اللمعة الثامنة والعشرون

هذه اللمعة عبارة عن فقرات مختصرة كتبتُها لبعث السلوان إلى قلوب إخواني الذين كانوا معي، حينما كنت ممنوعاً عن التكلم والاختلاط مع الآخرين في سجن «أسكي شهر».

محاورة لطيفة

مع سليمان رشدي الذي هو رمز الوفاء والإخلاص، المتميز بنقاء السريرة.

عندما يقترب زمن تسريح الذباب من مهمة الحياة وذلك في موسم الخريف، يستعمل بعض من يقصد نفعه بالذات مبيداً لمكافحة الذباب ليحولوا دون أن يمسهم شيء من الإزعاج. فمسَّ ذلك رقة قلبي وأثّر فيَّ كثيراً. علماً أن الذباب قد تكاثر أكثر من قبل على الرغم من استعمال المبيد القاتل. وكان في غرفتي في السجن حبلٌ لنشر الملابس لأجل تنشيفها فكانت تلك الطويرات الصغيرة جداً تتراصف على ذلك الحبل مساءً تراصفاً جميلاً منتظماً. فقلت لرشدي: لا تتعرض لهذه الطويرات الصغيرة، انشر الملابس في مكان آخر. فردّ عليّ بجدّ: إننا بحاجة إلى هذا الحبل، فلتجد الذبان لها موضعاً آخر!

وعلى كل حال، ولمناسبة المحاورة اللطيفة التي جرت بيننا انفتح بابُ البحث عن الذباب والنحل وما شابههما من الحشرات الكثيرة، فدار الكلام حولها.

فقلت له:

إنَّ مثل هذه الأنواع من الحيوانات التي تتكاثر نسَخُها بكثرة هائلة، لها وظائفُ مهمة. فالكتاب يُطبع طبعات كثيرة نظراً لقيمته. بمعنى أن جنس الذباب له وظيفةٌ مهمة وقيمة كبيرة حيث يُكثر الفاطرُ الحكيم من نسخ تلك الرسائل القَدَرية وكلمات القدرة الإلهية.

نعم، إنَّ هذه الطائفة من الذباب التي تنظّف وجهَها وعينَيها وجناحيها كل حين، وكأنها تتوضأ، تشكّل موضوعاً مهماً للآية الكريمة: ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ اِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَاِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـًٔا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (الحج:73).

بمعنى أن الأسباب وما يدّعيه أهلُ الضلالة من ألوهية من دون الله لو اجتمعت على خلق ذبابة واحدة لعجَزت. أي إن خلقَ الذباب معجزةٌ ربانية وآيةٌ تكوينية عظيمة، بحيث لو اجتمعت الأسباب كلها لما خلقت مثلَ تلك الآية الربانية ولا استطاعت أن تعارضها ولا تقلدها قطعاً. فتلك المعجزة قهرت نمرود، ودافعتْ عن حكمة خلقها دفاعاً فاق ألفَ اعتراض، لمّا شكى موسى عليه السلام من ازعاجاتها قائلاً: يا رب لِمَ أكثرتَ من نسل هذه المخلوقات المزعجة.. أُجيب إلهاماً: لقد اعترضتَ مرة على الذبان، وهي كثيراً ما تسأل: يا رب إن هذا الإنسان الكبير ذا الرأس الضخم لا يذكرك إلّا بلسان واحد بل يغفل أحياناً عن ذكرك، فلو خلقتَ من رأسه فحسب مخلوقاتٍ من أمثالنا لكانت ألوفُ المخلوقات ذاكرةً لك.

وفضلاً عن هذا فإن الذباب يرعى النظافةَ أيمّا رعاية، إذ ينظف وجهَه وعينيه باستمرار ويمسح على أجنحته دوماً ويؤدي كل ذلك كمن يتوضأ. إذن لهذه الطائفة وظائفُ مهمة وجليلة بلا شك، إلّا أن نظرَ الحكمة البشرية وعلمَها قاصرٌ لم يحط بعدُ بتلك الوظائف.

