[ختمة جماعية]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
أولا: نبارك لكم ليلة نصف شعبان وشهر رمضان المقبل، ونسأله تعالى أن يجعل ليلة القدر خيرا لكم ولنا من ألف شهر، ويُدخلها هكذا في سجل أعمالنا.
وقد عزمنا على أن ندعو حتى العيد بهذا الدعاء: «اللهم اجعل ليلة القدر في شهر رمضان خيرا من ألف شهر لنا ولطلبة رسائل النور».
ولقد قمنا بتوزيع أجزاءِ مصحفين شريفين على كل طالب من طلاب النور الخواص هنا، بحيث يقرأ كلٌّ منهم يوميا جزءا مخصصا له. وبهذا تُختَم كل يوم -من أيام شهر رمضان المبارك- ختمتان للقرآن الكريم، في مجلس معنوي واسع جدا يضم إسبارطة وقسطموني معا، يتوسطهما طلاب رسائل النور حيث يتصور كلٌّ منهم نيّةً جميعَ الطلاب معه. نسأله تعالى أن يوفقنا في ذلك.
* * *
[الاشتراك في الأعمال الأخروية]
باسمه سبحانه
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بقدر حاصلِ ضربِ عاشراتِ دقائقِ ليلة القدر في حروف القرآن.
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
أولا: أهنئكم بحلول شهر رمضان المبارك بملء روحي ووجداني وأبتهل إلى أرحم الراحمين تعالى أن يستجيب لدعواتكم التي ترفعونها في هذا الشهر المبارك.
ثانيا: إن شهر رمضان لهذه السنة له أهمية جليلة للعالم الإسلامي عامة ولطلاب النور أيضا بمضمون دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، ذلك الدستور الأساسي الجاري بين طلاب رسائل النور. فإنّ دخول ما يكسبه كلُّ طالب من حسنات إلى دفتر حسنات إخوانه كاملةً، هو مقتضى ذلك الدستور والرحمة الإلهية. لذا تكون مغانمُ الحسنات عظيمة جدا وكلية لمن يدخل دائرة رسائل النور بصدق وإخلاص، حيث يغنم كلُّ واحد منهم ألوفا من الحصص. نسأله تعالى أن يجعل ذلك الاشتراك كالاشتراك في الأموال الدنيوية -ولكن بدون انقسام ولا تجزئة- اشتراكًا كاملا بدخولها كاملة في دفتر حسنات إخوانه كدخول ضياءِ مصباح في ألوف المرايا. بمعنى أن طالبا من طلاب النور الصادقين إذا ما غنم حقيقةً ليلةَ القدر وتمكّن من كسب المرتبة الرفيعة لشهر رمضان المبارك، نأمل أملا عظيما من سعة رحمته تعالى أن يملّك سبحانه جميعَ الطلاب الصادقين تلك الغنيمة.
* * *
[النساء في طريق النور]
إخوتى الأعزاء الأوفياء الأبطال الميامين!
أولا: إن كل أخ من إخواننا الخواص في هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، بمثابة الملائكة المالكين لأربعين ألف لسان، أي له أربعون ألف لسان معنوي -أي بعدد الإخوة- وذلك بالدستور الأساس، وهو دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية، لذا فإن ما يدعون أو ما سيدعون من دعوات في هذا الشهر المبارك، نرجو من رحمته تعالى أن يكون مقبولا بعدد تلك الألسنة. فهنيئا لكم شهركم هذا شهر رمضان الحامل لهذه الماهية الفاضلة.
ثانيا: كان المفروض أن يكون الجواب كتابا كاملا لرسائلكم في هذه المرة، تلك الرسائل المتعددة المؤثرة السارة الحاملة للبشارات، إلا أن ضيق الوقت حال دون ذلك فلا تتألموا من الجواب المقتضب…
فلله الحمد ألف ألف مرة، إن الأمهات المباركات في تلك القرية وسيداتها -قرية ساو- قد عرفن رسائل النور ويقدرنها حق قدرها. فلقد أبكتني -وأبكتنا جميعا- بكاءَ فرح وسرور التضحيةُ التي بذلتها أولئك السيدات العزيزات أخواتي في الآخرة المخلصات في نشر رسائل النور.
