[لا أُحسن الظن بنفسي]
إخوتي الأوفياء الصادقين!
جواب خطر على البال لمناسبة سـؤال مادي ومعنوي
يقال: لِمَ لا تقبل مقاماً ومزايا لشخصك بالذات الذي هو موضع حسن ظن مفرط لطلاب النور وقناعتهم التامة بحق شخصك، علماً أن قبولك ذلك المقام يكون مثار شوقهم للعمل في خدمة الإيمان. بل نجدك تَصرف تلك المزايا عن شخصك إلى رسائل النور وحدها، وتُظهر نفسك خادماً كثير الذنوب؟!
الجواب: حمداً لله وشكراً له لا منتهى لهما، فإن لـرسائل النور مرتكزاتٍ قويةً لا تتزعزع، وحججاً نافذة ساطعة لا تخبو بحيث تستغني عما يُظن في شخصي من مزايا وقابليات. فهي ليست كالمؤلفات والآثار الأخرى التي تبني أهميتها على قابلية مؤلفها، وتَستمد قوتها وحسنها منه، بل هي تستند على حججها القاطعة منذ عشرين سنة، حتى أرغمت أعدائي الماديين والمعنويين على الاستسلام، والأمر واضح أمام الجميع. فلو كانت شخصيتي نقطةَ استنادٍ مهم لها، فإن أعدائي الملحدين ومعارضيَّ الظلمة كان يُمْكنهم أن يُنـزلوا ضربتهم القوية بـرسائل النور، وذلك بالنيل من شخصي المقصّر المذنب. بينما أولئك الأعداء لطيشهم وبلاهتهم يدبرون -ما وسعهم- من الدسائس والوسائل للحط من قيمتي والنيل من شخصيتي، وإذ هم يسعون ليَحُولوا دون توجه الناس نحوي وإقبالِهم عليّ، لا يستطيعون أن يحُولوا دون فتوحات رسائل النور الإيمانية ولا التهوين من شأنها، بل يعجزون عن أن يجعلوا محبين جدداً يتخلون عن خدمة الإيمان، رغم ما كدّروا من صفاء أذهانهم وقلوبهم.
فلأجل هذه الحقيقة، ولأجل طغيان الأنانية وهيمنتها الواسعة في هذا الزمان، أَرْفُض حسن الظن المفرط بشخصي الذي يفوق كثيراً حدّي وطوقي، لأني كإخوتي، لا أحسن الظن بنفسي، فضلاً عن أن المقام الأخروي الذي منحه إخوتي أخاهم هذا الفقير إن كان مقاماً دينياً حقيقياً، وإن كنت أعلم أن نفسي أهلٌ له -حاش لله- فهذا دليل على عدمه، وإذا كنت أرى نفسي فارغاً عن ذلك المقام يلزم إذن عدم قبول هداياهم ومِنَحهم كذلك، وذلك -حسب القاعدة المذكورة في المكتوب الثاني- فضلاً عن أن الذي يرى نفسه صاحب مقام فالأنانية ربما تتداخل في الأمر.
* * *
[مسلك النور يحقق فوائد الطريقة]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
أخي العزيز البطل صبري!
نسأل الله أن يهيئ جنودا مضحّين كالسيد «غالب» للجيش الإسلامي. إن هذا الفاضل يخدم الإيمان في الغرب والشرق كخدمةِ «خلوصي». ويحاول جذبَ أهل الإيمان وانتشالهَم من الضلالة عن طريق التصوف. إن هذا الفاضل قد حاول سابقا أن يعمل في مسلك النور قبل اطلاعه على الرسائل ويتمكن أن يعمل أكثر عندما تقوّى علاقته بالرسائل. إلّا أن أساس مسلك النور؛ الحقيقة، السنة النبوية الشريفة، الاهتمام بالفرائض والاجتناب عن الذنوب، وينظر إلى التصوف بدرجة ثانية وثالثة. أما أخونا «غالب» فهو يعمل في صفوف «العلويين» فيفكر أن يلقنهم دروسا في طريقة صوفية هي خلاصة طرق القادرية والشاذلية والرفاعية وضمن السنة النبوية بشرط عدم التعرض للخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، وضمن نطاق محبة آل البيت. وهذا السلوك له فوائد مهمة عدة باسم الحقيقة وفي سبيل إنقاذ الإيمان وصيانته من البدع.