نعم، إنَّ الله سبحانه وتعالى قد خلق قسماً من الحيوانات مفترسةً آكلة للحوم، وكأنها موظفات صحيّات ومأمورات للتنظيف تؤدي وظيفتها في غاية الإتقان، بتنظيفها وجهَ البحر وجمعِها لجثث ملايين الحيوانات البحرية يومياً، وإنقاذ وجه البحر من المناظر القذرة. (حاشية) نعم، إن سمكة واحدة تضع ألوفاً من البويضات، فتخرج منها ألوفاً من الصغار وأحياناً تخرج من مبيضها مليوناً من البويضات، فتكون مواليد الأسماك متناسبة مع وفياتها، كي يمكن أن تحافظ على التوازن في البحر. ومن ألطاف تجليات الرحمن الإلهية أن تتفاوت أجسام الوالدات تفاوتاً كبيراً مع أجسام صغارها، فلا تستطيع أن تقود صغارها أينما ذهبت، حيث لا يمكنها الدخول في أماكن تدخلها الصغار، فيولّد الحكيم الرحيم سبحانه قائداً صغيراً من بين الصغيرات ويسخّرها في وظيفة الوالدات. فإن لم توف هذه الحيوانات بوظيفتها الصحية حق الوفاء وعلى أجمل وجه لما تلألأ وجهُ البحر كالمرآة الساطعة، ولكان البحر يورث الكآبة والحزن.

وكذا فإنه سبحانه قد خلق حيوانات مفترسة وطيوراً جارحة بمثابة مأمورات للنظافة والأمور الصحية، تقوم بتنظيف وجه الأرض يومياً من جثث مليارات من الحيوانات البرية والطيور وإنقاذها من التعفن، وإنقاذ ذوي الحياة من ذلك المنظر الكئيب الأليم. حيث تستطيع تلك الحيوانات أن تتحسس مواضعَ تلك الجثث الخفية والبعيدة من مسافة تبلغ حوالي ست ساعات، وذلك بسَوق من إلهام رباني، فتنطلق إلى تلك المواضع وتزيل الجثث. فلولا هذه الموظفات الصحيات البرية وهي تؤدي وظائفها على أفضل وجه لكان وجهُ الأرض في حالة يرثى لها.

نعم، إنَّ الرزق الحلال للحيوانات الوحشية المفترسة هو لحوم الحيوانات الميتة، وحرام عليها لحوم الحيوانات الحية، بل لها جزاء إن أكلت منها. فالحديث الشريف: (حتى يقتصّ الجمّاءُ من القَرناء) يدل على أن الحيوانات التي تبقى أرواحُها رغم فناء أجسادِها لها جزاءٌ وثواب يناسبها في دار البقاء. فعلى هذا يصح القول: إن لحومَ الحيوانات الحية حرام على المفترسات.

وكذا النمل موظف بجمع شتات القطع الصغيرة للنعم الإلهية وصيانتها من التلف والامتهان لئلا تُداس تحت الأقدام، فضلاً عن جمعه جثث الحيوانات الصغيرة وكأنه موظف صحي.

وكذا الذبان لها وظائف -أهم مما ذكر- فهذه الحشرات مأمورة بتنظيف ما لا يراه الإنسان من جراثيم مرضية وتطهير المواد السامة. فهي ليست ناقلة للجراثيم، بل على العكس، هي تُهلك تلك الجراثيم المضرة وتمحيها بمصّها لها وأكلها، وتحيل تلك المواد السامة إلى مواد أخرى. فتحُول دون سريان كثير من الأمراض، وتُوقِفها عند حدّها.

والدليل على أن الذبان موظفات صحيات، ومأمورات تنظيف وكيمياويات حاذقات، وأن لوجودها حكمة إلهية واسعة.. هو كثرتها المتناهية، إذ المواد النافعة والثمينة يكثّر منها.

أيها الإنسان الذي يقصد نفع ذاته وحده!

انظر إلى فائدة واحدة للذباب تعود إليك فحسب مما سوى فوائده ومنافعه للحياة. وتخلّ عن عدائك له. فكما أنه يورثك الأُنس والسلوان في الاغتراب والوحدة والانفراد، كذلك يوقظك من نوم الغفلة وغمرات تشتت الفكر، فيذكّرك بوظائف إنسانية كالوضوء والصلاة والحركة والنشاط والنظافة بوضعيته اللطيفة ووضوئه وتنظيفه وجهه وعيونه، كما هو مشاهد.

وكذا النحل -وهي صنف من الذباب- تُطعمك العسلَ الذي هو ألذّ غذاء وألطفه، وهي الملهمة بالوحي الإلهي كما نص عليه القرآن الكريم. فعليك أن توليها حبَّك.