من المعلوم أن أهم أساس في مسلك رسائل النور هو الشفقة. وحيث إن السيدات هن معدن الشفقة ومنبعها، فقد كنت أنتظر -منذ مدة- أن تُفهَم ماهية رسائل النور في عالم النساء، والحمد لله فإن السيدات هنا وحوالينا يعملن عملا جادا وبشوق وفعالية أكثر من الرجال، فأظـهرن أنهن حقا أخواتٌ مباركات في قرية ساو. فهذان الأمران الظاهران فأل حسن في أن رسائل النور ستسطع وتنور وتفتح قلوب أولئك السيدات معادن الشفقة.
ثم إن الرعاة الشجعان لقرية ساو الذين ينقلون في جعبهم رسائل النور ليستكتبوها، قد أبدوا تضحية وبسالة كأولئك السيدات هناك. مما يثير الهمم ويبث الشوق في هذه المناطق أيضا.
إننا نرغب في معرفة أسماء أولئك السيدات والرعاة كي يدخلوا بأسمائهم الخاصة ضمن الطلاب الخواص…
* * *
[حادثتان لهما مغزى]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
أبين لكم حادثتين لطيفتين لهما مغزى وبشارة:
أولاها: [مقابلة الذنوب المهاجمة]
تنبيه يحمل بشرى وردت من خاطرة يائسة، حيث ورد على خاطري في هذه الأيام ما يأتي:
إن الذي يختلط بالحياة الاجتماعية، ما إن يمس شيئا إلّا ويجابَه بالآثام والذنوب في أغلب الأحوال. فالذنوب تحيط بالإنسان من كل جهة. تُرى كيف تقابِل العبادةُ الخاصة للإنسان وتقواه الخاصة هذه الذنوبَ جميعَها؟ تأملتُ في هذا التفكير اليائس، حيث تذكرت أوضاع طلاب رسائل النور المندمجين في الحياة الاجتماعية، وفكرت في الوقت نفسه في إشاراتٍ قرآنية وبشاراتِ الإمام علي والشيخ الكيلاني حول نجاة طلاب رسائل النور وكونهم من أهل السعادة.
فقلت في قلبي: كيف يقابل طالبُ النور بلسان واحد هجماتِ ذنوبٍ تَرِد من ألف جهة، وكيف يتغلب عليها، وكيف ينجو منها؟ فأخذتني الحيرة. فخطر على قلبي تجاه هذه الحيرة ما يأتي:
إنه حسب الدسـتور الأسـاس الجاري بين طلاب رسـائل النور الحقيقيين الصادقين، وهو الاشتراك في الأعمال الأخروية، وبسر التساند والترابط الخالص، فإن كل طالب خالصٍ صادقٍ لا يتعبد بلسان واحد بل بعدد ألسنة إخوانه جميعا، فيستغفر ربه بعدد تلك الألسنة، ويقابِـل الـذنوبَ المهاجمة من ألـفِ جهةٍ بألــوفِ ألـوفٍ من الألسنة المستغفِرة العابدة.
إن طالبا خالصا حقيقيا متقيا، يعبد ربه بأربعين ألف من ألسنة إخوته -كالملائكة المسبّحة بأربعين ألف لسان- سيكون أهلا للنجاة بإذن الله، ويكون من أهل السعادة بفضل الله ويصبح مالكا لعبادة رفيعة كلية بالوفاء الخالص حسب درجته وبالعمل الجاد ضمن دائرة رسائل النور وبالتزام التقوى واجتناب الكبائر.
فلأجل ألّا يُفوت هذا الربح العظيم ينبغي السعي الحثيث في التقوى والإخلاص والوفاء.
ثانيتها: [جبة مولانا خالد]
عندما كنت في الرابعة عشرة من العمر وجدت موانع حالت دون قيام أحد من الأساتذة بوضع العمامة ولفّها على رأسي وإلباسي الجبة، كدليل على الشهادة العلمية، كما كانت العادة جارية سابقا. فما كان لبس الجبة الخاصة بالعلماء والكبار يلائم سني الصغير…
ثانيا: كان العلماء في ذلك الوقت، قد اتخذوا موقف المنافس لي أو التسليم التام فلم يتمكنوا أن يتقلدوا طور الأستاذ. وحيث إن عددا من الأولياء العظام قد ارتحلوا من الدنيا، لذا لم يجد أحد في نفسه الكفاءة ليُلبسنى الجبة أو يضع على رأسي العمامة.