أولاها: لها فائدة جليلة في الحيلولة دون كسب التيارات الأخرى العلويين، وصونِهم من غلو الرافضة والتيار السياسي البكتاشي.
ثانيتها: أن العلويين الذين اتخذوا حبَّ آل البيت مسلكا لهم لا يدخلون ضمن الكفر المطلق مهما أفرطوا، بل حتى لو كانوا روافض. لأنه كلما توغلت محبةُ آل البيت في قلوبهم فإنهم لا يدخلون الكفر المتضمن العداءَ للرسول الكريم ﷺ وآل البيت. بل يتمسكون بالإسلام بشدة بوساطة تلك المحبة. فجلبُ أمثال هؤلاء إلى دائرة السنة النبوية عن طريق الصوفية يُعدّ فائدة جليلة.
ثم إن جلب العلويين إلى دائرة النور فيه مصلحة عظيمة، وذلك للحيلولة دون استغلال تيارات سياسية شجاعتَهم الفطرية، بما يضر وحدة أهل الإيمان. ولما كان أستاذ طلاب رسائل النور هو الإمام علي رضي الله عنه، وحبُّ آل البيت أساس في مسلك النور، فينبغي دخول العلويين الحقيقيين إلى دائرة النور بشوق كامل.
إن هذا الزمان زمانُ إنقاذ الإيمان، ولأن هناك مشكلاتٍ في مسلك الطريقة الصوفية بالسير والسلوك وفي زمن البدع هذا، لذا تسلك دائرة النور مسلكَ الحقيقة محقِّقة فوائدَ الطريقة الصوفية.
اكتبوا هذا إلى أخينا ذاك مع سلامي ومع تهنئتي له بشهر رمضان المبارك وليدعُ لنا أيضا.
* * *
[قد أغلقتُ منافذ النفس]
إخوتي الأوفياء الصادقين!
جاءني عدد من الأطباء من أركان طلاب النور، حينما اشتدت وطأة المرض عليّ، إلّا أنني لم أفاتح أولئك الصادقين المخلصين حول مرضي الشديد، ولم أتناول علاجاتهم، بل لم أشاورهم أصلاً في شؤون الأمراض التي ألمّت بي رغم أن الآلام كانت تعصرني وأنا في أمسّ الحاجة إليهم. فلما رأوني لا أدير الحديث حول المرض قطعاً، اعتراهم قلق واضطراب. لذا اضطررت إلى بيان حقيقة ذات حكمة. أرسلها إليكم علّها تفيدكم أيضاً.
قلت لهم: إن أعدائي المتسترين، ونفسي الأمارة بالسوء، ينقِّبان معاً -بإيحاء من الشيطان- عن طبعٍ ضعيف عندي وعِرق واهٍ في خلقي، ليستحوذوا عليه، ويُخَلُّوا بسببه بخدمتي الإيمانية المخلصة، ويعرقلوا نشر الأنوار.
حقاً! إن أضعف جانب عند الإنسان، وأخطر مانع للعمل، إنما هو المرض، لأنه إذا اهتم المريض بمرضه كثيراً اشتدت أحاسيس الجسد عليه وسيطرت حتى يجد المريض نفسه مضطراً.. فتُسكت تلك الأحاسيس الروحَ والقلب عندئدٍ وتجعل الطبيب كأنه حاكم مستبد، تلجئه إلى إطاعة توصياته وعلاجاته. وهذا هو الذي يخلّ بخدمة الإيمان المتسمة بالتضحية والفداء والإخلاص التام.
ولقد حاول أعدائي المتسترون استغلال هذا الجانب الضعيف عندي وما زالوا كذلك يحاولون، كما حاولوا استغلال طبع الخوف والطمع والشهرة إلّا أنهم لم ينالوا شيئاً من هذه النواحي، فأدركوا أننا لا نعبأ بشيء من أحكامهم حتى بإعداماتهم.