إنَّ العداء للذباب لا معنى له، بل هو ظلم وإجحاف بحق تلك الحيوانات التي تعاون الإنسان وتسعى لصداقته وتتحمل أذاه. وإنما يجوز مكافحة المضرة منها فحسب، وذلك دفعاً لأضرارها، كدفع ضرر الذئاب عن الأغنام.

فيا ترى أليس من المحتمل أن يكون البعوضُ والبرغوث المسلطان علينا حجّامات فطرية، أي موظفات بمصّ الدم الفاسد الجاري في الأوردة وقت الحر وزيادة الدم أكثر من حاجة الجسم؟.. سبحان من تحيّر في صُنعه العقول..

كنت يوماً في جدال مع نفسي، إذ اغترّت بما أنعم الله عليها، وتوهمت أنها مالكةٌ لها، وبدأت بالفخر والمدح.

فقلت لها: إنكِ لا تملكين شيئاً بل هو أمانة. فتركت الغرورَ والفخر. ولكنها تكاسلت قائلة: لِمَ أرعى ما ليس لي؟ وماذا عليّ لو ضاع؟.

وفجأة رأيت ذبابةً وقفت على يدي وبدأت بتنظيف وجهها وعينها وجناحيها وهي أمانات لديها تنظيفاً على أجمل ما يكون، مثلما ينظف الجندي سلاحه وملابسه التي سلّمتها له الدولةُ، فقلت لنفسي: انظري إلى هذه الذبابة، فنظرتْ وتعلّمت منها درساً بليغاً. وهكذا أصبح الذبابُ أستاذاً لنفسي الكسلانة.

إنَّ فضلات الذباب لا ضرر لها من حيث الطب، بل قد تكون شراباً حلواً (وغذاءً لحشرات أخرى) إذ ليس من المستبعد عن الحكمة الإلهية، بل من شأنها أن تجعل من الذباب مكائن تصفية وأجهزة استحالة، نظراً لأكلها ألوفَ الأصناف من مواد هي منشأ الجراثيم والسموم.

نعم إنَّ من طوائف الذباب -مما سوى النحل- طائفةٌ تأكل المواد المتعفنة المختلفة (حاشية) إن طائفة صغيرة جداً من الذباب تُخلق على هيئة كتلة سوداء، على أغصان اللوز والمشمش، في أواخر الربيع، وتبقى ملتصقة بالغصن، وتسيل منها بدلاً من الفضلات، قطرات شبيهة بالعسل فتتجمع حولها أنواع الذباب الأخرى وتمصها. وطائفة أخرى من الذباب تستخدم في تلقيح بعض أزاهير النباتات والأشجار المثمرة، كالتين. وطائفة أخرى للذباب، هي اليراع، المتلمعة ليلاً، وهي أعجوبة تلفت الأنظار وتدعو الى التدبر والتأمل، كما أن قسماً منها تتلمع لمعان الذهب. و لا ينبغي أن ننسى البعوض والزنابير المجندات الحاملات للرماح. فلو لم تكن زمام هذه الذبان بيد الخالق الرحيم، وأغارت على الأحياء والإنسان لأفنت نوع الإنسان كما قتلت نمرود، ولفسّرت لنا المعنى الإشاري للآية الكريمة ﴿وَاِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْـًٔا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ﴾. ولهذا فان جنس الذباب الذي يضم مائة من الطوائف المالكة للمزايا والخواص المذكورة، لها أهميتها التي أهّلتها لتكون موضوع الآية الكريمة ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ﴾.. فتقطر دوماً قطرات من مواد حلوة بدلاً من فضلاتها -كنـزول المنّ على أوراق الأشجار- فتثبت أنها مكائن استحالة.

وهكذا يتبين أمام الأنظار مدى عظمة أمة الذباب الصغير هذا، ومدى عظمة وظائفها. وكأنها تقول بلسان الحال: لا تنظروا إلى صغر أجسامنا بل إلى عِظَم وظائفنا. وقولوا: سبحان الله.


«الحروف القرآنية»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (يس:82)

يفهم من إشارة هذه الآية الكريمة: أنَّ الخلق يتم بالأمر، وأن خزائن القدرة الإلهية بين الكاف والنون. ولهذا السر الدقيق وجوهٌ كثيرة، وقد ذُكر بعضُها في الرسائل.