فمنذ خمسين سنة كان من حقي هذه العلامةُ الظاهرة لنيل الشهادة وهى لبس الجبة وتقبيلُ يد أحد الأساتذة وقبولُه أستاذا.. ولكن تقديم جبة مولانا خالد النقشبندي من بُعد مائة سنة مع العمامة الملفوفة بها وإرسالها إليّ في هذا العام بأسلوب غريب جدا لكي ألبسها، قد أورثني قناعة ببعض الأمارات. فأنا ألبس تلك الجبة المباركة التي يبلغ عمرها مائة سنة وأشكر ربي بمئات الألوف من الشكر والحمد.([1])
* * *
[مسألتان وردتا إلى القلب]
لقد وردت في هذه الأيام مسألتان دقيقتان إلى القلب، لم أستطع تدوينهما، إلّا أننا بعد فوات ذلك الأوان نشير إشارة فقط إلى تلك الحقائق المهمة:
أولاها: [إلى المتكاسل في أذكار الصلاة]
لقد قلت لأحد إخواننا الذي أظهر تكاسلا وفتورا في قراءة الأذكار بعد الصلاة:
إن تلك الأذكار والأوراد عقب الصلاة هي سنة نبوية مطهرة وطريقة محمدية شريفة، وهي أوراد الولاية الأحمدية، فأصبحت أهميتُها من هذه الزاوية عظيمة.
ثم وضّحت حقيقة هذا القول بهذا الشكل: مثلما أن الولاية الأحمدية التي انقلبت إلى الرسالة هي فوق جميع الولايات قاطبة، فإن طريقة تلك الولاية الكبرى وأذكارها عقب الصلاة هي فوق سائر الطرق والأوراد بالدرجة نفسها. ثم انكشف هذا السر كما يأتي:
كما أن كل ذاكر في حلقة الذكر، أو في ختمة الذكر في المسجد. يشعر برابطة روحية، تربطه بمن حوله، فيحسون جميعا بحالة روحية نورانية، فإن ذا القلبِ اليقظ يحس إحساسا روحيا كلما سبّح بـ«سبحان الله.. سبحان الله.. سبحان الله..» بعد الصلاة، أنه في حلقة ذكر مع مائة مليون من المسبّحين الذاكرين، كأنهم بين يدي الرسول ﷺ، الذي يترأس تلك الحلقة الذاكرة المترامية الأطراف.
فبهذه الأحاسيس الشاعرة بالعظمة والهيبة والرفعة والعلو يكرر المؤمن: «سبحان الله.. سبحان الله».
ثم إنه عندما يردد «الحمد لله.. الحمد لله..» بأمر معنوي صادر من ذلك السيد الكريم ﷺ فإنه يتأمل ويفكر في عظمة تلك الكلمة: (الحمد لله) المنطلقة من صدور مائة مليون من المردِّدين في تلك الحلقة الواسعة الشاسعة، فيشترك معهم بقوله: «الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله..».
وهكذا، مع كلمة «الله أكبر.. الله أكبر..» ومع «لا إله إلّا الله.. لا إله إلّا الله» ثلاثا وثلاثين مرة، حيث يختم الذكر..
وبعد إتمام هذه الأذكار اللطيفة بتلك المعاني والتأمل الأخوي يتوجه إلى سيد الحلقة الذاكرة وهو الرسول الكريم ﷺ حاملا معه تلك المعاني المذكورة مع إخوانه في حلقة الذكر قائلا: ألف ألف صلاة وألف ألف سلام عليك يا رسول الله.
أجل، هكذا أحسست، وهكذا فهمت، بل هكذا رأيت خيالا، لذلك أقول: إن الأذكار عقب الصلاة، لها أهمية كبرى.