ثم إن هناك خُلقاً ضعيفاً وعرقاً واهياً لدى الإنسان، وهما الاهتمام بهموم العيش، والطمعُ، فقد بحثوا عنهما كثيراً للاستفادة منهما، ولكن لم يجنوا شيئاً بفضل الله من ذلك الجانب الضعيف، حتى خلصوا إلى أن متاع الدنيا الذي يضحون في سبيله بمقدساتهم، تافهٌ لا يساوي شيئاً عندنا. وقد تحقق ذلك عندهم بحوادث كثيرة، حتى إنه خلال هذه السنين العشر الماضية استفسروا أكثر من مائة مرة استفساراً رسمياً من الإدارات المحلية: بِمَ يعيش؟
ثم إن طلب الشهرة والتطلعَ إلى المراتب عرق ضعيف في الإنسان وجانب واهٍ فيه، فقد أمرت -السلطات- أن يُستَغل ذلك العرق الضعيف عندي، فقاموا بالإهانات والتحقير والتعذيب المؤلم الجارح للشعور. ولكنهم -بفضل الله- لم يوفقوا إلى شيء، وأدركوا إدراكاً قاطعاً أن ما يتطلعون إليه -لحد العبادة- من الشهرة الدنيوية نعتبرها رياءً وإعجاباً بالنفس مضرّاً بالإنسان. وأن ما يُولُون من اهتمام بالغ نحو حب الجاه والشهرة الدنيوية لا يساويان عندنا شروى نقير، بل نعدّهم بهذه الجهة بلهاء مجانين.
ثم إن ما يعدّ فينا -من حيث خدمتنا- جانباً ضعيفاً وعرقاً لا يقاوَم، مع أنه -من حيث الحقيقة- جانب مقبول لدى الناس كلهم، بل يتلهفون إلى إدراكه والظفر به، هذا الجانب هو كون الشخص يحرز مقاماً معنوياً ويعرج في مراتب الولاية، وينال تلك النعمة لنفسه بالذات. فهذا الجانب رغم أنه لا ضرر فيه البتة، وليس له غير النفع، إلّا أنه في زمان قد استولت فيه الأنانية وطغت فيه الأثرة واستهدفت المنافع الشخصية حتى انحصر شعور الإنسان في إنقاذ نفسه.. أقول: إن القيام بخدمة الإيمان في هذا الزمان -تلك الخدمة التي تستند إلى سر الإخلاص وتأبى أن تستغل لأي شيء كان- تقتضي عدم البحث عن مقامات معنوية شخصية، بل يجب ألّا تومئ حتى حركاتُ المرء إلى طلبها والرغبة فيها، بل يلزم عدم التفكير فيها أصلاً. وذلك لئلا يفسد سر الإخلاص الحقيقي.
ومن هنا أدرك الذين يسعون لاستغلال هذا الجانب الضعيف لديّ بأني لا أتحرى خارج خدمة النور ما يتحراه كل إنسان من كشف وكرامات وخوارق ومزايا أخرى روحية فرجعوا خائبين من هذا الجانب.
تحياتنا إلى إخواننا فرداً فرداً.. ونسأله تعالى برحمته الواسعة أن يجعل ليلة القدر المقبلة بمثابة ثمانين سنة من العبادة لكل طالب من طلاب النور ونستشفع بحقيقة تلك الليلة في دعواتنا هذه.
* * *
[حول النظر الحرام]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لقد حان وقت تبيان حادثة عجيبة لحياتي، ومؤلمة ولطيفة، وفى الوقت نفسه نبيّن ما يبثه الأعداء من افتراء شنيع لا يمكن أن يُقنع الشيطانُ نفسُه أحدا قط، مما يتوضح كيف أن الأعداء لم يبق لديهم أي سلاح كان تجاه النور.
إنه من المعلوم لدى المطلعين على تاريخ حياتي أنني مكثت سنتين في مضيف الوالي المرحوم «عمر باشا» في بتليس بناء على إصراره الشديد ولفرط احترامه للعلم والعلماء.. كان له من البنات ست؛ ثلاث منهن صغيرات وثلاث بالغات كبيرات.. ومع أني كنت أعيش معهم في سكن واحد طوال سنتين إلّا أنني لم أكن أميّز بين الثلاث الكبيرات؛ إذ لم أكن أسدد النظر إليهن كي أعرفهن وأميّز بينهن. حتى نـزل أحد العلماء يوماً ضيفاً عليّ، فعرفهن في ظرف يومين فقط وميّز بينهن، فأخذت الحيرة الذين من حولي، لعدم معرفتي إياهن. وبدؤوا بالاستفسار: «لماذا لا تنظر إليهن؟». فكنت أجيبهم: «صونُ عزة العلم يمنعني من النظر الحرام».
وفي أحد المهرجانات المقامة في إسطنبول، قبل أربعين سنة، كان الازدحام على أشده… اصطفت ألوفٌ من نساء إسطنبول ومن الروم والأرمن الكاسيات العاريات على طرفَي الخليج (الذي يقسم جانب إسطنبول إلى قسمين).