أما الآن فنحاول أن نفهم هذا السر وفق مثالٍ مادي محسوس لأجل تقريب الأحاديث النبوية الواردة حول خواص الحروف القرآنية ومزاياها وتأثيراتها المادية -ولاسيما الحروف المقطّعة في أوائل السور- إلى نظر هذا العصر المادي، وذلك:

إنَّ للخالق الجليل ذي العرش العظيم سبحانه وتعالى أربعةَ عروشٍ إلهية، هي محاورُ لتدبير أمور المخلوقات الموجودة على كرة الأرض، التي هي بمثابة مركز معنوي للعالم وقلبِ الكائنات وقبلتِها.

أحدها: هو عرش الحفظ والحياة وهو التراب، المُظهِر لتجلي اسم الحفيظ والمحيي.

ثانيها: هو عرش الفضل والرحمة وهو عنصر الماء.

ثالثها: هو عرش العلم والحكمة وهو عنصر النور.

رابعها: هو عرش الأمر والإرادة وهو عنصر الهواء.

إننا نشاهد بأبصارنا ظهورَ المعادن التي تدور عليها حاجات غير محدودة حيوانية وإنسانية، وظهورَ ما لا يحد من النباتات المختلفة، من تراب بسيط. كما نشاهد ظهور ما لا يحد من معجزات الصنعة الإلهية ولاسيما من نطف الحيوانات التي هي سائلٌ شبيه بالماء، ظهورَها في الأحياء المختلفة من الماء.. أي ظهور تلك الكثرة الكاثرة والأنواع المختلفة من عنصر بسيط (التراب، الماء)، وبانتظام تام وكتابتها على صحيفة بسيطة على صورة نقوش بديعة لا تحد، مما يدلنا على أن «النور والهواء» أيضاً -كهذين العرشين- مظاهر لمعجزات عجيبة لقلم عِلم المصوّر الأزلي العليم الجليل وقلمِ إرادته وأمره كالعرشين السابقين، رغم بساطتهما.

سندع حالياً عنصر النور. ولمناسبة مسألتنا نحاول كشف الحجاب عما يستر عجائبَ الأمر والإرادة وغرائبهما في عنصر الهواء الذي يمثّل عرش الأمر والإرادة بالنسبة إلى كرة الأرض. وذلك:

كما أننا نزرع الحروف والكلمات بالهواء الذي في أفواهنا، وإذا بها تتسنبل وتثمر، أي أن الكلمة تُصبح حبةً في آن واحد كأنها بلا زمان وتتسنبل في الهواء الخارجي، هواءً حاوياً على ما لا يحد من الكلمة نفسها، صغيرها وكبيرها. كذلك ننظر إلى عنصر الهواء فنرى أنه مطيعٌ ومنقاد لأمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ ومسخَّر له إلى حدّ عظيم حتى كأن كلَّ ذرة من ذراته جنديٌ لجيش منظم متأهب لتلقي الأمر في كل آن، ويُظهر الطاعةَ والامتثال للإرادة المتجلية في أمر «كن» بلا زمان، سواءً في ذلك أبعدُ الذرات وأقربُها.

مثلاً: إنَّ الخطاب الذي يلقيه إنسان من الإذاعة يُسمَع في كل مكان في الأرض في الوقت نفسه وكأنه بلا زمان -بشرط وجود الراديوات- مما يبين مدى امتثال كل ذرة من ذرات الهواء لتجلي أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ امتثالاً كاملاً.

فالأمر كذلك في الحروف التي هي غير مستقرة في الهواء، يمكن أن تصبح بكيفياتها القدسية مظاهرَ لتأثيرات خارجية ولخواصَّ مادية كثيرة حسب سر الامتثال هذا. فتشاهَد فيها خاصيةٌ، كأنها تقلب المعنويات إلى ماديات وتحوّل الغيبَ إلى شهادة.

وهكذا بمثل هذه الأمارة، فإن أمارات أخرى لا تحد تُظهِر لنا أن الحروفَ التي هي موجودات هوائية، ولاسيما الحروف المقدسة والحروف القرآنية وبخاصة حروف الشفرات الإلهية وهي المقطعات التي في أوائل السور، تسمع الأوامرَ وتمتثلها امتثالاً في غاية الانتظام والشعور التام والحساسية الكاملة وبلا حاجة إلى زمان. فلا شك أن هذا يحمل المرءَ على التسليم بالخواص المادية والمزايا الخارقة المرويّة للحروف التي في ذرات الهواء ومن حيث القدسية، والتي ينعكس فيها تجلي الإرادة الأزلية وجلوةٌ من أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ.