المسألة الثانية: [لِمَ تُفضَّل الدنيا على الآخرة؟]
إن خاصية هذا العصر هي أنها تجعل المرء يفضّل بعلمٍ الحياةَ الدنيا على الحياة الباقية. حتى أصبح تفضيل الزجاج القابل للكسر على الألماس الباقي عن علم، يجري وكأنه دستور وقاعدة عامة.
فكنت أحار من هذا حيرة شديدة، ولكن أُخطر على قلبي في هذه الأيام الآتي:
كما أنه إذا اشتكى عضو من الجسد تداعى له سائرُ الجسد تاركا قسما من وظائفه، كذلك جهاز الحرص على الحياة والحفاظ عليها والتلذذ بالحياة وعشقها، المندرج في فطرة الإنسان قد جُرح في هذا العصر فبدأ يُشغل سائرَ اللطائف به، لأسباب عديدة محاولا دفعَها إلى نسيانِ وظائفها الحقيقية.
فلو كان هناك حفل بهيج جذاب حافل بالسفاهة والسكر لانجذب إليه حتى الذين لهم مقامات رفيعة والنساء المحجبات العفيفات كما ينجذب الأطفال والسائبون، فيشتركون معا بجاذبيةِ ذلك الحفل تاركين وظائفهم الحقيقية.
كذلك الحياة الإنسانية في هذا العصر ولاسيما الحياة الاجتماعية؛ فقد اتخذت وضعا مخيفا ولكن ذات جاذبية، وحالةٍ أليمة ولكن تثير اللهفة والفضول، بحيث تجعل عقلَ الإنسان وقلبه ولطائفه الرفيعة تابعةً لنفسه الأمارة بالسوء حتى تحوّم كالفراش حول نار تلك الفتنة وترديها فيها.
نعم، هناك في حالات الضرورة رخصة شرعية في تفضيل الحفاظ على الحياة الدنيوية وترجيحها مؤقتا على بعض الأمور الأخروية. ولكن لا يمكن تفضيلها بناء على ضرر لا يلحقه هلاك ولأجل حاجة فحسب، فلا رخصة في هذا. والحال أن هذا العصر قد غرز حبَّ الحياة الدنيوية في عروق الإنسان، حتى إنه يترك أمورا دينية ثمينة جدا كالألماس لحاجة صغيرة تافهة، أو لئلا يصيبه ضررٌ دنيوي اعتيادي.
نعم، إن هذا العصر الذي رُفعت منه البركةُ من جراء الإسراف المتزايد وعدمِ مراعاة الاقتصاد، ومن عدم القناعة مع الحرص الشديد، فضلا عن تزايد الفقر والحاجة والفاقة وهموم العيش، مما سبب جروحا بليغة في تطلع الإنسان للعيش وفي نزوعه لحفظ الحياة، علاوة على تشعب متطلبات الحياة المرهقة، زد على ذلك استمرار أهل الضلالة بتوجيه كل الأنظار إلى الحياة.. كل ذلك عمّق تلك الجروح حتى دفع الإنسان ليفضّل أدنى حاجة من حاجات الحياة على مسألة إيمانية عظيمة.
نعم، إنه لا يصمد تجاه هذا المرض العجيب لهذا العصر العجيب ولسقمه الرهيب إلّا رسائل النور الناشرة لأدوية القرآن المبين التي لها فعل المضاد للسموم. ولا يمكن أن يقاوِم هذا المرضَ العضال إلّا طلابُ رسائل النور الأقوياء الثابتون الذين لا يتزعزعون، الخالصون الصادقون المضحون.
ولهذا ينبغي الإسراع إلى الالتحاق بدائرة النور والالتزام بها مع كامل الوفاء والثبات والجدية والإخلاص والثقة، حتى يمكن الخلاص من آثار ذلك المرض العجيب الرهيب.
تحياتنا إلى الإخوة جميعا فردا فردا مع الدعاء لهم بالخير.
يا إخوتي! إن فعالياتكم ونشاطكم وثباتكم هي بمثابة النابض المحرك لدائرة رسائل النور بحيث تحفزوننا على الحركة والعمل هنا، وفي أماكن أخرى كثيرة. ليرضَ الله عنكم أبدا. آمين آمين ألف ألف آمين.