ركبت مع السيد طه والسيد إلياس (وهما عضوا المجلس النيابي) في قارب لينقلنا إلى نهاية الخليج حيث الاحتفالات تقام هناك.
كان القارب يمر من أمام أولئك النساء، ولم يكن لي علم أصلا من أن الملّا طه والحاج إلياس قد اتفقا على مراقبتي بالتناوب واختباري في النظر إلى النساء، حتى اعترفا بذلك بعد ساعة كاملة من التجوال في القارب وبين أولئك النساء قائلَين:
لقد حَيَّـرَنا أمرُك هذا، أنك لم ترفع بصرك إليهن قط.
قلت: أنا لا أريد أذواقا موقتة تافهة مشوّبة بالآثام، لأن عاقبتَها آلام وحسرات.
ثم إن الذين يصادقونني يعرفون جيدا أنني تحاشيت كليا عن قبول الهدايا والدخول تحت منّة المتصدقين طوال حياتي كلها، فلأجل صيانة كرامة رسائل النور والخدمة القرآنية وحفاظا على سلامتها تركت الاهتمام بكل ما يمتّ بصِلة إلى أذواق الدنيا المادية والاجتماعية والسياسية، ولم أبال بتهديدات أهل المآرب والأغراض الشخصية بل حتى بإعدامهم. وقد ظهر هذا بجلاء خلال السنوات العشرين التي قضيتها في النفي والتشريد المعذب وفي السجن الرهيب وفي المحاكم.
وفى الوقت الذي أملك هذا الدستور العظيم، والذي دام طوال خمس وسبعين سنة، وإذا بموظف يَشغل منصبا في الحكومة يُشيع فرية شنيعة لا تخطر حتى ببال الشيطان تهوينا من شأن رسائل النور الرفيعة، حيث قال: «تتردد عليه ليلاً الفاحشاتُ مع ما لذّ وطاب من المأكولات»، علما أن بابي مغلوق من الخارج ومن الداخل ليلا، وأن هناك من يسهر للصباح يراقب الباب بأمرِ ذلك الموظف الشقي. يعرف الجيرانُ والأصدقاء جيدا أنني لا أقبل أحدا للزيارة منذ العِشاء حتى الصباح.
فالذي يفتري هذه الفرية لا شك أنه سفيه وأحمق بل لا يورد هذا الاحتمال حتى لو أصبح حمارا بل حتى لو أصبح شيطانا.
فذلك الشخص المفتري قد علم خطأه فتخلى عن مثل هذه المكايد، مغادرا هذا المكان إلى غير رجعة وبئس المصير.
* * *
[وظائف السيد المهدي]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لقد سألني -باسم الكثيرين- من له شأن وبركة من طلاب النور قائلا:
إن قسما ممن لهم شأن وإخلاص من طلاب النور يظنون بك -وبإصرار- أنك المرشد العظيم من آل البيت الذي يأتي في آخر الزمان. وأنت مهما تبالغ في تجنب هذا، فهم يزيدون إلحاحا وإصرارا في ظنهم. وأنت بدورك تصرّ على رفض فكرهم وتتحرز كثيرا منه. فلا جرم أنهم يملكون حقيقة ولديهم حجة قاطعة. وأنت كذلك تستند إلى حقيقة وحكمة فلا توافقهم في ظنهم. وهذا تضاد نطلب حلَّه على كل حال.
وأنا أقول جوابا لهذا الأخ الفاضل الذي ينطوي سؤالُه على كثير من المسائل:
إن أولئك النوريين الخواص يملكون حجة، إلّا أنها تحتاج إلى تعبير وتأويل من جهتين:
الأولى: لقد أشرت عدة مرات في رسائلي إلى أن السيد المهدي الذي يمثل الشخص المعنوي للجماعة السامية لآل محمد ﷺ له ثلاث وظائف. فنحن نرجو من رحمته تعالى أن تقوم جماعتُه، وطائفةُ السادة الكرام بتلك الوظائف إن لم تقم القيامة فجأة، ولم تضلّ البشرية ضلالا بعيدا.
ووظائفه الثلاث ستكون الآتية:
الوظيفة الأولى: إنقاذ الإيمان، وذلك بالقيام بدحض الفلسفة والفكر المادي قبل كل شيء. لانتشار أفكار الماديين والطبيعيين انتشارَ الطاعون في البشرية واستيلاء العلوم والفلسفة المادية على الأذهان.