وهكذا فإن تعابير القرآن الكريم التي تبين أحياناً أثرَ القدرة كأنها صادرةٌ من صفة الإرادة وصفة الكلام مبنيٌّ على هذا السر. فتلك التعابير القرآنية تدل على أن الموجودات تُخلَق في منتهى السرعة ومسخّرةٌ ومنقادة انقياداً تاماً للأوامر حتى لكأنَّ الأمرَ يُنفّذ حُكمَه كالقدرة. أي إن الحروف الآتية من الأمر التكويني تؤثر في وجود الأشياء وكأنها قوةٌ مادية، ويَظهر الأمر التكويني كأنه القدرةُ نفسها والإرادةُ نفسها. نعم، إنَّ هذه الموجودات الخفية التي وجودُها المادي هوائي وهي في غاية الخفاء، حتى كأنها موجودات نصف معنوية ونصف مادية، تشاهَد فيها آثارُ الأمر والإرادة بحيث يشبه الأمرُ التكويني القدرة بعينها، بل يصبح القدرةَ نفسَها.

وهكذا لأجل جلب الأنظار والحث على التدبّر في موجودات كأنها برزخ بين المعنويات والماديات يقول القرآن الكريم: ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. لذا فمن المعقول جداً أن تكون الحروف المقطّعة التي في أوائل السور أمثال: ﴿الٓمٓ، ﴿طٰسٓ، ﴿حٰمٓ، وماشابهها من الشفرات الإلهية، عُقَداً وأزراراً حرفية تستطيع أن تهزّ أوتار العلاقات الدقيقة الخفية بين ذرات الهواء بلا زمان، بل من شأن تلك الحروف ومن وظائفها أن تؤدي مخابرات قدسية -كاللاسلكي المعنوي- من الأرض إلى العرش.

نعم، إنَّ كل ذرة بل كل ذرات الهواء المنتشرة في أقطار العالم تمتثل الأوامر وتنقلها عبر اللاسلكي والهاتف والبرقية، فضلاً عن نقلها سائر السيالات اللطيفة كالكهرباء. فلقد شاهدتُ بالحدس القطعي بل بالمشاهدة الحقة إحدى وظائفها -مما سوى المذكورة- في أَزاهير اللوز، وهي: أن الأشجار المنتشرة في أقطار الأرض كأنها جيش منظم يستلم الأمر نفسه في آن واحد. فبمجرد هبوب نسيم رقيق تستلم الأمر من تلك الذرات، وتظهر وضعاً معيناً. مما أورثتني تلك الحالة يقيناً تاماً وقناعة كاملة. بأن قيام الهواء في سطح الأرض كخادم أمين نشط فعال، يخدم ضيوفَ الرحمن الرحيم الذين يسكنون سطح الأرض، يبلّغ في الوقت نفسه أوامر الرحمن بذراته الشبيهة باللاسلكي إلى النباتات والحيوانات، بحيث تكون ذراتُه كلُّها في حكم خدّام الأمر وشبيهة بلاقطات اللاسلكي والهاتف. وفي الوقت نفسه يؤدي بأمر «كن» مهمات جليلة ووظائف منتظمة كثيرة، من أمثال تشكيل الحروف في الفم بعد خروجه منه، وتهوية الأنفاس واسترواح النفوس، أي بعد أدائه وظيفة تنقية الدم الباعث على الحياة، وإشعال الحرارة الغريزية التي هي وقود الحياة، ثم يخرج الهواء من الفم ويكون مبعثَ نطق الحروف وانطلاقها.. وهكذا تجري وظائفٌ كثيرة بأمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ.

فبناءً على خاصية الهواء هذه، فإن الحروف التي هي موجودات هوائية كلما اكتسبت قداسةً، أي اتخذت أوضاعَ البث والالتقاط يصبح لها حظٌ وافر من تلك الخاصية.

لذا فلكون حروف القرآن، في حُكم العُقد، وحروف المقطعات في حكم المركز لرؤوس تلك المناسبات الخفية، وفي حكم عقَدها وأزرارها الحساسة، يكون وجودُها الهوائي مالكاً لهذه الخاصية، كما أن وجودَها الذهني، بل وجودُها النقشي أيضاً، لهما خاصية من تلك الخاصية.

أي يمكن بقراءة تلك الحروف وبكتابتها كسبُ الشفاء -كالدواء المادي- والحصول على مقاصد أخرى.

سعيد النُّورْسِيّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *