارحمنا وارحم المؤمنين والمؤمنات.

آمين آمين آمين.