* * *
[الآلام في اللذائذ الظاهرية]
لمناسبة الرسالة التي كتبتُها لكم قبل بضعة أيام حول غلبة الحياة الدنيوية على الحياة الدينية ظهر معنىً دقيق جدا لقلبي، قد لا يُعبّر عنه بالقلم. ولكني سأشير إليه إشارة في غاية الاختصار:
إنني شاهدت أن ما يخدع أهل الضلالة في هذا العصر العجيب ويجعلهم سكارى ثملين، هو أن ما يتلذذون به من أوضاع فانية لذةً ظاهرية هو في الحقيقة في منتهى الألم. بينما شعرت -بما لا أتمكن من التعبير عنه- أن أهل الإيمان والهداية يتلذذون لذة علوية في نفس الموضع من تلك الأمور والأوضاع الفانية. فلقد أثبتت رسائل النور في مواضع عدة؛ أن كل شيء معدومٌ لأهل الضلالة سوى الحال الحاضرة، لذا فكل شيء بالنسبة إليهم مليء بالآم الفراق، بينما الماضي والمستقبل وما فيهما موجودان منوَّران لأهل الإيمان.
ولقد شاهدت أن الأوضاع الموقتة الفائتة لأهل الدنيا معدومة في ظلمات الفناء المطلق، بينما تلك الأوضاع نفسها موجودة لأهل الهداية، لأنني تذكرت بحسرةٍ الأوضاعَ الموقتة التي مرّت عليّ، وهي أوضاع تحمل لذائذ وأهميةً وشأنا فاشتقت إليها. ولكن ما إن ورد على ذهني أن تلك الأوضاع الطيبة فنيَت في الماضي، إذا بنور الإيمان يذكّرني: أنها باقية من نواحٍ عدة رغم فنائها الظاهرى، لأن تلك الأوضاع جلوات اسم الله الباقي سبحانه، فهي باقية في دائرة العلم الإلهي والألواحِ المحفوظة والألواحِ المثالية. فالعلاقات التي تربطنا بتلك الأوضاع يورثها نور الإيمان بقاءً ووجودا فوق الزمان. فيمكنك مشاهدة تلك الأوضاع من نواحٍ عديدة كثيرة وكأنها سينما معنوية كثيرة بل يمكنك الدخول فيها. فقلت: «مادام الله موجودا فكل شيء موجود إذن». هذا الكلام الذي أصبح مضرب المثل يمثل حقيقةَ: «من كان لله تعالى كان له كل شيء، ومن لم يكن له، كان عليه كل شيء فكل شيء معدوم له».
بمعنى أن الذين يفضلون درهما من لذة تحمل آلاما وحسرات وظلمات على أضعافها من اللذائذ التي لا تحمل ألما في الموضع نفسه، لاشك أنهم سيقابلون -بما يخالف مقصودهم- الألم في موضع اللذة.
* * *
[خدمة الإيمان فوق كل شيء]
إن طلاب رسائل النور الحقيقيين يرون خدمة الإيمان فوق كل شيء. بل حتى لو مُنحوا درجة القطبية يرجّحون عليها خدمة الإيمان حفاظا على الإخلاص.
نحن طلاب رسائل النور؛ وظيفتُنا الخدمةُ، خدمةُ الإيمان والقرآن، وعدمُ التدخل في أمور الله، وعدم بناء خدمتنا على تلك الأمور الذي يومئ إلى ما يشبه التجربة والاختبار. فضلا عن أننا نهتم بالنوعية دون الكمية.
لقد أدت أسباب رهيبة منذ سالف الزمن إلى تدهور الأخلاق واستحبابِ الدنيا على الآخرة وتفضيلِها عليها في كل شيء. فضمنَ هذه الأحوال المحيطة، فإن فتوحات الإيمان التي تكسبها رسائل النور حتى الآن، وكسرَها لصولة الزنادقة وهجوم الضلالة، وإنقاذَها إيمانَ مئات الألوف من الناس المنكوبين، وتربيتَها مئاتٍ بل ألوفَ المؤمنين الحقيقيين الذين يعادل كلٌّ منهم مائة ألفٍ من غيرهم، أثبتت إثباتا قاطعا بحوادث واقعية -وستثبت بإذن الله في المستقبل- إخبار المخبر الصادق ﷺ وصدّقته تصديقا فعليا. وقد ترسخت في العروق إلى درجة لا يمكن لأي قوة كانت أن تجتثها بإذن الله من صدر الأناضول، حتى يأتي بإذنه تعالى في آخر الزمان أصحابُها الحقيقيون في الدائرة الواسعة للحياة، أي السيد المهدي وطلابه، فيوسّعون تلك الدائرةَ وتتسنبل البذورُ المزروعة، فنشاهد نحن ذلك المشهد من قبورنا ونشكر ربنا.
* * *
[ورطة المتدينين]
إن هذا العصر العجيب الذي أثقل كاهل الإنسان بالحياة الدنيوية بما كثّر عليه من متطلبات الحياة وضيّق عليه مواردَها، وحوّل حاجاته غير الضرورية إلى ضرورية بما ابتلاه من تقليد الناس بعضهم بعضاً، ومن التمسك بعادات مستحكِمة فيهم، حتى جعل الحياة والمعاش هي الغاية القصوى والمقصد الأعظم للإنسان في كل وقت.
فهذا العصر العجيب أسدل بهذه الأمور حجاباً دون الحياة الدينية والأخروية والأبدية، أو في الأقل جَعَلها أمراً ثانوياً أو ثالثياً بالنسبة له. لذا جوزي الإنسان على خطئه هذا بلطمة قوية شديدة حوّلت دنياه إلى جحيم لا تطاق. وهكذا يتورط المتدينون أيضاً في هذه المصيبة الرهيبة، ولا يشعر قسم منهم أنهم قد وقعوا في الورطة.
وأذكر مثالاً: رأيت عــدداً من الأشـــخاص -من أهــل التقوى- يَرغبـون في الـديــن ويحبون أن يقيموا أوامره كي يوفقوا في حياتهم الدنيوية ويفلحوا في أعمالهم. حتى إن منهم من يطلب الطريقة الصوفية لأجل ما فيها من كرامات وكشفيات؛ بمعنى أنه يجعل رغبته في الآخرة وثمارها تَكِئَةً ومرتبة سُلّمٍ للوصول إلى أمور دنيوية، ولا يَعلم هذا أن الحقائق الدينية التي هي أساس السعادة الدنيوية كما هي أساس السعادة الأخروية، لا تكون فوائدُها الدنيوية إلّا مرجِّحة ومشوقة، فإذا ارتقت تلك الفائدة إلى مرتبة العلة لِعَمَلِ البر، فإنها تبطله، وفي الأقل يفسد إخلاصه، ويُذهب ثوابه. وقد ثبت بالتجربة أن أفضل منقذ مِن ظلم هذا العصر المريض الغادر المشؤوم ومن ظلماته الدامسة؛ هو النور الذي تشعه رسائل النور بموازينها الدقيقة وموازناتها السـديدة. يشهد على صدق هذا أربعون ألف شاهد.
بمعنى أن القريبين من دائرة رسائل النور إن لم يدخلوها، فهناك احتمال قوي لهلاكهم.
نعم، إن هذا العصر قد جعل حتى المسلمين يستحبّون الحياة الدنيا ويرجّحونها على الآخرة على علم منهم ورغبة فيهم، كما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿يَسْتَحِبُّونَ الْحَيٰوةَ الدُّنْيَا عَلَى الْاٰخِرَةِ﴾ (إبراهيم:3).
* * *
[مصير الأبرياء من الكفار في البلايا]
باسمه سبحانه
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾
لقد مسّ مسّاً شديداً مشاعري وأحاسيسي المفرطة في الرأفة والعطف ما أصاب الضعفاء المساكين من نكبات وويلات ومجاعات ومهالك من جراء هذه الطامة البشرية التي نزلت بهم وفي هذا الشتاء القارس… ولكن على حين غرة نُبّهتُ إلى أن هذه المصائب وأمثالها تنطوي على نوع من الرحمة والمُجازاة -حتى على الكافر- بحيث تهوّن تلك المصيبةَ، فتظل هيّنة بسيطة بالنسبة إليهم. وأصبح هذا التنبيه مرهماً شافياً لإشفاقي المؤلم على الأطفال والعوائل في أوروبا وروسيا، رغم أنني لم أتلق شيئاً عن أوضاع الدنيا وأخبار الحرب منذ بضعة أشهر.
نعم، إن الذين نزلت بهم هذه الكارثة العظمى -التي ارتكبها الظالمون- إن كانوا صغاراً وإلى الخامسة عشرة من العمر، فهم في حكم الشهداء، من أي دين كانوا. فالجزاء المعنوي العظيم الذي ينتظرهم يهوّن عليهم تلك المصيبة. أما الذين تجاوزوا الخامسة عشرة من العمر، فإن كانوا أبرياء مظلومين، فلهم جزاء عظيم ربما ينجيهم من جهنم، لأن الدين -ولاسيما الإسلام- يُستر بستار اللامبالاة في آخر الزمان، وأن الدين الحقيقي لسيدنا عيسى عليه السلام سيحكم ويتكاتف مع الإسلام. فيمكن القول بلا شك: إن ما يكابده المظلومون من النصارى المنتسبين إلى سيدنا عيسى عليه السلام والذين يعيشون الآن في ظلمات تشبه ظلمات «الفترة»، وما يقاسونه من الويلات تكون بحقهم نوعاً من الشهادة، ولاسيما الكهول وأهل النوائب والفقراء والضعفاء المساكين الذين يقاسون النكبات والويلات تحت قهر المستبدين والطغاة الظالمين.
وقد بلغني من الحقيقة أن تلك النكبات والويلات كفارة بحقهم من الذنوب النابعة من سفاهات المدنية وكفرانها بالنعم، ومن ضلالات الفلسفة وكفرها، لذا فهي أربح لهم مائة مرة.
وبهذا وجدتُ السلوان والعزاء من ذلك الألم المعذِّب النابع من العطف المتزايد، فشكرتُ الله شكراً لا نهاية له.
أما أولئك الظالمون الذين يسعّرون نار تلك الفتن والنكبات، أولئك السفلة من شياطين الأنس والجبابرة الطغاة الذين ينفذونها إشباعاً لمنافعهم الشخصية، فهم يستحقون ذلك العذاب المهين، فهو بحقهم عدالة ربانية محضة.
ولكن إن كان الذين يقاسون تلك النكبات هم ممن يهرعون إلى نجدة المظلومين، ويكافحون في سبيل تحقيق راحة البشرية والحفاظ على الأسس الدينية والمقدسات السماوية والحقوق الإنسانية، فلا بد أن النتائج المعنوية والأخروية لتلك التضحيات الجسام كبيرة جداً بحيث تجعل تلك الويلات بحقهم مدار شرف واعتزاز لهم بل وتُحبّبها إليهم.
* * *
[العمل لأسس الإسلام أولى]
إخوتي!
لقد أرسلت في هذه الأيام برفقة طلابي الأعزاء رسالتين تخصان «الرموز الثمانية» أرسلتهما إلى مكان ما، إلّا أن الطريق انسدّ، فلم تُرسَلا. فكررت مطالعتهما بدقة.
وساءلتُ فكري: تُرى لماذا أُسدل الستار أمام هذا المسلك الذي يتسم بالتوافقات والذوق والجمال والاهتمام واللطف-بحساب الجُمّل بالأبجدية والجفر- ووُجّهنا إلى سلوك طريق آخر واستُعملنا فيه؟ فأُخطر علـى قلبي فجأةً: إن الانشغال بذلك المسلك الذي يفتح مغاليق تلك الأسرار الغيبية يُلحق الضرر بالعمل لأسس الإسلام. فهذا العمل هو أهم من ذلك المسلك وأثمن منه وأقوم، وهو محور الحاجة العامة ويَسد الحاجة الماسة للجميع بالعمل لأسس الإسلام، وهو خدمةُ خزينةِ الحقائق الإيمانية والاستفادة منها. ولهذا وُجّهنا إلى سلوك هذا الطريق، لأن الانشغال بذلك المسلك يجعل المرء يَدَع أعظم المقاصد وأجلّها -وهي الحقائق الإيمانية- في درجة تالية.
* * *
[المقصد الأول هو الحقائق الإيمانية]
إخوتي الأعزاء الأوفياء!
لمناسبة تلقي أحد إخوتنا الصادقين المدققين في هذه الأيام صفعةَ تأديب طفيفة من جراء عدم أخذه بالحذر، ولمناسبة استفسار «فيضي» و«أمين» وأخذهما الحيرة من اتخاذي طور عدم الرغبة في تلقي أي خبر عن أحوال العالم وأخبار السياسة والحرب وعدم الاهتمام بها في غضون هذه الشهور الأربعة رغم علاقتي بها بِقَدَر آلاف الأشخاص.. فأقول: لهذه المناسبات، لزم أن أبحث ولو جزئيا عن حقيقة طالما بحثت عنها وبينتها كثيرا. وهي الآتية:
بينما ينبغي أن تكون الحقائق الإيمانية أول مقصد وأسبقه في هذا الزمان، وأنْ تبقى سائر الأمور في الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، وفي الوقت الذي ينبغي أن تكون خدمة الحقائق الإيمانية برسائل النور أجلّ وظيفة، وموضعَ اهتمامٍ ولهفة، ومقصودةً بالذات، إلّا أن أحوال العالم الحاضرة ولاسيما الحياة الدنيوية ولاسيما الحياة الاجتماعية والحياة السياسية خاصة وأخبار الحرب العالمية بالأخص -التي هي تجل من تجليات غضب الله النازل عقاباً لضلالة المدنية الحاضرة وسفاهتها- والتي تستميل الناس إلى جانبها وتهيّج الأعصاب والعروق حتى تدخل إلى باطن القلب، بل حتى مكّنتْ فيه الرغباتِ الفاسدة المضرة بدلاً من الحقائق الإيمانية الرفيعة النافعة. فهذا العصر المشؤوم قد غرز الناس بهذه الأمور ومازال، ولقّحهم بأفكاره ومازال، بحيث جعل العلماءَ الذين هم خارج دائرة رسائل النور، بل بعضَ الأولياء يُنـزلون حكمَ الحقائق الإيمانية إلى الدرجة الثانية والثالثة بسبب ارتباطهم بتلك الحياة السياسية والاجتماعية منجرفين مع تلك التيارات، فيُولُون حبهم للمنافقين الذين يبادلونهم الفكر نفسه، ويعادون من يخالفهم الرأي من أهل الحقيقة بل من أهل الولاية وينتقدونهم. حتى جعلوا المشاعر الدينية تابعة لتلك التيارات.
فتجاه هذه المهالك العجيبة التي يحملها هذا العصر، فإن خدمة رسائل النور والانشغالَ بها قد أسقطا من عيني التياراتِ السياسية الحاضرة، إلى درجة لم أهتم في غضون هذه الشهور الأربعة بأخبار هذه الحرب ولم أسأل عنها.
ثم إن طلاب رسائل النور الخواص وهم منهمكون بمهمة نشر الحقائق الإيمانية الثمينة لا ينبغي لهم أن يورثوا الفتور في وظيفتهم المقدسة بمشاهدة لعب الشطرنج للظالمين، ولا يعكّروا صفو أذهانهم وأفكارهم بالنظر إلى لعبهم؛ فلقد وهب لنا سبحانه وتعالى النورَ والمهمة النورانية، وأعطاهم لعباً مُظلِمةً ظالمة، فهم يستنكفون منا ولا يَمُدون يد المعاونة إلينا ولا يرغبون فيما لدينا من أنوار سامية. فمن الخطأ التنـزلُ إلى مشاهدة لعبهم المظلمة على حساب وظيفتنا. فالأذواق المعنوية والأنوار الإيمانية التي هي ضمن دائرتنا كافيتان لنا.
تحياتنا إلى الأخوة جميعا فردا فردا ونهنئهم بعيدهم السعيد.
الباقي هو الباقي
سعيد النُّورْسِيّ
* * *
[1] لقد أخذت هذه الأمانة المباركة من السيدة «آسيا» وهي طالبة النور المحترمة وأختنا في الآخرة. (المؤلف)