إن حفظ أهل الإيمان من شرور الضلالة، يقتضي إجراء تحقيقات علمية واسعة وأبحاث متواصلة دائبة، التي تتطلب التجرد من هموم الدنيا ومشاغلها تجردا كاملا، ولا يسمح الوقت والأحوال لقيام السيد المهدي بمهمته هذه بالذات، لأن أعباء الحُكم في الخلافة الإسلامية لا تدَع وقتا له للانشغال بتلك الأمور. فلابد أن تنهض بتلك المهمة قبله طائفةٌ في جهةٍ ما. وسيجعل السيد المهدي ما دوّنه هؤلاء من أثر منهاجا معدّا له، فيكون قد أدى تلك المهمة على أتمّ وجه.
إن القوةَ التي تستند إليها هذه الوظيفة وجيشَها المعنوي، ما هم إلّا طلاب يتصفون اتصافا تاما بالإخلاص والوفاء والترابط. فمهما كانوا قلّة فهم يعدّون بقوة الجيش وأهميته معنىً.
الوظيفة الثانية: إحياء الشعائر الإسلامية في المجتمع باسم الخلافة المحمدية، وإنقاذ البشرية من المهالك المادية والمعنوية والغضب الإلهي، مستنِدا إلى وحدة العالم الإسلامي.
ونقطةُ استناد هذه الوظيفة والعاملين لها يلزم أن يكون جيوشا تعدادها الملايين.
الوظيفة الثالثة: يسعى السيد المهدي لإقامة الشريعة الإسلامية و تنفيذ أحكام القرآن بعد أن لحق العطبُ بتطبيق كثير من أحكام القرآن، وبعد أن عُطلت القوانين الشرعية بعضَ التعطيل من جراء الانقلابات التي حصلت بمرور الزمن. فيحظى لأداء مهمته الجسيمة هذه بالتأييد المعنوي من جميع المؤمنين، وبمؤازرة الوحدة الإسلامية، وبالتحاق جميع العلماء والأولياء به ولاسيما ملايين الأبطال المضحين من آل البيت الذين يوجدون وبكثرة وقوة في كل عصر من العصور، فيشدّون جميعُهم أزره ويسندون ظهره في سبيل قيامه بهذه الوظيفة العظمى..
ولما كانت حقيقة الأمر هكذا، فإن إنقاذ الإيمان وإرشاد الناس عامة إلى الإيمان إرشادا تحقيقيا بل جعْل إيمان العوام تحقيقيا هو أُولى وظائف السيد المهدى وأرفع مسلك من مسالكه، والذي يقتضي اسم المهدى والمرشد بمعناه وحقيقته، ولأن طلاب النور يرون هذه الوظيفة بتمامها في رسائل النور، تظل الوظيفتان الثانيةُ والثالثة في المرتبة الثانية والثالثة عندهم بالنسبة لهذه الوظيفة الأولى. لذا ينظرون إلى الشخص المعنوي لرسائل النور-وهم محقون- نظرةَ نوعٍ من المهدي، وحيث إنهم يظنون في مؤلِّف رسائل النور -هذا الضعيف- أنه ممثل ذلك الشخص المعنوي الناشئ من تَرابُط طلاب النور، لذا يطلقون أحيانا ذلك الاسم عليه أيضا.
وعلى الرغم من أن هذا التباسٌ وسهو، إلّا أنهم ليسوا مسؤولين عنه، لأن الإفراط في حسن الظن سارٍ منذ القدم ولا يُعترض عليه. وأنا كذلك أنظر إلى حسن الظن المفرط لإخوتي هؤلاء، كأنه دعاء منهم وأُمنية، وأنه ترشّح لكمال عقيدة طلاب النور، فلا أعترض عليهم كثيرا.
يفهم بهذه التحقيقات تأويل ما شاهده بعض الأولياء السالفين في كشفياتهم أن رسائل النور مهديُّ آخر الزمان. بمعنى أن هناك التباساً في نقطتين، فيلزم التأويل:
أولاها: الوظيفتان الأخيرتان (الثانية والثالثة) رغم أنهما ليستا في أهمية الوظيفة الأولى من زاوية الحقيقة، إلّا أن إقامة الحكم الإسلامي في الأرض بجيوش الخلافة المحمدية والوحدة الإسلامية تظهر أوسعَ ألفَ مرة من الوظيفة الأولى عند الناس، ولاسيما لدى العوام منهم ولدى أرباب السياسة وبالذات في أفكار عصرنا هذا. حتى إذا ما أُطلق هذا الاسم «المهدي» على شخص ما، فإن هاتين الوظيفتين هما اللتان تتبادران إلى الذهن دون الأولى، مما يوحي -ذلك الاسم- إلى معنى سياسي. وربما يورد إلى الذهن معنى الإعجاب بالنفس، ولربما يظهر رغبات الشهرة وذيوع الصيت، والتطلع إلى المقامات الرفيعة.
وقد ادّعى قديما -والآن كذلك- كثيرٌ من السذج والمتطلعين إلى المقامات العليا أنهم سيكونون «المهدي».
وعلى الرغم من أن مجددين و مرشدين يهدون الناس إلى سواء السبيل قد أتوا ويأتون، فإن أحدا منهم لا يتخذ عنوان «السيد المهدي» الكبير الذي سيأتي في آخر الزمان، وذلك لأنه لا يؤدي سوى وظيفة واحدة من الوظائف الثلاث في جهة ما.
ثم إن الخبراء في محكمة «دنيزلي» قالوا عن طلاب النور -حسب اعتقاد بعضهم-: إذا ادّعى سعيد النُّورْسِيّ أنه المهدي فإن جميع طلابه يصدّقونه برحابة صدر. وأنا قد قلت لهم في المحكمة: إنني لا أستطيع أن أعدّ نفسي من آل البيت حيث إن الأنساب مختلطة في هذا الزمان بما لا يمكن تمييزها، بينما مهدي آخر الزمان سيكون من آل البيت. رغم أنني بـمثابة ابن معنوي لسيدنا علي كرم الله وجهه وتلقيت درس الحقيقة منه، وإن معنىً من معاني آل محمد ﷺ يشمل طلاب النور الحقيقيين، فأعدّ أنا أيضاً من آل البيت، إلّا أن هذا الزمان هو زمان الشخص المعنوي، وليس في مسلك النور -بأية جهة كانت- الرغبةُ في الأنانية وحبُّ الشخصية، والتطلع إلى المقامات والحصول على الشرف وذيوع الصيت، وكل ذلك منافٍ لسر الإخلاص تماماً.
فأنا أشكر ربي الجليل بما لا نهاية له من الشكر أنه لم يجعلني أُعجب بنفسي، لذا لا أتطلع إلى مثل هذه المقامات الشخصية التي تفوق حدي بدرجات لا تعد ولا تحصى، بل لو أُعطيتُ مقامات رفيعة أخروية فإنني أجد نفسي مضطراً إلى التخلي عنها لئلا أخلّ بالإخلاص الذي في النور. هكذا قلت للخبراء وسكتوا.
* * *
[لِمَ تركت السياسة؟]
أخي العزيز الوفي السيد رأفت!
أولا: لمناسبة حوادث جزئية تمسّنا معا أُخطر على قلبي بشدة لأبيّن حقيقة وهي الآتية:
إن طالبا خاصا للنور من أمثالكم لا شك يعرف أن رسائل النور لا تكون أداة لأي شيء كان، ولا يُبتغَى منها إلاّ مرضاة الله سبحانه وتعالى، وهي تعمل على توضيح حقائق الإيمان بالذات وقبل كل شيء، وذلك لإنقاذ إيمان الضعفاء والحاملين للشكوك والشبهات.
ثانيا: إن أعظم قوة لرسائل النور تجاه معارضيها الكثيرين، هي الإخلاص. فالرسائل مثلما لا تكون أداة لأي شيء كان في الدنيا، لا تهتم أيضا بالتيارات التي تنبني على مشاعر الانحياز والموالاة ولاسيما للتيارات السياسية، وذلك لأن عِرق الانحياز يفسد الإخلاص ويغيّر لون الحقيقة. حتى إن السبب في تَركي السياسة منذ ثلاثين سنة هو أن عالما صالحا قد أثنى بحرارة على منافق يحمل فكرا ينسجم مع فكره السياسي. وفي الوقت نفسه انتقد عالما صالحا يحمل أفكارا تخالف أفكاره انتقادا شديدا حتى وصمه بالفسق.
بمعنى أن عِرق المنافسة إذا اختلط معه التحيز السياسي، نشأت أخطاء عجيبة مثل هذا. ولهذا قلت: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة»، فتركت السياسة من ذلك الوقت.
ونتيجة لتلك الحالة -وأنتم أعلم بها- فإنني لم أقرأ منذ عشرين سنة جريدة واحدة، ولم أهتم بحوادث الحرب طوال عشر سنوات ولم أستمع إليها ولم أتلهف لها، بل لم أحاول أن أعرف عنها شيئا. وطوال اثنتين وعشرين سنة من سني الأسر والعذاب لم أدنُ من الانحياز والموالاة إلى جهة أو الدخول في السياسة، وذلك لئلا يتضرر الإخلاص الذي تحمله رسائل النور. فلم أراجع دوائر الدولة لأجل راحتي، سوى لعرض دفاعاتي أمام المحاكم.
ثالثا: تعلمون أنني لا أقبل الصدقات والمعونات، كما لا أكون وسيلة لأمثالها من المساعدات، لذا أبيع ملابسي الخاصة وحاجياتي الضرورية، لأبتاع بثمنها -من إخوتي- كتبي التي استنسخوها، وذلك لأَحُول دون دخول منافع دنيوية في إخلاص رسائل النور، لئلا يصيبها ضرر. وليعتبر من ذلك الإخوة الآخرون، فلا يجعلوا الرسائل وسيلة لأي شيء كان.
رابعًا: رسائل النور كافية لطلاب النور الحقيقيين؛ فليرضوا بها ويطمئنوا إليها، فلا يتطلعنّ أحد منهم إلى مراتب أعلى وأسمى، أو منافع معنوية ومادية.
* * *
[حول مصطفى كمال]
ذيل العريضة المقدمة إلى رئيس الجمهورية اضطررت إلى كتابتها
إن السبب الأساس لهجوم الحاقدين عليّ هو أنهم يسحقونني متذرعين بمودّتهم وموالاتهم لمصطفى كمال. وأنا أقول لأولئك الحاقدين:
لقد قلت في حق شخص مات وانتهى أمره وانقطعت علاقته بالحكومة: «إنه سيظهر في آخر الزمان شخص يُلحق الأضرار بالقرآن الكريم». قلتُه قبل ثلاثين سنة استنباطا من حديث شريف. ثم أظهر الزمان أن ذلك الرجل هو مصطفى كمال. وأن الحاقدين الذين يوالونه يعذبونني بحجج واهية منذ عشرين سنة، حيث إنني لا أُسند إلى مصطفى كمال -خلافا للحقيقة- شرفَ هذا الجيش ومجدَ انتصاراته الذي تحدّى العالمَ ببطولته وتفانيه في الحق منذ خمسمائة سنة.
نعم -وكما أثبتُّ في المحكمة- إن الشرف والحسنات والغنائم المادية والمعنوية تُسند إلى الجماعة وتوزّع عليهم، بينما تُسند الذنوب والإجراءات الخاطئة إلى الرئيس. ففي ضوء هذه القاعدة الحقيقية، فإن أمجاد الجيش والشرف الذي أحرزه بانتصاراته -ولا سيما الضباط الأشاوس الذين تولوا إدارته- لا تُسند إلى مصطفى كمال، وإنما الأخطاء والذنوب والنقائص هي التي تُسند إليه وحده. فالذين يتهمونني بعدم محبتي له إنما يقومون بإهانةِ كرامةِ الجيش وقدحِ شرفه، لذا أنظر إلى هؤلاء أنهم خونة الأمة؛ وإني على استعداد لإثبات هذه الحقيقة لأولئك العنيدين الموالين له كما أثبتّها أمام المحكمة:
إنني أكنّ حبا لملايينِ أفراد الجيش المقدام وضباطه، جيشِ هذه الأمة الطيبة، وأسعى لصيانة عزته وكرامته وتوقيره ما استطعت إلى ذلك سبيلا. بينما معارضيَّ الحاقدون الذين يواجهونني يهوّنون -ضمنا- من شأن ملايين الأفراد بل يعادونهم في سبيل محبة شخص واحد.
نعم، لقد أدركنا بأمارات عديدة، أن الذي يحرّض الحاقدين عليّ بالهجوم، هو معارضتي لمصطفى كمال، وعدم مودّتي له. أما الأسباب الأخرى فهي حجج واهية ومجرد اختلاق. ولهذا اضطررت إلى أن أقول لأولئك المعارضين:
لقد استدعاني مصطفى كمال إلى أنقرة لأجل تكريمي وجَعْلي واعظا عاما لجميع الولايات الشرقية. فذهبت إلى أنقرة، إلّا أن المواد الثلاث الآتية جعلتني أتخلّى عن محبته ومودته. فعانيت العذاب طوال عشرين سنة في حياة الانزواء ولم أتدخل في أمورهم الدنيوية.
المادة الأولى: لقد أظهر بأفعاله أنه هو الذي أخبر عنه الحديث الشريف الوارد حول ظهور شخص في آخر الزمان يسعى للإضرار بالأعراف الإسلامية. وفسّرتُ هذا الحديث الشريف قبل ست وثلاثين سنة، ثم ظهر معناه مطابقا في هذا الشخص. وله إيضاح في المادة الثالثة في دفاعاتي أمام المحكمة.
المادة الثانية: إن وجود شيء ما وتعميره وحياته، قائم بوجود جميع أركان ذلك الشيء أو شروطه، بينما عدمُه وتخريبه وموته يكون بفساد شرط واحد. هذه قاعدة حقيقية حتى أصبحت مضرب الأمثال في ألسنة الناس: «التخريب أسهل من التعمير».
فبناء على هذه القاعدة الرصينة فإن النقائص الفاضحة والدمار الرهيب الظاهر نابعةٌ من أخطاء ذلك القائد. أما الانتصارات الباهرة فهي صادرة من بطولة الجيش. فبينما ينبغي أن يكون الأمر إسناد السيئات إليه ومنح الحسنات إلى الجيش، إلّا أن الأمر يكون بخلاف هذا كليا، إذ تُسند حسنات الجماعة إلى من في رأس الأمر ويسند شر ذلك الشخص إلى الجماعة. وهذا ظلم شنيع.
المادة الثالثة: إن إسناد حسنات الجماعة وانتصارات الجيش إلى القائد الآمر، وإعطاء ذنوب ذلك الأمر إلى الجماعة بأكملها يعني التهوين من شأن ألوف الحسنات وجَعْلَها حسنة واحدة، وجَعْلَ الخطأ الواحد ألوف الأخطاء. إذ كما أن فوجا من الجيش لو قَتلوا عدوا شرسا فإن كل فرد من أفراد ذلك الفوج يُمنَحون مرتبة المجاهد، ولكن لو أعطيتْ تلك الرتبة إلى آمرهم فقط فإن ألف رتبة من رتب «المجاهد» تنـزل إلى رتبة واحدة فقط. فلو حصلت جريمةُ قتلٍ نتيجة خطأ ارتكبه قائد ذلك الفوج ثم أُسندت هذه الجريمة إلى الفوج كله، فإن تلك الجريمة الواحدة تتضاعف وتكون في حكم ألوف الجرائم، فيصبح ألفُ جندي مثلا مسؤولين عنها، ومستحقين العقاب عليها.
كذلك الأمر هنا، فإن الأخطاء الجسيمة واضحة أمام الأعين، فإن لم تُسند إلى ذلك الرجل الميت الذي ارتكبها، وأحيلت إلى جيش عظيم كريم أَظهر جهاده في سبيل إحقاق الحق في العالم أجمع وصدّق بسيوفه ودمائه شهادة عزته وكرامته وإعلائه لراية القرآن منذ خمسمائة سنة بل منذ ألف سنة، فإن تلك الذنوب تزداد إلى الألوف بعدد أركان ذلك الجيش. فيلطِخ الماضيَ المجيد لذلك الجيش ويشوهه تشويها رهيبا مسوِّدا تاريخَه بلون قاتم مما يجعل جيش هذا العصر مسؤولا ويذوب خجلا أمام الجيش البطل للعصور السابقة.
وكذلك لو أُسندت الانتصاراتُ الباهرة والمفاخر المستحصلة الحاضرة إلى رجل واحد فإنها تبقى جزئية، وتصبح الحسناتُ والمجاهدات التي هي بعدد الأركان والأفراد في حكم شخص واحد، وينطفئ ذلك الضياء الساطع ويزول ولا يصبح كفارة للذنوب.
فلأجل هذه الأسباب تركتُ مودّة ذلك الرجل، وكسبتُ مودة ذلك الجيش الذي خَدمتْ في صفوفه خدمةً فعلية مؤثرة، وفي زمان دقيق حرج، وسعيت برسائل النور للمحافظة على شرف ذلك الجيش الذي هو أسمى ألف مرة من أي شخص كان.
سعيد النُّورْسِيّ في أميرداغ
* * *